الفصل الثالث
تجسُّد كلام الله وكلمته
1 - يقول المعتزلة في شرحهم لحادثة ظهور الله لموسى النبي إن كلام الله حلَّ في الشجرة أو تجسَّد فيها .
2 - ويقول الأشاعرة ما ملخَّصه كلام الله نوعان: الكلام بمعنى الحروف، وهو حادث، والكلام بمعنى الحديث النفسي القديم القائم بذات الله، وهو أزلي. والأول صورة خارجية للثاني... والثاني صفة قديمة قائمة بذاته تعالى... وهو مساوٍ لها في القدم، ولا علم لنا به إلا عن طريق الألفاظ.. والكلام بمعنى الحديث النفسي الأزلي واحد لا تعدّد فيه، متميز مغاير لذاته تعالى، ويظهر بصور كثيرة لمن يريد الله أن يظهره له.. وهذه الصور حادثة ومنها القرآن . وهذا الوصف يشبه الوصف الذي جاء عن الكلمة في سفر الحكمة اليهودي، الذي اقتبسنا شيئاً منه في الباب الثالث من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .
3 - وقال المقريزي: القرآن هو من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيواناً . وقال الجاحظ: القرآن جسد يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً . وقال إخوان الصفا: الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية، تبدو من نفس جزئية، في جسد بشري، بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى، في دور من الأدوار .
ويعتقد علماء الدين جميعاًأن القرآن هو كلام الله، ولكن لبعضهم آراء خاصة من حيث الاعتقاد بزمن وجوده. فقال ابن حنبل القرآن أزلي وقد علل ذلك بأن القرآن كلام الله، وكلام الله أزلي. ولذلك قالت الحنابلة: القرآن بحروفه وأصواته قديم . وقد تطرّفت جماعة منها في رأيها فقالت: إن جلده وغلافه قديمان ايضاً . فكان مثلها مثل بعض فلاسفة الأرمن، في رأيهم من جهة جسد المسيح (كما سيتضح في الباب الخامس). أما المعتزلة فقالت: القرآن مخلوق وقد عللت ذلك بأنه قد نصّ على نسخ بعض الآيات، فقال: ما ننسخ من آية أو نُنْسها نأت بخير منها ولا يتصور النسخ إلا في الحادث . ووقفت جماعة ثالثة موقفاً وسطاً، فقالت: القرآن مجعول (أي أنه ليس أولياً قائماً بذات الله، وليس مخلوقاً من العدم)(الملل والأهواء والنحل ج1 ص 77، وضحى الاسلام ج3 ص 34-37 و 161-207). أما المسيحيون، فمع اعتقادهم أن المسيح بوصفه الكلمة الذي يعلن فكر الله هو أزلي بأزلية الله أو اللاهوت،لكنهم يعتقدون أن الكتاب المقدس حادث، وأن كل آية من آياته، وإن كانت معلومة لدى الله أزلاً، إلا أنها لم تصدر منه إلا في الظروف الخاصة بها.
أما قول المقريزي والجاحظ إن القرآن يمكن أن يصير حيواناً، فأعتقد أنه لا يقصد بكلمة الحيوان القائم بأربعة أرجل، بل يقصد به كائناً حياً، لأن الحيوان في العربية هو ما دبَّت فيه الحياة.
4 - ويقول الأشاعرة أيضاً: كلمة التكوين (كن)، الواردة في الآية (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، معناه تجسيم الكلمة، او على الأقل إظهارها بمظهر الشخصية . فهم لا يعتقدون أن التجسم هو في أثر الكلمة (كما يحاول الذين يريدون تأويل أقوالهم)، بل يعتقدون أن التجسم هو في ذات الكلمة.
5 - وقال الشيخ محيي الدين العربي ما ملخصه: الكلمة الكلية الجامعة، أو العقل الإلهي، أو حقيقة الحقائق، هي اللاهوت أو باطن الناسوت . وقال أيضاً: ما يُقال عنه العقل بالقوة هو حقيقة الحقائق، وما يُقال عنه العقل بالفعل هو العبد الكامل أو الإنسان الكامل. وهذا العبد الكامل أو الإنسان الكامل يُدعى الله، لأنه جمع في عين واحدة الحضرة الإلهية بكل صفاتها. والله يعرف نفسه بنفسه في هذا الإنسان، إذ هو بالنسبة إليه، مثل إنسان العين من العين، وبه نظر الله إلى عباده فرحمهم أو خلقهم . والعبد الكامل ، يراد به الله متجلياً وعاملاً . وبالطبع لا يقصد ابن العربي ب- الكلمة الكلية الجامعة أو الإنسان الكامل ، السيد المسيح، كما يعتقد المسيحيون، بل يقصد به الحقيقة المحمدية .