الله والشر والمصير

مقدمة

الأرواح الشريرة

الخطئية: تحديدها وأنواعها

مفهوم الخطئية الجدّية

الخطئية و التوبة و الاعتراف

موقف الله من الخطئية

ما معنى الفـداء؟

الدينونة و المصير

صـلاتنا ومصـير الراقـدين

طبيعـة اليوم الأخير

حمل هذا الكتاب

عودة للرئيسية

الفصل السابع

الدينونة و المصير

الجـزء الثـالث

طبيعـة اليوم الأخير:

فنـاء أم اكتمـال؟

 

" هـل القـدوم الثـانى للمسيح يعنـى فنـاء الكـون أى البشرية؟"...

 

أولاً: ما معنـى " القـدوم الثانى" للمسيح؟:

1 ـ لقـد ظهـر المسيح على أرضنـا فى حقبـة مـن تاريخنـا, فعـاش بيـننـا ومات وقـام وصعـد إلى السموات...

وعـندمـا انفـصل عـن التـلاميـذ بالجسد ماضيـًا إلى الآب الـذى منـه خـرج, تلقـّى هـؤلاء الوعـد بـأن:

[ وَقَالاَ: {أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ‏اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا ‏كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى اَلسَّمَاءِ} ] [ أعمال الرسل 1: 11]...

 

هـذا المجـئ الثـانى الموعـود بـه يختلف عـن الأول...

فالأول كان خَـفِـرًا , متـواضعـًا, تـواضـع البـذرة التى تـُدفـن فى الأرض لتُـؤتى ثمـرًا:

[ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ اَلْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ ] [ يوحنا 12: 24 ]...

تـواضـع الخمـيرة التى لا بـدّ لهـا أن تغيب فى العجـين لتخمّـره كـلّه:

[ قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: { يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ } ]

[ متى 13: 32 ]...

أمّـا المجـئ الثـانى فمجـيد, أى أنـه زمـن الثمـار والنضـج, زمـن اعـتلان مجـد الله...

وبمـا أن " مجـد الله , هـو أن يحيـا الإنسان", كمـا علمنـا القديس إيرينـاوس, فإن إعـتلان مجـد الله إنمـا يعنـى بالتـالى إعـتلان الحيـاة, إعـلان ظـفرهـا فى الإنسان والكـون, ذلك الظـفـر الـذى زرع المسيح بـذوره عـند مجيـئه الأول...

 

3ـ المجـئ الثـانى أشار إليـه العهـد الجـديد بالعبـارة اليونـانيـة PAROUSIA وهـى عـبارة تعـنى " حضـورًا" أو قـدومـًا" وكانت فى العـالم اليـونانى ـ الرومـانى تُستعـمَل للإشارة إلى الزيارات الرسميـة التى كان يقـوم بهـا الملوك...

مـن هنـا أن المجـئ الثـانى يعـنى أن المسيح يـأتى كمـلك ( هـذا هـو, على كـل حـال, معـنى كلمـة " المسيح": أنـه الذى تـلقـّى المسحـة المـلوكيـة )...

وتنظـره كل عين وينوح عليه كل قبائل الأرض

[ وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ ] [ متى 24: 30]...

يتحـدّث إلينا الكتاب المقـدس والتقـليد المقـدس مـرات عـديدة عـن المجئ الثـانى ...

والكتـاب والتقليـد لا يعطياننا أى أساس للافتـراض بأنه ـ عن طريق تقـدّم مستمـر فى الحضـارة فإن العالم سيصـير أفضـل فأفضـل بالتدريـج إلى أن ينجـح الجنس البشرى فى تأسيس مملكـة الله على الأرض ...

إن الرؤيـة المسيحيـة لتـاريخ العـالم تتعـارض تمامـًا مع هـذا النـوع من التفـاؤل المبنى على التطـوّر...

ولكـن الكتاب المقـدس يعلّمنـا أن نتـوقـّع كوارث فى عـالم الطبيعـة, وحـروب متزايـدة بين الشعـوبو وارتبـاك وارتـداد بين أولئك الذين يـدعـون أنفسهم مسيحيين:

[ فَأَجَابَ يَسُوعُ: { اُنْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ.

فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.

وسَوَفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبِ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلٌّهَا. وَلَكِنْ لَيْسً اَلْمُنْتَهَى بَعْدُ.

لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةً عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٍ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٍ وَزَلازِلُ فِى أَمَاكِنَ

وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.

حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي.

وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.

وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.

وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ.

وَلَكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ.

وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى }.

{ فَمَتَى نَظَرْتُمْ ( رِجْسَةَ الْخَرَابِ ) الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ ـ لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ ـ

فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ

وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً

وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ.

وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ!

وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ

لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ.

وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ.

حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا.

لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً.

هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ.

فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلاَ تَخْرُجُوا! هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ فَلاَ تُصَدِّقُوا!

لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ ] [ متى 24: 3 ـ27]...

 

هـذه الفتـرة من الضيـق تصـل ذروتهـا بظـهور إنسان الخطيئـة:

[ لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ،. الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ ] [ 2 تسالونيكى 2: 3, 4]...

أى ضـد المسيح, الذى بحسب التفسير التقـليدى للكنيسة الأرثوذكسية, ليس هـو الشيطـان نفسه بـلّ هـو إنسان ـ إنسان تتركّـز فيه قـوى الشر, والذى سوف يُخضـع كـلّ العالم تحت سيطـرته لفتـرة من الزمـن...

والفـترة القصـيرة التى يسيطـر فيها ضـد المسيح سوف تنتهـى فجتاة بمجـئ الرب يسوع المسيح ثانية ـ ليس بطـرقـة خفيّة كما حـدث وقت ولادتـه فى بيت لحم, بـلّ:

جَالِساً عَنْ يَمِينِ اَلْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ ] [ متى 26: 64 ]...

وهـكـذا فإن مسيرة التـاريخ سوف تنتهى بطـرقـة فجـائية وحاسمـة, عـن طـريق التـدخـّل الإلهـى...

ميعـاد المجئ الثـانى أخـفاه الله عنـّا, كما يقـول الإنجيـل:

[‏ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا ‏الآبُ فِي سُلْطَانِهِ ‏] [ أعمال 1: 7 ]...

وسيأتى الرب كلـصّ:

[ أَنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحْقِيقِ أَنَّ يَوْمَ اَلرَّبِّ كَلِصٍّ فِي اَللَّيْلِ هَكَذَا يَجِيءُ] [ 1تسالونيكى 5: 2]...

وهـذا يعنى أننـا يجب أن نتحـاشى التفكـير فى تحـديد ميعـاد لمجئ الرب, كمـا أننـا يجب من الناحيـة الأخـرى فى حـالة استعـداد دائم...

يقـول القـديس اندراوس الكريتى:

" نفسى , يانفسى, قـومى! لمـاذا أنت نائمـة؟

النهـاية تقـترب, وحـالاً سيعتريك الاضـطـراب,

اسهـرى إذن, حتى يحفـظك المسيح إلهـك,

فهـو حاضـر فى كل مكان ويمـلأ كـلّ الأشياء"...

ثانيًا: ماذا يعنـى هـذا القـدوم الثانى فنـاء الكـون والبشرية؟:

نحن كمسيحيين لا نؤمن فقـط بخلـود النفس بـلّ أيضـًا بقيـامة الجسد...

بحسب أمـر الله فى خلقتنـا الأولى, فإن النفس والجسد يعتمـد كل منهما على الآخـر ...

وكنتيجـة للسقـوط يحـدث الانفصـال بينهما فى المـوت الجسدى, ولكن هـذا الانفصـال ليس نهـائيـًا وليس دائمـًا...

فعـند مجئ المسيح الثانى, سوف نُقـام من الأمـوات بالنفس والجسد معـًا, وهكـذا بعـودة النفس والجسد متحـدين, سوف نظهـر أمـام الرب للدينـونة الأخـيرة...

إن الدينـونة, كما يـؤكـد القـديس يوحنا تتم باستمرار طوال فترة وجودنا على الأرض...

فكلمـا اخـترنا الخـير والصـلاح فإننا ندخـل مسبقـًا منـذ الآن إلى الحيـاة الأبـدية, وحينما نختـار الشر فإننا ننـال من الآن تـذوقـًا مسبقـًا للجحيم...

من الأفضـل أن نفهم الدينونة الأخـيرة على أنهـا " لحظـة الحـق" حينما ينكشف كل شئ فى النـور, وحينمـا تصـير كل اختياراتنا مكشوفة لنـا بكـل ما تتضمنـه من نتـائج, وحينما نعـرف بوضـوح كامل من نحن وماذا كان المعنى العميق لحياتنا وما هو هـدفهـا...

هكـذا, فبـعـد هـذا التوضيح الكامل ـ فإننا سندخـل بالنفس والجسد متحـدين معـًا ـ إمـا إلى السمـاء أو إلى جهنّم, أى إمـا إلى الحياة الأبدية أو الموت الأبدى...

 

المسيح هـو الـديان, ومع ذلك ـ من وجهـة نظـر أخـرى, فإننا نحن الذين ننطـق بالحكم على أنفسنـا...

فإن ذهب أحـد إلى جهنم فـذلك ليس لأن الله قـد حبسه هنـاك, ولكـن لأنـه هو الذى اختـار لنفسه أن يكون هناك...

الهـالكون فى جهنم هم الذين حكمـوا على أنفسهم بذلك, وهم الذين جعلوا أنفسهم عبيـدًا...

لقـد قيل بصـواب أن أبواب جهنم هى معـلّقـة من الداخـل...

 

ربما يتساءل البعض, كيف يمكن أن يقبل إله المحبـة أن يبقى ولو واحـد فقط من خلائقـه فى جهنم إلى الأبـد؟...

يقول مار إسحق السريانى:

" من الخطـأ أن نتصـوّر أن الخطـأة فى الجحيم محـرومين من محبّة الله لهم, فالحب الإلهى موجود فى كل مكان, ولا يرفض أحـدًا... ولكننا أحـرار فى أن نرفض الحبّ الإلهـى... ولا يمكن أن نفعل هـذا دون أن نسبب ألمـًا لأنفسنا وكلمـا كان رفضنـا للحب نهـائيـًا كلما كانت آلامنـا مـرة جـدًا"...

 

تقـول عظـات القديس مكاريوس: " فى القيامة تقـوم كل أعضـاء الجسد ولا تهلك شعـرة واحـدة" [ لوقا 21: 18]... وفى نفس الوقت يُسمى جسد القيامة " جسمًا روحانيـًا" [ 1 كورونثوس 15: 35ـ 46]... هـذا لايعنى أن أجسادنا فى القيامة لا يكون لها قوام مادى, بل ينبغى أن نتذكّر أن المادة كما نعـرفها فى هذا العالم الساقط بكل جمودها وعتامتها, ليست كالمادة التى قصـدها الله أن تكون بالمرة... جسد القيامة عندما يتحرر من كثافة الجسد الساقط قإنه سيشترك فى خصائص جسد المسيح وقت التجلّى بعد قيامته... رغم ان جسدنا فى القيامة سيتغـير , فإنـه سيظـلّ يمكن التعرّف عليـه على أنـه نفس الجسد الذى لنـا الآن... إذ سيكـون هناك استمـرار بين الإثنين...

 

وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمى:

إنـه فى نفس الجسد الى سيقام, برغـم أنـه لن يكون فى نفس حالة الضعف الحاضرة لأنـه [ سيلبس عـدم فساد ] [ 1 كورونثوس 15: 35 ]...

وهـكذا فإنه سيتغـير... إنـه لن يحتـاج إلى الأطعمـة التى نأكلها الآن لحفظ جسدنا حيـًا, ولن يحتاج إلى سلم ليصعـد عليه, لأنه سوف يصـير روحانيًا...

1 ـ صـور كتابية تـوحى بذلك:

 

ولكـن هـل يقـوم هـذا المُلك على أنقـاض البشرية والكـون؟...

هـل يعـنى مجـئ المسيح الثـانى فنـاءهمـا؟...

هنـاك صـور وردت فى العهـد الجـديد تـوحى بهـذا المدلـول إذا مـا أخـذهـا القـارئ بحـرفيتهـا...

أ ـ فـقـد ورد مثـلاً فى إنجيـل مرقس على لسان الرب يسوع المسيح:

[ وَأَمَّا فِي تِلْكَ اَلأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ اَلضِّيقِ فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ وَاَلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ

وَنُجُومُ اَلسَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ وَاَلْقُوَّاتُ اَلَّتِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ.

وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ

فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ اَلأَرْبَعِ اَلرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ اَلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ اَلسَّمَاءِ ] [ مرقس 13: 24, 25 ]...

 

ب ـ وقـد ورد فى رسالـة بطـرس الثـانية:

[ وَلَكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اَللَّيْلِ، يَوْمُ اَلرَّبِّ، اَلَّذِي فِيهِ تَزُولُ اَلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ اَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ اَلأَرْضُ وَاَلْمَصْنُوعَاتُ اَلَّتِي فِيهَا... مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَاَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ ] [ 2 بطـرس 3: 10, 12 ]...

فى الولايات المتحـدة الأمـريكية, فى أيـام الحـرب البـاردة, كان كثـيرون مـن الأصـوليين المسحيين يؤولـون هـذه العبـارات تـأويلاً حـرفيـًا, فيـدّعـمون موقـفهم السياسى المـؤيّـد لحـرب نـووية تشنّـها بـلادهم على " معسكر الشر" الـذى كان يمثـّله الاتحـاد السوفييتى بنظـرهم, وكانوا يقـولون أن الله سيعـرف كيف ينجّـى ذويـه من هـذا الفـناء الشامـل!!...

2 ـ المعنـى الحقيـقى لهـذه الصـور:

ولكـن التـأويـل الحـرفى لهـذه العـبارات يتجـاهل الخـلفيـة الحضـارية التى انطـلقت منهـا والتى لا بـدّ لنـا مـن أخـذها بعـين الاعتـبار إذا شئنـا أن نـدرك فحـوى الرسالة التى لا يـزال الله يوجهـها إلينـا اليوم عـبر هـذه الكلمـات...

 

أ ـ إن علمـاء التفسير بيّـنوا أن العبارات المـذكـورة أعـلاه إنمـا هـى صـورة مـألوفـة فى الأدب الرؤيوى الـذى كـان شائعـًا عـند اليهـود فى الزمـن الذى ظهـر فيـه العهـد الجـديد, وأن الأدب الرؤيوى هـذا ( الـذى تـرك فى الكتـاب المقـدس أثـرين همـا سفـر دانيـال فى العهـد القـديم وسفـر الرؤيـا فى العهـد الجـديد, نـاهيـك عـن مقاطـع متفـرّقـة فى العهـدين ) كان يستعمل هـذه العـبارات ليشير بلـغة رمـزية إلى عمـق التغيير الـذى يجـريه الله فى الكـون عـند مجيـئه إليـه...

 

ب ـ النـار التى قيـل أن الكـون يلتهـب بهـا فى اليـوم الأخـير, إنما هـى إشارة كتـابية إلى الله:

[لأَنَّ إِلَهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ ] [ عبرانيين 12: 29]...

[‏ لأَنَّ اَلرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ نَارٌ آكِلةٌ إِلهٌ غَيُورٌ ] [ تثنية 4: 24 ]...

[ تَحْبَلُونَ بِحَشِيشٍ تَلِدُونَ قَشِيشاً. نَفَسُكُمْ نَارٌ تَأْكُلُكُم ... ‏ارْتَعَبَ فِي صِهْيَوْنَ اَلْخُطَاةُ. أَخَذَتِ اَلرِّعْدَةُ اَلْمُنَافِقِينَ. مَنْ مِنَّا ‏يَسْكُنُ فِي نَارٍ آكِلَةٍ؟ مَنْ مِنَّا يَسْكُنُ فِي وَقَائِدَ أَبَدِيَّةٍ؟ ] [ إشعياء 33: 11, 14]...

وينبغـى بالتالى أن لا تـؤخـذ هـذه النـار بالمعنى الحـرفى, المـادى...

والدليـل على ذلك إنما هـو العليقـة التى تجـلّى الله فيهـا لمـوسى فرآهـا هكـذا:

[ وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ اَلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا ‏اَلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ وَاَلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ ] [ خروج 3: 2]...

مما يستحيـل حصـوله فى حـالة نـار مـادية...

ولنـا عـودة إلى هـذه العـليقـة فى ما بعـد...

 

ج ـ أمّا تساقـط الكواكب وإظـلامها, فينبغى أن يُفهمـا هما أيضـًا من المنظـور الرمـزى نفسه...

فالشمس والقمـر والنجـوم كانت تتعـبّد لهـا الشعـوب الوثنيـة كآلهـة...

لـذلك كان شعب الكتـاب يمقت فيهـا تلك الهـالة الصنميـة التى أحيطـت بهـا...

مـن هنـا الاعـتقـاد لدى هـذا الشعب بأن تلك الأجـرام السمـاوية إنما تتحـكّم بهـا القـوى الشريرة النتشرة فى الفضـاء:

[ فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ ] [ أفسس 6: 12]...

وتستخـدمهـا لإيـذاء النـاس...

لـذا فزوال الكـواكب يعنى, من هـذا المنظـار, تلاشى قـوى الشر الفاعلـة فى الكـون, عـند إعـتلان ظـفـر الله...

إنـه حـدث سعـيد يوازى, كما قال أحـد المفسرين, إذا ما عُـبّر عـنه بلغـة اليوم, تـدمير مخـزون الأسلحـة النـووية التى تهـدد الأرض بالدمـار, أو زوال الأنظمـة الجـائرة التى تتحـكّم بالنـاس وتقـهـرهم وتـذلّهم...

3 ـ ما المقصـود إذًا بـ " اليوم الأخـير"؟:

 

فى ضـوء ما سبق, يمكـن أن نبلـغ إلى فهـم أفضـل لعـبارة " اليوم الأخـير" التى ترادف, فى إيماننـا , عـبارة " المجئ الثـانى للمسيح"...

فكلمـة " أخـير" لهـا فى اللغـة معـنيان:

إنها تعنى الزوال ( هـذا فلسى الأخـير, هـذا هـو اليـوم الأخـير من العـطلة...),

كما أنها تعنى الاكتمـال والتتـويج ( هـذا رأيى الأخـير: أى مـا نضـج فىّ من رأى بعـد طـول تفكـير ومنـاقشة مـع نفسى ومـع الآخـرين وتجـربة واختبـار )...

 

مـن هنـا أن " اليوم الأخـير" يعنى, بالنسبة للكـون, زوالاً واكتمـالاً بآن:

أ ـ إنـه زوال لوضعـه الحاضر الذى سوف يتغـيّر بفعـل الله بشكل بالـغ الجـذريـة تعـبّر عـنه الصـور الكـارثيـة التى أتينـا على ذكـرهـا:

وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اَلْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ. لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا اَلْعَالَمِ تَزُولُ ] [ 1كورونثوس 7: 31 ]...

 

ب ـ ولكنه, من وجـه آخـر, اكتمـال العـالم وتتويجـه وتجـديده بفعـل نـور الله وقـوته...

وما زوال وضعـه الحاضـر إلا لإفساح المجـال أمـام وضعـه المستقبـل البهـىّ...

إنـه مـوت العـتاقـة فيـه لكـى تتـاح ولادة الجـديد:

[ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: { الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ ] [ متى 19: 28 ]...

[‏ وَيُرْسِلَ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ اَلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ‏اَلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ اَلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اَللهُ بِفَمِ جَمِيعِ ‏أَنْبِيَائِهِ اَلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ اَلدَّهْرِ ] [ أعمال الرسل 3: 20, 21 ]...

وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ ] [ 2بطـرس 3: 13 ]...

[ وَقَالَ اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: { هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً }. وَقَالَ لِيَ: { اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ }] [ رؤيا 21: 5 ]...

 

ج ـ صـورة المخـاض تجمـع بين هـذين الوجهـين: فالمخـاض هـو ذلك التـأزم الحـاد, الشـديد الوطـأة على الـوالـدة ( التى كثـيرًا ما كانت, فى ما مضى, تمـوت عــند وضـع طـفـلها ) وعـلى الولـد ( الذى يعـانى من " صـدمـة الولادة" التى رأى التحليـل النفسى أنهـا تـترك أثـرًا فى اللاوعى يـدوم مـدى الحيـاة ), والـذى تـزول عـبره الحـياة الجنينيـة ( وهى حياة طفيلية, ناقصة, منطوية ) لتبـرز الحيـاة المستقـلة المكتملة على رحـاب الكـون:

[ لأَنَّ اِنْتِظَارَ اَلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اِسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اَللهِ.

إِذْ أُخْضِعَتِ اَلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ - لَيْسَ طَوْعاً بَلْ مِنْ أَجْلِ اَلَّذِي أَخْضَعَهَا ـ عَلَى اَلرَّجَاءِ.

لأَنَّ اَلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ اَلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اَللهِ.

فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ اَلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى اَلآنَ ] [ رومية 8: 19 ـ22 ]...

 

هـذا النصّ يُظهـر الارتبـاط الوثيق بين مصـير الكـون ومصـير الإنسان...

فالإنسان يختصـر الكـون فى تركيـبـه ( عـناصر الطبيعـة الماديـة ومقـوّمات المـادة الحيـّة مـوجـودة فيـه ) وهـو, بآن, تتـويـج لمسيرة الكـون التصـاعـدية عـبر مليارات السنين...

ومـن خـلاله يتابـع هـذا الكـون خطـه التطـوّرى...

من هنـا هـذا الارتبـاط الصميم بينهمـا...

 

4 ـ قيـامة المسيح فاتحـة " اليوم الأخـير":

هـذا " اليوم الأخـير", دشنـه قيامـة المسيح...

فيهـا بـدأ تجـديد الإنسان...

إن هـذا التجـديد قـد تجـلّى أولاً فى إنسانية المسيح الممجّـدة بالقيـامة...

وقـد كشف لنـا الإنجيـل بعض معـالم هـذه الإنسانية المتجـددة, التى هـى باكـورة الكـون الجـديد " السماء والأرض الجديدة"...

فمنـه نعـرف أنهـا إنسانيـة حقـّة: فيسوع يُجسّ ويُلمس بعـد القيـامة:

[اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَاِنْظُرُوا فَإِنَّ اَلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي ] [ لوقا 24: 39 ]...

[ ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: { هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً }] [ يوحنّا 20: 27 ]...

يـأكل أمام تلاميـذه:

[ وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين  مِنَ اَلْفَرَحِ وَمُتَعَجِّبُونَ قَالَ لَهُمْ: { أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟ } فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ ] [ لوقا 24: 41 ـ 43 ]...

يتحـدّث إليهم...

ولكنها مختلفـة جـذريـًا عن وضعها السابق:

فيسوع القائم من بين الأموات يدخـل والأبواب مغلّقـة, يتراءى ثم يحتجب, لا يُعـرف إلا إذا عـرّف هـو عـن نفسه:

[ فَلَمَّا اِتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اِخْتَفَى عَنْهُمَا... وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي اَلطَّرِيقِ وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ اَلْخُبْزِ ] [ لوقا 24: 30, 31, 35 ]...

[ قَالَ لَهَا يَسُوعُ: { يَا اِمْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ } فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ اَلْبُسْتَانِيُّ فَقَالَتْ لَهُ: { يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ وَأَنَا آخُذُهُ }. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: { يَا مَرْيَمُ! } فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: { رَبُّونِي } اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ ] [ يوحنا 20: 15, 16 ]...

[ وَلَمَّا كَانَ اَلصُّبْحُ وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى اَلشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ اَلتّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: { يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟ }. أَجَابُوهُ: { لاَ! } . فَقَالَ لَهُمْ: { أَلْقُوا اَلشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ اَلسَّفِينَةِ اَلأَيْمَنِ فَتَجِدُوا }. فَأَلْقَوْا وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ اَلسَّمَكِ. فَقَالَ ذَلِكَ اَلتِّلْمِيذُ اَلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ:{ هُوَ اَلرَّبُّ }. فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ اَلرَّبُّ اِتَّزَرَ بِثَوْبِهِ لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي اَلْبَحْرِ] [ يوحنا 21: 4ـ 7]...

لا تطـاله صـروف الدهـر من ألم ومـرض ومـوت:

[عَالِمِينَ أَنَّ اَلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ اَلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ] [ رومية 6: 9]...

إنهـا إذًا إنسانية حقـة ولكنها إنسانية متحـرّرة من محـدوديتها وقيودها...

 

نظـرًا لهـذا التطـابق بين قيامة المسيح وبين حالة " اليـوم الأخـير", فإن عبـارة " يـوم الرب" تشير بآن إلى يوم قيـامة السيد وإلى يـوم مجيئـه الثانى, كما أن هناك معـادلة بين " اليوم الأول" ( وهو الأحـد, يوم القيامة, ويوم بدء الخليقـة الجـديدة ) وبين " اليوم الثـامن" وهـو أيضـًا أحـد بالطبـع أى مرتبـط بقيـامة المسيح, ولكنـه يشير أيضـًا رمـزيـًا, بصـفته يأتى بعـد اختتام الأسبوع, إلى " اليوم الأخـير" )...

 

5ـ طـلائع تجـديد الكـون كما تعـاش فى الليتورجيـا:

 

هـذا التجـديد الذى دشنتـه قيـامة السيد المسيح, نختبره منـذ الأن فى الحيـاة الليتورجية بفعـل الروح القـدس الذى يستحضـر فينا وفى مادة الكـون, المسيح القائم من بين الأ مـوات...

أ ـ فى الأسرار:

فالأسرا تتخـذ مادة الكـون لتجعـل منها, بفعـل الروح القـدس, مكـان حضـور مكثـّف لله, يحيـا بـه الإنسان ويتجـدّد...

والمـادة هنـا تحـافظ طبعـًا على طبيعتهـا المـادية ( فالمـاء يبقـى مـاء, والخـبز خـبزًا والخمـر خمـرًا والزيت زيتـًا...) ولكنهـا تكتسب بآن قـدرة محييـة بفعـل حلـول الروح القـدس فيهـا ( كما يحـلّ المعنى فى الصـوت فيجعـل منـه كلمـة )...

*** ففى المعمودية, يتحـوّل المـاء إلى مكـان للولادة الجـديدة...

*** وفى سرّ الميرون, يتحـوّل الزيت والعطـور إلى ختم تمنـح به للمعمـّد مواهب الروح القـدس...

*** وفى سر الزيت المقـدّس تصبـح مـادة الزيت ناقلـة لقـوة شافية للروح والجسد...

*** وفى سرّ الزواج تتحـوّل الغـريزة الجنسية, وهى من طاقات الكـون, لا إلى لغـة للحب وحسب , بل إلى قنـاة للحب الإلهى ينقـله كل من الزوجين إلى الآخـر من خـلال حبّه له, ويتجـدّد به الحب البشرى ليتسن له أن يحقـق طـاقته المحيية ووعـده بالإخـلاص والديمومة...

*** وفى سرّ الشكـر, يصبـح الخـبز والخمـر, مع ما يحمـلانه من مادة الكون وما يمثـلانه من طاقات كونية سمحت بنشوئهمـا ( التربة والهواء والمطر والشمس ) ومن أعمـال إنسانية أدّت إلى إنتـاجهـا ( مختلف التقنيـات الزراعية والصناعية ومحهـود البشر ), يصبحـان " جسد المسيح ودمـه" , أى يتحـوّلان إلى قنـاة ينقـل لنـا المسيح عـبرها حضـوره الشخصى وحياته...

ب ـ فى الأيقـونة:

والأيقـونة مكـان يتحـوّل فيه الجمـال الفنى ( وهو أنسنة للمادة كما رأينا ) إلى جمـال من نوع آخـر, بفعـل خـبرة روحيـة يغـذيها راسم الأيقـونة بالصـلاة والصـوم...

هكـذا فإننـا فيهـا نخـتبر مسبقـًا شيئـًا من وجهى التحـوّل الذى يحقـقـه المجـئ الثـانى : إذ فيهـا انتفـاء للوضـع الحـاضر ( الأيقـونة ترفـض مقاييس الجمـال الطبيعى والتناسق المـألوف وتغفـل البعـد الثالث للمـدى ), وتحـوّل المـادة على مرتبـة أسمى وأرقى ( للأيقـونة جمـال أخـّاذ, وإن كان يخالف مقاييس الجمال الطبيعى, وجمالها المختلف يفتـح لنا كوة فى مادة الكـون يُطـلّ منها الله علينا )...

ج ـ الموسيقى الكنسية والأداء الطقسى:

ما يصـحّ فى الأيقـونة ينطبـق أيضـًا على الموسيقى الكنسية ( التى تجـرّد الألحـان من الانفعـالات البشرية لترفعها إلى مرتبة من الجمـال الرائق الصـافى ) ومختلف مظـاهر الأداء الطقسى ( من ملابس كهنوتية وحركات وبخـور وشمـوع ), مما يجعـل من الاحتفـال الليتورجـى صـورة عـن الملكوت المنتظـر ومقـدمة له...

هـذا ما خـبره موفـدو الأمـير " فلاديمير " الروسى فى القـرن التاسع عـندما زاروا كنائس القسطنطينية, فنقـلوا انطباعاتهم على الوجـه التالى:

" قـادونا إلى البيوت التى يحتفـلون فيها بإلههم, ولم نعـد نـدرى إذا كنـّا فى السماء أو على الأرض, فليس فى الأرض من جمال مماثل, لذا لا نجـد كلمات نصـفه بها, كل ما نعلمـه هـو أن الله هنـاك يقيـم بين البشر"...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخـلاصـة

موقفنـا من المجئ الثانى: انتظـار واستباق:

 

1 ـ يتـّضح مما سبق أننا منذ الآن مواطنون لـ " الأرض الجـديدة والسماء الجـديدة" التى سوف يقيمها السيد المسيح عـند مجيئه الثـانى...

وقـد جعـل الوح القـدس فى قلوبنا " عـربون" الحيـاة الجـديدة أى مقـدمتها...

بهـذا المعنى يمكن القـول بأن المجئ الثانى " قـريب", لا بالمعنى الزمنى بل بالمعنى الروحى من العبـارة, أى أننـا بـدأنـا منـذ الآن بتـذوقـه:

[هَذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ اَلْوَقْتَ أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ اَلنَّوْمِ فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا.

قَدْ تَنَاهَى اَللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ.

لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَاَلْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَاَلْحَسَدِ.

بَلِ اِلْبَسُوا اَلرَّبَّ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ اَلشَّهَوَاتِ ] [ رومية 13: 11 ـ 14 ]...

[ يَقُولُ اَلشَّاهِدُ بِهَذَا: { نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً}. آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ ] [ رؤيا 22: 20 ]...

 

2 ـ لـذا ننتظـر بحـرارة اكتمـال هـذه الحيـاة فينـا ونتـوق بالتـالى بلهفـة إلى مجئ الرب الثانى...

قـلوبنـا تنـادى مـع كاتب الرؤيـا:

نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً ] [ رؤيا 22: 20 ]...

 

3 ـ ولكنـه ليس مجـرّد انتظـار...

إنـه أيضـًا استباق لهـذا المجئ ولمـا سوف يحملـه من تجـديد كامل لنـا:

[ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ  ] [ 2 بطـرس 3: 12]...

أى أنـه, إذا كنّـا مأخـوذين فعـلاً ببهـاء التجـديد المرتقب, فلا بـدّ لنا من أن نرسم صـورته فينا وحـولنا:

 

أ ـ أن نرسمه فينا : أى أن نعيش كل يوم وجهيـه, وجـه موت العتـاقة ووجـه ولادة الحيـاة الجـديدة فينـا, أن نحيـا منـذ اليوم كمـا يليـق بمـواطنى الملكـوت , أن نتصـرّف فى ظـلمة الدنيـا كبين النـور:

[ هَذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ اَلْوَقْتَ أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ اَلنَّوْمِ فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا.

قَدْ تَنَاهَى اَللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ.

لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَاَلْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَاَلْحَسَدِ.

بَلِ اِلْبَسُوا اَلرَّبَّ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ اَلشَّهَوَاتِ ] [ رومية 13: 11ـ 14]...

هكـذا نكـون منـذ الآن فى انسجـام مع العـالم الجـديد, فيتـح لنـا هـذا التجـانس أن ننتمـى إليـه عـند اعـتلانه:

[ وَالآنَ، أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، كُونُوا ثَابِتِينَ فِي الْمَسِيحِ، حَتَّى تَكُونَ لَنَا نَحْنُ ثِقَةٌ أَمَامَهُ، وَلاَ نَخْجَلَ مِنْهُ، عِنْدَمَا يَعُودُ  ] [ 1 يوحنا 2: 25 ]...

 

ب ـ أن نرسمه حولنـا, ساعين إلى تحـويل الدنيـا إليه...

انتظـار المجئ الثـانى لا يعنى بالتـالى هـروبـًا إلى ضبابيـة " الغيبيات" بل إلتزامـًا لمهمات الدنيا وشؤون الأرض, ونضـالاً من أجـل إحقـاق العـدالة والإخـاء والتحـرير والتنميــة, ومقـاومة لا هـوادة فيها لكـل ما يسحـق الإنسان ويـذلّه من ظلم وقهـر واستغـلال وتخلّف...

 

4 ـ إن انتظـارنا الناشط لقـدوم المسيح الثانى يعطينـا الثقـة بأن الكلمـة الأخـيرة إنما هى للحيـاة لا للفنـاء, وأن الغـلبـة حاصلة منـذ الآن وإن تأجـلّ اكتمالهـا...

ومن شأن هـذه الثقـة أن تمـدّنا بشجـاعة الصـبر والثبـات رغـم قسوة الصـراع فينـا وحولنـا ورغـم كل ما تعتـرضنـا من صـعوبات وعـثرات ونكسات وخيبـات:

[ فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا اَلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ اَلرَّبِّ. هُوَذَا اَلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ اَلأَرْضِ اَلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ اَلْمَطَرَ اَلْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ اَلرَّبِّ قَدِ اِقْتَرَبَ ] [ يعقـوب 5: 7, 8 ]...