هل طبق النبي حد الردة :

يتفق جميع المؤيدين لتطبيق حد الردة على أن هذا الحد لم يرد في القرآن? ولكنهم يقولون إن هذا الحد ثابت بالسنة النبوية? وقد رأينا مدى ثبات هذا الحد في السنة القولية. ولكن هل ثبت عن النبي أنه طبق هذا الحد? وهل هناك أية إشارة إلى أن النبي عاقب شخصاً ما بتهمة الردة?

إن أشهر وأوضح الأحاديث في هذا الشأن هو مارواه مسلم عن جابر قال: إن أعرابياً بايع رسول الله? فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأُتي النبي فقال: يا محمد أقلني من بيعتي? فأبى رسول الله. ثم جاءه فقال: أقلني من بيعتي? فأبى. ثم جاءه فقال: أقلني من بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها? وينصع طيبها وفي رواية البخاري فبايعه على الإسلام (صحيح مسلم? كتاب الحج? باب المدينة تنفي خبثها? ج 3 ص 530? البخاري? كتاب الحج? باب حرم المدينة? ج 3 ص 29).

فهذه الحالة حالة ردة ظاهرة ورغم ذلك لم يعاقب النبي هذا الإعرابي بأية عقوبة? وهناك حالات أكثر وضوحاً بشأن الردة منها ما يرويه القرطبي في تفسير آية الأنعام و من أظلم ممن افترى على الله كذباً? أو قال أُوحى إليَّ ولم يوح إليه شيءٌ قال: المراد عبد الله بن أبي سرح ? الذي كان يكتب الوحي لرسول الله ? ثم ارتد ولحق بالمشركين . وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في المؤمنون : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ (المؤمنون 23:12) دعاه النبي فأملاها عليه? فلما انتهى إلى قوله: ثم أنشأناه خلقاً آخر عَجِب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين . فقال رسول الله: كذا أُنزلت عليّ فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً ? لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ? ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال . فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ... فلما دخل رسول الله مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خَطَل? ومِقْيس بن صُبابة ولو وُجدوا تحت أستار الكعبة? ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة? أرضعت أمه عثمان - فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له? فصمت رسول الله طويلاً ثم قال: نعم . فلما انصرف عثمان قال رسول الله: ما صَمَتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه . فقال رجل من الأنصار: فهلاّ أومأتَ اليّ يا رسول الله? فقال: إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين (تفسير القرطبي? ج 7 ص 27?28). هذه حالة أخرى من حالات الردة الواضحة والتي لم يعاقب فيها النبي بشيءٍ ? ولو كان هناك حد للردة لما تراجع النبي عن تنفيذه وهو القائل لأسامة بن زيد حِبه وابن حِبه حينما أتاه يستشفع في امرأة سرقت في غزوة الفتح أتُكلمني في حدٍّ من حدود الله (صحيح البخاري? 5:192). فهل من الممكن بعد كل هذا أن نقول: إن الردة حد شرعي يجب أن يطبق? والقرآن يقول وَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف 18:29). أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( يونس 10:99).

لقد أطلنا الحديث حول حد الردة لنبين موقفين مختلفين? أولهما موقف الإسلام الذي أرسى قواعد الحرية في وقت كان فيه العالم يئن من وطأة الاستبداد? ففي الفترة التي كان يقام فيها مجمع القسطنطينية 870 والذي حُرِم فيه فوتيوس لهرطقته? ابتداعه في الدين? كان ابن الخياط يكتب الانتصار في الرد على ابن الراوندي? الذي لا يجادل إثنان في ردته وإلحاده. ولعل القارئ يتعجب إذا عرف أن في نفس الفترة تقريباً? التي كان يحيا فيها ابن الراوندي المتوفى 910 م ? مؤلف فضيحة المعتزلة وكتاب الفرند الذي يطعن فيه في شخص النبي? كان يحيا الإمام البخاري المتوفى 870 م ? والإمام مسلم المتوفى 875 م ? والطبري المتوفى 923 م ? وابن الخياط المتوفى 923 م . ومع ذلك لم يقرر واحد منهم أن يتربص به ويقتله. لقد كان هؤلاء يعرفون جيداً ما معنى الحوار? فالفكر لا يقاوم إلا بالفكر? وليس بإلقاء أحكام التكفير على المخالفين. أما الموقف الثاني فهو موقف المتفقهين الذين لم يقدموا للعالم من الإسلام إلا رأيهم وفكرهم? وأحكامهم بالكفر على من يختلف معهم? فأصبح الإسلام - بفضلهم - مرادفاً لحياة الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرناً? وأصبح جُل همهم هو التفتيش في عقول البشر للحكم بإيمانهم أو كفرهم.

الصفحة الرئيسية