يوم قبل وفاة محمد

موقف نبي الاسلام من المسيحية



لا بد من التوضيح أولا بأن كثيرا ممن أرّخوا للإسلام وللسيرة النبوية، وكتبوا أبحاثهم الفقهية قد أساءوا إلى حقيقة موقف نبي العرب محمد عليه السلام من المسيحية. فنبي العرب لم يعاصر سوى أصحاب البدع النصرانية من يعاقبه ومريميين ونسطوريين ومانويين وأريوسيين وأبيونيين وبيلاجوسيين وغيرهم. وكافة هذه البدع كانت بعيدة عن المسيحية في أصولها كما أسلفنا في بحثنا السابق ، وكان مدعوا في بداية رسالته للتحكيم بينهم. وحسم خلافاتهم واختصت ، من القرآن بذلك، سورة الأحزاب. ومع أنه لا يمكن إنكار دور اليهود في تشجيع أصحاب البدع تلك ، وفي الإيقاع بينهم في الآن ذاته ، فإن محمدا قد فطن إلى ضرورة التوفيق بينهم على قاعدة التماس القواسم المشتركة وإغفال الفروق غير الجوهرية. وقد نجح في ذلك عبر "الإسلام" الذي طغى على تلك البدع واعتبره دينا واحدا لكافة الأديان والمذاهب.
لكن موقف نبي العرب من أصحاب البدع النصرانية هذه ، أسقطه مؤرخو الإسلام وفقهائه على الأصول. فأصبح موقفه من البدع وأصحابها - حسب تفاسيرهم - موقفا من المسيحية في تعاليمها الأصولية. وهكذا فإن تعصب المحدثين من العلماء المسلمين نجم عن ذلك الجهل القديم. ومع أن القرآن يرد على أصحاب البدع التي تقول بالطبيعة الواحدة وغير ذلك فإن كثيرا من العلماء المسلمين يفصلون هذه الردود نفسها على قياس المسيحيين الذين حافظوا على تعاليم المسيح. ولن استرسل في هذا المجال لأنني سأفصّل ذلك في بحث مستفيض آخر ، انما سأحصر همي هنا في مسألة الصليب بالذات. ما هو الصليب ؟… ماذا كان يعني للنصارى في صدر الاسلام (حيث البدع النصرانية كانت هي السائدة)؟ وماذا يعني للمسيحيين بعد قضائهم على هذه البدع؟... ولماذا استمر المسلمون في غالبيتهم ينظرون الى الصليب على أنه وثن يعبد مع أنه ما من مسيحي يعبد الصليب ؟!
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لا بد أن أطمئن ذلك الأخ المسيحي الذي أبدى استياءه من الامام الذي خطب في صلاة الجمعة واستشار المسلمين لمحو شارة الصليب من كل مجالات حياتهم. فهذا الإمام المتعصب جاهل بموقف نبيه الكريم واليك الدليل:
لو سألت هذا الامام نفسه عن النقد الذي كان يتداوله المسلمون في صدر اسلامهم ، لذكر لك بأنه الدرهم والدينار ، بل إنه سيعترف أيضا بأن نبي المسلمين عليه السلام كان من بين المتداولين بهذا النقد. ولو سألته عن المصدر الذي سك هذا النقد لوجدته يعترف لك ببراءة أن العرب المسلمين في ذلك العصر ما كانوا يسكّون النقد بل كانوا يتداولون النقد الرومي حتى عام 76 للهجرة الموافق ل 695 ميلادية ، أي حتى عهد عبد الملك بن مروان.
ولكن لو سألته عما نقش على هذا النقد الرومي الذي كان يتداوله حتى نبي الإسلام نفسه لوجدته يجهل ، والواقع أن النقد الرومي الذي كان يتداوله نبي الإسلام عليه السلام يحمل شارة الصليب ونجد قطعا من هذا النقد محفوظة من عهد هرقل إلى اليوم في الخزائن الأوروبية. وعلى هذا النقد صورة هرقل وهو قائم بشاراته المسيحية وعلى رأسه التاج يعلوه الصليب ، وبيده اليمنى صليب أكبر، وفي اليسرى كرة الأرض يرتفع منها في الوسط صليب صغير، وفي أحد الوجهين حرف M وهو سمة النقود. وفوق هذا الحرف تجد الأحرف الأوائل من إسم المسيح. كما تجد في الوجه الآخر إسم المدينة التي ضرب فيها النقد والسنة. ويشاهد الملايين في دار النقود بباريس عدة قطع من الدراهم والدنانير وعليها أسم دمشق وتحمل تاريخ 17و18 للهجرة أي 638و639م. وأخرى ضربت في حمص وبعلبك وطبريا والصليب موجود في جميعها.
إنما ليس أمام المسجد المشار إليه وحده الذي جاء تعصبه عن جهل ، فقد سبقه علماء وقعوا في المأزق نفسه ، إنما تعصبهم لم يكن عن جهل بل عن كراهية مقيتة كانت تزيد في الهوة بين المسلمين والمسيحيين، ومن بين هؤلاء المقريزي مثلا، فقد دخلت النقود المسيحية مدينة القاهرة وعمت سائر البلاد والأمصار في أيام المماليك نحو عام 790 للهجرة - 1388م. وكانت الصلبان مرسومة على هذه النقود ومع ذلك كتب المقريزي في شهر صفر 810 للهجرة (1407م) ما يلي:
"الذهب ثلاثة أصناف ، وهي الذهب الهرجة.... وهو الذهب الإسلامي الخالص من الغش.... والصنف الثاني ذهب يقال له الإفرنتي ، والإفلوري والبندقي والوكاه وهو يجلب من بلاد الافرنج. وعلى أحد وجهيه صورة إنسان في دائرة مكتوبة. ولم يكن يعرف هذا الصنف قديما مما يتعامل به الناس ، وإنما حدث في القاهرة من حدود سنة تسعين وسبعمائة (1388م) وكثر حتى صار نقدا رائجا ، وبلغ إلى مائتي درهم وثلاثين درهما من الفلوس كل دينار منه ، ووزن كل مائة دينار من هذا الذهب أحد وثمانون مثقالا وربع مثقال. غير أن الناس قصوه حتى يخف وزنه. واستقر ثمانية وسبعين وثلثا.. والنوع الثالث الذهب الناصري وهو الذي ضربه الملك الناصر فرج" (1).
وكان يقال للذهب البندقي: الذهب المشخص ، بسبب الصور التي تعلو وجهيه. وقد ذكر العيني في تاريخه في أخبار سنة 813 (1410م) أن الإفرنتي الذي عليه الصلبان "تحسن سعره جيدا وبلغ مائتي درهم من الفلوس الجدد" (2). ولذلك رأى المقريزي إنكاره لوجود شعار "الكفر" عليه ، فذكر بتاريخ صفر 829 للهجرة (1425م) ما يلي:
"جمع السلطان الأمراء والقضاة وكثيرا من التجار ، وتحدث في أبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الفرنتي ، وهو من ضرب الفرنج، وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية. وهذا الإفرنتي كما تقدم ذكره قد غلب في زمننا من حدود سنة ثمان مائة (98 ـ 1397م) على أكثر مدائن الدنيا من القاهرة ومصر وجميع أرض الشام. وعامة بلاد الحجاز واليمن حتى صار النقد الرائج ، فصوّب من حضر رأي السلطان في إبطاله. وأن يعاد سبكه بدار الضرب. ثم يضرب على السكة الإسلامية"(3).
في قول المقريزي إذا إن الشريعة المحمدية لا تجيز التعامل بمثل هذا الذهب وعليه "شعار الكفر" أي الصلبان كذب فاضح لا يخفى على البصير. لأن النقود التي كانت بين أيدي الأنصار والصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين والأمويين إلى أيام عبد الملك كانت كلها مضروبة بمثل هذا الشعار ، كما سبق لنا إثباته. وقد فات المقريزي حين وضع رسالته في النقود الإسلامية ، وأشار إلى الدنانير التي أمر معاوية بضربها وعليها صورته قائما أنه ضرب أيضا فلوسا بمثل هذه الصورة، وعلى الوجه الآخر منها شكل الصليب وسط دائرة صغيرة. واقتدى به عبد الملك بن مروان ومن كلا النقدين قطع محفوظة إلى اليوم في المتاحف الأوروبية. وفي زعمه أن الصحابة لم ينكروا من نقود معاوية "سوى نقشها ، فان فيه صورة" ولكنه أقر بأن سعيد بن المسيب "كان يبيع بها ويشتري ولا يعيب من أمرها شيئا" وسعيد هذا من أشهر الرواة. فكيف ارتضى صائغو الشريعة المحمدية بمثل الدنانير الهرقلية والفلوس الأموية مع وجود الصلبان فيها ، ولم يروا حرجا في التعامل بها ، ويجيء بعدهم قوم يستجيزون لأنفسهم الحق بتحريم ما أقره السلف الأول بل صاحب الشريعة نفسها ؟!
وما عسى المقريزي كان يقول ، لو قام في زمانه بعض الملوك والأمراء ووجدوا من الفطنة في السياسة والرفق في التجارة أن يضربوا نقودهم وعليها "شعار الكفر" – حسب تعبيره – ليتداولها المسلمون والنصارى ، كما فعل بعض ملوك التركمان في مغنيسية وأفسيس ، وكانوا قد خالطوا اللاتين في الجزائر القريبة، وأدركوا مقدار الربح من مبادلتهم أصناف التجارات ، فرأوا من الحكمة ، والذكاء تسهيلا لهذه المقايضة أن يضربوا نقودا على مثال نقودهم لرواجها ، فاستدعوا الصناع الإيطاليين ، وكلفوهم بضرب نقد إسلامي لهم وعليها صورهم ، ونقشوا فيها الصلبان بأمر منهم ، وفي دوائرها كتابة لاتينية تعريبها: "ضربت هذه العملة في مغنيسية بأمر صاروخان" أو "ضربت في تولوغوس (افسس) بأمر عمر بك أمير أيدين".
إن مثل هذه النقود التي اكتشفها المكتشف المشهور "وود" في خرائب أفسس ، هي ولا شك من نوادر العملة ونفائسها ، لمكان صور الأمراء المسلمين فيها منقوشة "بشعار الكفر" وهي شاهدة بتدليس المؤرخين فيما شرحوه لنا من أخبار الإسلام، وسيلي في مكانه من البحث تدليس الإمام البيهقي والآخر الكسائي.

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 مقدمـــــة

مدخــــل

ما هي هذه الحكمة الخفية

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام

وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام

الإسرائيليات في الإسلام

الأسفار الحكمية والحديث

صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام

مأساة الكنيسة

هل كان محمد نصرانيا

متاعب الكنيسة في الغرب

الحنيفية والكسائية

موقف نبي الاسلام من المسيحية

والقرطاس عليه الصليب

الصليب ليس وثنا

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية

الانجيل في الحديث والأمثال والحكم

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام

مواطن تأثر الإسلام بالوثنية

المرأة وتعدد الزوجات

تمييز العربي عن غيره

خاتمة الجزء الأول

الصفحة الرئيسية