من هو الروح القدس؟ أهو الله أم أحد الملائكة؟

في عدد30 يقول المولى تبارك أسمه على لسان نبيه يوحنا ابن زكريا: "هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي". ما معنى هذا الكلام؟

قلنا في حلقة سابقة عند شرحنا لهذه الآية، وهي سبق ووردت في الآية 27 من نفس الأصحاح، أن يوحنا ابن زكريا نبي العلي عندما قال عن السيد المسيح أنه يأتي بعده، كان يتكلم عن ترتيب زمني لبداية خدمة كل منهما. فخدمة السيد المسيح له المجد بدأت بعدما أبتدأ يوحنا أبن زكريا في مناداته لأعداد طريق الرب. أما تعبير رجل صار قدامي هنا يتكلم عن مكانته أنه سابق ليوحنا ابن زكريا في مكانته التي لا يضاهيه فيها أحد. أما الكلمات كان قبلي فهي تتكلم عن أزلية الرب يسوع المسيح تبارك اسمه، فهو كان بذاته منذ الأزل كما شرحنا في حلقات سابقة. فيكون السيد المسيح في خدمته كان لاحقاً لظهور يوحنا ابن زكريا وفي مكانته متقدم عنه وقدامه، وفي أزليته فهو الأزلي الأبدي من لا بداية له ولا نهاية.

إن كان نبي الله يوحنا ابن زكريا ذكر نفس هذه الآية تقريباً في عدد 27 من نفس الأصحاح، فلماذا يكررها في عدد 30؟ ولماذا يصف السيد المسيح له المجد، بكل هذه الدقة أليس هذا الكلام تكراراً بلا ضرورة؟

هذا ما جاء من أجله يوحنا ابن زكريا، وهو ليشهد للسيد المسيح تبارك اسمه. فهو لم يدع أي مجال للشك في أن الشخص الذي يتكلم عنه هو نفسه السيد المسيح له المجد، وليس في هذه الآية فقط بل في بقية الآيات التي تكلم فيها عن شخص الرب تبارك اسمه. وهذا ليس تكراراً للكلام بدون فائدة، فبقدر عظمة الشخص الموصوف تكون عظمة التأكيدات المعطاة في الحديث عنه. وبقدر غرابة الموقف تكون كثرة التأكيدات التي لا بد من سياقها لتؤكد هذه الحقيقة. وبقدر اقتناع الشخص الشاهد بحقيقة قضيتة بقدر ما يكون إصراره على تأكيد كل ما يعرفه وشاهده عن هذه القضية. وعلى قدر تأكده من تفاصيل قضيته التي يدافع عنها، تكون دقته في وصف الأشياء والأشخاص بكل دقة في إدلائه بشهادته وبكل الطرق.

تعليقًا على هذا يكون من الواضح أن نبي الله يوحنا ابن زكريا كان متأكداً تماماً ممن هو السيد المسيح تبارك اسمه، وأهتم بذكر التفاصيل الدقيقة عنه، وهذا واضح من تكراره لهذه الآية التي نحن بصددها؟

ليست هذه الآية فقط، ففي الآية 27 يقول عن السيد المسيح: "هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي بمستحق أن أحل سيور حذائه" وفي الآية 30 يقول: "هذا الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي". في الاية 29 يقول النبي يوحنا عن السيد المسيح له المجد:" هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" ثم يكرر نفس الكلمات للتأكيد في عدد 36 من نفس الأصحاح ويقول: " فنظر إلى يسوع ماشيا فقال: هوذا حمل الله" وغيرها الكثير.

في سياق الحديث وبالذات في الآية 31 من الأصحاح الأول من الإنجيل بحسب البشير يوحنا، يقول يوحنا ابن زكريا النبي الكريم:" وأنا لم أكن أعرفه، لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت لأعمد بالماء" ويكرر يوحنا نفس الكلمات أيضاً في عدد 33 ويقول: "وأنا لم أكن أعرفه". فكيف يكون الرب يسوع المسيح تبارك اسمه نبي مشهور في إسرائيل ويوحنا جاء ليشهد له ولم يكن يعرف السيد له المجد؟ وكيف يشهد لمن لا يعرفه وليس ذلك فقط، فيوحنا ابن زكريا كان من أقرباء السيد المسيح، أفلا يضعف ذلك من قوة شهادته للسيد تبارك اسمه؟

أولاً فيما يتعلق بأن قول يوحنا ابن زكريا قال عن السيد المسيح انه لم يكن يعرفه، فهذا لا يضعف من شهادته على الإطلاق، لسبب بسيط ألا وهو موضوع معرفة من هو السيد المسيح تبارك أسمه، موضوع روحاني ويحتاج إلى إعلان من الله سبحانه وتعالى مباشرة بلا تدخل من إنسان. وليس نبي الله يوحنا فقط هو الذي لم يكن يعرف ماهية السيد المسيح بل كل المحيطين به وكل أمته التي أختارها حسب الجسد ليأتي منها. فمكتوب في الأصحاح الأول من الإنجيل بحسب البشير يوحنا والعدد الحادي عشر: "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله". وبالطبع لأنهم لم يعرفوه فلو عرفوه كالله الظاهر في جسد إنسان، لكانوا حقا قبلوه لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد.

هل هناك دليل من الإنجيل على أن لا أحد كان يعرف من هو السيد المسيح؟ وان هذا كان يحتاج إلى إعلان أو كشف روحي من المولى تبارك أسمه؟

أولاً ارجوا ملاحظة أننا نتكلم عن معرفته له المجد روحياً، أو من هو وما هي إرساليته وليس من هو حسب الجسد أو سلسلة نسبه حسب الجسد. فحسب الجسد كان المحيطون به يعرفون أنه ابن القديسة العذراء مريم من اصطفاها المولى وفضلها على نساء العالمين. والبعض كان يظن أنه ابن يوسف ابن هالي وهكذا. والدليل على ذلك من الإنجيل هو أن السيد المسيح له المجد سأل تلاميذه يوما قائلاً: "من يقول الناس عني من أنا؟" فأجابه البعض إيليا والبعض نبي من الأنبياء" ولم يقولوا له أن الناس تقول عنه أنه المسيح تبارك اسمه. فسألهم: "وأنتم ماذا تقولون عني؟ فأجابه تلميذه بطرس: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فقال له يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأن لحماً ودماً لم يعلن لك بل أبى الذي في السموات" . فمع أن التلاميذ كانوا يعرفون من هو السيد المسيح له المجد بالجسد، وأنهم كانوا يخرجون ويدخلون معه، لكن معرفته أنه المسيح ابن الله أي الله نفسه الظاهر في جسد إنسان كان يتطلب إعلان الهي من السماء. ولذلك فلا يقلل أبداً من شهادة يوحنا المعمدان للسيد المسيح انه لم يكن يعرفه بل على العكس فهذا يؤكدها ويجعلها نهائية غير قابلة للبحث لأنها آتية من فوق من عند الله سبحانه وتعالى.

 

كيف يكون السيد المسيح تبارك اسمه من أقرباء نبي الله يوحنا ابن زكريا ويوحنا لم يكن يعرفه؟

هل هناك من يعرف كل أقاربه.

بالطبع لا .

يوحنا أيضاً لم يكن يعرف من هو المسيح، وهذا يرجع لأن يوحنا لم يكن مثلاً من إخوة السيد المسيح. ولا حتى من الساكنين في المدينة التي تربى بها الرب يسوع له المجد. وأكيد يوحنا كان يسمع عن السيد تبارك اسمه لكن ربما لم يقابله من قبل. فالكتاب المقدس يقول أن يوحنا كان إنساناً برياً يعيش على الجبال، والسيد المسيح لم يكن مشهوراً ذائع الصيت قبل بداية خدمته وأجرائه للمعجزات. وهذه المقابلة بين الاثنين كانت بداية خدمة الرب يسوع قبل أن يصبح نبياً مشهوراً.

عدد 32 من الأصحاح الأول يقول البشير يوحنا بالوحي المقدس عن يوحنا ابن زكريا أن الأخير شهد قائلاً "إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فأستقر عليه أولاً" أي روح يتكلم عنه يوحنا ابن زكريا؟

الروح هنا هو روح الله سبحانه وتعالى، بدليل أن يتكلم عنه بالمذكر وليس بالمؤنث، فلو كانت روح الإنسان لتكلم عنها بالمؤنث.

ألا يمكن أن يكون المقصود بالروح هنا أحد الملائكة كجبريل مثلاً، ألم يكن سيتكلم عنه بالمذكر أيضاً؟

لأن كلمة الروح الموجودة في العدد 32 هي نفسها كلمة الروح الواردة في بداية العدد 33 هي ذاتها الواردة في أخر عدد 33 أيضاً. دعونا نقرأ هذين العددين وهما عدد 32 وعدد 33 من الأصحاح الأول من الإنجيل بحسب البشير يوحنا: "وشهد يوحنا قائلاً أنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فأستقر عليه (أي على السيد المسيح تبارك اسمه) وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا الذي يعمد بالروح القدس". وعبارة أو اسم الروح القدس لا يطلق إلا على روح المولى القدير سبحانه وتعالى أي المولى ذاته.

لماذا لا يطلق اسم الروح القدس إلا على المولى ذاته أي على روحه تبارك اسمه، فالأحباء المسلمون يؤمنون أن روح القدس هو جبريل؟

أولاً: لم يتفق الأحباء المسلمون فيما بينهم على من هو روح القدس.

ثانيا: كلمة القدس في اسم الروح القدس أو القدوس أو القدس أو القداسة التي تقال عندما نذكر عبارة الروح القدس، الروح القدوس أو روح القداسة هذه الكلمات تعني المقدس في ذاته، أي المنزه عن كل خطية أو معصية ومن لم يرث فساد طبيعة الإنسان البشرية الساقطة. وهذه الأوصاف لا تنطبق إلا على المولى القدير وحده ولا سواه، وبالطبع على السيد المسيح له المجد جوهر المولى عز وجل كما شرحنا في حلقات سابقة. فإذا كانت كلمة القدس أو القدوس أو القداسة تعني المولى تبارك اسمه. إن عبارة هو سيعمدكم بالروح القدس والكلام هنا عن السيد المسيح له المجد، تعني أنه سيملؤكم أو يغمركم أو يحتويكم بالروح القدس. ولا يعقل أن تكون مهمة الرب يسوع هي أن يملأ أو يغمر أو يحتوي المؤمنين بالملائكة. فالملائكة كائنات مخلوقة محدودة مرسلة لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص كما يذكرهم الكتاب العزيز الحكيم في سفر العبرانيين. وكثيراً ما أرسلها المولى القدير لخدمة الرب يسوع المسيح تبارك اسمه.

لماذا يلزم نزول الروح القدس أو روح الله على السيد المسيح له المجد في هذه الحادثة في هيئة مجسمة، مادام القدير وهو كلي العلم يعلم أن السيد المسيح تبارك اسمه هو تعينه أو ظهوره في جسد إنسان؟

لنزول الروح القدس تبارك اسمه على السيد المسيح له كل المجد في هذه الحادثة أهمية كبيرة جداً تتمثل في عدة نقاط. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: لكي يخبرنا من هو شخص السيد المسيح له كل المجد.

ثانياً: ليوضح لنا طبيعة المولى تبارك اسمه.

ثالثاً: ليعلن تأييده لإرسالية الرب يسوع تبارك أسمه وتفرده له المجد عن سائر المخلوقات.

ما هذه الأسباب الثلاث لنزول الروح القدس تبارك اسمه على السيد المسيح له كل المجد؟

نزول الروح القدس أو روح الله تبارك اسمه على السيد المسيح يوضح من هو شخص السيد المسيح تبارك اسمه. فمن ذا الذي ينزل عليه المولى القدير تبارك اسمه بنفسه من خلال روحه في هيئة حمامة ويستقر عليه، أيضاً ويشهد له أن هذا هو الذي له الأحقية والأهلية والإمكانية لإرسال روح المولى القدير تبارك اسمه للمؤمنين به له كل المجد حتى يعمدهم به. هذا الشخص الذي له هذه الصفات لا بد أن يكون أما هو الله نفسه جل وجلاله. وأما أن يكون أعظم منه والعياذ به وحيث انه لا يوجد أعظم منه سبحانه في الأرض أو في السماء وهو الذي لا شريك له ولا مثيل، إذن يكون شخص السيد المسيح هو الله ظاهراً في جسد إنسان.

وماذا عن السبب الثاني وهو نزول الروح القدس على السيد المسيح في هيئة حمامة ليوضح لنا طبيعة الله؟

إن كان السيد المسيح له كل المجد هو الله المتجلي في جسد إنسان والروح القدس الذي جاء هنا في هيئة حمامة هو أيضاً الله سبحانه وتعالى وإن كان المولى القدير وقد استوى على العرش وهو المنزه عن كل محسوس أو ملموس، وهو أيضاً علت قدرته والذي يعرف في المسيحية بالله الآب وكلمته السيد المسيح له المجد وروحه ، الروح القدس إله واحد قائم على الكل بذاته. فالله هنا هو الآب والابن والروح القدس واحد. آمين.

 

وماذا عن السبب الثالث من أسباب نزول روح الله تبارك اسمه على السيد المسيح له المجد كحمامة؟

السبب الثالث هو أن الروح القدس يؤكد إرسالية الرب يسوع تبارك اسمه وتفرده عن سائر مخلوقاته. فبمجيء الروح القدس بهيئة جسمية كحمامة كان وكأنه يضع خاتم الله تبارك أسمه على إرسالية السيد المسيح للأرض لفدائه للإنسان. فلو لم يكن الله الآب الجالس على العرش مؤيداً لموت كلمته الرب يسوع له المجد فداءً للبشرية لما، أرسل الروح القدس أي روحه سبحانه وتعالى، ليظهر على صورة حمامة تستقر عليه له المجد. وهناك شيء مهم أيضا وهو منع التشويش والتساؤلات حول إرساليته في ذهن يوحنا المعمدان ابن زكريا.

 

ما الذي كان سيحير يوحنا ابن زكريا لو لم يكن الروح نزل بهيئة جسمية؟

كان يوحنا ابن زكريا إنساناً عظيماً جداً وكان قد تسلم دعوة من المولى القدير بأن ينادي للناس بالتوبة وغفران الخطايا. والآن هناك شخص أخر أرسل إلى الأرض هو السيد الرب يسوع وكان على يوحنا ابن زكريا أن يتخلى عن مكانه لهذا النبي الجديد، فكان لابد أن يتأكد ممن هو ذلك الشخص الذي سوف يسلمه الراية ليكمل المسيرة ويختفي هو من المشهد. لذلك منعاً لوقوعه في الحيرة والارتباك قال له المولى تبارك اسمه: "الذي ترى الروح نازلاً عليه ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس". ويقول يوحنا بعد ذلك: "وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله".

كانت شهادة يوحنا ابن زكريا نبي الله سبحانه وتعالى شهادة واضحة وصريحة عندما قال في عدد 34 من الإنجيل بحسب البشير يوحنا هذه الكلمات: "وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله". فلماذا قال يوحنا ابن زكريا هذه الشهادة، وخاصة أنه كان يقولها للكتبة والفريسيين المتعصبين، مع أنه لم يطلب منه لا الكتبة ولا الفريسيين الإدلاء بهذه الشهادة؟ وما هي مصلحة يوحنا في الإدلاء بها؟

لأن هذه الشهادة هي ملخص ما جاء يوحنا ابن زكريا ليعلنه للعالم ولب مهمته على الأرض، لذلك كان يؤكد لليهود لرؤساء الدين والكتبة والفريسيين بطرق كثيرة وأدلة وبراهين عديدة على أنه ليس هو المسيح، بل هو معد الطريق له وأنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه. وأن الرب يسوع المسيح تبارك اسمه هو الكائن منذ الأزل وإلى الأبد، وهو الذي نزل وأستقر عليه روح المولى تبارك اسمه، وهو الذي له الإمكانية والسلطان أن يعمد الناس بالروح أي روح الله سبحانه. وفي النهاية وضح لهم أن هذا كله يؤكد أن الرب يسوع المسيح هو ابن الله، أي الله نفسه ظاهراً في جسد إنسان.

ما مصلحة يوحنا في هذه الشهادة وماذا سيعود عليه منها؟

أولاً: لا مصلحة على الإطلاق عند يوحنا ابن زكريا للإدلاء بهذه الشهادة، بل على العكس فهذه الشهادة جعلت الناس تنظر إلى السيد المسيح تبارك اسمه وتركت يوحنا ابن زكريا، فلم يعد هو النبي الذي في المركز بل الرب يسوع. وهذا ما يؤكد صدق هذه الشهادة. فلو كانت له آية مصلحة في ذلك كما كان الأمر غريباً لكن أن يشهد نبي عظيم هذه الشهادة فهذا يؤكد بما لا يعطي مجالا للشك بأن الرب يسوع المسيح هو الله الظاهر في الجسد.

ثانياً: يوحنا ابن زكريا كان نبي لله سبحانه وتعالى والأنبياء لا يكذبون في وحيهم ولا يغيرونه أو يبدلونه ولا يقولون ما يسرهم ويحقق مصالحهم وأغراضهم الشخصية. فهذا لم يسمع قط في الكتاب المقدس بل على العكس يقولون ما يمليه عليهم المولى تبارك اسمه حتى لو جلب لهم العذاب والاضطهاد.

عودة للفهرس