هل تجسد لله في المسيح حقيقة أم خيال؟

سندرس العدد الرابع عشر من هذا الأصحاح حيث جاءت الكلمات: "والكلمة صار جسداً، وحل بيننا، ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً". دكتور ناجي، ما المقصود بلفظة "الكلمة" هنا؟

الكلمة هنا هو شخص السيد الرب يسوع المسيح (تبارك اسمه) كما شرحنا في حلقة سابقة، وهي الحلقة التي كنا نعلق فيها على العدد الأول من الأصحاح الأول من الإنجيل بحسب البشير يوحنا حيث يقول الوحي: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله".

واضح من سياق الكلام عندما يذكر الكتاب القول: "والكلمة صار جسداً"، أنه يتكلم عن شخص مذكر، وليست مجرد كلمة منطوقة كما شرحنا سابقاً. لكن عندي سؤال في كلمة صار جسداً، فكلمة صار تعني التحول، أي أن هذا الشخص كان شيئاً معيناً، ثم أصبح شيئاً أخر غير ما كان عليه أولاً. وهذا لا يتناسب مع طبيعة المولى (تبارك اسمه)، فإن كنا نقول إن السيد المسيح (له المجد) هو الله ذاته ظاهراً في جسد إنسان، فهذا يعني أن هناك تحولاً أو تغييراً طرأ على شخص الله ذاته. وهذا ما لا يقبله عقل إنسان، فهل بإمكانك أن توضح لنا هذا الأمر؟

هناك فرق في أن يحل الله، وهو مالئ السموات والأرض في جسد إنسان عادي، وأن يصبح الله نفسه إنساناً ليس إلا. فلو قلنا إن الله (سبحانه وتعالى) أصبح إنساناً أو صار إنساناً فقط، إذن لم يعد هناك من يسمي الله (تبارك اسمه) في السماء، وهذا ما لا يتفق مع طبيعة الله، ولا يمكن أن يحدث. لكن إذا قلنا إن الله حل أو خيم، أي جعل له خيمة يحل فيها، أو يظهر فيها مجده وجوهره وطبيعته فيها، فهنا نفي عن المولى (تبارك اسمه) التغيير أو التحول. فالله (سبحانه وتعالى) هو هو من يتواجد في كل مكان في الأرض والسماء والأكوان في وقت واحد. وهو أيضاً من تواجد في جسد السيد المسيح (تبارك اسمه)، وهو على الأرض. فهو الذي لا يعتريه تغيير، ولا ظل دوران. وفكرة حلول الله (سبحانه وتعالى) في جسد إنساني ليست فكرة جديدة؛ لأنها حدثت حتى قبل مجيء السيد المسيح (تبارك اسمه) في الجسد.

هل مذكور في تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس أن الله (سبحانه وتعالى) ظهر في صورة إنسان قبل مجيء السيد المسيح له المجد؟ هل من الممكن أن تعطينا فكرة عن هذه النقطة؟

هذه الحادثة، وأقصد بها ظهور الرب، وكلمة الرب هنا تعني الله الواحد الذي لا شريك له (سبحانه وتعالى) مذكورة في سفر التكوين- وهو أول أسفار الكتاب المقدس، والذي استخدم المولى القدير في كتابته موسى- في الأصحاح الثامن عشر حيث يقول تنزيل الحكيم العليم عن نبيه إبراهيم: "وظهر له الرب عند ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع إبراهيم عينيه، ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد الى الأرض، وقال: "يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك، فلا تتجاوز عبدك". وهنا نرى أن إبراهيم خليل الله (سبحانه وتعالى) رأى ثلاثة رجال، والكتاب يقول عنهم أنهم جاءوا إليه، لكن عندما ابتدأ إبراهيم يتكلم معهم كلم أحدهم بصيغة المفرد، وقال له " يا سيدي". وهذا الشخص هو الرب، أي الله سبحانه وتعالى.

هل هناك تأكيد في الكتاب المقدس يذكر بأن الشخص الذي قال له إبراهيم يا سيدي هو الرب؟

لو أكملنا بقية القصة نرى أن الرب هو الذي بشر إبراهيم خليله بغلام زكي، فالعدد العاشر يقول: "فقال (أي الرب) أني راجع إليك نحو زمان الحياة (أي بعد سنة) ويكون لسارة مرأتك ابن". ثم يذكر الكتاب الحكيم أن سارة عندما سمعت هذا الكلام ضحكت، وهي لم تكن معهم، بل كانت في الخيمة. لكن الرب لأنه كلي العلم علم أن سارة ضحكت مع أنه لم يرها؛ لأنها كما قلنا لم تكن معهم. فقال الرب لإبراهيم لماذا ضحكت سارة وليس ذلك فقط بل أن سارة قالت في نفسها أي دون أن يسمع صوتها، أو كما وصفها الكتاب: "فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم، وسيدي قد شاخ؟" فقال الرب لإبراهيم: "لماذا ضحكت سارة؟" فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك؛ لأنها خافت، فقال الرب: لا بل ضحكت". فمن هو ذلك الذي يعلم الغيب، ويعلم ما يخفي الناس في صدورهم، ويستطيع أن ينبأهم به سواه جل شأنه. هذا هو الشخص الذي قيل فيه إنه الرب الذي ظهر لإبراهيم في صورة إنسان.

كيف تقدر أن تثبت أن الإنسان الذي كان يقف أمامه إبراهيم هو الله (تبارك اسمه) ظاهراً في جسد إنسان؟

إلى جانب ما قلت إن الكتاب المقدس أعطى لهذا الإنسان لقب الرب، أي الله الواحد المنزه عن كل محسوس أو ملموس حسب أصل الكلمة العبري. وإلى جانب أنه كان يعلم الغيب عرف ما قالته سارة في داخلها. نرى في نفس الأصحاح- الأصحاح الثامن عشر من سفر التكوين، والكلام هنا عن نفس الإنسان الذي قال عنه الأصحاح، وظهر الرب. وكلمة ظهر هنا معناها أنه كان مخفياً لا يمكن رؤيته وظهر. وهذا يتناسب مع طبيعة المولى (تبارك اسمه)، ونرى أنه في انصراف الثلاثة رجال الذين تكلم معهم إبراهيم خليل المولى (تبارك اسمه)، وأعطى أحدهم لقب الرب أو الله. نقرأ في العدد السابع عشر من نفس الأصحاح: "فقال الرب: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟" أي أن الرب كان مزمعاً أن يفعل شيئاً، وهو أن يقلب سدوم وعمورة، ويمطر عليهما ناراً وكبريت. وقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله. وهنا نرى أن لهذا الإنسان الحق والإمكانية أن يخفي الأسرار عن إبراهيم، وأن يعلنها له. وهذه صفة من صفات المولى (تبارك اسمه)؛ لأن فكرة إمطار سدوم وعمورة كانت سراً داخل فكر المولى (تبارك اسمه). وهو وحده الذي له الحق أن يطلع عليه من يريد من عباده. ثم يقول الكتاب: "وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب".

الحقيقة أنا لا أريد أن أترك هذه النقطة إلا بعد أن تشرحها بالتفصيل؛ لأنه لو ثبت أن الله (سبحانه وتعالى) قد ظهر قبل مجيء السيد المسيح (له المجد) الى الأرض في جسد إنسان، وتكلم مع أحد عباده، وليس هذا فقط، بل الكتاب يقول أيضاً إنه أكل مع إبراهيم. معنى هذا أنه ليست هناك أية صعوبة في التصديق والإيمان بأن السيد الرب يسوع المسيح (تبارك اسمه) هو الله الظاهر في جسد إنسان. وتصبح الكلمات التي نحن بصددها بسيطة ومقبولة، وهي أن الكلمة، أي السيد المسيح صار جسداً، وحل بيننا؟

الأمر في الحقيقة في غاية السهولة إذا ما أراد الإنسان أن يؤمن، أما إذا أصر على رفض ما أعلنه المولى (تبارك اسمه) عن نفسه، والإصرار على غلق عقله وقلبه في وجه هذه الحقائق لن يتسنى للمرء قبولها. في رأيي أيضاً أن أقوى ما يؤكد أن هذا الشخص الذي كان إبراهيم يتكلم معه حول قضية حرقه لمدينتي سدوم وعمورة هو بذاته الله ظاهراً في جسد إنسان- هو أن إبراهيم كان يتوسل إليه أن لا يحرق سدوم وعمورة، ويقول له: "أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان، ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه. حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أتميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم، حاشا لك. أديان كل الأرض ألا يصنع عدلاً؟" وهنا نرى أن هذا الإنسان له الحق والقدرة أن يهلك ويميت ويحفظ ويحس. وليس ذلك فقط، بل إبراهيم خليله (تبارك اسمه) يطالبه بأن يصفح أو يغفر خطية وأثم سدوم وعمورة. بل الأكثر من ذلك أنه يناديه بديان كل الأرض العادل. فمن ذا الذي له الأسماء الحسنى؟! من يحي ويميت ويغفر الخطايا وهو الديان العادل أليس هو المولى القدير وحده (تبارك اسمه) الذي لا شريك له؟ فهذا يقطع أي شك في أن من ظهر في جسد إنسان لأبينا إبراهيم كان هو ذاته الجالس على العرش من لا تأخذه سنة، ولا ينام، وهو على كل شيء قدير.

الحقيقة أنا سعيد جداً بذكر الحادثة السابقة التي لا تدعو مجالا للشك في أن الذي ظهر لخليل الله إبراهيم في صورة إنسان كان هو الله القادر على كل شيء. وهذا يؤكد ويثبت (مع أنه الحقيقة الخاصة بظهور السيد المسيح (تبارك اسمه) كالله في جسد إنسان) أن هذه الحقيقة يمكن أن تقبل في منتهى السهولة. لكن عندي سؤال آخر في عبارة "حل بيننا" ألا يحد هذا الحلول المولى (تبارك اسمه) في حيز الإنسان الذي يمشي في شوارع فلسطين؟

كلمة حل معناها خيم أو اتخذ خيمة، ويقصد هنا بالطبع الجسد الإنساني. وفي القديم أيضاً اتخذ المولى ما يعرف بخيمة الاجتماع، وهي التي أمر عبده موسى بإقامتها. وكان المولى (تبارك اسمه) يحل فيها بمجده وحضوره، وقد أعطى لها المولى القدير نفسه تسميتها، وهي المسكن، أي مكان سكناه (تبارك اسمه) على الأرض. فهل المولى القدير كان يسكن على الأرض، ويتخذ من هذه الخيمة بيتا له، أم أنه جالس على عرشه (سبحانه وتعالى) لا يساويه فيه أحد؟ بالطبع يسكن في عرشه (جل شأنه)، فهل إذا ما حل أو ظهر أو أظهر حضوره ومجده في خيمة الاجتماع ترك عرشه؟! أليس هو من يملأ السماء والأرض، وهو متواجد في كل مكان وزمان؟ إذن ظهوره في خيمة الاجتماع، أو في هيكل سليمان، أو حلوله في جسد الرب يسوع المسيح (تبارك اسمه) الإنساني، لا يحده على الإطلاق، فهو العليم القدير على كل شيء.

ما معنى رأينا مجده؟ ومجد من الذي تتكلم عنها هذه الآية؟

رأينا مجده تعني رأينا حلوله وإظهاره لجوهره وحضوره وعظمته. وكلها كلمات لا تقال إلا على المولى تبارك اسمه. وكلمة مجده هنا المقصود بها مجد الكلمة الذي صار جسداً، وحل بيننا؛ لأن كلها تحمل ضمير المفرد الغائب الواقع على ما قبلها، وهو الكلمة.

عودة للفهرس