تعليقات على الإسلام

 

الباب الحادي عشر

نهي محمد لأصحابه عن تصديق وتكذيب أهل الكتاب

 

أولا : مصادر البحث

جاء في صحيح البخاري، الجزء الثالث، صفحة 84 : }روي أبو هريرة قال:”قال رسول الله  r:"لا تصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا".قال لأن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام” {.

جاء في صحيح البخاري، الجزء الرابع، صفحة 250 : }روي أبو هريرة قال:” كان أهل الكتاب  يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله  r:"لا تصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وعلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى           الخ كما في سورتي البقرة 2: 136، وآل عمران 3: 84” {.

ثانياً : التعليق على ما سبق

لزوم التحقُّق من النبأ

من المعلوم أن عدم القطع بتصديق وتكذيب ما يُسمع على الفور شأن أهل التعقُّل والذكاء، فالعاقل لا يُسرع في الحُكم حين سماعه حديثاً غريباً بصدق المحدِّث أو بكذبه، إنما يضع ذلك المسموع تحت البحث والاستقصاء الوافيين ليتحقق من صدقه أو كذبه.

مثال : حين سمع الناس في جهات مختلفة من العالم خبر اكتشاف العالِم روتنجن أشعة تخترق الأجسام الطرية والأنسجة دون العظام والمعادن. أي أنه إذا وجَّهت هذه الأشعة إلى جسم حيوان أرتك إياه مجرد هيكل عظمي، وإذا كان قد تخلل هذا الجسم شيء من المعادن إبرة أو رصاصة أرتك إياه في مكانه من ذلك الجسم.

فالجهلاء سرعان ما كذَّبوا هذا الخبر، بينما العقلاء توقفوا عن الجزم بصدقه أو كذبه حين يُستكمل البحث عنه أو يشيع ويظهر للعموم. ولم يطل المدى حتى ظهرت حقيقته، وانتفى الريب به فصدَّقوه الناس وأولهم المكذِّبون.وعليه كان الخليق بنبي الإسلام أن يقول لأصحابه :"»يا أصحابي لا تبادروا إلى تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما يحدّثونكم زاعمين أنه من الكتاب المقدس حتى تتحققوا الأمر بطريقة البحث الاستقصاء القانونيين« حتى يكون بذلك مطبقاً لنص القرآن القائل }يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين{ ولكن لا تقول الآية :" إن جاءكم فاسق بنبأ لا تصدِّقوه أو تكذِّبوه"، لأن اقتصاره على هذا الأمر غير المنطبق على الأمور المرعية يقودنا إلى تعليقين لا مفر منهما وهما:

التعليق الأول

صحة التوراة والإنجيل

الإيقان بسلامة التوراة والإنجيل من شائبة التحريف والتبديل في اللغات التي أُنزِل بها وهي العبرية أو اليونانية، لأن نهيه لأتباعه عن تصديق أهل الكتاب بداعي أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرية ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإسلام دليل اعتقاد محمد بسلامة كتاب الله بأيدي أهله اليهود والنصارى من التحريف والتغيير والتبديل بلغاته الأصلية؛ لأن نهيه غير مطلق فهو يعم كل مسلم في كل زمان ومكان، وعليه فيؤخذ منه أن محمداً اعتقد بدوام سلامة الكتاب المقدَّس حسبما أُنزل ما دامت الدنيا، وهو اعتقاد مُنْتَظر من كل ذي عقل مؤمن بالله وبكتابه.

وما من مسلم عاقل لا يرى أنه إذا كان قد مضى على توراة موسى نحو أكثر من ألفي عام من عصر موسى إلى عصر محمد، وما ينوف على ألف سنة على أسفار باقي الأنبياء كداود وإشعياء وارمياء وحزقيال ودانيال، ونحو ست مائة سنة على الإنجيل ولم يُمَس طوال هذه القرون بتحريفٍ ما كما يتأكد ذلك للمسلم النبيل من النصوص القرآنية العديدة [1] بشأن الكتاب المقدس وشرحها من أئمة الإسلام وعلمائهم ومِن نهي محمد هذا، فبالضرورة يبقى سالماً إلى أن تقوم الساعة وتنتهي الدنيا لاستحالة التواطؤ بعد ذلك على تحريفه، وتطرُّق التحريف إليه بعد أن بلغ مبلغ التواتر والشهرة في الشرق والغرب وتُرجم إلى مئات اللغات مع بقائه في لغاته الأصلية، وعلم الآثار والحفريات يؤكدان ذلك بأجلى بيان.[2]

التعليق الثاني

وجوب مطالعة الكتاب المقدس

التزام المسلم بمطالعة الكتاب المقدس بلغاته الأصلية بكل تدقيق، واعتباره ككتاب الله الحي إن لم يثق بصحة ترجمته إلى العربية أو أي لغة أخرى، والقيام بما أنزل الله فيه من حيث الإيمان والأعمال. وبعد هذا ماذا يكون ذلك المسلم إلاَّ مسيحياً، لأن غاية الكتاب المقدس ومفاداة الصريح هو المسيح ابن الله، وابن داود، فادي الخطاة بموته على الصليب للبِر لكل من يؤمن، والوسيط الوحيد بين الله والناس، والشفيع غير المردود لكل من يدعو باسمه ويتقدم به إلى الله.

وإن قالوا: ليست غاية محمد في نهي أتباعه عن تصديق وتكذيب أهل الكتاب دفعهم إلى مطالعة الكتاب، بل الانصراف والإغضاء عنه والاكتفاء بالقرآن.

قلنا: لا شك إن هذه هي غايته، ليمنع تأثير الكرازة به في قلوب أُمَّتِهِ، غير أن كل عاقل يرى أن هذا الاحتياط لا يغني شيئاً، لأن من شأن نهيه هذا كما أسلفنا أن يدفع بذي التعقُّل من المسلمين إلى اقتناء الكتاب المقدس، ودراسته باهتمام واحترام؛ للأخذ بما فيه سواء وافق القرآن أو لم يوافقه!. وكأنه لم يخطر قط على بال محمد أن الكتاب المقدس سيتَرْجَم برمته إلى اللغة العربية، ترجمة مضبوطة على الأصل، ويوجد الآن علماء مسلمين متخصصين في اللغة العبرية واليونانية واللغات الشرقية القديمة، وهم عمداء ورؤساء أقسام هذه اللغات في كليات الآداب، والألسن، واللغات والترجمة في كل جامعات مصر والدول العربية، يقومون بدراسة الكتاب المقدس كنموذج لأعمال أدبية كُتِبت في هذه اللغات، فهم مطّلعون على الكتاب المقدس في لغاته الأصلية وكذلك ترجمته إلى العربية، ولم نسمع قط أن رئيس قسم اللغة العبرية بكلية الآداب، أو أحد الأساتذة المتخصصين ألَّف كتاباً يسرد فيه أخطاء الترجمة التي وقع فيها مترجمو التوراة، وكذلك لم نسمع أن رئيس قسم اللغة اليونانية بكلية الآداب أو الألسن، أو أحد الأساتذة المتخصصين ألَّف كتاباً يسرد فيه أخطاء الترجمة التي وقع فيها مترجمو الإنجيل. هذا بالإضافة أن هذه الأقسام موجودة بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، وأنا شخصياً لي صديق وزميل حميم معي نفس الكلية والدفعة والفصل في الكلية، تعمل والدته رئيسة قسم بهذه الكلية التابعة لجامعة الأزهر، وقال لي يوم إن هناك بالفعل أساتذة مسلمين متخصصين في تدريس مادة مقارنة الأديان وبخاصة تدريس الكتاب المقدس، وحمداً لله أن هؤلاء الأساتذة باء بحثهم بالفشل الذريع حينما حاولوا التنقيب والبحث عن أخطاء ترجمة الكتاب لمقدس من لغاته الأصلية.

ويلوح لك عزيزي القارئ مما جاء في القرآن في (سورة الأنعام 6: 106):"وإن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراسته لغافلين". أن بعض الصحابة حين سمعوا محمد ينعت اليهود والنصارى بأهل الكتاب، ورأوه يرصِّع قرآنه بكثير من نصوصه وقصصه، تاقت نفوسهم إلى ذلك الكتاب الإلهي، ولاموا أنفسهم على غفلتهم عن دراسته. إذ لم يسعهم إلاَّ أن صرَّحوا بذلك. وكأن محمد خشي الردَّة عنهم إلى اليهودية أو النصرانية فاستدرك الأمر وأخذ في إخماد شوقهم إلى الكتاب المقدس وصرْفِهم عنه إلى قرآنه بتقوّله على لسان الله:" وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة"(سورة الأنعام6: 155،157) وإذا كان محمد أراد بالقول أعلاه حسب رواية أبي هريرة الأولى الاستغناء عن الكتاب المقدس بالقرآن لاشتماله على بعض قصص الكتاب [3]، فإرادته هذه لا يزيل من قلب المسلم شعوره بالافتقار إلى دراسة كتاب الله وهو منهي عن تصديق وتكذيب أهله فيما يزعمون أنه من الكتاب المقدس. ومن يرى القول:"آمنا بالله وما أنزل" مضاد لنهي محمد، لأن إيمان كهذا ناقص؛ لأنه غير مبني على معرفة ما أنزل الله، وبالتالي غير مُرض لله، لأنك إذا كنت تؤمن بإنزال الله الكتاب المقدس وهو لا يزال كما أُنزل بيد أهله ميراثاً لهم كما جاء في سورة غافر آية 51.فإيمانك هذا يترتب عليه لا محالة اقتناءه ودراسته والقيام بما أنزل الله فيه. وإلاَّ مجرد تصديقك له كمنزل من عند الله دون دراسته يوجب عليك سخط الله وعقابه؛ لأنك آمنت أن الله أنزل للناس كتاباً فيه هدى ونور التي هي أحسن، وتفصيلاً لكل شيء، ولم تكترث به ولا اتخذته سميرك. أليْس الكتاب كتابه إلى الناس؟! ألست أنت من الناس؟! وألا يخلق بك إذاً اتخاذه لنفسك وللتفقُّه فيه ومعرفة ما أنعم الرحمن على عباده لحياتهم وسعادتهم الأبديتين؟

 

لا بديل للكتاب المقدَّس!

ثم ألا ترى أن اكتفاء المسلم بالقرآن واستغناؤه به عن كتاب الله المُنزل منه على عدد من أنبيائه الصالحين، وانتهاءه بنهي محمد يعدمه الفائدة مما يقصه أهله عليه منه. وما أدراك ما هي أعظم شيء تحتاج إليه نفسك الخاطئة في هذا العالم، فلا يخلق بك الوقوف في نقطة عدم التصديق والتكذيب. فليس ذلك من صالحك، ولا من صالح أحد من عباد الله العاقلين. فتجاوز هذه النقطة عزيزي القارئ إن كنت ممن يحبون الحق ومعرفة صدق المحدِّث من كذبه.

ثم ألا ترى أن هذا النهي يتضمن حرف ((لعل)) أي لعلهم صادقون فتكذبهم خطأً أو لعلهم كاذبون فتصدقهم خطأً. فهل الاقتصار على لعل والبقاء في نقطة عدم التصديق والتكذيب من شيمة العاقل المفكّر؟! لا ليس من عاقل يرضى لنفسه ذلك ولديه سبيل التخلُّص منه.


 

[1] آل عمران 3:3، 4. المائدة 5: 45، 46، 47. العنكبوت 29: 46. النساء 4: 136. المائدة 5: 68. الجاثية 45: 16. آل عمران 3: 184. البقرة 2: 53. الأنبياء 21: 105. الحجر 15: 9. وغير ذلك كثير جداً.

[2] يجدر بالقارئ العزيز أن يقتني نسخة من كتاب   »التوراة والإنجيل كلمة الله المعصومة"« من العنوان الآتي:Light of Life, P.O.Box13, A-9503 Villach, Austria.

[3] انظر الباب الخامس عشر (قضية النسْخ بين الدفاع والمعارضة)

الصفحة الرئيسية