القسم الثاني:

1 - التراث التشريعي قبل الإسلام.

1 - حكام العرب:

لا شك في القارئ للتاريخ الجاهلي أن يعتمد بشكل أو بآخر على المصادرالإسلامية? فكما نعلم - للأسف - أن الجاهليين لم يتركوا لنا من آثارهم المكتوبة شيئاً يذكر. وإننا إذا أردنا أن نعرف شيئاً عن الموروث التشريعي عند العرب قبل الإسلام يجب علينا أن نستنطق التاريخ الإسلامي والشعر الجاهلي - وحري بنا أن نفعل - حول تلك الإرهاصات الأولى للقانون? والتي وضعها بعضٌ ممن يُسَمّون بحكام العرب مثل: عامر بن الظرب العدواني ? وأكثم بن صيفي ? وقصي بن كلاب ? وكعب بن لؤى ? وغيرهم.

قصي بن كلاب:

لم يحدث اتفاق بين الباحثين حول أي شخصية وأثرها في التاريخ العربي القديم مثل ماحدث حول قُصي بن كلاب. ولعل ما جعلهم يتفقون حوله هو وضوح دوره في وضع بذور الإمبراطورية العربية التي بدأت بعد 130 سنة على يد - حفيد قُصي - النبي صلعم .

فقُصي هو الذي حول سكان مكة من سكان خيام يعيشون في بيوت متنقلة حول مكة إلى سكان مدينة صارت محج العرب وقبلتهم (المفصل 4:22). وقد بلغ الأمر بالعرب أنهم لم يكونوا يعقدون حِلفاً ولا تجارة إلا في بيت قُصي دار الندوة . ولعل قُصي في سيرته هذه قد استلهم سيرة جده كعب بن لؤي? الذي كان أول من جمع العرب في يوم الجمعة ليتدبروا أمورهم ? وهذه القصة تملأ كتب السيرة? ولكن أعرضنا عنها لما تحويه من أمور لا يشك باحث في وضعها? مثل قصيدة كعب التي يقول فيها:

على غفلةٍ يأتي النبي محمدٌ -- فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها

(بلوغ الأرب? 1:273),

و المعروف أن كعباً هو الجد السابع للنبي ولم يقل أحد من المؤرخين - مهما بلغ به الخيال - بنبوة كعب حتى يمكن القول بصحة نسب هذه القصيدة له. ولكن ما يعنينا من أمر كعب هو أنه واضع اللبنة الأولى لقريش ? تللك اللبنة التي أكمل عليها حفيده قُصي الأساسات? ثم أتم الحفيد البعيد محمد باقي البناء لتخرج من قلب قريش تلك النخبة التي حكمت معظم المسكونة لقرون عديدة. (أورد الأستاذ خليل عبد الكريم في بحثه القيم قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية فصلاً عن قُصي ابن كلاب جمع فيه كل الأراء حول قصي ونشأته.. فليراجعه من يرغب في المزيد).

 

أكثم بن صيفي:

هو أكثم بن صيفي بن رباح? قيل في كنيته وكينونته الكثير ? فهو من الأوائل في أمور كثيرة ? ولعل أفضل ما نقدمه به هو ما جاء في كتاب يحمل اسمه ويبحث في أقواله? فقد جاء فيه: وقد أجمعت مصادر التراث على تقديمه في عصره على غيره من المشاهير ? حيث جعله الجاحظ رأس الخطباء والمقدم فيهم (البيان والتبيين 1:365) ? ولقبه بن عبد ربه وغيره بحكيم العرب (العِقد 2:87) ووصفه ابن كثير بأنه طبيب العرب? ولعله مجاز أو تصحيف ? ووصفه غيرهم بأ نه قاضي العرب في الجاهلية( دائرة المعارف الإسلامية 4:150).

وهو أول من حكم بأن الولد للفراش (الأوائل 73) ? وهذا من الأمور التي أقرها الإسلام. ويضاف إلى ذلك أن النبي ردد بعضاً من حكمه? وعُدَّت من الحديث النبوي. وكذلك تداخلت جمل من كلامه مع أساليب القرآن الكريم ... (أكثم بن صيفي ومأثوراته? كاظم الظواهري? دار الصابوني1991 م? ص 30). ولعل آراء أكثم وغيره ممن لُقِبوا بحكام العرب قد تعطي فكرة أوضح عن التراث التشريعي قبل الإسلام? فالكثير من الأحكام التي وضعوها صارت شرعاً متبعاً بعد الإسلام? أو كما يقول المفسرون وأهل السيرة: إنهم وفِقّوا لحكم الإسلام في تلك الأمور ? مثل حُكم ذو المجاسد عامر بن جُشم في الميراث ? فالعرب لم تكن تورث البنات فقرر ذو المجاسد توريثهن ? على أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ? ومثل حُكم عامر بن الظرب العدواني ? وذرب بن حوط في الخنثى (المفصل 5:480) ? ومثل حكم أكثم الذي رويناه قبلاً. وهناك أيضاً بعض الشرائع التي اتبعها العرب قبل الإسلام لم يعرف واضعها مثل صلب قاطع الطريق ? أو ما يُسمى في الإسلام بحد الحرابة ? وقد صلب النعمان رجلاً من بني عبد مناف كان يقطع الطريق (المفصل 5:585 ? 608? المحبر 479) ? ومثل حكمهم في الديات فقد كانت عشر من الإبل حتى جعلها عبد المطلب جد النبي مائة من الإبل ? فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل ? وأقرها الإسلام على ما كانت عليه (طبقات ابن سعد 2:89). وحكمهم في أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يُعرف قاتله ? فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يميناً ? ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد ? أو يُقسم المتهمون على نفي القتل عنهم. فإن حلف المدعون استحقوا الدية ? وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية (المفصل 5:602) ? وقد أقر الإسلام هذا الحكم? فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول اأقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (صحيح مسلم? شرح النووي? 4:231).

أما بالنسبة لحد السرقة فيذكر جواد علي أن قريشاً كانت تقطع يد السارق - قبل الإسلام - واختلف في أول من أقر هذا الحكم فقيل إنه عبد المطلب أو الوليد بن المغيرة (المفصل 5:605). ومن جملة الأحكام التي كان يتبعها العرب قبل الإسلام: حكمهم في الزواج? والديون? واللقطة? والهبة? وبعض هذه الأحكام لايزال موجوداً في الفقه الإسلامي? وبعضها الآخر رفضه الإسلام جملة وتفصيلاً. وسنأخذ نبذة عن أشهر هذه الأحكام في الفقه الجاهلي? وهي تلك الأحكام التي أقرها الإسلام - إما تحت نفس المسمى أو تحت مسمى آخر - مثل:

الزواج:

حارب التشريع الإسلامي معظم أنواع الزواج التي اتبعها العرب قبله? ولم يُقّر غير نوعين فقط: أولهما الزواج المعروف? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد دائم وغير محدد المدة في وجود شهود. وثانيهما هو زواج المتعة ? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد مؤقت محدد المدة في مقابل مهر - أجر - يُتفق عليه? وينتهي الزواج بانتهاء الأجل بدون طلاق? وهذا النوع من الزواج لايعترف به الآن سوى بعض طوائف الشيعة (زواج المتعة? د فرج فودة? الدار العربية? ص 21 وما بعدها). هذان النوعان من الزواج كانا موجودين قبل الإسلام? وبقيا بعده بنفس الكيفية والشروط. أما بقية أنواع الزواج فقد اعتبرها الإسلام زنا? ومن ثم حاربها حتى قضى عليها تماماً.

 

تعدد الزوجات:

أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات? والجمع بين أي عدد يشاء منهن? كما أباحوا أيضاً امتلاك الجواري دون التقيد بعدد. وتذكر كتب الفقه أن بعض الصحابة قد تزوجوا عشر نسوة? فلما حدد الإسلام عدد الزوجات بأربع طلقوا ستاً منهن (نيل الأوطار? للشوكاني? دار الحديث بيروت 7:160). وقد وافق الإسلام على فكرة تعدد الزوجات? غير أنه أتى لها بقيود كثيرة جعلت التعدد إستثناء? بعد أن كان قاعدة عند العرب قبل الإسلام.

 

العقوبات:

من المعروف أن كل المجتمعات على اختلاف درجاتها من الرقي والتخلف لها قانونها الخاص الذي يُطبق على المخالفين والخارجين عليه. ويكون هذا القانون غالباً ضد أي خروج على عُرف المجتمع وديانته? هذا إذا لم يكن لهذا المجتمع قانون مكتوب دستور يسير عليه. والعرب كغيرهم لهم أعرافهم التي يعتبر الخروج عليها جرماً يستحق العقاب ? فكانوا يعاقبون على القتل والسرقة وغيرها من الأمور التي يعتبرونها جرائم تستحق العقاب. وبالرغم من عدم تطبيق هذه العقوبات - غالباً - حيث كان أهل القاتل يعتبرون تسليمه إلى أهل القتيل للقصاص منه مثلبة ونقيصة? وكذلك في باقي الجرائم. ولكن ما يعنينا في هذا المقام ليس تطبيق القانون بقدر ما يعنينا وجود إرهاصات لتلك المجموعة من القوانين التي وجدت قبل الإسلام واستمر وجودها بعده. ويُعدد الدكتور جواد علي بعض هذه القوانين فيقول: ومن العقوبات التي جاءت بها شريعة الجاهلية عقوبة إقامة الحدود على الجناة? وذلك بالتعزير? وهو الجلد? جلد المخالف الذي لاتكون مخالفته جناية? بل مخالفة بسيطة في مثل أوامر الوالدين أو الولي الشرعي? وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر وعقوبة السجن على الجنايات المهمة ? وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص? والحبس في البيت ? وعقوبات القصاص (المفصل? د.جواد علي? 5:280)

الصفحة الرئيسية