إذا كان المسيح إلها فكيف تألم ومات؟
القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير
كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد
الفهرس
الفصل الثانى: حتمية الألم والصليب
1. التدبير الأزلى
2. حتمية الألم والخلاص
3. الم المسيح وصلبه فخر الرسل والشهداء
الفصل الثالث: آلام المسيح ونوعيتها
1. الآلام النفسية
2. الآلام الجسدية
3. الآلام الكفارية
الفصل الرابع: آلام المسيح وكيفيتها
1. كيف تألم المسيح
2. تألم دون أن يتألم
3. أمثلة لكيفية آلام الناسوت دون اللاهوت
الفصل الخامس: إضطراب المسيح حقيقته وكيفيته؟
1. اضطراب المسيح كإنسان
2. بلاهوته فوق الألم والاضطراب
3. تأكيد ناسوته وحتمية الألم
الفصل السادس: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس
1. حزن كإنسان
2. "إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" ماذا يريد؟
3. "وسمع له من أجل تقواه" ماذا يعنى ذلك؟
4. ماذا كان عمل الملاك الذى ظهر له فى البستان؟
الفصل السابع: إلهى إلهى لماذا تركتنى؟
1. سر الصرخة
2. الصرخة والمزمور 22..
3. لم يترك الآب الابن ولم يترك اللاهوت الناسوت
1. أتخذ جسداً قابلاً للموت
2. مات بأنفصال الروح الإنسانية عن الجسد
3. من كان يحكم الكون أثناء موته
منذ بدء دعوته علي الأرض أعلن السيد المسيح صريحاً أنه لابد أن يصلب ويموت وفى اليوم الثالث يقوم. وقد أفرد العهد الجديد فصولاً للمحاكمة والصلب والموت والدفن والقيامة. كما أعلن العهد القديم عشرات المرات من خلال نبؤاته أن المسيح لابد أن يصلب "تثقب يديه ورجليه"
وصار الصليب من علامة خزى وعار بل ولعنة إلى علامة مجد ومصدر فخر للمسيحية "حاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" بل رأت المسيحية فى الصليب "قوة الله" "ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله". ولكن الصليب كان وما يزال وسيظل لغير المؤمنين عثلرة وجهالة بل ومصدر سخرية "نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة. وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله".
والفكر البشرى يقف أمام الصليب مشدوها متحيراً، يمتلىء ذهنه بعشرات الأسئلة، ومعظم هذه الأسئلة نابع من إيمان المسيحية بألوهية المسيح! فإذا كان المسيح إلهاً فكيف يقبض عليه ويحاكم ويصلب ويموت بواسطة جبلته؟ كيف يضطرب أمام الموت "أيها الآب نجنى من هذه الساعة" كيف يطلب من الآب أن يعبر عنه هذه الكأس؟ كيف يصرخ وهو على الصليب "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟"، كيف يموت إن كان هو الله والله هو الحى القيوم السرمدى الذى لا يموت؟ من كان يحكم الكون أثناء موت الإله؟
هذه الأسئلة وغيرها تبدو ظاهرياً أنها صعبة الإجابة بل ومستحيلة. ولكن الكتاب يقول إن غير المستطاع عند الناس مستطاع لدى الله وأن فكر الله وطرقه تختلف عن فكر الإنسان وطرقه "يالعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الأستقصاء. لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً".
والكتاب وحده هو الذى يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها فالكتاب هو نفس الله ووحيه "كل الكتاب هو موحى به من الله" كتبه قديسيه محمولين ومسوقين بالروح القدس.
وفى هذا الكتاب نقدم إجابة على هذه الأسئلة وغيرها بناء على ماجاء فى الكتاب المقدسوما سبق أن كتبه وعلمه آباء الكنيسة فى قرونها الأولى وفى كل عصورها حتى يومنا هذا محمولين ومرشدين بروح الكتاب المقدس الواحد.
أخيراً أتقدم بالشكر لقداسة البابا شنودة الثالث الذى أذن لى ورحب بالبدء فى البحث ونشر موضوع الكيستولوجى (عقيدتنا فى المسيح) ولنيافة الأنبا مرقس أسقف عام القليوبية (أسقف شبرا الخيمة وتوابعها حالياً) الذى يتم هذا البحث تحت إشراف نيافته ورعايته والقمص تادرس شحاته
وفى النهاية أقدم هذا الكتاب لكل من يريد أن يعرف المسيح أكثر وأعمق ليكون شعارنا جميعاً "لا أنا بل المسيح".
2 برمودة 1704
10 أبريل 1988
القس عبد المسيح بسيط أبو الخير
الفصل الأول
الإله المتجسد
نؤمن حسب ما جاء فى الكتاب المقدس وما نقله التقليد وما أقرته المجامع المسكونية –من خلال الكتاب المقدس- ان السيد المسيح هو كلمة الله الإله القدير، العظيم الوحيد، الحى القيوم، السرمدى وقد شاْت إرادته الإلهية أن يتجسد ويأخذ صورة الإنسان لكى يظهر للناس ويقوم بفداء البشرية عن طريق تقديم ذاته على الصليب، كذبيحة أثم ليرفع عن البشرية إثمها ويقيمها من سقطتها ويجلسها معه فى السماويات:
- "لانه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفيه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام(1)"
- و "منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح. الذى بذل نفسه لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً "(2).
- "هوذا العذراء تحبل وتلد أبناً وتدعوا اسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا"(3).
- وهكذا فى الوقت الذى حددته المشورة الالهية، فى ملء الزمان، تجسد، اتخذ جسداً وصار بشراً وحل بين الناس وعاش بينهم كواحد منهم.
- "ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة"(4).
- "والكلمة صار (اتخذ) جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً"(5).
وصار مرئياً من كل الخلائق، البشر والملائكة ما يرى وما لا يرى:
- "عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد تبرر فى الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أو من به فى العالم رفع فى المجد"(6).
- "الذى كان من البدء الذى سمعناه، الذى رأيناه بعيوننا الذى شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة"(7).
وقد اتخذ جسداً مثل أجسادنا ولكن بلا خطية جاء "فى شبه جسد الخطية"(8) أو كما نقول فى القداس الإلهى "شابهنا فى كل شىء ما خلا الخطية وحدها". اتخذ جسدآ من لحم ودم وعظام:
- "جسونى وأنظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى"(9).
- "إذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو كذلك فيهما... من ثم كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شىء"(10).
وكما كان له لحم ودم وعظام هكذا أيضاً كان له روح إنسانيه, إذ إتخذ الطبيعة البشرية الكاملة:
- "فللوقت شعر يسوع بروحه"(11).
- "يا أبتاه فى يديك أستودع روحى"(12).
- "فصرخ بصوت عظيم وأسلم الروح"(13).
قال القديس كيرلس الكبير (عمود الدين) (أنتقل سنة 444م):
- "هو إله بالحقيقة ومجده أسمى من مجد العالم كله لأنه بالطبيعة إله, فهو كلمة الله الآب الذى تجسد وصار إنساناً كاملاً. ونحن نؤمن أن الجسد الذى إتحد به, فيه نفس عاقلة, ولهذا فالإتحاد حقيقى وكامل"(14).
قال القديس ديديموس الضرير (309 – 396م):
"ظهر ناسوته لنا فى كل شىء, فيما عدا الخطية.. ولم يكن جسده بغير نفس... أن نفس يسوع... عاقله ومطابعه لنفوس الناس (أو من ذات جوهرها)و كما أن جسده الخارج من مريم كان مطابعاً لأجساد الناس (أو من ذات جوهرها)(15).
قال القديس أثناسيوس الرسولى (296 – 373م):
"والآن علينا أن نشرح ما هو معنى الكلمات" "الكلمة صار جسداً"؟ إنه لا يعنى أن الكلمة لم يعد الكلمة, وإنما يعنى أن الكلمة هو دائماً الكلمة حتى عندما إتخذ لذاته جسداً وفيه قبل الآلام والموت أى فى صورة البشرية... وأعلن بذلك أن له لحماً وعظاماً ونفساً بإعلان جسده الذى لم ينفصل عنه والذى أخذه كما هو مكتوب "من نسل داود"(16).
وأيضاً "وهكذا فإن المولود من مريم هو بشرى بالطبيعة، بحسب الكتب الإلهية. وأن جسده هو جسد حقيقى، لأنه من نفس جسدنا، حيث أن مريم هى أختنا"(17).
إتخذ الطبيعة الإنسانية الكاملة، ضم إلى لاهوته الكامل الإنسانية الكاملة، فقد كان كاملاً فى لاهوته كما كان كاملاً فى ناسوته: "الذى فيه يحل كل ملء الاهوت جسدياً"(18).
قبل التجسد هو الله الكلمة وبالتجسد لم يتغير أو يتحول عن طبيعته ولكنه إتخذ جسداً، ضم إلى ذاته الناسوت الكامل. وهذا لا يعنى أن الاهوت والناسوت كانا منفصلين ثم أتحدا، كلا وحاشا! وإنما كان الاهوت ولم يكن الناسوت، وعندما وجد الناسوت بحلول الروح القدس على مريم العذراء، وجد متحداً بالاهوت، فقد بدأ فى بطن العذراء ونما وهو متحد بالاهوت ولم يوجد لحظة واحدة بعيداً عن الاهوت "القدوس المولود منك"(19) وهذا يفسر لنا كيف سجد له يوحنا المعمدان وهو جنين فى بطن أمه(20)، بل وفى الشهر الأول للحبل به، فقد كان هذا الجنين ليس مجرد إنسان ولكن كان "القدوس " "الخالق" سجد المعمدان المخلوق للخالق المتجسد. كان الاهوت المتحد بالناسوت، أو الناسوت الذى فيه يحل كل ملء الاهوت: "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء"(21).
طبيعة واحدة متحدة من طبيعتين فهو الإله المتجسد، أقنوم واحد وطبيعة واحده لها خصائص الاهوت والناسوت، طبيعة من طبيعتين بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير: "أومن أومن وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا الجسد المحيى قد أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم، وجعله واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير... أومن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين"(22).
- قال قداسة البابا شنوده الثالث فى حوار مع أحد الكهنة السريان:
"السيد المسيح كامل فى لاهوته وكامل فى ناسةته، ولاهوته لم ينفصل عن ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين، نحن من جهة الطبيعة الواحده بعد اتحاد الطبيعتين فى السيدة العذراء وولادة السيد المسيح لا نعود نتكلم عن طبيعتين إنما نتكلم بإستمرار عن طبيعة واحده الطبيعة الواحده التى نقصدها هى طبيعة الإله المتجسد فالطبيعة الواحده ليست هى الاهوت ولا هى الناسوت، وإنما هى الاهوت والناسوت متحدان معاً فى طبيعة واحده نسميها طبيعة الإله المتأنس كعبارة القديس كيرلس الكبير الذى قال "طبيعة واحده للإله الكلمة المتجسد"(23).
وقال القديس كيرلس الكبير:
"نحن نقرن الطبيعتين بالإتحاد ونعترف بمسيح واحد وإبن واحد ورب واحد أخيراً نقول إنها طبيعة واحده لابن الله المتجسد... ذلك الإتحاد هو إتحاد الجسد ذى النفس العاقلة مع الكلمة".
وقال القديس أثناسيوس الرسولى:
"نعترف بإبن الله المولود من الآب خاصياً أزلياً قبل كل الدهور وولد من العذراء بالجسد فى آخر الزمان من أجل خلاصنا... طبيعة واحده لله الكلمة المتجسد ونسجد له مع جسده"(25).
وقال أيضاً: فالخاصية التى تميز الإيمان بالمسيح هى هذه:
"إن ابن الله هو كلمة الله" فى البدء كان الكلمة" وهو حكمة الآب وقوته "لأن المسيح هو قوة الله وحكمة الله" هذا الذى صار إنساناً فى آخر الدهور لأجل خلاصنا.. "والكلمة صار جسداً" هذا القول يعنى أنه صار إنساناً. والرب أيضاً يقول عن نفسه "لماذا تطلبون أن تقتلونى وأنا الإنسان الذى قد كلمكم بالحق" وبولس الذى تعلم من اعتاد أن يقول "إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" فالإنسان الذى كون الأنسان الذى كون الأجناس البشرية ودبرها، وأباد الموت وأبطله عنا. يجلس الآنسان عن يمين الآب وهو كائن فى الآب كائن فيه، كما كان دائماً وسيكون إلى الأبد"(26).
وهكذا نؤمن أن المسيح هو كلمة الله، الإله السرمدى المالىء الكل والذى فوق الزمان والمكان، اتخذ جسداً وصار بشراً فى ملء الزمان ودعى إنساناً وابن إنسان وهو الإله القدير وصار يحمل فى طبيعته وأقنومه صفات وخصائص الاهوت وصفات الناسوت فقد صنع القوات وسجد له وتكلم عن نزوله من السماء وكونه واحداً مع الآب وأنه موجود فى كل مكان وزمان وأنه الديان وأنه ابن الله والله بلاهوته، كما جاع وتعب وعطش ونام وأكل وشرب وتألم ومات بناسوته إذ كان "مجرباً مثلنا فى كل شىء بلا خطية"(27) ومع ذلك فقد كان شخصاً واحداً أقنوماً واحداً وطبيعة واحدة.هو نفسه الذى جاع والذى أشبع خمسة آلاف رجل عدا النساء والأطفال بخمسة أرغفة وسمكتين، وهو نفسه الذى نام فى السفينة والذى قام وإنتهر الرياح والمواج فصار هدوء عظيم(28). وهكذا أيضاً كان يتكلم عن نفسه كإنسان وكإله فى آن واحد، كان يتكلم عن نفسه كأبن الإنسان ولكن الموجود فى كل مكان، كما كان يتكلم عن نفسه كالإله القدير ولكن الذى بذل نفسه لأجل الخطاة، وكذلك يتكلم الكتاب عنه:
"وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء"(29).
"هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد"(30).
"الذى نزل هو الذى صعد أيضاً فوق جميع السموات لكى يملأ الكل"(31).
"لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد"(32).
"كنيسة الله التى أقتناها (اشتراها) بدمه"(33).
كما دعى ابن داود ورب داود بالجسد ورب داود بالاهوت:
"أنا أصل وذرية داود كوكب الصبح المنير"(34).
"ومنهم (اليهود) المسيح حسب الجسد الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد"(35).
"لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً... ويدعى اسمه... الإله القدير الآب الأبدى"(36).
كانت له خصائص وصفات الاهوت وخصائص وصفات الناسوت وهو المسيح الواحد والرب الواحد، طبيعة واحده وأقنوم واحد.
قال القديس ديسقورس (أنتقل 457م):
"إننى أعرف تماماً إذ نشأت فى الإيمان أن الرب من الآب بكونه الله، هو بنفسه مولود من مريم كإنسان، أنظره يسير على الأرض كإنسان، وخالق الطغمات السمائية كإله، نراه نائماً فى السفينة كإنسان وسائراً على البحر بكونه الله، تراه جائعاً كإنسان ويهب الطعام كإله، عطشاناً كإنسان ويروى الظمآن بكونه الله، تجده مجرباً كإنسان ويخرج الشياطين بكونه الله، وهكذا فى أمور كثيرة مشابهة"(37).
---
(1) أش 6: 9
(2) تى 13: 2
(3) إش 14: 7، متى 23: 1
(4) غلا 4: 4
(5) يو14: 1
(6) 1تى 16: 3
(7) 1يو1: 1
(8) رو 3: 8
(9) لو39: 24
(10) عب 12: 2 و 13
(11) مر 8: 2
(12) لو46: 23
(13) متى 5: 27
(14) شرح تجسد الابن الوحيد 26
(15) فى سر التجسد، الأنبا غريغوريوس 16
(16) تجسد ربنا يسوع المسيح 12
(17) الرسالة إلى ابيكتيكوس 7
(18) كو9: 2
(19) لو 35: 1
(20) لو 44: 1
(21) يو13: 3
(22) القداس الإلهى.
(23) المجلة البطريركية للسريان الأرثوذكسى العددان 47،48 ص 366 (أنطاكية)
(25) الخريدة النفيسة ج1: 472
(26) يو21: 17
(27) عب 15: 4
(28) مر 38: 4 و 39
(29) يو13: 3
(30) يو 16: 3
(31) أف 10: 4
(32) 1كو8: 2
(33) أع 20: 28
(34) رؤ 16: 22
(35) رو 5: 9
(36) إش 6: 9
(37) البابا ديسقورس الاسكندرى، لغريغوريوس بهنام، مطران بغداد ص 152، 153
الفصل الثانى
حتمية الألم والصليب
1. التدبير الأزلى
2. حتمية الألم والخلاص
3. الم المسيح وصلبه فخر الرسل والشهداء
يقول الرسول بولس بالوحى لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس. ليفتدى الذين تحت الناموس"(1) وقال أيضاً: "إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح الذى بذل نفسه لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم"(2).
وقال السيد المسيح نفسه:
العالم، إذ رأت المشورة الإلهية أن الإنسان الذى سيخلق سوف يخطىء ولا خلاص له من عقوبة الخطية إلا بالتجسد الإلهى وإحتمال الألم والموت نيابة عنه لأنه "معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله".(7) وهكذا عندما رأه يوحنا المعمدان فى بداية خدمته صرخ قائلأ: "هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم"(8).
والقديس بطرس يقول لرؤساء اليهود:
"هذا (يسوع المسيح) أخذتموه مسلما بمشورة الله وعلمه السابق وبأيدى آثمة صلبتموه وقتلتموه"(9).
إنه يقول لهم على الرغم من أنكم قد صلبتم المسيح وقتلتموه بأيديكم الأثيمة إلا أنكم لم تفعلوا سوى ما قررته المشورة الإلهية التى حتمت هذا بحسب علم الله السابق. وهذا ماقاله السيد المسيح نفسه ليهوذا:
"إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه ولكن وبل لذلك الرجل الذى به يسلم ابن الإنسان"(10).
وقال القديس بطرس الرسول: "دم المسيح. معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم",
1- التدبير الأزلى:
وقد استخدم آباء الكنيسة منذ البدء تعبير "التدبير" للإشارة إلى خطة الفداء الأزلية بدم المسيح وللإشارة إلى "تدبير الفداء" الأزلى. وقد ورد تعبير التدبير مرتين فى الرسالة إلى أفسس:
"تدبير ملء الأزمنة"(12).
"تدبير السر المكتوم"(13).
وذلك للتعبير عن تدبير الله الأزلى للفداء والخلاص الذى تم بآلام المسيح وسفك دمه وموته على الصليب. كما استخدم هذا التعبير القديس أغناطيوس الأنطاكى تلميذ بطرس الرسول:
"لأن إلهنا يسوع المسيح قد حبلت به مريم بحسب تدبير الله... ولد وأعتمد ليطهر الماء بألامه"(14).
"التدبير الذى بدأت بالكلام عنه والخاص بالإنسان الجديد يسوع المسيح، القائم على الإيمان ومحبته وآلامه وقيامته"(15).
قال القديس كيرلس الاسكندرى تعليقاً على قول السيد المسيح لتلاميذه:
"أنه ينبغى أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفى اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً: "حاشاك يارب. لا يكون لك هذا"(16).
"تذكروا كيف لم يحتمل بطرس نبؤة المسيح عندما سبق وأخبره بموته على الصليب... ولم يفهم التلميذ طريق الله السرى فى التدبير"(17).
وقال أيضاً: ولكنه بعد أن أكمل تدبير فدائنا واحتمل الموت على الصليب وقام حياً وأعلن أن طبيعته اسمى من الموت"(18).
وهذا التدبير هو ما أعلنه الكتاب بصورة شاملة فى قوله:
"الذى إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مساوياًلله لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت وموت الصليب"(19).
وقوله أيضاً:
"فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب... فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد أظهر مرة عند أنقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه"(20).
2-حتمية الألم والخلاص:
إن ألم المسيح وموته حسب تعبير الكتاب "أمر محتوم" "أمر حتمى" "كان ينبغى" "كان يجب" كن محتوماً ومقرراً فى خطة الله الأزلية للفداء "قبل تأسيس العالم" "معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم".
والسيد المسيح لم يخف هذه الحقيقة منذ بداية خدمته الجهارية عن تلاميذه، بل علم بها أمام اليهود مراراً، كما أعلنها الوحى الإلهى المقدس للسيدة العذراء مريم عند ختان المسيح فى طفولته فى قول سمعان الشيخ لها "وأنت أيضاً يجوزفى نفسك سيف"(21).
ظل السيد المسيح يعلن هذه الحقيقة التى لا مفر منها حوالى ثلاث سنوات وثلث مدة خدمته الجهارية على الأرض، كما عاد وأوضحها لهم تفصيلاً بعد القيامة.
وهذه أهم إعلانات السيد المسيح عن آلامه وموته على الصليب وقيامته:
1- فى بداية خدمته وعند تطهيره للهيكل للمرة الأولى، طلب منه اليهود أن يعطيهم آية تبرهن على سلطانه وكانت آيته لهم:
"أنقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه" وكان هو يقصد ليس الهيكل الذى يصلى فيه اليهود إنما هيكل جسده. ولكن اليهود لم يفهموا مغزى قوله وحتي تلاميذه لم يفهموا ذلك إلا بعد قيامته من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذى قاله يسوع"(22).
2-وعندما كان يعلم نيقوديموس عن حقيقة الولادة الجديدة وكيفيتها وسر الفداء أعلن آلامه وبذله ذاته بالموت على الصليب لإتمام الفداء بصورة رمزية قائلاً:
"وكما رفع موسى الحية فى البرية هكذا ينبغى أن يرفع ابن الإنسان لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية"(23).
ووجه الشبه بين الحية النحاسية وصلب المسيح (تعلقه على الصليب) هو أن الذين نظروا إلى الحية النحاسية من الذين لدغتهم الحيات شفوا، والخطاه الذين ينظرون إلى المسيح المصلوب ويؤمنون به تغفر لهم خطاياهم بجراحاته وآلامه ودمه ويشفوا من لدغة إبليس "الحية القديمة"(24).
"لأنه هو سلامنا الذى جعل الإثنين واحد ونقض حائط السياج المتوسط أى العداوة ومبطلاً بجسده ناموس الوصايا... ويصالح الإثنين فى جسد واحد مع الله بالصليب قائلاً العداوة به"(25).
3- بعد أن شفى المجنون الأعمى والأخرس، قال له الكتبة والفريسيون:
"يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان فى بطن الإرض ثلاثة أيام وثلاثة ليال"(26).
أراد منه اليهود آية أو معجزة ليبرهن بها على سلطانه الإلهى. فكانت آيته لهم هى آلامه وموته ودفنه فى القبر ثلاثة أيام ثم قيامته من الموت فى اليوم الثالث. ولم تكن هذه آية لعصرهم فقط بل كانت آية لكل جيل وعصر.
4- بعد أن أشبع خمسة آلاف رجل ومن كان معهم من نساء وأطفال بخمسة أرغفة وسمكتين، أرادوا أن يجعلوه ملكاً،فقال لهم:
"أنا هو خبز الحياة" "أنا هو الخبز الذى نزل من السماء إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى ابذله من أجل حياة العالم" ثم أضاف "الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فى وأنا فيه"(27) والإشارة واضحة فى أقواله هذه إلى آلامه وسفك دمه وتقديم جسده على الصليب.
5- بعد أن أعلن بطرس الرسول، بالروح القدس، عن حقيقة لاهوت المسيح فى قيصرية فيلبس: "أنت المسيح ابن الله الحى"(28). كان يتملك التلاميذ أعتقاداً بأن المسيح سيبقى إلى الأبد ولن يموت كما كان يعتقد اليهود(*). يقول الكتاب:
"من ذلك الوقت ابتداء يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغى أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفى اليوم الثالث يقوم" ولما أرتاع بطرس من هذا الكلام الخطير قال منتهراً "حاشاك يارب" فقال له السيد المسيح "أذهب عنى يا شيطان. أنت معثرة لى لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس"(29).
6- بعد أن تجلى السيد على الجبل وكشف عن حقيقة لاهوته بصورة ملموسة، بصورة عملية مرئية، ظهر معه موسى وإيليا يتكلمان معه وكان الحديث بينه وبينهما عن خروجه المقرر منذ الأزل والعتيد أن يكمله بالألم على الصليب فى أورشليم. وفيما هو نازل أوصى تلاميذه الثلاثة الذين شاهدوا التجلى – يوحنا ويعقوب ابنى زبدى وبطرس – قائلاً: " لا تعلموا أحداً بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات "(30).
7- وأثناء تردده فى الجليل " كان يعلم تلاميذه ويقول لهم: ابن الإنسان يسلم إلى أيدى الناس فيقتلونه. وبعد أن يقتل يقوم فى اليوم الثالث"(32).
8- ولما "تقدم بعض الفريسيين قائلين له أخرج وأذهب من ههنا لأن هيرودس يرير أن يقتلك. فقال لهم أمضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغداً وفى اليوم الثالث أكمل. بل ينبغى أن أسير اليوم وغداً وما يليه لأنه لا يمكن أن يهلك نبى خارجاً عن أورشليم"(33).
مشيراً إلى موته فى أورشليم.
9- وبعد أن فتح عينى المولود أعمى وخلق له عينين من طين قال:
"أنا هو الىالراعى الصالح والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف... وأنا أضع نفسى عن الخراف"(34).
مشيراً بذلك إلى تقديم ذاته على الصليب. ثم أشار إلى حقيقة أن الموت على الصليب قد قبله هو بذاته ولم يفرض عليه, إنما قبله بإرادته حسب التدبير الأزلى للفداء, فقال:
"لأنى أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها وسلطان أن آخذها أيضا"(35).
10- وعندما أختلف تلاميذه على الجلوس عن يمينه أو يساىه قال لهم:
11- وفى الطريق آلى أورشليم للمرة الأخيرة:
"أخذ الإثنى عشر أيضاً وأبتدأ يقول لهم عما سيحدث له. ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم فيهزأون به يجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم"(37).
وهذا إعلان تفصيلى بكل ما سيحدث له.
12- "وفيما كان يسوع فى بيت عنيا فى بيت سمعان الأبرص تقدمت إليه إمرأة معها قارورة طيب كثيرة الثمن فسكبت على رأسه وهو متكئ" فأنزعج البعض لذلك فقال لهم يسوع مشيراً إلى موته:
13- بعد دخوله الانتصارى الأخير لأورشليم روى لليهود مثل الكرامين ليكشف لهم من خلال المثل كيف أنهم طردوا وقتلوا الأنبياء الذين أتوا قبله وكيف أنهم سيقتلوه هو أيضاً برغم معرفتهم بأنه "ابن صاحب الكرم" ولما سمعوا المثل عرفوا أنه قاله عليهم"(39).
14- طلب أناس يونانيين من فيلبس أن يروه (يسوع) فقال لتلاميذه:
"أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها, ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير... وأنا إن أرتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت"(40).
والآية الأخيرة هى تعليق للقديس يوحنا الإنجيلى شارحاً لقول السيد مشيراً عن موته.
15- قبل الفصح بيومين قال لتلاميذه:
16- وأثناء تناول الفصح كان كل كلامه يشير إلى حتمية الفداء بتقديم نفسه على الصليب فقال لهم:
"الحق أقول لكم إن واحداً منكم سيسلمنى"(42) ثم أضاف مؤكداً حتمية آلامه وموته قائلاً: "ان ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذى به يسلم ابن الإنسان"(43)
ثم بدأ يصنع العشاء الربانى: "وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا. هذا هو جسدى. وأخذ الكأس وشكى وأعطاهم قائلاً أشروا منها كلكم. لأن هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا"(44)
17- وبعد العشاء الربانى وفى الطريق إلى بستان جثسيمانى إذ خرج وهو عالم بكل ما سيأتى عليه وأن ساعته قد جاءت, قال لتلاميذه مؤكداً من جديد حتمية آلامه وموته على الصليب مثل الأشرار, بل ويضيف هذه المرة أنه سيصلب مع الأشرار مشيراً إلى ما جاء عنه فى سفر نبؤة إشعياء النبى:
"أقول لكم أنه ينبغى أن يتم فى أيضاً هذا المكتوب وأحصى مع أثمه. لأن ما هو من جهتى له أنقضاء"(45).
18- وعندما جاء جنود الهيكل وخدام اليهود إلى البستان للقبض عليه كان بإمكانه أن يخرج من بين أيديهم دون أن يمسوه كما فعل من قبل عدة مرات, ولكن لأن ساعته قد جاءت لذلك أسلم نفسه لهم بإرادته مع أنه لما كشف لهم عن ذاته وقال لهم "أنا هو... رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" ثم أسلم نفسه لهم. ومنع بطرس أن يدافع عنه بالسيف بل وشفى أذن العبد التي قطعها بطرس بسيفه"(46).
19- وبعد القبض عليه ومحاكمته وصلبه وقيامته من الأموات فى اليوم الثالث قال الملاك لمريم المجدلية ومريم الأخرى:
ولما ظهر السيد المسيح لتلاميذه "أراهم يديه وجنبه"(48) وكذلك قال لتوما فى المرة التالية "هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدى وهات يدك وضعها فى جنبى"(49)
وقال لتلميذى عمواس "أيها الغبيان والبطيئا القلوب فى الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده"(50).
وقال لتلاميذه جميعاً مذكراً إياهم ومفسراً لكل ما سبق أن قاله عن آلامه وموته: "وقال لهم هذا هو الكلام الذى كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لأبد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغى أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات فى اليوم الثالث. وأن يكرز بإسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم"(51).
وهكذا كانت إعلانات المسيح صريحة واضحة عن آلامه وموته على الصليب وقيامته. والملاحظ فى كثير من الأمثلة التى ذكرناها أن الإعلانات عن آلامه وموته كانت تأتى مباشرة بعد مواقف تجلى فيها مجده وكشف فيها عن لاهوته مثل إعلان بطرس أنه "ابن الله الحى" وبعد تجليه على الجبل وبعد إشباع الجموع وبعد خلق عينان للمولود أعمى. ففى الأوقات التى كان فيها واضحاً أنه الإله القدير كان يؤكد على حتمية آلامه وموته وقيامته وأنه تجسد وقبل هذه الآلامات تدبيرياً، فقد كانت آلاماً تدبيرية إختيارية محتومة منذ الأزل فقد "أفتقر وهو غنى لكى تستغنوا بفقره"(52).
وفى هذا يتغنى القديس أغريغوريوس النيزينزى (325-389م) قائلاً:
"الذى كان قبل كل العوالم، غير المرئى وغير المدرك, غير المجسم، بدء البدء، نور من نور، أصل الحياة والخلود... جاء إلى صورته وأخذ جسداً لأجل جسدنا ووحد نفسه بروح عاقلة مطهراً شبه بشبه، وصار إنساناً مثلنا فى كل شئ ما عدا الخطية... الموجود بذاته جاء إلى الوجود... الواهب الغنى أصبح فثر لأنه أتخذ فقرنا ناسوتياً لأتخذ أنا غنى لاهوته. مالئ الكل أخلى نفسه من مجده إلى حين كى أشترك أنا فى ملئه"(53).
3- ألم المسيح وصلبه فخر الرسل والشهداء
وهكذا بعد أن كشف الكتاب عن حتمية ألم المسيح وصلبه وموته لفدائنا وأن المسيح أحتمل الخزى والعار لا لشئ إلا لفادينا "أحتمل الصليب مستهيناً بالخزى فجلس عن يمين عرش الله"(54). وحول الصليب من علامة خزى وعار وجهالة وعثرة إلى علامة مجد وفخر:
"إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله"(55)
"أما من جهتى فحاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح"(56).
"ونحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عشرة ولليونانيين جهالة. وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله"(57).
ويقول القديس بولس لأهل كورنثوس:
"لأنى لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً"(58).
وهكذا صارت آلام المسيح وصار موته وقيامته علامة فخر ومجد للمسيحيين ولأن المسيح "رب المجد"(59) تمجد بناسوته، كإنسان بالألم والصليب مع كونه الإله القدير.
فهو يقول لتلاميذه:
"أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده"(60).
والقديس بطرس يشير إلى إعلان روح المسيح، الروح القدس، للأنبياء الذى:
"سبق فشهد (للأنبياء) بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها"(61).
وما أروع هذا النشيد الذى أوحى به الروح القدس وتغنى به القديس بولس والكنيسة الأولى:
"الذى إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مساوياً (معادلاً) لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب"(62).
---
(1) غل 4: 4
(2) تى 13: 2
(7) أع 18: 15
(8) يو 29: 1
(9) أع 23: 2
(10) متى 24: 26
(12) أف 10: 1
(13) أف 9: 3
(14) رسالته إلى أفسس 20: 18
(15) إلى أفسس 1: 20
(16) متى 21: 16 و 22
(17) آلام المسيح وقيامته فى الإنجيل للقديس يوحنا ص71.
(18) المرجع السابق ص 100.
(19) فى 6: 2 – 8.
(20) عب 14: 9 و 26.
(21) لو 35: 2
(22) يو 18: 2 - 22
(23) يو 14: 3 – 16 مع عدد 8: 21 و 9.
(24) رؤ 9: 12.
(25) أف 14: 2 – 16.
(26) متى 38: 12.
(27) يو 48: 6 – 58.
(28) متى 21: 16 – 23.
(*) يو 34: 12 "فاجابه الجمع نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد".
(29) متى 21: 16 – 23.
(30) متى 19: 17.
(31) متى 12: 17.
(32) مر 30: 9 – 32.
(33) لو 31: 13 - 33
(34) يو 11: 10، 15.
(35) يو 18: 10.
(36) متى 27: 20 و 28.
(37) مر 33: 10 و 34.
(38) متى 6: 26 – 12.
(39) لو 19: 20 – 16.
(40) يو 20: 12 – 33.
(41) متى 33: 26.
(42) يو 21: 13.
(43) متى 21: 26 و 24.
(44) متى 26: 26 – 28.
(45) لو 37: 22 مع إش 1: 53.
(46) يو 40: 18 – 11.
(47) متى 6: 28 و 7.
(48) يو 20: 20.
(49) 27: 20.
(50) لو 25: 24 و 26.
(51) لو 44: 24 – 47.
(52) 2كو9: 8.
(53) On The Son: 19
(54) عب 2: 12.
(55) 1كو18: 1.
(56) غل 14: 6.
(57) 1كو 23: 1.
(58) 1كو 2: 2.
(59) 1كو 8: 2.
(60) لو 26: 24.
(61) 1 بط 11: 1.
(62) فى 6: 2 - 11
الفصل الثالث
آلام المسيح ونوعيتها
1. الآلام النفسية
2. الآلام الجسدية
3. الآلام الكفارية
ذاق السيد المسيح ثلاثة أنواع من الآلام، هى الآلام النفسية والجسمية والكفارية.
1- الآلام النفسية:
ذاق الآلام النفسية منذ ولادته فقد أخضع نفسه لكل ما للطبيعة البشرية:
1- لأنه أخلى نفسه من مجده وأخذ صورة العبد "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد"(1) "إنه من أجلكم أفتقر وهو غنى لكى تستغنوا أنتم بفقره"(2).
2- "ومن ثم كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شئ لكى يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً فى ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه فيما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين"(3) لذا يقول الكتاب "كان مجرباً مثلنا فى كل شئ بلا خطية"(4).
ولأنه جاء لكى يتألم فقد ذاق الألم منذ ولادته إذ ولد فى مذود البقر كأفقر طفل(5) ولما كبر لما يكن "له أين يسند رأسه"(6) فوصفه الكتاب بأنه "رجل أوجاع ومختبر الحزن"(7). جاء لكى يتألم، فقد كان محتوماً أن "يتألم مراراً كثيرة منذ تأسس العالم"(8) ودعا الكتاب آلامه ب "الآلام التى للمسيح"(9).
وكانت آلامه النفسية تشمل:
- آلام الرفض من أمته التى رفضته فرفضها:
" يا أورشليم.. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا. هوذا بينكم يترك لكم خراباً"(11).
ومن فرط حزنه على أمته "بكى عليها"(12).
- آلام بسبب شك تلاميذه فيه ليلة القبض عليه وتركهم له وحيداً(13).
- آلام بسبب خيانة يهوذا له وبيعه بثلاثين من الفضة(14).
- آلام بسبب إنكار بطرس له أمام جارية وبعض الخدم(15).
- وما حدث له منذ لحظة القبض عليه وحتى صلبه ودفنه. كانت آلامه النفسية مرة وقاسية كالموت، فقد ذاق ألم البصق فى الوجه واللطم واللكم والسخرية والاحتقار فحق فيه قول الكتاب: "أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب"(16)
(أ) فقد سخر منه رئيس الكهنة ورؤساء اليهود وبصقوا فى وجهه ولكموه ولطموه ساخرين قائلين "تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك"(17) وذلك بعد أن شهدوا عليه زورا(18). وأدعوا عليه أمام بيلاطس أنه "يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية ليقصر قائلاً أنه مسيح، ملك"(19) مع أنه سبق أن قال لهم "أعطوا ما ليقصر لقيصر وما لله لله"(20) كما أدعوا أنه "فاعل شر"(21).
(ب) سخر منه هيرودس الملك واحتقره مع عسكره "وأستهزأ به وألبسه لباساً لامعاً"(22) سخرية به وإحتقاراً له.
(ج) سخر منه الجنود الرومان وأحتقره وأستهزأوه به وألبسوه أرجواناً وضفروا أكليلاً من شوك ووضعوه عليه" وكانوا يسخرون منه قائلين "السلام يا ملك اليهود. وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة ويبصقون عليه ثم يسجدون له جاثيين على ركبهم. وبعد ما أستهزأوا به نزعوا عنه الأرجوان وألبسوه ثيابه وخرجوا به ليصلب"(23).
(د) جلده بيلاطس كنوع من التأديب "فأنا أؤدبه وأطلقه"(24) ثم أسلمه ليصلب. فذاق المسيح من ظلم اليهود الذين حكموا عليه بالموت زوراً وظلماً، وظلم بيلاطس الذى جلده وصلبه وهو يعلم أنه برئ(25).
(و) لم يشفق عليه قومه لحظة واحده ولما أحسوا أن بيلاطس يمكن أن يطلقه صرخوا قائلين "أصلبه أصلبه"(26) "دمه علينا وعلى أولادنا"(27) مع أنه الذى شفى مرضاهم وأقام موتاهم وكان يجول بينهم " يصنع خيراً ويشفى جميع المتسلط عليهم إبليس"(28). ولم يشفقوا عليه حتى وهو على الصليب يحتمل كل أنواع الآلام فسخروا منه وأستهزأوا به وعيروه(29). فأنطبق عليهم وعليه ما سبق أن تنبأ به داود ورأه بعين الوحى وكأنه كان جالساً تحت الصليب يدون ما يراه قائلاً بلسان المسيح:
"إلهى إلهى لماذا تركتنى... أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يروننى يستهزئون بى. يفغرون الشفاه وينعصون الرأس قائلين أتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سر به... أحاطت بى ثيران كثيرة. أقوياء باشان أكتنفتنى... لأنه أحاط بى كلاب جماعة من الأشرار أكتنفتنى. ثقبوا يدى ورجلى. أحصى كل عظامى. وهم ينظرون ويتفرسون فى. يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون"(30).
2- الآلام الجسدية
إذا كانت آلام السيد المسيح النفسية قاسية ومريرة فقد كانت آلامه الجسمية أيضاً رهيبة وقاسية قسوة الموت. فقد لطم ولكم وضرب بالقصبة على رأسه وجلد ووضع أكليل الشوك على رأسه وحمل الصليب وهو منهك وصلب بتسمير يديه وقدميه.
1- اللطم واللكم والضرب بالقصبة على رأسه
بعد القبض عليه فى منتصف الليل وقف أمام السنهدرين ورئيس الكهنة وبدأت الإصابات الجسدية بأن لطمه واحد من الخدم(31) ثم بصق الحراس فى وجهه الطاهر "ولكموه. وآخرون لطموه"(32) ساخرين. وكذلك عندما وقف أمام بيلاطس سخر منه الجنود الرومان "وكانوا يلطمونه" و"بصقوا عليه أخذوا القصبة وضربوه على رأسه"(34).
وكانت الضربات واللكمات شرسة ووحشية وعنيفة بلا رحمة فقد كانت تنهال عليه بلا وعى وبلا حساب. كما كانوا يضربونه بالقصبة على رأسه بوحشية، فكان يتألم بشدة ولكنه لم يفتح فاه من شدة الألم كما قال الكتاب عنه:
"ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه"(35).
وقد كتب أحد العلماء (د. دافيد ويلز Dr. David Willis) تقريراً عن الجراحات التى لاحظها على صورة الوجه المقدس يقول:
"إنتفاخ فى حاجبى العينين – تمزق فى جفن العين اليمنى – إنتفاخ كبير تحت العين اليمنى – إنتفاخ فى الأنف – جرح مثلث الشكل على الخد الأيمن متجهاً بقمته نحو الأنف – إنتفاخ فى الخد الأيسر – إنتفاخ فى الجانب الأيسر للذقن"(36).
وهذا يوضح نبؤة الكتاب عنه التى تقول:
" لا صورة له ولا جمال ننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوضاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهرنا محتقر فلم نعتد به"(37).
2- الجلد
كان الجلد عقوبة قاسية تطبق على العبيد والرعاع ولا تطبق على المواطن الرومانى الحر(38). كما كان الجلد يعتبر عقوبة كاملة إذا يجلد المتهم بسوط مكون من ثلاثة سيور من الجلد ينتهى كل منها بقطعتين من العظام أو كرتين من المعدن (قطر 12مم)، فيهوى الجندى الرومانى بكل قسوة بالسوط على الشخص فيحدث ستة تمزقات فى جسده. وكانت هذه العقوبة تؤدى إلى الموت أحياناً من شدة ما تحدثه فى الجسد من تمزقات.
والكتاب يقول أن بيلاطس البنطي أمر بجلد السيد المسيح(39)0 ويرى أكثر المفسرين أن بيلاطس أمر بجلد السيد المسيح كعقوبة كاملة "فأنا أؤدبة وأطلقة لكم"(40) لكى يرضىاليهود0 وجلد الجنود الرومان السيد المسيح بوحشية وعنف حتى تركت آثار الجلدات على جسده الطاهر حوالى 130 (*) جرحاً (كدمه) من الكتفين إلى اسفل فتحقق فيه قول الكتاب:
" بذلت ظهري للضاربين وخذى للناتفين.وجهى لم استر عن العار والبصق"(41).
ولما وجد الجلادان أن السيد علي وشك الموت توقفا عن الجلد وألبسوه ثوب أرجوان.وأخرجه بيلاطس وهو فى هذه الحاله من الالم والأعياء الشديدين لكى يشفي غليل اليهود فيكتفون بذلك ولكن لآجل قساوة قلوبهم لم يكن يرضيهم سوى قتله.
"فخرج يسوع خارجاً وهو حامل أكليل الشوك وثوب الأرجوان. فقال لهم بيلاطس هوذا الإنسان.فلما رأه الكهنه والخدام صرخوا قائلين أصلبه أصلبه...يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله"(42).
وقبل أن يحمل الصليب "أستهزأوا به ونزعوا عنه الأرجوان" الذى كان قد التصق بالجسد الذى كان ينزف منه الدم من موضع الجلد..مما جعل الجروح تنزف من جديد وتسبب ألاماً مضاعفه ورهيبه "وألبسوه ثيابه ثم خرجوا به ليصلبوه"(43).
3- أكليل الشوك
بعد كل هذه الألام الرهيبه وجد الجنود الرومان فى السيد المسيح _ اليهودى العامى الذى يقال عنه أنه ملك _فكاهه وتسليه فضفروا حزمه من الآشواك فى شكل تاج وغرسوها فى رأسه بشده وعنف فأحدثت فى الرأس من خلف وأعلى الجبهه أكثر من إثنتى عشر ثقباً سال منها الدم على الرقبه والعينين وخصال الشعر فكان يحرك رأسه يميناً ويساراً من شدة الآلام التى نتجت عن ذلك ألاماً ناريه لاحد لها:
وما كان يزيد من شدة ألامه أن العسكر كانوا يضربونه بالقصبه على رأسه "وأخذوا القصبه وضربوه على رأسه"(45) فكانت الأشواك تنغرس بعمق اكثر مسببه ألاماً ناريه لاحد لها.
4- الصلب
"وبعد ما إستهزأوبه نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب "(46).
"فخرج وهو حامل صلبه إلى الموضع الذى يقال له موضع الجمجمه ويقال له بالعبرانيه جلجثه حيث صلبوه"(47).
حمل السيد صليبه عبر طريق الألام من دار الولايه إلى الجلجثه (650 يارده) وهو منهك من الدم بسبب هذه الجروح الكثيره التى فى جسده. فكان يئن تحت حمل الصليب الثقيل كما كان السطح الخشن للصليب ينحر فى الجلد والعضلات المتهرئه للكتفين مسبباً تمزقات عميقه وداميه فوق جراحات السياط وكذلك مسبباً ألاماً مبرحه لا حد لها فيسقط بالصليب الثقيل اكثر من مرة على وجهه وركبتيه مما سبب تجلطات وآلاماً اضافية. فأتوا بسمعان القيروانى لمساعدته فى حمل الصليب: "ولما مضوا به أمسكوا سمعان، رجلاً قيروانياً كان آتياً من الحقل، ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع"(48).
وكالعادة كان الجنود الرومان يضربونه بالسياط طول الطريق بوحشية وثنية مجردة من العواطف الإنسانية. ثم صلبوه بتسمير يديه بمسمار حدادى مربع فنفذ من المعصم إلى الخشبة ثم سمروا قدميه بنفس الطريقة بلا رحمة ولا شفقة معلقين إياه على الصليب وكان جسده الطاهر محمولاً بكل ثقله على القمين والمعصمين وكان جسده يحمل على قدميه عند أرتفاعه إلى أعلى ويحمل على يديه عند أنخفاضه إلى أسفل للقيام بعملية التنفس وحتى لا يحدث شلل للعضلات الصدرية فيعجز عن التنفس، وقد استمرتا هذه العمليات حوالى ثلاث ساعات، وقد كانت هذه العمليات تحدث آلاماً نارية لا يتصورها العقل "سواء دوران كل من المعصمين حول المسمار الذى يحتك بالعصب الأوسط وبعظام الذراع، أو أرتكاز الجسد بكل ثقله على المسمار الذى أخترق القدمين كليهما"(49).
وهنا تحقق قول داود النبى فى نبؤته عن صلب المسيح وآلامه:
"كالماء انسكبت. أنفصلت كل عظامى. صار قلبى كالشمع. قد ذاب فى وسط أمعائى يبست مثل شقفة قوتى ولصق لسانى بحنكى وإلى تراب الموت تضعنى. لأنه قد أحاطت بى كلاب. جماعة من الأشرار أكتنفتنى. ثقبوا يدى ورجلى"(50).
3- الآلام الكفارية:
يقول الكتاب "أجرة الخطية هى موت"(51) والإنسان أخطأ وكان لابد ان يموت موتاً أبدياً "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع"(52) ولكن السيد المسيح، الإله القدير، أرتضى أن يتخذ جسداً ويموت عن الخطاة "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات فى الوقت المعين لأجل الفجار"(53) "البار من أجل الأثمة"(54).
"بذل نفسه لأجل خطايانا"(55) كما قال "أنا أضع (أبذل) نفسى عن الخراف"(56). قبل الموت والآلام نيابة عنا "تألم.. لأجلنا"(57) جعل "نفسه ذبيحة إثم"(58) لأجلنا لكى "يرفع خطية العالم"(59)، "قدم عن الخطايا ذبيحة... ذبيحة نفسه"(60) وذلك لكى "يبطل الخطية بذبيحة نفسه"(61)، وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره (بجروحه) شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا"(62).
تألم المسيح آلاماً نفسية وجسمية وكفارية مع أنه "القدوس البار" الذى لم يعرف خطية"(63) والذى قال عنه الكتاب "قدوس بلا شر ولا دنس قد أنفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات"(64) ولكنه أرتضى أن يتألم نيابة عن الخطاة، يتحمل هو خطية العالم "جعل الذى لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه"(65). "لذلك جاء فى الجسد"(66) "اتخذ جسداً"(67) ولكن بلا خطية "جاء فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية فى الجسد"(68).
سفك دمه وتألم ومات على الصليب لأجلنا، احتمل الآلام الرهيبة فى جسده المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود لكى يكفر عن خطايانا غير المحدودة، احتمل الآلام القاسية والمرة والرهيبة على الصليب لكى يشترينا نحن شعبه وكنيسته أو كما يقةل الكتاب "كنيسة الله التى أقتناها بدمه"(69).
كانت آلامه الجسمية والنفسية والكفارية قاسية ورهيبة ومرة، احتملها وصاح من شدتها فقد كانت آلاماً مريرة وغير محدودة للإله المتجسد غير المحدود: "عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى... بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح"(70).
---
(1) فى 7: 2.
(2) 2 كو9: 8.
(3) عب 17: 2 و 18.
(4) عب 15: 4.
(5) لو 1: 2 – 6.
(6) متى 20: 8.
(7) إش 3: 53.
(8) عب 26: 9.
(9) 1 بط 11: 1.
(10) يو 11: 1.
(11) متى 37: 23 و 38.
(12) لو 41: 19.
(13) متى 3: 26 و 56.
(14) متى 14: 26 – 16 و 25 و 48 و 49.
(15) متى 69: 2 و 75.
(16) مز 6: 22.
(17) متى 65: 26 – 68.
(18) مر 56: 14.
(19) لو 2: 23.
(20) متى 21: 22.
(21) يو 30: 18.
(22) لو 11: 23.
(23) مر 17: 15-20.
(24) لو22: 23.
(25) متى 24: 27، 26.
(26) يو 5: 19.
(27) متى 25: 27.
(28) أع 28: 10.
(29) متى 39: 27 – 34.
(30) مز 1: 22 و 6 – 17.
(31) يو 22: 18.
(32) متى 67: 26.
(34) متى 30: 27.
(35) إش 7: 53.
(36) الكفن المقدس لنيافة الأنبا بيشوى أسقف دمياط والقمص متياس فريد ص 135.
(37) أش 2: 53و 3.
(38) أع 25: 16 – 40، 22: 25 – 29.
(39) متى 26: 27.
(40) لو 22: 23.
(*) جلد الجنود الرومان السيد المسيح حوالى 130 جلده وكل جلده اُستخدم فيها سوط به ستة قطع من العظم أو الرصاص، أى أنغرس فى جسده حوالى 720 قطعة من العظم أو الرصاص. فتم فيه قول الكتاب: "على ظهرى حرث الحراث" مز 3: 129.
(41) إش 6: 50.
(42) يو 5: 19 – 7.
(43) مر 20.15.
(44) متى 29: 27.
(45) متى 30: 27.
(46) متى 31: 27.
(47) يو 17: 19 و 8.
(48) لو 26: 23.
(49) الكفن المقدس 162.
(50) مر 14: 22 – 16.
(51) رو 23: 6.
(52) رو 12: 5.
(53) رو 6: 5.
(54) 1بط 18: 3.
(55) غل 4: 1.
(56) يو 14: 10.
(57) 1بط 21: 2، 1: 4.
(58) إش 10: 53.
(59) يو 29: 1.
(60) عب 12: 10، 26: 9.
(61) عب 26: 9.
(62) إش 5: 53،6.
(63) 1بط 22: 2.
(64) عب 26: 7.
(65) 2 كو21: 5.
(66) 1 يو 3: 4.
(67) يو 4: 1.
(68) رو 3: 8.
(69) أع 28: 20.
(70) 1 بط 18: 1.
الفصل الرابع
آلام المسيح وكيفيتها
1. كيف تألم المسيح
2. تألم دون أن يتألم
3. أمثلة لكيفية آلام الناسوت دون اللاهوت
1- كيف يتألم المسيح؟
هذا سؤال يطرح نفسه دائمآ، كيف يتألم وهو الإله القدير، غير المتألم؟ كيف يتألم غير المتألم؟ كيف يتألم الإله الخالق بينما الألم خاص بالمخلوق؟
قال بولس وبرنابا عندما ظنهما الجموع فى لستره أنهما من الآلهة:
"نحن أيضاً بشر تحت آلام مثلكم"(1).
وقال يعقوب الرسول عن إيليا، مؤكدآ هذه الحقيقة:
"كان إيليا إنسانآ تحت الالام مثلنا"(2).
ومع نلك ينسب الكتاب لله الكلمة، رب المجد الألم وسفك الدم والموت!!!
"احترزوا... لترعوا كنيسة الله التى أقتناها بدمه"(3).
"لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد"(4).
"إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح الذى بذل نفسه لأجلنا"(5).
فكيف يصلب الإله ويتألم ويذل؟ كيف يبذل نفسه وهو غير المحدود وتسأل هذا السؤال وتجيب عنه رسالة برنابا(6) المكتوبة فى القرن الأول والتى يقول كاتبها: "يا إخوتى إن كان السيد قد أحتمل أن يتألم من أجل نفوسنا وهو رب المسكونة... فكيف قبل أن يتألم على أيدى الناس؟ أن الأنبياء بالنعمة التى تسلموها من عنده تنبأوا عنه. ولكى يبطل الموت ويبرهن عن القيامة من الأموات ظهر بالجسد وأحتمل الألام... لو لم يأت بالجسد لما أستطاع البشر أن ينظروا خلاصهم. إذ كانوا لا يستطيعون أن ينظروا الى الشمس التى هى من أعمال يديه فهل يمكنهم أن يحدقوا إليه لو جاءهم بغير الجسد. إذ كان ابن الله قد أتى بالجسد فلأنه أراد أن يضع حداً لخطيئة أولئك الذين اضطهدوا أنبياءه... يقول الله أن الجرح فى جسده هو منهم"(7).
إن السيد المسيح أتخذ جسداً، جاء فى الجسد، ظهر فى الجسد "افتقر وهو غنى لكى تستغنوا أنتم بفقره"(8)، أخلى نفسه من مجده وأحتجب فى الناسوت وأحتمل الألام فى الجسد "ولكن الذى وضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد... فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضآ كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس... من ثم كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شىء لكى يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناًآ فى ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه فيما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين"(9).
لقد "جاء فى شبه جسد الخطية دان الخطية فى الجسد"(10) صورة الله اتخذ صورة العبد "الذى إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مساوياً لله لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب"(11).
اتخذ جسداً "هيأت لى جسداً"(12) وفى هذا الجسد احتمل الألام النفسية:
"نفسى حزينة حتى الموت"(13).
"اضطرب يسوع بالروح"(14).
كما احتمل الألام الجسمية. احتمل الألام الكفارية كاملة فى جسده، فقد كان جسده كاملآ "من روح ونفس ولحم وعظام"، كان كاملآ فى ناسوته كما كان كاملآ فى لاهوته "حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة"(15).
والكتاب ملىء بالنصوص والأيات التى تؤكد أن السيد المسيح احتمل الألام بالناسوت:
- "تألم المسيح لأجلنا بالجسد"(16).
- "أنا هو الراعى الصالح والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف... وأنا أضع (أبذل) نفسى عن الخراف"(17).
- "الخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم"(18).
- "لأنه هو سلامنا الذى جعل الإثنين واحداً... مبطلاً بجسده ناموس الوصايا"(19).
- "قد صالحكم الأن فى جسم بشريته بالموت"(20).
- "فإذ لنا ثقة أيها الأخوة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع. طريقاً كرسه لنا حديثاً بالحجاب أى جسده"(21).
- "فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع مرة واحده"(22).
- "الذى حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة"(23).
وهكذا يؤكد الكتاب أن اللاهوت لم يتألم ولم يمت، ولكن قال أن المسيح، الإله المتجسد تألم بالجسد. تألم بالناسوت دون ان يتألم اللاهوت، الله ظهر فى الجسد تألم فى الجسد الذى أتخذه، تألم فى الجسد ولم يتألم بلاهوته مع أن الجسد هو جسده الذى هيأه وأتخذه لنفسه.
2- تألم دون أن يتألم:
وقد استخدم آباء الكنيسة تعبيرات "تألم دون أن يتألم"، "كان متألماً وغير متألم"، "تألم كإنسان ولم يتألم كإله"، "كان قابلاً للألم بناسوته ولكنه غير قابل للألم بلاهوته" وذلك للتعبير عن حقيقة تألمه بالجسد وليس اللاهوت مع أنه مسيح واحد ورب واحد وأقنوم واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين بغير أختلاط أو امتزاج أو تغيير:
"ورب واحد يسوع المسيح الذى به جميع الأشياء ونحن له"(24).
"لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد"(25).
"لأن معلمكم واحد المسيح"(26).
- قال القديس كيرلس عمود الدين:
"نعترف بأن الكلمة صار إنساناً بالحقيقة مثلنا وأنه هو نفسه إله من إله وإذ أخذ شكلنا صار إنساناً مثلنا مولوداً من امرأة، وأنه بسبب إتحاده بالجسد تألم بكل الإهانات لكنه أحتفظ بما له من عدم الألم لأنه ليس إنساناً فقط بل هو نفسه الله، وكما أن الجسد هو جسده هكذا آلام الجسد ورغباته غير الدنسة وكل الإهانات التى وجهها البعض، كل هذا احتمله هو لأنه كان موجهاً إلى جسده الخاص به. لقد تألم دون أن يتألم"(27).
"وهكذا نعتقد أنه فى جسده الخاص قد تألم لأن الآلام تخص الناسوت، بينما الاهوت هو فوق الألم"(28).
"إن الآلام تخص الناسوت ولكنه غير قابل للألم كإله. وإن كان قد تجسد وصار مثلنا إلا أننا نعترف بألوهيته ومجده الفائق وعطاياه الإلهية"(29).
وعلى الرغم من أنه يقول من خلال الأنبياء "بذلت ظهرى للضاربين.. احصى كل عظامى"(30). "وضعوا فى طعامى علقما وفى عطشى سقونى خلاً"(31) فإننا نخصص كل هذا الابن الوحيد الذى تألم تدبيراً فى الجسد حسبما تعلم الكتب المقدسة. ولكننا نعترف أنه غير قابل للألم بالطبيعة،لذلك كما قلنا سابقاً أنه متأنس، والآلام تخص الناسوت أى تخصه هو من حيث الناسوت، ولكن من حيث هو إله هو غير قابل للألام(32)".
"وعلى الرغم من أنه قيل عن يسوع أنه تألم فإن الآلام هى خاصة بالتدبير. وهى آلامه هو، وهذا صحيح تماماً لأنه تألم فى الجسد الذى يخصه هو. ولكنه كإله لا يتألم أى لا تقبل طبيعته الألم"(33).
"هو يتألم ولكنه لا يتألم، أى أنه يتألم فى الجسد كإنسان لكنه غير قابل للألم كإله"(34).
"وهكذا نعتقد أنه فى جسده الخاص قد تألم لأن الآلام تخص الناسوت بينما الاهوت هو فوق الألم"(35).
- وقال القديس أثناسيوس الرسولى:
"ومن الغريب أن الكلمة نفسه كان متألماً وغير متألم، فمن ناحية، كان (الكلمة) يتألم لأن جسده هو الذى يتألم، أن الكلمة –إذ هو بالطبيعة- لا يقبل التألم. وكان الكلمة غير الجسدى موجوداً فى الجسد الذى يتألم، وكان الجسد يحوى فيه الكلمة غير المتألم الذى كان يبيد العلل التى قبلها فى جسده"(36).
"فإنه هو نفسه يجب أن نعترف به متألماً وغير متألم... تألم كأنسان وظل غير متألم ولا متغير كإله"(37).
ثم يشرح عملية التجسد واحتمال الألم بالجسد قائلاً:
"فإن التقليد الرسولى يعلم فى قول المغبوط بطرس "إذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد"(38) بينما يكتب بولس "متوقعين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح. الذى بذل نفسه لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً فى اعمال حسنة"(39). فكيف إذا قد بذل نفسه لأجلنا، إن لم يكن لابساً جسداً؟ لأنه بتقديمه هذا الجسد قد بذل نفسه لأجلنا، لكى بقبوله الموت فى هذا الجسد، يبيد ذلك الذى له سلطان الموت أى إبليس"(40).
- وجاء فى رسالة لأغناطيوس الأنطاكى موجود جانب منها فى كتاب إعترافات الآباء يقول فيها(41):
"نحن نؤمن أن المسيح الإله تألم بالجسد كالإنسان وهو غير متألم كالإله وذاق الموت بالجسد وهو غير مائت كالإله، فإذا سمعت أن الله تألم عنا وأن الله الكلمة مات لأجلنا فافهم أننا نوصل الطبائع إلى وحدانية الاهوت والناسوت ونسميها بهذا الاسم الواحد الائق"(42).
- وقال ساويرس بن المقفع (من القرن العاشر الميلادى):
"المسيح من جهة إنسانيته وتأنيسه، قابل للألم والعرض والتأثير والموت. ومن جهة أزليته ولاهوته غير ملموس ولا محسوس ولا متألم ولا مائت. كالجسم المتحد به الكون أو كالنفس المتحده بالجسم أو كالنار المتحده بالحطب. فإن الجسم يوصف بالموت والفساد والإستحالة وقبول التأثير والتجزؤ والأنفصال والحلول فى الأماكن... وكذلك النفس لا توصف بأن قتلت ولا مائت ولا جاعت ولا عطشت وإن كانت متحده بالجسم الفاسد المائت الجائع العطشان"(43).
- وقال العلامة يوحنا الدمشقى (675-749م):
"إذاً فإن كلمة الله نفسه قد احتمل كل الآلام فى جسده، بينما طبيعته الإلهية –التى تتألم- ظلت وحدها عديمة التألم، لأن المسيح الواحد المتحد (مركب) من لاهوت وناسوت، وهو فى لاهوت وناسوت، قد تألم. والذى فيه قابل التألم –مماكان طبعاً يتألم –فقد تألم. أما الذى فيه لا يتألم فلم يشاركه الآلام. فإن النفس التى هى قابلة الآلام عندما يجرح الجسد، ولو كانت هى لا تجرح، فهى تشارك الجسد أوجاعه وآلامه. وأعلم بأننا نقول ان الله يتألم فى الجسد ولا نقول أبداً أن اللاهوت يتألم فى الجسد"(44).
- وقال القديس أغريغوريوس النيزينزى:
"غير متألم بلاهوته، متألم فى ذاك الذى اتخذه (أى جسده)(45).
- وقال الأنبا بولس البوشى (أسقف مصر سنة 1240م) فى ميمر الصلبوت:
"كما شاء وتجسد لأنه حيث هو غير منظور ولا متألم فى جوهر لاهوته اتحد بالحسد ليقبل به الآلام عنا.... فياللعجب الضى يعلو كل فهم؟!! غير المتألم بلاهوته قبل الآلام بالجسد لأجلنا"(46).
- وقال فى كتابة التجسد:
"شاء تحننه أن يتجسد، واتحد بالجسد مع لاهوته وأوصل الحياة المؤبدة إلى نلك الجسد بإتحاده به، ثم أوصلها إلينا وإلى كافة المؤمنين به، بالنسبة لذلك الجسد المأخوذ منا، وقبل إليه الآلام الواجبة علينا من أجلنا ومن أجل خلاصنا، فتألم بالجسد وهو غير متألم ولا مائت بلاهوته. لأنه يعلو الآلام، ويعطى الحياة"(47).
3- أمثلة لكيفية آلام الناسوت دون اللاهوت
شبه آباء الكنيسة – فى القرون الأولى – آلام الناسوت دون اللاهوت بالحديد الذى إذا وضع فى النار يمتلئ بقوة النار التى تتخلل ذراته ومع ذلك عندما يطرق الحديد المحمى يؤثر الطرق على الحديد ولا تتأثر النار بهذا الطرق.
وكذلك شبه الآباء أيضاً وحدة اللاهوت بالناسوت أو تأثر الناسوت فعلياً بالألم دون اللاهوت بإتحاد النفس والجسد وذلك إستناداً إلى قول السيد المسيح نفسه "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها"(48) فإذا كانت النفس التى تكون مع الجسد كائناً وحداً لا يمكن أن تجرح أو تقتل أو تموت إذا حدث ذلك للجسد، فكم بالأحرى يكون اللاهوت المتحد بالناسوت غير قابل للألم معه.
- قال القديس كيرلس عمود الدين
"كيف يصبح الواحد نفسه غير متألم ومتألم فى نفس الوقت؟
عندما يتألم فى جسده لم يؤثر الألم فى ألوهيته. هذا التدبير فائق ولا يستطيع عقل أن يسبر عمقه ومجده... نؤمن أنه تألم فى جسده دون أن يتألم فى لاهوته. وكل محاولة لتشبيه الإتحاد بين اللاهوت والناسوت مهما كانت قاصره وعاجزة عن أن تعلن الحق أو تشرحه فإنها مع ذلك تظل هذه التشبيهات قاصرة على أن تبعث فى العقل قدرة على تصور الحقيقة وإدراك دقتها التى تفوق التعبير بالكلمات. فقطعة من الحديد أو أى معدن آخر إذا أتصلت بنار مشتعلة تتحد بالنار وإذا طرقت يترك الطرق أثاراً على المعدن، أما طبيعة النار فهى تظل بعيدة عن التأثر. وهكذا نعتقد بأن الابن تألم بالجسد دون أن يتألم لاهوته"(49).
- وقال القديس ديسقورس
"إن إتحاد اللاهوت بالناسوت يماثل الفولاذ إذا هز الكور وإتحد بالنار فيصير طبع النار وطبع الحديد شيئاً واحداً. أما إحتجاجكم على ذلك بإيجاب وقوع الآلام على اللاهوت فمعنا الدليل الكافى من الشهداء الذين لما كانوا يعاقبون ما كانت تعاقب أنفسهم وتتألم. والله قبل الآلام بجسده أما لاهوته فمنزه عن قبول الآلام بالكلية"(50).
- وقال ساويرس بن المقفع
"إن الجسم يوصف بالموت... والإستحالة وقبول التأثر أو التجزؤ والأنفصال... والنفس لا توصف بأن قتلت ولا ماتت ولا جاعت ولا عطشت وإن كانت متحدة بالجسم الفاسد المائت"(51).
---
(1) أع 15: 14.
(2) يع 7: 5.
(3) أع 28: 20.
(4) 1كو8: 2.
(5) تى 13: 2.
(6) هذه الرسالة كتبت فى أواخر القرن الأول الميلادى.
(7) برنابا 5: 5 – 12.
(8) 2كو9: 8.
(9) 9: 2 – 18.
(10) رو 3: 8.
(11) فى 6: 2 – 9.
(12) عب 5: 10.
(13) متى 38: 26.
(14) يو 21: 13.
(15) 1 بط 24: 2.
(16) 1بط 1: 4.
(17) يو 11: 10 و 15.
(18) يو 51: 6.
(19) رو 3: 8.
(20) كر 22: 1.
(21) عب 20: 10.
(22) عب 10: 10.
(23) بط 24: 2.
(24) 1 كو 6: 8.
(25) 1 كو 8: 2.
(26) متى 8: 23 و 10.
(27) تجسد الابن الوحيد ص 37.
(28) المرجع السابق 37.
(29) المرجع السابق 37.
(30) إش 6: 50.
(31) مز 16: 22 و 17.
(32) مز 21: 69.
(33) تجسد الابن الوحيد 37.
(34) المرجع السابق 13.
(35) المرجع السابق 36.
(36) الرسالة إلى ابيكتيكوس 6.
(37) ظهور المسيح المحى – مؤسسة القديس أنطونيوس ص16.
(38) 1 بط 1: 4.
(39) تى 13: 2، 14.
(40) الرسالة إلى أدلفوس 6.
(41) مخطوط إعترافات الآباء المحفوظ بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون وأيضاً بالدير المحرق.
(42) أنظر أضاً الخريدة النفيسة ج 104: 1.
(43) مصباح العقل 25: 2 – 30.
(44) المئة مقالة فى الإيمان الأرثوذكسى 69.
(45) On The Son: 22.
(46) مقالات الأنبا بولس البوشى إعداد القس منقريوس عوض الله.
(47) مقالة فى التثليث والتجسد وصحة المسيحية، تحقيق الآب سمير اليسوعى ص 216.
(48) متى 28: 10.
(49) المسيح واحد 104.
(50) علم اللاهوت القمص ميخائيل مينا ج 360: 1.
(51) مصباح العقل 28: 2 و 29.
الفصل الخامس
إضطراب المسيح حقيقته وكيفيته؟
1. اضطراب المسيح كإنسان
2. بلاهوته فوق الألم والاضطراب
3. تأكيد ناسوته وحتمية الألم
عندما دنت الساعة المحتومة بمشورة الله، منذ الأزل، ساعة الآلام والموت الكفارى على الصليب، إضطربت نفس المسيح، إضطرب يسوع بالروح، حزن وأكتأب وقال قبل العشاء الأخير وقبل العشاء الربانى:
"الآن نفسى قد أضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجنى من هذه الساعة" ثم أضاف "ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة"(1).
وهنا تواجهنا عدة أسئلة:
(أ) كيف يضطرب المسيح وهو القدير؟
(ب) لماذا قال هذا أمام تلاميذه؟
(ج) ولماذا قال "لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة؟"
1- إضطراب المسيح كإنسان:
اضطرب المسيح بالروح وكان إضطرابه حقيقة، ولكنه أضطرب كإنسان إضطرب بناسوته أمام ما هو آت عليه من آلام نفسية وجسيمة وكفارية قاسية ومرة ورهيبة. فقد كان عليه أن يكفر عن خطايا العالم كله "وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً"(2).
كانت خطية آدم، الإنسان، غير محدودة لأنه عصى الله الغير محدود، لذا كانت كفارة المسيح غير محدودة وآلامه بالتالى غير محدودة وقد أحتملها فى ناسوته المحدود بلاهوته غير المحدود ومن أجل ذلك صارت كفارته غير محدودة ولا يستطيع أن يقوم بها ويحتمل آلامها سواء:
"فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد أجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثى لضعفاتنا بل مجرب فى كل شئ مثلنا بلا خطية"(3).
"لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد أنفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات الذى ليس له أضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه"(4).
"وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً... فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى"(5).
فقد جاء لكى "يبطل الخطية بذبيحة نفسه"(6).
إضطرب كإنسان، إضطربت نفسه الإنسانية وهو يفكر فيما هو آت عليه، من خيانة أحد تلاميذه وإنكار آخر وشك الباقين وتركهم له وحيداً وأيضاً ما سيتحمله من خزى وعار وإهانة ولطم وبصق وإكليل شوك وجلد وموت على الصليب فتحققت فيه نبؤة داود النبى "لأنى من أجلك إحتملت العار. غطى الخجل وجهى. صرت أجنبياً عند إخوتى وغريباً عند بنى أمى"(7).
إضطربت نفسه الإنسانية أمام ما سيحدث له على الصليب فى ساعات الظلمة الثلاث وإحتجاب وجه الآب وتركه يتحمل الآلام التى شاءت إرادته الإلهية أن يتحملها منذ الأزل كاملة "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلى إيلى لما شبقتنى أى إلهى إلهى لماذا تركتنى"(8). إحتمل لعنات الناموس بالتعلق على خشبة(9) "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة" (10) برغم أنه لم يعرف خطية فقد إحتمل عقوبة خطايانا وجعل خطية "جعل الذى لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه"(11).
لقد أخطأ الإنسان لذلك قدم المسيح نفسه كإنسان، قدم الذى إتخذه من العذراء "لأنه إن كان بخطية واحد (آدم) مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التى بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد أزدادت للكثيرين"(12). وهكذا أيضاً أضطرب بالروح كإنسان إضطربت نفسه الإنسانية، فقد كان كاملاً فى ناسوته – روحاً ونفساً وجسداً – كما كان كاملاً فى لاهوته. وهكذا "اضطرب بالروح"(13) وقال "نفسى قد اضطربت"(14).
- قال العلامة أورجانوس (185 – 253م)
"لرغبة ابن الله أن يخلص الجنس البشرى وأن يظهر للبشرية ويقيم بين البشر أتخذ ليس فقط الجسم البشرى، كما يفترض البعض، ولكن أتخذ نفساً تشبه نفوسنا تماماً فى الطبيعة ولكن فى الإرادة والسلطان تشبه ذاته... فهو له (نفس) وقد ظهرت بوضوح فى المخلص فى الأناجيل عندما قال "ليس أحد يأخذ (حياتى) منى بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً"(15).
وفى قوله "نفسى حزينة حتى الموت" وأيضاً "الآن نفسى قد إضطربت" لأنه لا يفهم أن "كلمة" الله حزين ومضطرب نفسياً (نفسياً - SOUI) لأنه يقول بسلطان لاهوته "لى سلطان أن أضع حياتى"(16).
- وقال القديس كيرلس عمود الدين:
" (يجب أن) يعرف أن جسد الرب المأخوذ من مريم (كان) له أيضاً نفس... (كتلك) التى (يملكها البشر الاناسى)، (نفس عاقلة) فإذ ألم الخوف لا ننتظره لا من اللاهوت الذى لا يقبل الألم ولا من الجسد. إن هذا الألم يختص فى الواقع بتأملات النفس لا بالجسد... أما الرب فقد إضطرب لا مما رأى ولكن مما كان يتوقعه، أعنى به أقتراب الصليب منه"(17).
"ثم نأمل ملياً فى هذا. فمن جهة ميل الطبيعة البشرية إلى الاضطراب وقابليتها للخوف، ومن جهة أخرى عدم قابلية العزة الإلهية التى لا يعبر عنها للآلم والجرح على الإطلاق وإتجاهها الذى لا مثيل له إلى عمل الشجاعة الذى يليق بها. إذ أن فكر الموت يحاول أن يسيطر على يسوع بأن ينساب غليه شيئاً فشيئاً لكن قدرة اللاهوت تسيطر فى الحال على الالم. وهو يتحرك وتحول ما كان مغُلوباً بالخوف إلى القوة التى لا تضارع"(18).
وأيضاً "ونحن نتصور فى الواقع أن خصائص الناسوت كانت تعمل فى المسيح الفادى ذاته بصورة مزدوجة. فإنه كان يلزم أنه بهذه الخصائص يظهر أنه إنسان، مولود من المرأة، لا فى الظاهر ولا بالوهم وإنما بالأحرى حقاً وبالطبيعة حاملاً كل خصائص الناسوت فيما عدا الخطية وحدها. فالخطية والخوف هما فينا آلام طبيعية ولا يسلكان بين الخطايا. وزيادة على ذلك فالخصائص الناسوتية تعمل أيضاً عملاً نافعاً، لا لكى تتمكن وتنموا فى حركاتها كما هو الحال فينا، ولكن حتى إذا أثيرت يوماً ما وتحطمت بقوة الكلمة، فإن الطبيعة تجسد نفسها فقد تحولت فى المسيح أولاً إلى حالة أفضل، وإلهية. فإنه بهذا وليس بطريق آخر أمكن للشفاء أن يصل إلينا"(19).
"والواقع أن المسيح بدون أن يكون على الصليب ذاته فقد عانى الاضطراب مقدماً، لأنه سبق فرأى المستقبل قبل حدوثه، ولأنه أقتيد بالفكر أن يتأمل ما هو عتيد أن يحدث، فنحن نعلم أن ألم الخوف ليس من اللاهوت الذى لا يقبل الألم، كما أنه بكل تأكيد ليس من الجسد. إن هذه الآلام تختص فى الواقع بتأملات النفس، لا بالجسد... الرب فقط إضطراب لا بما رأى ولكن بسبب ما هو فى فكره وما يتوقعه أيضاً"(20).
- وقال القديس أثناسيوس الرسولى
"لأن الرب أختبر الألم وهو فى الجسد وكشف عن لحمه وعظامه ونفسه الإنسانية التى تألمت وعانت الأحزان والضيقات"(21).
ويتساءل "كيف تألم وحزن وصلى كما هو مكتوب (أضطرب بالروح)؟"
ويجيب "هذه الأفعال لا تمت لجسد بلا عقل، ولا تمت إلى اللاهوت غير المتألم، وإنما إلى نفس عاقلة لها شعور وتتألم وتضطرب وتحزن وتحس بالآلام فكرياً"(22).
ويتساءل بلسان الهراطقة "كيف يكون (المسيح)، قوة الآب الطبيعية الحقيقية الذى يقول عند إقتراب وقت آلام: الآن نفسى قد إضطربت. ماذا أقول؟ أيها الآب نجنى من هذه الساعة".
ثم يجيب عليهم قائلاً "لقد أتخذ جسداً وصار إنساناً وتألم فى هذا الجسد لأجلنا... صار إنساناً لأجلنا، حل اللاهوت فى الناسوت جسدياً، كما يقول الرسول... وبإعتبار ذلك يقال عن خواص الجسد، مثل الجوع والعطش والالم والتعب وما شابه ذلك أنها خواصه إذ كانت فيه، ومن جهة أخرى فالأعمال اللائقة بالكلمة ذاته مثل إقامة الموتى وإعادة البصر للعميان وشفاء نازفة الدم، قد فعلها من خلال جسده. والجسد قام بأعمال اللاهوت لأن اللاهوت كان فيه، فالجسد كان جسده"(23).
2- بلاهوته فوق الألم والإضطراب
أضطرب السيد المسيح كإنسان ولكنه بلاهوته لم يضطرب ولم يتألم لأن اللاهوت فوق الألم والإضطراب والتحول والتغيير والتعب وما إلى ذلك مما يخص الطبيعة البشرية. وهو غير محدود على الإطلاق، موجود فى كل مكان وزمان بل هو فوق المكان والزمان والمادة لأنه خالق الجميع:
" ليس لأحكام عظمته وطرقه استقصاء"(24).
"الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيأ. ليس عن فهمه فحص"(25).
"بمن تشبهون الله وأى شبه تعادلون به"(26).
"إذا اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمى فهناك أكون فى وسطهم"(27).
"ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر"(28).
"وليس أحد صعد إلى السماء وإلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء"(29).
"يسوع المسيح هو أمساً واليوم وإلى الأبد"(30).
"أنا هو الألف والياء البداية والنهاية يقول الرب الإله الكائن والذى كان والذى يأتى القادر على كل شىء"(31).
3- تأكيد ناسوته وحتمية الألم:
ثم نأتى للسؤالين "لماذا قال هذا أمام تلاميذه؟" "ولماذا قال: لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة؟".
ونجيب بأنه قال ذلك أمام تلاميذه أولا لتأكيد إنسانيته ولتأكيد قسوة وأهوال الآلام الآتية عليه كما سبق أن بينا –واضطرابه الفعلى كإنسان أمامها، لأن اللاهوت الذى لم يفارق الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين لم يخفف الألم أو قسوته عن الناسوت وإنما أعطاه المقدرة على احتمال هذه الآلام النفسية والجسدية والكفارية غير المحدودة، أعطى اللاهوت الناسوت قوة غير محدودة لاحتمال الآلام غير المحدودة، وكان المتألم هو المسيح الواحد والأقنوم الواحد والطبيعة الواحدة، كلمة الله المتجسد.
وثانياً لتأكيد حتمية الآلام التى لا مفر منها كما أكد مرات عديدة سواء فى مدة خدمته أو أثناء العشاء الربانى وبعده حتى تم القبض عليه بالفعل. (أنظر الفصل الثانى).
---
(1) يو 27: 12.
(2) 1 يو 2: 2.
(3) عب 14: 4و15.
(4) عب 12: 9 و27
(5) عب 12: 9 و13
(6) عب 13: 9
(7) مز 7: 69 و8
(8) متى 45: 27 و46
(9) تث 22: 21 و23
(10) غل 13: 3.
(11) 2كو 21: 5.
(12) رو 15: 5.
(13) يو 21: 13.
(14) 27: 12.
(15) يو 18: 10.
(16) See on Matt. And On John.
(17) فى سر التجسد 22 الأنبا اغريغوريوس.
(18) المرجع السابق 105.
(19) السابق 107.
(20) السابق 107.
(21) تجسد ربنا يسوع المسيح ص20.
(22) المرجع السابق ص 39.
(23) Disc: III: 26, 37.
(24) رو 33: 11.
(25) المرجع السابق ص 39.
(26) أش 19: 40.
(27) متى 20: 18.
(28) متى 16: 28.
(29) يو 13: 3.
(30) عب 8: 13.
(31) رؤ 8: 1.
الفصل السادس
يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس
1. حزن كإنسان
2. "إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" ماذا يريد؟
3. "وسمع له من أجل تقواه" ماذا يعنى ذلك؟
4. ماذا كان عمل الملاك الذى ظهر له فى البستان؟
فى البستان، قبل القبض على السيد المسيح بلحظات:
"ابتدأ يحزن ويكتئب"(1).
"ابتدأ يدهش ويكتئب"(2).
أقتربت ساعة القبض عليه لإتمام الآلام المحتومة حسب التدبير الإلهى الأزلى لإتمام الفداء، وتجسد فى فكر السيد وعقله كل ما هو آت عليه، بلا ريب ولا شك فبدأ يكتئب ويحزن، وكما جاء فى الإنجيل للقديس مرقس "يدهش ويكتئب" والفعلين فى أصلهما اليونانى يعبران عن الأنذهال إلى أقصى درجة والألم النفسى الشديد (المبرح)(3). وسيطر عليه الحزن الشديد، الحزن الذى يعادل الموت فصرح لتلاميذه: "نفسى حزينة جداً حتى الموت"(4).
اعتصرته الآلام التى عبرت إلى نفسه(5)، آلام الحزن الذى سيطر عليه. كان حزيناً إلى هذه الدرجة بسبب الآلام النفسية والجسدية والكفارية الآتية عليه، بسبب ثقل الخطية وعقوبتها التى جاء لكى يتحملها نيابة عن البشرية التى عصت الله، دخل فى المعصرة وحده(6)، دخل معصرة غضب الله ليرد لله الآب حتى الموت ما سبق أن فقدته البشرية بسبب الخطية وعصيان الإنسان الأول (7).
1- حزن كإنسان:
والسؤال هنا: كيف حزن وهو الإله المتجسد؟ ولماذا؟
والإجابة هى أن السيد حزن كإنسان، فقد "اتخذ جسداً" اتخذ الطبيعة الإنسانية، "جاء بشراً" له روح إنسانية:
"يا ابتاه فى يديك أستودع روحى"(8).
ونفس إنسانية:
"نفسى حزينة جداً"(9).
وجسد إنسانى:
"هيأت لى جسداً"(10).
كان كاملاً فى ناسوته "روحاص ونفساً وجسداً". وهكذا أيضاً اتخذ المشاعر والأحساسيس الإنسانية فقد كان "مثلنا فى كل شىء بلا خطية"(11)، تدبيرياً.
اتخذ الناسوت تدبيراً، وحمل المشاعر والأحساسيس الإنسانية تدبيراً، وتألم تدبيراً وحزن تدبيراً، واضطراب أمام الموت كإنسان تدبيراً. حمل كل صفات وخصائص الناسوت تدبيرياً.
ولكنه كإله فهو فوق الألم والخوف والمشاعر والاحساسيس الإنسانية. وفوق الموت، فهو السرمدى، الذى لا بداية له ولا نهاية، الحى القيوم الذى لا يموت "أنا هو الأول والآخر والحى... وها أنا الحى القيوم ولى مفاتيح الهاوية والموت"(12).
ولكنه بإرادته الإلهية، حسب التدبير، قبل أن يتجسد ويقدم ذاته فداء للبشرية. قدم ذاته بإرادته "لهذا يحبنى الآب لأنى أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من ذاتى لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً".
- قال القديس أمبروسيوس:
"انذهل كإنسان، انذهلت نفسه (الإنسانية) وليس قوته أو لاهوته، انذهل لأنه اتخذ الضعف البشرى. فقد اتخذ لذاته نفساً، واتخذ أيضاً الشعور البشرى (شعور النفس) لأن الله لا يمكن أن يحزن أو يموت بإعتبار كونه الله"(14).
وقال أيضاً: "فى موضع آخر يقول: "الآن نفسى قد اضطربت". إنه اضطراب النفس البشرية لأن اللاهوت غير قابل للألم... فالرب ليس حزيناً (باللاهوت) لكن نفسه حزينة. الحكمة ذاتها ليس حزيناً (حسب اللاهوت) ولا الطبيعة الإلهية، بل النفس"(15):
- قال القديس جيروم:
"لنقدم الشكر أن ليسوع جسد حقيقى ونفس حقيقية، فلو أن الرب لم يأخذ الطبيعة الإنسانية بكاملها لما خلص البشرية. لو أنه أخذ جسداً فقط بلا نفس لخلص الجسد دون النفس مع أننا نحتاج إلى خلاص النفس أكثر من الجسد. لقد أخذ الجسد والنفس معاص ليخلصهما، يخلص الإنسان بكامله كما خلقه"(16).
2- "إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" ماذا يريد؟
وهو فى حالة الحزن والإندهاش والإكتئاب أبتعد السيد عن تلاميذه ثم جثا على ركبتيه أمام الله حاملاً ثقل خطايا كل العالم، وصلى قائلاً:
"يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت"(17).
وفى صلاته هذه يقول الكتاب:
"كان فى جهاد وكان يصلى بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض"(18).
وتعبير "جهاد" فى أصله اليونانى يعنى أنه كان فى حالة صراع روحى رهيب، كان يصارع بكل قواه الإنسانية كإنسان. كان يصلى "بأشد لجاجة" حتى كما يقول العلماء "انفجرت الشعيرات الدموية الدقيقة للغدد العرقية" فامتزج العرق بالدم تحت تأثير هذا الصراع الإنفعالى الرهيب الذى كان يمكن أن يؤدى إلى الموت.
ويصف القديس بولس فى رسالته إلى العبرانيين هذا الصراع وهذه اللجاجة قائلاً:
"الذى فى أيام جده إذ قدم بصراخ شديد ودموع وطلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه. مع كونه أبناً تعلم الطاعة مما تألم به"(19).
وهنا تبرز عدة أسئلة:
(أ) لماذا قدم هذه الصلاة بهذا الجهاد وبهذه اللجاجة؟ وكيف "سمع له"؟
(ب) وهل كان يجهل إرادة الآب؟
(ج) وهل إرادته تختلف عن إرادة الآب؟
(د) وهل تنفصل إرادته الإنسانية عن الإلهية؟
(أ) صلى كإنسان:
قدم السيد المسيح هذه الصلاة للآب كإنسان يواجه آلاماً نفسية وجسمية وكفارية لا يقوى عليهما إنسان ما مهما كان. كانت الخطية التى صنعها الإنسان غير محدودة لأنه عصى الله غير المحدود وبالتالى كانت عقوبة الخطية غير محدودة وآلامها غير محدودة ولا يحتملها الإنسان المحدود وحده دون اللاهوت ولكنه اللاهوت لا يتألم ولا يتحمل عقوبة الإنسان، والمسيح جاء ليتحمل الآلام كإنسان وليس كإله، جاء ليتحملها بناسوته المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود. ولكن كإنسان صلى وكإنسان صارع "بصراخ شديد ودموع وطلبات وتضرعات". ولكنه لم يطلب النجاة من الألم أو الموت بمعنى الهروب منها، كلا. ولم يطلب أن "تعبر عنه الكأس" وأن "تجتازه" بمعنى أن لا يذوق الأم والموت. حاشا. فهو الذى وبخ بطرس عندما لم يوافق (بطرس) على قوله أنه سوف يتألم ويصلب ويموت ويقوم فى اليوم الثالث، قائلاً له "أنت معثرة لى لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس"(20).
وكذلك عندما حاول (بطرس) الدفاع عنه بالسيف ساعة القبض عليه فوبخه قائلاً:
"اجعل سيفك... فى الغمد. الكأس التى أعطانى الآب ألا أشربها"(21).
وهو فى كلتا الحالتين يؤكد، كما سبق أن أكد مراراً حتمية شرب الكأس، أنه لا يطلب من الآب التخلى عن الكأس، فهذا أمر محتوم ولا مفر منه، ولكنه يطلب أن "تعبر" عنه الكأس "تجتازه" كما يقول آباء الكنيسة "دون أن يكون لها عليه سلطان"(22).
- قال القديس ديونيسيوس الاسكندرى:
العبارة "لتعبر هذه الكأس" لا تعنى انها لا تقترب منه، ما كان يمكن للكأس أن تعبر به وتجتازه ما لم تقترب منه، أولاً... فإنها إن لم تقبل إليه لا تعبر عنه"(23).
أنه يطلب أن تعبر به، أن يجتازها دون أن يكون لها عليه سلطان، أنه يطلب القدرة على احتمالها، وهو بلاهوته الإله القادر على كل شىء.
أنه يبين لتلاميذه الثلاثة، الذين كانوا قريبين منه وقت الصلاة وبالتالى لنا، قوة وعدم محدودية الآلام التى عليه أن يجتازها ويعتصر بها، وعجز الإنسان عن احتمالها وفى نفس الوقت يكشف عن قدرته (كإله متجسد) على احتمالها بسبب شخصيته الفريدة التى لها خواص اللاهوت وصفاته وخواص الناسوت وصفاته. فهو فى ذاته له خواص اللاهوت غير المحدود وغير المتألم وله خواص الناسوت المحدود والمتألم، فهو المحدود وغير المحدود والمتألم وغير المتألم.
ويقول الكتاب إن استجابة صلاته جاءت فى ظهور الملاك ليقويه.
(ب) لم يشك ولم يجهل إمكانية الآب:
والسيد المسيح لم يشك فى إمكانية الآب ولم يجهلها، فهو واحد مع الآب فى الجوهر " أنا والآب واحد"(24) وكل ما للآب هو له "كل ما للآب هو لى"(25). هو واحد مع الآب فى الجوهر واللاهوت والكيان والقدرة، واحد فى كل شىء، والآب والابن إله واحد. وبالتالى لا يمكن أن يشك فى إمكانية الآب أو يجهلها لأن إمكانية الآب هى إمكانيته. الله غير محدود فى كل شىء على الإطلاق ولا يوجد مستحيل أمامه "هل يوجد مستحيل بالنسبة لك"(26).
ولذلك بدء السيد صلاته للآب قائلاً "كل شىء مستطاع لك"(27). وهذا تأكيد آخر على أنه لم يكن يطلب التخلى عن الكأس ولكنه كان يعبر عن إنسانيته التى أتخذها.
- قال القديس امبروسيوس متسائلاً:
"لقد كتب يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" فإذا كان هو القدير فكيف يشك فى الإمكانية؟...
الكلمات تقول إنها كلمات المسيح...".
ويجيب "لقد أتخذ له الطبيعة الإنسانية وبذلك اتخذ كل أحوالها. ثم تجدونه فى المكان الأعلى يقول "ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلى قائلاً يا ابتاه إن أمكن" كان يتكلم كإنسان وليس كإله، لأنه هل يمكن أن يكون جاهلاً بإمكانية ما يجب؟ أو هل مستحيل شىء على الله؟
بينما الكتاب يقول "هل يستحيل شىء عليك"(28).
(ج) وحده أراده الآب والابن واللاهوت والناسوت:
وهذه الصلاة لا تعبر عن اختلاف فى إرادة الآب والابن لأن الآب والابن واحد فى اللاهوت والجوهر والقدرة والإرادة "كل ما هو لى فهو لك وما هو لك فهو لى... ليكونوا واحداً(29) كما نحن (الآب والابن)... إننا نحن واحد" والابن قد جاء إلى العالم لينفذ إرادة الآب "نزلت من السماء ليس مشيئتى بل مشيئة الذى أرسلنى"(30).
"فما أتكلم به فكما قال لى الآب هكذا أتكلم"(31) وذلك لأنه واحد معه ومنه "أنا أعرفه لأنى منه"(32) "ليس أن أحد رأى الآب إلا الذى من الله قد رأى الآب"(33) "خرجت من عند الآب وأتيت إلى العالم"(34).
وخروجه من عند الآب أو منه فى الأصل اليونانى (ε K)تعنى "خروج من الأصل" أى أنهما كما قال السيد " أنا والآب واحد"(35)، إله واحد، طبيعة واحدة، إرادة واحدة. كما أن إرادة اللاهوت والناسوت واحدة، مشيئة واحدة من اتحاد مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت. فمشيئة الناسوت كان يجب أن تخضع للاهوت الذى تجسد لتحقيق إرادة الآب المحتومة منذ الأزل وهذا واضح فى قول السيد "نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتى بل مشيئة الذى أرسلنى". والسيد هنا يبين ذلك فى قوله "ولكن لتكن لا إرادتى بل إرادتك" "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت"(36).
لقد أعلن بذلك وحدته فى الإرادة مع الآب، كما أعلن وحده المشيئة فى ذاته، فالناسوت برغم ما بدأ من أنه كان يرفض الألم إلا أنه خضع للإرادة الإلهية التى قررت قبول الألم، حسب التدبير الإلهى، منذ الأزل، ولم يكن هناك أختلاف، بل مشيئة واحدة.
- قال القديس امبروسيوس:
"فلنفكر فى خضوعه إذ يقول "يا ابتاه إن شئت أن تعبر... ولكن لتكن لا إرادتى بل إرادتك" إن هذا الخضوع هو خضوع الطبيعة البشرية المتخذه كما نقرأ وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت". الخضوع هو خضوع الطاعة إذا، والطاعة حتى الموت"(37)، والموت خاص بالناسوت المتخذ... وهكذا لا يوجد ضعف فى اللاهوت ولكن يوجد إخلاء"(38).
- قال القديس أثناسيوس الرسولى:
"بالنسبة لقوله "إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" لاحظ أنه برغم قوله هذا فقد وبخ بطرس قائلاً "أنت لا تهتم بما لله لكن بما للناس"(39) لأنه كان يريد ما استنكره (بطرس) لأنه جاء لأجل هذا وكانت إرادته هى الراغبة (أنه لأجل هذا أتى) ومع ذلك فقد قال كلا القولين ليبين أنه الله الذى كان يريد فى ذاته ولكن عندما صار إنساناً خاف بالجسد، ولأجل هذا الجسد وحد إرادته بالضعف الإنسانى (البشرى)... شىء غريب حقاً الذى ينسب إليه أعداء المسيح من كلمات الخوف يعطى البشر الشجاعة ليكونوا بلا خوف... وقد بينت شجاعة الشهداء القديسين أن اللاهوت لم يكن خائفاً بل أن المخلص نفسه أزال هو خوفنا. لأنه كما أبطل الموت بالموت، وكل الشرور البشرية بالوسيلة البشرية، هكذا بهذا المسمى خوف أزال هو خوفنا وجعل البشر لا يخافون الموت أبداً... وكانت كلماته "أعبر عنى هذه الكأس" "ولمناذا تركتنى" كلمات إنسانية، وكان فعل أختفاء الشمس وقيامته من بين الأموات فعلاً إلهياً. وقال أيضاً "نفسى قد أضطربت" جسدياً (إنسانياً) وقال "لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً" إلهياً.. اضطرابه يليق بالناسوت أما كونه له القوة أن يضع حياته وأن يأخذها ثانية بحسب إرادته فليس من خواص الناسوت ولكن من قوة الكلمة لأن الناسوت يموت ليس بقوة الكلمة ولكن بضرورة الطبيعة ورغم إرادته"(40).
- وقال القديس كيرلس عمود الدين:
"فى الواقع هو ذاته ما كان يخشى الموت من حيث هو الكلمة وهو الله، لكنه كان متعجلاً أن يتبع التدبير حتى النهاية. فإنه كانت فيه إرادة الآب. ومن جهة أخرى أنه كان يبين رفضه أيضاً رفضه للموت لأن الجسد بطبيعته يرفض الموت، لهذا لأنه كان يريد أن يعلم الناسوت أن لا يعاود فيفكر فى غرائزه، بل أن يطلب إرادة الله قال كإنسان: لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت". وأضاف "أختار برحمته ومحبته للبشر أن يصبح مثلنا وقبل الآلام التى أنزلها به اليهود، عار الآلام الثقيل لم يرفضه، وحقاً عندما جاء الوقت الذى كان عليه أن يقبل الصليب لأجل حياة الكل. ولكى يؤكد لنا أن الآلام ليست مرفوضة بل مقبولة، عبر عن ذلك بالشكل الذى يليق به كإنسان وقال بشكل صلاة "يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتى بل إرادتك، وقال أيضاً أنه نزل من السماء لكى يقبل المرفوض وغير المقبول أى الموت ويعطى القيامة لكل الساكنين على الأرض، فهو وحده الذى استطاع أن يمنح الحياة من جديد للجنس البشرى"(41).
- وكتب القديس يوحنا ذهبى الفم مقالاً عن:
"إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس" قال فيه(42):
أولاً: لا يمكن القول بأن السيد المسيح كان يجهل إن كان ممكناً أن تعبر عنه الكأس أم لا بقوله (هذا). ]المعرفة الخاصة بآلامه ليست أعظم من المعرفة الخاصة بجوهر طبيعته، الأمر الذى هو وحده يعرفه تمام المعرفة وبدقة، إذ يقول "كما أن الآب يعرفنى وأنا أعرف الآب"(43). ولماذا أتكلم عن ابن الله الوحيد، فإنه حتى الأنبياء يبدوا أنهم لم يجهلوا هذه الحقيقة (أى آلام المسيح وصلبه) بل عرفوها بوضوح، وقد سبق أن أعلنوا عنها قبلاً مؤكدين حدوثها تأكيداً قاطعاً.
ثانياً: لا يمكن فهم القول... بمعنى الرغبة فى الهروب من الصليب. لقد دعى (بطرس) ذاك ذهب إعلاناً من الآب وقد طوبه ووهبه مفاتيح ملكوت السموات. دعاه "شيطاناً"، ودعاه "معثرة" وأتهمه أنه لا يهتم بما لله... هذا كله لأنه قال له: "حاشاك يا رب لا يكون لك هذا "رأى لا يكون لك أن تصلب. فكيف إذاً لا يرغب فى الصليب...؟ قال بنفسه: "أيها الآب قد أتت الساعة محد ابنك"(44). لقد تكلم هنا عن الصليب كمجد، فكيف يستعفى عنه، وها هو يستعجله؟!".
ثالثاً: إن هذه العبارة فد سجلها لنا الإنجيلى لتأكيد تجسده ودخوله فعلاً تحت الآلام (لهذا السبب أيضاً كانت قطرات العرق تتدفق منه، وظهر ملاك ليقويه، وكان يسوع حزيناً ومغتماً، إذ قبل أن ينطق بتلك الكلمات (ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت) قال "نفسى حزينة جداً حتى الموت... لقد أعلن المشاعر البشرية الحقيقية بوضوح، تأكيداً لحقيقة تجسده وتأنسه).
رابعاً: بجانب تأكيده للتجسد قدم لنا نفسه مثالاً عملياً بهذا التصرف الحكيم (هناك إعتباراً آخر لا يقل أهمية عنه... وهو أن السيد المسيح جاء على الأرض، راغباً فى تعليم البشرية الفضائل، لا بالكلام فقط إنما بالأعمال أيضاً. وهذه أفضل وسيلة للتدريس... لقد أوصى تلاميذه أن يصلوا: "لا تدخلنا فى تجربة" معلماً إياهم بهذه الوصية عينها بوضعها فى صورة عملية قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس". هكذا يعلم كل القديسين ألا يثبوا بأنفسهم فى المخاطر غير ملقين أنفسهم بأنفسهم فيها... فماذا؟ حتي يعلمنا إتضاع الفكر، وينزع عنا المجد الباطل... صلى كمن يعلم الصلاة، ولكى لا نطلب ألا ندخل فى تجربة، ولكن إذ لم يسمح الله بهذا، نطلب منه أن يصنع ما يحسن فى عينيه، لذلك قال: "ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت"، ليس لأن إرادة الابن غير إرادة الآب، إنما لكى يعلم البشر أن يقمعوا إرادتهم فى إرادة الله ولو كانوا فى ضيق أو إضطراب، حتى وإن أحدق بهم الخطر، ولو لم يكونوا راغبين فى الأنتقال من الحياة الحاضرة".
3- وسمع له من أجل تقواه ماذا يعنى ذلك؟
يقول الكتاب:
"الذى فى أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه. مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به"(45).
فماذا يعنى قوله "وسمع له"؟
والإجابة هى أن هذه الصلاة كانت "فى أيام جسده" أى بعد أن أتخذ جسداً وجاء بشراً، فصلى كإنسان مقبل على آلام أن "يعبر عنه الكأس" "يجتاز الكأس" "أن يخلصه من الموت"لا بمعنى الهروب أو التخلى عن تقديم ذاته ولكن بمعنى أعطائه المقدرة على تحمل الآلام غير المحدودة، أن "يجتاز الكأس" "أن يخلصه من الموت" لا بمعنى الهروب والتخلى عن المهمة، مهما الصلب، بل يخلصه من الموت بالقيامة من الأموات.
وقد تم ذلك "سمع له" فى شكل ملاك نزل من السماء يقويه"(46) القوى التى أعطيت له من تلك اللحظة ليتحمل الصليب محتقراً. بل، مستهيناً بالعار والخزى. "سمع له" أيضاً بالخلاص من الموت، أى بالقيامة من الأموات فى اليوم الثالث كقول الكتاب: "لذلك سر قلبى وتهلل لسانى حتى جسدى أيضاً سيسكن (مطمئنا) على رجاء. لأنك لم تترك نفسى فى الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً"(47) أى أن صلاته أجيبت "سمع له" بالقدرة الفائقة التى ظهرت فى تحمله الآلام الغير محدودة وأيضاً بالقيامة من الأموات. وإن كان هو يعلم تماماً أن الألم والموت أمر محتوم أزلاً وقد جاء مخصوص لكى يبذل ذاته عن حياة العالم إلا أنه كإنسان إضطرب أمام الآلام الغير محدودة وأمام الموت الكفارى، وكإنسان صلى وكان لابد أن يطلب المعونة، وكإنسان ونائب عن البشرية كان لابد أن يبين هول ومرارة وقسوة الآلام الآتية عليه ويطلب من الآب المعونة، وأن يسلم إرادته للآب كى تسلم البشرية معه إرادتها للآب. ومع أنه كإله واحد مع الآب فى الطبيعة والإرادة ككلمة الله السرمدى، وكإله متجسد له طبيعة واحدة من طبيعتين ومشيئة واحد من مشيئتين، إلا أنه كان لابد أن يسلم الإرادة للآب كإنسان ونائب عن البشرية، وكإنسان كان لابد أن يطلب من الآب أن يقيمه من الأموات مع أنه هو الذى وضع ذاته بإرادته – كالإله المتجسد وقام من الموت بسلطان لاهوته كقوله "لى أن سلطان أن اضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من ذاتى"(48).
قال ذهبى الفم متسائلاً:
"ماذا يعنى التعبير "بصراخ شديد"؟ و"سمع له"... هل يقول أى إنسان هذا بخصوص الله؟"
ثم يجيب بعد عدة أسئلة من هذا النوع:
"أن هذا قيل فيما يختص بالتجسد".
ثم يسأل ثانية "هل صلى للآب كى ينقذه من الموت؟"
"وهل لهذا السبب قبل أن حزن حزناً شديداً وقال إن أمكن فلتعبى عنى هذه الكأس؟" ومع ذلك صلى للآب بخصوص قيامته. لكن على العكس فهو يعلن صراحة "أنقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه"(49) و "لى سلطان أن أضع حياتى ولى سلطان أن آخذها أيضاً ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من ذاتى" ماذا إذاً؟ لماذا صلى؟ ويقول أيضاً "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت... ويصلبوه وفى اليوم الثالث يقوم "ولم يقل أبى سيقيمنى ثانية "فكيف صلى بخصوص هذا! إذاً؟ ولأجل من صلى؟ ويجيب. لهؤلاء الذين آمنوا به"(50).
4- ماذا كان عمل الملاك الذى ظهر فى البستان؟
ظهور الملائكة فى حياة المسيح شئ مألوف(51)، فقد بشر الملاك العذراء بولادته(52) وبشرت فرقة من الملائكة الرعاة بمولده(53)، وبعد التجربة على الجبل جاءت الملائكة لتخدمه(54) وكذلك بعد القيامة من الأموات بشرت الملائكة بقيامته(55).
وقد ظهر فى البستان "ملاك ليقويه" فماذا تعنى تقوية الملاك؟ وهل كان بالفعل فى حاجة إلى قوة خارجة عنه وهو القادر على كل شئ"(56) فهو بلاهوته، كإله، الإله القدير، كلى القدرة، ولكنه كإنسان قيل عنه أن الملاك جاء ليقويه. جاء ليقول له "لك القوة والمجد"، كما يقول بعض آباء الكنيسة، ممجداً بذلك لاهوته كى يتقوى بذلك ناسوته أمام تلك المحنة الطاحنة، فقد دخل ذلك بأختياره، وضع ذاته بإرادته. فهو لم يطلب ملاك ليقويه ولكنه قدم ذاته لله الآب ومع ذلك ظهر الملاك ليقويه كإنسان. كما أنه قبل الآلام بإختياره وبإرادته فكانت آلاماً تدبيرية فجاء الملاك لا ليعطيه قوة فهو القدير ولكن جاء لكى جاء يخدمه، لكى يمجده يقول له:
"لك القوة يا مخلص. لك المجد يا رب. لك العزة يا ملك. لا أعرفك إلا قوياً ذو سلطان وأقتدار... أنك وإن كنت قد أظهرت الضعف بمشيئتك وتألمت لأجل خليقتك. فإن هذه الأوصاف تليق بك. فأنت كما أنت الإله والقادر بقوتك ومشيئتك"(57).
ولذلك نصلى فى أسبوع الآلام قائلين:
"لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين. يا عمانوئيل إلهنا ومخلصنا لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين. يا ربنا يسوع المسيح مخلصنا الصالح"(58).
---
(1) متى 37: 27.
(2) مز 33: 4.
(3) الفعل الثانى فى أصله يعنى خارج البيت Not at home وهو يتضمن كرب النفس لتحرر نفسها من الجسد تحت ضغط الكرب العقلى الكثيف.
(4) متى38: 26
(5) يون5: 2
(6) إش 63: 1-3
(7) 1 كو 47: 15
(8) لو 50: 23.
(9) متى 38: 26.
(10) عب 5: 10.
(11) عب 15: 4.
(12) رؤ 18: 1.
(14) The Cyr. Faith B: II VII, 56.
(15) القمص تادرس يعقوب، الإنجيل بحسب متى 269. In Luc: Ser: 125
(16) القمص تادرس يعقوب، الإنجيل متى ص 537 On Ps: Hom: 35
(17) متى 39: 16.
(18) لو 44: 22.
(19) عب 7: 5و8.
(20) متى 23: 16.
(21) يو11: 18.
(22) الإنجيل بحسب لوقا، القمص تادرس يعقوب ص 654.
(23) رؤ 8: 1.
(24) يو 30: 10.
(25) يو15: 16.
(26) أر17: 32.
(27) مر 36: 14.
(28) The Che. Faith B: II: 41 – 42.
(29) يو 10: 17 – 22.
(30) يو 38: 6.
(31) يو 50: 12.
(32) يو 29: 7.
(33) يو 46: 6.
(34) يو 16: 16.
(35) يو 30: 10.
(36) مر 36: 14.
(37) فى 9: 2.
(38) The Chr: Faith B: V: 171.
(39) متى 23: 16.
(40) Against Ar: 3: 57.
(41) المسيح واحد مركز دراسات الآباء ص 99.
(42) الحب الإلهى للقمص تادرس يعقوب ص 367 – 292.
(43) يو 15: 10.
(44) يو 10: 17.
(45) عب 7،8.
(46) لو 43: 22.
(47) أع 26: 2و27.
(48) يو 18: 10.
(49) يو 19: 2.
(50) On Heb: Hom: VIII.
(51) فهو رب وخالق الملائكة والذى تخضع له الملائكة عب 6: 1.
(52) لو 26: 1 – 37.
(53) لو 8: 2 – 12.
(54) متى 11: 4 ومر 13: 1.
(55) متى 2: 28 – 7.
(56) رؤ 8: 1.
(57) القول الصحيح فى آلام السيد المسيح، للقديس بطرس السدمنتى 99.
(58) البسخة المقدسة.
الفصل السابع
إلهى إلهى لماذا تركتنى؟
1. سر الصرخة
2. الصرخة والمزمور 22..
3. لم يترك الآب الابن ولم يترك اللاهوت الناسوت
صرخ السيد المسيح على الصليب قائلاً: "إلهى إلهى لماذا تركتنى (تخليت عنى)؟"
وهنا أيضاً يواجهنا عدة أسئلة:
- لماذا صرخ السيد هكذا؟
- وهل فعلاً تركه الآب؟
- وهل فارق لاهوته ناسوته على الصليب؟
1. سر الصرخة:
عُلق السيد المسيح على الصليب من الساعة الثالثة(*) إلى الساعة التاسعة(**) أى علق ست ساعات ذاق فيها آلاماً جسدية ونفسية وروحية (كفارية) حادة وكان قد أنهك تماماً وسفك دمه ولم يكن ممكناً فى ذلك الوقت – إذ صرخ قبل الساعة التاسعة بقليل – أن يصرخ هكذا، ولكنه صرخ هذه الصرخة العالية المدوية التى سمعها كل الواقفين حول الصليب فى الخلاء لكى يبين أن ما يتم الآن على الصليب ليس عن ضعف منه بل تحقيقاً لعمله، لما جاء لكى يتممه، تحقيقاً لعمله الكفارى الذى سبق أن وعد به وأعلنه لأنبيائه.
وصرخ هذه الصرخة لأنه كإنسان كان يجتاز الآلام التى كان يجب أن تتحملها البشرية كلها. لقد فعل الإنسان الخطية وأنفصل عن الله بسببها وقد جاز السيد المسيح نيراناً ملتهبة هى نيران الآلام التى يجتازها ونيران الانفصال عن الله كحامل خطايا العالم كله. جاز فى أختبار نتائج الخطية. فقد أتخذ طبيعتنا، أتخذ كل ما للناسوت "كان مجرباً مثلنا فى كل شئ بلا خطية"(1) وعلق على الصليب نيابة عن البشرية كلها وأحتمل الآلام الروحية والنفسية والجسدية، أحتمل الآلام والخزى والعار والصلب ليس بسبب خطية أرتكبها فهو القدوس البار ولكنه لأنه وضع ذاته عن البشرية، "جعل نفسه ذبيحة إثم"(2).
"لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد أنفصل عن الخطاه وصار أعلى من السموات إذ قدم نفسه"(3).
فقد فتح عهداً جديداً مع الآب بتقديم ذاته على الصليب ذبيحة:
"الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم"(4).
"وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً... فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه له بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى. ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكى يكون المدعوون إذ صار موت لفداء التعديات الذى فى العهد الأول ينالون وعد الميراث الأبدى"(5).
أنه صرخ كإنسان نائباً عن البشرية وليس كإله، صرخ كنائب عن البشرية التى سقطت فى الخطية وبالتالى سقطت تحت سلطان الظلمة.
- قال القديس كيرلس عمود الدين
"إذا أعتبرنا أن الابن الوحيد تأنس، فهذا الإعتبار هو الذى يجعلنا نفهم لماذا صدرت عنه هذه الكلمات، لأنه صار كواحد منا ونائب عن كل الإنسانية، وقال هذه الكلمات لأن الإنسان الأول تعدى وسقط فى عدم الطاعة ولم يسمع الوصية التى أعطيت له وإنما تعداها بمكر التنين، فصار أسيراً للتعدى ولذلك بكل حق أخضع للفساد والموت. ولكن الابن صار البداية الجديدة على الأرض ودعى آدم الثانى. وكان الابن الوحيد يقول: "أنت ترى فى أنا الجنس البشرى وقد وصل إلى عدم الخطأ وقدوس وطاهر" فأعطه الأن البشارة المفرحة الخاصة بتعطفك وأزل تخليك، وأنتهر الفساد وليصل غضبك إلى نهايته. لقد غلبت الشيطان نفسه الذى نجح قديماً ولكنه لم يجد فى شيئاً يخصه. هذه معانى كلمات المخلص التى كان يستدعى بها تعطف الآب، ليس عليه هو، بل على الجنس البشرى الذى كان يمثله"(6).
لقد أتخذ الناسوت كاملاً وكان نائباً عن البشرية كوسيط عهد جديد على الصليب ولذا فقد أحتمل الألام الروحية والنفسية والجسدية، التى سبق أن ذكرناها – إلى جانب إحتجاب وجه الآب عنه كإنسان ونائب عن البشرية التى انفصلت عن الله بسبب الخطية، فكانت آلامه آلاماً كفارية حادة ورهيبة، عانى من أهوال فى ناسوته المتحد بلاهوته دون تدخل من اللاهوت للتخفيف عن الناسوت لمنع الألم، وتخفيفه، وإن كان قد أعطاه القدرة على إحتماله، كان لابد أن تكون الآلام حقيقة وغير محدودة فأجتنازها بحسده المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود.
عومل معاملة الخطايا، مع أنه لم يعرف خطية، بسبب خطايانا، تحمل عقوبة الخطية وعانى إحتجاب وجه الآب عنه كإنسان "جعل الذى لم يعرف خطية خطية لأجلنا"(7). وكانت هذه مسرة الآب أن يجعله منسحقاً بالآلام والجراح لأجلنا: "أما الرب فسر أن يسحقه بالحزن (الجراح). أن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح... بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها... أنه سكب للموت نفسه وأحصى مع إثمه وهو حمل خطية كثيرين وشفع فى المذنبين"(8).
- "لماذا قال المسيح إلهى إلهى؟"
"لقد قالها بصفته نائباً عن البشرية، قالها لأنه "أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد، صائراً فى شبه الناس وقد وجد فى الهيئة كإنسان"(9) و"أطاع حتى الموت موت الصليب"(10) أنه يتكلم الآن كإبن للإنسان، أخذ طبيعة الإنسان، وأخذ موضعه، ووقف نائباً عن الإنسان وبديلاً أمام الله، كأبن بشر، وضعت عليه كل خطايا البشر، وهو الآن يدفع ديونهم جميعاً...
هنا نرى البشرية كلها تتكلم على فمه... وإذ وضعت عليه كل خطايا البشر، والخطية إنفصال عن الله، وموضع غضب الله، لذلك تصرخ البشرية على فمه "إلهى إلهى لماذا تركتنى" (11).
- قال القديس أثناسيوس الرسولى
"لقد كتب أنه "بكى"... وأنه قال "نفسى قد إضطرب" وقال على الصليب "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟..." وطلب أن تعبر عنه "الكأس" فإذا كان المتكلم مجرد إنسان دعوه يبكى ويخاف الموت لكونه إنسان، ولكن إذا كان الكلمة فى جسد... فممن يخاف مع كونه إله؟ أيخاف من الذين يقتلون الجسد" وكيف يرتعب أمام بيلاطس وهيرودس وهو ذاته القائل لإبراهيم "لا تخف لأنى معك"...(12) كان قادراً على تجنب الموت... ولكنه تأثر هكذا بالجسد، فى الناسوت، فهو لم يقل كل هذا قبل التجسد بل عندما "صار الكلمة جسداً" وأصبح إنساناً، فقد كتب إذاً أنه قال هذا بالجسد، أى إنسانياً"(13).
- قال القديس أغريقوريوس النيزنزى
"وظهر فى التعبير "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟" أنه لم يكن هو الذى تُرك سواء من الآب أو من لاهوته كما ذكر البعض، كما لو أنه كان خائفاً من الألم... ولكن كما قلت كان فى شخصه ممثلاً لنا، لأننانحن الذين كنا متروكين ومحتقرين من قبل ولكن الآن ارتفعنا ونجينا بمعاناة ذاك (المسيح) الذى كان يمكن أن لا يعانى (يتألم) فقد جعل عصياننا وخطأنا خاص به هو"(14).
- قال يوحنا الدمشقى
"أما قول المسيح: "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟" فمعناه أن المسيح أختص شخصياً، فإن الآب لا يكون إلهه إلا إذا فصل العقل بتصورات دقيقة بين ما يرى وما يعقل جاعلاً المسيح معنا فى صفنا دون أن يفصله البتة عن لاهوته الخاص، لكننا كنا نحن المهملين والمنسيين، حتى أنه وقد أختص شخصنا صلى الصلاة المذكورة"(15).
2- الصرخة والمزمور 22
كان داود النبى قد سبق وتنبأ عن هذه الآلام وكل ما فيها من آلام مبرحة وصلب وترك فقال بروح النبوة وكأنه كان واقفاً تحت الصليب يشاهد ويتألم ويكتب:
"إلهى إلهى لماذا تركتنى؟... أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يروننى يستهزئون بى. يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائ\لين أتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سر به... أحاطب بى ثيران كثيرة. أقوياء باشان أكتنفتنى... يبست مثل شقفة قوتى ولصق لسانى بحنكى وإلى تراب الموت تضعنى. لأنه قد أحاطت بى كلاب. جماعة من الأشرار أكتنفتنى. ثقبوا يدى ورجلى. احصى كل عضامى. وهم ينظرون ويتفرسون فى. يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون..."(16).
والسيد هنا يبين لليهود أنه يجتاز ما سبق أن تنبأ به داود النبى عن صلبه وكل ما تم فيه وعن تركه من البشر ومن الآب. فقد ترك من البشر وأصبح وحيداً كإنسان، وترك من الآب يحتمل الآلام حتى الثمالة.
أنه يذكى اليهود بما كتب عنه، أنه ليس مصلوباً بسبب علة أو خطية أو تجديف بل ليتمم المحتوم، يتمم إرادة الآب، والذى سبق أن أعلن للأنبياء فى القديم. "فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة قبل تأسيس العالم ولكنه الآن قد أظهر مرة عند إنقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه"(17).
" لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لى جسداً... ثم قلت هأنذا أجئ فى درج الكتاب مكتوب عنى لأفعل مشيئتك يا الله... فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة"(18).
3- لم يترك الآب الابن ولم يترك اللاهوت الناسوت
وقول السيد المسيح هذا لا يعنى أن الآب ترك الابن أو انفصل عنه أو أفترق عنه إفتراقاً فى الجوهر، حاشا، فالآب والابن واحد. والآب فى الابن والابن فى الآب، جوهر واحد، لاهوت واحد، طبيعة واحدة، إله واحد، والابن قائم مع الآب والروح القدس فى الذات الإلهية من غير إفتراق من الأزل وإلى الأبد:
"أنا والآب واحد"(19).
"أنا فى الآب والآب فى"(20).
"صدقونى أنى فى الآب والآب فى"(21).
"الآب فى وأنا فيه"(22).
"أنت أيها الآب فى وأنا فيك"(23).
كما أن هذا لا يعنى أن هناك إفتراق بين اللاهوت والناسوت، كلا، لأن إتحاد اللاهوت والناسوت إتحاد حقيقى وجوهرى وتام وكامل وليس إتحاد عرضى أو وقتى وإنما إتحاد أبدى لا نهاية له ولا إنفصال "لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين".
وإنما قوله "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟" يعنى أن الآب تركه يتحمل الآلام الحادة دون التدخل لتخفيف هذه الآلام كنائب عن البشرية. أنه ترك ليتحمل الآلم كاملاً وبلا تخفيف. كما أن اللاهوت لم يخفف عنه الآلام، لم يتدخل للتخفيف على الإطلاق، وإنما أعطى اللاهوت لآلام الناسوت قيمة غير محدودة، لأن الآلام كانت آلام الناسوت المتحد باللاهوت الغير محدود فصارت قيمة الآلام غير محدودة بل ودعيت آلام الله والدم الذى سفك دعى دم الله:
"كنيسة الله التى أقتناها (أشتراها) بدمه"(24).
"لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد"(25).
v "هذه العبارة لا تعنى أن لاهوته قد ترك ناسوته، ولا أن الآب قد ترك الابن... لا تعنى الإنفصال وإنما تعنى أن الآب قد تركه للعذاب... ولو كان لاهوته قد أنفصل عنه، ما أعتبرت كفارته غير محدودة، تعطى فداء غير محدوداً يكفى لغفران جميع الخطايا لجميع البشر فى جميع الأجيال... إذن فلم يحدث ترك بين لاهوته وناسوته. ومن جهة علاقته بالآب، "لأنه فى الآب، والآب فيه"(26).
- قال يوحنا الدمشقى:
"ومن المقولات ما هى التماس للعون والنجدة. مثلاً: "إلهى إلهى، لماذا تركتنى و "إن الذى لم يعرف الخطية جعله خطيئة لنا"(27). و"صار لعنى لأجلنا"(28). و"يخضع الابن نفسه للذى أخضع له كل شئ"(29). والحال أن الآب لم يترك ابنه قط لا من حيث هو إله، ولا من حيث هو إنسان. ولم يكن الابن قط خطيئة ولا لعنة، ولم يكن بحاجة أن يخضع للآب. فمن حيث هو إله، وهو مساو للآب وهو ليس معادياً له ومن حيث هو إنسان، فلم يكن قط مقاوماً لأبيه كى يضطر إلى تقديم الخضوع له. وإنما قال هذا لأنه أختص بشخصنا وجعل ذاته بمستوانا، لأننا كنا خاضعين للخطية واللعنة. ولذلك كنا متروكين"(30).
---
(*) مر 25: 15.
(**) متى 45: 27، مر34: 15، لو 24: 23.
(1) عب 15: 4.
(2) إش 10: 53.
(3) عب 26: 8.
(4) عب 6: 8.
(5) عب 12: 9 – 15.
(6) المسيح واحد 78.
(7) 2 كو21: 5.
(8) إش 10: 53 – 12.
(9) فى 2: 7و8.
(10) فى 9: 2.
(11) قداسة البابا شنوده الثالث، كلمات السيد المسيح على الصليب ص 45.
(12) تك 1: 15.
(13) Against Ar: 3: 54.
(14) On The Son: 4: 1.
(15) مئة مقالة فى الإيمان الأرثوذكسى 205.
(16) مز 1: 22 – 18.
(17) عب 26: 9.
(18) عب 4: 10 –10.
(19) يو 30: 14.
(20) يو 1: 14.
(21) يو 11: 14.
(22) يو 38: 10.
(23) يو 23: 17.
(24) أع 28: 20.
(25) 1كو 8: 2.
(26) قداسة البابا شنوده الثالث كلمات السيد، ص42.
(27) 2كو 21: 5.
(28) غلا 13: 3.
(29) 1كو 28: 15.
(30) المقالة 91.
الفصل الثامن
كيف مات المسيح
1. أتخذ جسداً قابلاً للموت
2. مات بانفصال الروح الإنسانية عن الجسد
3. من كان يحكم الكون أثناء موته
كيف مات المسيح وهو الحى الذى لا يموت؟
- وإذا كان المسيح هو الإله القدير، فكيف يموت؟
- وهل كان موته ضعفاً أو رغماً عنه؟
- من كان يدير الكون أثناء موته؟
1. أتخذ جسداً قابلاً للموت
المسيح بلاهوته لم يمت لأنه كلمة الله، الله الكلمة، والله لا يموت، فهو الحى القيوم الذى لا يموت والسرمدى الذى لا بداية له ولا نهاية، القدير، والذى لا يتغير. كما نصلى كل يوم وفى كل قداس قائلين:
"قدوس الله. قدوس القوى. قدوس الحى الذى لا يموت".
وكما يقول الكتاب:
"أنا هو الألف والياء البداية والنهاية يقول الرب الآله الكائن والذى كان والذى يأتى القادر على كل شئ"(1).
ولكنه مات بالجسد كما نقول فى صلاة الساعة التاسعة:
"يا من ذاق الموت بالجسد فى وقت الساعة التاسعة"
وكما يقول الكتاب:
"مماتاً بالجسد ولكن محى فى الروح"(2).
فقد أتخذ الناسوت كاملاً، وكان ناسوته قابلاً للموت، فقد كان الجسد الذى أتخذه مثل أجسادنا "كان ينبغى أن يشبه أخوته فى كل شئ". "شابهنا فى كل شئ(3) ما خلا الخطية وحدها"(4). وبرغم أنه لم يفعل خطية لأنه "قدوس وبار"(5). إلا أنه كان يجب أن يموت عن الخطاة "البار من أجل الأثمة لكى يقربنا إلى الله"(6).
- قال القديس أثناسيوس الرسولى:
"وإذا رأى "الكلمة" أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم، وأنه مستحيل أن يتحمل "الكلمة" الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب، لهذا أخذ جسداً، قابلاً للموت، حتى بإتحاده "بالكلمة" الذى هو فوق الكل، يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل... وإذ "قدم للموت ذلك الجسد الذى أخذه لنفسه كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب عنهم، إذ قدم عوضاً عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم"(7).
وقال أيضاً "مادام الجسد قد اشترك فى ذات الطبيعة مع الجميع لأنه كان جسداً بشرياً، وإن كان قد أخذ من عذراء فقد بمعجزة فريدة، فكان لأبد أن يموت أيضاً كسائر البشر نظرائه، لأنه كان جسداً قابلاً للموت، ولكنه بفضل إتحاده "بالكلمة" لم يعد خاضعاً للفساد بمقتضى طبيعته، بل خرج عن دائرة الفساد بسبب "الكلمة" الذى أتى ليحل فيه"(8).
2. مات بإنفصال الروح الإنسانية عن الجسد
كان جسد السيد كاملاً من لحم ودم وعظام وروح ونفس، ولذا مات كسائر البشر بإنفصال الروح عن الجسد:
"فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح"(9).
"وقال يا أبتاه فى يديك أستودع روحى. ولما قال هذا أسلم الروح"(10).
"وقال قد أكمل. ونكس الرأس وأسلم الروح"(11).
لقد صرخ بصوت عظيم قائلاً "قد أكمل" ثم أسلم الروح فى يد الآب. أنفصلت الروح عن الجسد ولكن لم ينفصل لاهوته عن جسده، عن ناسوته، فلاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.
نعم أن "الرب هو الروح"(12) و"الله روح"(13) والروح القدس هو روح الآب والابن، روح الآب و"روح المسيح"(14) ولكن المسيح لم يمت بأنفصال أو مفارقة اللاهوت للناسوت ولا الروح القدس للناسوت، لأن الذى أتحد بالناسوت هو الابن، كلمة الله، ولكن الروح القدس هو الذى حل على العذراء فولدت المسيح بدون زرع بشر وحل على المسيح فى العماد.
مات المسيح بإنفصال روحه الإنسانية عن جسده الإنسانى دون أن ينفصل اللاهوت عن الناسوت. مات بإنفصال شقى الناسوت، الروح والجسد، دون أن ينفصل اللاهوت عن كليهما. أنفصلت الروح عن الجسد ودفن الجسد فى القبر وذهبت الروح إلى الهاوية وظل اللاهوت متحداً بالجسد فى القبر فظل الجسد سليماً وبلا فساد، كما ظل اللاهوت متحداً بالروح فإستطاعت أن تدخل اللص اليمين الفردوس وكذلك تخرج المنتظرين على الرجاء وتدخلهم الفردوس:
"فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله مماتاً فى الجسد ولكن محى فى الروح. الذى فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التى فى السجن"(15).
وقال للص على الصليب وهو فى طريقه إلى الموت:
"اليوم تكون معى فى الفردوس"(16).
- جاء فى القسمة السريانية:
"هكذا بالحقيقة تألم كلمة الله بالجسد، وذبح وإنحنى بالصليب وإنفصلت نفسه عن جسده إذ لاهوته لم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده".
- قال القديس كيرلس عمود الدين:
"لأجلنا واجه الموت بنفسه ومر بالاختيار الذى يعد نصيب البشرية كلها، أى أنه مات بالجسد ولكنه الإله الذى هو الحياة"(17).
- وقال القديس أثناسيوس الرسولى:
"إذا دققنا النظر فى تدبير الصليب الذى أعلن عن حقيقة جسده عندما سال دمه وإنسكبت معه ماء فأعلن بذلك عن قداسة ناسوته وأنه بلا عيب لأنه جسد الكلمة الله. وعندما صرخ بصوت عال "وأحنى رأسه ولفظ روحه" أعلن بذلك عما فى داخل جسده أى نفسه الإنسانية التى قال عنها فى مناسبة أخرى "أنا أضعها عن خرافى" ولا يمكن لمن يفهم تدبير الصليب بشكل سليم أن يفهم أنه عندما لفظ أنفاسه كان هذا بمثابة مفارقة اللاهوت له وإنما كان خروج نفسه فقط. ولو كان الموت أى موت الجسد – كما يقولون هو مفارقة اللاهوت لجسده، لكان هذا موتاً خاصاً به فقط ليس الموت الذى يخصنا نحن، وكيف يمكن للاهوت أن ينزل إلى الجحيم علانية بدون حجاب يستتر به؟ وفى هذه الحالة علينا أن نسأل أين النفس الإنسانية التى وعد الرب أن يضعها عن خرافه؟... أما إذا كان موته هو خروج نفسه منه فإننا فى هذه الحالة يمكن أن نقول أن أنه مات الموت الذى يخصنا نحن، أى أنه قبل واحتمل تقسيم الإنسان إلى نفس وجسد، كما سبق وأحتمل ميلادنا الجسدانى"(18).
- قال يوحنا الدمشقى:
"إذاً فإن المسيح، ولو كان قد مات بصفته إنساناً وكانت نفسه المقدسة قد إنفصلت عن جسده إلا طهر، لكن اللاهوت ظل بلا إنفصال عن كليهما، لا عن النفس ولا عن الجسد، واقنومه الواحد لم ينقسم بذلك إلى أقنومين. لأن الجسد والنفس منذ إبتدائهما – قد نالا الوجود فى أقنوم الكلمة بالطريقة نفسها، وفى إنفصال أحدهما عن الآخر بالموت، ظل كل منهما حاصلاً على أقنوم الكلمة الواحد، حتى أن أقنوم الكلمة الواحد ظل أقنوم الكلمة والنفس والجسد. فإن النفس والجسد لم يحظيا قط بأقنوم خاص لكل منهما خارجاً عن أقنوم الكلمة، وأن أقنوم الكلمة ظل دائماً واحداً ولم يكن قط إثنين، حتى أن أقنوم المسيح دائماً واحد. وإذا كانت النفس قد إنفصلت عن الجسد إنفصالاً مكانياً، فقد ظلت متحدة به إتحاداً أقنومياً بواسطة الكلمة"(19).
3. من كان يحكم الكون أثناء موته؟
قلنا أن اللاهوت لا يموت وأن المسيح مات بإنفصال شقى الناسوت مع بقاء اللاهوت متحداً بهما. وإذا كان الله بلاهوته الغير محدود قد أتحد بجسدا محدود فهذا لا يعنى أن اللاهوت يمكن أن يحد أو أن الناسوت حصر اللاهوت وحده، كلا، فاللاهوت لا يحده شيئاً على الإطلاق إذ أنه مالى الكل. والرب أوضح بنفسه هذه الحقيقة قائلاً:
"وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء"(20).
وهذا يعنى أنه بالرغم من تجسه إلا أنه مالئ الكل بالهوته الذى نزل هو الذى صعد أيضاً فوق جميع السموات لكى يملأ الكل"(21).
وهو الذى قال لتلاميذه "لأنه حيثما أجتمع إثنان أو ثلاثة بأسمى فهناك أكون فى وسطهم"(22). قال هذا وهو بالجسد دلالة على عدم محدودية لاهوته. وقال لتلاميذه وهو صاعد بالجسد "ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر"(23). برغم صعوده بالجسد وجلوسه عن يمين العظمة فى الأعالى بالجسد لكنه موجود فى كل مكان بلاهوته.
وهكذا لما مات بإنفصال نفسه الإنسانية عن جسده الإنسانى كان لاهوته حى وموجود فى كل مكان، فقد كان الميت الحى، الميت بناسوته والحى بلاهوته.
- قال القديس أثناسيوس الرسولى:
"صار له كل ما للبشر كأنه واحد منهم مع أنه فى نفس الوقت خالقهم ويملأ بلاهوته السماء والأرض".
- قال القديس كيرلس عمود الدين:
"ونحن لا نعلم بأن الكلمة عندما تجسد وصار إنساناً كاملاً أصبح محدوداً. فهذا هو الغباء بعينيه. وإنما نحن نعلم بأنه يملأ السموات والأرض وما تحت الأرض"(24).
"أما أملاء أنا السموات والأرض يقول الرب"(25).
---
(1) رؤ 8: 1.
(2) 1 بط 18: 3.
(3) عب 13: 2.
(4) القداس الإلهى وعب 15: 4.
(5) عب 26: 7.
(6) 1 بط 19: 3.
(7) تجسد الكلمة 1: 9.
(8) تجسد الكلمة 5: 20.
(9) متى 50: 27، مز 37: 15.
(10) لو 46: 22.
(11) يو 30: 19.
(12) 2 كو17: 1.
(13) يو 24: 4.
(14) رو 9: 8، فى 19: 1، 1 بط 1.
(15) 1 بط 18: 3 و 19.
(16) لو 43: 23.
(17) تفسير يوحنا 30: 19.
(18) كتاب تجسد ربنا يسوع المسيح المنسوب للقديس أثناسيوس ص 43.
(19) المئة مقالة 71.
(20) يو 13: 3.
(21) أف 10: 4.
(22) متى 20: 18.
(23) متى 16: 28.
(24) تجسد الابن الوحيد 27.
(25) أر23: 23.