يوم قبل وفاة محمد

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام



دأب دعاة المسلمين على نعت الفترة التي سبقت البعثة المحمدية بأبشع الأوصاف وأكرهها، حتى يرسخ في ذهن المسلم بأن تلك الحقبة التي سبقت الإسلام تطغى عليها الوثنية ، واستعاروا من القرآن لفظة "الجاهلية" وأطلقوها كمرداف ل "الوثنية" تارة، أو للدلالة على عدم معرفة القراءة والكتابة تارة أخرى.
وكان قد سبق للمسيحيين أن أطلقوا على الزمن الذي سبق ظهور المسيح إسم "الجاهلية" و "أيام الجاهلية" و "زمان الجاهلية"، وذلك استهجانا لأمر الإنسان ومصيره تحت حكم الناموس اليهودي (راجع أعمال الرسل 2 الإصحاح 17 – الآية 30)
ولقد تبينت لفظة الجاهلية في أربعة مواضع، وفي أربع سور من الخطاب القرآني. فقد وردت هذه اللفظة في سورة "آل عمران" (154)، وفي سورة "المائدة" (50) ، وفي سورة "الأحزاب" (33) ، ثم في سورة "الفتح" (26). ويبدو أن الكثير من المفسرين حسب أن معناها هو "الجهل" (ضد العلم والمعرفة) ويتأتى عن ذلك عبادة الأوثان، جهلا بحقيقة الله الواحد، إضافة إلى عدم معرفة القراءة والكتابة. والواقع أن "الجاهلية" والجهل هما ، في اللغة العربية ، من جذور "جهل" أي "سفه" ومعناه نقيض "الحلم" و "الأناة" و "النخوة" و "المروءة" و "التسامح". ودليل ذلك ما ورد في الخطاب القرآني نفسه:
• ففي سورة الفرقان (63) ورد قوله: "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"
• وفي سورة البقرة (67) : "قالوا أتتخذنا هزؤا …… قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
• وفي سورة الأعراف (198): "خذ العفو وإأمره بالعروف واعرض عن الجاهلين"
• وفي سورة هود (46): "إني أعظك أن تكون من الجاهلين"
وسنجد اللفظة ذاتها في كل مكان من سورة هود (46) ، الفتح (26) ، الأنعام (111)، الأعراف (137) ، الأحقاف (23) النمل (55) وكذلك في سور أخرى كثيرة. وفي الآيات جميعها تعني كلمة "جهل" ومشتقاتها ما هو نقيض الحلم والمحبة والروية، والنخوة والغفران والرحمة، ولا تعني في أي آية منها الوثنية، أو عدم معرفة القراءة والكتابة.
لقد ظن دعاة الإسلام أن وصف تلك الفترة ب "الجاهلية" سوف يخدم الإسلام ، لأنهم يرسخون في الإذهان فكرة أن الإسلام جاء ردا على وثنية غلبت على الحياة العربية. مع أن النصرانية واليهودية كانت هي الغالبة. وفي ذلك يتسائل عميد الأدب العربي، طه حسين بقوله: "أفتظن قوما يجادلون في هذه الأشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة، ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة" (1)؟
ويجيب طه حسين بقوله: "كلا لم يكونوا جهالا ولا أغبياء، ولا غلاظا، ولا أصحاب حياة خشنة جافية، وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء ، وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة" (2)
ثم إن القرآن قد تحدى عرب ما قبل الإسلام بقوله: "قل فأتوا بسورة مثله" (3).
والتحدي لا يكون للضعيف بل للقرين الكفؤ ، وإلا لكان التحدي موضع سخرية.
هذا أمر.
والأمر الآخر، أن دعاة المسلمين يغفلون ذكر ما ورثه الإسلام من الوثنية، مع أن الوثنية كانت تقتصر على الأقلية وليس الأغلبية. وسيدهش القراء عندما يعرفون أن الإسلام أخذ الكثير من الوثنية ، مثل فريضة الحج ، والأشهر الحرم ، وحدود الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، فضلا عن بعض المسؤوليات الجزائية مثل القصاص ، الدية ، القسامة ، والعاقلة ……… الخ.
ويبقى من المهم هنا ، أن نوضح الصورة الحقيقة للحالة الوثنية في المجتمع العربي قبيل وإبان ظهور الإسلام.


حقيقة الأوثان

ويقينا، ليس ثمة أغمض من تعريف أوثان بعض العرب قبيل الإسلام. ولو جمعنا كل ما كتبه المؤرخون المسلمون في تصانيفهم التي نجت من الحرق أو الضياع لما وجدنا أكثر من أسطر قليلة تضمنتها معاجم اللغة، ومنها "معجم البلدان" لياقوت الحموي، وما رواه الحاج خليفة في كشف الظنون.
والسؤال هنا: كيف يضيع كتاب مهم لإبن الكلبي عنوانه "أصنام العرب" وكتاب آخر للجاحظ عنوانه "الأصنام" برغم المنقولات عن هذين الكتابين في تصانيف المؤرخين العرب. إن المنقولات في الواقع لا تشفي غليلا لأنها قليلة من جهة، ولأنها كثيرا ما تكون مضطربة ومتناقضة من جهة ثانية. ومع ذلك، يمكن القول بأن ما كتبه الشهرستاني في "الملل والنحل" قد يكون أوسع ما جاء في ذلك ؛ يقول: (4)
"وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل والإنتقال إلى البلدان والإنتجاعات فكانت قريش وعامّة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم يحجّون البيت ويقسمون المناسك ويقرون الضيف ويعظّمون الأشهر الحرم وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم ويعاقبون على الجرائم فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة وكان آخر من قام بولاية البيت الحرام من ولد معد ثعلبة بن اياد بن نزار بن معد. فلمّا خرجت إياد وليت خزاعة حجابة البيت فغيّروا ما كان عليه الأمر في المناسك حتى كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب ومن منى بعد أن تطلع الشمس. وخرج عمرو بن لحيّ، وإسم لحيّ ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، إلى أرض الشام وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون. قالوا: هذه أصنام نعبدها ننتصرها فننصر ونستسقي بها فنسقى. فقال: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب عند بيت الله الذي تفد إليه العرب.
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكّة فوضعه عند الكعبة فكان أوّل صنم وضع بمكّة ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبّله وختم به ونصبوا على الصفا صنما يقال له "مجاور الريح" وعلى المروة صنما يقال له "مطعم الطير" فكانت العرب إذا حجّت البيت فرأت تلك الأصنام سألت قريشا وخزاعة فيقولون: نعبدها لتقر بنا إلى الله زلفى. فلمّا رأت العرب ذلك اتّخذت أصناما فجعلت كل قبيلة لها صنما له تقرّبا إلى الله فيما يقولون. فكان لكلب بن وبرة وأحياء قضاعة ودّ منصوبا بدومة الجندل بجرش. وكان لحمير وهمدان نسر منصوبا بصنعاء وكان لكتابه سواع. وكان لغطفان العزّى وكان لهند ومجيلة وخثعم ذو الخلصة. وكان لطىء الفلس منصوبا بالحبس. وكان لربيعة وإياد ذو الكعبات بسنداد من أرض العراق. وكان لثقيف اللات منصوبا بالطائف. وكان للأوس والخزرج مناة منصوبا بفدك ممّا يلي ساحل البحر. وكان لدوس صنم يقال له سعد. وكان لقوم من عذرة صنم يقال له شمس. وكان للأزد صنم يقال له رثام".
أفترض أننا سنضيف إلى لائحة الأصنام التي ورد ذكرها آنفا أسماء آلهة أخرى ورد ذكرها في بعض التواريخ والشروح والمعاجم، مثل: رضا، مفاف ، جلسد ، سعير ، والقصير. فإن العد لن يبلغ بالقارىء إلى أكثر من ثلاثين صنما. ومعظمها لم يعبد في جزيرة العرب، مثل "ود" ، "سواع" ، "يغوث" ، "يعوق" و "نسر" الذين ذكر أنهم من آلهة قوم نوح ، كما أورد الخطاب القرآني (5). وإذا ذاك كيف يزعم إبن إسحق وابن هشام أن عدد الأصنام في الكعبة كان 360 صنما على عدد أيام العام الواحد.
إن هذا يعيدنا إلى ما ذكرته آنفا من أن المبالغة في تضخيم صورة الحالة الوثنية كان دأب الدعاة المسلمين، للإيحاء بأن الإسلام جاء ردا على عبادة الأوثان. بل إن هؤلاء الدعاة انساقوا في إتجاه آخر للإيحاء بأن الوجود النصراني في الجزيرة العربية اقتصر على مجموعة من الرهبان الذين تباعدت صوامعهم على الطريق بين مكة والشام.
يذكر الأب شيخو (6) إن الإكتشافات الحديثة جاءت كلها. لتدحض ما زعمه رينان من أن الشعوب السامية عموما والعربية خصوصا كانت تقول بالتوحيد، لا عن وحي
خاص ، بل عن غريزة "لأن عقل الساميين على زعمه مطبوع من أصله على البساطة ، وكانت غايته من ذلك أن ينكر الوحي بالإله الواحد إلى بني إسرائيل". ويضيف الأب شيخو (7) أن العرب في الجاهلية عاشوا في الشرك مدة قرون عديدة "أما شركهم فكان تأليه قوى الطبيعة إجمالا والأنوار العلوية خصوصا".
والواقع أن الأب شيخو فاته في هذا المجال أن بعض الفراعنة سبق بني إسرائيل إلى التوحيد قبلهم أيضا. وليس هذا هو بيت القصيد. فقد فات الأب شيخو ـ رغم غزارة علمه ورجاحة عقله ـ أن مقياس الرسول الذي أقيم بدلا من يهوذا الأسخريوطي وسار إلى بلاد الشراة فبشر فيها بالمسيح، قد علّم القبائل العربية في الجزيرة بأن المسيح هو النور الحقيقي، نور الحياة، وأن العربي في ذلك الوقت لا يستطيع أن يؤمن بشيء لا يراه، فإن كان لا يرى إلهه فإن محتوم عليه أن يرمز إليه برمز، ومن ذلك تأليهه للأنوار العلوية والسيارات والشمس، وأنه لما كانت الشمس هي النور العظيم فإن عبادتها فاقت كل ما سواها. وكنت أود لو ألفت الأب شيخو في حياته إلى أن النبطيين الذي يعبدون ذي الشرى (أي الشمس) قد جعلوا يوم 25 كانون الأول ـ يناير من كل عام عيدا للإله المنير. وهذا التاريخ يوافق عيد مولد المسيح الذي تحتفل به غالبية المسيحيين كل عام.
أعود هنا للتذكير بأن الكثير من شواهد كتبة اليونان والسريان والعرب تثبت كرازة رسل المسيح في أحياء العرب. ويذكرون منهم متى وبرتلماوس ومتيا وتدّارس وتوما. وقد نقل المؤرخون المسلمون بعض هذه الشواهد كالطبري (10)، وأبي الفداء (11)، والمقريزي (12)، وابن خلدون (13)، والمسعودي (14)، هذا فضلا عن بعض تلاميذ الرسل ممن تناقل الرواة خبر بشارتهم بين العرب مثل فيليبس الشماس، وتيمون تداى. ولكن عزلة بطون القبائل أحيانا، وانقطاع البشارة أحيانا أخرى كان يؤدي في الغالب إلى أن يشذ هذا البطن أو ذاك عن عبادة المرموز له إلى عبادة الرمز نفسه.
وإذا، إن كنت لا أنفي إن بعض القبائل العربية قد تحول تدريجيا عن عبادة المرموز إلى الرمز نفسه لإنقطاع في التبشير والتعليم. فإنما أؤكد في الآن ذاته، أن العرب من بين الساميين قد عرفوا التوحيد في فترات محددة ومتقطعة.
وبالإضافة إلى عبادة الأنوار العلوية والسيارات عرف العرب عبادة "اللاة" وهي صخرة بيضاء مربعة كانت تعبدها ثقيف في الطائف. واليوم أجمع الأثريون على أن "اللاة" هي الزهرة. والعرب يدعونها "أليتا" وقد أصلحوا إسمها فدعوها الإلات وهو اختصار "الإلاهات" كما اختصروا كلمة "الإله" فقالوا "الله"، كما اختصروا "الإلات" فقالوا "اللات".
والزهرة نفسها أسماها بعض العرب "العزّى" وقد تسمى بإسمها كثير من العرب، فكان الواحد منهم يدعى ب "عبد العزى".
ومن أسماء العزّى أيضا "مناة". وهي على ما يروي ياقوت الحموي (8) _ كانت صنما أتى به عمرو بن لحي. وذكر في محل آخر (9) أن اللات أخذت من مناة. وكان بعض عرب ما قبل الإسلام يجعلون الآلهه أزواجا، لكل ذكر أنثاة. فكان لآلهة الشمس زوجها "البعل" وهو من أصنام العرب ـ أما ذكر العزى فهو الإله "عزيز". وذكر "اللات" هو "اللاه".
ومما يلحق بعبادة الكواكب والنيرات عند بعض عرب ما قبل الإسلام إكرامهم لزحل والشعرى والجوزاء، أي الجبار ، والدبران ، والثريا ، وقزح الذي كان يكرم قرب مكة.
وكانوا ينعتون آلهتهم بأوصاف شتى، فقد وجدت في الكتابات الحميرية والنبطية ذكر تقادم للإله مالك وللإله رحمان، وللإله رحيم ، وللإله عزيز الذي سبق ذكره..

حمل هذا الكتاب

الصفحة الرئيسية

 مقدمـــــة

مدخــــل

ما هي هذه الحكمة الخفية

صورة الفكر اليهودي والمسيحي إبان ظهور الاسلام

وضع اليهود عامة إبان ظهور الإسلام

الإسرائيليات في الإسلام

الأسفار الحكمية والحديث

صورة الفكر النصراني قبيل وإبان ظهور الإسلام

مأساة الكنيسة

هل كان محمد نصرانيا

متاعب الكنيسة في الغرب

الحنيفية والكسائية

موقف نبي الاسلام من المسيحية

والقرطاس عليه الصليب

الصليب ليس وثنا

الآثار النصرانية في العبادات الإسلامية

الانجيل في الحديث والأمثال والحكم

الوثنية قبيل وإبان ظهور الإسلام

مواطن تأثر الإسلام بالوثنية

المرأة وتعدد الزوجات

تمييز العربي عن غيره

خاتمة الجزء الأول

الصفحة الرئيسية