في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين

" 6 "
الرواة وانتحال الشعر

 

       فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التي كانت تحمل الأنتحال والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدّمة . ولكنها ليست أقل منها تأثيراً في حياة الأدب العربيّ القديم ، وحثاًّ على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر . أريد بها هذه الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا أدب العرب ودوّنوه . وهؤلاء الأشخاص الرواة . وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب . وإما أن يكونوا من الموالي ،  فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة كما قلت .

ولعل أهمّ هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربيّ وجعلت حظه من الهزل عظيماً : مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وإنصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه وتنكره الأخلاق .

ولعلى لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلاً في الجزء الأوّل من "حديث الأربعاء" إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست أذكر هنا إلا اثنتين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعاً : فأما أحدهما فحَمَّاد الراوية . وأما الآخر فخَلَف الأحمر .

كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ . وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضاً . وكان كلا الرجلين مسرفاً على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار . كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون .

فأما حماد فقد كان صديقاً لحمّاد عجْرد وحمّاد الزبرقان ومُطِيع ابن إيَاس . وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور . وأما خلف فكان صديقاً لوالبة بن الحُبَاب وأستاذاً لأبى نُوّاس . وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؛ ليس منهم إلا  من أتهم في دينه ورمي بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعاً : لا يصفهم أحد بخير ، ولا يزعم لهم أحد صلاحا في دين أو دنيا .

وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب . وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً . وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما . وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير ، وإنما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان .

فأما حماد فيحدّثنا عنه رواية من خيرة الرواة الكوفة هو المُفَضَّل الضّبّيّ أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً ؛ فلما سئل عن سبب ذلك ألحنُ أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعاينتهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره  ويحمل ذلك عنه في الآفاق ، فختلط  أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟

ويحدّثنا محمد بن سلاّم أنه دخل على بِلاَل بن أبى بُرْدة  بن أبي موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئاً ؛ فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى ؛ قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروي شعر الحطيئة ! ولكن دعها تذهب في الناس ؛ وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة . والرواة انفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً .

وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروي عن حمّاد ، كان يكسر ويلحن ويكذب . وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي ؛ فأمر حاجبه فأعان في الناس أنه يبطل رواية حماد .

وفي الحق أن حمادا كان يسرف في الرواية والتكثر منها . وأخباره في ذلك لا يكاد يصدّقها أحد ، فلم يكن يسال عن شيء إلا عرفه . وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء . قالوا وأمتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم إمتحانه ثم أجازه .

وأما خلف فكـلام الناس  في كذبه كثير . وأبن سلام ينبئناً بأنه كان أفرس الناس بيت الشعر . ويتحدّثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر ؛ فأبوا تصديقه . وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة . ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى ، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة .

وهناك رواية كوفيّ لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال . كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفاً بخطه ووضعه في مسجد الكوفة . ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر ، وهو أبو عمرو الشيباني . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة .

وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها . وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني .

وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبى عمرو الشيباني ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرّب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب ــــ نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء .

والعجب أن الرواة لم تفسد مروءتهم ولم يُعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضاً وانتحلوا . فأبو عمرو بن العَلاَء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت      من الحوادث إلا الشيب والصلعا

ويعترف الأصمعي بشيء يشبه ذلك .

ويقول اللاحقي إن سيبويـه سأله عن إعمال العرب " فَعِلاَ " ، فوضع له هذا البيت :

حَذِرُ أمورا لا تَضِيرُ وآمنُ     ما ليس ينجيـه من الأقــدار

ومثل هذا كثير .

وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب . وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب . فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب في أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم في طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما ، قدّروا بضاعتهم وأستكثروا منها . ثم لم يلبثوا أن أحسوا أزدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فحدّوا في تجارتهم وأبوا أن يظلوا في باديتهم ينتظرون رواة الأمصار . ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم؟ ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبي عمرو بن العلاء؟ وكذلك فعلوا : إنحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة وكثر أزدحام الرواة حولهم فنَفَقت بضاعتهم ، وأنت تعلم أن نَفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ؛ فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب ، حتى أحس الرواة أنفسهم ذلك . فالأصمعيّ يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، وأسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعي : فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين .

ويحدّثنا أبن سلاّم عن أبي عُبَيْدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؛ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة .

ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد  من إحصاء الأسباب المختلفة التي حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن في هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والأحتياط أمام هذا الشعر .

كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون . فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق ؟

وقد قدّمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها . فخير لنا أن نجتهد في تعرّف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر . وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف .

الصفحة الرئيسية

 الإهداء

    الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجات

    الكتاب الثاني :
   أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعر

    الكتاب الثالث :
      الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمس

   ملحق :
     نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم  

الصفحة الرئيسية