الفصل الثامن

 

يحيى والبحث عن معنى التوحيد

 

     "قُلْ هُوَ اللّهُ أحَد ،

                اللهُ الصّمَد !

     "لَمْ يَلدْ ، وَلَمْ يُولَدْ ،

                وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَد ! "                         (سورة الإخلاص)

 

     هذه الآيات ، على إيجازها ، من أجمل ما كُتب عن وحدانية الخالق . فهل ، يا تُرى ، يعترف بها المسيحيون ؟ هل هم مُخلصون لله ؟ كيف ، ويقولون بأنه تعالى ثلاثة ! "لقد كفر اللين قالوا إن اللهَ ثالثُ ثلاثة . وما من إله إلاّ إلهٌ واحد ! وإن لم ينتهوا عما يقولون ، لَيَمَسّنّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم ! "(1)

 

     هل يمكن التوفيق بين التوحيد المحمّدي والتوحيد المسيحي ؟ سؤال طالما شغل بال المفكرين ، أمس واليوم ، بل قبل الإسلام بقرون .

 

     ولا جدال في أن المسيحيين ، إن سألتهم عن إيمانهم بالله (عزّ وجلّ) ، لا يشكّون ، ولا طرفة عين ، بأنه تعالى واحد أحد . ويتساءلون دائما لماذا يشك إخوانهم المسلمون في توحيدهم . أليسوا يقولون ، عند رسم إشارة الصليب : "باسم الآب والابن وروح القدس ، إله واحد . آمين" ؟ حتى أصبحت هذه "شهادتهم" !

 

1 – الاختلاف في معنى وحدانية الخالق

 

     ولمّا كان المسلمون يشكون في توحيد النصارى ، ويتهمونهم باستمرار بأنهم غير موحّدين ، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنهم كفّار مشركون ، كان من الضروري تنزيه الدين المسيحي عن تهمة الشرك ، وتوضيح معنى الثالوث ، وإظهار عدم مناقضته للتوحيد .

 

     وكثرت المقالات والميامر والبراهين والكتب التي عرضت ذلك . إلا أن هذه المحاولات ، رغم عمقها وكثرتها ، لم تُقنع المفكرين المسلمين إلا في النادر ، أو لم يأخذوها بعين الاعتبار .

___________

 

1)                           راجع سورة المائدة (وهي الخامسة) الآية 73 .


 

     وسبب ذلك يرجع إلى اختلاف أعمق ، يوجد في معنى "الواحد" . فكيف يمكن توضيح معنى الثالوث ، إن لم يوضح أولا معنى الواحد ؟ وقد وعى إلى ذلك المفكرون النصارى ، وحاول بعضهم حل المشكلة بمجرد وضع تمهيد في هذا المعنى .

 

     فقال أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي ، وهو مفكر سرياني ، عاش في أواخر القرن الثامن وصدر القرن التاسع الميلادي ، في مقالة له في التوحيد والتثليث مخاطبا المسلمين : "... مع أننا ، وإن كنا وافقناكم في مقالتكم بأن الله واحد ، فما أبعد ما بين القولين ، فيما تظنون ونَصِف ! والشاهد على ما ذكرتُ : مخالفة صفتكم لوحدانيته صفَتَنا إياه"(2)

 

     وكذلك افتتح يحيى بن عدي مقالته بقوله : "اختلف القائلون بوحدانية الخالق (تبارك اسمه!) ، في معنى وحدانيته (تعالى عما يقوله الملحدون!)"(3) . ثم أخذ يعدّد هذه الآراء المختلفة ، التي يقول بها الموحدون .

 

     ولم يذكر يحيى أبدا ، في مقالته ، لا المسلمين ولا المسيحيين ، وإن كان يقصد بلا ريب هاتين الفئتين . فعندما يقول : "فقال قوم : "إن الخالق (عز وتعالى !) واحد من كل حين ، لا يتكثّر من جهة من الجهات"(4) ، يفهم القارئ أنه يعني المسلمين . وعندما يقول : "وقال آخرون : "بل هو واحد من جهة ، وكثير من جهة" (5) ، لا يشك أحد في أنه يقصد المسيحيين.

 

     إلا أن عدم ذكره المسلمين والمسيحيين يدل على قصد مقالته . فهو لا يريد تأليف مقالة دينية أو لاهوتية ، بل مقالة فلسفية . ويكاد لا يستعمل كلمة "الله" ومرادفاتها (الخالق ، البارئ) ، مفضلا عبارة "العلّة الأولى" عليها . وذلك أوضح دليل على قصده وغرضه . وكذلك لم يستشهد أبدا بالكتب المنزلة ، وإنما استشهد فقط بأرسطوطاليس ، "الفيلسوف" . كما أنه لم يلفظ كلمة "التثليث" ، وإن كان قد عنى هذا المعنى في الفصل الحادي عشر . فجاء بحثه فلسفيا محضا .

____________

 

2)                           راجع "رسائل حبيب بن خدمة ، المعروف بأبي رائطة التكريتي اليعقوبي" ، تحقيق جورج جراف

(Die Schriften des Jacobiten Habib Ibn Hidma Abū Ra’ita, coll. C.S.C.O. 130. Louvain 1951).

       الرسالة الأولى : "في الثالوث المقدس" رقم 4 ، ص 4/17 – 5/2 .

3)                           راجع "التوحيد" رقم 3 .

4)                           راجع "التوحيد" رقم 11 .

5)                           راجع "التوحيد" رقم 12 .

 


 

2 – رأي عليّ في وحدانية الخالق

 

     ولم يكن المسيحيون وحدهم يتساءلون عن معنى الوحدانية ، بل المسلمون أيضا . وقد سُئل يوما عليّ (رضي الله عنه) عن معنى التوحيد ، فقال :

 

     "إن القول بأن الله واحد ، على أربعة أقسام : وجهان منهما لا يجوزان على الله سبحانه ، ووجهان ثابتان له .

     "فمن قال إن الله واحد ، وقصد باب العدد ، فهذا غير جائز . لأن ما لا ثاني له ، لا يدخل في باب العدد(6) .

 

     "ومن قال إن الله واحد ، وأراد النوع أو(7) الجنس ، فقوله أيضا باطل . لأن(8) الله سبحانه منزّه عن نوع ، وعن جنس(9) .

 

     "وأما الوجهان الصحيحان ، فقول القائل : إن الله واحد ، أي متفرّد(10) عن الأشياء ، ومنزّه عنها(11) .

 

     "أو قول القائل : إنه الله واحد أحد ، أي إنه لا ينقسم في وجود ، أو عقل ، أو وهم(12) .

 

     "فكذلك الله ربّنا"(13) .

____________

 

6)                           قارن هذا الرأي بالقول الأول (رقم 4) وإثبات بطلانه (فصل 2) ، وبالقول الثالث لبعض المتكلمين (رقم 6 – 8) وإثبات بطلانه (فصل 4) .

7)                           في النص المطبوع : "من" . وصححناه اعتمادا على ما جاء في الجملة التالية .

8)                           في النص المطبوع : "وإن" ، وهو مقبول . وإنما صححناه اعتمادا على ما جاء في الفقرة السابقة ، إذ يوجد توازن بين الفقرتين .

9)                           قارن هذا الرأي بما قاله يحيى في "التوحيد" ، رقم 243 – 249 .

10)                        في النص المطبوع : "تفرّده" .

11)                        قارن هذا الرأي بالقول الثاني : "إن معنى الواحد في الخالق هو أنه لا نظير له" (رقم 5) . وقد أبطل يحيى هذا الرأي ، في الفصل الثالث (رقم 25 – 80) .

12)                        إذا كان المقصود هنا هو أن الله واحد لأنه غير قابل للانقسام ، فقد نفى يحيى بن عدي هذا المعنى عن الخالق (رقم 255 – 261) . أما إذا كان المعنى هو أنه واحد حدّا ، فهذا هو المعنى الوحيد الذي قبله يحيى (رقم 267 – 268) .

13)                        ذكر هذا النص السيد مصطفى جمال الدين ، في مقال صغير عنوانه : "هذه المسيحية وهذه المحمدية : أليستا من جوهر واحد ؟" ، في مجلة "المسرة" 56 (1970) ص 689 – 695 (هنا ص 692) . وللأسف لم يذكر المؤلف المرجع الذي استخلص منه هذا النص .


 

     فهذا الرأي ، وإن لم يكن مبنيّا على أساليب الفلاسفة ، إلا أنه محاولة لإدراك معنى "إن الله واحد" . فلا يكفي للمؤمن القول بأن الله واحد ، ولكن عليه أن يتفهم ما هو مكنون وراء العبارة ، للوصول إلى الإقرار والإيمان الحقيقي .

 

3 – تحليل الكندي لمعاني الواحد في الخالق

 

أ – المقالة التي وضعها الكندي

 

     ولم يكن يحيى بن عدي أول من تكلم في التوحيد ، بين الفلاسفة العرب . فقد سبقه في ذلك المجال "فيلسوف العرب" الشهير ، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، المتوفي نحو سنة 873م . فقد ذكر ابن النديم أن له "كتاب الفلسفة الأولى ، فيما دون الطبيعيات ، والتوحيد"(14) . وهي اليوم مفقودة ، ولا نعلم شيئا عن محتوياتها . وله كذلك "رسالة في التوحيد ، بتفسيرات"(15) .

 

     وقد ذكر له أيضا عبد اللطيف البغدادي مقالة في التوحيد(15ب) . وعلى ظننا أن هذه المقالة هي المذكورة في "فهرست" ابن النديم بعنوان "رسالة في افتراق المِلَل في التوحيد ، وأنهم مُجمعون على التوحيد ، وكلٌ قد خالف صاحبه"(16) .

 

     وهذه الرسالة أيضا لا توجد اليوم . إلا أن أغلب الظن أن ما ذكره يحيى بن عدي ، في مقالته في "تبيين غلط أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، في مقالته في الرد على النصارى"(17) ، ما هو إلا جزء من رسالة الكندي المفقودة(18) .

____________

 

14)                        راجع ابن النديم ص 358/3 . وأما أخبار الكندي ومؤلفاته ، فقد ذكرها ابن النديم من ص 357 إلى ص 365 .

15)                        راجع ابن النديم ص 363/3 .

15ب) على ما ذكره PERIER ص 219 حاشية 7 .

16)                        راجع ابن النديم ص 363/5 – 6 .

17)                        نشر هذه المقالة أوغسطين بيرييه (PERIER) في مجلة الشرق المسيحي 22(1920 – 1921) ص 4 – 14 ، مع ترجمة فرنسية (ص 15 – 22) . ثم أعاد نشر ترجمته الفرنسية ، مع بعض التعديلات ، في كتاب "مقالات يحيى بن عدي" (1920) ص 118 – 128 . إلا أن الطبعة سقيمة ، والنص في حاجة إلى إعادة تحقيقه . كما أن البطريرك أفرام برصوم أعاد طبع النص ، اعتمادا على طبعة بيرييه ، مع تعديلات بسيطة ، في "المجلة البطريركية السريانية" 6 (القدس 1939) ص 11 – 22 ، تحت عنوان : "رد العلامة يحيى بن عدي التكريتي السرياني الأرثوذكسي على فيلسوف العرب أبي يوسف يعقوب بن إسحق الكندي ، وهو دفاع عن صحة عقيدة التثليث" .

18)                        أول من انتبه إلى ذلك ، المستشرق الهولندي دي بور ، صاحب "تاريخ الفلسفة في الإسلام" . راجع


 

      والدليل على ذلك أن نص الكندي يبتدئ فجأة (على ما رواه يحيى بن عدي) بالجملة الآتية : "فأما القول في الرد على النصارى ، وإبطال تثليثهم ، على أصل المنطق والفلسفة ، وتمثّل [كذا] هذا القول من الاختصار ، فإن ذلك موجود على النصارى وغيرهم ، ممن تجاوز(19) التوحيد وقال بالتكثير ، ولمن يتبعهم ويعتقد مذهبهم"(20) . وهذا الافتتاح المفاجئ يفترض لا محالة جزءا آخر قبله ، أو أجزاء أخرى . والأرجح أن هذه الأجزاء كانت تعرض آراء المِلَل الأخرى (غير مِلّة النصارى) في التوحيد ، على ما جاء في عنوان الرسالة .

 

     إلا أن الكندي لم يتعمق في الموضوع الذي عالجه ، ولم يستقص معاني الواحد ، في رساته "في افتراق المِلَل في التوحيد" . لأنه اكتفى بذكر ثلاثة معان ، تلك المذكورة في كتاب "طوبيقا"(21) ، وهي الواحد بالعدد وبالنوع وبالجنس ، ولم يذكر المعاني الأخرى .

 

ب – الواحد يُقال على ثلاثة وجوه

 

     قال الكندي :

 

     "أما قولهم "إن ثلاثةٌ واحدٌ وواحداً ثلاثةٌ" ، فهذا ظاهرُ الخطأ .

 

     "وذلك أن ما نقول إنه هو هو واحد ، إنما نقول [إنه] واحدٌ(22) بثلاثة وجوه ، كما قيل في كتاب "طوبيقا"(23) ، وهو الخامس(24) .

 

     1 – "إما أن يُقال هو هو واحد بالعدد ، كما يُقال للواحد هو هو واحد" .

____________

 

Tjitze, J. de BOER, Kindī wider die Trinität, in: Orientalische Studien Theodor

Nöldeke zum siebzigsten Geburtstag gewidmet (Giessen 1906), Bd. 1, p. 279-281.

 

19)                        راجع "الرد على الكندي" ص 4/4 – 5 .

20)                        في الطبعة : يجاوز .

21)                        راجع "طوبيقا" الكتاب السابع ، الفصل الأول (Topica VII, 1, Bekker 152 b 30-32) . وانظر أيضا "ما بعد الطبيعة" الكتاب العاشر الفصل الثالث (Metaphysica X, 3, Bekker 105 a 32-b3) .

22)                        في المخطوطين (حسب PERIER) سقطت "إنه" . أما في الطبعة ، فلم يضف "إنه" ، ولكنه صحح "واحد" فأصبحت "واحداً".

23)                        وهو كتاب "الجدل" . نقله إسحاق بن حنين إلى السرياني ، ونقل يحيى بن عدي هذا النقل إلى العربي (راجع ابن النديم ص 349/2 – 3 ، والقفطي 36/17 – 19) .

24)                        أي الكتاب الخامس من كتب منطق ارسطوطاليس ، حسب الترتيب العربي التقليدي . راجع ابن النديم ص 347/18 – 21 . ويبدو أن الكندي هو الذي وضع هذا الترتيب ، فقد ألف "كتاب ترتيب كتب أرسطاليس " (ابن النديم ص 358/5 – 6). لاحظ أن PERIER لم يترجم جملة "كما قيل في كتاب طوبيقا ، وهو الخامس" .


 

2 – "وإما أن يُقال هو هو واحد بالنوع ، كما يُقال "خالد وزيد واحد" ، بما عَمّهما من نوعهما ، الذي هو "الإنسان" .

 

3 – "وإما أن يُقال هو هو واحد بالجنس ، كما يُقال "الحمار والإنسان واحد" ، بما عَمّهما من جنسهما ، الذي هو "الحيّ""(25) .

 

     فبعد أن ذكر الكندي هذه الأقسام الثلاثة للواحد ، يُثبت أن النصارى لا يستطيعون القول إنّ ثلاثةٌ هي واحد ، بأي وجه من الوجوه الثلاثة(26) .

 

4 – تحليل يحيى لمعاني الواحد في الخالق

 

     لقد رأينا ، في الفصل السادس من "التوحيد" ، أن يحيى ذكر ستّة معانٍ للواحد(27) ، استخلصها من مؤلفات أرسطواليس(28) . ويذكر القارئ أن مقالتنا في "التوحيد" مُنْشأة في رجب سنة 328 (= ابريل أو مايو 940م) .

 

     لذلك ، لما اكتشف يحيى رسالة الكندي "في افتراق المِلَل في التوحيد" ، وفيها ردٌ على النصارى اعتماداً على ثلاثة وجوه للواحد ، صاح : "هذه القسمة التي قَسَمْتَ للواحد ناقصةٌ !"(29) فأخذ يكمّل قسمة الكندي ، كما سنرى حالا . ثم قال له : "وأيضا ، فإنك تركتَ أن تقسم الواحد والكثرة على ضربٍ آخر من القسمة ، إما غفلةً إن كنتَ لم تعرفْه ، وإما تغافلاً إن كنتَ قد عرفتَه وتجاوزتَ ذكره !"(30) . فعرض وجوه الواحد والكثرة التي شرحها في الفصل السابع من مقالته في "التوحيد"(31) .

 

     ننقل إليك هذا النص ، وإن كان طويلا ، لأهميته . ونشير في الحواشي إلى المواضع التي تناسبه من مقالتنا في "التوحيد" .

 

     قال يحيى بن عدي :

     "ليس تقول النصارى إن الواحدَ ثلاثةٌ والثلاثة هي واحد ، على واحدٍ من هذه الوجوه 

___________

 

25)                        راجع "الرد على الكندي" ص 11/3 – 10 .

26)                        راجع "الرد على الكندي" ص 11/10 – 14 (الواحد بالعدد) ، 11/15 – 12/1 (الواحد بالنوع) و 12/1 – 3 (الواحد بالجنس) .

27)                        راجع "التوحيد" رقم 149 – 176 . وقد ذكر المعاني كلها في رقم 176 .

28)                        وقد أعطينا ، في حواشينا على "التوحيد" ، المراجع إلى مؤلفات أرسطوطاليس .

29)                        راجع "الرد على الكندي" ص 12/6 .

30)                        راجع "الرد على الكندي" ص 12 السطر الأخير إلى ص 13/2 .

31)                        راجع "التوحيد" رقم 183 – 185 – و 195 – 197 و 206 – 210 و 278 – 280 و 284 – 287 .


 

الثلاثة التي عددتَ(32) .

 

     وهذه القسمة التي قسمتَ للواحد ناقصة .

 

     "وذلك أنك تركتَ ذكر الواحد الذي هو واحد بالنسبة . كما يُقال إن نسبةَ المَعين إلى الأنهار المستمدة منه ، ونسبةَ الروح الذي في القلب إلى الروح الذي في الشرايين ، واحدةٌ بعينها ، ونسبةَ الاثنين إلى الأربعة ، ونسبةَ العشرين إلى الأربعة ، واحدةٌ بعينها(33) .

 

     "وتركتَ أيضا قسمة الواحد بالعدد إلى أقسامه(34) الثلاثة التي ينقسم إليها(35) .

 

     "وذلك أنه يُقال واحد بالعدد(36) كالمتّصل ؛ كما يُقال جسمٌ واحد بالعدد ، وسطح واحد بالعدد ، وخط واحد بالعدد ، وما أشبه ذلك(37) .

 

     "ويُقال أيضا واحد بالعدد ما لا ينقسم ؛ كالنقطة(38) ، والوحدة ، والآن من الزمان ، ومبدأ الحركة(39) .

 

     "ويُقال أيضا واحد بالعدد(40) للأشياء التي القول الدالّ على ماهيّتها واحد ؛ كالثَمول والخمر ، والحمار والعير ، والجَمَل والبعير(41) . [...](42)

 

     "وأيضا ، فإنك تركتَ أن تقسم الواحد والكثرة على ضرب آخر من القسمة : إما

____________

 

32)                        راجع "التوحيد" رقم 243 – 249 .

33)                        راجع "التوحيد" رقم 151 . وقد استعمل يحيى نفس الأمثلة في كتابه في "تبيين غلط محمد بن هارون المعروف بابي عيسى الوراق ، عما ذكره في كتابه في الرد على الثلاث فرق من النصارى" (رقم 102 من لائحة مؤلفات يحيى التي ذكرناها في الفصل الثالث) . راجع مخطوط باريس عربي 167 ورقة 3 .

34)                        أثبتنا هنا رواية مخطوط باريس عربي 169 ، بينما PERIER فضّل رواية مخطوط الفاتيكان عربي 127 ، وهي : "أقسام" .

35)                        راجع "التوحيد" رقم 152 .

36)                        تضيف المخطوطتان والطبعة : "إما" . ولكن هذا لا يتماشى مع ما جاء في الفقرتين التاليتين .

37)                        راجع "التوحيد" رقم 153 – 159 .

38)                        في الطبعة : "كالنقط" .

39)                        راجع "التوحيد" رقم 162 – 170 .

40)                        أضفنا كلمة "بالعدد" ، لأن هذه القسمة ما هي إلا "الواحد بالحد" ، الذي هو قسم من "الواحد بالعدد" ، مثل "الواحد كالمتصل" و "الواحد غير المنقسم" . راجع "التوحيد" رقم 152 (و 153 و 160 و 162) .

41)                        راجع "التوحيد" رقم 160 – 161 (الواحد بالحد) .

42)                        نترك هناستة سطور (ص 12/16 – 21) يوضح فيها يحيى أن توحيد النصارى يعتمد على هذا الضرب الأخير من ضروب الواحد بالعدد . وسنعود إلى ذكرها فيما بعد .


 

غفلة ، إن كنتَ لم تعرفْه ؛ وإما تغافلا ، إن كنتَ قد عرفتَه وتجاوزتَ ذكره . فإن الواحدَ والكثيرَ قد ينقسمان أيضا على وجه آخر .

 

     "فإنه قد يكون الواحدُ واحداً في الموضوع ، وكثيرا في الحدود . أي يُصدّق عليه حدودٌ كثيرة ، عددُها بعدد المعاني التي توجد فيه ، التي هي حدودٌ لها . مثلَ ما يصدّق في زيد مثلاً(43) ، وهو موضوعٌ واحد : حدّ الحيوان ، وحدّ الناطق ، وحدّ المائت(44) . [...](45)

 

     "وقد يكون الواحدُ واحداً في الحدّ ، كثيرا في الموضوع ؛ كالإنسان أيضا . فإنّ حدّه ، من حيث هو إنسان ، حدٌ واحد ؛ وموضوعاته التي توصَف به كثيرةٌ ، كزيدٍ وعبد الله وخالد : فإنّ كلّ واحدٍ من هذه موضوعٌ لوصفه بالإنسان"(46) .

 

* * *

 

     فقد لخّص يحيى ، في غاية الإيجاز ، الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر من مقالته في التوحيد ، في ردّه على الكندي ، لإثبات صحّة توحيد النصارى . وذلك بعد اثنين وعشرين سنة من تأليفه "المقالة في التوحيد" .

 

الخاتمة

 

أ – يحيى أول من أفرد بحثا شاملا في التوحيد

 

     أجل ! لم يكن أبو زكريا يحيى بن عدي أول من تكلم في التوحيد بين الفلاسفة . فقد ذكر ابن النديم للفيلسوف الإسكندري أمّونيوس ، المتوفي نحو سنة 520م ، "كتاب حجّة أرسطاليس (!) في التوحيد(47) . وقد يكون يحيى استعان بهذا الكتاب ، كما استعان بغيره من مؤلفات أمّونيوس(48) .

___________

 

43)                        في الطبعة : "مثالا" .

44)                        بخصوص هذه الققرة والتي تليها ، راجع "التوحيد" رقم 183 – 185 و 195 – 197 و 206 – 210 و 278 – 280 و 284 – 287 .

45)                        نترك هنا سطراً (ص 13/7 – 8) ، كما فعلنا في الحاشية رقم 42 ، لنفس السبب .

46)                        راجع "الرد على الكندي" ص 12/4 – 13/11 .راجع ابن النديم ص 355/6 – 7 .

47)                        راجع ابن النديم ص 355/6 – 7 .

48)                        قلنا إن يحيى نقل "كتاب الجدل" (المعروف بكتاب "طوبيقا") من السرياني إلى العربي (راجع الحاشية رقم 23) . ولما أخذ في تفسير هذا الكتاب ، استعان بما وجده من تفسير أمونيوس ، على ما ذكر ابن النديم : "قال يحيى بن عدي ، في أول تفسيره هذا الكتاب (= طوبيقا) : "إني لم أجد لهذا الكتاب تفسيرا لمن تقدم ، إلا تفسير الإسكندر لبعض المقالة الأولى ، وللمقالة الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة ، وتفسير أمونيوس للمقالة الأولى والثانية والثالثة والرابعة . فعولت (لما قصدت في تفسيري هذا) على ما فهمته من تفسير الإسكندر


 

     ولم يكن أيضا أول من تكلم في التوحيد ، بين المفكرين العرب ، إذ قد سبقه إلى ذلك : "فيلسوف العرب" ، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، المتوفي نحو سنة 873م .

 

     ولكن ، إن لم يكن له فضل الأولوية ، إذ قد عاش قرناً بعد الكندي ، فله فضل التبحّر في الموضوع والتعمّق فيه والاستقصاء . فهو ، بلا جدال ، أول من أفرد بحثا شافيا شاملا عن معنى الواحد ، طبقا لفلسفة أرسطوطاليس ، على ما نعلم .

 

     وأغلب الظن أنه لم يكن يدري برسالة الكندي "في افتراق المِلَل في التوحيد" ، عندما ألّف مقالته في التوحيد ، سنة 328 . وإلا ، لكان ردّ عليها ، أو أشار إليها ، ولم يكن ينتظر 22 سنة للرد عليها . وإنما نرجّح أنه وجد رسالة الكندي نحو سنة 350 ، فردّ عليها فوراً ، كعادته .

 

ب – مقالة يحيى في التوحيد ورسالة أبي رائطة التكريتي

 

     وإذا قارنّا مقالة يحيى بن عدي في التوحيد بما جاء في رسالة أبي رائطة التكريتي ، أُسقف السريان ، الذي كتب مؤلفاته بين سنة 813 م وسنة 827 م(49) ، أدركنا علوّ شأن يحيى . مع العلم أن أبا رائطة لم يكن يجهل الفلسفة ، إذ كان هو نفسه ناقلا لمؤلفات اليونان إلى اللغة العربية ، على ما ذكر ابن النديم(50) .

 

     قال أبو رائطة للمسلمين ، في مقالته في التثليث : "فهل تقولون إن الواحد يُقال إلا على ثلاثة أوجه : "إما في الجنس ، وإما في النوع ، وإما في العدد ؟"(51) .

____________

 

وأمونيوس ، وأصلحت عبارات النقلة لهذين التفسيرين" . والكتاب بتفسير يحيى : نحو ألف ورقة" (ابن النديم 349/4 – 10 = القفطي 37/1 – 7) . والمقصود هنا أمونيوس بن هرمس (AMMONIOS HERMIAE) وهو فيلسوف يوناني من أثينا ، فسر الكثير من كتب الفلسفة والعلوم القديمة ، وزها نحو سنة 550م . راجع "دائرة المعارف البريطانية" Encyclopaedia Britannica, 15th ed. (London, 1978), vol. 1, p. 319 bc.                                                

49)                        راجع جراف ج 2 ص 222 – 227 .

50)                        راجع ابن النديم ص 341/8 . وهذا الفصل عنوانه : "أسماء النقلة من اللغات إلى اللسان العربي" ، في الفن الأول من المقالة السابعة . وجاء اسمه عند ابن النديم "ابن رابطة" ، وهو تحريف . ولم يع جراف (ولا أحد ، في علمنا) إلى أن المذكور عند ابن النديم هو هو أبو رائطة التكريتي) .

51)                        راجع "رسائل حبيب بن خدمة ، المعروف بأبي رائطة التكريتي اليعقوبي" ، تحقيق جورج جراف

(Die Schriften des Jacobiten Habib Ibn Hidma Abu Ra’ita, .coll. C.S.C.O. 130, Louvain 1951).

       الرسالة الأولى : "في الثالوث المقدس" ص 5/6 – 7 .

 


 

     ثم قال : "فعلى أي وجه تصفون أن الله واحد ، من هذه الوجوه التي(52) ذكرناها في موضعها(53) : في الجنس ، أم في النوع ، أو في العدد(54) ؟"(55) .     

 

     فيبحث عندئذ أبو رائطة كل واحد من الاحتمالات الثلاثة ، ويرد عليها . إلا أنه لم يُضف قسمة أخرى للواحد ، وإنما جمع بين الواحد بالنوع (= جوهر) والواحد في العدد (= أقانيم) .

 

     فترى أن قسمة أبي رائطة للواحد هي هي قسمة أبي يوسف يعقوب الكندي ، فيلسوف العرب ، الذي عاش بعده بنحو أربعين سنة .

 

* * *

 

     فمن هنا يتضح ميزة "المقالة في التوحيد" : إنها أول بحث شافٍ كامل في وحدانية الخالق ، في تاريخ الفكر العربي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

___________

 

52)                        في الطبعة : "الذي" .

53)                        في الطبعة : "موضع ذلك" .

54)                        في الطبعة : "العد" .

راجع حاشية 51 ، هنا ص 6/1 – 2 .