الفصل الأول
آراء الفلاسفة المنتمين إلى المسيحية اسماً
كان هؤلاء الفلاسفة ينتمون إلى المسيحية يوماً، غير أنهم فسّروا عقائدها تفسيراً أخرجها عن روح الكتاب المقدس، ولذلك نبذت الكنيسة آراءهم وأقصتهم عن دائرتها. وفيما يلي أهم آرائهم، وأسباب عدم صدقها:
1 - قال الأبيونيون في القرن الأول: وُلد المسيح ولادة طبيعية من يوسف ومريم وحجتهم في ذلك أنه ليس من المعقول أن يولد إنسان ذو جسد حقيقي، بغير هذه الولادة.
وكان غرض الأبيونيين مزج المسيحية باليهودية،ولذلك كانوا ينهون أتباعهم عن أكل لحوم بعض الحيوانات، ويأمرونهم بممارسة بعض الطقوس اليهودية، وقد اندثرت بدعتهم في القرن الرابع.
الرد: (أ) بما أن ولادة المسيح من العذراء ليست من الحقائق التي ذكرها الإنجيل فحسب، بل هي أيضاً من صميم النبوات التي أعلنها الوحي في التوراة، إذن فآراء الأبيونيين ليس لها نصيب من الصواب من الوجهة الدينية.
(ب) وبما أن المسيح عاش على الأرض حياة القداسة المطلقة، التي لا يستطيع أحد من البشر أن يحياها، كما استطاع أن يبعث في نفوس تابعيه حياة روحية سمت بهم فوق مستوى الميول والغرائز الطبيعية، الأمر الذي لا يستطيع القيام بمثله إنسان ما. وبما أنه بعد ما سلَّم نفسه للموت بإرادته، قام قيامة عجيبة صعد بعدها بجسده إلى السماء، مغايراً في ذلك ناموس الطبيعة العام الذي تخضع له البشرية بأسرها. إذن لا شك في أنه لم يكن إنساناً عادياً، بل كان فوق العادي بمقدار ما تحوي هذه الكلمة من سمو ورفعة، ليس لهما مثيل في البشرية، ولذلك فمن الواضح أن تكون ولادته فوق ناموس الطبيعة، أو كما ذكر الوحي أنها كانت من عذراء لم تعرف رجلاً.
وقد أشار إلى ذلك الاستاذ بروس فقال: إن الحياة الفريدة التي عاشها المسيح على الأرض، دليل قاطع على أنه وُلد من عذراء . وقال غيره: إن ولادة المسيح من عذراء هي بداءة طبيعية بالنسبة له، كما أن قيامته من بين الأموات، وصعوده إلى السماء، هما أيضاً خاتمة طبيعية بالنسبة له .
2 - قال الغنوسيون في القرن الثاني: الجسد الذي ظهر به المسيح في العالم، لم يكن جسداً حقيقياً، بل كان جسداً شكلياً أو بالحري أثيرياً، هبط به من السماء ومرَّ به في بطن العذراء مرور الهواء في الميزاب، ولذلك فإنه لم يأخذ جسداً منها وحجتهم في ذلك أن كل ذي جسد حقيقي يخطئ، والمسيح لم يخطئ على الإطلاق.
وكان غرضهم مزج المسيحية بالفلسفة اليونانية، واندثرت بدعتهم في القرن الخامس. ولكن حدث في القرن العشرين أن قام شهود يهوه وغيرهم بإخراجها من مقبرتها وإذاعتها بأساليب متنوعة.
وقد امتد البحث في طبيعة جسد المسيح إلى فلاسفة المسلمين أيضاً، فقال ابن العربي: إن جسد المسيح غير عنصري (أو بالحري غير مادي)، ولذلك لم يعتره فساد (فصوص الحكم ج2 ص 178).
والأثير شيء يختلف عن المادة اختلافاً كلياً، يفترض علماء الطبيعة وجوده في الفضاء، ويُسندون إليه الفضل في نقل الرسائل اللاسلكية. وهذا الأثير كما يقولون لا يتأثر بالحرارة ولا يخضع لأي ناموس من نواميس المادة. أما علماء الأرواح فيقولون إنه أول طبقات العالم الروحي، وإنه قوام الروح للبشرية. وذهب فريق آخر إلى أنه من الجائز أن يكون أزلياً (الدين والعلم، للمشير أحمد عزت باشا ص 95)، وهكذا تتضارب الآراء فيه تضارباً عظيماً.
الرد: تدل حياة المسيح وأعماله وتصرفاته على أن جسده كان جسداً حقيقياً، ولذلك فرأي الغنوسيين ليس له نصيب من الصواب. أما السبب في عدم إتيانه أية خطية فيرجع إلى عاملين رئيسيين هما: (1) ولادته خلواً من الطبيعة الخاطئة التي ورثتها البشرية بالتناسل الطبيعي. و(2) كماله الذاتي الذي بسببه كانت روحه البشرية متوافقة مع لاهوته في كل الأعمال والتصرفات. أما الجسد من حيث هو جسد، فلا يميل إلى الخطيئة، إذ أنه مادة، والمادة لا تتجه من تلقاء ذاتها إلى الخير أو الشر.
3 - قال الباولسيون في القرن الثاني: نزل المسيح من السماء مباشرة بجسد حقيقي وحجتهم في ذلك مثل حجة الغنوسيين، أنه لم يخطئ على الإطلاق.
الرد: هذا الرأي لا يعتمد على نص ديني أو تاريخي، ولا يتفق مع حياة المسيح الواقعية التي عاشها على الأرض. فضلاً عن ذلك فإن الأجساد الحقيقية أو المادية ليس لها وجود في السماء، إذ أن السماء هي عالم الروح الذي لا أثر للمادة فيه على الإطلاق. أما السبب في عدم إتيانه خطيئة، فقد ذكرناه فيما سلف، ولذلك فرأي الباولسيين ليس له نصيب من الصواب كذلك.
4 - وقال أبوليناريوس في القرن الرابع: المسيح وإن كان قد وُلد من العذراء إلا أنه لم يتخذ جسده منها، بل أن جوهره الإلهي استحال إلى جسد في بطنها، ولذلك لم تكن له نفس بشرية، إذ أن لاهوته حل محل النفس فيه . وحجته في ذلك أن النفس تميل إلى الخطيئة، والمسيح لم يمل إليها إطلاقاً، بل عاش كل حياته بعيداً كل البعد عنها.
الرد: (أ) بنى أبوليناريوس رأيه هذا على التفسير اللفظي للآية والكلمة صار جسداً وقد أخطأ خطأ عظيماً، لأن هذه الآية لا تدل على أن اللاهوت تحوَّل إلى ناسوت، كما يتحول الأبيض إلى أسود أو الخشب إلى فحم، بل تدل على أن اللاهوت تجسّد أو ظهر في جسد، كما هو مكتوب: الله ظهر في الجسد (1تيموثاوس 3: 16) لأنه إن جاز أن يتحول الأبيض إلى أسود، والخشب إلى فحم تحت تأثير العوامل الطبيعية، لا يمكن أن يتحول اللاهوت إلى ناسوت، إذ أنه منزه عن الاستحالة والتغيير كل التنزيه.
والآية لا تقول: صار جسماً بل صار جسداً . والجسد يشمل الجسم والروح معاً، كما أنها لا تقول: صار إنساناً أي فرداً من الناس، بل صار جسداً أي طبيعة بشرية كاملة. وكلمة صار هذه تدل دلالة قاطعة على أن المسيح لم يتخذ هذه الطبيعة كرداء يظهر فيه فقط، بل تدل على أنه صار واحداً معها أيضاً، فاللوغوس أصبح يسوع المسيح، الله المتأنس. والصيرورة هنا لا تدل على تحوّل أو تغير في الله، بل تدل فقط على اتحاده بالطبيعة البشرية، ليقرنها به ويمجدها في ذاته.
(ب) فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح كان يشعر بالتعب والألم والجوع والعطش، والشعور بهذه العوامل ليس من خصائص اللاهوت (لأن اللاهوت منزّه عن التأثر بأي مؤثر) بل هو من خصائص الجسد المرتبط بالنفس، أو بالحري من خصائص النفس المرتبطة بالجسد، اتضح لنا أن ناسوت المسيح كان يحوي نفساً مثل نفوسنا وروحاً مثل أرواحنا، لكنهما كانا خاليين من الخطيئة خلواً تاماً.
5 - قال نسطوريوس في القرن الخامس: لم يكن المسيح هو الله، بل كان إنساناً عادياً حلَّ فيه الله، دون أن يتحد به . وحجته في ذلك أن تجسّد الله يقتضي تعرضه للتغيُّر، وهو لا يتغيَّر. وليوضح وجهة نظره، كان يشبّه اللاهوت بالزيت، والناسوت بالماء. وقد جاراه الفريق المعارض له في التشبيه، فقال إن اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبه اتحاد النار بالحديد - ولكن هذا التشبيه لا نصيب له من الصواب أيضاً. لأن النار باتحادها مع الحديد تمدده وتغير صلابته، كما تتأثر هي أيضاً بدرجة حرارته الأصلية. والحال أن اتحاد اللاهوت بالناسوت لم يترتب عليه حدوث أي تغير فيهما أو في أحدهما. والحق أنه من الجهل أن نشبّه اتحاد اللاهوت بالناسوت بشيء من الطبيعة لأنه اتحاد لا شبيه له، كما أن الله لا شبيه له.
الرد: (أ) بما أن تجسّد الله يتوافق مع ذاته وكماله، لأنه ذو تعيّن خاص ولأنه أيضاً يحب البشر ويعطف عليهم، وبما أنه بتجسّده لم يتقيد لاهوته أو ينحصر في حيّز ما، بل ظل كما هو منذ الأزل الذي لا بدء له، لأنه غير قابل للتأثر بأي مؤثر، إذن لا سبيل للظن بأنه بتجسّده تعرض لتغيُّر ما، كل ما في الأمر أنه أظهر ذاته وصفاته بوسيلة يستطيع البشر إدراكه بها. ولا مجال للاعتراض على ذلك، فالمحبة تظهر بمظاهر كثيرة لمن تتجه إليهم، دون أن يطرأ عليها أو على المتصف بها تغيير ما. فاذا أضفنا إلى هذه الحقيقة أن الله ذو تعيّن خاص منذ الأزل، وانه متجلٍّ وظاهر منذ الأزل أيضاً، وأنه بالتجسّد ظل محتفظاً بكل خصائصه، لا يبقى أمامنا شك في خطأ نسطوريوس.
(ب) بما أن حياة المسيح (كما مر بنا في الرد على الاعتراض الأول) لم يكن ولن يكون لها نظير من جهة الكمال، إذن ليس من المعقول أنه كان إنساناً عادياً حل فيه اللاهوت، كما حل روح الله ويحل في القديسين (لأن هؤلاء سقطوا ويسقطون في خطايا كثيرة). بل من المؤكد أن اللاهوت كان متحداً به، أو بتعبير غيره أنه كان الله متجسداً، لأن الكمال له وحده.
6 - وقال أوطيخوس في القرن الخامس: الطبيعة البشرية في المسيح تلاشت في الطبيعة الإلهية، ولذلك كانت للمسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة الالهية وحجته في ذلك أن المسيح كان كاملاً كل الكمال.
الرد: أراد اوطيخوس أن يصحح خطأ نسطوريوس فوقع في خطأ آخر، لأن الأعمال الجسدية التي كان يقوم بها المسيح على الأرض، مثل الأكل والشرب والنوم، تدل بكل وضوح على أن طبيعته البشرية لم تتلاشَ، بل كانت موجودة بكل خصائصها، ولذلك فهذا الرأي لا نصيب له من الصواب كذلك.
إن البدع التي نادى بها الزنادقة عن شخصية المسيح جعلت المسيحيين الحقيقيين يدققون في اختيار الألفاظ الخاصة بها كل التدقيق، فقال الكاثوليك واليونان الأرثوذكس والبروتستانت إن للمسيح طبيعتين (وذلك للحذر من بدعة أوطيخوس). ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قالوا: إن هاتين الطبيعتين لم تنفصلا ولن تنفصلا على الإطلاق، لأنهما طبيعتا أقنوم واحد، هو الابن المتجسد (وذلك للحذر من بدعة نسطوريوس). أما باقي الأرثوذكس فقالوا: إن للمسيح طبيعة واحدة (وذلك للحذر من بدعة نسطوريوس). ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قالوا: إن المسيح كان قائماً بطبيعة إلهية وأخرى إنسانية، إنما بالاتحاد الذاتي دون اختلاط أو امتزاج أو استحالة، صارتا طبيعة واحدة لكائن واحد، هو (الابن، الاله المتأنس) (وذلك للحذر من بدعة أوطيخوس).
وقد نشأ من هذا الاختلاف (إن جاز أن يُسمى اختلافاً) أن الفريق الأول قال: للمسيح مشيئتان متوافقتان كل التوافق وأن الفريق الثاني قال: له مشيئة واحدة، لأنه لا خلاف بين لاهوته وناسوته .
والحق أن أقوال الفريقين متشابهة، بل تكاد تكون واحدة في معناها، فكلٌّ منهما يرفض بدعتي أوطيخوس ونسطوريوس، والفرق الوحيد بينهما (إن جاز أن يُسمَّى فرقاً) هو أن الفريق الأول بدأ بالحذر من بدعة أوطيخوس، وانتهى بالحذر من بدعة نسطوريوس، أما الفريق الثاني فبدأ بالحذر من بدعة نسطوريوس، وانتهى بالحذر من بدعة أوطيخوس.
7 - وقال إيلاريوس في القرن الخامس: إن آلام الصلب وغيرها من الآلام التي وقعت على المسيح، وقعت على اللاهوت والناسوت معاً . وحجته في ذلك أن اللاهوت كان متحداً بالناسوت اتحاداً كاملاً.
الرد: مرَّ بنا أنه باتحاد اللاهوت بالناسوت لم يفقد أحدهما شيئاً من خصائصه، لأنه ليست في أحدهما قابلية للاختلاط أو الامتزاج بالآخر، إذ أن الأول غير محدود ومنزه عن التأثر بالأعراض، والثاني محدود ومعرض للتأثر بها. ولذلك فإن اللاهوت ظل هو اللاهوت بكل خصائصه، والناسوت ظل هو الناسوت بكل خصائصه. وبما أن الأمر كذلك فمن البديهي أن تكون آلام الصلب وغيرها من الآلام قد وقعت على الناسوت وحده، لأنه هو المحدود والمعرض للتأثر بالأعراض.
ومع ذلك نقول إنه نظراً لاتحاد اللاهوت بالناسوت، فإن جميع الاضطهادات التي وُجهت إلى المسيح عندما كان على الأرض، تُحسب أنها موجَّهة إلى الله نفسه، لأن المسيح ليس إنساناً متألهاً أو إلهياً، بل هو الله متأنساً أو ظاهراً في الجسد.
8 - وقال بعض فلاسفة الأرمن في القرن السادس: إن جسم المسيح قديم وحجتهم في ذلك أن المسيح قديم أو أزلي.
النقد: بما أن المادة ليست أزلية بل حادثة، إذن فليس من المعقول أن جسم المسيح كان أزلياً. ومع ذلك نقول إنه نظراً لأن المسيح كان على علم تام بكل شيء أزلاً، بوصفه أقنوم الابن الأزلي فإنه ولا شك كان يعلم منذ الأزل أنه سيتخذ جسداً في يوم من الأيام، كما كان يعلم أنه سيقدم نفسه في هذا الجسد كفارة عن الناس.