عقيدة الثالوث القويمة

الديباجة الأصلية
الباب الأول الاعتراضات على عقيدة الثالوث
الاعتراض الأول والرد عليه
الاعتراض الثاني والرد عليه
الاعتراض الثالث والرد عليه
الاعتراض الرابع والرد عليه
الاعتراض الخامس والرد عليه
الباب الثاني ـ عقيدة الثالوث تسهل بعض المعضلات الدينية
الله والخلق
الله الخالق ولا سيما خالق الإنسان
الباب الثالث ـ عقيدة تجسد الكلمة
المبحث الأول ـ التجسد
لاعتراض الأول
الاعتراض الثاني
الاعتراض الثالث
الاعتراض الرابع
الاعتراض الخامس
الباب الرابع ـ كفارة الكلمة المتجسدة

عودة للرئيسية

الاعتراض الخامس والرد عليه

(5) والاعتراض الأخير هو قولهم أن النتيجة التي وصل النصارى إليها هي أن الآب والابن والروح القدس هم – كل منهم – ذات الله . حسنا ! ولكن هذا يدل على أنه ليس من امتيار حقيقي بين الآب والابن والروح القدس إذ يستحيل أن ننسب إلى أحد هؤلاء الأقانيم شيئا يمتاز به خصوصا . وبعبارة أخرى لا يصح القول بأن أحد هؤلاء الأقانيم يستطيع أن يفعل ما لا يفعله غيره . وهذه الحقيقة تفضي إلى مناقضات عظيمة . كما أوضح ذلك أحد أفاضل المسلمين في كتاب ظهر منذ مدة غير بعيدة .

وهاك ما جاء فيه بهذا الشأن : "واعلم أن قول النصارى أن الله واحد في الذات ثلاثة في الأقانيم محال . لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة . فالأول يمتاز بخاصة الأبوة والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد والثالث بالانبثاق . وإن الامتياز بينهم حقيقي بحيث أن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر . إذا عرفت هذا أقول : الشئ الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته . وإذا ثبت لذاته فهو ثابت لذات الله تعالى . وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت للأقنوم الآخر وإذا لم يثبت له لم يثبت لذاته . وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات الله . وعليه يكون الشئ الواحد ثابتا للذات وغير ثابت لها . فمثلا إذا قلنا أن الآب حل أو تجسد أي أن ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة . ولكن الآب لم يحل ولم يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة وغير حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان" .

نقول ردا على هذا الاعتراض أننا كثيرا ما نجد مناقضات منطقية عديدة في كلا الماديات والعقليات . كالزمنية والأزلية . والامتداد واللانهائية . وغير ذلك من المناقضات العظيمة المعروفة عند الفلاسفة بالمناقضات العقلية وهي في الحقيقة مما لا يستطاع اجتنابه . فلا يجب أن يتزعزع إيماننا بوجود تناقض ظاهري في عقيدة الثالوث في الوحدة . أو ليس نفس القالب الموضوع به الاعتراض مما يدل على أنه عقيم تافه لا محل له ؟

والغريب أن المؤلف نفسه لا يقدر أن يتنصل من أمثال هذه المناقضات فقد بحث في موضع آخر في تركيب المادة حتى وصل إلى الجوهر الفرد وبحث فيما إذا كان الجوهر الفرد قابلا للتجزئة أم لا وهل له امتداد أم لا . فبعد محاولته أن يثبت أن الجوهر الفرد لا يمكن تجزئته إلى ما لا نهاية له قال أننا عند تجزئتنا المادة لا بد أن نقف عند حد وهذا الحد إما أن يكون له امتداد أو ليس له امتداد . فإن كان له امتداد فالعقل يتصور قبوله للقسمة ..... إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له . وإذا ثبت هذا علمت أن جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقا ولكن لها وضع معين فهي مثل النقط الهندسية وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية !

هذه هي النتيجة التي استنتجها المؤلف وهي الأساس الذي يبني عليه كل حججه وبراهينه وهي في صدر كتاب غايته دحض الفلسفة المادية وإثبات الديانة الإسلامية .

ولا شك أن التناقض (إذا كان ثمة تناقض) في عقيدة الثالوث ليس شيئا مذكورا في جنب هذا التناقض الغريب فالمؤلف يدعي أن المادة تتألف من جواهر لا امتداد لها مع أن الامتداد هو أشهر خواص المادة وأهمها كما يدل على ذلك اسم "مادة" نفسه ولا يخفى أن الأشياء التي لا امتداد لها هي صفر وإذا جمعت أصفار لأصفار فالمجموع لا يكون إلا صفرا بخلاف ما يقوله المؤلف من أن مجموع الجواهر الفردة (وهي على زعمه أصفار) يؤلف المادة ! ترى كم يجب أن نضم من الجواهر الفردة التي لا امتداد لها إلى أمثالها لكي يحصل عندنا مادة ذات امتداد ؟ ـ هذا وإن من السهل أن نستنتج تناقضات عظيمة أخرى مضحكة من هذا القبيل . على أنه لا نسلم أن المسألة مفصلة باعتبار الثالوث بدرجة إشكالها هنا .

فإذا تمسكنا بالنتيجة التي وصلنا إليها بعد إجهاد الفكر رأينا أن هنالك نظرية يمكن تطبيقها على الإله وليست صعبة الإدراك وهي نظرية "العضوية الروحية" التي تحل جميع الصعوبات التي أشار إليها المؤلف . ففي كل كيان عضوي نرى أن الجوهر يعمل في كل عضو عملا خاصا . فإذا كانت عيني ترى فأنا كلي أرى . أما أذني فلا ترى .

ومع هذا فلا يصح القول بأنني أرى ولا أرى في آن واحد . بل يصح القول بأنني أرى بعيني ولا أرى بأذني في آن واحد . فمجموعي إذا يستفيد من عمل عيني .

إن العضو إذا أتى عملا ما فالجوهر كله ـ مجموعا ـ يأتي ذلك العمل والأعضاء تشترك . على أن هذا لا ينافي أن لكل عضو عملا خاصا أو وظيفة خاصة . فإذا تألم عضو واحد تألم سائر المجموع . على أن هذا لا يمنع أن يتألم كل عضو ألما خاصا . وبعبارة أخرى أننا نرى أن ما دعاه المؤلف المذكور تناقضا قد أصبح حقيقة ـ أي أن من الأشياء ما يعمل ولا يعمل في آن واحد .

ولسنا نقول أن العضوية الروحية هي الموافق تطبيقها كل الموافقة على الإله وإنما نعتقد أنها أسمى نظرية يمكن تطبيقها إذا أردنا أن نؤمن بإله حي . ولا شك أن الحقيقة هي أسمى من أن تتصورها مداركنا إلا أن هذا إنما يجعل مقالنا أتم صدقا وهو أن لكل أقنوم من أقانيم الله وظيفة خاصة وأنه يعمل في جميع هذه الأقانيم . فهو قد يتجسد مثلا في أقنوم الكلمة ابنه بدون نسبة ذلك التجسد إلى الآب أو الروح القدس .

فإذا صح أن للجسم العضوي المحدود وحدة حقيقية وأعضاءه تحيا في بعضها وفي ذاتها العامة وإذا صدق هذا فكم بالحري الإله غير المحدود !

فمذهب الثالوث إذا لا يؤثر فيه الانتقاد من هذه الوجهة فقد بطل إذا الاعتراض الأخير .

_________