الفصل الثالث
الأقنوم الذي كان يظهر للأنبياء في العهد القديم
بما أن أقنوم الابن أو الكلمة هو الذي يعلن الله (أو اللاهوت) منذ الأزل الذي لا بدء له، فلا شك أنه هو الذي كان يظهر للأنبياء والأتقياء السابق ذكرهم، تارة في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ليعلن لهم ذات الله (أو اللاهوت) مع مقاصده. والأدلة الآتية تثبت أيضاً هذه الحقيقة:
1 - العبارة ظهر الرب ، الواردة في (تكوين 12: 7، 26: 2 و24)، يُراد بها في الأصل العبري ظهر كلمة الرب . ولذلك نرى أن أنقيلوس اليهودي (الذي ترجم التوراة من العبرية إلى الأرامية، في القرن الثاني قبل الميلاد) استعاض في ترجمته عن اسم الله، بكلمة ممرا أي الكلمة . كما استعيض عن اسمه تعالى بهذه الكلمة في التلمود والمدراش معاً، وهما أهم الكتب المقدسة عند اليهود بعد التوراة.
2 - شهد فيلون الفيلسوف اليهودي المشهور (الذي عاش قبل الميلاد، والذي كان على دراية تامة بكل أسفار التوراة) أن اللوغوس أو الكلمة هو الذي كان يظهر في هيئة ملاك لإبراهيم وإسحق ويعقوب، وغيرهم من الآباء.
3 - كان الأنبياء يعبّرون عن كيفية وصول الوحي إليهم بالقول: وكانت كلمة الرب إلى (...النبي) قائلاً (زكريا 1: 1 وحجي 1: 1). ومما يدل على أنه لا يُقصد ب- كلمة الرب هنا مجرد كلام، بل شخص أو ذات. و يُستنتج من أقوال الوحي أن لها الشخصية أو الذاتية ذات الكيان الواقعي، والتي لها أيضاً عمل وكلمة. فقد قال حزقيال النبي بالوحي إن كلمة الرب صارت إليَّ قائلة: يا ابن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل. فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم من قِبلي (حزقيال 3: 17، 18)، وهذا دليل على أن كلمة الرب (الذي كان يظهر للأنبياء)، لم يكن مجرد كلام كما ذكرنا، بل كان أقنوم الكلمة بعينه.
وكلمة كلمة الواردة في هذه العبارة، ترد في الأصل العبري في صيغة المذكر، وهي نفس الكلمة الواردة في الآيتين السابقتين المقتبستين من (زكريا 1: 1، وحجي 1: 1) ومعناها الحرفي تدبير أو فكر . ولذلك فالآية الواردة في (حزقيال 3: 17، 18) تُترجم، حسب النص الحرفي للغة العبرية ان كلمة الرب صار إليَّ قائلاً.... مثل الآيتين الواردتين في سفري زكريا وحجي تماماً.
4 - جاء في كتاب (الحكمة) عن الكلمة أنها واحدة، وأنها تحيا عند الله وتجلس على عرشه وتعلم أسراره وأنها الصانعة لكل عمل من أعماله، وأنها تتجلى للذين يحبونها باسمة لهم راضية عنهم، وأنها ترافقهم أثناء سيرهم في هذا العالم وتنجّيهم من أعدائهم، وفي الآخرة تتولى مكافأة الصالحين على أعمالهم. وهذا دليل آخر على أن أتقياء اليهود كانوا يعتقدون أن الكلمة أو كلمة الله ليست مجرد لفظ أو عبارة، بل أنه الله . أو بحسب الاصطلاح المسيحي أقنوم الكلمة لأنه وحده يستطيع القيام بهذه الأعمال.
5 - كانت التوراة قد أعلنت بكل صراحة، أن المسيح المزمع أن يأتي إلى العالم هو ملاك العهد (ملاخي 3: 1، 2)، وأنه أيضاً هو ابن الإنسان أو إنسان (دانيال 7: 13 وحزقيال 1: 26). وقد أعلن العهد الجديد كذلك أن المراد ب- ملاك العهد وابن الإنسان الوارد ذكرهما في هذه الآيات هو المسيح أو أقنوم الكلمة نفسه (متى 11: 10، 24: 30)، مما يدل على انه ذات المولى الذي كان يظهر للأنبياء والأتقياء في هيئة ملاك أو إنسان في العهد القديم.
6 - معنى ملاك في الأصل رسول . وإذا رجعنا إلى العهد الجديد وجدنا أن أقنوم الكلمة أوالمسيح يُدعى (من ناحية كونه ابن الإنسان) رسولاً. فقد قيل عنه إنه رسول اعترافنا (عبرانيين 3: 1)، وإنه أُرسل من عند الله لنا. أو بتعبير آخر إنه رسول الله (أو اللاهوت) لنا (غلاطية 4: 4) لأنه هو الذي يعلنه ويُظهره. وطبعاً ما كان من الممكن لغيره أن يقوم بهذه المهمة، لأن كل ما عداه مخلوق، والمخلوق محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن غير المحدود.