ألا تكفي التوبة بدل الصليب

اعتراضات أخرى

 

الباب الثالث

  هل تعبدون إلها مصلوبا؟

 

  

    ورب معترض يقول: من كان يحكم الكون عندما صلب الله (حاشاه) حسب قولكم؟

 

الــرد

هذا السؤال هو دليل على عدم الفهم الجيد لطبيعة المسيح. فالمسيح كما سبق أن أوضحنا في كتب سابقة، له طبيعة خاصة مكونة من طبيعتين: جسدية ولاهوتية.

 

    فنحن المسيحيين نؤمن أن السيد المسيح من الناحية الجسدية هو إنسان كامل يحمل كل الصفات البشرية؛ يأكل ويشرب ويتعب ويشعر بالألم وينام، تماما كالبشر ولكنه طاهر من الخطية. هذا هو الجانب الأول من عقيدتنا في المسيح من جهة [طبيعته الجسدية أو ما نسميه ناسوته (أي طبيعته الإنسانية)].

 

     ولكننا نؤمن أيضا أن روح الله الذي هو اللاهوت قد حل أو ظهر في هذا الجسد البشري الطاهر دون أن يتم بين الطبيعتين الجسدية واللاهوتية اختلاط أو امتزاج أو تغيير. وهذا هو الجانب الآخر من عقيدتنا في المسيح من جهة [طبيعتة الإلهية أو لاهوته].

 

     فالسيد المسيح إذن هو إنسان بشري كامل قد حل أو ظهر فيه اللاهوت. وهذا ما عبر عنه الكتاب المقدس بقوله: "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس الإصحاح الثالث والآية 16).

والتساؤل هنا كيف يمكن أن يظهر الله سبحانه في جسد بشري أو في شيء مادي؟

 

    وقد أجبنا على هذا السؤال سابقا ونحن بصدد الحديث عن طبيعة المسيح، ولكن ربما بعض المستمعين اليوم لم يكونوا موجودين معنا وقتها، لهذا يسعدنا أن نعيد ما قلناه سابقا.

 

فقد أثبتنا هذه الحقيقة وهي إمكانية ظهور الله سبحانه في شيء مادي، بأدلة واضحة من المنطق، ومن الكتاب المقدس، ومن القرآن الكريم، ومن أقوال علماء المسلمين الأفاضل، ونعود نذكر بذلك فيما يلي:

 

أولاً: من المنطق

    يوجد تشبيه رائع وفي غاية البساطة يوضح ذلك فعندما توضع قطعة من الحديد في النار، فإن النار تتحد بها، دون أن تختلط النار أو تمتزج بالحديد ودون أن تتغير النار فتصبح حديدا أو يتغير الحديد فيصبح نارا. وهكذا يمكن أن النار المتحدة بالحديد أن تحرق وتكوي (أي لها صفات النار)، ولكن في نفس الوقت لم يفقد الحديد طبيعته لذلك يمكن طرقه وتشكيله (أي له صفات الحديد).

 

   على هذا القياس فإن حلول الله في جسد المسيح هو كحلول النار في الحديد إذ أن طبيعة اللاهوت قد اتحدت بالناسوت بغير اختلاط أو امتزاج بينهما وبغير تغيير فلم يصبح اللاهوت ناسوتا ولا الناسوت لاهوتا.    

 

ثانياً: من الكتاب المقدس

 

 يوضح الكتاب المقدس إمكانية حلول الله في شيء مادي، وذلك في قصة ظهور الله لموسى النبي بصورة نار مشتعلة في شجرة في البرية وكلامه معه من خلالها. وقد ذكرت هذه القصة في الكتاب المقدس

 في (سفر الخروج 3: 1ـ 6):

      "وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان.فساق الغنم الى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليّقة. فنظر وإذ العليقة تتوقّد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة. فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى. فقال هاأنذا. فقال لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك. لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، ثم قال: أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب.فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله".

 

    بقراءة هذا الجزء من الكتاب المقدس يتضح لنا أن الله قد ظهر لموسى في شجرة متقدة بالنار وقال له بصريح العبارة "أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق واله يعقوب" مما دعا موسى أن يغطي وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. هل هذا الكلام يتنافى مع الفكر الإسلامي؟ أقول لا، وهذا يأتي بنا إلى النقطة الثالثة من حديثنا وهي أدلة:

 

 

ثالثاً: من القرآن الكريم

 

 هذه القصة ذاتها قد ذكرت بالقرآن أيضا.

1ـ في سـورة القصص : (29 : 30)

     "فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس (رأي) من جانب الطور (جبل الطور) ناراً. قال لأهله امكثوا. إني  آنست ناراً لعلى آتيكم منها بخبر  أو جذره (جمرة ملتهبة) من النار لعلكم تصطلون (تستدفئون) . فلما آتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن: يا موسى إني أنا الله رب العالمين".

     لعلك تلاحظ هنا أن الصوت الذي سمعه موسى انبعث من البقعة المباركة من الشجرة.

ويؤكد ذلك ما ورد أيضا في:

 

2ـ سـورة طه : (8-13).

"هل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً . فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً . لعلى آتيكم بقبس (شعلة) منها . أو أجد على النار هدى (إرشادا). فلما أتاها نودي: يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى (هذا هو اسم الوادي) إني أنا الله لا إله إلا أنا".

ويزيد الموضوع إيضاحا ما ذكر في:

 

3ـ سورة النمل (7ـ9):

     "إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس (شعلة ملتهبة) لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن: بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم".

    من هذا يتضح إن الله قد ظهر لموسى في شجرة وخاطبه منها قائلا: "إنى أنا الله رب العالمين" (سورة القصص) وأمره أن يخلع نعليه لأنه بالوادي المقدس [أي الذي تقدس بحلول الله فيه]. ثم أكد له القول "إني أنا الله لا إله إلا أنا" (سورة طه) وفي سورة النمل يقول له:" بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين، وأيضا: إنه أنا الله العزيز الحكيم".

 

   ودعني أقدم سؤالا بسيطا وهو: من هو يا ترى المتكلم في هذه الآيات؟

نستطيع أن نجيب على هذا السؤال من خلال معرفة أساليب التوكيد المستعملة في اللغة العربية. فأساليب التوكيد كما نعرف هي:

استخدام أداة إن التوكيدية: وهذا الأسلوب قد ورد في الآيات القرآنية الثلاثة المذكورة سابقا: ففي سورة القصص قيل: "إني أنا الله رب العالمين". وفي سور طه قيل:" إني أنا ربك.". وفي سورة النمل قيل:" إنه أنا الله العزيز الحكيم".

 والأسلوب الثاني للتوكيد هو تكرار الكلمة سواء كانت اسما أو ضميرا وهذا ما استخدم أيضا في هذه الآيات الثلاث السابقة إذ يكرر ضمير المتكلم ليؤكد أنه هو الله ذاته، ففي سورة القصص يقول:" إني أنا الله رب العالمين". وفي سور طه قيل:" إني أنا ربك.". وفي سورة النمل قيل:" إنه أنا الله العزيز الحكيم".

والأسلوب الثالث للتوكيد يسمى أسلوب القصْر، أي يقصر المعنى على شخص واحد، وقد استخدم هذا الأسلوب أيضا ليوضح أن الذي ظهر لموسى هو الله نفسه وليس آخر سواه، إذ يقول في سورة طه: "إني أنا الله لا إله إلا أنا" أي لا يوجد إله سواي.

   

        من هذا يتضح بكل تأكيد أن الذي تكلم إلى موسى النبي هو الله نفسه.

فيا عزيزي المخلص  إن كان الله قد ظهر في شجرة مادية وتكلم منها، فهل يعتبر كفراً إن قلنا أن الله قد ظهر في جسد إنسان مادي أيضا وتكلم منه؟! وخاصة كما هو معروف أن الإنسان أرقـي من مملكة النبات في ترتيب الكائنات الحية.

 

        وهذه الآيات القرآنية عن تجلي الله في الشجرة يرد على سؤال طالما يوجه إلينا يقول: هل خلت السماوات من الله عندما كان الله في جسد المسيح؟ وهذا هو نفس السؤال الذي نرد به على المعترضين: هل خلت السوات من الله عندما تجلى الله في شجرة لموسى؟؟!!

 

      رأينا إذن من واقع القرآن الكريم أيضا أن الله سبحانه حل أو تجلى في شجرة أي في شيء مادي، وإليك أيضا النقطة الرابعة وهي:

 

رابعاًً: شهادة علماء الإسلام

 

    رأينا في النقطة السابقة كيف يشهد القرآن عن ظهور الله سبحانه في شجرة مادية، والآن نورد بعض أقوال علماء الإسلام عن إمكانية ظهور الله في جسد مادي فيما يأتي:-

 

أهل النصيرية والإسحاقية :

      وهما فرقتان من فرق الإسلام المعترف بهما قالوا:"إن  ظهور الروحاني بالجسد الجسماني (أي المادي) لا ينكره عاقل".

 

    وقد أعطوا أمثلة على صحة ذلك فقالوا:"كظهور جبريل في صورة أعرابي، وتمثله بصورة البشر".

        (كتاب الملل والأهواء والنحل جزء 2 ص 25)

     ولعلهم يقصدون بهذا الكلام ما جاء في:

 

سورة مريم16و 17:

" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا (أي سترا) فأرسلنا لها روحنا (أي ملاكا) فتمثل (تصور) لها بشرا سويا (أي مماثلا)"

     فمن هنا نرى أن الملاك الذي هو روح قد ظهر في صورة بشر، فهل يعسر على الله ذاته أن يظهر في بشر أيضا وهو القائل "هو عليّ هيّن (أي سهل)" (سورة مريم آية 9و21)؟

     ولذلك خلص أهل النصيرية والاسحاقية من ذلك إلى النتيجة التالية الرائعة إذ قالوا:"‎إن الله تعالى قد ظهر بصورة أشخاص).

               (كتاب الملل والأهواء والنحل جزء 2 ص 25)

 

الشيخ أبو الفضل القرشي :

        قال:"إن اللاهوت ظهر في المسيح وهذا  لا يستلزم الكفر وأن لا إله إلا الله". (كتاب هامش الشيخ القرشي على تفسير الإمام البيضاوي  جزء 2 ص 143)

 

الحائطية : (وهى فرقة أخرى من فرق الإسلام)

قال الإمام احمد بن الحائط إمام فرقة الحائطية عن المسيح. "إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني (أي لبس جسدا كدرع) وهو الكلمة القديمة (الأزلية) المتجسد كما قالت النصارى"

         (كتاب الملل والأهراء والنحل جزء 1 ص 77).

    كان هذا بخصوص إيماننا بأن المسيح من جهة طبيعته الجسدية هو إنسان كامل طاهر خالٍ من الخطية، له كل الصفات البشرية والأعمال الإنسانية من أكل وشرب وتعب.

    وقد عرضنا أيضا إيماننا في المسيح من جهة الطبيعة اللاهوتية التي تجلت فيه وظهرت من خلاله لتعلن لنا عن الحب الإلهي نحونا نحن البشر.

     من هنا ندرك أن الذي صلب وقتل ومات هو الطبيعة البشرية في المسيح، وليس الطبيعة اللاهوتية. فالطبيعة اللاهوتية لا يسري عليها فعل الموت، لهذا فإن القول بأننا نعبد إلها مصلوبا ليس صحيحا.

    وعلى هذا القياس فإن القول بأنه من كان يحكم العالم عندما صلب الله؟ هو سؤال ساذج مبني على عدم الفهم السليم لطبيعة المسيح، فالطبيعة الإلهية لم تصلب ولم تقتل ولم تمت بل كانت تحكم العالم وكائنة في كل الوجود.

عودة الى افهرس