يوم قبل وفاة محمد

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية



لست أزعم أنني استطعت ، أو سأستطيع تحديد كل الآثار النصرانية في الإسلام ، فذلك يتطلب عملا تقوم به مؤسسات كبرى ، وإنما هي خطوة سبقتها خطوات ، وأرجو أن تعقبها خطوات أخرى.
وأود أن أشير بادىء ذي بدء إلى ما ذكرته في مقدمة هذا الجزء من الكتاب من أن الإسلام بقي موروثا شفاهيا لنحو قرنين من الزمن أعقبا وفاة نبي المسلمين. وإن تحول قسم كبير منه إلى مأثور مكتوب ، فإن بعضا منه ما زال مستمرا في الذاكرة الجمعية. ولكن كيف يمكن لنا تفسير ظاهرة الكمون في المأثور الاسلامي ؟ فنحن نرى الكثير من الوقائع والتقاليد النصرانية ظلت ماثلة حية في صدور المسلمين ، برغم أن النصوص والمتون تسعى إلى نفيها قصدا وعمدا.
إن كثيرا من القرى الإسلامية ، ولا سيما في شمال سورية ، ما تزال تحتفل بعيد الصليب. وقد لاحظت أن أهل القرى الإسلامية الذي يواصلون صنع خبز يومهم بأنفسهم يتعمدون رسم شارة الصليب فوق العجين قبل تخميره. كذلك في
المدن الاسلامية ما يزال الورع يدفع الأغلبية ، ان رأوا كسرة من الخبز على الأرض ، لرفعها ، وتقبيلها وركنها في مكان مرتفع. إنه لا يرفع عن الأرض أي شيء آخر غير كسرة الخبز. ولو سألته عن السر في ذلك لأجابك ببساطة متناهية. إنها نعمة الله ولا يجوز الإستهانة بها. ولكنه لا يدرك بوعيه الكامل لماذا كسرة الخبز نعمة وبقية الأطعمة ليست كذلك ، بل انه لا يدرك بوعيه ما الذي يجعل من كسرة الخبز نعمة.
ولو شئنا توضيح ذلك ينبغي أن نشير إلى عادة إسلامية ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا ، فان شاء مسلم أن يدلل على عمق الروابط بينه وبين صديق له ، فانه يقول: "بيني وبينه خبز وملح". وظاهر العبارة يدل على أنهما تناولا طعاما مشتركا. بينما باطن العبارة يدل على شيء آخر. لماذا ؟… لأن الطعام المشترك لا يقتصر على الخبز في الغالب ، وربما لم يكن فيه خبز على الإطلاق وإنما الإشارة الضمنية – كما هي في المأثور - تدل على القربان ، الذي يفترض أنه يوحد بين الجموع الذي تتناوله فيحولها الى أعضاء في جسد واحد.
إن الشريعة كامنة في الطبيعة المادية كما هي كامنة في بنية الإنسان العقلية والأدبية ، مكتوبة في نسيج كيانه وخلاياه وأعصابه ، ومجرى دمه. وربما هي داخلة في هندسته الوراثية. وهذا ما قرره يسوع بقوله: "ملكوت الله في داخلكم" (1) وقد عبر بولس الرسول عن ذلك بقوله: "إن الأمم الذين ليس عندهم الناموس ، متى فعلوا بالطبيعة ما هو من الناموس ، فهؤلاء اذ ليس لهم الناموس ، هم ناموس لأنفسهم ، يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم ، وضميرهم يشهد وأفكارهم أيضا مشتكية ومحتجة" (2). ولقد تعلم الناس أن "ملكوت الله ليس أكلا ولا شربا بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس" (3).
إن امكانية التجسد التي تحدث عنها السيد المسيح باقتضاب عندما قال "ملكوت الله في داخلكم "أشار اليها الخطاب القرآني صراحة رغم أن فقهاء المسلمين يثورون ويغضبون إذا ما قيل لهم أن الله تجسد. وأشير قبل ذلك في هذا الصدد الى مسألة "معية الله" التي جرت مناقشتها رسميا في "الأزهر" عام 1950. فقد ذكر الشيخ بدر الدين العلائي الحنفي خلال النقاش: "إن الله معنا باسمائه وصفاته لا بذاته". ورد عليه الشيخ ابراهيم المواهبي الشاذي: "بل هو معنا بذاته وصفاته"، فلما سئل عن دليله استشهد بما ورد في القرآن: "والله معكم"، وأوضح ذلك بقوله: "إن مدلول الاسم الكريم (أي الله) إنما هو الذات اللازمة لها الصفات المتعينة لتعلقها بجميع الممكنات".
كذلك ذكر الإمام الغزنوي (4) إن قول المعتزلة وجمهور النجارية أن الحق تعالى في كل مكان بعلمه وقدرته وتدبيره دون ذاته باطل لأنه لا يلزم أن من علم مكانا أن يكون في ذلك المكان بالعلم فقط إلا إن كانت صفاته تنفك عن ذاته". وعندما سئل الشيخ ابراهيم في نقاش الأزهر ان كان وافقه أحد غير الغزنوي في ذلك ، استشهد بما ذكره شيخ الإسلام إبن اللبان الذي رأى أن في قوله تعالى في الخطاب القرآني "ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" دليلا على قرب الله من عبده قربا حقيقيا. وقال انه "لو كان المراد بقربه تعالى من عبده بالعلم أو القدرة أو بالتدبير فقط لقال" ولكن لا تعلمون أما وأنه قال (ولكن لا تبصرون) فانه دل على أن المراد به القرب الحقيقي المدرك بالبصر".
هنا أعود الى ما قاله السيد المسيح "ملكوت الله في داخلكم" فقد عبر عنها الخطاب القرآني بقوله: "ونحن أقرب اليه من حبل الوريد" (5). إن قرب الصفات معنوي ، فيما قرب "حبل الوريد" حسّي. أي أن قرب الله من الإنسان حقيقي بالذات وليس بالصفات وحدها. وعندما يقول "أقرب من حبل الوريد" فذلك يعني أنه في داخل الانسان ، وأنه موجود وجودا حسيا. ولا معنى إذ ذاك لنكران الحلول والتجسد.


والآن ، دعونا نتقصى عن آثار النصرانية في العبادات الاسلامية:

الصلاة الربانية

وردت الصلاة الربانية على الشكل التالي: "أبانا ... لا تعرضنا للتجربة، أعف مما علينا، كما أعفينا نحن غيرنا مما لنا عليه" (6).
كذلك أوردها البشير لوقا على الشكل التالي: "…… أغفر لنا خطايانا لأننا نغفر لمن أساء الينا ، ولا تعرضنا للتجربة" (7).
ونجد في الخطاب القرآني أنه ورد ما يوافق هذه الصلاة وذلك في قوله:
"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، (أي اغفر لنا ولا تجعل علينا اثما). ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به (أي لا تعرضنا للتجربة). واعف عنا واغفر لنا" (8).
كذلك أورد السيوطي حديثا رفعه إلى نبي المسلمين قال: "صلوا أيها الناس في بيوتكم فأفضل صلاة المرء في بيته ، إلا المكتوبة" (9).
كذلك روى الشعراني ما يلي: إن الله أوحى لموسى هذه الآية كما روى كتاب الأحبار: "اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا ، وخلصنا منه ومن كل شر ، من أجل أن لك الملكوت والأبد والسلطان والملك والحمد والأرض والسماء أبدا أبدا" (10).

الصلوات الخمس

من الثابت أن القبائل العربية المتنصّرة كانت قد ألفت الصلاة والدعاء إلى الله، ويتأكد ذلك من عدد الكنائس التي أقامها النصارى في جهات العرب. وقد فرض القرآن على المسلمين خمس صلوات في اليوم ، فجاء ذلك موافقا لما كان شائعا بين الرهبان ، إذ كان هؤلاء يقيمون صلواتهم السبع في خمس قومات من النهار والليل. وجاء في "نقائض جرير والفرزدق" (ص 525) عن صلوات النصارى ما يلي: "وكانت أخص صلواتهم خمسا. قال الفرزدق يذكر عجوزا من بني جعفر عاذت بأبيه غالب:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب فلا والذي عاذت به لا أضيرها"
وجعل البيان القرآني صلوات المسلمين في طرفي النهار: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" (11). وكذلك قوله: "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل..."(12).
وهكذا كان رهبان جزيرة العرب يبكرون إلى الصلاة ، ويقومون ليلهم لأدائها. وفي ذلك قول مجنون ليلى:
كأنه راهب في رأس صومعهيتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا وقد أمر الخطاب القرآني المسلم بالاغتسال والوضوء قبل الصلاة. وهذه عادة نجدها في القوانين القديمة لنصارى الشرق.
يذكر "الأب لويس شيخو (13) نصا عن طهارة الجسد استنبطه من كتاب "الايثيقون" أي "الآداب" لأبي الفرج ابن العبري. وأوضح أنه جاء في باب الطهارة (هو الثالث من مقالته الثالثة قسمه الى عشرة فصول بحث فيها عن طهارة الجسد وأحكامها وشروطها كما كانت في ساحات الكنائس لاثمام فريضة الوضوء.
ويضيف الأب لويس شيخو (المصدر نفسه): "وقد وصف حضرة الخوري ابراهيم حرفوش (راجع المشرق) - 6/1903 - ص 116 الى 123): أحد مخططات دير مار شليطا القديمة وفيه قوانين جارية في الأعصار السالفة في 51 بابا ، وقد أورد في احدى صفحاته (ص108) شروط الصلاة وحدودها على هذه الصورة".
أما النص الذي أشار إليه الأب لويس شيخو فهو التالي:
"فأما حدودها (أي الصلاة) وشروطها فانها تحتاج في أول شيء الى الطهارة ، وهو الاغتسال بالماء في أثر الحدث. فإن لم يجد الماء فليتحجر بثلاثة حجار وما زاد عليها حتى ينفي أثر النجوى. ثم غسل اليدين بالتسمية ، وغسل الوجه برسم الصليب المحيي، ويستحب أيضا غسل الرجلين في كل غداة. فأما من لم يحدث فلا يحتاج إلى الإستنجاء بل يستحب منه غسل اليدين والوجه. وغاية الغسل أن يعم الماء العضو الذي يغسله وعوما كاملا …… الخ. (ثم يليه فصل في الاغتسال من الجنابة غسلا تاما... مع الاعتراف الى الكاهن وقبول صلاة الاستغفار)".
كذلك يتجه قدماء النصارى في صلواتهم إلى الشرق ، لأن الشمس ترمز عندهم إلى السيد المسيح المعروف بشمس العدل والموصوف بالشرق. وفي ذلك يقول "صرمة ابن أنس" قبل الإسلام يصف صلاة النصارى الى مطلع الشمس:
"وله شمس النصارى وقاموا كل عيد لهم وكل احتفال
ومعروف أن نبي المسلمين والمسلمين الأوائل كانوا يولّون وجوهم قبلة القدس (أورشليم) ثم ولاه الخطاب القرآن قبله يرضاها وهي الكعبة في مكة" وسيلي ذكر ذلك عند البحث في "الحج" .


الجامع والمسجد

وكان يقال له "المسجد" بحسب تعريف الزجاج _ وقد أطلقوا التسمية على هيكل أورشليم كقول الطبري عن يوسف ، خطيب العذراء مريم: "تولى يوسف خدمة المسجد" (14).
وذكر ابن خلدون في تاريخه عن العذراء مريم أن حنّة أمها جاءت إلى المسجد فدفعتها الى عباده (15).
وأما أن المسجد الذي ابتناه عمر بن الخطاب ليس هو المسجد الأقصى الوارد ذكره في الخطاب القرآني فدليله أن قصة الإسراء التي تشير إلى المسجد قد وردت في القرآن قبل بناء المسجد القائم حاليا. ولا يعقل أن يرد في الخطاب القرآني قوله: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" فيما المسجد المعروف حاليا بهذا الإسم لم يكن قد بني بعد مما يؤكد أن المسجد المقصود هو "هيكل أورشليم".
ومن المعروف أن ألفاظ: "المسجد" و "المصلى" و "المعبد" و "المنسك" وقد سبقت الإسلام واستخدمها أهل الجاهلية ولا سيما قدماء النصارى في الجزيرة العربية للدلالة على دينهم. بل ان كلمة "مسجد" ترادف كلمة "صومعة". ومما رواه سيبويه عن بعض الشيوخ في "تاج العروس 419:5" قوله: (16)
أوصاك ربك بالتـقى وأولو النهى أوصوا معه
فاختر لنفسك مسجدا تخلو به أو صومعــة
وقال: "الصومعة بيت النصارى. فذكر المسجد معها اشارة الى أنها في معناها شائعة أيضا عند النصارى".
و"المحراب" كان يراد به مطلق المسجد. وذكر صاحب "تاج العروس" (207:1): محاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها ، وكذلك النصارى قد سموا صدر كنائسهم المحراب كما دل بها المسلمون بعد ذلك على صدور مساجدهم". وأنبأ البيان القرآني عن زكريا أنه كان يدخل المحراب على العذراء مريم. "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..."(18)
والمحراب شأنه شأن القبلة التي هي وجهة المسجد وقد وردت في الشعر الجاهلي - كما روي عن عبد المطلب قوله: (19)
عذت بما عاذ به أبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم
ومما يلحق بالمساجد "المنارة" وقد اشتقها العلماء من السريانية ، والمسلمون يريدون بها المئذنة. وقد سبقت عهد الإسلام فذكرها امرؤ القيس في معلقته بمعنى المصباح حيث كان الرهبان يوقدونه لمناسكهم في قمم الجبال ليلا. قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممس راهب متنتل
وقد اكتشف الأثريون في كنائس ما بين النهرين وشمالي سورية عدة كنائس كانوا شيدوا في أعلاها أبراجا مستديرة أو مربعة يؤذنون فيها بمناسكهم ، فلما جاء الإسلام اتخذوا المآذن على مثال تلك البروج.
وكان المسلمون في أول عهدهم يجتمعون لصلاتهم دون أذان. ويقول ابن هشام في السيرة: "وقد كان رسول الله حين قدموا انما يجتمع الناس للصلاة بغير دعوة".
كذلك قال القسطلاني: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيحيون الصلاة ليس ينادى لها" ثم "ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا. وأمر بلال (المؤذن) أن يشفع الأذان" (20).
وفي الصلاة الإسلامية قيام وركوع وسجود ورفع الأيدى ويتوافق ذلك مع طقوس قدماء النصارى فقد قال البعيث يذكر صلاة الرهبان وهم قيام:
على ظهر عاديّ كأنه أرومه رجال يتلوّن الصلاة قيام
كذلك قول المضرّس الأسدي: (22)
وسخال ساجية العيون خواذل بجماد لينة كالنصارى السّجدّ
وأما "الركوع" فهو عند قدماء النصارى أخفاض المصلي لرأسه وانكبابه لوجهه. وقد ورد في شعر أمية بن أبي الصلت عن الملائكة قوله:
ملائكة لا يفترون عبـــادة كروبّية منهم ركوع وسجّد
مساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربّا فوقه ويمجّــد
وراكعهم يحنو له الدهر خاشعا يردد آلاء الالـه ويحمـد
وكان الراهب لكثرة صلاته يدعى راكعا. وذكر سيبوية ما يلي: "وكانت العرب في الجاهلية تسمي الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان ويقولون ركع إلى الله. قال الزمخشري أي اطمأن. قال النابغة الذبياني:
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرىء إلى ربه رب البرية راكع"(23)
أما ورقة بن نوفل فقد ورد قوله في "الأغاني" (24):
أدين لرب يستجيـب ولا أرى أدين لمن لا يسمع الدهر واعيـا
أقول إذا صليت في كل بيعـه تباركت قد اكثرت باسمك داعيا.


صوم رمضان والفصح

وأما أن صوم رمضان عند المسلمين لا يتجاوز الثلاثين يوما ، فإن صوم الفصح كان لا يزيد على ذلك في بعض الكنائس. واتفقت عادة الافطار عند الفريقين بعد غروب الشمس ، إلا أن النصارى ما كانوا يأكلون إلا مرة واحدة في حين أن المسلمين أحلّ لهم الطعام طوال الليل. وإذا فقد كان صوم النصارى في الشرق غاية في الشدة يمتد إلى النهار والليل معا، فخفف الإسلام هذه العبادة وحصرها في النهار دون الليل مع إشارة قرآنية إلى هذا التخفيف حيث ورد في الخطاب القرآني "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (25).
اما "الخيط الأبيض" و "الخيط الأسود" اللذان ورد ذكرها في القرآن عند قوله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" (البقرة – 187) فقد ذكرها أحد شعراء النصرانية قبل الإسلام ، وهو أمية بن أبي الصلت اذ قال: (26)
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسود لون الليل مركوم
الزكاة ووفاء العشر
وكان من وصايا الكنيسة إلى قرون النصرانية الأولى وصية بوفاء العشر. والزكاة في الإسلام توافق ما فرض على اليهود
والمسيحيين ، فإن موسى في "التثنية" و "الاشتراع " قد فرض على بني اسرائيل تعشير ما لهم لخدمة المهنة والهيكل.


الحج

الحج: خامس ركن من أركان الدين الإسلامي. وهو فرض على المستطيع مرة في العمر ، ويكفره منكره لقول نبي الإسلام "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ، (27) ولقوله كذلك: "من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا"(28).
وأما معناه في اللغة فهو القصد إلى معظّم ، فيما معناه في الفقه الاسلامي، زيادة مكان مخصوص في زمن مخصوص وبفعل مخصوص. وأما المكان المخصوص فهو كعبة مكة.
ويقينا يمكن العودة بالحج في أساسه إلى عادة وثنية ما لبثت أن انقلبت إلى نصرانية. إذ يذكر كتبة العرب أن "اللات صخرة بيضاء مربعة تعبدها ثقيف في الطائف ، وكانوا اتخذوا له (المقصود هنا الههم المعبود) بيتا فطافوا به وجعلوا له سدنة"(29).
ويذكر الكتبة العرب كذلك أنهم كانوا يكرمون حجارة بيضاء أو سوداء ، وكانوا يوقعونها موقع التجلي للقوات العلوية. وكانت تكرّم في بعض جهات اليمن والحجاز وبلاد النبط"(30).
فمن المقامات الدينية للنبط ال "كعبات" وهي بيوت مربعة مرتفعة على شكل الكعاب ، منها:
- ذو الكعبات في شمالي الجزيرة لبني اياد
- كعبة نجران
- الكعبة اليمانية حيث كان بنو خثعم يعبدون صنمهم المدعو "ذا الخلصة".
- الكعبة الحجازية في مكة. وأول من ذكرها في التاريخ ديودوروس الصقلي في القرن الأول قبل ميلاد المسيح إذ قال: "إن من جهات العرب المجاورة لبحر القلزم هيكل يبالغ في إكرامه كل العرب" (31). وربما سموا كعباتهم بالبيوت لأنها مكعبة.
ولقد كثر عدد الهياكل في بعض الأمكنة من الجزيرة حتى أن بلينيوس (في القرن الثاني للمسيح) عدّ منها ستين في مدينة سبأ حاضرة اليمن و 65 في تمنة مدينة غطفان(32).
ويذكر كثير من المؤرخين أن العرب كانوا يتخذون لهذه المقامات (حرما) فيجعلوا لها دائرة ، تحفظ حرمتها ، ولا يجوز لأحد انتهاكها. وكان حرم مكة أشهرها. وثمة رجال يخدمون هذه المقامات. كانوا كهنة أو عرافين أو ربما سدنة.
وفي مطلع دعاء المسلم أثناء طوافه حول الكعبة خلال الحج عبارة تقول: "لبيك اللهم لبيك" ونجد مأثور ذلك في ما رواه بعض الكتبة العرب ، اذ ذكروا أن العرب كانوا يكرمون تلك الأصنام بمناسك مختلفة منها (حجّهم) إليها أفرادا أو زرافات. وكانوا إذا اغتسلوا أو توضأوا يطوفون حول الصنم دفعات معدودة ويستلمون الصنم أو يقبلونه ويتقربون منه (لاحظ بالمقارنة هنا استلام المسلم للحجر الأسود وتقبيله له). وقد دون هؤلاء الكتبة بعضها كتلبية "ذي الكفين" وهو صنم دوس. وروى ابن حبيب أنهم كانوا يقولون أثناء الطواف: "لبيك اللهم لبيك. ان جرهما عبادك، الناس طرف وهم تلادك. ونحن أولى منهم بولائك"(33). كذلك روى تلبية نسر: "لبيك اللهم لبيك لأننا عبيد. وكلنا ميسرة وأنت ربنا الحميد"(34). ثم كذلك تلبية صنم تميم: "لبيك لبيك ما نهارنا نجرّه. أزلامه وحرّه وقرّه. لا نتقي شيئا ولا نضرّه. حجا لرب مستقيم برّه"(35).
وروى العماد الركن مصطفى طلاس وزير الدفاع في سورية (أثناء طبع هذا الكتاب - نقلا عن كثير من المؤرخين العرب أن الوثنيين العرب كانوا يذكرون أثناء طوافهم حول كعبة مكة عبارة "تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى"(36). ويذكر أن نبي المسلمين كان قد أوردها. في ما تلاه من "سورة الطارق" ثم ذكر المؤرخون ومنهم الطبري أنها نسخت تلاوة".
والحاج المسلم يطلب منه قص شعره ورمي الجمرات وهي الحصى وذلك إتماما لمناسك حجه. وقد أثبت المؤرخ "شوفين" الفرنسي ، كانوا يفعلون مثل ذلك تماما ، اضافة الى أنهم كانوا يقصون نواصي أولادهم .(37)
والحج في صيغته النصرانية يتطلب ذكر شواهد تاريخية عديدة، فهو قد تلا الحج الوثني ، وسبق الحج الإسلامي. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى أن نجران كانت قبلة النصارى ، منذ أن اصطبغت بدماء النجرانيين ، فأقام النصارى فيها مزارا كان العرب يقصدونه من كل صوب. وقد شاع ذكر هذا المزار فأسموه "كعبة نجران" أو "الكعبة اليمانية". وأشار إليه الأعشى في بعض أبياته ، ومن ذلك قوله:
وكعبة نجران حتم عليك حتى تناخي بأبوابــها
تزور يزيدا وعبد المسيح وقيسا هم خير أربابها
إذ الحبرات تلوّت بهم وجرّوا أسافل هدّابها (38)
وكما غلبت النصرانية على يثرب في الجاهلية، كذلك نالت مكة نصيبا كبيرا من هذه العقيدة. وأقدم ما رواه كتبة العرب صريحا عن النصرانية ورد أثناء تاريخ "جرهم" الثانية. فجرهم استولوا بعد بني اسماعيل على الحجاز وانتهت إليهم سدانة "بيت الحرام" في مكة ، وصارت اليهم مفاتيح الكعبة. وبجمع المؤرخين على أن جرهم الثانية قامت قبل تاريخ ميلاد المسيح بقليل. ويؤكد ابن الأثير وابن خلدون وأبي الفداء بأن سادس ملوك جرهم يدعى بإسم "عبد المسيح بن باقية بن جرهم". مما يستلزم التأكيد بأن النصرانية دخلت مكة بعد ارتفاع السيد المسيح بزمن قليل، أي قبل دخول بني الأزد، وتغلب بني خزاعة.
وبحسب أبي الفرج الأصفهاني ، فإن "بيت الحرام" كان له في عهد بني جرهم "خزانة ، وهي بئر في بطنه ، يلقى فيه الحلي والمتاع الذي يهدى له ، وهو يومئذ لأسقف عليه"(39). وهذا إثبات لنصرانية "بيت الحرام".
وفي أقدم تواريخ مكة أنه كانت في دعائم الكعبة "صور الأنبياء وصور الشجر ، وصور الملائكة ، وصورة ابراهيم خليل الرحمن وصورة عيسى بن مريم"(40).
وقال الأزرقي ما حرفه: (41) .
"فلمّا كان يوم فتح مكة دخل رسول الله صلعم البيت فأرسل الفضل بن العبّاس ابن عبد المطلب فجاء بماء زمزم ثمّ أمر بثوب فبلّ بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست. قال ووضع كفيّه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: إمحوا جميع الصور إلاّ ما تحت يدي فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه.... وحدّثني جدي قال حدّثنا داود بن عبد الرحمان عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى ؟ قال: نعم ادركت فيها (كذا) تمثال مريم مزوّقا في حجرها عيسى ابنها قاعدا مزوّقا. وكانت في البيت أعمدة، ستّ سواري، وصفها كما نقطت في هذا التربيع:
قال وكان تمثال عيسى بن مريم ، ومريم عليهما السلام في العمود الذي يلي الباب: قال إبن جريج فقلت لعطاء: متى هلك ؟ قال: في الحريق في عصر ابن الزبير .. قال إبن جريج: ثمّ عاودت عطاء بعد حين فخطّ لي ستّ سواري كما خططت ثم قال: تمثال عيسى وأمه عليهما السلام في الوسطى من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا(42). أخبرني محمد ابن يحيى عن الثقة عنده عن ابن اسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم إن قريشا كانت قد جعلت في الكعبة صورا فيها عيسى ابن مريم ومريم عليهما السلام. قال إبن شهاب قالت أسماء بنت شقر: إن امرأة من غسّان حجّت في حج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: بأبي أنت وأمي إنك لعربية. فأمر رسول الله صلعم أن يمحوا تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم"(43).
وما رواه الأزرقي هنا ذكره آخرون كالبيهقي وابن العربي والهروي. وإضافة إلى ذلك نرى أن شعراء النصرانية في الجاهلية كانوا اذا أقسموا جمعوا بين الصليب والكعبة.
يقول عدي بن زيد: (45) .
سعى الأعداء يألون شرا عليك وربّ مكة والصليب
وأقسم الأعشى بقوله:
حلفت بثوبي راهب الدير والتي بناها قصي والمضاض بن جرهم ولعل ذلك أيضا ما حمل النصارى في الجاهلية على تعظيم الكعبة ، لما كانوا يرون فيها من الآثار النصرانية.
أحد تلك الآثار ما يسمى ب "موقف النصراني" الذي ورد ذكره في "تاج العروس" (46). وكذلك مقبرة النصارى. وذكر الأزرقي في أخبار مكة: (47)
"مقبرة النصارى دبر المقلع على طريق بئر عنبسة بذي طوى". والمقلع هو "الجبل الذي بأسفل مكة على يمين الخارج الى المدينة".
ويعتقد أن "مسجد مريم" الذي ذكره المقدسي كان يقع بجوار مكة .(48)
إذا ، الكعبة أصلها الغرفة المكعبة. وقد استخدمها النصارى للدلالة على كنائسهم كما سبق وأسلفنا - عند ذكر كعبة نجران والكعبة اليمانية -.

بئر زمزم

ولا يخفى القارىء قيمة بئر زمزم عند الحاج المسلم. وغالبا ما يعود الحاج من الحجاز بشيء من مياه "زمزم" في قارورة يستخدمها للتبرك بها أو أنها تكون هديته لمستقبليه.
وفي المأثور الاسلامي ، أن هاجر أم اسماعيل استعطفت ربها لتسقي ابنها الطفل عندما طردتها سارة ، فكان هذا البئر هبة الله وعطفا منه ، وأن المياه تدفقت حتى زمزمتها بيدها فأطلق عليها بئر زمزم. بينما نجد أن الأصل في التسمية مأخوذ من طقوس نصرانية ، وبالتحديد من تقديس الخمر قبل تقديم القربان. ونجد تأكيد ذلك في ما روي عن الأعشى من شعر في خمر جرجان اذ قال: (49)
لها حارس لا يبرح الدهر بيتـــها
وإن ذبحت صلى عليها وزمزمـــا
وينبغي أن نشير إلى أن "الحج" في الأساس هو عند اليهود "عيد العنصرة". واللفظ في الأصل يراد به مطلق النسك. وهو مشتق من العبرانية. وتكررت في أسفار العهد القديم بمعنى العيد والإحتشاد. وقد استخدمها المقريزي لليهود ، إذ ذكر حول أعيادهم في أيار: "وفيه عيد الموقف وهو حج الأسابيع. ويقال لهذا العيد في زماننا عيد العنصرة" (50).
أما نصارى العرب. فإنهم استعاروا اللفظة من السريانية واتخذوها بمعنى زيارة الأماكن المقدسة. فقد وردت عند ذكرهم للكعبة اليمنية. وعند زيارة بيت المقدس. وقد ذكر ياقوت الحموي أن "بني عبد المدان بنوه (بناء الكعبة) مربعا فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب ممن يحلّ الأشهر الحرم ولا يحج الكعبة ، ويحجه خثعم قاطية.." (51).
ولقد كان نصارى العرب يحجون إلى مكة نفسها كما روى ذلك ياقوت الحموي في "معجم البلدان" لأنهم ، وبعض اليهود ، كانوا يرون في الكعبة تذكارا لما ورد في سفر التكوين (52) عن هاجر وإسماعيل ، متفقين في ذلك مع تقليد عرب الحجاز. وقد ذكر في الأغاني (53) خروج هدبة بن خشرم الى الحج وكان نصرانيا كما ذكر التبريزي (54). وقد أسلفنا أن النصارى كانوا يدعون بعض بيعهم ب "الكعبات" مثل كعبة نجران.
وكان لكعبة مكة منذ عهد الجاهلية حرم أي حدود تحيط بها ولا يجوز انتهاكها. وإنما الحرم اتخذه النصارى لبعض كنائسهم الكبرى لامتيازها.
وفي هذا الصدد يروي الأزرقي ثانية عن ابن عباس (55) ما يشير إلى أسبقية الحج النصراني على الحج الإسلامي فقال: "حج الحواريون ، فلما دخلوا الحرم مشوا تعظيما للحرم".
وفي التاريخ المذكور أنه "لما هدموا الكعبة وجدوا في ركنها كتابة سريانية فسألوا عنها رجلا من أهل اليمن ، وآخر من الرهبان. ثم روي مضمونها بروايات مختلفة ما هو حرفه: من يزرع خيرا يحصد غبطة ، ومن يزرع شرا يحصد ندامة. تعملون السيئات فلا تجزون الحسنات ، أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب"(56). وهذا ما نرى مأخوذ من كلام الإنجيل. وقد ورد أن هذه الكتابة وجدت أربعين عاما قبل مبعث النبي في عام الفيل.
والحجر الأسود: هو من الأحجار النيزكية أو البركانية ، إذ يغلب عليه اللون الأسود نتيجة عوامل الإحتراق ، وأعتقد أن هذا التقديس نجم عن عاملين اثنين: أولهما عامل قديم ، فبالإضافة إلى أن الحجر مقذوف ناري صيغت حوله أساطير شتى ، واعتبر عالما لأرواح السالفين المقدسين. بل كان أكثر جلالا لكونه يصل الأرض من السماء وسط مظاهرة إحتفالية تخلب لب البدوي المبهور ، ذلك أنه يهبط بسرعة فائقة محتكا بغلاف الأرض الغازي ، فيشتعل مضيئا ومخلفا وراءه ذيلا هائلا، ولذلك كان هول رؤيته في التصور الجاهلي دافعا لحسبانه ساقطا من عرش الآلهة في السماء ، حاملا معه ضياء ذلك المكان النوراني.
وفي وقت تهيأت مكة لإفراز عناصر قيادية عربية ، قدرت أحداث الجدل الدائر حول الكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى ، والمحج الأقدس ، وكان لا بد ، إذ ذاك ، من اضفاء هالة قدسية أكبر على الحجر الأسود.
وعندما أعيد تجديد بناء الكعبة في الجاهلية ، إختلف أتباع البدع النصرانية حول من يضع الحجر في المكان المخصص له. وهنا نرى أن المكان الذي اختير للحجر هو زواية البناء . (وان اختلف مكانه بعد آخر تجديد لبناء الكعبة)، فكان في اعتبار نصارى الجاهلية رمزا للمسيح ، أي "حجر الزاوية الذي رذله البناؤون" ويذكر المؤرخون المسلمون أن محمدا قبل مبعثه ، أشار على الذين اختلفوا في حمله أن يوضع الحجر على عباءة فيمسك الجميع بأطرافها ويسيرون بالحجر إلى مكانه المخصص وعندما ، امتثلوا لمشورته وانتقلوا بالحجر تناوله بيديه ووضعه في مكانه بزاوية البناء . ولا نزال نرى تأكيدات على ذلك في طريقة الإستلام واتجاه الطواف حول الكعبة ، والدعاء الذي وصلنا من المأثور ، رغم أن عوامل الإنقلاب على النصرانية ، بعدما ترسخت دولة الإسلام قد آلت إلى تسميته ب "الحجر الأسود".
والواقع أن التفسير السابق ينسجم مع الآثار المسيحية التي وجدت في بطن بئر داخل الكعبة ، وهي التي أشار اليها الكثير من المؤرخين العرب - كما أسلفنا - بما في ذلك صورة العذراء مريم وابنها المسيح. ولو دققنا في الطواف لوجدنا أن نقطة ابتداء وانتهاء الشوط الواحد تحدّ الحجر الأسود ، أو حجر الزاوية. وأن الإتجاه يبدأ شمالا فغربا ، باتجاه القدس. (لاحظ الرسم).
وأما الدعاء الذي يقرأ عند الدخول من باب السلام لإستلام الحجر الأسود، فيستلزم الحاج المسلم أن يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام فحينا ربنا بالسلام ، وأدخلنا الجنة دارك ، دارك دار السلام تباركت ربنا وتعاليت... ومعروف أن المسيح هو السلام ومنه السلام.


الاسراء والمعراج والمصدر البولسي

كتب البشير بولس في رسالة الى أهل كورنثوس ما يلي: إنني أعرف انسانا في المسيح (يقصد نفسه) قد اختطف منذ أربعة عشر سنة الى السماء الثالثة. أفي الجسد ؟ لست أعلم… أم خارج الجسد ؟ …. لست أعلم … الله أعلم. وأعرف أن هذا الانسان - أفي جسده أم بدون جسده ؟ لست أعلم. الله أعلم قد اختطف الى الفردوس" (57). ونرى القصة نفسها ، بل التشكك نفسه (إن كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح أم بالروح فقط) في الموروث الإسلامي.
وقبل أن أدخل في تفاصيل هذا "الإختطاف" باللغة المسيحية ، وكيف تحول إلى "اسراء ومعراج" باللغة الإسلامية ، أود أن أستبق ذلك بانتحال المؤرخين والفقهاء المسلمين لصفة الرسول بولس وإسقاطها على نبي الإسلام محمد. فقد أطلق على الرسول بولس أثر ظهور السيد المسيح له على طريق دمشق (في ضاحية دارّيا - دير الرؤى ) لقب "الإناء المصطفى"، وهذا ما أخبره عن نفسه في رسالته الى أهل غلاطية. وربما بعض مقاطع الرسالة تفسر كيف وصل هذا اللقب الى المأثور الإسلامي الشفهي والمكتوب معا ، فقد ذكر الرسول بولس أنه بعد اهتدائه إلى الإيمان بظهور السيد المسيح له على طريق دمشق واعتماده على يد حنانيا التلميذ ، هرب من دسائس اليهود الى جزيرة العرب حيث أقام مدة. ومن البديهي أنه باشر منذ ذاك بالتبشير ، فدعا إلى النصرانية من اجتمع به من العرب بصفته "الاناء المصطفى".
إلا أن المأثور الذي انتقل إلى نبي الإسلام من الرسول بولس أكثر من ذلك بكثير. وإننا سنجد بعضا من ذلك في البحث المقبل حين نذكر ما تسلل من الإنجيل إلى أحاديث نبي الإسلام ، فضلا عما تسلل من ذلك إلى حكم وأمثال علي بن أبي طالب. وإنما سنكتفي هنا ، بايراد تفاصيل اختطاف الرسول بولس الذي تحول إلى إسراء ومعراج اختص به "المصطفى – محمد" نبي الاإسلام. ولا أدري في الواقع ان كان نبي المسلمين نفسه قد أحيا فصول الاختطاف ونسبه إلى نفسه أم أن أصحابه هم الذين فعلوا وانتحلوا له بعد ذلك).
والواقع أنه كثر المحدثون الذين رووا تفاصيل الإسراء والمعراج ، فمنهم عائشة ، أصغر زوجات نبي المسلمين ، ومنهم عبد الله ابن مسعود ، ومنهم معاوية بن أبي سفيان والحسن بن أبي الحسن ، وقتادة ، وأم هانىء بنت أبي طالب ، وشهاب الزهري. ويتلخص الجامع المشترك بين هذه الروايات في أن محمدا أصبح ذات يوم، فدعا أهل قريش وقال لهم:
"بينا أنا نائم في الحجر - إذ جائني في جبريل، فهمزني بقدمه "فجلست فلم أر شيئا فعدت إلى مضجعي - فهمزني ثانية فجلست. فلم أر شيئا فعدت إلى مضجعي. فهمزني ثالثة فجلست. فأخذ بعضدي. فقمت معه. فخرج بي إلى باب المسجد حيث البراق (58) فحملني عليه ، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته. حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فوجدت فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فصليت فيهم إماما ، ثم حملت ثانية وعدت إلى مكة قبل الفجر" (59).
وسمع أهل قريش القصة فاستضحكوا وتغامزوا ثم انطلقوا يلهجون بها حتى أتوا أبا بكر وقد ارتد منهم الكثير ... وفوجىء أبو بكر بقصة صديقه ، وظن (أنهم يكذبون) (60). فأصروا وقالوا: "ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس" ووقع في يد الرجل: لن يصدق الناس محمدا بعد اليوم... ففكر قليلا ثم قال: "والله لئن كان قاله لقد صدق. فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه".
ولكي يمحو الشك من قلوبهم. قام معهم فقصد المسجد حيث محمد وسأله: "يا نبي الله ، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة (61). قال: نعم. قال: يا نبي الله ، فصفه لي (أي بيت المقدس) فإني قد جئته ، فجعل محمد يصفه لأبي بكر. وكان كلما وصف منه شيئا ، يصرخ أبو بكر: صدقت ، صدقت ، أشهد أنك رسول الله. حتى انتهى، قال أبو بكر: صدقت ، صدقت ، فقال محمد: وأنت يا أبا بكر.... الصديق... ولذلك دعي بالصديق . (62)
وإذ أن السامعين يخشون أبا بكر ومن يمثل هذا (الصدّيق) فقد صدقوا ورووا.... والكل كان يشهد ويجزم بصحتها.
وبعد ذلك ، أورد الخطاب القرآن قوله: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى" (63).
ولم يعد بعد ذلك من يحاجج رسول الله.
وبدأت عملية التشكيك ، في أن ذلك تم بالروح أم بالجسد والروح معا ، عندما قالت هند بنت أبي طالب (أم هانيء): إن محمدا كان نائما عندي تلك الليلة في بيتي ، فصلى العشاء الآخرة ، ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر ، أهبنا (أيقظنا) رسول الله صلعم. فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانىء ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين... ثم قام ليخرج ، فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية (64)مطوية ؟ فقلت له: يا نبى الله ، لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك ويؤذوك ، قال: والله لأحدّثنهموه ، ثم خرج وأخبر الناس وكان ما كان" (65).
أم هانىء إبنة عمه لم تذكر لنا كيف نام عندها نبي الإسلام مع أنه طلبها للزواج فاعتذرت منه، وقد أورد الخطاب القرآني آية في ذلك إذ قال: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللآتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك...(66).
والإسراء هو السير ليلا وبالجسد - بحسب تفسير الجلالين - وأم هانىء تؤكد أن (رسول الله) نام في بيتها ولم يفارقه تلك الليلة. وكان اللغط في ذلك سببا في ورود آية جديدة في الخطاب القرآني تقول: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" (67). ولا ندري أي مصلحة لله في أن يفتن المؤمنين به!
وانبرت بعد ذلك عائشة ، أصغر زوجاته لتقول: "ما فقد جسد رسول الله (صلعم) ولكن الله أسرى بروحه". وصادق على رؤيتها معاوية ابن أبي سفيان - وكان كاتبا للوحي – فقال: "إنما كانت رؤيا من الله تعالى صادقة".
واختلف الرواة في أن المعراج تم في اليوم نفسه للإسراء. إنما من الثابت أنه إذا كان الإسراء في أصله مأثورا عن اختطاف الرسول بولس ، فإن المعراج مأثور عن رؤيا يوحنا اللاهوتي. ذلك أن أمل لقاء الله وجها لوجه كانت مطمحا لكل نبي.
وبالإسناد عن أبي إسحق عن أبي الخدري عن رسول الله قال: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج (68). ولم أر شيئا قط أحسن منه ، فأصعدني صاحبي (أي جبريل) فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء ، يقال له باب الحفظة. فتلقتني الملائكة ، وكل ضاحكا مستبشرا إلا واحدا ، فقلت لجبرائيل: من هذا الملك ولم لا يضحك ؟ فقال: هذا مالك صاحب النار. فقلت: ألا تأمره فأراها ؟ فأمره فكشف عنها غطاءها، ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى. فقلت: مره فليردها. فأمره ، ثم أدخلني السماء الدنيا فرأيت رجلا جالسا تعرض عليه الأرواح فيقول لبعضها: روح طيبة، والأخرى: روح خبيثة.
فقلت لجبرائيل: من هذا ؟ قال: هذا أبوك آدم. ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الابل ، في أيديهم قطع من نار يقذفونها في أفواههم ، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما.
وبعد أن يصف عذاب آل فرعون في النار وعذاب الرجال الذين تركوا حلالهم إلى (ما حرّم الله عليهم) والنساء المعلقات بأثدائهن (لأنهن أدخلن على رجالهن من ليس من أولادهم) يتابع رحلته إلى السماء الثانية:
فإذا فيها أبناء الخالة ، عيسى بن مريم ويحين بن زكريا ، ثم في السماء الثالثة:
فإذا رجل ، صورته كالبدر. وكان يوسف بن يعقوب. ويصعده جبريل إلى السماء الرابعة ويعرفه على إدريس ثم الى السماء الخامسة فإذا فيها كهل:
لم أر كهلا أجمل منه. سألت جبريل عنه فقال: هو هارون بن عمران. ثم أصعدني الى السماء السادسة فاذا فيها رجل آدم (أسود) ، طويل ، اقنى (المرتفع قصبة الأنف) كأنه من رجال شنؤة (اسم لقبيلة) فقلت لجبرائيل: من هذا ؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران. ثم أصعدني الى السماء السابعة ، فإذا فيها كهل لم أر رجلا أشبه به. قلت: ومن هذا ؟ قال: هذا أبوك ابراهيم.
وكان جالسا على كرسي ، الى باب البيت المعمور (69) يدخله كل يوم سبعون ألف ملك… ثم دخل بي الجنة ، فرأيت فيها جارية لعساء (70).
فسألتها: لمن أنت ؟، وقد أعجبتني حين رأيتها ، فقالت: لزيد بن حارثة (فبشر بها، رسول الله ، زيدا حين عاد من السماء الى الأرض) (71).
ويتابع النبي سرد القصة:
ووصلنا إلى سدرة المنتهى (72) فتراجع جبرائيل ودخلت (فكان قاب قوسين أو أدنى) (73) فسجدت وسلمت. ثم ان الله فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة في اليوم. فأقبلت راجعا ، فمررت بموسى بن عمران فسألني: كم فرض عليك من الصلاة ؟ قلت خمسين صلاة كل يوم. فقال: إن الصلاة ثقيلة أمتك ضعيفة ، فارجع الى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألته، فوضع عني عشرا. فعدت. فقال لي موسى مثل ذلك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا…… وهكذا حتى انتهيت الى خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى ، فقال لي أن أرجع. فقلت قد راجعت ربي وسألته كثيرا حتى استحييت منه فما أنا بفاعل"(74).
موسى ونبي الإسلام - في هذه الرواية - أرحم من الله بعباده ، كل هذا من أجل تخريج الرحلة الفضائية بمكوك إسمه البرا ق ، وبصكوك وعهود ونواميس ممهورة بتوقيع الله. بل إن الرواية نسبت لنبي الإسلام أنه أفاض في تصوير الأنبياء بشكلهم وملبسهم وألوان بشرتهم - ربما ليطمئن الصدّيق أبو بكر. فقد ذكر في وصف المسيح أنه "رجل أحمر ، بين القصير والطويل ، سبط الشعر ، كثير خيلان (الشامات السوداء) الوجه ، كأنه خرج من ديماس (أي الحمام) تخال رأسه يقطر ماءا وليس به ماء . أشبه رجالكم به: عروة بن مسعود الثقفي" (75).
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن "الصخرة المشرفة"، في القدس ، التي يعتقد المسلمون أن نبيهم عرج من فوقها الى السماء فارتفعت معه قليلا عن الأرض بارتفاعه وارتقائه هي في المأثور المسيحي تلك الصخرة التي صعد المسيح من فوقها إلى السماء في جبل الزيتون.

هوامش البحث
1- الأناجيل الأربعة
2- رو 2 : 14 و 15
3- رو 17:14
4- "شرح عقائد النسغي"
5- سورة ق - آية 16
6- متى 6 : 12 – 13
7- لوقا 4:11
8- سورة البقرة الآية 826
9- الجامع الصغير للسيوطي - مصدر سابق - ص 66
10- كشف العمة عن جمع الأمة - ل "الشعراني"- ص 402
11- سورة الروم - آية 171
12- سورة هود - آية 114
13- النصرانية وآدابها - مصدر سابق
14- تاريخ الطبري (ج 729:1)
15- تاريخ ابن خلدون (ج 144:2)
16- "تاج العروس" - سيبويه – (ج 419:5)
17- مصدر سابق (ج 207:1)
18- سورة آل عمران - آية 37
19- لسان العرب (ج 314:4)
20- ارشاد الساري (ج 3:2)
21- النصرانية وآدابها - مصدر سابق ص 177
22- المصدر السابق (الصفحة نفسها)
23- تاج العروس - سيبوية - (ج 363:5)
24- الأغاني - لأبي الفرج الأصفهاني (ج 16:3(
25- سورة البقرة - الآية 185
26- تاج العروس - مصدر سابق (ج 420:5)
27- رواه أحمد
28- رواه الترمذي
29- أطلب معجم البلدان لياقوت الحموي (ج 336:4 – 337)
30- راجع المصدر السابق
31- النصرانية وآدابها (مصدر سابق) نقلا عن Diod III (ص 211)
32- المصدر السابق (ص 14)
33- المصدر السابق (ص 15)
34- المصدر السابق (ص 15)
35- المصدر السابق (ص15)
36- في كتابه "عبقرية خالد بن الوليد"
37- Chauvin: Dela Mecque, Anvers, 1902
38- شعراء النصرانية (الأب لويس شيخو - ص 211 – 212)
39- الأغاني (مصدر سابق) ج 13 ص 109
40- راجع كتاب "تاريخ مكة شرفها الله تعالى وما جاء فيها من الآثار" تأليف ابن الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (مصدر سابق) طبعة ليبزيغ ص 110 - 112
41- راجع المصدر السابق ص 111
42- المصدر السابق ص 113
43- المصدر السابق ص 112
44- تاريخ اليعقوبي (طبعة ليدن) ج ا ص 298
45- الأغاني - مصدر سابق - ج 2 ص 24
46- مصدر سابق
47- تاريخ مكة.... للأزرقي (مصدر سابق) ص 501
48- جغرافية المقدسي (ص77)
49- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (صدر سابق) ج 16 ص 45
50- الخطط - للمقريزي ج 2 - ص474
51- معجم البلدان (مصدر سابق) ج2 - ص 703
52- راجع الأصحاح 21 من سفر التكوين
53- الأغاني (مصدر سابق) ج 21 ـ ص 164
54- شرح الحماسة – التبريزي - ص 235
55- تاريخ مكة .. للأزرقي - مصدر سابق - ص 366
56- المصدر السابق - ص 42 - 43
57- 2 كو/ 2:12 - 4
58- هي دابة بيضاء بين النغل والحمار ، وتستعمل في مواصلات الأنبياء (هكذا ورد)
59- ابن هشام في "السيرة" ج 2 - ص 34 - 35
60- المصدر السابق نفسه
61- كأنه حتى تلك اللحظة لم يكن يصدق رواية نبيه
62- السيرة لإبن هشام (مصدر سابق) ج 2 - ص33
63- سورة الإسراء - الآية الأولى
64- القبطية هي الثياب الداخلية التي نسجت في مصر من الكتان
65- السيرة لإبن هشام (مصدر سابق) ج2 - ص 36
66- سورة الأحزاب - الآية 50
67- سورة الاسراء - الآية 60
68- لم يفسر الرواة ما هو "المعراج"!
69- المقصود باب الجنة
70- النعساء.. امرأة تضرب حمرة شفتيها إلى السواد
71- زيد ، شاب أهدته له خديجة أولى زوجاته فتبناه
72- قيل عنها شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة
73- سورة النجم - الآية 10
74- السيرة لإبن هشام - ج2 - ص 36 - 39
75- المصدر السابق ج 2 ص 35.

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 مقدمـــــة

مدخــــل

ما هي هذه الحكمة الخفية

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام

وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام

الإسرائيليات في الإسلام

الأسفار الحكمية والحديث

صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام

مأساة الكنيسة

هل كان محمد نصرانيا

متاعب الكنيسة في الغرب

الحنيفية والكسائية

موقف نبي الاسلام من المسيحية

والقرطاس عليه الصليب

الصليب ليس وثنا

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية

الانجيل في الحديث والأمثال والحكم

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام

مواطن تأثر الإسلام بالوثنية

المرأة وتعدد الزوجات

تمييز العربي عن غيره

خاتمة الجزء الأول

الصفحة الرئيسية