الله والشر والمصير

مقدمة

الأرواح الشريرة

الخطئية: تحديدها وأنواعها

مفهوم الخطئية الجدّية

الخطئية و التوبة و الاعتراف

موقف الله من الخطئية

ما معنى الفـداء؟

الدينونة و المصير

صـلاتنا ومصـير الراقـدين

طبيعـة اليوم الأخير

حمل هذا الكتاب

عودة للرئيسية

الفصل السابع

الدينونة و المصير

الجـزء الأول

 

بين الرقـاد واليـوم الأخـير

 

" هل هنـاك فترة زمنية تمتـد بين اليوم الأخير ( يوم الدينونة ) وبين وقت رقـاد الإنسان؟ ,

فى حـال الإيجاب,

أين تكـون روح الإنسان خـلال هـذه الفتـرة؟"...

 

مقـدمة

" اليـوم الإخيـر" هـو نهـاية التاريـخ وتتـويجـه...

وعبارة " الأخـير" لها هنـا بالضبط هـذا المعنى المـزدوج:

معنى " الانتهـاء" ( كما فى قولنـا هـذا فلسى الأخـير)...

ومعنى " النهـائى" ( كما فى قولنـا: هـذا رأيى الأخـير )...

أمـا " الرقـاد" فهـو نهـاية حيـاة فـردية, كما أنـه بمعنى من المعانى إضفـاء صفـة نهـائية عليهـا...

فـلا بـدّ إذًا من زمـن يمتـد بين المـوت الفـردى وبين نهـاية التـاريخ...

بين اختتـام حيـاة فـردية وبين اختتـام المسيرة البشرية برمّتهـأ...

ممـا يقـود إلى التساؤل حـول مصيـر الإنسان بين اللحظـة التى تنقـضى فيهـا حيـاته الراهنـة وبين يوم الدينـونة...

أولاً: أين تكون روح الإنسان فى هـذه الفترة؟

السؤال فى ظـاهـره يُعـنى بتحـديد مكـان الروح بين الرقـاد والدينونة...

هـذا مـا يُستدلّ عنـه مـن استعمـال عبـارة " أيـن"...

ولكـن هذا الجـوهـر الإنسانى الذى نـؤمن أنـه يستمـر فى الوجـود بعـد الموت الجسدى, هـذا الجـوهـر الذى نسمّيه " الروح" والذى هـو عمـق الشخص الإنسانى ونـواته وخـلاصته, هـذا الجـوهر لا تنطبـق عليـه مقـاييس المكـان التى يخـضع لهـا كياننـا المتجسّد الحـاضر...

مـن هنـا أن المقـصود بالسؤال هـو " حـالة" الـروح بين لحظـة الرقـاد ويوم الدينونة...

فمـا هى هـذه الحالة يـا تُرى؟...

 

1 ـ بالمـوت تسقـط الحجب ويواجـه الإنسان عـاريًا نـور الله...

وفى هـذا النـور الكاشف لأعمـاق أعمـاقه يستطيـع تمييـز حقـيقـته دون مواربـة...

و" الدينـونة" أصـلاً, إذا مـا عـدنا إلى العبـارة اليونانية الواردة بهـذا المعنى فى العهـد الجـديد KRISIS , إنمـا هى " التمييـز"...

وعـبر هـذا التمييـز يتحـدّد مصيـره...

والأحـرى أنـه يحـدّده بنفسـه:

فإمـا هـو مع الله, فيكـون مصيره فـرح تلك المعـيّـة,,,,

وإمـا هـو متغـرّب عـنه, وبالتـالى يكـون قـد جعـل نفسـه فى عـذاب الغـربة التى لا يمكـن لشئ أن يلهبـه عـنها أو ينسيه إيـاها حينـذاك...

 

2 ـ شئ من هـذه المـواجهـة المصيـرية, يمكـن أن يختبـره المـرء فى حيـاته الحـاضرة عـندما تتعـرّى نفسه أمـام الله فى لحظـات مميـّزة تسقـط فيهـا الأقنعـة فتنكشف لـه جـوانب حـقـيقـته دون زيف أو خـداع, أو عنـدما يتوّصـل المـرء إلى رؤيـة نفسه بالنظـرة التى يـراه بهـا الآخـرون, فيطـلّ عليهـا مـن الخـارج إذا صـحّ التعبيـر ويكتشف فيهـا جـوانب كانت خـافية عليـه حتى ذلك الحيـن...

 

3 ـ حـالة الفـرح التى تلى الرقـاد مبـاشرة بالنسبة للإنسان الذى تتتـوّج بالمـوت معـيته مع الله, تلك الحـالة يشير إليهـا العـهد الجديـد صراحـة...

[ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:  اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ اَلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي اَلْفِرْدَوْسِ  ] [ لوقا 23: 43]...

ولنـا فى رسائل الرسول بولس أيضـًا شواهـد على هـذا الرجـاء...

فقـد ظـن الرسول لأول وهـلة أن نهـاية الأزمنـة سوف تكـون قريبـة وأمـل بأن لا يـذوق المـوت بـلّ يُخـطف مـع سواه من المـؤمنين ليلاقـى المسيح الآتـى فى مجيئـه الثـانى:

[ فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ اَلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ... ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي اَلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ اَلرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ اَلرَّبِّ ] [ 1 تسالونيكى 4: 15, 17]...

ولكنـه أدرك بعـدئذ أن هـذا الأمـل لن يتحـقـق بالنسبة إليـه وأن لا بـدّ له أن يمـرّ بالمـوت...

ولكنـه رأى فى المـوت هـذا طـريقـًا للقـاء الرب, فبـدا له مـن جـرّاء ذلك مـرغـوبًا ومحبّبـًا, وإن كانت محبّتـه للمسيحيين الذين كان يرعـاهم, تقــوى على هـذا الحنين وتحـدو بـه إلى تفضيـل البقـاء معهم لفتـرة من أجـل خـدمة احتياجـاتهم:

[ لأَنَّ لِيَ اَلْحَيَاةَ هِيَ اَلْمَسِيحُ وَاَلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ.

وَلَكِنْ إِنْ كَانَتِ اَلْحَيَاةُ فِي اَلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي!

فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ اَلاِثْنَيْنِ: لِيَ اِشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ اَلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً.

وَلَكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي اَلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ.

فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهَذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي اَلإِيمَانِ ] [ فيليبى 1: 21ـ 25]...

لقـد أدرك الرسول إذًا أن هنـاك لقـاء بالـرب يـلى مبـاشرة انتقـال الإنسان من الحيـاة الدنيـا ولا ينتظـر يـوم الدينـونة, وأن هـذا اللقـاء إنمـا يسمـح برؤيـة الـرب ويزيـل الغـربـة التى لا نـزال نعـانى منهـا طـالما نحـن فى وضعـنا الجسدى الراهـن...

[ لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اّلْلَّهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ...

فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي اَلْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ اَلرَّبِّ.

لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ.

فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ اَلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ اَلرَّبِّ ] [ 2 كورونثوس 5: 1, 6ـ 8]...

 

4 ـ أمّـا حـالة العـذاب, فيشير إليهـا مثـل الغنى ولعـازر, ويعـبّر عـنها أبلـغ تعـبير بصـورة العـطش واللهيب...

فالإنسان إنمـا هـو جوهـريًا كائـن تشـدّه إلى الله رغـبة محـورية, هـى رغـبته التى لا تُقـاوَم بالمطـلق واللامتنـاهى...

فإذا رفـض الله ليستـأثر بـذاته, فلـه فى هـذه الدنيـا من خـلائق مـا مـن شأنـه أن يلهيـه عـن فـراغـه ويخـدّر إحساسه بهـذا الفـراغ, إذ بوسعـه أن يتوهّـم ـ ولـو كان لهـذا الوهـم حـدود ـ أن المطـلق الذى ينشـده إنمـا هـو كامـن فى هـذه أو تلك مـن الخـلائق التى تحمـل بالفـعل بعـضًا من سماتـه منعكس عليهـا من ذاك الذى يمنحهـا الوجـود, فيتصـوّر المطـلق الذى يتـوق إليـه كامنـًا فى الجسد أو المـال أو الجـاه وما شابـه ذلك...

 

ولكـن المـوت يُسقـط الأقنعـة ويُعـرّيه مـن تلك المغـريات التى كان يحـاول أن يختبئ بينهـا متـواريـًا عـن مواجهـة حقـيـقة ذاتـه وحقـيـقة رغبتـه كما حـاول آدم أن يختـفى بين أشجـار الفـردوس مـن مـواجهـة ربّـه الساعى إليـه ليخـاطب قلبـه

[ وَسَمِعَا صَوْتَ اَلرَّبِّ اَلإِلَهِ مَاشِياً فِي اَلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ اَلنَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَاِمْرَأَتُهُ مِنْ ‏وَجْهِ اَلرَّبِّ اَلإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ اَلْجَنَّةِ ] [ تكوين 3: 8 ]...

عـند ذلك لا يبـقى لـه, لا وراء عـطشه الكيـانى, إلا أن ينهـل من خـوائه الذاتى, فإذا بـه يلتهـب عطـشًا...

 

قـد يتوصّـل المـرء المتوغـّل فى شـرّه إلى التهـرّب مـن هـذه المـواجهـة الرهيبـة حتى اللحظـة الأخـيرة محتميـًا منهـا بتحجّـر قلبـه وتبـلّد ضمـيره...

ولكنها حاصـلة لا محـالة عـندما لا يبقـى للإنسان منـاص من مـواجهـة حـقـيقـته فى نـور الله بعـد اجتيـازه حـدود الحيـاة...

 

ثانيًا: هـل أن هـذه الحـالة نهـائية؟:

الجـواب التقليـدى فى الأرثوذكسية:

 

1 ـ تعـلّم الكنيسة الأرثوذكسية أن المـرء لا يسعـه أن يبلـغ حـالة نهـائية مـن حيث مصـيره, قبـل قيـامة الأجساد, أى قبـل ترميم كيـنه الذاتى بجملتـه يفـعل هـذه القـامة, وقبـل اكتمـال كيـانه الجمـاعى بفـعل تجمّـع البشرية كلّهـا بعـد نجـاز تاريخهـا:

 

أ ـ فلا بـدّ من ترميم الكيـان الذاتى بأكملـه, من جهـة...

إذ الروح إنمـا هى إلا لـبّ هـذا الكيـان وخـلاصته كمـا قلنـا, لكنها ليست الكيـان كلّه...

الـروح كالعين ( راجـع المثل السائر " العيـون مـرآة الـروح", ولاحـظ فى اللغـة العـربية الترادف بين " النفس" و" العين" والشخص" كما عـندما نقـول:" هـذا هـو الشخص نفسه" أو " هـذا هـو الشخص عينـه" ): إنهـا تختزل الشخص البشرى ولكنها لا تغنى عن سواها من عناصره...

والـروح, بتشبيه آخـر, إنما هى بمثـابة الطـفـل المولد حديثـًا...

هكـذا تُرسم فى الأيـقـونات الأرثوذكسية, حيث نـرى مثـلاً فى أيـقـونة رقـاد العـذراء صـورة السيّد واقـفـًا أمـام جسد أمـه المسجى, حـامـلاً فى يديـه طفـلاً مقـمطـًا بالبياض يرمـز إلى الـروح الطـاهـرة التى تـَقـَبّلها...

إنما يبقى على الطـفل المـولود أن يمتـد ويكتمـل ليبلـغ مـلء قـامته الإنسانية على كل الأصعـدة...

 

ب ـ ولا بـدّ, من جهـة أخـرى, مـن اكتمـال الكيـان الجمـاعى للإنسان باجتمـاع البشريـة كلهـا فى نهـاية التاريخ...

فالمسيحيـة, بمقـدار ما تؤكّـد على أهمـّية الفـرادة الشخصية, تؤكّـد أيضـًا على أهمّـية ارتبـاط الفـرد بالجمـاعة البشرية, هـذا الارتبـاط الذى لا يمكنـه بدونـه أن يحـقـق مـلء أبعـاد كيـانه...

والمسيح , فى إيمـاننا, إنما قـد وحـّد الطبيعـة البشرية بحيث أن هـذه الطبيعـة تتـواجـد فى كـل شخص متـّخـذة لديه وجهـًا فريـدًا...

من هنـا إننا بحأجـة إلى تـواجـدنا معـًا لكى يكتمـل مصيـر كـل واحـد فينـا...

أن ننتظـر بعضنـا بعضـًا...

لقـد قالت الرسالة إلى العـبرانيين عـن أبـرار العهـد القـديم:

[ فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ ، مَشْهُوداً لَهُمْ بِالإِيمَانِ ، لَمْ يَنَالُوا اَلْمَوْعِدَ ، إِذْ سَبَقَ اللهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئاً أَفْضَلَ ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا ] [ عبرانيين 11: 39, 40]...

فقـد كان على أجـداد العهـد القـديم أن ينتظـروا أحفـادهم ليـروا وإيـاهم الخـلاص الذى أتى بـه الرب يسوع المسيح فى مجيئـه الأول...

كذلكو فإن الأجيـالأ التى عـاشت وتعيش قبـل هـذا المجـئ وبعـده ستنتظـر بعضهـا بعضـًا لتحـظى معـًا باكتمـال الخـلاص عـند المجـئ الثـانى المجيـد...

 

2 ـ فـإذا كان مصـير كل إمـرئ بعـد انتـقـاله الشخصى مصـيرًا غـير نهـائى, وإذا كان على الجميـع أن ينتظـروا يـوم الـقيامة لاكتمـال هـذا المـصير, إلا أن انتظـارًا يختلف عـن انتطـار باختـلاف المـوقف مـن الله الذى بلغـه كل انسان فى لحظـة انتقـاله:

أ ـ فبالنسبة للذين أسلمـوا أنفسهم كلّيـًا لله, يكـون هـذا الانتظـار استباقـًا للفـرح ومستنيرًا بـه منـذ الآن...

إنـه, بمعنى مـا, كانتظـار الصـديق أو الحبيب الآتى لا محـالة, وهـو تمتـّع مسبق بحضـوره...

مـع هـذا الفـارق أن الصتديق أو الحبيب المنتظـر حاضـر فى الفكـر والشعـور وحسب, فى حين أن الله الحاضتر فى الإنسان إنمـا هـو أقـرب إليـه من ذاتـه, ويتـّخـذ هـذا الحضـور فى الآخـرة شكل مـعيّة حـقـيقـية...

فقـد رأينـا الرسول بولس يقـول: " لِيَ اِشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ اَلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً " وإن كانت مـدعوّة إلى مـزيد من الاكتمـال على قـدر اكتمـال كيـان الـذى يحيـاهـا...

من هنـا أن اللـوعـة التى تمتـزج بالفـرح عـند انتظـار الصـديق أو الحبيب إذا ما تبـاطأ هـذا فى قـدومه, ليس لها من مجـال هنـا, بـلّ الفـرح صافٍ لا تشوبـه شائبـة...

تلك الحـالة البهجـة يصـوّرها سفـر الحكمـة:

[ نِفُـوس الصِـدِّقِـيين فِى يـَدِ الله, وَلا يَمِسَّهـا عَـذَابٌ ... لِـقـَدّ بـَدَا خُـرُوجِهِم مِـنْ اَلْعَـالَمِ مُصِيبَـة وَ ذِهَـابِهِم عَـنَّا فّـنَـاء , وَلَكنـّهم فِى سَـلامٍ  ] [ حكمـة 3: 1ـ 3]...

علمـًا بأن " السلام" فى لغـة الكتـاب, يشير إلى التمتـّع بكـلّ الخيرات فى ظـلّ معـاشرة الله...

تلك هى حـالة الشهـداء كمـا وصفهـا سفـر الرؤيـا:

[ بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَاَلْقَبَائِلِ وَاَلشُّعُوبِ وَاَلأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ اَلْعَرْشِ وَأَمَامَ اَلْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ اَلنَّخْلِ

وَهُمْ يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: { الْخَلاَصُ لإِلَهِنَا اَلْجَالِسِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ }.

وَجَمِيعُ اَلْمَلاَئِكَةِ كَانُوا وَاقِفِينَ حَوْلَ اَلْعَرْشِ وَاَلشُّيُوخِ وَاَلْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ، وَخَرُّوا أَمَامَ اَلْعَرْشِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا لِلَّهِ

قَائِلِينَ: {آمِينَ! اَلْبَرَكَةُ وَاَلْمَجْدُ وَاَلْحِكْمَةُ وَاَلشُّكْرُ وَاَلْكَرَامَةُ وَاَلْقُدْرَةُ وَاَلْقُوَّةُ لإِلَهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ}

وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ مِنَ اَلشُّيُوخِ: {هَؤُلاَءِ اَلْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ اَلْبِيضِ، مَنْ هُمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتُوا؟}

فَقُلْتُ لَهُ: { يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ }. فَقَالَ لِي: { هَؤُلاَءِ هُمُ اَلَّذِينَ أَتُوا مِنَ اَلضِّيقَةِ اَلْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ اَلْحَمَلِ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اَللهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَاَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ.

لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ اَلشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ اَلْحَرِّ،

لأَنَّ اَلْحَمَـلَ اَلّـَذِي فِي وَسَـطِ اَلْعَرْشِ يَرْعَـاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ  إِلَى  يَنَابِيعِ مَـاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْـسَحُ اَللهُ كُلَّ دَمْـعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ }  ]

[ رؤيا 7: 9ـ 17]...

 

هـؤلاء الصـدّيقـون الذين:

[ دَخَـلُوا إِلَى فَـرَح رَبّهِـم ] [ متى 25: 21] ...

قـد أصبحـوا, لكـونهم صـاروا أكثر قربـًا مـن الله, أدنى إلينـا نحـن أيضـًا, بـه ومن خـلاله...

لذا فهـم يتحسّسون لحاجتنا ويشفعـون بنـا...

عـلمـًا أن شفـاعتهم هـذه لا تضـاف إلى شفـاعة المسيح كما قـد يُظـنّ...

ولكنهم, وهم أعضـاء فى جسد المسيح, إذ قـد أصبحـوا أكثر اقترابـًا مـن الرأس الذى هـو المسيح, صـاروا بالتـالى مساهمين بنحـو أخـص فى شفاعـته...

 

ب ـ أمـا الذين تركـوا الحيـاة وهـم فى حالة رفـض عميـق ونهـائى, فهـؤلاء قـد حـدّدوا بذلك مصـيرهم إلى الأبـد...

عـليهم ينطـبق ما قاله السيد المسيح عـن الذين يجـدّفون على الروح القـدس, أى الذين يرون النـور الإلهـى ويرفضون الانصياع له, متشبثين بظـلمتهم عـن إصـرار وتصميم:

[ ... وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى اَلرُّوحِ اَلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا اَلْعَالَمِ وَلاَ فِي اَلآتِي ] [ متى 21: 32]...

هـؤلاء يجعـلون أنفسهم فى عـذاب هـو انتظـار العـذاب النهـائى واستباق لـه, ذلك العـذاب الذى سيبلـغ كماله فيهـم عنـد القيـامة التى بهـا يكتمـل كيانهـم من جهـة ( ولكنـه يكتمـل منحـرفـًا, مشوّهـًا, فارغـًا, ليشتـد عـذاب الفـراغ على قـدر امتـداده فى كيـان متكامل ), وتكتمـل مـن جهـة أخـرى الوليمـة البشرية التى أ قصـوا أنفسهم عنهـا ( فيتلوّعـون على قـدر اكتمـال ما حـرموا ذواتهـم منـه )...

 

بـؤس هـؤلاء ناتـج عـن انهمـاكهم بذواتهـم, وهـو انهمـاك  لا يبعـدهم عـن لقـاء الله وحسب بـلّ عـن لقـاء النـاس أيضـًا...

هـذا مـا عـبّر عـنه أحـد رهبـان صحـراء مصـر" الأنبـا مكاريوس", عـندما وصف الجحيم بقـوله:

" هنـاك لا يسـع المـرء أن يـرى أحـدًا وجهـًا لوجـه"

أى أن المواجهـة, التى هى تعبيـر عـن اللقـاء, تكـون مستحيـلة بالنسبة للذين غـرقـوا فى جحـيم عـزلتهم...

ومـا الجحـيم, فى آخـر المطـاف, إلا جحـيم العـزلة التى يرتضـى المـرء أن يغـلق عـلى ذاتـه ضمـن جـدرانهـا فى حين أنـه مدعـوّ فى الصـميم إلى فـرح المشاركـة...

وقـد كتب اللاهـوتى الأرثوذكسى " بتول أفـدوكيمـوف" بهـذا الصـدد:

" ... يمكـن تصـوّر جهنّـم عـلى شاكـلة قفـص مصنـوع مـن مـرايا... بحيث لا يمكـن للمـرء فيهـا أن يـرى سوى وجهـه الـذاتى ... مرَجّـعـًا ومتـواجـدًا إلى ما لا نهـاية دون أن تـلتـقيه أية نظـرة أخـرى... وإذا مـا لم يـرَ المـرء سوى ذاتـه, فإنـه يشبـع منهـا حتى الغـثيـان ..."...

 

ج ـ أمـا الذيـن تركـوا الحيـاة وهـم تائبـون إلى الله, أى عـائدون إليـه, ولكنهـم لم يتمكّـنوا من ترسيخ هـذه العـودة, لم يستطيعـوا تجسيـدها بمـا فيـه الكفـاية بمواقف وأعماـل, وفقـًا لوصيـة الإنجيـل:

[ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ... ] [ لوقـا 3: 8 ]...

أى الـذين اتـّجهـوا فى قـرارة نفـوسهم إلى الله واعتبـروه قطـب حيـاتهم, ولكـن اتجـاههم هـذا بقـى غيـر مستقـر بمـا فيـه الكـفـاية ومعـرضـًا للتـذبذب والاضـطراب...

هـؤلاء هـم أسـاسـًا فى مـعيـّة الله, ولكـن هـذه المـعيـّة تكتنفهـا عـوائق تحـول بينهـم وبين التنـاغم الكـلّى مع الله وبلـوغ الألفـة التـامة معـه...

حـالتهـم تشبـه إلى حـدّ, مـا يحـدث فى عـلاقات المحبّة البشريـة ( مـن صـداقة وحب مثـلاً ) إذا لـم تكتمـل بعـد بـلّ لا زالت تـعكّرها الانطـواءات والتشنجـات, بحيث تـُعاش المحبـّة عـلى خلفيـة مأساويـة...

مـن هنـا إن الفـرح والعـذاب يتنـازعـان هـؤلاء, ففـرح اللقـاء يتـواجـد عنـدهم مـع عـذاب البعـاد...

هـؤلاء يمكـن للصـلوات التى نـرفعـها من أجـلهم أن تساعـدهم على تجـاوز العـوائق وبـلوغ حـالة أكثـر صفـاء فى عـلاقتهم بالله, والتمتـّع بالتالى بانتقـاص الألـم وازديـاد الفـرح, كمـا أن صـلواتنـا بعضنـا مـن أجـل بعـض فى هـذه الحيـاة تـدعّم وتسانـد مسيرة كل منـّا إلى الله...

 

الرجـاء الذى يتجـاوز كل تحـديد:

 

1 ـ هـذه التحـديدات العقـائـديـة, على أهميتهـا, يتجـاوزهـا الرجـاء, وهـو من صلب تراث الكنيسة الأرثوذكسيةالشرقيـة, بأن تتـم, فى آخـر المطـاف, المصـالحة الشاملـة ويقبـل الجميـع, دون استثنـاء, إلى نـور الله...

هـذا الرجـاء قـد عـبّر عـنه عـدّة آبـاء عظـام, منهـم غريغـوريوس النيصصى الـذى كـان يرجـو حتى خـلاص الشيطـان نفسه, ومنهـم غـريغـوريوس النزينزى ومكسيموس المعتـرف...

وقـد كان لأعظـم القـديسين ( ومنهم اسحـق السريانى ) جـرأة الصـلاة حتى مـن أجـل الشيـاطين...

والرجـاء نفسـه مسجّـل فى طقـوس الكنيسة: فهـى فى أفـاشين خـدمة " السجـدة" ( وهى خـدمـة غـروب اثنين العنصـرة ) تصلى " من أجـل المضبوطين فى الجحيـم ), كمـا أنهـا, فى الإفشين الثالث للقـديس باسيليـوس الـذى يُتـلى فى هـذه الخـدمـة, تـُصلّى مـن أجـل كل الراقـدين منـذ بـداية الخليقـة...

فى قـانون ( أكاثسطـون ) من أجـل الأمـوات وضعـه أسقف روسى تـألم من أجـل الإيمان, وقـد التقط هـذا القانـون, بين الحربين العالميتين, فى دير أيوب الصـديق فى بوتشايف, نجـد هـذه العبـارات المذهـلة:

ـ امنـح الصفـح للذين ماتـوا دون تـوبـة ...

ـ إن ظلمـات النفس البعيـدة عن الله لرهيبـة, يرتعـد المـرء عـند مجـرّد التفكـير بهـا... أيهـا الهـالكـون, ألا فلينـزل عليكم كالنـدى نشيد هللـويا!!!.

 

2 ـ إنمـا رفـضت الكنيسة الأرثوذكسية أن تجـعل مـن موضـوع هـذا الرجـاء عـقيدة...

لـذا أدانت رأى أورجانوس الذى كان يـؤكـد أن الجحيم ليس أبـديـًا...

هـذه الإدانـة ينبغى فهمهـا على محملهـا الصحيح...

فلا يجـوز, بحـال من الأحـوال, تأويلهـا على أنهـأ تـأكيد لأبـدية الجحيـم...

إنما الغـاية منهـا التشديد عـلى أمـور هى فى غـاية الأهميـة:

أ ـ التـأكيد على احترام الله الفائق لحـرية الإنسان...

وهـو مقيـاس حـقيـقة حبّـه لنـا, لأن المحبّـة الحـقيقـية إنما تحتـرم إلى أبعـد حـد حـرية المحبـوب وتتحـاشى إلغـاء كيـانـه المتمـيّز وإحتـواءه فى كيـان المحبّ...

فالله يـذهب فى احترامـه لحـرية الإنسان إلى حـد أنـه يـرتضى بـان يقـول له الإنسان " لا" حتى النهـاية, مما يعنى أنـه يتقبـّل أن يلحـق به الإنسان خيبـة نهـائية وأن يحمـل هـو نهـائيـًا الجـرح الذى يصيبه مـن جـرّاء عـذاب اختـاره الإنسان لنفسه...

فـقـد قالت إحـدى القـديسات: " أن الجحيـم إنما هـو عـذاب الله أولاً"...

هـذا ما ينـاقض تصـوّر سارتر لإله ساحـق يحطـّم مقـاومة الإنسان ليخلّصه رغـم أنفـه ( فى مسرحية الشيطان والله )...

 

ب ـ التـأكيد على خطـورة الخيـار فى الحيـاة الحـاضرة...

فهـى المجـال الأكيـد الوحيـد المعـطى لنـا لتقبـّل خـلاص الله...

ندخـل عالم المجهـول, المكتنف بالغمـوض...

صحيـح أننـا متيقـّنون من أن رحمـة الله قائمـة فى هـذه الحيـاة وبعـدها, ومن أن الله يبقـى أمينـًا لنفسه, أمينـًا لعـهد الحب الـذى قطعـه لنـا...

ولكـن لا شئ يؤكـّد لنـا أننـا سوف نستطيـع الانتفـاح إلى هـذه الرحمـة والتجـاوب معهـا إذا ما تركنا الحيـاة ونحن متحجـّرون فى موقف رافـض...

هـذه الخطـورة تدعـونا إلى اليقظـة الدائمـة, وهـى موقف محـورى فى الإنجيـل...

 

3 ـ من هنا أننا نجـد فى التراث الأرثوذكسى تـأكيدًا مزدوجـًا تعبـّر عنـه قصة أنطونيوس الكبير وسكّاف الإسكندرية...

فـقـد كُشف لأنطونيوس أن سكّـافـًا مـا فى مـدينة الإسكندرية بلـغ مرتبـة مـن القداسة تفـةق مرتبتـه...

فـأراد أن يكتشف سر قـداسته...

فقصـده وسأل عنـه...

 قال له السكّاف أنـه, فى يـوم عملـه, يرى آلاف الناس يمـرّون فى الشارع أمـام دكانـه, فينظـر إليهم ويخاطب نفسه قائلاً:

" الكـلّ سيخلصون , وأنـا وحـدى سأهلك" ... مما يعنى:

أ ـ أن احتمـال الهـلاك الأبـدى ينبغى أن يكون ماثـلاً بالنسبة إلى شخصيـًا ليشعـرنى بخطـورة الخيـار الآن:" اَلْيَـوْم, إنْ سَمِعْتُمْ صَـوْتِه, فَلا تَقْسُو قَلْوبَكُمْ", ويحمينى من التهـاون والميـوعة والاستهتار...

ب ـ أنـه ينبغى أن لا أتخـذ من احتمال الهـلاك هـذا سلاحـًا أسلّطـه على الآخـرين ( فإننى عنـد ذاك أضـع نفسى خـارج دائـرة الحب وبالتالى أسير فى طـريق الهـلاك ), بـلّ أن أقـف من الآخـرين موقف الرجـاء الكامل الذى هـو نفس موقف الله منهم...

وقـد قال اسحـق السريانى بهـذا الصدد:

" هـذه وصيـة أعـطيك إياهـا يا أخـى, أن ترْجح الرحمـة أبـدًا فى ميزانك حتى تلك اللحظـة التى تشعـر بها فى ذاتـك بالرحمـة التى يشعـر بهـا الله حيـال العالم"...

عن هـذا الموقف الأخير نقـدّم شاهـدًا هـو عبارة عـن قصّـة جميلة من التراث الزهـدى الرثوذكسى نختتـم بهـا هـذا المقـال...

تـروى القصّة أن أحـد الرهبـان الشيوخ كان لـه تلميذ متهاون فى سعيـه الروحى... وقـد توفى هـذا التلميذ وهـو لايزال مقيمـًا على تهاونه... حـزن الشبخ وأخـذ يواصـل الصـلاة من أجـل تلميـذه... فتراءى له المسيح ذات يـوم وقال لـه: لماذا تصلّى مـن أجـل هـذا, فى حين أنـك تعلم أنـه تركنى؟... ولكـن الشيخ أبى إلا أن يستمـر فى الصـلاة ... إلى أن تراءى له المسيح ثانيـة ( وقـد كانت هـذه هى الرؤيا الصحيحة التى توصّل إلبها بعـد أن توغّـل فى الرحمـة, فى حين أن الأولى كانت لا تزال مشوبة بالتصوّرات البشرية )...

تراءى له وقال لـه: " أهكـذا بلـغ حنانك مستوى حنـانى؟"...

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

" لماذا هنـاك دينـونة؟

طالمـا الله يعـرف مصير الشخص, ويعلم أنـه فى جهنّم أو الملكوت,

فلماذا لا يرسله إلى جهنّم أو الجنـة عنـد مـوته مباشرة؟ ".

أولاً: ما هى الدينـونة؟:

ليست" الدينـونة", كمـا قـد نتصـوّر, كشف حسابات وإصـدار حكم على أساسهـأ...

إنهـا اكتشاف الإنسان, لا بعقـله وحسب, بـلّ بخـبرتـه الكيـانيتة كلّهـا, فى نـور الله, مـدى قـربـه من الله أو ابتعـاده عـنه, فيسعـد بتلك القـربى ويشقـى من جـرّاء هـذا الابتـعاد...

ثانيًا: لماذا لا تتم الدينـونة مباشرة بعد الموت؟:

إذا كانت " الدينـونة", بمعنـاهـا الكتـابى, هى " التمـييز", كما أسلفنـا, تمـييز الحقـيقـة عـن الزيف فى نـور الله, وبالتـالى اكتشاف الإنسان لحـقـيقـة ذاتـه بعـد أن تسقـط الحُـجُب...

فإن هـذه " الدينـونة" تبـدا منـذ هـذا العمـر وتجتـاز خطـوة حـاسمة عـبر تعـرّى المـوت...

ولكنّـها لا تكتمـل, لا تحـين " ساعـة الحـقـيقة" كلّيـًا بالنسبـة للإنسان, قبـل أن يحـلّ " اليـوم الأخـير"...

ذلك للأسباب التـالية:

1ـ لأن السعادة الكاملة ( الملكوت ) أو الشقاء الكامل ( جهنم ) لا يتحقـقـان إلا بعـد اكتمـال الكيان الشخصى الإنسانى والجماعـة الإنسانية:

أ ـ بعـد أن يكتمـل الكيان الشخصى الإنسانى بالقيـامة فى اليـوم الأخير:

فقبـل ذلك تخـلد الـروح وحـدها, التى هـى قـلب الكيـان وخـلاصتـه, ولكنهـا ليست الكيـان كلّـه, الـذى بنتظـر أن يتـمّ ترميمـه انطـلاقـًا منهـا بفعـل الله فى اليـوم الأخـير...

فإذا مـا اكتمـل كيـان الإنسان عـلى هـذا الشكل, استطـاعت خـبرتـه أن تستعيـد كل مـداها وأبعـادهـا, فتكتمـل عـند ذاك سعـادتـه أو يكتمـل شقـاؤه, وبالتألى تنجـلى حـقـيقـته كاملـة....

ب ـ بعـد أن تلتقـى الجماعـة الإنسانية كلهـا:

فالإنسان الفـرد مرتبـط بالجمـاعـة الإنسانية برمّتهـا, كمـا أن العضـو مرتبـط بكـامل جسمـه...

فكـل واحـد منّـا وريث للحضـارة الإنسانيـة كلّهـا منـذ أول نشأتهـا, يجنـى فى لغـته وعلمـه وثقـافتـه وأنظمتـه الاجتمـاعيـة وقـدراتـه التقنيـة ومشاعـره وأخـلاقـه وقيمـه وروحـانيتـه حصيـلة المسـيرة الإنسانيـة منـذ أقـدم العصـور ونتيجـة تفـاعل الحضـارات البشريـة المختـلفـة على مـرّ التـاريـخ...

وكـل واحـد مرتبـط, من جهـة أخـرى, لا بالتـاريخ البشرى وحسب, بـلّ بوضـع الإنسانيـة الحـاضر على مجمـل الكوكب الـذى نحيـا فيـه...

فمـا يجـرى فى أى قطـر من أقطـار المعمـورة, على الصعـيد الاقتصـادى والسياسى والفـكرى والحضـارى, يؤثـّر فى معـيشتنـا وتفكـيرنا وشعـورنا, لا بـلّ يساهـم فى تحـديد مصـيرنـا...

إننـا اليـوم نـدرك أكـثر ممـا فى أى وقت مـضى أن البشريـة إنّمـا هـى بالفـعل جسم واحـد, فى الزمـان والمكـان, وأن مصـير كل فـرد منهـا مرتبـط فى الصميم بمـصير هـذا الجسم الكبير...

 

من هنـا نـدرك أن خـبرة الإنسان فى عـلاقتـه بالله ( إيجـابيـة كانت هـذه العـلاقة أو سلبيـة ) لـن تكتمـل إلا متى إلتـقت البشرية كـلها بالقيـامة العـامـة, وأن الإنجـلاء التـام لحـقـيقـته ( وهـو موضـوع " الدينـونة" ) لـن يتـم بالتـالى إلا متى حـان ذلك اليـوم...

عـند ذاك:

ـ فإن كل صـديق لله سوف يكتمـل فـرحه بلقـاء الله, ليس فقـط لعـيشه هـذا اللقـاء بكيـانه الشخصى كلّـه, بـلّ لأنـه أيضـًا يشارك فى فـرح البشريـة المخلّصـة كلهـا, فى وليمـة الحب الشاملـة...

اّكـروا كيف أن الابـن الضـال لم يفـرح وحـده بعـد عـودته إلى بيت أبيـه بـلّ فـرح معـه البيت كلّـه:

[ فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ ] [ لوقا 15: 24]... 

وبذلك اكتمـل وجـه فـرحه هـو...

 

ـ بالمقـابل, فإن الرافـض لله سيكتمـل عـند ذاك شقـاؤه, ليس لأنـه سوف يحيـاه بكيـانه كلّه وحسب, إتمـا أيضـًا بسبب شعـوره بأنـه أقـصى نفسـه عـن وليمـة الحب الشاملـة:

تـذكّـروا الابـن الأكـبر, فى مثـل " الابن الضـال" و كيف أنـه بمـوقـفه الرافـض لأخيـه, لـم يضـع حاجـزّا بينـه وبين أبيـه وحسب, بـلّ أقـصى نفسـه بإرادتـه عن فـرح البيت كـلّه, عـن " أصوات الغنـاء والرقص" وكانت مرارتـه عـلى قـدر شعـوره بهـذا الاقـصـاء...

[  فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ  ] [ لوقا 15: 28]...

2ـ لأن عـلاقـة الإنسان بالله, وبالتالى حـقـيقـة الإنسان, لا يحـدّد المـوت بالضـرورة مكانهـا النهـائى:

لا شك أن مجـال الحيـاة الأرضيـة المجـال أساسى لتحـديد الاختيـار:

لا شك أن مجـال الحيـاة الأرضيـة المجـال أساسى لتحـديد الاختيـار مـع الله أو ضـدّه, وبالتـالى لتحـديد المصـير...

ذلك أن الإنسان يتمتـّع عـند ذاك بكيـانـه المـوحّـد المتكـامل ( كيـانه المتجسـد ), وبالتألى بكـامل إمكـانياته...

مـن هنـا, إنـه لا ينبغـى لنـا أن نفـرّط بتلك الفـرصـة الفـريـدة المـاحة لنـا لتحـديد مصـيرنـا...

أمـا فى الفـترة بين المـوت الفـردى والقيـامة العـامة, فطـاقـات الإنسان تمـرّ بطـور من الكمـون:

إن الأمـوات يُـدعـون فى اللغـة الليتورجية " الراقـدين" ...

والرقـاد يشير إلى حيـاة كامنـة, منطـويـة, غـير مكتمـلة النشاط...

الحيـاة الأرضيـة تبقـى إذًا المجـال الممـيّز للتـوبـة...

من هنـا الدعـوة الإنجيليـة الملحّـة إلى السهـر واليقـظـة طـالمـا لا يـزال مجـال العمـل مفتـوحـًا أمـامنـا على مصـراعيـه...

ثـمّ  [  يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ اَلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ ] [ يوحنّـا 9: 14],

فقـد كان على " العـذارى الجاهـلات" أن يسهـرن على تـزييت مصـابيحهـن كمـا فعـلت " العـاقلات", وذلك قبـل أن يـدركهم النعـاس هـؤلاء وأولئك...

[ وَفِيمَا أَبْطَأَ اَلْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ ] [ متى 25: 5]...

 

إن الذين حـددوا موقفـهم الرفضـى من الله وتصـلّبوا هـذا وتحـجّروا فيـه...

ذلك هـو أحـد معـانى " التجـديف ضـد الروح القـدس" ...

الـذى قـال عـنه الرب يسوع المسيح:

[ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا اَلتَّجْدِيفُ عَلَى اَلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى اِبْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى اَلرُّوحِ اَلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا اَلْعَالَمِ وَلاَ فِي اَلآتِي ] [ متى 12: 31, 32]...

إذ كيف يُغْـفَـر لمـن لا يتوب؟ ...

كيف يتـقبّـل الله ـ وهـو الذى يحـترم حـريـة الإنسان إلى أبعـد حـدّ ـ مـن يُصِـرّ على البقـاء بعـيدًا عـنه؟...

فالإنسان الـذى يرفـض الله فىهـذه الدنيا...

هـل يعـرف حـقـيقـة مـن هـو ذلك الـذى يرفـضه؟...

هـل يـدرك فعـلاً أنـه روح روحـه وقلب قلبـه؟...

وأنـه بـدونـه عدـم وهبـاء؟...