عقيدة الثالوث القويمة

الديباجة الأصلية
الباب الأول الاعتراضات على عقيدة الثالوث
الاعتراض الأول والرد عليه
الاعتراض الثاني والرد عليه
الاعتراض الثالث والرد عليه
الاعتراض الرابع والرد عليه
الاعتراض الخامس والرد عليه
الباب الثاني ـ عقيدة الثالوث تسهل بعض المعضلات الدينية
الله والخلق
الله الخالق ولا سيما خالق الإنسان
الباب الثالث ـ عقيدة تجسد الكلمة
المبحث الأول ـ التجسد
لاعتراض الأول
الاعتراض الثاني
الاعتراض الثالث
الاعتراض الرابع
الاعتراض الخامس
الباب الرابع ـ كفارة الكلمة المتجسدة

عودة للرئيسية

الاعتراض الثالث

والاعتراض الثالث هو قولهم أن الاعتقاد بالتجسد يقيد الله بالحدود المكانية .

إن علاقة الله بالمكان وصفة حدود المكان في حد ذاتها من الأمور الخارجة عن حدود التصور . وقد حاول الفلاسفة مرارا أن يحددوا المكان أو يبينوا ماهيته فلم يستطيعوا . فذهب بعضهم إلى أنه شئ حقيقي وآخرون أنه اعتبار مجرد وزعم غيرهم أنه قيد لازم تتجلى فيه الحواس ويتعلق وجوده عليها أي أنه لا وجود للمكان إلا باعتبارها . فهو والحالة هذه وجهة لازمة لحصول الإدراك أو الشعور . ومهما يكن فإن هذا يظهر لك جهل الذي يحاولون أن يتفلسفوا في تبيان علاقة الله بحدود المكان وإظهار ما إذا كان الله تعالى يملأ حيزا أو هو منزه عنه أو متعال عليه . وغاية القول أننا نشغل حيزا ولله تعالى علاقة بنا فله تعلق إذا بالحيز بوجه من الوجوه وليس في وسع الإنسان أن يشرح كيفية ذلك على الإطلاق .

وليت شعري من ذا الذي يستطيع أن يبين كيف يثبت الله علاقته بالحيز المكاني وكيف يحل في ذلك الحيز . وما هي الطريقة لذلك ؟

(1) نرى أولا أن تنازل الله للخلق والتعلق والوحي قد اقتضى ضرورة نسبة الاعتبارات المكانية إليه . بل إن نفس أفكارنا وأقوالنا وأفكار الوحي وأقواله تشهد لهذه الحقيقة . ذلك باعتبار إعلانه لنا بعض الأمور كإشارته إلى "العرش" و "السماء" و"إرسال رسول" و "الرؤية" و "السماع" وغير ذلك من الأمور المنسوبة إليه تعالى فإن لكل من هذه الإشارات وأمثالها تعلقا بالحيز المكاني يمثل لنا صورا مكانية .

ويستوي في هذا كلام المسلم والمسيحي إذ أن كلا منهما يلجأ إلى أمثال تلك الألفاظ للتعبير عن بعض الحقائق . فالمسلم يقول أن الله مستو على العرش تحمله الملائكة وتطوف به ملائكة أسمى وتحيط به من فوق ومن تحت وحواليه ملائكة آخرون وهلم جرا . أفلا يتصور المسلم حيزا مكانيا عند دخوله الجنة ووقوفه أمام الله لدى العرش ومشاهدته وجهه تعالى ؟ لا شك أنه يتصور ذلك . أو ليس في ذلك تقييد بحيث يظهر كأنه مقيد بحيز مكاني وإن لم يكن في الحقيقة كذلك ؟ فكلا التقييد والظهور بمظهر التقيد سواء بهذا الاعتبار . فالله مقيد في اعتبارنا بقيود مكانية . فالله إذا ـ بقطع النظر عن تجسد كلمته ـ مقيد في ذهن الإنسان ومخيلته بقيود مكانية كأنه متجسد تجسدا أعم من التجسد المادي .

(2) على أننا إذا سلمنا بأن الله يتراءى لأذهاننا كأنه مقيد بحدود مكانية حالة كونه منزها عنها بطريقة لا تدركها العقول وإن ذلك التراءي ينطوي على شئ من الحقيقة أمكننا أن نتدرج من ذلك إلى القول بأن في الإمكان ظهور بهاء الله لعين البشر ظهورا إمكانيا محسوسا بحيث لا يكون ذلك الظهور صورة خيالية فقط بل صورة تدركها الحواس . وبعبارة أخرى أن الله يستطيع أن يظهر بجزء معين من الحيز أكثر من غيره بدون أن يحصر في ذلك المكان . ومن ذا الذي ينكر إمكان ذلك ؟ ألسنا نقول أحيانا ونشعر أن الله "معنا" ؟ وهل ينكر أحدا أنه سبحانه وتعالى تراءى للبشر قديما بصورة نور أو سحابة أو عمود دخان وجعل القوم يعتقدون بحضوره في ذلك المظهر المكاني ؟ وفضلا عن ذلك ـ هل يعتقد أحد أن ظهوره تعالى في ذلك المظهر استنفذ كل حضوره بحيث لم يعد في الإمكان أن يكون حاضرا في موضع آخر ؟ إن موسى رأى النار في العليقة وسمع صوتا يناديه منها . واسرائيل رأى السحابة النارية في قدس الأقداس وكلاهما سجد معتقدا أن الله حاضر فيما رآه (وذلك كان الواقع) ولكن لم يخطر ببال أحد منهما أن السموات كانت لحظتئذ خالية من حضور الله بل وجدا نفسيهما بإزاء سر غامض ذي وجهتين متناقضتين ظهرا لاحقا .

وكذلك القول في ملاك الحضرة .

والإسلام عالم بهذه الغوامض قدر علم النصرانية بها . فقد جاء في حديث عن النبي أنه شعر مرة بأصابع الله على رأسه . فقوله شعر بتلك الأصابع بمثابة قوله (شعر) بها في مكان معين .

وهذا يفضي بنا إلى عقيدة التجسد في المسيح . وهي نفس ذلك السر . ولكن حالته أسمى وأشرف فإنه يمثل ذات الله في حيز مكاني مع أنه ليس في الحيز ـ متعلق الحضور بموضع معين ولكن غير محصور ـ مؤثرا في الحواس ولكن منزها عنها ـ معلنا لنا ولكن محجوبا بواسطة الإعلان . فيجب أن نقبل كلتا الحالتين ونسجد لله . فالتلاميذ كانوا ينظرون جسم المسيح ولم يروا الله إذ لا أحد يراه ولكنهم رأوا ذلك الذي كان فيه ملء الإله . أما طريقة ذلك فلا نعلمها ولا يمكننا أن ندركها كما هي في نظر الله إذ من يستطيع أن يدرك الأشياء كما هي في نظره تعالى ؟

وأخيرا : إذا اعتبرنا روح الإنسان غير مادية عرضت أمامنا مثل تلك المشاكل . فإنها في الظاهر محدودة في الجسد . ومع ذلك من ذا الذي يستطيع أن يعتبرها متحيزة ؟ هل يمكن قياسها ومعرفة حجمها ومقدار الحيز الذي تشغله ؟ وهل هي ذات شكل ؟ وإذا خرجت من الجسم هل تصعد إلى فوق أم تنزل إلى تحت أم تخرج من النافذة أم تطير شرقا أم غربا أم تذهب إلى موضع آخر ؟ جميع هذه الأسئلة تبين لنا سخافة القول بأن الروح متحيزة وعلى ذلك فهي مقيدة بالجسم وهي أيضا منزهة عن الحيز وذلك مشكل عظيم وإذا كان هذا الأمر على رغم صحته وثبوته غريبا على المدارك فلماذا ننفي وجود علاقة كهذه بين الله والمادة عموما أو الإنسان خصوصا ؟ إن هذا الأمر إنما هو أحد الأسرار الغامضة التي تفوق الإدراك ولكنها لا تناقضه .

قد اعترف علماء المسلمين أنفسهم بأن العلاقة بين النفس والمادة من المشاكل العسرة فقد جاء في كتاب المضنون الصغير الموسوم بالأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية للغزالي ما يأتي :-

"قيل له (أي للغزالي) وما حقيقة هذه الحقيقة (أي حقيقة الروح) وما صفة هذا الجوهر وما وجه تعلقه بالبدن ؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه ؟ أو متصل به ؟ أو منفصل عنه ؟ قال (رضي الله عنه) لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا متصل . لأن مصحح الاتصاف بالاتصال والانفصال الجسمية والتحيز . وقد انتفيا عنه فانفك عن الضدين كما أن الجماد لا هو عالم ولا هو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة فإذا انتفت انتفى الضدان . (فقيل له) هل هو في جهة ؟ فقال هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا عرض في جسم بل هو مقدس عن هذه العوارض . (فقيل له) لم منع الرسول عليه السلام عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي ؟ فقال لأن الإفهام لا تحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص . أما من غلب على طبعه العامية فهذا لا يقبله ولا يصدقه في صفات الله تعالى . فكيف يصدقه في حق الروح الإنسانية ؟ ولهذا أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الإله جسما إذ لم يعقلوا موجودا إلا جسما مشارا إليه . ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية وما أطاق أن ينفي عوارض الجسمية فأثبت الجهة . وقد ترقى عن هذه العامية اللاشعرية والمعتزلة فاثبتوا موجودا لا في جهة . (فقيل له) ولم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ فقال لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير الله تعالى . فإذا ذكرت هذا لبعضهم كفروك وقالوا أنك تصف نفسك بما هو صفة الإله على الخصوص فكأنك تدعي الإلهية لنفسك . (فقيل له) فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة لله ولغير الله تعالى أيضا ؟ فقال لأنهم قالوا كما يستحيل في ذرات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا أن يجتمع اثنان لا في مكان . لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان واحد لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر . فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان فبم يحصل التمييز والعرفان ؟ ولهذا أيضا قالوا لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان يتضادان . (فقيل) هذا إشكال قوي فما جوابه ؟ قال جوابه أنهم أخطأوا حيث ظنوا أن التمييز لا يحصل إلا بالمكان . بل يحصل التمييز بثلاثة أمور . أحدها بالمكان كجسمين في مكانين . والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين . والثالث بالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن المحل لها واحد والزمان واحد ولكن هذه معان مختلفة الذوات بحدودها وحقائقها فيتميز اللون عن الطعم بذاته لا بمكان وزمان . ويتميز العلم عن القدرة والإرادة بذاته وإن كان الجميع شيئا واحدا . فإذا تصور أعراضا مختلفة الحقائق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى" (انتهى)

فواضح مما تقدم أن للروح علاقة مع الحيز المكاني بطريقة لا تدركها العقول . أما القول بأنها منافية للعقول فقول مناف للحقيقة كما رأيت فلماذا لا يجوز أن يوجد بين الله والعالم المادي علاقة تشبه هذه العلاقة وأن تتم تلك العلاقة في تجسد الكلمة ؟