تعليقات على الإسلام

 

الباب الثاني عشر

قول محمد إنه مصدِّق لما مع اليهود والنصارى

 

أولاً : مصادر البحث

جاء في القرآن (سورة البقرة 2: 40، 41) }يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبوني، وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به{. ومن تفسير الفخر الرازي لهذه الآية هو}أمَّا قوله "مصدّقاً لما معكم" ففيه تفسران. الأوَّل: إن موسى وعيسى حق، وإن التوراة والإنجيل حق، فكان الإيمان بالقرآن مؤكّداً للإيمان بالتوراة والإنجيل، وإن الإيمان بالقرآن يؤكّد الإيمان بالتوراة والإنجيل.الثاني: أنهُ حصلت البشارة بمحمد وبالقرآن في التوراة والإنجيل، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد تكذيب للتوراة والإنجيل. وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام، لأنه مجرد كونه مخبراً عن كون التوراة والإنجيل حقاً لا يجب الإيمان بنبوِّته، أمَّا على التفسير الثاني يلزم الإيمان به{. (تفسير الفخر الرازي، مجلّد أول، صفحة 489،  490).

جاء في القرآن (سورة آل عمران 3: 2-4، 81)}نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس. وإذا أخذ اللَّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننَّ به {.

جاء في القرآن  (سورة النساء 4: 47) }الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم{.

وفي (سورة المائدة 5: 48) }أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب{.

ثانياً : التعليق على ما سبق

قد رأيت فيما مرَّ من نهي محمد لأصحابه عن تصديق وتكذيب أهل الكتاب -اعتقاداً منه بصحة كتاب الله بيدي أهله اليهود والنصارى، وسلامته من شائبة التغيير والتحريف- وهنا يصرِّح كما عن فم الله أنه جاءهم مصدِّقاً لما معهم أي الكتاب الذي أُتوه من الله، وذلك لا يبقي للمسلم الورِع عذراً يحتج به على عدم تصديقه التوراة والإنجيل والقيام بما فيه.

وإني أتعجَّب من وجود مسلم عاقل يعير مثل هذا التفسير –تفسير الرازي- الساقط أي اعتبار، وغير مُنتَظر ممن له ذرَّة من العقل والإدراك، ومن هو الذي لا يرى صوابية التفسير الأول، وخطاء التفسير الثاني! والأول حقَّاً بيِّناً، والثاني أولى بمتعصبي الإسلام وجهلائهم الذين نبذوا عنهم بعيداً كل ما لا يرون فيه تعظيم لمحمد، وتدعيم ادعاءاته، كان غرضهم الأعظم محمد لا الحق؛ لذلك تراهم يؤولُّون الآيات تأويلاً تعسُّفياً بعيد كل البُعد عن غرضها ومدلولها، بحيث يكون ذلك التأويل موافقاً لاعتقادهم بمحمد كنبي الله ورسوله الأعظم.

إنهم حين رأوا في صراحة النص "مصدِّقاً لما معكم" أنه على هذا المبدأ لا يلزم الإيمان بمحمد كنبي موحى إليه، بل يُعتبَر مجرد مخبر بحق الكتاب المُنْزَل على موسى وعيسى وما بينهما من الأنبياء أنكروا هذا الحق المبين ونبذوا التفسير لحق، وعمدوا إلى تأويل غاية في السخافة والضعف، وليس فيه شيء من الموافقة للقول "مصدِّقاً لما معكم". وهذا دأب هؤلاء في كل نص لا ينطبق على هواهم وغرضهم.

عزيزي القارئ، تأمَّل! ليس النص "يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد كنبيّ ورسولي وبما أنزلت عليه؛ لأن ما معكم مصدِّقاً له ولقرآنه" حتى يصح قولهم "فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل" بل آمِنوا بما أنزلت مصدِّقاً لما معكم "أي أن القرآن مصدِّقاً لكتابي الذين معكم" والنصوص التابعة تزيد ذلك بياناً، وبناء عليه ليس على أهل الكتاب اعتبار القرآن إلاَّ إذا كان مصدِّقاً لكتاب الله معهم بكل جزئياته. وبحسب النصوص القرآنية أن محمد جاء مصدِّقاً لكتاب الله التوراة والإنجيل الكائن يومئذٍ بيدي أهله اليهود والنصارى، أنه كتاب الله عل التي هي أحسن، عجَب ذلك المسلمين أو لم يعجبهم، وافق دعوى نبيهم أو لم يوافقها، وعليه فإن تكذيب الكتاب الذي مع اليهود والنصارى هو تكذيب لنص القرآن، وتصديقه هو صديق لنص القرآن. وإني أرى لا بد مما تقدَّم من نتيجتين حتميتين وهما:

النتيجة الأولى : سلامة كتاب الله الذي مع اليهود والنصارى من شائبة التحريف، لأن شهادة القرآن هذه تنزِّهه أيضاً من ذلك، ومن البديهي إذا كان الكتاب في مدة ستمائة سنة من عصر المسيح حتى محمد -فضلاً عما مرَّ على التوراة التي هي قبل المسيح- لم يعتره أي تغيير أو تحريف، استحال أن يعتريه شيء من ذلك فيما بعد كما قد أسلفنا بيانه.

النتيجة الثانية : التزام اعتناق محمد الدين المسيحي، لأن الذي مع اليهود (ومحمد على قوله مصدِّقاً لما معهم) هي التوراة ناموس موسى والأنبياء والمزامير، وهي شاهدة شهادة صريحة في كل أسفارها ليسوع المسيح[1] ابن الله وابن داود مولود بيت لحم اليهودية كفادي البشر ورئيس السلام العظيم، ولا سيما إشعياء ودانيال وميخا. والذي مع النصارى هو الإنجيل، وحسب الإسلام إنجيل عيسى، ولفظة إنجيل كلمة يونانية معناها البشارة المُفرحة، فكلَّه بشرى الخلاص من الخطية، والسلام مع الله بابنه يسوع المسيح. والإنجيل يتكوَّن من عدة أجزاء: جزء كبير منه عن تاريخ بُشرى مريم أمه به، وولادته في بيت لحم، وحياته العجيبة، ومعجزاته الخارقة الخيِّرة، وموته على الصليب ودفنه ثم قيامته في اليوم الثالث، وإن بموته هكذا صار كفَّارة لخطايا المؤمنين به وسلامهم. وباقي العهد الجديد هي أعمال بعض رسله (أو كما يُقال حوارييه) حيث كرزوا باسمه كالمخلِّص والفادي الجالس في السماء عن يمين الآب، ورسائلهم إلى الكنائس المسيحية وبعض الأفراد، وكلها تعاليم عن البِر الذي بالإيمان بيسوع المسيح، وشفاعته الفعَّالة في كل من يتقدَّم به إلى الله، ويمكن تجميع خُلاصة إنجيل المسيح  في هذه الآية الذهبية التي نطق بها في أُورشليم قبل موته:"هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (بشارة يوحنا 16:3).

فإذا كان محمد جاء كما يُقال في القرآن مصدِّقاً للإنجيل الذي معهم، لزمه بذلك تصديق نبأ الفداء بمسيح  الله وكونه هو الله متجسِّداً للخلاص والحياة الأبدية، وبكل ما اشتمل عليه الإنجيل من الإعلانات والأوامر والنواهي والوعد والوعيد، فماذا يكون هذا إلاَّ مسيحياً؟! إن أهل الإنجيل يرحِّبون بكل من يجيئهم مصدِّقاً لما معهم سواء كان من العرب أو الفرس أو الزنوج، ‘ذ هو لا يأتي بشيء لا يوافق كتابهم ولا يكون إيمانه إلاَّ بحسب إنجيلهم. وعليه لا يكون أكثر من داعٍ من دعاة دين المسيح، ونصيراً من أنصاره! ولكنهم أبداً لا يقدرون أن يقبلوا ويعتبروا من يدَّعي النبوَّة والرسالة من الله، وإنه جاءهم مصدِّقاً لما معهم من الكتاب وهو بأقواله وادِّعاءاته ينكر أهم وأشهر قضاياه.

عجباً لمحمد كيف هكذا يكرر القول عن فم الله أنه جاء لأهل الكتاب مصدِّقاً لما معهم، وهو في نفس الوقت يكذِّب أهم ما في الكتاب بل غاية الكتاب وموضوعه وروحه ومضمونه، الذي هو المسيح ابن الله للخلاص لكل من يؤمن. أيخلق بالإنسان أن يقول لك إنه مصدِّق بالكتاب الفلاني الذي معك لأني علمت أن مُرسِله إليك صالحٌ وصادقٌ، وحين تطلعه على هذا الكتاب يكذِّب جل عباراته وقضاياه، وبعد هذا التكذيب لا يزال يقول لك أنا مصدق لذلك الكتاب الذي معك. هل تعتبر مثل هذا الإنسان عاقلاً؟!

أيخلق بمحمد كنبي أن يكرر القول عن فم الله من جهة أهل الكتاب بصيغة المخاطب والغائب :إني مصدِّق لما معكم ومصدِّق لما معهم" وهو هكذا ينكر ويكذِّب نبأ الله وإعلانه فيه بخصوص ابنه الوحيد يسوع المسيح الذي قد بذله على الصليب حُبَّاً لخلاص العالم، والمحور الذي تدور عليه كل تعاليم الكتاب وطقوسه إلى غير ذلك من الأمور الهامة فيه. فكيف إذاً هو مصدِّق لما مع أهل الكتاب؟! وهل يجتمع تصديق الشيء وتكذيبه في وقتٍ واحد؟!

وإن قيل إن المراد بكلمة "مصدِّق لما معكم ومصدِّق لما معهم" هو أن النبي مصدِّق قصص الأنبياء الواردة في كتاب الله لذي معهم، كقصة آدم، ونوح، إبراهيم، ولوط، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى. قلنا هذا زعم باطل لسببين هما:

السبب الأول : عدم التخصيص في النص، لأنه لو كان هذا التصديق مقصوراً على مثل هذه القصص، لِما كان النص على هذه الصورة التي هي "مصدِّق لما معكم  ومصدِّق لما معهم" ، بل كان لبعض ما معكم أو لكذا وكذا من قصص وأخبار الأنبياء التي معكم، ولما كان لا يُشتَمُّ منه رائحة التبعيض بل التعميم، أي مصدِّق للكتاب الذي معكم ككتاب الله الذي أورثكم إياه.

السبب الثاني : إن كل القصص الواردة في القرآن عن أنبياء الله وبني إسرائيل ليست هي بالتمام حسب الكتاب الذي مع اليهود والنصارى، لأنه فيها تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان، وأكثرها مشحون بأمور لا تنطبق البتة على روح الكتاب كما في قصة آدم ونوح وإبراهيم ويوسف، وذلك ظاهر لدى المُقابلة مع الكتاب، وهذا لا محالة يفنِّد الدعوى أنه جاء مصدِّقاً لما أهل الكتاب، لأنه لو كان مصدَّقاً للكتاب الذي معهم لكانت القصص التي أوردها عن بني إسرائيل وأنبيائهم وعن آدم ونوح وفق الكتاب حرفاً بحرف، أو على الأقل لما كانت هكذا مقتضبة ومشتملة على ما لم يجيء في الكتاب المقدَّس مما ينافي نَصَّه وروحه، كأمر الله للملائكة بالسجود لآدم، واتهام يوسف الصدِّق بأنه همَّ بامرأة سيِّده وقال:"وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمَّارة بالسوء"، والقول بأن مريم أم المسيح هي أخت موسى وهارون بقوله لها:"يا أخت هارون ما كان أبوك امرءاً سوءاً وما كانت أُمك بغيّاً". (سورة مريم 19: 28)[2].

فكان خيراً للإسلام لو لم ترد هذه النصوص في القرآن، ولكنها وردت والمسلمون يتلونها كتنزيل الله ويتعبّدون بتلاوتها، وما ذلك إلاَّ ذريعة للريب بالقرآن ككلام الله الذي جلَّ وعلا عن أن يقول أقوالاً ينقض بعضها بعض.


 

[1] انظر كتاب "المسيح في جميع الكتب"

[2] راجع كتاب "تعليقات على القرآن"، سلسلة الهداية، العدد الرابع، من LIGHT OF LIFEE. VILLACH. AUSTRIA. وكذلك القسم الثاني من هذا الكتاب تحت نفس العنوان.

الصفحة الرئيسية