يسُوع المسِيح الإله وَالإنسَان

توطئَة

رأينا في الفصل السابق أن العهد الجديد يرى في يسوع إنساناً حُبِل به من الروح القدس في أحشاء مريم العذراء ووُلد وترعرع وعلّم وصنع المعجزات ثم صُلِب ومات وقام. وتعلن جميع أسفار العهد الجديد أن هذا الانسان هو نفسه المسيح المنتظر وابن البشر الذي أرسله الله في ملء الأزمنة لينشئ ملكوت الله، وتشهد أن هذا الانسان الذي عاش في الزمن هو ابن الله وكلمة الله الكائن منذ الأزل مع الله.
فيسوع إذاً هو إله وإنسان في آن واحد. ولكن كيف يتّحد الانسان والاله في شخص واحد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي حاول اللاهوتيون وآباء الكنيسة الإجابة عليه منذ القرون المسيحية الأولى، فكتبوا مقالات كثيرة وعلّموا في جميع كنائس الشرق والغرب. وتبيّن للبعض أن تعاليم البعض الآخر حول المسيح يسوع قد حادت عن الايمان القويم، فاتهموهم بالهرطقة. ولحسم الخلافات القائمة بين هؤلاء وأولئك عقدت المجامع المسكونية، وهي مؤتمرات دينية يجتمع فيها أساقفة من كنائس المسكونة كلها في الشرق والغرب لتحديد عقائد الايمان المسيحي. وكان كل مجمع مسكوني يصدر وثائق يعلن فيها إيمان الكنيسة القويم وعقائدها الثابتة، ويرشق بالحرم تعاليم المبتدعين والهراطقة.
لذلك يمكننا القول ان عقائد الايمان التي أعلنتها المجامع المسكونية الأولى كانت كلها، في صياغتها وتعابيرها، موجّهة ضد الهراطقة. ولو لم تقم في الكنيسة بِدَع وهرطقات لاكتفت الكنيسة في تعاليمها بتعاليم المسيح والرسل كما وردت في مختلف أسفار العهد الجديد. إلاّ أنّ البدع والهرطقات التي ظهرت منذ نشأة الكنيسة أرغمت أساقفة الكنيسة ومعلّميها علىِ توضيح تعاليم المسيح والرسل في صيغ وتعابير جديدة. وقد كان هذا التوضيح ضرورياً للإحاطة بسرّ يسوع المسيح الانسان والإله وتحديد أبعاد إنسانيته وأُلوهيته.
لا بد من الاشارة إلى أن المجامع المسكونية لم تدخل شيئاً جديداً على إيمان المسيح والرسل كما ورد في أسفار العهد الجديد. إلاّ أنّها عبّرت عن هذا الإيمان بطُرُق جديدة. فبينما اقتصر العهد الجديد على إظهار يسوع يتصرف في حياته كإنسان وإله، أوضحت المجامع المسكونية كيف يتّحد العنصران الانساني والالهي في شخص يسوع الواحد، فأدخلت في العقائد الإيمانية ألفاظاً فلسفية استقتها من الفلسفة اليونانية السائدة آنذاك، كالأقنوم والشخص والطبيعة والجوهر، وقالت ان المسيح هو شخص واحد في طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية.
إلاّ أنّ تلك الألفاظ لم يكن لها المعنى ذاته في جميع المدارس الفلسفية المنتشرة في أنحاء العالم المسيحي. وقد حدث مراراً أن اتهمت الكنائس بعضها بعضاً بالهرطقة، مع أن الخلاف بينها لم يكن على الايمان بل على الألفاظ والتعابير. إلى جانب هذا الاختلاف في الألفاظ، لا شك أنه كانت هناك بِدعَ حقيقية وتيّارات فكرية خاطئة حرمتها المجامع المسكونية في إعلانها عقائد الإيمان القويم.
لذلك يجب التمييز، في ما أعلنته المجامع المسكونية، بين أمرين: فهناك أولاً الإيمان الذي لا يمكن أن نحيد عنه، وهو نفسه إيمان المسيح والرسل في جميع أسفار العهد الجديد، وهناك ثانياً الألفاظ والتعابير التي فرضتها المجامع المسكونية، وقد اعتبرتها الأدقّ والأصحّ من بين جميع الألفاظ والتعابير المتداولة في زمانها للتعبير عن هذا الإيمان. فتلك الألفاظ والتعابير يمكن مجامع مسكونية أخرى إعادة النظر فيها وتطويرها وفقاً لتطوّر المفاهيم الفلسفية على مدى التاريخ.
ما هو إيمان المجامع المسكونية في ما يختص بيسوع المسيح؟ وما هي الألفاظ والتعابير التي اختارتها للتعبير عن هذا الإيمان؟

القِسم الأول
يسوع المسيح إنسان حقيقي
1- يسوع هو الكلمة المتجسّد

"الكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا" (يو 1: 14). بهذه العبارة يؤكد يوحنا أن يسوع هو إنسان حقيقي. ولفظة "جسد" تعني هنا الانسان بكامله، وليس فقط جسد الانسان دون نفسه. فعبارة "صار جسداً" تعني صار إنساناً أو، بترجمة أدقّ، "صار بشراً". فإن اللفظة اليونانية المستعملة هنا هي لفظة ، وهي ترجمة اللفظة العبرية "بَسَر" التي يقابلها بالعربية "بشر". فما يريد يوحنا تأكيده هو أن كلمة الله الكائن منذ الأزل عند الله قد دخل في عالمنا وأصبح بشراً وإنساناً مثلنا، "فسمعناه، ورأيناه بأعيننا، وتأملناه، ولمسته أيدينا"، كما يقول في مستهلّ رسالته الأولى الجامعة (1: 1). ويجعل الايمان بتجسّد الكلمة العلامة المميّزة للإيمان الذي يسير بحسب روح الله. فيقول في رسالته الأولى: "أيها الأحباء، لا تركنوا الى كل روح، بل اختبروا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا الى العالم. بهذا تعرفون روح الله: ان كل روح يعترف بأن يسوع المسيح قد أتى في الجسد، هو من الله؛ وكل روح لا يعترف بيسوع ليس من الله، بل هذا روح المسيح الدجّال الذي سمعتم أنه يأتي؛ إنه، الآن، في العالم" (4: 1- 3). ويعود الى الفكرة ذاتها في رسالته الثانية فيقول: "انه قد انتشر في العالم مضلّون كثيرون، لا يعترفون بيسوع المسيح الذي أتى في الجسد".


المظهرية (docétisme)
يبدو أن يوحنا يشير في قوله هذا الى فريق من "الغنوصيين" أو "أصحاب المعرفة"، الذين انتشروا بين المسيحيين منذ نهاية القرن الأول. والمعرفة، في رأي هؤلاء المبتدعين الذين يعود أصلهم الى ما قبل المسيحية، لا يصل إليها الإنسان إلا إذا تخلّى عن عالم المادة والجسد، الذي كانوا يعتبرونه عالماً فاسداً في جذوره. لذلك رفضوا الإيمان بأنّ المسيح كان له جسد حقيقي، بل كانوا يعتقدون أنه اتخذ "مظهر جسد" أو "شبه جسد"، لذلك دعوا "بالمظهريين" أو "الشبهيين" (docétes)
ان تجربة المظهرية رافقت الفكر المسيحي على مدى العصور، ولا تزال قائمة في أذهان كثيرين من المسيحيين، حتى في عصرنا الحاضر. فيسوع، في نظر هؤلاء المسيحيين، إله يمشي على الأرض مستتراً في شبه جسد بشري. لذلك لم يحتمل مشاقّ الطبيعة البشرية كما يحتملها سائر الناس. وإن جاع وعطش وتعب وتعذّب، فكونه إلهاً يجعله يحتمل كل تلك المصاعب دون أيّ ألم.
القديس اغناطيوس الانطاكي
لقد قاوم آباء الكنيسة منذ القرون الأولى ذلك التيار الفكري في مختلف مظاهره. فالقديس اغناطيوس الانطاكي يؤكّد أن إنكار حقيقة بشرية المسيح هو في الوقت نفسه إنكار حقيقة الفداء، لأنه إن لم يكن ليسوع سوى جسد ظاهري، فهو لم يتألّم إلاّ ظاهرياً، ونحن لم نحصل على الفداء إلاّ في الظاهر؛ وكذلك تصبح الافخارستيا مجرّد مظهر؛ ويصبح بذلك مناقضاً للعقل أن نتألم في الجسد لأجل يسوع ونحتمل لأجله الاضطهاد، فكل شيء يتلاشى في تلك الظواهر. لذلك يدعو اغناطيوس المسيح "حامل الجسد".

القديس ايريناوس
يعود القديس ايريناوس، أسقف ليون، الى الموضوع نفسه، ويستند في تفكيره الى المبدأ التالي الذي سوف عبده في كل التقليد اللاحق: "إن المسيح، لأجل محبته اللامتناهية، قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله". فالمسيح هو قمة التاريخ البشري ومثال الإنسان الجديد. لذلك عاش في جسده وفي حياته البشرية جميع مراحل تطور الحياة البشرية من الطفولة حتى كمال الله.

2- التجسّد يفرض وجود نفس بشرية في المسيح
لا نجد في العهد الجديد أي تساؤل أو شك حول وجود نفس بشرية في المسيح. على العكس من ذلك فالأناجيل تؤكد وجود تلك النفس في المسيح، ولا سيمَا عندما تصفه وهو يعبّر عن عواطفه، كالفرح (لو 10: 21)، والصداقة (يو 11: 3؛ مر 10: 21)، والشفقة (متّى 9: 36؛ 15: 32)، والحزن حتى البكاء (لو 19: 41، 42؛ يو 11: 33)، والغضب (متّى 16: 23؛ مر 3: 5؛ يو 2: 15)، وكلها عواطف تصدر عن النفس البشرية.
وكذلك يتحدّث الانجيليون عن طاعة يسوع وخضوعه لإرادة الآب. فالكلمة الأولى التي يضعها إنجيل لوقا على فمه هي قوله لمريم ويوسف عندما طلباه ووجداه في الهيكل وسط العلماء: "لمَ تطلبانني؟ ألم تعلما أني ملتزم بشؤون أبي؟" (لو 2: 49). والكلمة الأخيرة قبل موته هي صلاته للآب: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). ويذكر الانجيليون انه كان يصلّي مراراً (مر 1: 35)، بل يقضي ليالي في الصلاة (لو 6: 12) ويصفونه في نزاعه في بستان الزيتون "يرتاع ويكتئب" (مر 14: 33)، إلاّ أنه يستسلم بملء حريته لإرادة الآب: "أبّا، أبتاه! إنّ كل شيء ممكن لديك، فأجِزْ عني هذه الكأس! ولكن، ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت!" (مر 14: 36).
لقد عرف يسوع كل شيء من الطبيعة البشرية ما عدا الخطيئة، كما تقول الرسالة الى العبرانيين: "ان الحبر الذي لنا ليس عاجزاً عن الرثاء لأسقامنا، بل هو مجرّب في كلّ شيء، على مثالنا، ما خلا الخطيئة" (عب 4: 15).
إن إنكار النفس البشرية في المسيح قد دعا اليه في القرن الرابع آريوس الاسكندري وأبوليناريوس أسقف اللاذقية. فآريوس قد اشتهر برفضه أزلية الكلمة وبالتالي ألوهية المسيح ومساواته للآب في الجوهر، إلاّ أنّه ادّعى أيضاً أن الكلمة قد حلّ في المسيح محلّ النفس البشرية. أما أبوليناريوس أسقف اللاذقية فكان يؤمن بألوهية المسيح، إلاّ أنّه في تفسيره لوحدة الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص المسيح، اعتقد أن تلك الوحدة لا يمكن أن تتمّ إلاّ اذا اعتبرنا أن الكلمة قد اتخذ جسداً بشر دون نفس بشرية. ثم عدّل موقفه في كتاباته الأخيرة فاستخدم تقسيم أفلاطون للإنسان ثلاثة عناصر: الجسد، والنفس الحسيّة المشتركة بين الإنسان والحيوان ( )، والنفس الروحية أو العاقلة الخاصة بالإنسان ( ). وقال ان الكلمة اتخذ من الطبيعة الانسانية الجسد والنفس الحسّيّة، لكنه لم يتخذ النفس الروحية. واستشهد بقول يوحنا الانجيلي: "الكلمة صار جسداً"، وليس "الكلمة صار روحاً". وفي تفسير نظريته استند أولاً إلى مبدأ فلسفي يقول بأنه يستحيل على جوهرين كاملين أن يتحدا فيصيرا كائناً واحداً. ودعم حجته ببرهان لاهوتي يذهب إلى أنّ المسيح لو كان له نفس بشرية روحية، لتعرّض للخطيئة واستحال عليه فداء البشرية.
فلضمان قداسة المسيح، اعتبر أبوليناريوس الإله الكلمة المبدأ والمحرّك الأوحد لجميع أعمال المسيح وتصرّفاته البشرية. فالفداء، في نظره، هو فقط عمل الإله الكلمة في المسيح، أما الطبيعة الانسانية فكانت مجرّد ثوب لبسه الكلمة ليقوم بعمله الخلاصي.
إن تفسير أبوليناريوس للتجسّد والفداء مبني على نظرة خاطئة لعلاقات الله والانسان في العالم. فبموجب تلك النظرة، هناك تناقض جذري بين عمل الله وعمل الإنسان وبين حرية الله وحرية الإنسان، بحيث لا يمكن أن يوجدا معاً. وعندئذٍ يحلّ الله محلّ الانسان، ويفقد الانسان حريته وقيمة عمله.
لقد رفضت الكنيسة نظرة أبوليناريوس وحرمت تعاليمه في عدّة مجامع ولا سيّمَا في مجمع خلقيدونية المنعقد سنة 451، حيث أعلنت أن المسيح "إله حق وإنسان حق مكوّن من نفس عاقلة وجسد، وانه مساوٍ للآب في اللاهوت ومساوٍ لنا في الناسوت، وقد صار بشراً مثلنا في كل شيء ما خلا الخطيئة". وسنعود الى هذا النصّ العام في القسم الثالث من هذا البحث.
وقد فسّر آباء الكنيسة رفضهم لتعاليم أبوليناريوس بقولهم ان فداء الجسد لا يمكن أن يتمّ إلا بواسطة جسد المسيح، وكذلك فداء النفس لا يمكن أن يتمّ إلا بواسطة نفس المسيح. في هذا يقول أوريجانيس: "لو لم يكن المسيح إنساناً كاملاً، لاستحال خلاص الانسان بكامله". وكذلك يقول القديس غريغوريوس النزينزي: "ان أيّ شيء فينا لا يمكن أن يشفى ويخلص إلا باتحاده بالله". لذلك لو لم يتّخذ كلمة الله في شخص يسوع المسيح نفساً بشرية روحية، لمَا خلصنا في كياننا الروحي.
وعلى برهان أبوليناريوس الفلسفي من أن جوهرين كاملين، أي الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية، لا يمكن أن يتحدا في كائن واحد، أجاب آباء الكنيسة واللاهوتيون على مدى العصور أنّ الطبيعة الانسانية ليست جوهراً منغلقاً على ذاته، إنما تتضمّن من صلب كيانها انفتاحاً على ما يتخطّاها، وهذا الانفتاح هو من خصائص النفس لا من خصائص الجسد، لذلك لا يمكن أن يتّحد الكلمة بجسد بشري تنقصه نفس بشرية، لأن الجسد وحده دون النفس لا يستطيع أن ينفتح على ما يتخطّاه؛ فالنفس البشرية هي إذاً عنصر أساسي لا بدّ من وجوده في المسيح لكي يتمّ فيه اتحاد الكلمة بالطبيعة الانسانية.


القِسم الثَاني
يسوع المسيح إله حقيقي

سنة 325 أعلن الآباء الملتئمون في مجمع نيقية إيمانهم "برب واحد يسوع المسيح، إبن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر". وكان هذا الإعلان لألوهية المسيح جواب الكنيسة الرسمي في أول مجمع مسكوني على نقاشات حادّة دارت بين اللاهوتيين حول تعاليم آريوس الاسكندري الذي كان يقول ان كلمة الله الذي صار إنساناً في شخص يسوع المسيح ليس أزلياً ولا مساوياً للآب في الجوهر، إنما هو أول خليقة خلقها الله.
لم تكن بدعة آريوس البدعة الوحيدة التي أنكرت ألوهية المسيح في القرون المسيحية الثلاثة الأولى، لكنها حلقة هامة من سلسلة طويلة رافقت تاريخ المسيحية منذ نشأتها. لا نستطيع في هذا البحث التبسّط في تاريخ كل تلك البدع وتعاليمها، لأن هذا يتطلّب عدّة مجلّدات ولا يهمّ إلا الأخصّائيين. فرأينا أن نجمع تعاليم المبتدعين الذين أنكروا ألوهية المسيح في ثلاثة تيارات أو اتجاهات عقائدية خاطئة حرمتها الكنيسة إذ رأت أنها، في عرضها لسرّ المسيح وعلاقته بالله الآب، قد شوّهت تشويهاً جسيماً وجه المسيح ووجه الآب.

1- الشكلانية (Modalisme)
الاتجاه الأول أراد المحافظة على وحدانية الله ووحدانية مبدأ الكون، لكنه رأى أن تلك الوحدانية لا يمكن أن تثبت إذا آمنّا بوجود ثلاثة أقانيم في الله؛ لذلك اعتقد أن الثالوث الأقدس ليس في الواقع إلا أقنوماً واحداً ظهر لنا في ثلاثة أشكال أو أحوال: حال الآب، وحال الابن، وحال الروح القدس. وعليه دعيت تلك البدعة "الشكلانية" أو "الحالانية" (modalisme)، أو بدعة المبدأ الواحد (Monarchianisme)
فالتمييز في الله، بموجب تلك البدعة، ليس بين أقانيم متساوية في الجوهر؛ بل بين أحوال وأشكال ثلاثة اتخذها الإله الواحد في الزمن. لذلك نستطيع أن نخلع عليه ثلاثة أسماء، فندعوه تارة الآب لأنه مبدأ الكون وخالقه، وتارة الابن لأنه تجسّد وصار إنساناً، وتارة الروح القدس لأنه يملأنا بحضوره.
لقد انتشرت هذه البدعة في آسية الصغرى ورومة وشمالي أفريقية في أواخر القرن الثاني وفي النصف الأول من القرن الثالث. ومن أهم دعاتها نوئيطوس الذي بشّر في أزمير بين سنة 180 وسنة 200، وبراكسياس الذي نشر تعاليمه في قرطاجة ورومة، وصابيليوس أسقف بطوليمَائيس في الخمس المدن، وقد كان له تلامذة كثيرون في رومة، ودُعيت البدعة نفسها أيضاً باسمه: الصابيلية.
نجد دحضاً لتعاليم نوئيطوس في كتاب "دحض جميع الهرطقات" المنسوب إلى القديس ايبوليتوس الروماني (170- 235)، ودحضاً لتعاليم براكسياس في كتاب لترتوليانوس عنوانه "ضد براكسياس". ويذكر المؤرّخ افسافيوس أسقف قيصرية في كتابه "تاريخ الكنيسة" (7: 6) أن ديونيسيوس أسقف الاسكندرية (190- 264) كان ينعت أصحاب تلك البدعة بالتجديف والكفر وعدم الاحترام للآب والابن والروح القدس. كما نجد ذكر الصابيلية بين البدع التي يجب نبذها، في القانون الأول من قوانين المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية سنة 381، وكانت تلك البدعة قد فقدت عندئذٍ قوّتها كتنظيم خاص، إلاّ أنّ آراءها كانت لا تزال شائعة عند بعض فئات من الناس.
لماذا حرمت الكنيسة تلك البدعة؟ وماذا نستطيع أن نستنتج من هذا الحرم بالنسبة الى إيماننا بالمسيح؟
يقوم ضلال تلك البدعة على أنها لم تميّز في الله بين الأقانيم الثلاثة والجوهر الواحد. اعترفت بألوهية المسيح، لكنها قالت ان المسيح هو نفسه الله الآب. وينتج من هذا القول أن الآب نفسه هو الذي تجسّد في الزمن في أحشاء مريم العذراء ووُلد منها طفلاً وتألّم وصُلب ومات وقام، ممّا يناقض مناقضة صريحة كل تعاليم العهد الجديد حول المسيح والآب. فالمسيح الذي عاش على الأرض هو ابن الله الذي جاء ليتمّم في حياته إرادة أبيه؛ والابن والآب أقنومان أو شخصان متميزان؛ والابن هو الذي، تتميماً لإرادة الآب، قبل الألم والصلب والموت؛ أما الآب فبقي منزّهاً عن الجسد والألم والموت.
إنّ ما أكّدته الكنيسة في رفضها تعاليم تلك البدعة، وما يجب أن نؤكّده اليوم أيضاً، هو سموّ الله وتعاليه في سرّ التجسّد. فالله "هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد"، لا يمكن أن يتحوّل فيصير من حال إلى حال، ولا أن يتغيّر فينتقل من شكل الى شكل. هذا ما تعلنه المسيحية في رفضها القول بتجسّد الآب. وفي هذا تتّفق مع سائر الديانات التي تؤمن بالإله الواحد، كاليهودية والإسلام، إلاّ أنّها تدخل كثر من تلك الديانات في سرّ الله، فتؤكّد، إلى جانب سموّ الله وتعاليه، قربه من الانسان. والله لم يقترب من الانسان فقط، كما في اليهودية والاسلام، بما أوحاه إلى أنبيائه وبالكلام الذي تكلّم به على ألسنتهم، فالمسيحية تؤمن أن اقتراب الله من الانسان هو اقتراب شخصي. فكلمة الله هو نفسه صار بشراً، والكلمة هو شخص في الله: انه الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. وهذا الأقنوم هو الذي أخذ من مريم العذراء طبيعة بشرية وصار إنساناً خاضعاً مثلنا للألم والموت.
إلاّ أن المسيحية تعود فتؤكّد، في شخص المسيح أيضاً، سموّ الله، فتقول ان المسيح لم يخضع للألم والموت إلا في طبيعته البشرية. وهذا ما ستوضحه الكنيسة في المجامع اللاحقة التي سنأتي على ذكرها في القسم الثالث من هذا البحث.

2- التبنّويّة (Adoptianisme)
الاتجاه الثاني الخاطئ الذي يؤدّي إلى إنكار ألوهية المسيح انطلق أيضاً من التمسّك بوحدانية الله، فأنكر الثالوث الأقدس، واعتقد أن يسوع المسيح ليس سوى إنسان تبنّاه الله ومنحه سلطة إلهيّة لتتميم رسالته.
لقد سار في هذا الاتجاه منذ القرن الأول بعض النصارى من اليهود، الذين آمنوا أن يسوع هو المسيح، لكنهم رفضوا الاعتراف بأنه ابن الله المولود من الآب منذ الأزل. ومن بين هؤلاء اليهود النصارى يذكر القديس ايريناوس في القرن الثاني بدعة الابيونيين الذين كانوا يقولون ان يسوع هو مجرّد إنسان وُلد من مريم ويوسف، وانه كان أقدس جميع الناس، وقد حلّ عليه في أثناء معموديته كائن سماوي هو المسيح. وتلك البدعة لم تكن تعترف إلا بإنجيل متّى، وكانت تعتبر بولس الرسول كافراً وترفض كل رسائله وتعاليمه، وتلتزم جميع تعاليم الناموس الموسوي ووصاياه.
وفي أواخر القرن الثاني، دعا أيضاً إلى إنكار ألوهية المسيح ثيوذوتس البيزنطي الذي جحد إيمانه في أثناء اضطهاد حدث ضد المسيحيين، فهرب من بيزنطية والتجأ إلى رومة؛ ولتبرير جحوده قال انه لم ينكر إلهاً، بل أنكر إنساناً، لأن المسيح ليس سوى إنسان.
وأشهر القائلين ببدعة التبنوية، وقد دُعيت كذلك لأنها تقول ان يسوع هو مجرّد إنسان تبنّاه الله، بولس السميساطي الذي نشأ في "ساموساطة" في ما بين النهرين على الفرات، ثم صار أسقفاً على انطاكية من سنة 260 حتى سنة 272، حين حرمه مجمع محلّي وأقاله عن كرسيّه. وكان يقول ان الله والكلمة شخص واحد كالانسان الذي يكوّن هو وفكره شخصاً واحداً. أما يسوع فاعتبره مجرّد إنسان متّحد بالله اتحاداً عرضياً. فالله قد ملأه، اكثر من سائر الأنبياء، من الحكمة الإلهية والقوة الإلهية. فلا مانع إذاً من أن ندعوه إلهاً، ولكن ليس بصورة بيانية. لذا كان أتباع بولس السميساطي يذكرون اسم الآب والابن والروح القدس في إتمام سرّ المعمودية، ولكنهم لم يستعملوا تلك الكلمات بمعناها الحقيقي. لذلك حدّد القانون 19 من قوانين المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية سنة 325: "ان أتباع بولس السميساطي اللاجئين الى الكنيسة الجامعة، يجب أن تعاد معموديتهم".
إن ما أرادت الكنيسة تأكيده في رفضها تعاليم بدعة التبنّوية هو أنّ يسوع ليس مجرّد إنسان. لو كان يسوع فقط إنساناً مثلنا، لكان أيضاً مثلنا في علاقته بالله. وعندئذٍ يمكننا أن نتسائل: لماذا نتبعه هو، ولا نتبع معلماً آخر؟ ولماذا نبشّر به وندعو الناس إلى أن يعتمدوا باسمه؟ يعلن الايمان المسيحي أن علاقة الانسان بالله يجب أن تمرّ بالمسيح، لأنّ المسيح لم يكن مجرّد إنسان كسائر الناس، ولا مجرّد نبيّ كسائر الأنبياء، واتحاده بالله لم يكن اتحاداً عرضياً، بل كان اتحاداً جوهرياً: انه من ذات جوهر الآب. وهذا ما ستؤكده الكنيسة بوضوح في رفضها تعاليم آريوس.

3- الآريوسية
بدعة آريوس

اتخذت الآريوسية اسمها من الكاهن المبتدع آريوس. كان ليبيّ المنشأ، وتعلّم في مدرسة انطاكية لدى لوكيانوس الشهير، ثم انتقل إلى مصر حيث رُسم كاهناً سنة 310، وأصبح خادماً لإحدى كنائس الإسكندرية، وبسبب تعاليمه المناقضة للإيمان القويم، حرمه مجمع محلّي عُقد في الاسكندرية سنة 320 برئاسة الاسكندر أسقف تلك المدينة، فالتجأ الى نيقوميذية حيث كان أسقفاً صديقه أوسابيوس المؤرخ، وألّف هناك، لنشر تعاليمه، كتاب "الوليمة"، وهو مزيج من النثر والشعر والأناشيد الدينية الشعبية. وانتشرت أفكاره وتعاليمه في مختلف كنائس الشرق والغرب، وانقسم المسيحيون بين مساند له ومناوئ. فالتأم في نيقية سنة 325 المجمع المسكوني الأول وحرم بدعته، فنفاه عندئذ الامبراطور قسطنطين، إلاّ أنّه عاد فعفا عنه بعد بضع سنوات. لكن اثناسيوس أسقف الاسكندرية رفض استقباله، فحصل له أتباعه أن يلتحق بإكليروس القسطنطينية، إلاّ أنه توفي سنة 336 قبل دخوله المدينة.
إنّ تعاليم آريوس يمكن إيجازها في النقاط التالية:
ء) إنّ الله واحد أحد، أزلي غير مولود، وكل ما سواه من الكائنات مخلوق من العدم بإرادته الحرة.
ب) إنّ الكلمة كائن وسط بين الله والخلائق؛ فالله قد خلقه من العدم قبل سائر الخلائق، ثم أعطاه أن يخلق جميع المخلوقات؛ لذلك نستطيع أن ندعوه إلهاً، فهو إله ثانٍ أدنى من الله. وهذا التمييز بين الإله الأول والإله الثاني، استقاه آريوس من الفلسفة الأفلاطونية.
ج) كذلك نستطيع أن ندعو الكلمة "ابن الله" أو "مولوداً من الله"، الاّ أنّ تلك البنوّة الالهية ليست في الواقع إلا تبنّياً. فالكلمة ليس من جوهر الله، إنما تبنّاه الله منذ خلَقه، استباقاً لاستحقاقاته. وفكرة التبنّي هذه أخذها آريوس عن بولس السميساطي.
د) إنّ الكلمة، بما أنّه مخلوق، فهو معرّض من طبيعته للخطيئة، لكنه في الواقع استطاع أن يحيا حياة قداسة وكمال ولم يسقط قط في الخطيئة. فهو أدنى من الله، ولكنه أقدس جميع الخلائق، ولا يمكن أن يُخلق كائن أعلى منه.
هـ) إنّ الروح القدس هو أوّل خلائق الكلمة، وهو أيضاً ليس من جوهر الله.

مجمع نيقية
سنة 325 التأم في نيقية حوالى 300 أسقف، وحكموا على آريوس وأعلنوا تعاليمه مناقضة للإيمان القويم، وأوجزوا إيمانهم في القسمين الأول والثاني من قانون الإيمان الذي لا نزال نتلوه اليوم، أي من أوّله حتى عبارة "وبالروح القدس". ونلاحظ في معظم التعابير المتعلقة بيسوع المسيح دحضاً لتعاليم آريوس.
فيسوع هو "ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور". وبينما كان يقول آريوس ان الكلمة قد خلقه الله من العدم، يعلن المجمع أنه "مولود غير مخلوق". والفرق كبير بين الخلق والولادة. فالخلق يعني اختلافاً في الجوهر والطبيعة، أمّا الولادة فتعني أن ابن الله هو من ذات جوهر الله.
لذلك يضيف قانون الإيمان أن يسوع المسيح هو "مساوٍ للآب في الجوهر"، أو، ترجمة أدقّ، "واحد مع الآب في الجوهر". والجوهر هنا هو جوهر الألوهة أو الطبيعة الإلهية. فكما أن الآب إله، هكذا الابن أيضاً إله، والآب والابن لهمَا جوهر واحد، أي طبيعة إلهية واحدة.
فالابن واحد مع الآب في الجوهر، إلاّ أنه متميّز عنه في الأقنوم. والأقنوم كلمة سريانية ترجم بها الآباء كلمة اليونانية، وتعني الشخص، أي الكائن الذي يقوم به الجوهر. فالجوهر لا يمكن أن يقوم دون كائن فرد يحمله. فالطبيعة الإنسانية مثلاً لا يمكن أن توجد دون إنسان فرد، دون شخص بشري يحملها، فتقوم به إلى الوجود. كذلك جوهر الله هو واحد، والطبيعة الإلهية هي واحدة. إلاّ أنّ تلك الطبيعة تقوم في ثلاثة أشخاص ندعوهم أقانيم، لأنه بهم يقوم جوهر الله أو الطبيعة الإلهية الواحدة: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس. وأقنوم الابن هو الذي تجسّد في شخص يسوع المسيح.
إن الفرق في النظرة الى يسوع المسيح بين آريوس وآباء نيقية أن آريوس يعتبر المسيح خليقة، فينكر الوهيته وينكر معاً الثالوث الأقدس وتجسّد الله. فالذي تجسّد وصار إنساناً، في رأي آريوس، ليس الله، بل كائن وسط بين الله والإنسان، وفي الواقع كائن أقرب إلى الإنسان منه إلى الله، لأنه مخلوق من الله.
أما آباء نيقية فقد أعلنوا أن الذي ظهر لنا في يسوع المسيح ليس كائناً وسطاً بين الله والإنسان، بل الله نفسه في شخص كلمة الآب الأزلي وابنه الوحيد، الواحد معه في الجوهر.
وهذا ما يجب أن نركّز عليه اليوم، عندما نتكلّم عن ألوهية المسيح. إيماننا بألوهية المسيح ليس اعتقاداً أسطورياً بكائن وسط بين الله والإنسان، نزل في أحد الأيام من أعالي السماء ودخل في إنسان. أن مثل هذا الاعتقاد نجده في بعض الديانات القديمة، وهو لا يمتّ إلى المسيحية بشيء. إيماننا المسيحي هو الإيمان بأن الله نفسه، في كيانه وشخصه، قد حضر إلينا في شخص يسوع المسيح. فمَن رأى يسوع رأى الله، ومَن اتحد بيسوع اتحد بالله، ومَن اعتمد باسم يسوع اعتمد باسم الله.
ولأن الله نفسه قد حضر إلينا في شخص يسوع، فيسوع يستطيع أن يؤلّهنا. هذا هو البرهان الذي ردّده مراراً آباء الكنيسة. فلو اعتبرنا يسوع مجرّد إنسان لاستحال عليه أن يوصلنا إلى الله. ولكن، بما أن يسوع إله، فهو يستطيع أن يوصلنا إلى الله. هذا هو المعنى العميق للعقيدة المسيحية القائلة ان يسوع نفسه الكلمة المتجسّد، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وانه إله حق وإنسان حق، وانه شخص واحد في طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية.
كيف يجب أن نفهم العلاقة بين الطبيعتين في شخص يسوع الواحد؟ هذا ما تطرّقت إليه المجامع المسكونية التي تلت مجمع نيقية.

الصفحة الرئيسية