الفصل الثاني
حلول الله في بعض البشر وظهوره في ناسوت
إذا صرفنا النظر عن الهاشميين والحشويين الذين يقولون إن الله ذو أعضاء وأبعاد، وإنه لا فرق بيننا وبينه إلاّ في الحجم، وإنه يجوز عليه الانتقال والصعود والاستقرار والتمكّن، لأن آراءهم لا تتفق مع العقل إطلاقاً، بشهادة معظم علماء المسلمين، فإن بعض الفرق الإسلامية المشهورة، تعتقد أن الله يحلّ في بعض الناس، بل ويظهر أيضاً في ناسوت، كما يتبين مما يلي:
1 - يقول أهل الشيعة: إن الجزء الإلهي حلَّ في عليّ، ويحلّ في خلفاء عليّ (الملل والأهواء والنحل ج2 ص 12) وكثير من علماء الدين ورجال الفلسفة لا يتقيدون بالأديان التي ينتمون إليها، بل يذكرون آراءهم الخاصة، فالمرجو مراعاة ذلك.
2 - ويقول الصوفيون إنهم يتَّحدون بالله، وإن الله يتّحد بهم، وإنهم لذلك يفنون فيه فناءً تاماً، ويصبح هو كلّ شيء فيهم. فمن المأثور عن الحسين بن منصور الحلاج أنه قال: لا إله إلاَّ الله. ما في الجبّة إلاَّ الله . علماً بأن الصوفيين لا يؤلهون أنفسهم كما يتبادر إلى الذهن لدى الاطلاع على أقوالهم، لأنهم يؤمنون إيماناً صادقاً أن لا إله إلا الله. لكنهم بنوا عقيدتهم هذه على أن الله ينزل في قلوب العاشقين إياه، فيحل فيها بذاته، ويكون هو كل شيء فيهم.
3 - ويقول أهل النصيرية والإسحاقية: إن ظهور الروحاني بالجسد الجسماني لا ينكره عاقل... أما في جانب الخير، كظهور جبريل عليه السلام في صورة أعرابي، والتمثُّل بصورة البشر... ولذلك نقول إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص (الملل والاهواء والنحل ج2 ص 25).
4 -
وقال ابن الحلاج عن الهُوَ هُوَ
الذي خاطبه الله في الأزل:
سبحان من أظهر ناسوتُه
سرَّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهراً
في صورة الآكل الشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وسُمَّي الهُوَ هُوَ أيضاً الهُوَ . ويبدو لي أن كلمة الهُوَ هُوَ معناها الذي هو وليس سواه ، وأن كلمة الهو معناها الذي هو ، أي أن الكلمتين معناهما الموجود الوحيد الغني عن التعريف . ويبدو لي أيضاً أنه هناك تشابهاً بين هاتين الكلمتين وبين كلمة يهوه العبرية التي تُطلق على الله، والتي يُراد بها الكينونة الذاتية المستمرة أو بتعبير آخر الوجود الذاتي الدائم ، والكائن الدائم الوجود بذاته هو الهُوَ هُوَ بعينه. فاذا صحَّ استنتاجي، يكون ابن الحلاّج قد قصد ب الهُوَ هُوَ الكائن الذي يُدعى عند المسيحيين الله ظاهراً أو معلَناً . ويوافقني ابن سينا على أن الهُوَ هُوَ يُراد به الله، فقد قال الهو هو هو الذي هويته لذاته، وهو واجب الوجود الذي لا تركيب فيه ولا حدَّ له (الرسالة العرشية ص 63)، والهُوَ هُوَ يشبه كل الشبه المطاع ، الذي قال الإمام الغزالي عنه إنه ليس هو الله، ولكنه أيضاً ليس شيئاً غير الله ، كما يشبه القطب الذي قال أهل الإسماعيلية الباطنية والقرامطة عنه إنه منبع العلم الباطني والوحي ، ويشبه كلمة التكوين التي قال الأشاعرة إن لها قوة الخلق والتكوين ، كما ذكرنا في الباب الثالث من كتاب (الله - ذاته ونوع وحدانيته).