الفصل الأول

الاعتراضات الفلسفية، والرد عليها

هناك أدلة دينية وعقلية وتاريخية لا حصر لها، ذكرنا بعضها فيما سلف، وسنذكر البعض الآخر فيما يلي، تثبت أن المسيح كان شخصاً حقيقياً عاش على أرضنا، وأن سيرته هي نفس السيرة المدوَّنة في الإنجيل الذي بأيدينا، الأمر الذي يدل على أنه هو الله ظاهراً في الجسد. ولذلك يحق لنا ألا نقيم وزناً لأي اعتراض يُوجّه ضد حقيقة شخصه الكريم. لكن نظراً لتأثر بعض البسطاء بما يسمعونه من الاعتراضات، نوجّه نظر الجميع من أول الأمر، إلى أن عدداً كبيراً من مدّعي الفلسفة قد أنكر في السنوات الأخيرة وجود الله، وبالتالي أنكر كل وحي. ثم أخذ يسعى بكل ما لديه من جهد لمقاومة المسيحيّة، إما لعدم قدرته على فهم عقائدها، أو لتعارض مبادئها مع ميوله وأهوائه. ولذلك ادّعى أن هذه العقائد ليست أصلية أو حقيقية، بل أنها مقتبسة من أساطير الوثنيين. وليثبت صدق إدعائه، راح يضيف إلى هذه الأساطير ويحذف منها ما شاء، حتى تبدو، حسب وجهة نظره، مماثلة للعقائد المسيحيّة من بعض الوجوه. فيجب على الباحث المدقق إذن أن يرجع إلى الكتب العلمية الصادقة، ليعرف الحقيقة كما هي. وهذا ما فعلته قبل أن أكتب هذا الكتاب، فقد درستُ كل ما عثرت عليه من هذه الكتب، ودرست معها تعليقات مؤلفيها، التي أرادوا بها، حسب وجهة نظرهم، إيجاد شبَه بين المسيحيّة والوثنية، فوجدتُ أن الكتب الأخيرة، على الرغم من هذه التعليقات، تختلف في مادتها عن كتب مدَّعي الفلسفة اختلافاً كبيراً. وعلى ضوء الحقائق الصادقة التي وصلتُ إليها أذكر فيما يلي اعتراضات المعترضين، ثم أذكر معها الرد المناسب عليها:

1 - يعتقد فريق من وثنيي الهند أن الإله فشنو تجسد في كرشنا، ليخلِّص العالم من خطاياه اللاحقة به، وأنه عندما ثقب جنب كرشنا بالحربة، قال للصياد الذي رماه بالنبلة، وهو مصلوب: اذهب أيها الصياد محفوفاً برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة . ثم مات. وعند موته حدثت مصائب عظيمة، وأحاطت بالقمر هالة سوداء، وأظلمت الشمس في وسط النهار، وأمطرت السماء ناراً ورماداً. وبعد ذلك قام كرشنا من الأموات، ثم صعد بجسده إلى السماء، وكثيرون شاهدوه صاعداً إليها. كرشنا هو الأول والوسط والآخِر، وهو الذي يدين الأموات في اليوم الأخير. ويعتقد هذا الفريق أيضاً، أنه في حضور أرجونا (أحد أتباع كرشنا) تبدّلت هيئة كرشنا، وأضاء وجهه كالشمس، ومجد العلي اجتمع في إله الآلهة، فأحنى أرجونا رأسه تذللاً ومهابة، وتكتّف تواضعاً واحتراماً، وقال: الآن رأيتك على حقيقتك، وإني أرجو يا رب الأرباب. فعدْ واظهر علي ناسوتك ثانية، أنت المحيط بالكون. كرشنا تنازل رحمة ووداعة، وغسل أرجل البرهميين. وهو الكاهن العظيم، وهو العزيز القادر الذي ظهر بالناسوت، وهو البطل الوديع الذي قدّم نفسه ذبيحة.

الرد: (أ) إن ما يسميه المعترض تجسداً لفشنو، هو التقمُّص الذي كان معروفاً في الهند وغيرها من البلاد الوثنية. فقد ورد في الأساطير الهندية أن فشنو الذي يحدّثنا عنه المعترض حلَّ أولاً في ماتيسا (سمكة)، وثانياً في كورما (سلحفاة)، وثالثاً في قزاها (خنزير)، ورابعاً في نارسيما (أسد)، وخامساً في فامان (قزم)، وسادساً في ماراسونا (فأس)، وسابعاً في داساراثارما (الوجه القمري)، وثامناً في كرشنا (الإله المظلم)، وتاسعاً في البوذا (المستنير)، وأنه سيحلُّ للمرة العاشرة عند انتهاء العالم في كالكي، الذي هو (الزمن)، كما يقول بعض العلماء.

والتقمّص كما يعتقد الوثنيون، هو انتقال روح الإنسان بعد موته إلى أجساد الحيوانات أو الناس، لتتطهر، حسب زعمهم، من خطاياها. وهو كذلك حلول آلهتهم في بعض الناس أو الحيوانات أو النباتات لأغراض خاصة. أما التجسّد، كما هو معروف في المسيحيّة، فيختلف كل الاختلاف عن التقمّص والحلول، كما اتضح لنا مما سلف.

ولحلول فشنو في كل كائن من هذه الكائنات سبب عند الوثنيين، ولا يتسع المجال أمامنا لذكر كل سبب من هذه الأسباب، ولكن نقول على سبيل المثال، إنهم يعتقدون أن فشنو قد تقمّص سلحفاة ليستطيع أن يسبح في الماء ويصل إلى فقاعة خاصة فيه، عبارة عن أنثى جميلة، أحبها فشنو وأراد أن يقترن بها.

ولا يُسنَد ما يدعوه المعترض تجسداً عند الوثنيين إلى فشنو وحده، بل إلى كثير من الآلهة غيره. فيقول الهنود عن سيفا إنه حلَّ في أحد عشر حيواناً، كلها مخيفة ومرعبة. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله سُمِّي رب الحيوانات . وحلول الآلهة، كما يعتقد الوثنيون، لا يكون في البشر والحيوانات فقط، بل وفي النباتات والجمادات أيضاً. كما أنه لا يكون بدرجة واحدة في كل حالة من الأحوال، بل يكون بدرجات متفاوتة. فهم يعتقدون أن الحلول الأول هو ظهور صفات الإله في بعض هذه الكائنات، والحلول الثاني هو ظهور ثُمْن الإله، كما حدث في حالة (لكشامانا)، والحلول الثالث هو ظهور رُبْع الإله، كما حدث في حالة (بهاراتا)، والحلول الرابع هو ظهور نصف الإله، كما حدث في حالة (راما)، والحلول الخامس هو الظهور الكامل، كما حدث في حالة (كرشنا).

والسبب في حلول فشنو في كرشنا يرجع، كما يزعمون، إلى أن الآلهة ذهبت مرة إلى فشنو، وشكت له ظلم الملك (لانكا) وغيره من الملوك العتاة، فوعدهم أنه سيحل في إنسان ويقضى على (لانكا) وعلى الملوك العتاة معه ويخلِّص البلاد من ظلمهم. هذا هو ما يقول عنه المعترض إنه التجسّد الذي اقتبس منه المسيحيون عقيدتهم. فيا لها من مغالطة، بل ويا لها من مكابرة! ففكرة حلول فشنو في كرشنا، فضلاً عن أن المراد بها هو تقمّصه فيه، هي فكرة أرضية صاغها خيال الوثنيين للتنفيس عن كراهيتهم لظلم لانكا. وما أبعد هذه الفكرة عن عقيدة التجسّد المسيحية، والتي يُراد بالتجسّد فيها المعنى الحرفي للتجسّد، والتي تظهر محبة الله المطلقة للناس، وتنازله بالظهور لهم ليستطيعوا الاقتراب منه، والتوافق معه في صفاته الكريمة السامية.

(ب) قول المعترضين إن الوثنيين يعتقدون أن كرشنا يخلِّص العالم من الخطايا اللاحقة به، ليس له أساس في الأساطير الوثنية، بالمعنى الذي نفهمه من الخلاص، لأن كرشنا هذا، كان هو نفسه كتلة من الخطايا، إذ كان يرتكب شروراً وآثاماً لم يرتكب غيره مثلها، حتى اعتُبر عند الوثنيين إله الشهوة والمظهر المتجسِّد لها .

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذ قيل عن كرشنا إنه يخلِّص العالم من خطاياه اللاحقة به؟

الجواب: إن الخلاص من الخطيئة، في نظر أتباع كرشنا وغيره من آلهة الوثنيين، ليس هو التحرر من سلطانها والنجاة من قصاصها، كما تنادي المسيحية، بل هو الانغماس في الخطيئة إلى آخر حدود الانغماس، لأن هذا المدى من الانغماس، كما يعتقدون، يطهِّر النفس ويجعلها أكثر قرباً من الآلهة. فاستخدم المعترض هذا المعنى النجس، ودون أن يشير إلى التناقض بينه وبين معنى الخلاص في المسيحية، وقال إن وثنيي الهند يعتقدون أن كرشنا يخلّص العالم من الخطايا، كما يقول المسيحيون عن المسيح، وذلك ليُدخل في روع البسطاء منهم أن معتقداتهم مقتبسة من الوثنية.

أما إذا كان المعترض يجهل معنى الخلاص من الخطيئة في الوثنية، فربما يكون الدافع له للقول إن كرشنا يخلّص العالم من الخطايا، يرجع إلى أنه عندما قرأ في الأساطير أن فشنو حلَّ في كرشنا ليخلّص العالم من ظلم (لانكا) وغيره من الملوك، (كما ذكرنا فيما سلف)، وكان يضمر في نفسه أن يخلع شخصية المسيح على بعض آلهة الوثنيين ليُدخل في روع المسيحيين أن المسيح لم يكن شخصاً حقيقياً، بل أن سيرته مقتبسة من الأساطير الوثنية، سوَّلت له نفسه أن يقتبس من الأساطير عبارة كرشنا يخلص العالم (التي يُقصد بها في الأصل تخليصه من ظلم لانكا وغيره من الملوك)، وأن يضيف إليها من عنده عبارة قدَّم نفسه ذبيحة ليتقن الدور الذي يريد تمثيله. مع أن كرشنا، كما يعلم جميع العارفين بالأساطير، لم يقدِّم نفسه ذبيحة لخلاص العالم، بل قدَّم نفسه ذبيحة لإشباع أهوائه وشهواته، فقد عاش حياة الدنس والفساد حتى فارق الحياة.

(ج) إذا تأملنا القصة التي أوردها المعترض عن كرشنا، وجدنا فيها التلفيق واضحاً جلياً. فالمعترض يحاول جهد الطاقة أن يُدخل في روع المسيحيين أن الوثنيين كانوا يعتقدون أن كرشنا صُلب لأجل خلاص العالم، كما يقولون هم عن المسيحيين. ويريد في الوقت نفسه أن يذكر شيئاً عن الطريقة الحقيقية التي مات بها كرشنا ليوفِّق، حسب وجهة نظره بين الحقيقة وبين غرضه، حتى يعتبر نفسه صادقاً فيما رواه، فكشف بذلك عن سوء نيّته وتزويره للحقائق دون أن يدري. فما العلاقة بين الحربة والنبلة؟ وما العلاقة بين صيّاد الطيور ومن يستعمل الحربة؟ وما الداعي لإيراد عبارة وهو مصلوب بعد كلمة بالنبلة ؟ هل هذا هو موضعها الصحيح، أم أنها حُشرت في هذا الموضع حشراً، لمجرد لفت النظر إليها؟ وهل كان الصلب معروفاً في الهند أم كان معروفاً في بلاد الرومان وحدها، كما يقول المؤرخون؟

وليعرف القارئ شيئاً عن الكيفية التي مات بها كرشنا، حتى يتضح له تلفيق المعترض للحقائق، نقول إن الأساطير الهندية ذكرت أن كرشنا كان يسير مرة على شاطئ نهر، وكان بجوار الشاطئ غابة يدخلها الصيادون من وقت إلى آخر لصيد الطيور والحيوانات، فحدث مرة أن أخطأ أحدهم المرمى، فنفذت حصاته، كما يقول بعض الرواة، أو سهمه، كما يقول بعض آخر، إلى مقتلٍ من كرشنا، فسقط لساعته على الأرض ومات.

أما القول إن كرشنا قد قال للصياد: إذهب أيها الصياد محفوفاً برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة فليس له أساس في الأساطير. وهو دليل على أن المعترض قد اقتبس من الإنجيل قول المسيح للص التائب: اليوم تكون معي في الفردوس ، وصاغه بما يتفق مع الرواية التي اختلقها، ليتقن الدور الذي يريد تمثيله.

(د) ولا يتسع لنا المجال للرد على كل عبارة من عبارات المعترض الباقية، ولذلك نكتفي بالقول إنها كلها مختلقَة، فالأساطير الوثنية لم تذكر مطلقاً أنه عند موت كرشنا حدثت مصائب، أو أنه هو الذي يدين الأموات، أو أنه إله الآلهة ورب الأرباب، أو أنه كان وديعاً، أو أنه غسل أرجل البرهميّين، أو أن وجهه قد ضاء مرة، أو... أو... الأمر الذي يدل بوضوح على أن المعترض، أراد أن يُلبس كرشنا ثوب المسيح، على الرغم من التناقض الذي لا حدَّ له بينهما، ليوهم البسطاء أن العقائد المسيحيّة مقتبسة من الوثنية.

2 - يعتقد البوذيون أن بوذا إلهٌ ترك الفردوس مرة، وجاء إلى العالم في ناسوت، ليبرّر الناس من خطاياهم، ويزيل عنهم القصاص الذي يستحقونه بسببها. وفي أواخر أيامه، نزل عليه بغتة نور أحاط برأسه بهيئة إكليل، وانبعث من جسده نور عظيم فصار كتمثال من ذهب برّاق. وحين رأى الحاضرون هذا التبدّل في هيئته، قالوا: ما هذا بشر، إن هو إلا إله عظيم. كما يعتقد هؤلاء البوذيون أنه بعد موت بوذا، صعد جسده إلى السماء.. وكانت آخر عبارة نطق بها هي: دعوا الآثام التي ارتُكبت في هذا العالم تقع عليّ، ليَخْلُص العالم من قصاصها .

الرد: (أ) يتجاهل المعترض كعادته الأساطير الهندية. وكل ما يفعله هو اقتباس عبارة منها ليزجَّ بها وسط القصة التي يريد تأليفها عن الشخصية التي اختارها ليُلبسها ثوب المسيح. وفي سبيل تأليف تلك القصة لا يتورَّع أن يسند إلى هذه الشخصية أعمالاً لم تعملها، وأقوالاً لم تنطق بها، بل وحياةً تتعارض مع حياتها كل التعارض، وذلك ليدخل في روع المسيحيين أن المسيح لم يكن شخصاً حقيقياً، بل أن سيرته اقتبسها قادتهم من الأساطير الوثنية. فمثلاً استعار كلمة حلَّ الواردة في الأساطير بمعنى تقمّص ، وصاغها في الأسلوب المسيحي: جاء في ناسوت متجاهلاً أسماء الكائنات التي قالت الأساطير إن بوذا قد حل أو تقمّص فيها، ولكن ما تجاهله وأخفاه عن القراء، نذكره نحن هنا لتتجلى لهم الحقيقة. فقد جاء في هذه الأساطير أن بوذا حلَّ في أسد، ثم في فيل أبيض، ثم في كاهن، وأخيراً في قرد...!!

فضلاً عن ذلك، فقوله إن بوذا قال إنه أتى إلى العالم ليبرّر الناس من خطاياهم، ويزيل عنهم القصاص الذي يستحقونه بسببها هو محض اختلاق، لأن بوذا كان قد رفض نظام الذبائح الكفارية رفضاً تاماً، ونادى بأنه يجب على الإنسان أن يرتقي بنفسه فوق شهواته وأهوائه، وأن من لا يفعل ذلك لا يرتقي إلى الطور الرابع، وهو طور النرفانا . ولذلك كانت كلماته الأخيرة لأتباعه هي: كونوا لأنفسكم نوراً وملجأ حصيناً، ولا تلوذوا بغير أنفسكم . وهذه الكلمات تدل بوضوح على أن مبدأه، هو أن كل إنسان مسئول عن أعماله، وأنه ليس هناك من يحمل عنه آثامه أو يكفر له عنها.

وترى لماذا فات المعترض أن يؤلف لنا فصلاً عن الكيفية التي كفّر بها بوذا عن العالم أو خلّصه بها؟! هل خانه خياله، أم خشي أن يعيد إلى مسامعنا ما ذكره عن موت كرشنا، لئلا نتهمه بالتلفيق والتزوير، أم استحسن أن يترك موضوع موت بوذا جانباً، ليُدخل في روعنا أنه كاتب أمين لا ينقل إلينا من الأساطير إلا ما قرأه فعلاً، أو لنستنتج نحن أن المسيحيين الأوائل اقتبسوا شيئاً من سيرة كرشنا وشيئاً آخر من سيرة بوذا، وكوَّنوا من الاثنين قصة المسيح؟! ولكن ما أخفاه المعترض، نذكره هنا للقراء، ليعرفوا الحقيقة كما هي. فقد قيل إنه عندما كان بوذا في بلدة باقا، أراد حداد اسمه تشوندا أن يكرمه، فقدم له لحماً. ولما أكل بوذا هذا اللحم أحسَّ بألم شديد في أمعائه وأيقن أن ساعته قد جاءت. فشكر الحداد لأنه عجّل بانطلاقه من هذا العالم، ولم يمض وقت طويل على ذلك حتى مات. فأخذ أتباعه جسده ليحرقوه كعادتهم، ولكن النار لم تؤثر في جسده إطلاقاً، فتركوه فيها سبعة أيام، وفي نهاية اليوم السابع التهمت النار جسده وأحرقته.

(ب) كما أن قول المعترض إن هيئة بوذا قد تبدّلت، وإن جسده قد أضاء بنور عظيم، ليس له أساس على الإطلاق في الأساطير. والموضع الوحيد الذي وردت فيه كلمة نور في سيرة بوذا، هو: وبعد ما قسا بوذا على جسده وأذله بالزهد والتقشف، وجد أن نفسه لم تتطهر كما كان يظن، بل أنها لم تزل تميل إلى الأهواء كما كانت تفعل من قبل. فترك الزهد والتقشف وعاد إلى طعامه كالمعتاد. ولكنه لم يلبث طويلاً حتى أخذت تتنازعه الشكوك والمخاوف، وتساوره الأفكار في أن يعود إلى بيته ويعدل عن سعيه. وأخيراً جلس ذات يوم بجوار شجرة، ومكث هناك يوماً بأكمله في نزاع داخلي بينه وبين نفسه، حتى إذا بزغ القمر، أشرق عليه نور الحق ينبئه أن شقاء الحياة لا ينبعث من الجسد، بل من رغبات النفس وأهوائها، وأنه في استطاعة الإنسان أن يكون سيداً على نفسه لا عبداً لها، وذلك بالثقافة الروحية والسلوك بالإخلاص مع بني جنسه . ولذلك يبدو لي أن المعترض عندما قرأ أن بوذا أشرق عليه نور، وكان في نيّته من قبل أن يسند شخصية المسيح إليه، تذكَّر حادثة تجَلِّي المسيح فاقتبسها المعترض من الإنجيل، بعد أن وضع فيها اسم بوذا عوضاً عن اسم المسيح، ثم راح يخلع عليها من خياله ما يتفق مع الجمال الهندي، فقال إن بوذا أصبح كتمثال من ذهب برّاق، ليُدخل في روع المسيحيين، أنه قد نقل لهم أسطورة حقيقية من بلاد الهند نفسها.

(ج) كما أنه أقتبس من الأساطير الهندية عبارة صعد بوذا إلى السماء ، ثم نقل من الإنجيل حادثة قيامة المسيح من بين الأموات وصعوده إلى السماء، بعد أن وضع فيها اسم بوذا بدلاً من اسم المسيح، ليوهم المسيحيين أن قيامة المسيح لا نصيب لها من الصواب، وأنها مسروقة من الأساطير الهندية. لكن الرواية التي وردت فيها عبارة وصعد بوذا إلى السماء ، والتي أخفاها المعترض لسوء نيّته، هي أن بوذا، بفضل ما بلغه من الإخلاص والأمانة، رأى أمامه سلّماً من ثلاث درجات، إثنتين منهما من ذهب، والثالثة من فضة. وكان أسفل السلّم يمسّ الأرض، وقمته تمسّ السماء، فصعد بوذا عليه ورأى الله وتحدّث معه، ثم عاد إلى الأرض وأستأنف عمله في هداية الناس وإرشادهم. كما أنه لم يرد في الأساطير الهندية مطلقاً أنه بعد ما دُفن بوذا انحلّت الأكفان، أو فُتح غطاء التابوت، أو أنه صعد بجسده إلى السماء، فكل هذا منقول من الإنجيل ومسند إلى بوذا زوراً وبهتاناً.

3 - كان السوريون يعتقدون أن الإله تاموز، تألّم من أجل الناس، ولذلك كانوا يدعونه المصلوب والفادي والمخلص، كما كانوا يحتفلون كل سنة بذكرى موته. وكان كهنته يقولون للناس: ثقوا بربكم فإن الآلام التي قاساها قد جلبت لنا الخلاص .

الرد: تُرى ما الذي يفيده المعترض من التزوير؟ ألا يدري أن التزوير لا بد أن يُكشف يوماً ويعرّض صاحبه للمذلة والهوان؟ ولو فرضنا جدلاً أنه ليس هناك من يكشف تزويره، فهل من الشرف أن يستغل جهل البسطاء بالأساطير، ليضلل بهم كما يشاء؟ وإن كان لا يعرف للشرف معنى، فهل من شروط النزاهة في الكتابة أن يأخذ أقوال الكتاب المقدس عن المسيح، ويسندها إلى غيره؟

ونحن نشكر الله الذي سمح أن تنتشر الكتب بين ظهرانينا، حتى أصبح العلم ليس قاصراً على فئة من الناس دون الأخرى، بل أصبح في متناول الناس جميعاً. فليسمع القارئ إذن أسطورة تاموز (التي يقول لنا المعترض إن سيرة المسيح مقتبسة منها) وذلك نقلاً عن أوثق المصادر العلمية وأصدقها. كان تموز يُعتبر عند معظم الوثنيين إله الزراعة أو الربيع، ولذلك كانوا يعتقدون أنه يتجلّى أو يقوم بظهور النباتات، وأنه يختفي أو يموت بذبولها. فهو بناءً على عقيدتهم، كان يقوم ويموت مرة كل عام. وكانوا يعتقدون أيضاً أن تاموز أحب أخته إشتار واقترن بها - وهنا تختلف الروايات في ذلك، فتقول رواية إنه بعد ما اقترن بها قتلته، ولما شعرت بجريمتها بعد ذلك حزنت حزناً شديداً عليه. وتقول رواية أخرى إن حرارة الشمس اللاذعة هي التي قتلته. وسواء أكانت الرواية الأولى هي الصادقة أم الثانية، فان كلتيهما تقول إن إشتار تنزل كل عام إلى العالم السفلي، وتمكث مع تاموز حتى تُصعده في فصل الربيع. وفي أيام المناحة على موته كانت السوريات، ومعهن الكنعانيات والأشوريات، يحلقن شعرهن حزناً عليه، ويرثينه بمراثٍ تأخذ بمجامع نفوسهن، ولذلك كنّ يبكين عليه بكاءً حاراً، وكان هذا البكاء يستمر حتى يدفن الكهنة تمثاله في هيكله. وفي أعياد ظهوره كنَّ يطربن ويفرحن، ويستسلمن لأهواء الجسد وشهواته، بلا قيد أو شرط.

مما تقدَّم، يتضح لنا أن القول إن تاموز تألم من أجل الناس، وإنه كان يُدعى المخلص والفادي والمصلوب، وإن آلامه قد جلبت الخلاص إليهم، هو ادعاء ومحض اختلاق، وجريمة أدبية شنيعة، لأنها تهدف إلى تشويه الحقائق وتشكيك البسطاء في عقائدهم. ولكن شكراً لله، فإنه لا يتسرب إلى مؤمن حقيقي أي شك من جهة عقيدته، لأن الدلالة على صدقها أثبت من أن تزعزعها هجمات الناس، أو هجمات الأبالسة والشياطين معاً.

4 - كان أحد الكُتّاب اليونان، قد كتب قبل المسيح، رواية عن شخص صلبه الكهنة على جبل قوقاسوس، جاء فيها أنه بسبب ذنوب الناس قد جُرح، وبداعي طغيانهم قد سُحق، وبضربه وجلده قد شُفوا.. وأنه اضطُهد وتألم وامتُهن، دون أن يتململ .

الرد: إن الجبل الذي يسمّيه المعترض قوقاسوس ، هو جبل القوقاز . والشخص الذي قال عنه إنه صُلب هناك، هو المسمّى في الرواية بروميتيه .

وليعرف القارئ الحقيقة كما هي، نقول: إن كاتب هذ الرواية أراد، كما ذكر الأستاذ أندرييه، أن يحطّ من شأن السلطة المطلقة، التي كانت تسود بلاد اليونان في أيامه، وأن يُظهر مساوئها ومضارها، وأن يحثّ الناس على التضحية في سبيل مناهضتها، ليتمتعوا بالديمقراطية. فارتأى أن بروميتيه بعد ما ساعد جوبيتر في القضاء على أعدائه، والارتقاء به إلى مركز رب الآلهة حقد جوبيتر عليه (لأن بروميتيه كان يحب الناس ويساعدهم في شؤونهم) وعزم على إهلاكه وإهلاك الناس معه. فعارضه بروميتيه وأظهر له خطأه. لكن جوبيتر أصر على رأيه. وليتخلّص منه صلبه على جبال القوقاز، وأمر فلكان بتعذيبه، فكان هذا يغرس حديداً محمّى بالنار في جسمه، وبعد ذلك أهاج جوبيتر النسور عليه، فكانت تمزّق لحمه. وظل بروميتيه على هذه الحال، حتى أنقذه هرقل.

مما تقدم، يتضح لنا أنه بالإضافة إلى أن موت المسيح كفارة عن الناس هو أصلي في المسيحية، وقد شهد عنه أنبياء الله في العهد القديم، قبل ظهور كاتب رواية بروميتيه بمئات السنين، فإن هذه الرواية تختلف عن حادثة صلب المسيح من وجوه كثيرة، الأمر الذي يقضي على كل ظن بأن هذه الحادثة مقتبسة من الرواية المذكورة. فالمسيح قدّم نفسه باختياره للموت، أما بروميتيه فسيق للموت رغماً عنه. والمسيح قَبِلَ الموت كفارة عن خطايا الناس، أما بروميتيه فلم يمُتْ عن خطايا إنسان ما. وما تصوَّر مؤلف الرواية أن بروميتيه قد عمله، هو ما عمله ويعمله كثير من الأحرار في كل زمان ومكان. لكن مَن مِن الناس أو غير الناس استطاع أو يستطيع أن يعمل ما عمله المسيح؟

فهو مع أنه هو الذي له وحده البقاء (أو عدم الموت) رضي أن يسلّم نفسه فدية، ليس عن أناس قديسين، بل عن عصاة أشرار، لينقذهم من سلطة الخطيئة وعقوبتها، ويؤهّلهم للتوافق مع الله في هذا العالم، وفي الأبدية أيضاً. أما القول إن بروميتيه جُرح بسبب ذنوب الناس، و سُحق بداعي طغيانهم فليس له أساس في الأساطير، وهو منقول عن نبوة إشعياء النبي، التي نادى بها عن صلب المسيح قبل هرقل بمئات السنين (إشعياء 53). وكان من الواجب على المعترض، إذا أراد أن يستعير أسلوب الكتاب المقدس، أن يقول: إن بروميتيه جُرح بسبب دفاعه عن الديمقراطية، و سُحق بسبب إخلاصه لها . لكنه شاء أن يزوّر الحقائق الثابتة، فيأخذ الآيات التي قيلت عن المسيح ويسندها إلى بروميتيه، ليوهم البسطاء أن العقائد المسيحية مسروقة من الأساطير القديمة!

5 - كان قدماء المصريين يحترمون الإله أوزيريس، ويعدّونه أعظم مثال لتقديم النفس ذبيحة من أجل الناس، لينالوا الحياة الأبدية .

الرد: نذكر فيما يلي أسطورة أوزيريس نقلاً عن أوثق المصادر: زعم قدماء المصريين أن أوزيريس أحب أخته إيزيس واقترن بها، وأنه كان يحب خير الناس وهناءهم، ويعمل كل ما في وسعه لإنقاذهم من فقرهم وجهلهم، وأنه كان يطوف جميع أرجاء البلاد، ليتفقد شؤون الناس وينشر الرخاء والحضارة بينهم. ولكن أخاه (ست) كان عدواً لكل خير وهناء، ولذلك كان ينتهز فرصة غياب أوزيريس عن بلد ما، ويقضي على كل أعماله الصالحة فيها، ولولا حرص إيزيس وسهرها، لكان قد قضى على كل هذه الأعمال. وأخيراً فكّر في حيلة للقضاء على أوزيريس نفسه، فعرف بطريقة ما حجم جسمه، وعمل صندوقاً بهذا الحجم تماماً، من ذهب وأحجار كريمة. ثم أخذه معه إلى وليمة عظيمة، كان مدعواً إليها أوزيريس، وأثناء تداول الحديث بين الحاضرين، قال إنه على استعداد أن يعطي هذا الصندوق، لمن كان حجم جسمه مثل حجم الصندوق تماماً. فأخذ الحاضرون يجربون الصندوق واحداً بعد الآخر، ولكنهم وجدوا أنه لا يناسب أحداً منهم. وأخيراً تقدم أوزيريس ورقد في الصندوق ليجرّب حظه، فأغلق ست الصندوق في الحال، وألقى به في النهر، فحمله النهر إلى البحر. وبعد مدة من الزمن عثرت إيزيس على جثة زوجها، وأعادتها إلى مصر. وفي يوم ما ذهبت لزيارة ابنها حورس، فأتى ست وأخذ جثة أوزيريس وقطّعها قطعاً صغيرة (قيل إنها كانت 14 قطعة وقيل إنها كانت 42 قطعة، وقيل إنها كانت 72 قطعة)، وقذف بها في جهات متفرِّقة. فلما علمت إيزيس بذلك، أخذت تبحث عن أجزاء جثة زوجها، وتدفن كل جزء تعثر عليه. ولما كبر حورس انتقم من ست شر نقمة. أما أوزيريس فقد عاش في العالم السفلي، وأصبح إله الأموات. وفي رواية أخرى إنه لما مات أوزيريس بكت عليه إيزيس، فسقطت دموعها على صندوقه، ولذلك قام على الفور، وعاش مرة ثانية على الأرض. وفي رواية غيرها أن أوزيريس كان يغرق كل عام في وقت الفيضان، وكانت أخته تنزل إلى الأعماق لتنتشله من الغرق.

مما تقدّم، يتضح لنا أنه بالإضافة إلى أن موت المسيح كفارة عن الناس أصلي في الكتاب المقدس، وقد شهد عنه أنبياء الله في العهد القديم قبل حدوثه بمئات السنين، فإن الأساطير التي قيلت عن أوزيريس تختلف كل الاختلاف عمَّا ذكره الكتاب المقدس عن موت المسيح، الأمر الذي يقضي على كل ظن بأن خبر موته قد نُقِلَ عن الأساطير. ولذلك كان من الواجب على المعترض أن يلزم النزاهة فلا يقول إن أوزيريس مات ذبيحة لأجل الناس لينالوا الحياة، بل يقول الأسباب الحقيقية التي زعم قدماء المصريين أنها أدّت إلى موته. ولكنه شاء، وما أسوأ مشيئته، أن يزِّور الحقائق الثابتة، فيُسند عمل المسيح الفريد إلى أوزيريس، ليُوهم بسطاء المسيحيين أن عقائدهم مسروقة من الأساطير الوثنية!

6 - ورد في كتاب )اث ا غسفثقغ ب -ثسعس مهبث( أن العلماء عثروا بين الآثار المصرية على تاريخ إنسان يشبه المسيح في مولده وحياته وموته وقيامته، كل الشبه. ولذلك إن لم تكن سيرة المسيح مقتبسة من الأساطير السابق ذكرها، تكون مقتبسة من سيرة هذا الإنسان .

الرد: تاريخ قدماء المصريين، وغيرهم من الشعوب القديمة والحديثة، يخلو من أية إشارة عن مثل هذا الإنسان. فمن المؤكد أنه ليس إنساناً حقيقياً، بل هو إنسان خيالي، قام بصياغته مؤلف هذا الكتاب ليُدخل في روع البسطاء أن سيرة المسيح مقتبسة من تاريخ قدماء المصريين. ومما يثبت ذلك أيضاً، أننا رجعنا إلى الكتاب المذكور، ووجدنا أن مؤلفه قد استعمل في وصفه لهذا الإنسان، أسماء رجال ونساء وبلاد، كما أشار إلى أنظمة وتقاليد وعادات، لم تكن معروفة أو متَّبعة في مصر على الإطلاق، بل كانت معروفة ومتَّبعة في بلاد فلسطين وحدها. وهذا دليل قاطع على أنه أطّلع على سيرة المسيح المدوَّنة في الإنجيل، ثم صاغ منها قصة إنسانه المزعوم! وهكذا خانه التوفيق في مهمته، كما يخون غيره من المدّعين، وكشف بنفسه دون أن يدري، عن تزويره وسوء نيته.

أخيراً نقول، كردٍ عام على الاعتراضات السالفة، إننا إذا رجعنا إلى بدء معاملة الله مع البشر، الواردة في أول أسفار التوراة، وجدنا أنه بعدما أغوت الحيّة (أو الشيطان) حواء على مخالفة وصية الله، قال تعالى للحيّة (أو بالحري للشيطان) على مسمع من آدم وزوجته (أي قبل ظهور الوثنية على الأرض بأجيال عديدة): وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو (أي نسل المرأة) يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه (تكوين 3: 15، 16).

والحية اسم من أسماء الشيطان، فقد قيل بالوحي عنه: الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان، الذي يضل العالم كله (رؤيا 12: 9). والعرب أيضاً يسمون الحية شيطاناً (مختار الصحاح ص 338). ويطلق هذا الاسم على الشيطان، بسبب ما اشتهر به من الخداع والتضليل. وقد أشار الرسول بالوحي إلى هذه الحقيقة، فقال للمؤمنين: ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح (2كورنثوس 11: 3). كما أن كلام الشيطان مع حواء، ليس بالأمر الغريب، فقد شهد السير أوليفر لودج وغيره من العلماء، بوجود الأرواح وعملها، وتحدُّثها مع بعض الناس.

وكلمة نسل في اللغة الأصلية التي تُرجم منها الكتاب المقدس، لا يُقصد بها الجمع بل المفرد، وفي اللغة العربية ايضاً النسل هو الولد (مختار الصحاح ص 657) . أما الجمع، فيُستعمل له في اللغة الأصلية كلمة أخرى تُرجمت إلى العربية أنسال وإلى الانكليزية ِثثيس ولذلك فالمقصود بنسل المرأة في هذه الآية، شخص واحد وليس أشخاصاً كثيرين. وقد أشار الرسول بالوحي إلى هذه الحقيقة فقال: وأما المواعيد (الخاصة بالبركة) فقيلت (بواسطة الله) في إبراهيم ونسله (بالمفرد). لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد، في نسلك، الذي هو المسيح (غلاطية 3: 16)، وذلك بوصف المسيح هو الله الظاهر بين الناس، ليباركهم ويعطيهم حياة أبدية.

وبما أن النسل يُنسب إلى الرجل وليس إلى المرأة، إذن فإسناد النسل هنا إلى المرأة دون الرجل، إشارة إلى أن الذي يسحق رأس الحية، سيُولد من امرأة دون رجل، أو بالحري يولد من عذراء.

ويتضح من هذه النبوة أن المسيح يسحق رأس الشيطان، وأن الشيطان يسحق عقب المسيح. وسَحْق الرأس معناه القضاء التام أو بالحري الهلاك الأبدي، وسَحْق العقِب معناه التعقُّب حتى إنهاء الحياة الأرضية. وإذا رجعنا إلى الإنجيل، وجدنا أن هذه النبوّة قد تحققت تماماً، فالمسيح نزع سلطان الشيطان عن المؤمنين، بتكفيره عن خطاياهم وإعطائهم القوةالكافية للانتصار عليه (يعقوب 4: 7)، كما أعلن أنه سيقضي عليه أيضاً قضاءً تاماً في آخر الدهور (رؤيا 20: 10). والشيطان من جانبه كان يتعقَّب المسيح منذ ولادته، فكان يهيّج الملوك والرؤساء ضده، المرة بعد المرة ليقتلوه (متى 2: 7-17، 4: 1-11، لوقا 4: 28-30). ولكنه لم يفلح في أية مرة من هذه المرات، لأن ساعة انتقال المسيح من هذا العالم، لم تكن قد جاءت حينذاك.

لكن عندما جاءت هذه الساعة، سمح المسيح للشيطان أن يثير الأشرار كعادته، ليفعلوا بالمسيح ما كانوا قد أرادوا أن يفعلوه من قبل. فأخذوه وصلبوه (وطبعاً ما كان لهم أن يصلبوه رغماً عنه، فحياته كانت ملكاً له، وكان له السلطان المطلق في تسليمها وعدم تسليمها). وقد انتهز المسيح هذه الفرصة، كما انتهز غيرها من قبل، وأظهر كماله المطلق ومحبته التي لا نهاية لها للبشر، على الرغم من شرورهم وآثامهم. ولذلك فإن الشيطان حتى في نجاحه في تسليم المسيح للموت، قد فشل فشلاً تاماً في أغراضه، لأنه بقبول المسيح للصلب، قد قضى على الخطيئة قضاءً تاماً، واجتذب إليه البشر بقوة لا مثيل لها، وحرر المؤمنين منهم من الخطيئة تحريراً أبدياً - وبهذه المناسبة نرجو ألا يغيب عن ذهن القارئ أن الشيطان لم يكن ليقوى على إثارة الناس ضد المسيح لو لم تكن لديهم رغبة من قبل في قتله، لأن الشيطان لا يدفع إنساناً إلى عمل الشر، إلا إذا كان هذا الإنسان راغباً في عمله من قبل.

يقول تكوين 3: 15 إنه سيولد من امرأة شخص يسحق رأس الحية (أو الشيطان)، أو بتعبير آخر يقضي عليه وعلى سلطانه قضاءً تاماً. وبما أنه ليس هناك واحد من البشر يستطيع القيام بهذه المهمة، لأن الشيطان قد غلبهم جميعاً، إذ أسقطهم بمكره وخداعه في الخطيئة، وبما أنه ليس هناك أيضاً واحد من الملائكة يستطيع القيام بالمهمة المذكورة، لأن الملائكة خلائق محدودة، والخلائق المحدودة ناقصة وضعيفة ومعرّضة للسقوط في الخطيئة، إذن لا شك في أن الشخص الذي قيل عنه إنه سيولد من المرأة ويسحق رأس الشيطان، هو كائن لا حدّ لقدرته، وفي الوقت نفسه لا يخطئ على الإطلاق. وبما أن القادر على كل شيء، والمعصوم من الخطيئة، هو الله وحده، إذن فهذا الشخص هو الله. وبما أنه سيولد من المرأة، إذن فهو سيأخذ طبيعة إنسانية منها، أو بالحري يتجسد منها. وقد أشار الرسول في العهد الجديد إلى هذه الحقيقة، فقال: وإذ تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو (أي المسيح) كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت (أي موته على الصليب) ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت، كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (عبرانيين 2: 14). وقال أيضاً: لكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس (الذي يقضي عليهم بالموت بسبب خطاياهم)، لننال التبني (غلاطية 4: 5) وما يتبعه من الحرية الروحية والحياة الأبدية.

فإذا تقدّمنا في مطالعة التوراة، وجدنا أن أنبياء كثيرين تنبأوا قبل الميلاد بمدة تتراوح بين 1000 سنة و750 سنة، عن تجسّد الله وقيامه بالتكفير عن الناس، بينما أقدم شخص، يقول الوثنيون إن إلهاً حلّ (أو تقمّص) فيه، وهو كرشنا، يرجع تاريخه إلى سنة 500 ق. م فقط. فحقيقة تجسد الله في المسيح. لم تظهر بظهور رسله فحسب، حتى كان يجوز القول إنها اقتُبست من الوثنية، التي كانت في العالم قبل ظهورهم، بل إن أنبياء الله في العهد القديم أيضاً، كانوا قد تنبأوا عنها بآيات واضحة من قبل ظهور أية فكرة عن حلول آلهة الوثنيين في أشخاص أو أشياء بمدة تتراوح بين 500 و250 سنة تقريباً. ولذلك ليس هناك مجال للظن، بأن الرسل قد اقتبسوا موضوع تجسّد الله من الوثنية، كما يقول المعترضون.

7 - يعتقد الوثنيون أن كرشنا وبوذا ولاؤتسزي وزاردشت قد وُلدوا من عذارى، كما يقول المسيحيون عن المسيح، الأمر الذي يدل على أنهم اقتبسوا فكرة الولادة العذراوية من الوثنيين .

الرد: (أ) ان حقيقة ولادة المسيح من عذراء، مثل حقيقة تجسّده، لم تظهر بظهور رسل المسيح فقط، حتى كان يجوز القول إنها اقتُبست من الوثنية التي كانت في العالم قبل ظهورها، بل أن أنبياء الله في العهد القديم تنبأوا عنها، بجانب تنبئهم عن تجسده، بآيات واضحة كل الوضوح، وذلك قبل ظهور أي اعتقاد بولادة آلهة الوثنيين من عذارى ب- 250 سنة تقريباً، فقد قال إشعياء النبي: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (أي الله معنا) (إشعياء 7: 14). ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن رسل المسيح قد اقتبسوا من الوثنية موضوع ولادة المسيح العذراوية، كما يقول المعترضون.

وما يزيدنا يقيناً بذلك، ان براهما وسيفا المعتبرين من أشهر الآلهة عند الهنود، قيل عن براهما إنه وُلد من براعمان الروح الأعظم، في زهرة اللوتس، كما تقول رواية، أو في البيضة الذهبية، كما تقول رواية أخرى. وقيل عن سيفا إنه وُلد من اقتران براهمان بالفجر. وان ست وتفنيس وايزيس واوزيريس آلهة المصريين، قيل إنهم وُلدوا من اقتران السماء بالأرض. وهكذا الحال مع باقي الآلهة، فقد قيل إنهم وُلدوا من اقتران بعض الكائنات بالبعض الآخر، الأمر الذي يدل على أن الولادة العذراوية المعروفة لدينا في حالة المسيح، لم تكن معلومة عند الوثنيين على الاطلاق. ومع كل، فماذا يضيرنا لو كان نفر من الوثنيين يعتقد أن بعض آلهته وُلدت من عذارى، ونحن نعلم من كتب الأديان أن العذارى عند الوثنيين، هن الكائنات اللاتي لم يتزوجن، ووقفن أنفسهن على خدمة الآلهة والآلهات، وكنَّ يسلمن عرضهن للكهنة وغير الكهنة ابتغاء مرضاة هذه الآلهة والآلهات، الأمر الذي لا يُعقل معه مطلقاً أن تكون ولادة المسيح العذراوية الطاهرة قد اقُتبست من اعتقادات الوثنيين. فضلاً عن ذلك فقد شهد أعداء المسيحية أنفسهم، مثل هرنك أستاذ اللاهوت التاريخي بجامعة برلين، ولوازي أستاذ نقد المسيحية في جامعة كولج دي فرانس، ان ولادة المسيح من عذراء أصلية في الكتاب المقدس، وأنها ليست منقولة من أي دين من الأديان. )اث هقلهى *هقفا ب اقهسف ؛ز14( وماذا يضيرنا لو كان هذا النفر من الوثنيين يعتقد بهذا الاعتقاد، ونحن نعلم أن موضوع ولادة المسيح من عذراء لم يرد في الإنجيل فحسب، بل إن التوراة أيضاً أشارت إليه سنة 750 ق. م أي قبل اعتقاد هذا النفر من الناس بالولادة العذراوية المزعومة ب- 250 سنة كما ذكرنا أعلاه. فضلاً عن ذلك فإن القرآن نصّ على أن المسيح وُلد من عذراء.

(ب) فضلاً عن ذلك فإن القول بأن الوثنيين كانوا يعتقدون أن الأشخاص المذكورة أسماؤهم في الاعتراض، قد وُلدوا من عذارى، هو قول ملفَّق، أُريد به فقط اتهام المسيحيين الأوائل باقتباس عقائدهم من الوثنية. لأنه بالرجوع إلى الكتب التي قام أشهر الأساتذة بكتابتها عن الأساطير الوثنية، يتضح لنا أن كرشنا (أو الإله المظلم) كان الابن الثامن لأبيه فاسوديقا من زوجته الثانية ديفاكي . وأن بوذا وُلد من أب اسمه هوداثا ، وكان ملكاً وزعيماً لإحدى القبائل المشهورة، وان اسمه الحقيقي سيداثا ، واسم عائلته جوتاما . أما بوذا (أو بتعبير أدق البوذا)، فلقب من الألقاب التي كانت تُطلق عليه، ومعناها المستنير. ولاؤتسزي وُلد من أب كان حاكماً من حكام الصين المشهورين، واسمه الحقيقي بي بانج . أما لاؤتسزي فلقب من الألقاب التي كانت تطلق عليه، ومعناها الأستاذ القديم . وزرداشت كان أبوه من أذربيجان وأمه من الري، واسمها دغد .

8 - إن الرسل هم الذين أشاعوا أن المسيح وُلد من عذراء، ليؤمن الناس أنه هو الله .

الرد: فضلاً عن أن حقيقة ولادة المسيح العذراوية، هي من صميم نبوات التوراة التي كُتبت قبل ظهور المسيحية بمئات السنين، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الاعتراض، كما ذكرنا فيما سلف، فإننا إذا رجعنا إلى أقوال الرسل، وجدنا أنهم لم ينادوا للناس أن المسيح وُلد من عذراء، ليؤمنوا أنه هو الله، بل كانوا يقصرون شهادتهم عنه على تقديمه لنفسه كفارة عن الناس، وقدرته على إحياء نفوس الذين يأتون إليه منهم، ليمكنهم الارتقاء فوق أهواء الجسد وشهواته، والتوافق مع الله في صفاته وأفكاره. وقد أشار الأستاذ العقاد أيضاً إلى بطلان هذا الاعتراض، أو بالحرى إلى صحة ردنا عليه، فقال: ليس في الأناجيل أن معجزة الميلاد قد حملت أحداً على الإيمان برسالة المسيحية، بعد قيام المسيح بالدعوة (عبقرية المسيح ص 196) - وبهذه المناسبة نقول إن حقيقة ولادة المسيح من عذراء تفوق العقل والادراك، ولذلك ليس من المعقول أن يكون التلاميذ قد نادوا بها إلا بعد تأكدهم التام من صدقها، إما بواسطة إعلان واضح من الله، أو بواسطة حديث شخصي مع العذراء أو خطيبها، أو بهاتين الواسطتين معاً، ورجوعهم بعد ذلك إلى النبوات التي قيلت في التوراة عن هذا الموضوع - هذه النبوات التي كانوا يقرأونها من قبل، ولا يفهمون لها معنى.

9 - ان اسم اقهسف( كرايست)، المعروف في اللغة العربية باسم (المسيح) هو بعينه اسم (كرشنا) الإله الهندي، مع تحريف بسيط في اللفظ، وهذا دليل على أن المسيحية قد اقتُبست من ديانة الهنود الوثنية .

الرد (أ) إن وجود أي تشابه في النطق بين كلمة وأخرى، لا يدل في كل حالة على أن إحداهما مشتقة من الأخرى. فمثلاً إذا وضعنا حرف ل أو د بدلاً من حرف س في كلمة المسيح ، أصبحت المليح أو المديح . ومع أن الفرق في النطق بين كلمة المسيح وهاتين الكلمتين، أبسط من الفرق بين كلمتي كرايست وكرشنا ، فليس هناك شخص عاقل يستطيع القول إن كلمة المسيح مشتقة من الكلمتين المذكورتين، ولذلك فان هذا الاعتراض مرفوض شكلاً.

وهو مرفوض أيضاً موضوعاً، لأن كلمة كرايست في الانكليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات الأوروبية، مشتقّة من كلمة ء؛ٍِ ِ كرستوس اليونانية، وهذه الكلمة معناها الممسوح . ومنها اشتُقّت كلمة مسيح بنفس معنى ممسوح . كما تقول كحيل بمعنى مكحول ، وقتيل بمعنى مقتول . ومسيح أو ممسوح هو لقب من الألقاب الأصلية في الكتاب المقدس، فقد كان يُطلق منذ القديم على الأشخاص الذين يعينهم الله لتنفيذ أي قصد من مقاصده. واذا رجعنا إلى التوراة وجدنا أن السيد المسيح كان قد دُعي بهذا الاسم قبل ظهوره في العالم ب 1000 سنة تقريباً (أي قبل ظهور كرشنا ب 500 سنة)، ولذلك لا يُعقل مطلقاً أن يكون اسمه قد اشتُقّ من اسم كرشنا بأي حال من الأحوال، لا سيما وأن كلمة كرشنا ليس معناها الممسوح أو المعيَّن، بل معناها الإله المظلم . بينما معنى اسمالمسيح أنه ممسوح بدهن المسحة المقدس الذي كان مخصصاً لمسح الملوك والكهنة والأنبياء عند تنصيبهم في وظائفهم بصفة رسمية (2صموئيل 5: 3). ويراد بكلمة مسيح من الناحية المعنوية، الشخص المقام من الله لتنفيذ قصد من مقاصده، حتى لو لم يكن ممسوحاً بهذا الدهن (إشعياء 45: 1)، وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذه الحقيقة في كتابه عبقرية المسيح ص 11. ولذلك يُدعى المسيح أيضاً في الانكليزية أي الممسوح ، أما كلمة يسوع فمعناها يهوه يخلص - وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذه الحقيقة أيضاً في كتابه عبقرية المسيح ص 202 - وقد دُعي المسيح بهذا الاسم لأنه هو المخلص من الخطيئة ونتائجها (أعمال 4: 12). ومن البديهي ان يكون هو وحده الذي يستطيع القيام بهذه المهمة، لأن كل البشر بسبب وجود الطبيعة الخاطئة فيهم لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم او غيرهم منها. وقد دُعي له المجد بهذا الاسم قبل ولادته بواسطة الملاك الذي بشّر العذراء (متى 1: 21) الامر الذي يدل على أن هذا الاسم هو اسم على مسمى، وليس مجرد اسم من الأسماء.

(ب) واذا أضفنا إلى ذلك ان كرشنا هذا كان معتبراً عند الهنود إله الشهوة ، لأن حياته كانت حلقات متواصلة من الدنس والفساد، كما ذكرنا فيما سلف، وأن حياة المسيح كانت على العكس، النموذج الفريد للطهارة والقداسة، لا يبقى هناك مجال للظن بأن المسيح الطاهر، أو شيئاً من التعاليم التي نادى بها، قد اقتُبس من ديانة الهنود (أو غيرها من الأديان) كما يقول المعترضون.

10 - إن اسم مريم أم المسيح، يشبه من جهة النطق أسماء أمهات بعض آلهة الوثنيين، فقد قيل إن أم أدونيس كانت تسمَّى ميرة، وأم هرمز كانت تسمّى مايا، وهذا دليل على أن المسيحية مشتقَّة من الديانات الوثنية .

الرد: اتضح لنا فيما سلف، أن وجود أي تشابه في النطق بين كلمتين، ليس في كل الأحوال دليلاً على أن إحداهما مشتقة من الأخرى، ولذلك فإن هذا الاعتراض مرفوض أيضاً شكلاً. وهو مرفوض كذلك موضوعاً، لأن اسم مريم هو من الأسماء الأصلية في الكتاب المقدس، فأخت هرون وموسى التي عاشت قبل الميلاد بأكثر من 1500 سنة تقريباً، كانت تُسمّى مريم (خروج 2: 4-10). وكلمة مريم ، كما تنطق بالعبرية، هي إحدى الكلمات الأصلية في هذه اللغة، ومعناها مرارة أو مرارة البحر . وقد سُميّت بهذا الإسم أيضاً كثيرات من النساء اللواتي عاصرن العذراء مريم، فمثلاً كانت هناك مريم إمرأة كلوبا (يوحنا 19: 25)، ومريم أم يعقوب (متى 27: 56)، ومريم أخت لعازر (لوقا 10: 41)، ومريم أم يوحنا مرقس (أعمال 12: 12)، ومريم المجدلية (لوقا 8: 2). وهذا دليل على أن استعمال هذا الاسم كان شائعاً بين اليهود، وليس مقتبساً من الوثنية، كما يقول المعترضون.

11 - العقائد التي وردت في الإنجيل لها ما يماثلها في الديانات الوثنية، فاليونان كانوا يقولون إن فيثاغورس هو ابن الإله أبوبون، وإنه لم يمت بل سيُبعث بعد حين، وكان قدماء المصريين يقولون إن حورس هو ابن الإله أوزيريس، وكان القبائل الحمر في أمريكا يعتقدون أن المخلّص الذي سيأتي إلى العالم، سيلقي بَرَداً على اللهيب ويتكفل برعاية جميع الناس، وكان البابليون يعتقدون أن مردوخ سيعود بعد موته لقمع الفتنة التي حدثت في بلادهم .

الرد: (أ) إن إسناد الوثنيين أبناءً إلى آلهتهم يرجع إلى اعتقادهم أنها كانت تقترن بالنساء، ولذلك لا يعقل مطلقاً أن تكون المسيحية قد اقتبست الاعتقاد ببنوة المسيح لله من الأديان الوثنية، لأن بنوته له تختلف كل الاختلاف في معناها عن جميع اصطلاحات البنوة المعروفة لدى البشر (كما اتضح في الباب الثالث، من كتاب: الله ذاته ونوع وحدانيته). فإذا أضفنا إلى ذلك، أن المسيح كان يُدعى ابن الله في التوراة قبل ظهور المسيحية بمئات السنين، لا يبقى مجال لهذا الاعتراض على الإطلاق.

(ب) إن الاعتقاد بمجيء مخلّص إلى العالم في آخر الزمان ليبارك جميع الساكنين فيه وينشر السلام بينهم ليس من اعتقادات القبائل الحمر وحدهم، بل كان ولا يزال من صميم اعتقادات البشر في كل العصور والأجيال. وقد أدرك كثير من رجال الفلسفة هذه الظاهرة، فقال بعضهم عنها إنها إرهاصات (وهي مواهب باطنية، يعرف بها الحاصلون عليها ما سيأتي به المستقبل من أخبار وأحداث). وقال البعض الآخر عنها إنها أحاسيس باطنية تملك على مشاعر البشرية، بسبب ما تشعر به من المتاعب والآلام.

ولكن مع تقديري لآراء هؤلاء الفلاسفة، فإني أرى أن السبب في الاعتقاد العام بمجيء مُخلِّص إلى العالم، يرجع إلى أن آدم وحواء، اللذين تسلسل منهما البشر جميعاً، كانا بناءً على وعد الله المباشر لهما (الذي ذكرناه في خاتمة الرد على الاعتراض السادس) يتوقعان بشوق حار مجيء شخص يخلّصهما من الخطيئة التي سقطا فيها، ومن البؤس الذي حلَّ بهما من جرائها. فورث البشر عنهما هذا الشوق، بحكم ولادتهم منهما، وظل كامناً في عقولهم الباطنة. ولما كان كل شوق في العقل الباطن لا بد وأن يعبِّر عن فحواه بوسيلة ما، كان من البديهي أن يعبّر الشوق المذكور أيضاً عن نفسه، تارة بأحلام وأخرى بآمال وأمانٍ، من جهة هذا المخلّص.

أما المسيحية، كما تبيّن لنا فيما سلف، وكما سيتبيّن بأكثر تفصيل فيما يلي، فلم تقتبس الاعتقاد بأن المسيح هو مخلّص العالم من الأديان الوثنية، أو من آمال البشرية وأمانيها، بل جاء هذا الاعتقاد إليها بظهور السيد المسيح في العالم، وشهادته عن نفسه أنه المخلص من سلطة الخطيئة وعقوبتها، وإثباته هذه الحقيقة عملياً بحياته وموته وقيامته، ثم اختبار الرسل للحقيقة المذكورة في حياتهم الروحية، وتحريضهم للناس على اختبارها والتمتّع بها. وكانت التوراة قد تنبأت بكل ذلك قبل ظهور المسيح بمئات السنين، ولذلك ليس هناك مجال للشك في أن الاعتقاد، بأن المسيح هو مخلّص العالم، أصلي في الكتاب المقدس، وليس مقتبساً من دين ما.

(ج) إن الاعتقاد بأن فيثاغورس سيُبعث بعد حين، وأن مردوخ سيعود بعد موته، مؤسس إما على الاعتقاد بتناسخ الأرواح أو تقمّصها، الذي كان منتشراً بين الوثنيين، أو على الاعتقاد بالرجعة الذي نبت عند بعض الفرق اليهودية، وانتشر منها إلى بعض الشعوب الأخرى. وإذا أضفنا إلى ذلك أن قيامة المسيح من بين الأموات تختلف كل الاختلاف عن عقيدة اليونان والبابليين وغيرهم في بعث آلهتهم أو أئمتهم في زمن ما (لأن المسيح قام بنفس جسده الذي مات، ورآه بعد قيامته كثيرون رؤية العيان)، اتضح لنا أنه ليس من المعقول أن يكون الرسل قد اقتبسوا موضوع قيامة المسيح من العقائد الوثنية، كما يقول المعترضون.

12 - معجزة تحويل الماء إلى خمر، المسندة إلى المسيح، قيل إن ديونيس إله الخمر قام بمثلها، وإن الركوب على أتان المسند إلى المسيح، قيل ان إله الشمس كان يقوم بمثله، لأن الحمل والحمار كانا من الحيوانات المقدّسة لديه، وهذا دليل على أن المسيح لم يكن شخصاً حقيقياً، بل أن سيرته مقتبسة من الأساطير الوثنية .

الرد: (أ) لا يخفى عن القارئ أن السبب في ادّعاء اليونان أن ديونيس حوَّل الماء إلى خمر، يرجع إلى رغبتهم في تشجيع الناس على شرائه وشربه، لأنهم كانوا يميلون إلى السكر والخلاعة، ولأنهم كانوا يملكون كروماً كثيرة يريدون بيع نتاجها. ولكن المسيحية تحرِّم الخمر، فقد قال الكتاب المقدس: لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة (أفسس 5: 18). كما قال لكل مؤمن: لا تكن بين شرّيبي الخمر، بين المتلفين أجسادهم.. لا تنظر إلى الخمر اذا احمرَّت، حين تظهر حِبابها في الكأس وساغت مرقرقة. في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان (أمثال 23: 20، 31، 32).

أما الحالة الوحيدة التي صرّح فيها الكتاب المقدس بشرب الخمر فهي حالة المرض، فقد قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: لا تكن فيما بعد شرَّاب ماء، بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة (1تيموثاوس 5: 23). ولا مجال للاعتراض على هذا التصريح، لا من الناحية الطبية أو الدينية، لأن الكحول الموجود في الخمر نافع لبعض أمراض المعدة إذا أُخذ بكمية قليلة، كما قال الرسول، ولأن الخمر من حيث هي مادة، ليس فيها شر، لكن الشر هو في سوء استعمالها - مثلها في ذلك مثل الأفيون، فإنه يُستعمل علاجاً في بعض الأمراض، ولكن إذا استعمل ك- مكيف كان شراً وإثماً.

والكلمة المترجمة الخمر يقابلها في اللغة العبرية عشر كلمات تدل على عشرة أنواع من الخمر، وأهمها ياين وتشمار ومثيخار . والأول يُراد به عصير العنب الطازج، والثاني يراد به عصير العنب المركّز، والثالث يراد به عصير العنب المخمّر. والصنف الأخير هو المُسكر، أما الصنفان الأولان فلا يُسكران إخعىلطس خىؤخقيشىؤث ؛ز 1053 ، وكانا يُستعملان عند الفلسطينيين كما يُستعمل القصب والعسل عند غيرهم. ويمكن أن نستنتج من أقوال العرب أيضاً أن كلمة الخمر تُطلق على سائل العنب الطازج وعلى المسكر معاً، وأن كلمة العنب عندهم هي نفس الكلمة التي تُطلق على الخمر عند غيرهم، فقد جاء في (مختار الصحاح ص310) السلاف ما سال من عصير العنب، قبل أن يُعصر . ثم جاء بعد ذلك ويسمى الخمر سلافاً . وجاء في أحد القواميس الوين، هو العنب الأسود وهذه الكلمة هي بعينها المستعملة في اللغات الأجنبية للدلالة على الخمر، فهي في الإنكليزية مثلاً ٍهىث . فلا يغيب عنا أنه إذا وردت في الكتاب المقدس آية تدل على فائدة شرب الخمر، كان الغرض من الخمر فيها هو نتاج الكرمة النافع للجسم، واذا وردت آية عن ضرر شرب الخمر، كان الغرض من الخمر فيها هو النوع المسكر.

وليعرف القارئ السبب الذي دعا المسيح إلى تحويل بعض الماء إلى خمر حتى تتضح له مغالطة المعترضين وتشويههم للحقائق، نقول: إن المسيح كان قد دُعي إلى عرس، ولما فرغت الخمر التي كانت فيه، قالت له أمه: ليس لهم خمر . فقام بتحويل بعض الماء إلى خمر (يوحنا 2: 1-11). ومن البديهي أنه لو كان قد حوَّل الماء إلى شراب آخر، أو حوَّل حجارة الأرض إلى فواكه أو طيور، لما كان عمله هذه يُعتبر وقتئذ معجزة، فالشرط الأساسي في المعجزة، هو أن تكون مناسبة لظروف الحال. وإذا اضفنا إلى ذلك، أن الخمر التي صنعها المسيح، لم تكن من نوع يُسكر، بل كانت من نوع جيد لا يُسكر، أو إن جاز القول، كانت من نوع يوقظ العقل وينبّهه، كما يُستنتج من سياق هذه الحادثة، لا يبقى مجال لهذا الاعتراض على الإطلاق.

فعندما ذاق رئيس المتكأ (وهو ضيف الشرف) الماء المتحوّل خمراً، ولم يكن يعلم من أين هي، قال لصاحب العرس: كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً، ومتى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن . ومن هذا نستنتج أن ضيف الشرف والحاضرين معه كانوا قد دخلوا في دور السكر بسبب الخمر الأولى. ولكن عندما ذاق هذا الضيف الخمر الجديدة التي عملها المسيح، أفاق من سكره، أو على الأقل استيقظ عقله لدرجة أمكنه معها أن يميّز بين نوعين من الخمر.

(ب) أما عن الفقرة الثانية من الاعتراض، فنقول إن المسيح لم تكن لديه حيوانات مقدسة وأخرى نجسة، كما أنه لم يقتن طول حياته أي نوع من أنواع الحيوانات. كل ما في الأمر أنه لما قصد في أواخر خدمته أن يعلن لأورشليم التي رفضته، أنه ملكها الحقيقي الذي تنبأت التوراة عنه، رأى أن يدخلها كملك، لا راجلاً كما اعتاد من قبل، بل راكباً على دابة، كما كان يفعل الملوك. فأخذ أتاناً لأنها تتناسب مع هدوئه ووداعته وحياة البساطة التي كان يحياها. وقد سبق زكريا النبي، (الذي عاش سنة 500 ق.م) ورأى بروح النبوّة مشهد ركوب المسيح على الأتان كملك، فقال بالوحي: ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي اليك. هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان (زكريا 9: 9، 10). ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن رسل المسيح قد اقتبسوا موضوع ركوبه على أتان من أي دين من الأديان.

13 - إن الخبز والخمر اللذين أعطاهما المسيح لتلاميذه، واللذين يتناولهما المسيحيون إلى الآن في العشاء الرباني، كان يتناولهما الوثنيون من قبل في عبادة مثرا وهذا دليل على أن سيرته مقتبسة من الأساطير الوثنية .

الرد: إن استعمال الخبز والخمر معاً لم يكن معروفاً في عبادة مثرا وحدها بل إن معظم أهالي فلسطين وغيرهم من الشعوب كانوا يهتمون بهما كل الاهتمام دون أن تكون لهم أية علاقة بمثرا، إذ أنهم كانوا يستعملونها كطعام رئيسي يتغذُّون به على مدار السنة. فإذا رجعنا إلى التوراة وجدنا أن موسى النبي كان قد وعد بني إسرائيل بأن يبارك قمحهم وخمرهم، إن عملوا بأحكامه (تثنية 7: 13)، وأن داود النبي قال إن الله أعطى الإنسان خمراً تفرِّح قلبه وخبزاً يسنده (مزمور 104: 15)، كما قال إن الغذائين الرئيسيين اللذين كان يعتزّ بهما الناس ويعتمدون عليهما، هما الحنطة والخمر (مزمور 4: 7). وإن سليمان الحكيم قال إن الصالحين يأكلون خبزهم بفرح، ويشربون خمرهم بقلب طيّب (جامعة 9: 7). وإن ملك اشور قال إن بلاده هي بلاد حنطة وخمر وخبز وكروم (اشعياء 36: 17). فلا مجال للظن بأن المسيح اقتبس إعطاء تلاميذه الخبز والخمر، من أتباع مثرا أو غيرهم.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الاقتباس من الأديان الأخرى لا يكون إلا لمجرد التقليد، وأنه لا يكون إلا عند إنشاء دين أو مذهب جديد، وأن السيد المسيح لم يقدِّم لتلاميذه الخبز والخمر اعتباطاً أو تقليداً كما كان يفعل قوم من الأقوام، بل لغاية روحية خاصة لم تكن معروفة عند أحد من قبل (وهي المواظبة على تذكُّر موته على الصليب فدية عنهم، وعن غيرهم من البشر)، وأنه لم يقدمهما لتلاميذه في بدء علاقته معهم أو أثناءها، بل قبل موته مباشرة، هذا الوقت الذي لا يفكِّر أي مشرّع لدين جديد في إتيان عمل من نوعه. فضلاً عن ذلك، فإنه لم يأت بالخبز والخمر من عندياته، بل كانا موجودين أمامه على مائدة الفصح، التي كان يعدُّها كل إسرائيلي تذكاراً لخروجه من أرض الفراعنة، على يدي موسى النبي. فالخبز كانوا يأكلونه على هيئة فطير (خروج 12) أما الخمر فبناء على تقاليد آبائهم. وكانوا يتناولون ثلاثة كؤوس: الأولى قبل تناول خروف الفصح، والثانية أثناء تناوله، والثالثة عند الفراغ من تناوله. وقد أشار لوقا الانجيلي إلى الكأس الأولى (لوقا 22: 17). ويُقال إن السبب في تناولهم الخمر في هذه المناسبة هو الاعتراف به غذاء هاماً أنعم به الله عليهم مثل غيره من الأغذية، ولذلك كانوا يرفعون الشكر إليه من أجله.

من هذا يتضح لنا أنه لا يمكن أن يكون المسيح قد اقتبس موضوع العشاء الرباني من هؤلاء الوثنيين أو من غيرهم.

14 - يُعرف يوم الأحد في الانكليزية ب- )sunday(يوم الشمس)، وتلاميذ المسيح يُقال إن عددهم كان 12 تلميذاً، وهذا هو عدد بروج الشمس أيضاً. ولذلك لا شك في أن المسيحية قد اقتبست من الديانة الشمسية .

الرد: (أ) كان يوم الأحد يسمى بالإنكليزية ) sunday ( قبل دخول المسيحية بلاد الإنكليز، ولذلك فإن تسميته بهذا الاسم ليس دليلاً على أن المسيحية اقتبست من الديانة الشمسية، بل دليل على أن الإنكليز كانوا يعبدون الشمس قبل إيمانهم بالمسيح. ومما يثبت أيضاً عدم قانونية هذا الاعتراض أن العهد الجديد، الذي هو أول إعلان ظهر عن المسيحية، لم يعبّر عن يوم الأحد باسم مقتبس من اسم الشمس أو غيرها من الكواكب، بل عبّر عنه ب- أول الأسبوع (أعمال 20: 7) أو يوم الرب (رؤيا 1: 10). كما أن اللغات القديمة التي انتشر بها الإنجيل في أول الأمر استعملت هذين الاسمين فحسب. فيوم الأحد في اللغة اليونانية هو كرياكي أي يوم الرب ، وفي اللغة اللاتينية هو دي دومينيكا أي يوم الرب ومن هذا الاسم اشتقت كلمة ديمانش الفرنسية، التي تطلق على هذا اليوم عينه. وفي اللغة القبطية هو بي أو أي أي اليوم الأول أو بتعبير آخر يوم الأحد كما هو معروف في اللغة العربية.

(ب) أما العدد (12) فهو من الأعداد الرمزية المستعملة بكثرة، لا في الإنجيل فقط بل وفي التوراة أيضاً، التي كُتبت قبله بمئات السنين. فمكتوب أن أبواب السماء هي 12 باباً (رؤيا 21: 12) وأن أساستها هي 12 أساساً (رؤيا 21: 14)، وأن عدد القديسين الذين سيحيطون بعرش الله هو 24 (12 + 12) قديساً يمثلون قديسي العهدين القديم والجديد معاً (رؤيا 5: 8)، كما أن أسباط بني إسرائيل كانوا 12 سبطاً، وأن أبناء إسماعيل كانوا 12 ابناً، وأن عدد الأحجار التي بنى بها إيليا النبي مذبحه كانت 12 حجراً، وأن الأحجار التي وضعها يشوع بن نون في كل من النهر وعلى البرّ كانت 12 حجراً (يعقوب 1: 1، وتكوين 25: 16، و1ملوك 18: 31، ويشوع 4: 3-24)، ولذلك فمن التجنّى على الحقيقة أن يُقال إن المسيحية قد اشتُقَّت من الديانات الوثنية، لأن رسل المسيح كانوا 12 رسولاً، أو لأي سبب من الأسباب الشكلية الأخرى.

15 - يُقال إنه عند ما وُلد بوذا، ظهر نجم من السماء، وأتى لزيارته أحد الحكماء، وإنه لما كبر جُرِّب بواسطة الشيطان، وإنه اختار بعد ذلك اثني عشر تلميذاً، وإنه كان يعلمهم تحت شجرة تين، وإنه استعمل كلمة حبة الخردل في أقواله، وإنه بفضله كان العمي يبصرون والعرج يمشون، كما قيل عن المسيح تماماً، وهذا دليل على أن سيرة المسيح مقتبسة من تاريخ حياة بوذا .

الرد: لقد درست كثيراً من الكتب المطوّلة عن البوذية لكبار الأساتذة والعلماء، فلم أعثر في أحدها على خبر من هذه الأخبار، إذ أنه لم يذكرها إلا كتاب صغير يحتوي على مقالات مقتضبة متفرقة لأشخاص مختلفين، وأسلوب هذا الكتاب ليس أسلوب العلماء الذين يرسلون أقوالهم بصراحة ويقين، بل أسلوب المحتالين الذين بدهاء ومكر يدسّون السم في العسل. ومع كلٍ فلنواجه اعتراضاتهم ونردّ عليها.

(أ) القول بظهور نجم عند مولد بوذا غير صحيح، ولكن المشاع عند معظم الوثنيين هو أن لكل إنسان نجمه، وأنه كلما كان الإنسان عظيماً كان نجمه واضحاً (أو عالياً، كما تقول العامة بيننا). وإذا كان الأمر كذلك، وكان النجم الذي ظهر يوم مولد المسيح، لم يظهر لليهود، بل لنفر في بلاد المشرق الوثنية، يكون الله قد سمح وكلَّم المُخْلصين في هذه البلاد بلغتهم، ليهديهم إلى الحق، الذي مع شوقهم إليه كانوا يجهلون السبيل إلى معرفته. وتصرُّف مثل هذا يتوافق مع كماله كل التوافق.

(ب) كان بوذا ابن ملك، ولذلك كان من المنتظر أن يزوره لا واحد فقط من الحكماء والعظماء، بل أن يزوره عدد كبير من أولئك وهؤلاء. ولكن هل يصح أن تُتخذ هذه الزيارة دليلاً على أن المسيحية مقتبسة من البوذية، لأنها ذكرت أن سمعان الشيخ الذي كان واحداً من أتقياء اليهود، رأى المسيح عندما كان في دور الطفولة؟!

(ج) كل شخص في الوجود عندما يقبل على عمل خطير، يجد نفسه بين عاملين: عامل الإقدام وعامل التقهقر، والعامل الأخير هو القصور الذاتي أو الضعف البشري. وبوذا لما وجد أن حياة الزهد والتقشف لا تُجدي، وجد نفسه بين عاملين، عامل الإقدام يدعوه إلى مواصلة سعيه وراء الحقيقة التي كان ينشدها، وعامل التقهقر يدعوه إلى العودة إلى عائلته وبيته. وقد شاء المحتالون أن يسمُّوا هذا الموقف من حياة بوذا بالتجربة، ويسمُّوا عامل التقهقر بالشيطان، ليجعلوا حياة المسيح (حسب وجهة نظرهم) مشابهة لحياة بوذا من بعض الوجوه. ولكن المسيح، لكماله المطلق، لم يكن للقصور الذاتي أو الضعف البشري مجال في نفسه، والتجربة التي مرَّ بها كانت بعمل الشيطان وحده. فضلاً عن ذلك، فإنه لم يتعرض لها بسبب تردُّد في نفسه، أو رغماً عن إرادته، بل واجهها بكل ثبات، وبمحض إرادته واختياره. كما أن الغرض منها كان يختلف عن الغرض من أي تجربة من التجارب، إذ كان ينحصر في إعلان كماله المطلق، على الرغم من اتخاذه جسداً ووجوده في عالم الخطيئة والشر مثلنا، وذلك ليتأكد جميع الناس أنه هو وحده الذي يستطيع أن يفديهم ويكفّر عنهم. فهل بعد كل ذلك تكون تجربة المسيح دليلاً على أن المسيحية مقتبسة من البوذية؟!

(د) تنص كل الأساطير على أن تلاميذ بوذا كانوا خمسة، ولم يقل إنهم كانوا اثني عشر تلميذاً إلا شخص غير مشهور يُدعى جاوارد . ولو فرضنا جدلاً أنهم كانوا اثني عشر تلميذاً، كما يقول هذا المدَّعي، فهل يصح أن يكون قوله دليلاً على أن المسيحية مقتبسة من الوثنية. والعدد 12 هو من الأعداد التي لها دلالتها الرمزية في الكتاب المقدس، والتي تستعمل بكثرة فيه، ليس في العهد الجديد فقط، بل وفي العهد القديم أيضاً، الذي كُتب قبل ظهور بوذا بمئات السنين؟!

(ه-) لم يكن المسيح يعلّم تلاميذه تحت شجرة تين، أو يلتقي بهم تحت مثل هذه الشجرة، كما يقول هؤلاء المحتالون، بل كان كما ذكر الكتاب المقدس، يمر في طريقه بشجرة تين. ومرة رأى شخصاً يُدعى نثنائيل (الذي صار فيما بعد أحد أتباعه) واقفاً تحت شجرة تين. لكن هل يصح أن يُتَّخذ هذا دليلاً على أن المسيحية مقتبسة من الوثنية؟ طبعاً كلا! لأنه لو كان شجر التين ليس له وجود في بلاد فلسطين، وذكر الكتاب المقدس أن المسيح مرّ بشجرة تين أو جلس تحتها، لكان من الجائز للمعترض أن يتخذ هذا القول ذريعة للاعتراض. أمَّا وشجر التين موجود بكثرة في بلاد فلسطين، وينمو بكثرة على جوانب الطرق فيها، ويجلس كثير من الناس تحته في فصل الصيف إتقاءً القيظ، فضلاً عن ذلك فإن الكتاب لم يذكر مطلقاً أن المسيح كان يعلّم تلاميذه تحت شجرة تين، أو يلتقي بهم هناك، بل ذكر أنه كان يعلمهم ويلتقي بهم عند شاطىء البحر، وعلى الجبل، وفي الحقول، وفي البيوت، وفي المحال العامة، فقد انتفى مجال الاعتراض أمام المعترضين.

(و) إن الاعتراض بأن بوذا استعمل في أقواله كلمة حبة الخردل كما فعل المسيح، دليل على أن المعترض لم يعثر في المسيحية على شيء يمكن أن يتخذه برهاناً على أنها مقتبسة من الوثنية. لأنه لو كان الخردل غير موجود في بلاد فلسطين، أو كانت العبارة التي استعمل فيها المسيح كلمة حبة الخردل هي نفس العبارة التي قالها بوذا أو شبيهة بها، لكان من الجائز للمعترض أن يتخذ ذلك سبباً للاعتراض. أما ونبات الخردل ينمو بكثرة في فصل الصيف في بلاد فلسطين، ومنه تُصنع المستردا وبعض الأدوية التي تُستخدم في علاج الروماتزم، وأن العبارة التي استعمل فيها المسيح كلمة حبة الخردل تختلف كل الاختلاف عن العبارة التي قالها بوذا، فلا مجال أيضاً لهذا الاعتراض على الإطلاق.

إن العبارة التي وردت فيها كلمة حبة الخردل من أقوال بوذا هي: ذات يوم أتت إلى بوذا امرأة ثكلى تلتمس منه العزاء والمواساة، فقال لها إنه يستطيع أن يعزيها ويواسيها إذا استطاعت أن تأتي له بشيء في حجم حبة الخردل، من بيت لم يدخله الموت . أما العبارات التي وردت فيها كلمة حبة خردل من أقوال المسيح فهي: يشبه ملكوت السموات حبة خردل، أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور. ولكن متى نمَتْ فهي أكبر البقول (متى 13: 31)، ولو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل (متى 17: 20).

(ز) أمَّا قول المعترض إنه بفضل بوذا أخذ العمي يبصرون والعرج يمشون فليس له أساس في الأساطير البوذية. لكن لنفرض جدلاً أن له أساساً في هذه الأساطير، فهل الحقيقة الواقعة تدل على صحة إسناد هذا القول إلى بوذا؟ ألم يكن بوذا إنساناً عادياً، كما شهد هو عن نفسه، وشهد معاصروه عنه؟ وهل هناك حقاً عمي أبصروا بفضله، وعرج استطاعوا أن يمشوا؟ وإذا كان الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، ألا يكون الصواب هو أن هذه العبارة مجازية، قُصد بها أنه بفضل جهود بوذا، استطاع بعض الأشرار أن يسيروا في طريق الحق والاستقامة المصطلح عليه عند الناس وقتئذ؟ أما المسيح فمن الثابت لدى الجميع أنه شهد عن نفسه أنه الله، وأنه أثبت حقيقة لاهوته بحياته الكاملة ومعجزاته الفائقة، وبفضله حقاً كان العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبُرص يطهَّرون، والموتى يقومون، كما أنه بفضله حقاً أصبح الخطاة أبراراً والأشرار أطهاراً، بدرجة تفوق المقاييس جميعاً.

16 - كان يوم 25 ديسمبر (كانون الأول)، الذي يحتفل فيه المسيحيون في بلاد الغرب بميلاد المسيح، يوم عيد الشمس في العبادة المثرية، لأن هذا العيد كان يقع في 24 و 25 من كانون الأول (ديسمبر). وأن يوم 7 يناير، الذي يحتفل فيه المسيحيون في بلاد الشرق بميلاده، كان يوم عيد ديونيس إله اليونان، لأن هذا كان يقع في 6 و 7 من كانون الثاني (يناير). وأن عيد القيامة الذي يحتفل المسيحيون به في شهر إبريل (نيسان)، هو عيد الربيع الذي كان يحتفل فيه الوثنيون بقيامة تاموز وغيره من آلهتهم .

الرد: اليوم الذي يحتفل فيه معظم المسيحيين بميلاد المسيح في الوقت الحاضر، لم يرد ذكره في آية من آيات الكتاب المقدس، بل ولم يكن معروفاً على الإطلاق عند المسيحيين الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الاعتراض. وفي أوائل القرن الثالث، أخذ بعض أساقفة المسيحيين في إقامة أعياد دينية، لتكون تذكاراً للحوادث الهامة في تاريخ السيد المسيح. وعند قيامهم بهذا العمل اختلفوا على تحديد يوم عيد ميلاده، لأن اليوم الذي وُلد فيه لم يكن معروفاً وقتئذ لديهم، أو لدى غيرهم. وأخيراً استقر رأيهم على أن يجعلوا هذا اليوم في يوم من أيام الأعياد الوثنية، ليمنعوا ضعفاء الإيمان من التأثُّر بهذه الأعياد وما كان يجري فيها من ضروب الخلاعة والعهارة، فصادف هذا الرأي قبولاً عند معظم المسيحيين وقتئذ، فأخذ في الانتشار بينهم. فهؤلاء الأساقفة لم يقتبسوا الأعياد المسيحية من الوثنية كما يقول المعترضون، بل أقاموا في الأعياد الوثنية أعياداً مسيحية ليصونوا المسيحيين ضعيفي الإيمان من الاختلاط بالوثنيين والتأثر بعاداتهم التي لا تتفق مع مبادىء المسيحية وتعليمها.

أما عيد القيامة فلم يُقتبس من الديانة الوثنية كما يقول المعترضون، أو يُجعل في عيد من أعيادها كما كانت الحال مع عيد الميلاد، بل إنه كان يُقام منذ تأسيسه في أسبوع عيد الفصح، لأنه من الثابت تاريخياً أن السيد المسيح صُلب وقام من بين الأموات في هذا الأسبوع، كما يتضح من الكتاب المقدس والكتب التاريخية. وعيد الفصح هذا يقع دائماً في شهر نيسان المقابل لشهر ابريل، وكان الله قد أمر بني إسرائيل بالاحتفال به على يد موسى النبي قبل ميلاد المسيح ب 1500 سنة تقريباً (خروج 14: 1-31).

فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدنا العهد القديم يحدّد الأعياد التي كان يجب على الإسرائيليين أن يعّيدوا فيها، بينما لا ينص العهد الجديد على وجود عيد يجب على المسيحيين أن يعيّدوا فيه. والآية الوحيدة التي ورد فيها ذكر عيد للمسيحيين هي: لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا. إذاً لنعيِّدْ ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق (1كورنثوس 5: 7، 8)، ومعنى ذلك أن حياة المسيحيين الحقيقيين يجب أن تكون بأسرها عيداً روحياً، عماده الطهارة والقداسة، والتوافق مع الله في أفكاره وصفاته.

17 - جمع كتبة الإنجيل آمال اليهود والوثنيين ثم ابتدعوا شخصية تتحقق فيها هذه الآمال، أطلقوا عليها اسم المسيح لأنه ليس هناك ما يثبت أن المسيح كان شخصاً حقيقياً، إذ أن الكتب القديمة خالية خلواً تاماً من الإشارة إليه .

الرد: (أ) تختلف عقيدة التجسّد في المسيحية كل الاختلاف عن عقائد التجسّد في الوثنية، ومبادىء المسيحية أسمى بدرجة لا حد لها من نظائرها في الوثنية واليهودية معاً، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الاعتراض بأي وجه من الوجوه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن كتبة الإنجيل كان يختلف بعضهم عن البعض الآخر كل الاختلاف في النشأة والثقافة والبيئة والمهنة، وأنهم منذ ظهورهم كانت تحلّ بهم الاضطهادات وتشتتهم في بقاع الأرض المتباعدة، وأنهم كيهود، كانوا يعتقدون في أول الأمر أن المسيح لا يأتي إلى أهل العالم قاطبة، بل يأتي إليهم وحدهم ليباركهم دون غيرهم من الشعوب، ويؤسس لهم مملكة أرضية أعظم من مملكة سليمان بن داود، اتضح لنا أن ليس من المعقول إطلاقاً أنهم اجتمعوا يوماً، وجمعوا آمال الوثنيين وعقائدهم، ثم أضافوا إليها آيات التوراة الخاصة بمجيء مخلّص يحب كل الناس ويخلِّصهم من خطاياهم، ووفَّقوا بعد ذلك بين هذه وتلك، وابتدعوا شخصية تتوافر فيها آمال اليهود والوثنيين معاً، لأن أسباب الجمع والتوفيق والابتداع لم تكن متوافرة لديهم. بل المعقول هو أن الله الذي يعرف البشر على اختلاف أجناسهم، قد تنازل وحققها لهم في المسيح، ليتمتعوا جميعاً بالحياة الروحية الأبدية التي يتوقون إليها، وأنه اصطفى رسله القديسين لإذاعة هذه الحقيقة بين جميع الناس على اختلاف أجناسهم.

وليس من المعقول إطلاقاً أن يكون كتبة الإنجيل قد استطاعوا من تلقاء أنفسهم أن يستنتجوا من التوراة أن المسيح يموت على الصليب كفارة عن الناس، ويقوم بعد ذلك من الأموات، ثم أخذوا في تأليف حادثتي صلبه وقيامته، لأنهم لم يكونوا يعلمون في أول الأمر أن المسيح نفسه يُصلب ويموت في اليوم الثالث (إذ كانوا يظنون أن الآيات الواردة في التوراة عن الصلب خاصة بغيره). بل المعقول هو أنهم لما شاهدوا حياته وأعماله، وجدوا أنها تنطبق كل الانطباق على ما جاء في التوراة، ولذلك سجّلوها كما شاهدوها، ثم أشاروا إلى ما جاء في التوراة عنها.

ويتفق الاستاذ العقاد معنا على ذلك، فقد قال: كانت الدعوة المسيحية كما روتها الأناجيل، دون أن يتعمّد كتّابها تطبيق أحوال التطور، او تلتفت أذهانهم إلى معنى تلك الأحوال . وقال أيضاً: فكرة الله في المسيحية، لا تشبهها فكرة أخرى في ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية... وإن روح المسيحية في إدراك فكرة الله، هى روح متناسقة تشفّ عن جوهر واحد، لا يشبهه إدراك فكرة الله في عبادة من العبادات الوثنية. فالإيمان بالله على تلك الصفة، فتح جديد لرسالة السيد المسيح، لم يسبقه إليها في اجتماع مقوّماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين، ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا وهناك، بل كانت كلاماً متجانساً من وحي واحد وطبيعة واحدة (عبقرية المسيح ص 126 والله ص 149 و 154).

(ب) كما أن الادّعاء بأن الكتب التاريخية القديمة خالية من الإشارة إلى حقيقة وجود المسيح لا نصيب له من الصواب أيضاً، فقد أشار إلى حقيقة وجوده مؤرخو اليهود واليونان والرومان الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني، كما أثبتت حقيقة وجوده المستندات الرسمية في الحكومة الرومانية. فقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه ص 314 ما ملخصه: عاش في ذلك الوقت إنسان، إن جاز أن يُسمَّى إنساناً، يُدعى يسوع، كان يصنع عجائب كثيرة ويعلّم الذين أرادوا أن يتعلموا الحق . وقال أيضاً: إن بيلاطس حكم على المسيح بالصلب، بناءً على إلحاح رؤساء شعبنا . وقال تاسيتوس الوثني: إن الناس الذين كان يعذبهم نيرون، كانوا يُلقَّبون بالمسيحيين نسبة إلى شخص اسمه المسيح كان بيلاطس البنطي قد حكم عليه بالقتل، في عهد طيباريوس قيصر . وقال لوسيان: إن المسيحيين لا يزالون يعبدون ذلك الرجل العظيم، الذي صُلب في فلسطين . وقال كلسوس: احتمل المسيح آلام الصلب لأجل خير البشرية . وإن كان قد قال هذه العبارة بلغة التهكم لأنه عاش ومات في الوثنية، إلا أنها تدل على أن المسيح كان شخصاً حقيقياً، وأنه قد صُلب فعلاً. وقال بليني الصغير حاكم بيثينيا في رسالة رفعها إلى الإمبراطور تراجان سنة 114م: عاقبتُ أتباع المسيح عقاباً شديداً، فترك ديانته بعضهم ولم يتركها البعض الآخر . كما أن الرسالة التي رفعها بيلاطس البنطي إلى طيباريوس قيصر مبيِّناً فيها الأسباب والظروف التي دعته إلى صلب المسيح، وصورة الحكم الذي أصدره ضده قد اطّلع عليهما كثير من المؤرخين في القرنين الأول والثاني، وأشاروا إليهما في كتبهم التي وصلت إلينا.

فضلاً عن ذلك فإن عدداً كبيراً من رجال الفلسفة المعاصرين لنا، والذين لا يتحيزون للمسيحية إطلاقاً قد شهدوا بحقيقة وجود المسيح، فقال سير ج. فريزر أستاذ علم الدين المقارن في جامعة كامبردج: إن نظرياتي في الأخلاق والاجتماع مؤسسة على أن يسوع المسيح كان شخصاً تاريخياً . وقال ج. موريس أستاذ التاريخ في جامعة نيوكاسل: نعتقد بناءً على ما لدينا من وثائق تاريخية أن يسوع المسيح كان شخصاً حقيقياً . وقال سمسون الأستاذ بكامبردج: ما هو فوق النقد البشري هو فوق كل نقد، لذلك لا يمكن أن يكون قد ابتدع سيرتَه إنسانٌ ما، بل لا بد أنه كان شخصاً حقيقياً . وقال جون ستوارت: القول إن المسيح ليس حقيقة تاريخية لا نصيب له من الصواب . وقال كلوزمر الَحبر اليهودي المشهور في كتابه (يسوع الناصري): الرأى القائل بأن المسيح لم يكن شخصاً حقيقياً غير صحيح، لأنه لا يُعقل أن يقوم دين يؤمن به ملايين من البشر، في جهات متباعدة بعضها عن البعض الآخر، على تاريخ غير صحيح . وقال العلامة نوح اليهودي: كيف يكون يسوع دجالاً، ومن حولنا أدلة لا عدد لها من السعادة والإيمان والحكم الصحيح والإحسان الحي العامل للخير الذي ينبعث من تعليمه! . أما عدم إشارة كل الكتّاب الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني إلى المسيح، فيرجع إلى أن معظمهم كان لا يهتم إلا بالأحداث السياسية. والمسيح، كما نعلم كان بعيداً عن السياسة.

وقال الأستاذ العقاد: أول ما نرى أن أصحاب هذه الملاحظات (يقصد الاعتراضات) قد نسوه وأغفلوه ولم يقدِّروا قيمته، أن السيد المسيح هو صاحب الدين الذي كان أكثر الأديان نعياً على ظواهر المراسم والشعائر والنصوص. فمن الغريب أن يجعلوا تشابه المراسم والشعائر والنصوص، مبطلاً لوجود من أنكرها وأقام دعوته الكبرى على إنكارها. وأغرب من هذا أن يتخذوا تشابه المراسم والأخبار، دليلاً على تلفيق تاريخ السيد المسيح. لأنه إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح، فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع على الإنكار، لأن الأناجيل تضمَّنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحي واحد... ومما فات أصحاب الملاحظات المتقدمة أن آباء الكنائس الأولى لم يحتفلوا بتلك الأعياد وهم يجهلون تواريخها، ولكنهم بدأوا بالاحتفال بها لاعتبارهم أن إكرام السيد المسيح فيها، أجدر بالمسيحيين من إكرام الشمس وسائر الكواكب .

وقال أيضاً: والغريب في شأن هؤلاء العلماء، أنهم لم يكلفوا أنفسهم تفسيراً مقبولاً لوجود المسيحيين بهذه الكثرة بعد جيل واحد من عصر الميلاد، فإن التفسيرات التي فرضوها تتسع لشكوك كثيرة، كلها أغرب من القول بشخصية المسيح التاريخية، ويبدو لي أن نشوة علم المقابلة بين الأديان هي التي دفعت أصحابه في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها، فإننا نرى أمامنا في هذا العصر أن هذه المشابهات لا تنفي ولا تثبت، بل لعلها إلى الإثبات أقرب منها إلى النفي على الإجمال. وقد تعب أصحاب المقارنات والمقابلات كثيراً في اصطياد المشابهات من هنا وهناك، ولم يكلفوا أنفسهم جهداً قط فيما هو أولى بالجهد والاجتهاد، وهو استخدام المقارنات والمقابلات لإثبات سابقة واحدة مطابقة لما يفرضون من نشأة المسيحية. فمتى حدث في تاريخ الأديان أن أشتاتاً مبعثرة من الشعائر والمراسم تلفق نفسها وتخرج في صورة مذهب مستقل، دون أن يعرف أحد كيف تلفَّقت، ولماذا كانت تُخفى مصادر الشعائر والمراسم الأولى ولا تعلن إلا منسوبة للسيد المسيح .

وقال كذلك: وربما كان أوضح من هذا في الإبانة عن شخصية الداعي، أن أقواله تتضمن نقداً لجميع المذاهب التي كانت شائعة في عصره، وهذه الأقوال تشير إلى وجهة نظر واحدة، لم يكن لها وجود في غير تلك الشخصية. فالأقوال المسيحية تنتقد الفريسيين، ولكنها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الصدوقيين أو السامريين، وتنتقد أصحاب النصوص، ولكنها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الإباحيين والمتحللين. وتنتقد الآسيين المتعصبين، لكنها لا تدين بآراء الأبيقوريين والرواقيين، وإذا جمعنا وجوه النقد جملة واحدة، أمكن أن نردّها إلى وجهة نظر متناسقة وقوام شخص مرسوم . وهذا الشخص هو السيد المسيح.

أخيراً نتساءل: هل من المعقول أن تكون الأدلة التي ذكرناها في هذا الفصل، على حقيقة وجود المسيح قد غابت عن أذهان المعترضين حتى قالوا إنه ليس شخصاً حقيقياً؟

الجواب: طبعاً لا، لأنهم من العلماء الذين نالوا قسطاً وافراً من الذكاء والمعرفة. وإذا كان الأمر كذلك، فما هو السبب الحقيقي في إنكارهم لحقيقة وجوده؟

الجواب: عجزهم عن تطبيق النواميس البشرية عليه، لأنهم وجدوا أنه يختلف عن كل الناس في مولده وحياته، وفي أعماله وأقواله، وفي موته وقيامته. لكن لو كانوا قد وضعوا نصب أعينهم، أنه كان هو الله متأنّساً، وأن تأنّسه يتفق مع كماله، كما يتفق مع حاجتنا نحن البشر إليه، لما كانوا قد أنكروا وجوده، إذ من البديهي أن يكون في حياته الناسوتية أسمى من كل الناس في كل شيء من الأشياء.

ومما يثير الدهشة أن معظم العلماء الذين ينكرون وجود المسيح يتوقون إلى وجوده أو وجود شخص مثله، لأنهم يشعرون بحاجتهم وحاجة البشرية عامة إلى أن يعلن الله ذاته لهم، لكي يعلمهم ويعضدهم، فمثلاً قال الرئيس شنهين: إني أود أن يعلن الله ذاته لي، لأن إعلان الله ذاته للعالم في المسيح، كما يقول المسيحيون، لا أستطيع أن أفيد منه الآن . وقال هارتمان: إن قصة المسيح تؤثر في النفس تأثيراً بالغاً، ولكن المسيح نفسه لا حقيقة له، لأن حياته لم تظهر في أحد من أتباعه، كما ورد في الإنجيل . وقال الأستاذ دروز: إننا نشتاق إلى التحرر من النقص الأدبي الكامن في نفوسنا، ولكننا لا نستطيع التحرر منه بقوتنا الذاتية. ولذلك لا سبيل أمامنا إلا أن نقبل المسيح، الذي يقول عنه رجال اللاهوت . وقال كالتوف: لو كان المسيح شخصاً حقيقياً، لكان أجدر الناس بالحب والإكرام )اث ؛ثقسخى شىي ٍخقن ب -ثسعسو ؛ز111(ز ولا يتسع المجال امامنا للرد بالتفصيل على هؤلاء العلماء، ولذلك نقول باختصار:

(أ) إن المسيح، على عكس ما يقولون، قد غيَّر ويغيّر حياة أتباعه الحقيقيين تغييراً كاملاً، كما وعد من قبل، والتاريخ يؤيد هذه الحقيقة تأييداً تاماً. وإن كان هناك نفر من الذين ينتسبون إليه لا تظهر فيهم حياة المسيح، فليس ذلك دليلاً على عدم وجوده، أو عدم قدرته على تغيير حياتهم، بل دليل على عدم إيمانهم به إيماناً حقيقياً، أو بالحري عدم خضوعهم له خضوعاً قلبياً.

(ب) إننا لا نحتاج إلى أن يعيش المسيح بيننا الآن بقدر ما نحتاج إلى الإيمان القلبي به والتسليم الكامل له، لأن الذين رأوه رؤية العيان لم يفيدوا منه إلا بعد أن آمنوا به وسلَّموا نفوسهم له. والإيمان بالمسيح ميسور الآن كما كان ميسوراً عندما كان موجوداً على الأرض.

(ج) إن الشعور بالحاجة إلى المسيح يلزمنا، بصرف النظر عن أفكارنا وآرائنا بالالتجاء إليه بقلوبنا. وعندها نستطيع أن نعرفه ونختبر قوته ونعمته. أما الشعور بالحاجة إلى المسيح دون الالتجاء إليه والإيمان القلبي به، فلا يجدي علينا، بل يحمّلنا مسئولية خطيرة لا نستطيع أن ننقذ أنفسنا من عواقبها.

الصفحة الرئيسية