في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين

" 5 "
طَرَفة بن العبد  - المُتَلَمِّس

 

        وشاعران آخران من ربيعة نقف عندهما وقفة قصيرة هما طرفة ابن العبد والمتلمِّس . وإنما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل .

        فقد زعموا أن المتلمِّس كان خال طرفة . ولم يقف جمع القصص بينهما عند هذا الحدّ بل قد جمعهما في الشيء القليل الذي نعرفه عنهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمِّس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأوّل للهجرة . وهم يختلفون في روايتها إختلافاً كثيراً ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان :

زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما ، ثم وفدوا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصِّلات ؛ فخرجا يقصدان إلى هذا العامل . ولكن المتلمِّس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحِيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمِّس ، فألقى كتابه في النهر ، وألحّ على طرفة في أن يفعل فعله فأبى ؛ وأفترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا ، ومضى الآخر إلى البحرين فلقى الموت . وكان طرفة حديث السنّ لم يتجاوز العشرين في رأي بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين في رأي بعضهم الآخر . وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور انتحال فيها وغضب عمرو بن هند على المتلمِّس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حَبَّ العراق . واتصل هجاء المتلمِّس له .

        والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين . بل لم يرو ابن سلاّم للملتمس شيئاً ولم يسم له قصيدة . فأما طرفة فقد قال ابن سلاّم عنه في موضع إنه هو وعَبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بقدر عشر . وأستقلّ ابن سلاّم هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير . وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا في طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا . فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا :

لَخوْلةَ أطلالُ ببرقة ثهمـــِد     وقفتُ بها أبكي وأبكي إلى الغدِ

وعرف له الرائية المشهورة :

* أصحوت اليوم أم شاقتك هر *

وعرف له قصائد لم يدل عليها . وقال إنه أشعر الناس بواحدة . يريد المعلقة . وبين يدينا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين وقصيدة أخرى مشهورة ، وهي :

سائلوا عنا الذي يعرفنا بِخَزَازَى يوم تَحلاق اللمم

ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غَناء . وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضربين منهم من متانة اللفظ وغرابته أحيانا ، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم . ولكنك مضطر إلى أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الرّبعيين ؛ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ، وإنما جمعناهم فيما تحدّثنا به إليك في هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئاً يتفقون فيه جميعاً ، هو هذه السهولة التي تبلغ الإسفاف أحياناً ؛ لا نستثني  منهم في ذلك إلا قصيدة الحارث حلّزة . فكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً فقوى متنه واشتدّ أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ؟

وأنظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة :

وإنى لأُمضي الهمَّ عند إحتضاره     بعوجاء مِرْقالٍ تـروح وتغتدي
أمونٍ كألــــ
ـــواح الأران نصْأتُهـا     على لاحب  كأنـه  ظهر بُرْجُد
جَمَاليةٍ وَجْنـــاء ترِدي
 كــأنهـــــا     سَفنّجـــــةُ  تَبْرِي  لأزعَر أربَد
تُباري عِتاقــاً ناجيــــاتٍ
 وأتبعت     وظيفـــاً وظيفا فوق مَوْرٍ معبَّد
تربعت القُفَّين في  الشّوْل ترتـعي     حدائـــــــقَ مَوْليّ  الأسِرة أغيد
تَرِيع إلى
صـــوت المُهيب وتتقي     بذي خُصَلٍ روعاتِ أكلفّ مُلْبِد
كأنّ جناحَيّ مَضْرَحيّ
 تكنّـــَفــــا     حفافيــه شكّا في العسيب بِسْرَد

وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر . ولكن دع وصفه للناقة واقـــرأ :

ولست   بحــلاّل  التَــــِلاع  مخافــةً              
               ولكن متى يسترفِـــدِ القــــومُ  أرفـــد
فإن  تبغـــني  في حَلْقــ
ــــة تلقـــــني              
               وإن تلتمسني في الحوانيــت  تصطد
متى  تأتني  أصبحك  كأســـاً  رويّةً
              
               وإن كنت عنها ذا غنى فـاغن وازدد
وإن  يلتقِ  الحي  الجميــــعُ  تُلاقني
              
               إلى ذروة البيت الشريـــف  المصمَّد
نداماي  بيضُ  كالنجـــــوم  وقَينـــةُ
             
               تروح إلينـــا بيــــــن بـــــُرْدٍ ومجسَدِ
رحيبُ  قِطابُ  الجيب  منها  رفيقةُ
              
               بجَـــسّ النـــدامى بضــّةُ المتجـــــرّد
إذا  
نحـن  قلنا  أسمعينا  أنبرت لنــا              
               على رِسْلهـــا مطروقــــة لم تشــــدّد
إذا رجّعتْ في صوتها خلتَ صوتها
              
               تجــــــاوُبَ أظــآرَ علـــى رُبَع رَدِي

فسترى في هذه الأبيات لينا ولكن في غير ضعف ، وشدّة ولكن في غير عنف . وسترى كلاماً لا هو بالغريب الذي لا يفهم ، ولا هو بالسُّوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شيء . وأمض في قراءة القصيدة قستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي : مذهب اللهو واللذة يعمِد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس :

وما زال تَشْرابي الخمـورَ ولذّتي     وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَــــدِي
إلى أن تحامتني العشيـرةُ كلهـ
ــــا     وأُفـــــــردت إفرادَ البعير المعَّبــد
رأيت بني غَبـ
ــــراءَ لايُنكرونـني     ولا أهــلُ هذاك الطِّرافِ الممـــدّد
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى     وأن أشهد اللذات هل أنت
مُخلّدي
فإن كنتَ لا تستطيع دفـــع منيتي     فدعني أبادرها بمـا ملكت
 يــدي
ولولا ثلاثٌ هن من
عيشة  الفتى     وجدّك لم أحفـــِلْ متى قام عُوّدي
فمنهن سبقي العـاذلاتِ بشربــ
ـــة     كُمَيْتٍ متى ما تُعــــْلَ بالماء تزبد
وكَرِّى إذا نـادى المضافُ محنَّبـا     كِسيِد الغضا نبّهتـــه المتـــــــورَّد
وتقصير يــ
ـــوم الدَّجْن معجــــِبُ     ببهكَنةٍ تحت الخِبــــاء المعمّــــــَد

في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة . وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بنية الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال . هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر وألتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شيء ، وهو صادق في يأسه ، صادق في حزنه ، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها . ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر ؟ وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذ الشعر . بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر ؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا إنتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدّمناه في وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين ، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعرا حقاً فيه قوة وحياة وروح .

        وإذاً فأنا أرجح أن في هذه القصيدة شعراً صنعه علماء اللغة هو هذا الوصف الذي قدّمنا بعضه ، وشعرا صدر عن شاعر حقا هو هذه الأبيات وما يشبهها . ولسنا نأمن أن يكون في هذه الأبيات نفسها ما دُسّ على الشاعر دسا وأنتحل عليه إنتحالاً .

فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة إنه طرفة . ولست أدري أهو طرفة أم غيره؟ بل لست أدري أجاهليّ هو أم إسلاميّ ؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوي ملحد شاكّ .

ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأُخريين ؛ فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما إستخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذي وقفت عنده غير مرة والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم . وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حِلِّزة وضعتا في الإسلام تخليداً لمآثر بكر بن وائل .

        فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمِّس . وأمر المتلمِّس أيسر من أمر طرفة . فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذي قدّمنا الإشارة إليه وإلى ما فيه من رقة وإسفاف وإبتذال . ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر ، ولاسيما في القافية ، فيكفى أن تقرأ سينيته التي أوّلها :

يا آل بَكرٍ ألا لله أمّكُمُ     طال الثَّواء وثوب العجزِ ملبوس .

لتحس تكلف القافية . على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية فقد يوضع آخرها في أوّلها ، وقد يروى مطلعها :

كم دونَ مَيّةَ من مستعمَلٍ  قَذّفٍ    ومن فلاة بها تستودع العِيُسُ

وللمتلمِّس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه القصيدة ، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة ، وهي التي مطلعها :

ألم  تر أن المرء رهن منيــة    صريعٌ لعَافي الطيرِ أو سوف يُرْمَس
فلا تقبلنْ ضمياً
مخافةَ ميتـةٍ    ومُوتَنْ بهـــا حــــــراٍّ وجلُدك أملـــس

ويقول فيها :

وما الناس إلا ما رأوا وتحدّثوا   وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا

وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يضاف إليه من الشعر ، وهي التي أوّلها :

يعيِّرنى أمي رجال ولا أرى      أخا كـــرمٍ إلا بــــــأن يتكّرمـــا

        وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمِّس من شعر - أو أكثره على أقل تقدير - مصنوع ، الغرض من صنعته تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت في نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم : في هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد . ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمِّس نفسه قد إخترع إختراعاً تفسيراً لهذا المثل الذي كان يضرب بصحيفة المتلمِّس والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئاً ، ففسره القصاص وأستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية التي أشرنا إليها غير مرة .

        وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلماماً وننتهي فيهم إلى مثل انتهينا إليه في أمر هؤلاء الشعراء الذين درسناهم في هذا البحث القصير . ولكنا نكتفي بما قدّمنا ؛ فقد ضربنا المثل . ويخيل إلينا أنا قد وضحنا وبينا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله في موقفنا بإزاء الشعر الجاهلي .

        ونحن لم نقصد في هذا الكتاب إلى أن ندرس الشعراء ولا إلى أن نحلل شعرهم وإنما قصدنا إلى أن نبسط رأينا في طريقة درس هذا الشعر الجاهلي وهؤلاء الشعراء الجاهليين . وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد . فأما تتبع الشعراء شاعرا شاعرا ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة فقد نفرغ لبعضه في غير هذا الكتاب . ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا في عام أو أعوام ، بل لابدّ من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه .

على أنا نريد أن نختم هذا السفر بملاحظتين :

 (الأولى) أن هذا الدرس الذي قدّمناه ينتهي بنا إلى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهى فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا في تحقيقة ، وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة إنما هو يمنيون أو ربعيون . وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة أي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس إتصالاً ظاهرا والتي كان يهاجر إليها العرب . من عدنان وقحطان على السواء .

إذاً فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد ، في عصور مختلفة ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح ، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية ، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهم بالفرس .

ومن هذه النهضة نشأ الشعر أو قل إذا كنت تريد التحقيق ظهر الشعر وقوي وأصبح فناً أدبياً . وقد ذهب هذا الشعر ولم يبق لنا منه شيء إلا الذكرى ، ولكن لم يكد يأتي القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد وتغلغلت في أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله . ومن هنا ظهر الشعر في مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية . فالشعر كما ترى يمني قوي حين إتصلت القحطانية بربيعة. ولكنا لن نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة . ومن هنا نستطيع أن نقول إنا تعمدنا الوقوف ببحثنا عند هذا الحدّ الذي انتهينا إليه ؛ فلنا في شعر مضر رأى غير رأينا في شعر اليمن وربيعة ، لأننا نستطيع أن نؤرّخه ونحدّد أوليته تقريباً ، ولأننا نستطيع أن تقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عبقة لغوية عنيفة .

وإذاً فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث في سفر آخر . وسترى أن الشعراء الجاهليين من مضر أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريباً أن يصح من شعرهم شيء كثير .

(الثانية) أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردّده في كل مكان من الكتاب . وقد يشعرون ، مخطئين أو مصيبين ، بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين . وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة .

فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به ، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير ، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين . وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا ًبهذه الأثقال التي تضر أكثرها مما تنفع ، وتعوق عن الحركة أكثر مما يمكن منها .

ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا ؛ فنحن نخالف أشدّ الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه . نخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف ، ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته . وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربىّ وإذا لم ينكر أحد أن العرب فهموا القرآن حين سمعوه ، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشدّ الإحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الإعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها . وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها ، بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين ، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين . فأيهما أشد إكبار للقرآن وإجلالاً له وتقديساً لنصوصه وإيماناً بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها ، أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث ؟

        أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء إلا ما قدّمنا من العبث والكذب والانتحال ، وأن الوجه - إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص - إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن .

18 مارس سنـــــة 1926

الصفحة الرئيسية

 الإهداء

    الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجات

    الكتاب الثاني :
   أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعر

    الكتاب الثالث :
      الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمس

   ملحق :
     نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم  

الصفحة الرئيسية