المسيح في القرآن
"ولنجعلة آيةً للناس ورحمةً منَّ"
(مريم 21)
أن أجمل صورة رُسمت للمسيح، فى ما عدا الانجيل، هى تلك التى خطّها القرآن الكريم. نراها تسمو رويداً رويداً على مالسائر الانبياء والمرسلين. فالصفات والألقاب التى يصف القرآن بها شخصية المسيح ويصوّر حياته كلها ترفعه إلى فوق البشرية جمعاء. وقد لخّصها بكلمة واحدة : "ولنجعلة آية للناس ورحمة منا" (مريم 21).
فالقرآن الكريم يعتبر يسوع المسيح، عيسى ابن مريم آية فى مولوده، آية فى حداثته، آية فى رسالته، آية فى آخرته، آية فى ارتفاعه حيّاً إلى السماء، آية فى يوم الدين، آية فى كلها وشخصيه الفذَّة.
وها نحن ندرس اولاً النصوص القرآنية المكية ثم المدينة، ثم
نحلّل تلك النصوص الكريمة.
الجزء الاول: النصوص القرآنة فى المسيح
أولا: المكيَّة
رقم التنزيل رقم الصحف
النص الاول: مريم 15 - 33 ، 34 - 40 44 19
النص الثانى: زخرف 57 - 62، 63- 65 63 43
النص الثالث:الانبياء 91 - 103 73 21
النص الرابع: المؤمنون 51 - 57 74 23
ثانياً: المتبعّضة (أى بعضها مكّي وبعضها مدني)
النص الخامس: اعرف 156 - 158 39 7
النص السادس: انعام 83 - 90 55 6
النص السابع: الشورى 13- 16 62 42
ثالثاً: المدنيّة
النص الثامن: البقرة 86، 136 - 138، 253 1 2
النص التاسع: آل عمران 18- 21، 33- 37
38-41، 42 - 44،45-
51، 52- 58،59- 64،79- 3 3
85، 110- 120، 182
النص العاشر: الأحزاب 7- 8 4 33
النص الحادى عشر: النساء 149- 161، 162-
169، 170- 173 6 4
النص الثانى عشر: الحديد 25 - 29 8 57
النص الثالث عشر: التحريم 12 21 66
النص الرابع عشر: الصف 2- 6، 10- 14 23 61
النص الخامس عشر: المائدة 13- 30، 44- 54
62- 73، 75- 80،
81- 90، 112- 123 26 5
النص السادس عشر: التوبة 1- 36 28 9
النص الاول : سورة مريم 15 - 40
ان الدعوة الاسلامية، فى سورة المكيّة كلها، دعوة عامة إلى التوحيد (اى الايمان بالله واليوم الآخر): سورة مريم وحدَها خصوصية، يكثر فيها اسم الرحمن[1]، ويقرن تنزيلها بهجرة المسلمين إلى الحبشة، سنة خمس للبعثة اى نحو 615 - 616 فقد حّملهم اياها الرسول العربي لتشفع فيهم عند النجاشي وتكون دليلاً على وحدة الايمان بين العرب المسلمين والاحباش المسيحيين[2].
وبعد الهجرة إلى الحبشة خرج النبى العربي من التأثير المسيحى إلى التأثير الاسرائيلي: يدلنا على ذلك التحوّل من الكرازة باليوم الآخر إلى الدعوة إلى الله والتوحيد، مع قصص انبياء الكتاب الذى يملأ القسم الثانى من السور المكيّة، وفى هذه المدة او بعدها أضعاف إلى خبر المسيح (15 - 33) مقطعاً آخر يختلف فى لهجته ويحدّ من اطراء المسيح السابق (34- 40):
النص الاصلى 14- 33، وهو اول وصف للمسيح وأمه جاء فى القرآن.
14 وسلام عليه[3] يوم ولد ويوم يموت يُبعث حياً.........
15 واذكرْ فى الكتاب مريم[4] اذا انتبذَتْ من اهلها مكاناً شرقيَّا.
16 فاتخذتْ من دونهم حجاباً. فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويَّا.
17 قالت: إنى أَعوذُ بالرحمن منك ان كنت تقيَّا!
18 قال: إنما رسول ربك لأهب لكِ غلاماً زكيًّا![5]
19 قالت: أنّى يكون لي غلام ولم يمسسنى بشر ولم أكُ
بغيًّا.
20 قال : (هو) كذلك! قال ربكِ : هو علىَّ هّين! ولنجعله آية للناس ورحمة منا! وكان أمراً مقضيًّا.[6]
21 فحملته. فانتذتْ به مكاناً قصيًّا.
22 فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت:ياليتنى مُتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْياً مَنسِياً !
23 فناداها من تحتها: ألاّ تحزني! قد جعل ربك تحتكِ سرياً![7]
24 وهُزّى اليكِ بجذع النخلة تُساقطْ عليكِ رُطباً جنياًّ.[8]
25 فكلي واشربي وقَرّي عيناً. فإماً تريَنَّ من الناس أَحداً
فقولي: اني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلّم اليومّ إنسيَّا....
26 فأتتْ به قومَها تحملهُ. قالوا : يامريم لقد جئتِ شيئاً فِرِيَّا!
27 يا أخت هرون ما كان أبوكِ أمراً سِوءٍ وما كانت اّمك بغيًّا!
28 فأشارتْ اليه ....قالوا : كيف يكلّم من كان فى المهد صبياًّ؟!
29 قال: إنى عبدُ الله، آتانى الكتاب وجعلنى نبياًّ. [9]
30 وجعلنى مباركاً أينَ ما كنتُ،واوصاني بالصلوة والزكاوة ما دمتُ حياًّ
31 وبَرَّا بوالدتي، ولم يجعلني جباًراً شقياً!
32 والسلام علىَّ يومَ وُلدتُ ويومَ أبعثُ حياً!
فهذا الوصف الرائع مبنى ومعنى هو اول ذكر ورد فى القرآن عن المسيح. يورد فيه المعجزات التى تمت فى مريم ام المسيح، ومعجزة المسيح الكبرى بميلاده من ام بتول بلا أب وقد انفرد بها دون سائر البشر والانبياء، وبها صار آيةً من الله، ثم معجزة نطقه من المهد تبرئةً لوالدته وشهادةً لرسالته، ومعجزة نبوّته من المهد عن موته وانبعاثه. ويذكر فيه ايضاً صفات المسيح الأولى: إنه عبد الله ونبيهّ، انه المبارك الطاهر، رجل الصلاة والزكاة مدى الحياة، الجاعل قرة عينه فى مناجاة الله، انه ذو الرحمة والبِرّ والتواضع.
وان هذا النص لبعيد عن المجادلات اللاهوتية، يعبّر عن الايمان البسيط، الوطيد بالمسيح نبي الله وعبده، الذى جاء آيةً من الله ورحمةً للناس.
النص التفسيرى المزيد على سورة مريم 34 - 40
34 ذلك عيسى ابن مريم قولُ الحق الذى فيه يمترون. [10]
35 ما كان لله ان يتخذ من ولدِ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون![11]
36 وان الله ربى وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. [12]
37فاختلف الاحزاب من بينهم، فويلُ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم![13]
38 أسمعْ بهم وابصرْ يوم يأتوننا! لكن الظالمون اليوم قى ضلال نبين.[14]
39 وأنذرهم يوم الحسرة إذْ قُضى الامر، وهم فى غفلة، وهم لا يؤمنون.
40 أنّا نحن نرث الارض ومَن عليها، والينا يُرجعون.
ان هذا النص الاضافى يفسّر ايمان القرآن بالمسيح وموقفه من احزاب النصارى واليهود : فعقيدته ان المسيح هو "قول الحق" أي كلمة الله (مريم 34) كما هو "عبد الله ونبيّه" (30) ولكن هذه الميزة لا تجعل المسيح "الهاً" أو "ابن الله" كما يقول النصارى. فهو يرد هذا الزعم بالعقل : الخالق يخلق بأمره ولا يقدر ان يستولد بطريقة الجسد (مريم 35) ، وبالنقل عن عيسى :فقد شهد "ان الله ربي وربكم فاعبدو" (36).
ويكفّر احزاب اليهود الذين كفروا بالمسيح وامه، فويل لهم من مشهد يوم عظيم ! لا يريدون ان يبصروا ويسمعوا حتى يؤمنوا بالمسيح فالظالمون اليوم فى ضلال مبين، ولكن سوف يبصرون ويسمعون يوم الحسرة والجزاء(37 – 40)حيث يشاهدون مجد المسيح ويشهدون له.
وهكذا ترى وجه الشبه بين هذا الموقف وآل عمران :فلاُ يستبعد اذن ان يكون النصّان من وثت واحد، وعلى كل حال فإن النص التفسيرى ليس من مكة بل من المدينة لانه ليس فى مكة جدول مع اهل الكتاب.
بقى ان القرآن فى سورة مريم يسمّي المسيح "عبد الله ونبيّه" كسائر الانبياء.
ويُفرد له لقباً اختص به دون سواه من الملائكة والبشر، والامبياء والمرسلين: انه "قول الحق"!
النص الثانى: سورة الزخرف57 – 62 ، 63 – 65
سورة الزخرف من السور المكية التى تدعو إلى ذكر الرحمان (63) وتوحيده حسب تعليم الالنبياء الأولين: " وَسْئلْ مَن أرسلنا من قبلك من رسُلنا: أَجَعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبَدون؟" (45) وحسب الكتاب الاول : "أَم آتيناهم كتابا من قبله (القرآن) فهم به متمسكون" (21).
نجد ههنا نصّاً يردّ به على قومه القرشيين (57) الذين اتخذوا من عبادة عيسى، وهو من انبياء الكتاب، ذريعة لتمسكهم بعبادة آلهتهم. قال لهم: إنطم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم! - أجابوا: رضينا ان تكون آلهتنا مع عيسى لانه عُبِدَ من دون الله. فقال "إن هو الا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبنى اسرائيل" (59).
ويضيف إليه نصّاً متأخراً يجيب به على أحزاب به على اليهود والنصارى كما رأينا فى سورة مري، وهذا الجدل مع الكتابيين ليس من العهد المكّي يل من زمن متأخر فى المدينة.
النص الاصلي (57 - 62) جواب للقرشيين عن عبادة عيسى.
57 ولمّاَ ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصّون. [15]
58 وقالوا: أَآلهتنا خيرُ أم هو؟ - ما ضربوه لك اّلا جدلاً! بل هم قوم خَصِمون![16]
59 إنْ هو الأ عبدُ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبنى اسرائيل.[17]
60 ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكه فى الارض يخلُفون.[18]
61 وانه لَعلم للساعة، فلا تَمترُنَّ بها واتبعونِ، هذا صراط مستقيم . [19]
62 ولا يَصُدّنّكم الشيطان، انه لكم عدوُّ مبين.
يقولون له: المسيح الذى تذكره وتؤمن به عَبْدُ عُبدَ فآلهتنا الملائكة خيرُ منه واحق ان تعبد. فأجاب: المسيح لا يُعْبد لانه عبدُ أنعمنا عليه بالنبوّة وجعلناه نبياً، وجعلناه مثلاً لنبي اسرائيل بخلفه العجيب الفريد الذى يثبت نبوّته ويشهد الله له بهذه المعجزة.
ويضيف فى وصف دور المسيح: "إنه لَعلْم للساعة" أي تُعلْم بنزوله. وهو "عَلَمُ"لها أي علامة تدل على دنوّها. وهذه ايضاً ميزة أخرى في القرآن للمسيح اختص بها دون سواه من الانبياء والمرسلين.
فكلما كان مجيئه الاول "مثلاً" لبنى اسرائيل يهديهم، يكون مجيئه الثاني قبل يوم الدين "علما" للساعة يهدى العالم أجمع.
وكما دعا القرآن المسيح وحده بين الانبياء "آية" بخلقه وشخصه، جعله كذلك وحده بين الانبياء "مثلاً".
النص الاضافي 63 -65
63 ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمةو
لابينَ لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون.[20]
64 انّ الله هو ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم.[21]
65 فاختلف الاحزاب من بيمهم. فويل للذين ظلموا من
عذاب يوم أليم![22]
يذكر القرآن فى هذا النص الاضافى اليهود وحدهم اولئك الذين تحزيوا على المسيح فلم يتقوا الله ولم يطيعوا المسيح رسولَه. وقد جاء بالبيّنات، والمعجزات الباهرة، وعلمهم آيات الله التى فيها الحكمة، وموضعها التوحيد: فتعلمه صراط مستقيم
فخالفه قوم منهم تحزبوا عليه كما تحزبوا على محمد، فسمّاهم "الاحزاب". فنستخلص من هذا النص ان المسيح علّم التوحيد لا غير، وفى هذا التوحيد "الحكمة" وأيّد ذلك بالمعجزات
وهذه الجملة على أَهل الكتاب تشير إلى ان النص مدني لا مَكّي لانه فى مكة لا جدال مع الكتابيين بل مع المشركين لا غير.
النص الثالث: سورة الانبياء 91 – 103
يذكر القرآن الانبياء الصالحين الذين أحسن الله اليهم بالنبوة، ويختم ذكر تلك الامة المؤمنة بمسك الختام:
91 والتى ؟أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها
وابنها آيةً للعالمين.[23]
92 ان هذه آمتكم اّمةً واحدةً، وانا ربكم فاعبدون.[24]
93 وتقطَّعوا أَمرهم بينهم، كلُّ إلينا راجعون.[25]
94 فمن يعملْ من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وأنا له
كاتبون…
98 أنكم وما تعبدون من دون الله خَصَبُ جهنم انتم لها واردون.[26]
101 أن الذين سبقتْ لهم منا الحسنى، أولئك عنها مُبعدَون.[27]
انه لتعليم قيّم رائع عن شخصية المسيح: فهو روح الله نفخَهُ فى مريم فصار مع أمه بهذا الحمْل والميلاد العجيب الفريد آيةً واحدة للعالمين من الأنس والجنّ والملائكة. ولم يقل القرآن مثل هذا فى أَحد من الأنبياء والمرسلين من لبشر أجمعين.
والمسيح وأمه من الآمة المؤمنة المصطفاة بالنبوّة على العالمين، وختام الذرية النبوية المصطفاة بالتوحيد والإسلام: لقد سبقت لهم من الله الحسنى، وهم مبعدون عن جهنم التى يرِدُها ما يُعبد من دون الله، ولهم الحسنى فى الآخرة أيضا حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة (103).
النص الرابع : سورة المؤمنون 51 – 57
يختم بها ذكر الأنبياء من نوح إلى ابن مريم على السياق نفسه الذي في سورة الأنبياء.
51 وجعلنا ابن مريم وأمه آية، وآويناهما إلى ربوة ذاتِ قرارِ ومعين.
52 يا ايها الرسُل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، آني بما تعلمون عليم.
53 وان هذه امتُكم أمة واحدة، و انا ربكم فاتقونِ.
_____________________
آية 51 يستعير هذه الكناية " ابن مريم" اسم علم له، إشارة إلى انه لا ابا له. "ابن مريم وامه آية" يرى القرآن في المسيح و أمة آية واحدة لا تنفصل.
" لو قيل آيتين كان له وجه لن مريم ولدت من غير مسيس ، وعيسى روح من الله ألقي اليها وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أُخر فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية"(الزمخشرى).
آية 52 " يا ايها الرسل" : نداء و خطاب لجميع الأنبياء على
معنى ان كلاَّ منهم خوطب به في زمانه فيدخل تحته عيسى
دخولاً اوليا فيكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً إلى ان تهيئة
اسباب التنعيم لم تكن له خاصة، وان اباحة الطيبات للانبياء
شرع قديم! أو حكايةّ لما ذكر لعيسى وامّه عند ايوائهما إلى
الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا. وقيل النداء له
ولفظ الجمع للتعظيم
54 فقطَعوا امرهم بينهم زُبُراً ، كل حزب بما لديهم فرحون
0000
يعتبر القرآن الكريم المسيح النبي الوحيد الذي جعله الله بين الانبياء "آية" منه للناس ، بل للعالمين جميعاَ، كما جعله بين كافة المراسلين "مثلاً" لبنى اسرائيل و العالمين. ويعود فيعلنه مع امه ختام الاّمة الموحّدة المصطفاة. ويذكر لنا حداثة يسوع العجيبة في جنّه غناء على رابية فريدة. ويدعو صريحاً او تلميحاً إلى التنعّم بالطيبات، والملذات المباحة. والكلام في صيغة الخطاب إشارة إلى جعله مثلا في ذلك.
ونظن هنا ايضاً ان الآية 54 مدسوسة لأنه لا جدال ولا وَصْف لجدال مع الكتابيين الذين فرّقوا دينهم كُتُباً مختلفة؛ بل السورة كلها ذكر لقوم محمد وهم عن ذكرهم معرضون (71).
فالمسيح اذن بمولده وشخصه آية من الله، ومعجزة لعالمين بحداثته.
______________________
آية54- قطعوا امر دينهم و جعلوه أدياناً مختلفة. "زُبُراً" قطعاً أي فرقاً ، وقيل كتباً فيكون مفعولاً ثانياً (البيضاوي) أي صار لهم اديان مختلفة وكتب متفرقة. وهذه الآية مدسوسة على السورة لترفع عن اهل الكتاب المديح الذي يعود عليهم من انبيائهم: فحديث السورة كله للقرشيين ذِكراً لهم (71).
الاعراف سورة مُتَبعّضة أي بعضها نزل بمكة وبعضها نزل في المدينة. ومما جاء في المدينة النصّ في "النبى الأمي" المكتوب عنه في التوراة و الانجيل. وهذا المقطع يظهر عليه انه مدسوس لأنه يقطع سياق الحديث في ذكر موسى (102 – 162) بحديث لا يمت بصلة عن النبى الأمى (156 – 158) لا بل ينقضه : موسى يصلّي إلى الرب ويسأله ان يكتب له ولأمته هذه الحسنة أنهم "هادوا" اليه أي آمنوا به، فيجيبهُ الله: بلى سأكتبها للمؤمنين المتقين! ثم اضافوا إلى جواب الله دعاء موسى الدعوة إلى الايمان بالنبى الأمي[28]
156- الدين يتبعون الرسول ، النبى الامي؛ الذي يجدونه مكتوباّ عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحلُّ لهم الطيبات ويحرمّ غليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال 000[29]
157 قل : يا أيها الناس ، اني رسول الله اليكم جميعا000 فآمنوا بالله ورسوله، النبي الامي، الذي يؤمن بالله وكلماته (او كلمته) واتبعوه لعلكم تهتدون[30]
يقول ليست الحسنة في اتباع موسى بل في اتباع محمد، وليس الهدى في التهويد (هُدنا اليك) بل في نُصْرة النبي الاّمي؛ أي في الاسلام. وقد سبقت النبوة عن النبي العربي في التوراة و الانجيل: فهذا دليل لهم ليؤمنوا به. ولهم دليل آخر على صحة رسالته وصدق نبوته هو ايمان النبي الامي بكلمات الله، واخصها الانجيل و التوراة، والاصح هو ايمانه " بالله وكلمته" عيسى ابن مريم؛ وبناءً علي هذا الايمان بالله والكتاب و المسيح يدعوهم إلى الاعتراف به وبرسالته.
النص السادس : سورة الانعام 83- 09
يفرد القرآن في هذه السورة ذكراً لابراهيم(74) يختمه بتسمية الأنبياء المحسنين الصالحين من ذريته؛ ومن جملتهم عيسى. ويأمر القرآن محمداً ان يقتدى بهدى هؤلاء الانبياء:
83 وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء، إن ربك حكيم عليم.
84 ووهبنا له اسحق ويعقوب: كلّا هدينا – ونوحاّ هدينا من قبل – ومن ريته داود و سليمان، وايوب ، ويوسف ، وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين.[31]
85 وزكريا و يحيى وعيسى و الياس كل من الصالحين. [32]
86 و اسماعيل و اليَسَع و يونس ولوطاً وكلَّا فضلنا على العالمين
87 ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم.
88 ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. – ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون
89 اولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة – فإن يكفر بها هؤلاء (قريش) فقد و كلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين.[33]-
90 – اولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِه. قل لا أسالكم عليه اجراً إِن هو الا ذكرى للعالمين.
في سورة الاعراف رأينا أن محمداً يدعو الناس جميعاً إلى الايمان برسالته لنه هو نفسه يؤمن بالله والكتاب وعيسى كلمة الله. وهنا في الانعام نرى القرآن يأمر النبي العربي ان يقتدى بهدى الانبياء من ذرية ابراهيم الذين آتاهم الله الكتاب و الحكم و النبوة. وقد تحقق هدى الكتاب والحكم والنبوّة خاصة في التوراة والانجيل على يد موسى و عيسى.
فدعوة القرآن و الاسلام الحق هما الاقتداء بهدى انبياء الكتاب (90).
النص السابع: سورة الشورى 13 –16
تقصد هذه السورة إلى تبيان مواصلة الوحي من نوح إلى محمد كما ورد في مطلعها : "حم عِسَق ، كذلك يوحي اليك، والى الذين من قبلك، الله العزيز الحكيم". استعظم المشركون دعوة القرآن إلى التوحيد مع انه هو الدين الذي وصّى به الأنبياء جميعاً:
13 شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذى أَوحينا اليك – وما وصينا به ابارهيم و موسى وعيسى : أَن أقيموا الدين ولا تتفرَّقوا فيه! كبر على المشركين ما تدعوهم اليه! الله يجتبي اليه مَن يشاء ويهدي اليه مَن ينيب.[34]
14 وما تفرقوا الا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم! ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمَّى لقضى بينهم؛ وان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب[35]
15 فلذلك فادعُ واستقم كما أُمرتَ، ولا تتبع اهواءَهم، وقل أمنتُ بما أنزل الله من كتاب وأُمرتً لاَّعدل بينكم. الله ربنا وربكم، لنا اعمالنا ولكم اعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا واليه المصير". [36]
الخطاب موجه إلى المشركين "كبُر على المشركين ما تدعوهم اليه" من التوحيد، الذى شرعه الله وكرز به جميع الانبياء من نوح إلى ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد: شرع الله التوحيد وشرع اتفاق الكلمة فيه.
تفرَّق المشركون، وشك الكتابيون. فأجاب المشركين: "فلذلك (التوحيد) فادعُ واستقم كما أُمرت وى تتَبع اهواءهم:. وأًجاب الكتابيين: " وقل آمنتُ بما أَنزل الله من كتاب" فلا تشكوا فيَّ وفي تعليمي.
فالمسيح في هذا المقطع حلقة من سلسلة أَنبياء التوحيد، يؤمن به محمد وبكتابه كما يؤمن بموسى وتوراته وابراهيم وصحفه. وهكذا ترى في هذه السور الثلاث الأعراف والأنعام والشورى ان منزلة المسيح الفريدة كما شاهدناها في مريم والأنبياء و المؤمنين تتدّنى إلى رتبه باقي الأنبياء والمرسلين، لتعود فتسمو مع السور المدنية الاولى.
لم يقم في مكة جدال بين محمد وأهل الكتاب، بل يظهر النبي العربي في ذلك العهد كأنه واحد منهم، حتى انه لما نشب خلاف في آخر تلك شجبه بشدة: "ولا تجادلوا أَهل الكتاب الا بالتى هي أحسن – الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وانزل اليكم وإَلهنا وإَلهكم واحد ونحن له مسلمون. وكذلك أَنزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به (القرآن) ومن هؤلاء (اهل مكة) مَن يؤمن به، وما يجحد بآياتنا الا الكافرون (مشركو مكة) 000 بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم(اهل الكتاب) وما يجحد بآياتنا الا الظالمون (المشركون)" (عنكبوت 46 – 49). – لا جدال بينهم فالله واحد و الايمان بالكتاب والقرآن واحد، ودين التوحيد واحد.
في المدينة ظهر الخلاف شيئا فشيئاً، وهو خلاف لا على الدين و التوحيد بل على الرئاسة[37] والمِلّة، أَو الطائفية كما نقول في عصرنا؛ فاختلاف اليوم سياسيّاً اصحاب الامس : "ولن ترضى عنك اليهود – ولا النصارى – حتى تتّبع ملتهم" (بقرة 120). وكان الخلاف طيلة العهد المدنى بين محمد واليهود، ولم يشمل النصارى الا في آخره، في سورة التوبة، بعد غزوات النبي إلى شمال الجزيرة حيث كانت اكثرُ مواطن العرب النصارى. ومن ثمّ نرى في سورة البقرة
اولا : حملة القرآن الاولى على اليهود : "و آمنوا بما انزلتُ مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به" (بقرة41). ويعدّد لهم مظالمهم. ومنها تكذيب الرسل وقتلهم.
87 " ولقد آتينا موسي الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات، وأَيْدْناهُ بروح القدْس: أفكلما جاءَكم رسول بما لاتهوى أنفسكم استكبرتم؟! ففريقاَ كذبتم وفريقاً تقتلون!".[38]
يذكرهذا المقطع الاول من سورة البقرة للسيد المسيح ميزتين اختص بهما : اتيان الله اياه البيّنات أَي المعجزات الواضحات ىالتي لا مثيل لها، وتأييد الله له بالروح القدس مماّ لم يفعله مع غيره من الانبياء. ويظهر ذلك جليّا في الاية 253 من سورة البقرة ذاتها حيث يؤكد هذه الميزات و الخصائص للمسيح في باب مفاضلة الانبياء[39]
ثانيا : يورد القرآن في نص جوهرى أسباب الخلاف بين محمد واليهود:
135 وقالوا : كونوا هوداً أَو نصارى تهتدوا! – بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.[40]
136 قولوا : آمنا بالله وما انزل الينا وما انزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم! ونحن مسلمون.[41]
137 فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إِن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيهم الله وهو السميع العليم.[42]
138 صبغة الله! ومن أحسن من الله صبغة؟ ونحن له عابدون[43]
139 قل : أَتحاجونا في الله وهو ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون. [44]
140 أم تقولون : ان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هوداً أو نصارى؟ قل انتم اعلم ام الله؟ ومَن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عَّما تعلمون. [45]
141 – تلك أُمّةُ قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تُسْلون عمَّا كانوا يعملون.[46]
تعود اسباب الخلاف بين محمد واليهود إلى أربعة ( وفي آل عمران تتسع إلى تسع اختلفوا على صحة انتساب كل منهم إلى ابرهيم (135 و140) ومَن اولى بهذا الانتساب. واختلفوا في قبول نبوة عيسى نبي النصارى، ونبوة اماعيل نبي العرب الاقدمين، فالقرآن يقبل جميع الانبياء على السواء " لا نفرق بين احد منهم". واختلفوا في طريقة عبادة الله، بأي شرع يجب ان يُعْبد؛ قالوا بشريعة موسى او عيسى، فقال ليس من الضرورى لصحة التوحيد توحيد طرق العبادة فالله ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم فليس الاختلاف في طريقة العبادة شيئاً. وانكروا على محمد نبوّته قائلين : الأنبياء كلهم منا فلو كنتَ نبياً لكنت منا، فأجاب لا اختصاص لله بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء.
وهكذا يؤيد القرىن صحة رسالة المسيح ضد اليهود.
*************
ثالثاً: ويختم بمفاضلة القرآن بين الأنبياء وفضل عيسى على غيره(253)
253 تلك الرسل، فضَّلنا بعضهم على بعض: منهم مَن كلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأَيدناه بروح القدس. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات. [47]
يقر هنا مبدأ المفاصلة بين الانبياء، فيخصّ كلا منهم بمنقبه ليست لغيرة (البيضاوى والجلالان) : خصَّ موسي بتكليمه ومشافهته؛ وخصّ غيره (مَن؟) برفعه على سواه درجات؛ وخص المسيح بالبينات " وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره" (البيضاوى) وإن عّمت البيّنات جميع الانبياء " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءَتهم البينات" وخصّه ايضاً بتأييد الروح القدس، ولم يذكر القرىن هذا
التأييد السماوى الخاص لغير المسيح.
فقد أبان القرآن وجه تفضيل موسى، بالتكليم، ووجه تفضيل عيسى بالبينات و تأييد الروح القدس. وجعل تأييد الروح القدس للمسيح سبب المعجزات العظيمة التي لم يستجمعها غيره (البيضاوى) وهذا دليل بيّن على ان من زيد تفضيلّا بينهم بالآيات فقد فضل على غيره (الزمخشرى)؛ ومَن زيد تفضيلاً بالآيات مثل المسيح؟
النص التاسع : فاتحة آل عمران
قال ابن اسحاق : لمّا قدم أهل نجران على رسول الله ص. يسألونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى الثمانين منها. وحضر اليهود المناظرة واشتركوا فيها. فكان ما يسميه حسين هيكل " مؤتمر الاديان الثلاثة في المدينة".
أولا : يذكر خلاف محمد واليهود على " ان الدين عند الله الاسلام"
18 شهد الله أنه لا إله ألا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط – لا إله اّلا هو العزيز الحكيم [48]
19 إِن الذين عند الله الاسلام. وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءَهم العِلم بغياً بينهم: وَمن يكفر بأيات الله فإِن الله سريع الحساب.[49]
20 فإن حاجّوك فقل : أسلمتُ وجهي الله ومَنِ اّتبعنِ. وقل للذين اوتوا الكتاب و الاميّين: أَسلمتم فإِن أسلموا فقد اهتدوا، وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد.[50]
21 إَن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط فبشرهم بعذاب أليم.
ان اهل الكتاب الذين يختلف محمد معهم (19) هم اليهود وحدهم بدليل قوله انهم "يقتلون النبيين بغير حق" (21) ولم يكن ليفعله النصارى اذ لا نبي عندهم بين المسيح وأحمد الذي يتكلم. والخلاف ليس على التوحيد، فإنهم، وهم " اولو العلم" شهدوا به مع اله والملائكة(18) بل على الاسلام أَي الشرع المبعوث به محمد مبْنيّاً على التوحيد (19) إي على طريقة عبادة الله.
ويجيبهم على محاججتهم : ليس الشرع بضروري للتوحيد، بل الاصل في الايمان والدين هو التوحيد" فإن حاجوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومَنِ اتّبعنِ" يعنى "ان دينى دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئتُ بشئ بديع حتى تجادلوني فيه" (الزمخشرى).
33 ان الله اصطفي آدم ونوحا و آل ابراهيم وآل عمران على العالمين.
34 ذريةً بعضها من بعض والله سميع عليم.
35 اذ قالت امرأة عمران: ربّ اني نذرتُ لك ما في بطني محرّرا فتقبل مني انك انت السميع العليم.
36 فلما وضعتها قالت : رب اني وضعتها انثي، والله عليم بما وضعت، وليس الذكر كالانثي. وانيِ سميتها مريم. واي أُعيذها بك وذريَّتها من الشيطان الرجيم.
37 فتقبَّلها ربّها بقبول حسن. وأَنبتها نباتاً حسناً. وكفَّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، قال : يا مريم أنَّي لكِ هذا قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب.
ثالثا : بشارة زكريا بيحيي : آل عمران (39 –41)
39 فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب : ان الله يبشّرك بيحيي، مصدِّقاَ بكلمة من الله، وسيداً وحصوراً، و نبياًّ، من الصالحين[51]
في هذه آية ينعت القرآنُ يحيي بخمس صفات، اوّلها انه آمن " بكلمة الله" وهو عَلَم للمسيح. فهنالك في المحراب (37) أي في الهيكل، لما رأى زكريا ذلك (أي المعجزة في شأن مريم)، وعلم ان القادر على الاتيانبالشئ في غير وقته قادر على الاتيان بالولد على الكبر، دعارّبه، "فنادته الملائكة ان الله يبشرك بيحيي مصدّقاً بكلمة كائنة من الله، أي بعيسي انه روح الله – وسمّي كلمة لأنه خُلق بكلمة: كن!" (الجلالان). – ونقول : ان قولهم " بان عيسى روح اله وكلمة الله الكائنة من الله (الجلالان) الصادرة من الله بدون توسط اصل (البيضاوى)، وانه خُلق بأمر الله: كن!" قولّ فيه تناقض اذ كيف يمكن لروح الله و كلمة الله، ان يُخلق خلقاً؟! 00 انه لا يخلق خلقاً بل يصدر صدوراً. اذ ان " كلمة الله – كما تقول السنَة – صفة قديمة قائمة بذات الله" (الرازى)؛ "وعيسى عليه السلام كان اسمه العلم (كلمة الله) و(روح الله) " {الرازى}. ويشهد القرى، أن اول من آمن بالمسيح انه كلمة الله وبشر بذلك هو يحيي بن زكريا "الذي لم يعمل خطيئة ولم يهم بها".
رابعا :عزلة مريم في الهيكل (42 – 44)
42 وإِذ قالت الملائكة : يا مريم إِن الله اصطفاكِ وطهَّركِ واصطفاك على نساء العالمين.
43 يا مريم اقتنتي لربك واسجدى واركعى مع الراكعين
44 ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنتَ لديهم اذ يلقون اقلامهم أَيهم يكفل مريم وما كنتض لديهم اذ يختصمون.
خامسا : بشارة مريم بالمسيح ( يوردها القرآن في آل عمران بعد ان قصّها في سورة مريم),
45 اذ قالت الملائكة : يامريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم – وجيهاً في الدنيا والاخرة، ومن المقربين.
46 ويكلّم الناس في المهد وكهلاً و من الصالحين.
47 قالت أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال : كذلكّ الله يخلق ما يشاء، اذا قضي أَمراً فإنما يقول له : كن! فيكون.
48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل.[52]
49 ورسولاً إلى بنى اسرائيل : آني قد جئتُكم بآية من ربكم ، أنى أخلق لَكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. وابرِئ الاكمة والابرص. واحي الموتي بإذن الله. وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: لن في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين.[53]
50 ومصدّقاً لما بين من التوراة، ولأُحلّ لكم بعض الذي حُرِم عليكم. وجئتكم بآية من ربكم – فاتقوا الله وأَطيعون-[54]
51 إِن الله ربي وربكم فاعبدوه : هذا صراط مستقيم
في هذا النص الرئيسي من المسيح يذكر القرآن ولادته المعجزة من مريم بخلق مباشر فيها دون واسطة أب، ودون واسطة معجزة كعمل الملاك؛ ويقرّر في القاب اربعة و أوصاف اربعه شخصية مولود مريم الفريدة، ولم يخص القرآن احداً قط من الانبياء بمجموع هذه النعوت ولا يمثل سموّها؛
ويدل على عظمة وحيه أَنه تعلّم مباشرة من الله، الوحى كلّه، ما سبقه وما نزل عليه : فكأنه جمع الوحي فيه.
وذكر خمسة انواع من معجزات عيسى منها ما اشترك به مع غيره من الانبياء مثل الابراء و الانباء بالغيب؛ ومنها ما انفرد به على جميع المرسلين كالمقدرة على الخلق واحياء الموتي وهما من خصائص الخالق.
ويختم بذكر موضوع رسالته : تصديق التوراة وتخفيف بعض احكامها ثم التبشير بالتوحيد من جديد.
سادسا :آخرة المسيح : آل عمران 52 – 58 وقد ذكرها في مريم على غير تفصيل
52 فلماَّ أحس عيسي منهم الكفر قال : من أَنصارى إلى الله؟ قال الحواريون : نحن انصار اللهّ آمنا بالله؛ واشهد بأناَّ مسلمون. [55]
53 ربنا آمنّا بما أنزلت وأتبعنا الرسول (المسيح) فاكتُبْنا مع الشاهدين.
54 ومكروا (الذين كفروا) ، ومكر الله ، والله خير الماكرين.[56]
55 اذ قال الله : يا عيسي اني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا. وجاعل الذين اّتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون.[57]
56 فأما الذين كفروا (بالمسيح) فأعذّبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.
57 وأمَّا الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات فيوفيهم اجورهم والله لا يحب الظالمين.[58]
58 ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم.[59]
يذكر القرآن نتائج رسالة المسيح بين بنى اسرائيل: كَفَرَ الاكثرون به، وآمن الحواريون و كانوا انصار عيسى في سبيل الله.
ويشهد القرآن على اقرارهم بأن دينهم هو الاسلام " واشهدْ بأنا مسلمون" قائلاً انهم آمنوا بالله، وكتب الله، ورسول الله أي المسيح، واتبعوه ونصروه مستعدين للشهادة والاستشهاد في سبيله وسبيل دينه (عن الرازى).
و يشهد القرآن ايضاً شهادة صريحة بموت المسيح وإِحيائه بعد ذلك بمدة وجيزة ورفعه إلى السماء؛ وبإِحيائه ورفعه إلى عالم الملكوت كان الله أشد مكراً من المتآمرين على المسيح لقتله.
" واعترفوا بان الله تعالي شرّف عيسى في هذه الآية (57) بصفات (الاولى) الوفاة المعجزة ، و(الثانية) الرفع إلى ملكوت الله، إلى محل كرامته تعالى، وجعل ذلك "رفعاً" اليه للتفخيم والتعظيم، و (الثالثة) تطهيرهُ من الذين كفروا، وكما عظّم شأنه بلفظ الرفع اليه أخبره عن معنى تخليصه منهم بلفظ التطهير، و(الرابعة) تفوّق المؤمنين بالمسيح على الكافرين به، بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، وبالحجة والدليل والبرهان؛ و الفوقيّة بالرفعة و الدرجة. انه تعالي بشر عيسي عليه السلام بانه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة والدرجات الرفيعة العالية؛ واما في القيامة فإِنه يحكم بين المؤمنين به وبين الجاحدين برسالته فالحكم في يوم الدين يكون على الايمان بالمسيح وعدمه" (الرازى) وهذا القصص ينقله عن الذكر الحكيم الذي نزل من قبل للذكر النازل الآن في القرآن.
سابعاً : شخصية المسيح : آل عمران 59 – 64
أنه لتفسير متأخّرُ إضافي :
59 إنَّ مثل عيسي عند اله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له : كن ! فيكون[60]
60 الحق من ربّك فلا تكن من الممترين.[61]
61 فمن حاجك فيه من بعدِ ما جاءَك من العلم فقل : تعالَوا ندعُ أبنائنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأَنفسنا وأَنفسكم ثم نبتهل فنجعلْ لعنت الله على الكاذبين.[62]
62 إِن هذا لهو القصص الحق. وما من إِله اَّلا الله. وان الله لهو العزيز الحكيم.[63]
63 فإِن توَّلوا فإِن الله عليم بالمفسدين.[64]
64 قل : يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمةِ سواء بيننا وبينكم، أَلا نعبد الا الله، ولا نشرِكْ به شيئاً، ولا يتّخذْ بعضنا بعضاً أَرباباً من دون الله. فإِن تولوا فقولوا : اشهدوا بأناً مسلمون![65]
تترك النصوص السابقة في نفس القارئ فكرة عظيمة عن سمو المسيح حتى لقد تخرج به عن طبقة البشر، وتترك الباب مفتوحاً لاعتقاد النصارى بتأليه عيسى. فجاء هذا النص الاضافي من زمن متأخر يقوّم ذلك الشعور ويعلّل القضية على هذا النحو: اَلا يظن ان معجزة ميلاد المسيح بلا اب قد أظهرته اسمى من البشرية ورفعته إلى رتبه الالوهية؟ – كلَّا، انما عيسى مخلوق وهناك أغرب من طريقة خلقه :إِنه وُلِدَ بلا أَبٍ ، وآدم وُجد بلا أبوين[66] بأمرٍ من الله : كن! فكان.[67]
وتلاحظ ان القرآن يسمّي مقالتهم كذباَ وفساداً في الدين؛ ولكنهما ليست كفراً؛ انه لا يصمهم ابداً بالكفر لأنه يعتدّهم حتى النهاية موحدين مثله " واشهدْ بأنّا مسلمون" (آل عمران 52 و80)
و بعد فشل الحجج في الاقناع والاقتناع دعي النبي وفد نجران النصرانى إلى الملاعنة على الكاذب على المسيح، وفي قصصه الحق : فأبوا. وامتناعهم عن المباهلة (الملاعنة) لا يعنى انكارهم لألوهية عيسى أَو اقرارهم بنبوة محمد (61) لأنهم "تولوّا" تاركين محمداً وشأنه (62). وقد دعا كفارُ مكة محمداً إلى المباهلة وطلبوا من الله امطارهم بالحجارة ان كان ما يقوله محمد هو الحق، ثم انه لم ينزل العذاب بهم البته: ليس في الملاعنة من افحام للخصم!
و في ختام "مؤتمر الأديان الثلاثة" في المدينة يدعو القرآن أهل الكتاب إلى كلمة انصاف وحق وعدل في الله: ألا وهي توحيده الخالص، قبلوا بها أم لم يقبلوا: يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والانجيل والتوراة.
دعا المشركين في مكة إلى توحيد الآلهة؛ ويدعو الكتابين في المدينة إلى توحيد الاديان.
ثامنا :الاسلام هو تعليم انبياء الكتاب : آل عمران 79 – 80 ، 83 – 85
79 ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمِون الكتاب وبما كنتم تدرسون.[68]
80 ولا يأمركم أَن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً! أًيأمركم بالكفر بعدَ إِذ أّنتم مسلمون[69]
83 أَفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً واليه يُرجعون.[70]
84 قل :آمنا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوبز والاسباط وما اوتي موسي وعيسي والنبّيون من ربهم :لا نفرّق بين أَحد منهم ونحن له مسلمون.[71]
85 ومن يبتغِ غير الاسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[72]
في النص السابق دحض القرآن ألوهية عيسى المستندة إلى الادلة النقلية. وهنا يذكر الادلة العقليّة : يستحيل ان يطلب نبي العبادة لنفسه من دون الله؛ فهذا خيانة لنبوته! ويستحيل ان يأمر نبي اتباعه باتخاذ الملائكة والنبيين ارباباً : "أيام بالكفر قوماً مسلمين"؟! وهذه شهادة صريحة لصحة اسلام اهل الكتاب (80) كالتى سبقتها "واشهدْ بأنّا مسلمون" (52) : فدين الله هو عبادته وحده لا شريك له من الملائكة او النبيين او أحبار أو رهبان : افغير دين الله يبغون؟! وقد وّحديه السماوات والارضون!
التوحيد الصحيح هو الاسلام ومن يتبع غيره ديناً فلن يُقبل منه! وهذا التةحيد هو ايمان الكتاب والقرآن وتعليم جميع الانبياء : لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون.
تاسعاً : امة عيسى في عصر محمد : آل عمران 110 – 120.
أخيراً يذكر القرآن نتائج "مؤتمر الاديان الثلاثة" لأول العهد بالمدينة واصفاً أُمم الكتاب الثلاث :
110 كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المكر وتؤمنون باله. ولو آمن أهل الكتاب (اليهود) لكان خيراً لهم : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.[73]
111 – 112 ضُربت عليهم الذَّلة والمسكنة : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.
113 ليسوا سواء ! من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون[74]
114 يؤمنون بالله و اليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين.
115 وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه. والله عليم بالمتقين.
116 –120 يعود إلى ذكر الذين كفروا بنبوته من اهل الكتاب (أَى اليهود).
هذه الفقرة تصف امم الكتاب الثلاث عقب المؤتمر. كان وفد من نصارى نجران قد حضر و باحث النبي في دعوته وفي عيسى، وحضر المجادله بعض اليهود : فوادعه النصارى وانصرفوا وزاد اليهود كفراً به.
فالآية 110 تصف امّة المسلمين : يؤمنون بالله، ويأمرون بالمعروف لذلك صاروا خير أمّة.
والآيتان 111 – 112 تصفان اليهود: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. هؤلاء الفاسقون ضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق. هذا الوصف من قتل الأنبياء يوضح صراحةً ان المعنيين هم اليهود.
والآيات 113 – 115 تستثنى من أهل الكتاب أمة مؤمنة تقية صالحة مصلحة؛ لاشك انها تقصد النصارى ورهبانهم لأنه يستثنيهم من اله الكتاب الفاسقين، قتلة الأنبياء، فضلاً عن ان احياء الليل ف يالسجود وتلاوة آيات الله فيه كانت عادة الرهبان النصارى لا عادة اليهود ، ولا عادة المسلمين الذين لم يتكوَّنوا بعد.
و"اعلم أنه تعالي مدح الامة المذكورة في هذه الاية بصفات
ثمانية : 1 قائمة أي مستقيمة عادلة 2- يتلون آيات الله :
وصفهم بالتهجد بالليل 3- الصلاة " وهم يسجدون" 4- يؤمنون
بالله واليوم الآخر، بالمبدأ و المعاد 5- يأمرون بالمعروف
6- ويتهون عن المنكر 7- ويسارعون في الخيرات 8- واولئك من
الصالحين؛ و الوصف بهذا غاية المدح" (الرازى) : يشهد اذن
بتقواهم العظيمة (يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)،
و صحة دينهم وايمانهم واسلامهم (يؤمنون بالله واليوم
الآخر) ، وغيرتهم على الاصلاح(يامرون بالمعروف وينهون عن
المنكر)، وعلي صلاحهم وكمالهم (يسارعون في الخيرات واولئك
من الصالحين) ، و يعدهم الجنة ( وما يفعلوا من خير فلن
يُكفروه).
عاشراً : القرابن علامة النبي الآتى : آل عمران 182
بعد ان حرّض على بذل النفس والمال في سبيل الله، وكان اليهود يصدّون عن ذلك لقولهم بعدم نبوّة محمد، شرع في حكاية شبهات القوم في الطعن بنبوّته:
181 الشبهة الاولى : لقد سمع الله قول الذين قالوا : إِنَّ الله فقير ونحن اغنياء [75]000
182 الشبهة الثانية : الذين قالوا : إِنَّ الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتي يأتينا بقربان تأكله النار - قل : قد جاءكم رُسُلُ من قبلى بالبّيِنات، وبالذي قلتم، فلَمِ قتلتموهم إِن كنتم صادقين؟ [76]
183 فإِن كذبوك فقد كُذّبِ رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزُبر و الكتاب المنير.
جاء وجهاء اليهود وعلماؤهم إلى محمد وقالوا له : ان الله عهد الينا في التوراة الا نصدّقَ نبياً حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وهذا شرط خاص لنا عليه، فلا نؤمن لك حتى تأتينا به. اجابهم : القربان من جملة المعجزات فهو وهي سواء؛ لقد جاءَكم الرسل بالمعجزات، وبالقربان الذي قلتم قتلتموهم إِن كنتم صادقين في طلبكم؟
مَن هو الرسول الذي جاء بعد موسى بالقربان المطلوب وقتله
اليهود؟ –
ليس من جواب في آل عمران انما نجده في سورة المائدة :
الرسول المذكور الذي اعطي القربان معجزة له ليصدّقوه هو
عيسى الذي أنزل عليهم المائدة من السماء؛ ولم تذكر التوراة
والانجيل و القرآن نبياً فعل ذلك بعد سكوت الوحي خمس مئة
سنة إلى المسيح ثم ست مئة سنة إلى محمد، سوى المسيح عيسى
ابن مريم كلمة الله وروح الله.
[1] "الرحمن" اسم الجلالة فى اليمن والحبشة، ممَّا يدل على أصلة المسيحي.
[2] ان الهجرة إلى الحبشة وسورة مريم حيث يكثر استعمال "الرحمن" دليل على ان محمداً فى الفترة الاولى من عهده بمكة كان تحت التأثير المسيحى. وفى هذه الفترة كان موضع كرازة النبى ايضاً اليوم الآخر، والتوبة، لا التوحيد، كما ابتدأ المسيح تبشيره، وكما كان يعظ المبشرون السوريون فى ما قبل عهد محمد بقليل، كالقديس أفرام والقديس يوحنا الذهبى الفم. فلولا وحدة الايمان بين محمد والنجاشي لما اودعه المؤمنين به. فلما زال هذا التأثير المسيحي وعقبه، فى الفترة الثانية من مكة، التأثير الاسرائيلى، مع قصص انبياء الكتاب الذى يملأ القسم الثانى من السور المكية، واضطر محمد إلى الهرب بنفسه، لجأ إلى الطائف ثم إلى المدينة حيث يكثر اليهود العرب. وقضية المؤثرات او الاقتباسات لا تطعن ضرورة فى صحة الوحى.
[3] الكلام عن يحي بن زكريا أوردناه لترى انه يختم قصة يحي كما يختم قصة عيسى.
"سلَّم الله عليه فى هذه الاحوال، على قول ابن عيينة، لانها اوحش المواطن" (الزمخشري)
[4] لا نعلق على ما يرد فى شأن مريم ام المسيح، فقد سبق ذلك، بل نكتفى بتفسير تعليم القرآن عن المسيح.
[5] آية 18 - تعدّدت القراءات : فالمصحف الاميرى: "لأهب لك" أى لأكون سبباً فى هبته بالنفخ فى درعك، ويجوز ان يكون حكاية لقوله سبحانه، ويؤيده قراءة ابى عمرو وابن كثيّر عن نافع ويعقوب بالياء "ليهبَ " (البيضاوى). وفى بعض المصاحف: "انما أنا رسول ربك، أمرنى ان أهب لك" (الزمخشرى) وإذن فإمّا "لأهب" فيكون الملاك واسطة المعجزة، وامّا "ليهب" فتكون المعجزة من الله مباشرة. "زكيّاً": من كّى بالنبوّة (الجلالان). طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير اى مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح (البيضاوى). لاحظ ان مولود مريم العذراء طاهر من الذنوب منذ البشارة بالحبل به.
[6] آية 20 - "آية للناس" علامة لهم وبرهانـاً على كمال قدرتنا (البيضاوى)، ميلاده الفريد آية شخصه ورسالته. أى هو آية الله للناس ليؤمنوا (رومة 1: 16 - 17). "ورحمة منا " للعباد يهتدون بإرشاده (البيضاوى) أى فى المسيح تتبدّى رحمة الله(قابل تيطس 3 : 4- 6).
[7] آية 23 "فناداها من تحتها" : يوجد غموض فى الضمائر : مَن نادى؟ قيل عيسى وقيل جبريل، والافضل الروح الذى يبشرها، والضمير فى "تحتها" يعود إلى مريم او إلى النخلة. انتقل الملاك مع مريم من محل البشارة إلى موضع الولادة قرب النخلة، وظل الحديث بينه وبينها. "من تحتها" من مكان اسفل من مكانها. "قد جعل ربك تحتك سريّاً " جدولاً، وقيل سيداً من السرو، والمراد عيسي، وعن الحسن: كان والله عبداً سريـاً (البيضاوى والزمخشري). والافضل جدولاً بسبب قوله "فكلي واشربي". قال الجلالان: ناداها جبريل وكان اسفل منها: لا تحزني قد جعل ربك تحتك نهر ماءٍ كان قد انقطع.
[8] آية 24 "تُساقِط" فيه تسع قراءات (الزمخشري)، والبيضاوى يعدّد سبعاً.
[9] آية 29 "قال انى عبد الله" قيل اكمل الله عقله واستنبأه طفلاً (الزمخشرى والبيضاوى) يدعمه قوله : "تكلّمُ الناس فى المهد" (آل عمران والمائدة): يذكر هنا معجزة نطق الطفل يسوع حال ميلاده لتبرئة امه. ويُسمّيه "عبد الله". وهذا لقب الأنبياء والاولياء فى الكتاب، قابل اعمال الرسل "فتاك القدوس يسوع" (4: 27 ، 30)، انطقه الله به لانه اول المقامات (البيضاوي) لا للرد على من يزعم ربوبيته أذ ليس فى النص ما يحملنا اليه. "آتاني الكتاب" الذى نزل قبله، ومن نزل عليه الكتاب صار "نبياً ":واللقبان "عبد الله والنبى" مترادفان. "جعلنى مباركاً" عن رسول الله ص: "نفّاعاً" وقيل "معلماً للخير" (الزمخشري). "واوصاني بالصوة والزكوة" زكاة المال ان ملكته، او تطهير النفس عن الرذائل (البيضاوى)."وبرّاً" عطف على مباركاً. وقرِئ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة، وعن ابى نهيك: جعل ذاته براً لفرط بره. "ولم يجعلنى جباراً شقيّا" متعاظماً عاصياً لربه (الجلالان)، شقيّاً عند الله من فرط تكبره. "والسلام علىّ" كما هو على يحي، والتعريف للعهد، والأظهر انه للجنس، والتعرض باللعن على اعدائه، والمعنى: ذلك السلام الموجه ليحي فى المواطن الثلاثة موجه اليّ (الزمخشرى).
وهكذا انتهت قصة عيسى كما انتهت قصة يحي بنفس الاسلوب وذات العبارة.
[10] آية 34 - هذا نص تفسيري مزيد على سورة مريم، ودليلنا اختلاف المعنى واختلاف الروى: فى الاول ايمان ليس فى الثانى، وفى الثانى جدال ليس فى الاول.ثم فى الآية 33 يقف الروي على الياء "حيّا" يقطعه روي مختلف على النون أو بديلها الميم ثم يعود إلى روي السورة كلها فى 41 "نبيّاً.
"قول الحق" لقب عظيم ذو معنى فخيم انفرد به المسيح فى القرآن. تعددت فيه القراءات والحركات: فعن ابن مسعود "قالُ الله"! وعن الحسن "قُوْل" بضم القاف - وكذلك فى الانعام قوله الحق - والقوَوْل والقال والقُول بمعنى واحد. وقرأ علي بن ابى طالب "الذى فيه تمتزون" على الخطاب. وعن ابى بن كعب "قول الحق الذى كان الناس فيه يمتزون". وقرئ قول بالنصب على المدح إن فُسّر "بكلمة الله"، وانه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد "قول الثبات والصدق": وانما قيل لعيسى "كلمة الله وقول الحق" لانه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها وهى قوله: كن من غير واسطة اب. ويحتمل، اذا أريد بقول الحق عيسى، ان يكون "الحق" اسم الله عز وجل، وان يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده قوله "الذي فيه يمتزون" أي أمره حق يقين (الزمخشري). وقرِئ "قول الحق" بالرفع، خبراً لمحذوف أي "هو قولُ الحق" الذى لا ريب فيه، والاضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة، وقيل صفة عيسى او بدله، أو خبر ثانِ ومعناه "كلمة الله. "سيمترون" يمترون يشكون ام يتنازعون فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله. (البيضاوى). وهكذا لقب القرآن المسيح "قول الحق" كما لقبه "كلمة الله".
[11] آية 35- "كن فيكون" بالرفع بتقدير هو، وبالنصب بتقدير أن "ومن ذلك خلق عيسي من غير أب" (الجلالان)، و"بالنصب على الجواب" (البيضاوى). "كذّب النصارى وبكّتهم بالدلالة على انتقاء الولد عنه اذ من المحال ان تكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد أى الحيوان الوالد" (الزمخشرى)، "تبكيت لهم بأن مَن اذا أراد شيئاً أوجده "بكن" كان منزّهاً عن شبه الخلق والحاجة فى اتخاذ الولد بإحبال الاناث"! (البيضاوى).
[12] آية 36 - قرأ المدنيون بفتح "ان" ومعناه "ولانه ربي وربكم فاعبدوه". وقرأ الاستار وابو عبيد بالكسر "ان" على الانبياء. وفى أبي "إنَّ" بالكسر بغير واو (الزمخشري)، هنا يستشهد القرآن على عدم بنوّة عيسى والهيته من قول المسيح نفسه عن الله انه "ربي وربكم" (يوحنا 20: 17) وذلك ما كان يردّده الآريوسيون والنساطرة ضدّ ألوهية المسيح.
[13] آية 37 - "فختلف الاحزاب": اليهود والنصارى (عن الكلي). وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: "الذين تحزّبوا على الانبياء لمّا قص عليهم قصة عيسى، اختلفوا فيه من بين الناس" (الزمخشرى). "اليهود والنصارى، او فرق النصارى: نسطورية قالوا انه ابن الله، ويعقوبية قالوا هو الله هبط ثم صعد إلى السماء، وملكانية قالوا هو ثالث ثلاثة، وموحّدون قالوا هو عبد الله ونبيهّ" (البيضاوى).
[14] آية 38 – صيغة تعجب بمعنى: ما اسمعهم وما اسمعهم وأبصرهم يوم يأتون فى الآخرة (الجلالان)، وقد كفروا بعيسى وامه (الزمخشرى).
[15] آية 57 - قالت قريش: النصارى اهل الكتاب وهم يعبدون عيسى ويزعمون انه ابن الله، والملائكة التى نعبدها (15, 19) أولى بذلك. و"المثل" هو الوعظة او القصة العجيبة تسير مسير الامثال. "اذا قومك" قريش. "يصُدّقون" بالكسر أي يضجونفرحاً، او بالضم من الصدود أي يعرضون عن الحق، وقيل هما لغتان (البيضاوى).
[16] أيه 58 - قالت قريش : نحن اهدى من النصارى لانهم عبدوا آدميّاً ونحن نعبد الملائكة، تفضيلاً لآلهتهم على عيسى. "أآلهتنا" بتثبيت الهمزة أو إمالتها. "ام هو" فى حرف ابن مسعود "أم هذا" ظأَي محمد، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخرية به والاستهزاء (الزمخشرى).
[17] آية 59 جواب على اعتراضهم فى آية 58: المسيح عبد، والملائكة أيضاً عبيد يقدر الله ان يخلقهم منكم كما خلق عيسى خلقاً عجيباً من أم بلا اب، وما عيسى "الا عبد" كسائر العبيد "انعمنا عليه" حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم وشرفّناة عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنى اسرائيل (الزمخشري).
[18] آية 60 "والمعنى ان حال عيسى عليه السلام وان كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو اعجب من ذلك. وان الملائكة مثلكم من حيث انها ذواتُ ممكنة، يُحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقُها ابداعاً فمن اين لهم استحقاق الالوهية والانتساب إلى الله" (البضاوى).
[19] آية 61 "وانه لَعلم للساعة" وان عيسى عليه السلام لَعِلمُ للساعة أي شرط من اشرطها تُعلم به فسمي الشرط علْماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس "لَعَلَمُ " وهو العلامة. وقُرئ "للعْلم". وقرأ أبي "وانه لذكرُ للساعة" على تسمية ما يذكر به ذكراً كما سُمّى ماَ يُعْلم به علماً. وعن الحسن: "ان الضمير للقرآن لان فيه الاعلام بالساعة" (الزمخشرى)- والقول الاخير بعيد الاحتمال لانه لا ذكر للقرآن فى المقطع المذكور.
[20] آية 63 - "بالبينات" بالمعجزات أو بآيات الانجيل أو بالشرائع الواضحات. "قال قد جئتكم بالحكمة" بالانجيل أو بالشريعة. "ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه" من آمر الدين (البيضاوى والزمخشري).
[21] آية 64 – "بيان لما آمرهم عيسى بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبّد بالشرائع". "هذا صراط مستقيم" اشارة إلى مجموعالامرين، وهو تتمة كلام عيسى صلىّ الله عليه وسلمّ، او استئناف من الله يدل على ماهو المقتضى للطاعة فى ذلك (البيضاوى).
[22] آية 65 – "فاختلف الاحزاب من بينهم" الفرق المتحزّبة من بين النصارى، او اليهود والنصارى من بين قوم المبعوث هو اليهم (البيضاوى). "الاحزاب" الفرق المتحزبة بعد عيسى، وقيل اليهود والنصارى. والضمير فى "من بينهم" يرجع إلى الذين خاطبهم عيسى فى قوله: "قد جئتُكم بالحكمة" وهم قومه المبعوث اليهم (الزمخشرى). ونقول "من بينهم" تعود إلى اليهود الذين كان المسيح يخاطبهم "فلا يتقون الله ولا يطيعون المسيح": لذلك "فالأحزاب الذين ظلموا" بكفرهم بالمسيح هم اليهود لا النصارى.
[23] آية 91- احصنت فرجها، اى مريم، إحصاناً كليّاً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت: "ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيّا". "فنفخنا فيها من روحنا" معناه نفخنا الروح فى عيسى وهو فيها أى أحييناه فى جوفها (الزمخشرى) وقيل فعلنا النفخ فيها من روحنا (البيضاوى) – راجع ما قلناه سابقاً فى تفسير هذه الآية حيث يحتمل ان يكون الروح فاعل النفخ أو مفعول لنفخ وهو الاصح كما يتضح من سورة النساء"كلمة الله القاها إلى مريم وروح منه" فالملفى والمنفوخ هو روح الله أى روح عيسى.
"آية للعالمين" الانس والجن والملائكة حيث ولدته من غير زوج (الجلالان) ولم يقل آيتين لان حالهما بمجموعهما آية واحدة وهى الولادة مع البتولية.
[24] آية 92- فيها ثلاث قراءات: إن هذه امتُكم امةً (حال)، وقرئ امتكم بالنصب على البذل من هذه وامةُ بالرفع على الخبر، وقرئنا بالرفع على انها خبران. ومعناه ان ملة التوحيد أو الاسلام ملنكم التى يجب ان تكونوا عليها غير مختلفة فيما بين الانبياء ولا مشاركة لغيرها. "امة واحدة" متحدة فى العقائد وأصول الشرائع متفقة على الايمان والتوحيد فى العبادة (البيضاوى).
[25] آية 93- نطن هذه الآية مدسوسة هنا اذ لا شئ فى السورة يستدعيها، وتذكر جدلاً مع الكتابيين لا وجود له فى مكة.
[26] آية 98- خَصَبُ جهنم او حطب او حضب جهنم ثلاث قراءات او ثلاث لغات (الزمخشرى).
[27] آية 101- "الحسنى" السعادة أو التوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة (البيضاوي) "إن الذين سبقت لهم الحسنى" مَن ذُكر فى السورة من الأنبياء (الجلالان).
[28] اسُباب عديدة تدعو إلى الاعتقاد بان مقطع النبى الأمي مدسوس على النص: (1) أنه يقطع حديث موسى (102 – 162) بحديث غريب عنه عن النبى الامي (156 – 158)؛ (2) في جواب الله على دعاء موسى تفاوت واختلاف : بلي سيكتب الله الحسنة للمؤمنين المتقين امثال موسى، ثم يعقب لقوله: اولئك هم الذين يتبعون الرسول وينصرونه، فيكون موسى بعيداً عنهم جداً! فهل يعقل ان يجيب الله على دعاء موسى بضرورة الايمان بمحمد وهو بعده باكثر من الفى سنه!! ثم اى حسنة تبقى لموسى؟؟ (3) والزيادة ظاهرة من إضافة "الانجيل" في جواب الله على دعاء موسى، فليس في دعائه ما يؤخذ منه أنه يَشْعر بمحمد او بالانجيل. (4) والزيادة ملموسة في الاسلوب المختلف عن اسلوب السورة. (5) واخيراً ما محل دعوة الناس إلى الايمان بمحمد في قصة موسى؟ (157)
[29] آية 156 – " النبى الامي" محمد (الجلالان) الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على ان كمال علمه مع حاله احدى معجزاته(البيضاوى) – هذا هو تفسير اللقب لغةً؛ اما اصطلاحاً عندهم عهو الذي لا يكتب و لا يقرأ الكتاب أي لا يؤمن به، اذن ليس من اهل الكتاب بل من "الامم" الذين ليسوا فيالمحيط الحجازى سوى العرب المشركين: فامّي هنا معناها عربى غير كتابّي
[30] أية 157 – "بالله وكلماته" : ما انزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ ( وكلمته) على الافراد، وهي القرآن او اراد جنس ما كُلم به. وعن مجاهد: اراد " عيسى ابن مريم" (الزمخشرى و البيضاوى) وهذا هو الاصح لانه لا معنى لايمان محمد بقرآنه!! فهذا بديهى!
[31] آية 84 – " ونوحاً هدينا من قبل" : نظنها مزيدة لان الكلام على ذرية ابراهيم لا على أجداده.
[32] آية 85 - هل ايوب من ذرية سليمان وداود وإبراهيم؟
[33] آية 89 – "اولئك الذي آتيناهم الكتاب" يريد به الجنس و "الحكم" الحكمة او فصل الامر على ما يقتضيه الحق" والنبوة، فان يكفر بها – أي بهذه الثلاثة –هؤلاء" يعني قريشاً" فقد وكلنا بها – أي بمراعاتها- قوماً ليسوا بها لكافرين، هم الانبياء المذكورين ومتابعوهم او قيل هم الانصار واصحاب النبي او كل من آمن به او الفرس و قيل الملائكة" (البيضاوى)؛ "هؤلاء" اهل مكة00 قوماً ليسوا بها بكافرين هم المهاجرون والانصار"! (الجلالان). ونقول كلا ثم كلا انما هم انبياء اهل الكتاب الذين يذكرهم؛ فهل يُطلب من النبي ان يقتدى بهدي الانصار و المهاجرين؟!! قال الزمخشرى: هؤلاء يعنى اهل مكة، "قوما" هم الانبياء المذكرون ومن تابعهم بدليل قوله"اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه او بدليل وصل قوله" فان يكفر بها هؤلاء "مما قبله". وجملة "فإن يكفر 000" اعتراضية.
[34] آية 13 – " والذى أَوحينا اليك" اعتراضية وربما مزيدة. "كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" من التوحيد (البيضاوى)
[35] آية 14 – يري الزمخشرى ان هذه الآية تقصد أَهل الكتاب : فالذين " تفرقوا" هم أّهل الكتاب بعد انبيائهم، "وان الذين أُورثوا الكتاب من بعدهم" هم اهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول ص." و البيضاوى يرى ذلك ويرى انها تعني اولاَ "الامم السالفة او قيل اهل الكتاب، وان الذين اورثوا الكتاب من بعدهم يعنى اهل الكتاب في عهد الرسول، أًو المشركين الذين اورثوا القرآن من بعد اهل الكتاب". – لذلك اذا قصُد بهذه الآية أَهل الكتاب " وما تفرَّقوا" فنحن نراها مزيدة هنا لتجمّع الكتابين إلى المشركين في رفض توحيد القرآن. والافضل ان نرى ان الضمير في "تفرقوا" يعود إلى المشركين الين يخاطبهم فب 13 فيكون المعنى : ان المشركين تفرقوا عن محمد وتعليمه والكتابيين شكوا.
[36] آية 15 – جواب للمشركين على كفرهم ثم للكتابيين على شكهم
[37] ينسب هذا الخلاف الي((بغي)) المختلفين (آل عمران) حسداً بينهم وطلبا منهم للرئاسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً يطئون اعقابهم لا شبهةً في الاسلام (الزمخشرى).
[38] آية 87 – قال الجلالان : "البينات: المعجزات كإحياء الموتى وابراء الاكمة والابرص (وايدناه) قوينا (بروح القدس) من اضافة الموصوف إلى الصفة، إى الروح المقدسة جبريل، لطهارته يسيسر حيث سار". وقال البيضاوى: "و(عيسى) بالعبرية (إِيسوع)؟ ومريم بمعنى الخادم (؟).
(البينات) المعجزات الواضحات كإحياء الموتي وابراء الاكمة والابرص والاخبار بالمغيبات، او الانجيل. (وأيدناه أو آيدناه) قويناه (بروح القدُس) وقرأ ابن كثيّر " بروح القدْس" بالاسكان في جميع القرآن، أي بالروح المقدسة، اراد به جبريل، او روح عيسى – ووصفها به لطهارته من مس الشيطان أو لكرامته على الله تعالى ولذلك اضافها إلى نفسه تعالى أو لاه لم تضمّه الاصلاب ولا الارحام الطوامث – او الانجيل، او اسم الله الاعظم الذي كان يحيي به الموتىّ ((ففريقاً كذبتم)) كموسى وعيسى ، و الفاء للسببية او التفصيل ( وفريقاً تقتلون)) كزكريا ويحيي. وانما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراّ لها في النفوس او للدلالة على استمرارها ومراعاة للفواصل".
قال الزمخشرى : "وقيل (عيسى) بالسريانية أيشوع و(مريم) بمعنى الخادم. (البينات المعجزات الواضحات و الحجج كإحياء الموتى و ابراء الأكمة والابرص والاخبار بالمغيَبات. (بروح القدس) أًي بالروح المقدسة – ووصفها بالقدس كما قال ، "وروح منه" فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة، وقيل لأنه لم تضمّه الأصلاب ولا أرحام الطوامث – وقيل بالانجيل كما قال في القرآن " وروحاً من أمرنا" ؛ وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يُحيي الموتى بذكره".
قال الرازي: "ابن مريم" إن مريم في لغتهم العابدة؛ "وأَيدناه بروح القدس" : فيه مسألتان (المسألة الأولى) "القدس" تثقّله اله الحجاز وتخففه تميم، (المسألة الثانية) في تفسيره أًقوال: الاول قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام: والذي يدل على ان روح القدس جبريل عليه اسلام قوله تعالى :" قال نزَّله روح القدس" والرازى على هذا الرأي؛
والقول الثانى وهو المنقول عن ابن العباس: ان روح القدس هو الاسم الذي كان يُحيي به عيسى عليه السلام الموتى؛ والقول الثالث وهو قول ابي مسلم : ان روح القدس الذي ايده به يجوز ان يكون الروح الطاهرة التى نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خَلَق من اجتماع نطفتي الذكر والانثي" (راجع تفسيره للايه 253 الآتيه) وفي غير موضع : وكان جبريل عليه السلام لا يفارقه ساعة وهو معنى قوله : " وأَيدناه بروح القدس" (54).
ونقول : قال بعضهم ذهب محمد ولمّا يدْر ما الروح؛ وكذلك مفسّرو القرآن : فليس روح القدس روح عيسى التي نفخها الله تعالى فيه كما قال ابو مسلم: فالتأييد للمسيح بالروح القدس حاصل له بعد وجوده، فالروح القدس اذن غير روح عيسى؛ وهب ان ما زعم حقّ فلن يبقى في الآيه نكته من اختصاص عيسى بميزة فضّله الله بها على غيره (87)، وهو يذكرها ايضاً حيث يذكر فضائل الانبياء بأفضال الله عليهم(253)؛ وليس هو جبريل – وقد سموه كذلك على المشاكلة تشبيها له بحال محمد مع الموحى اليه – ولو ورد اسم جبريل موصوفاً بروح القدس في قوله " قل نزَّله روح القدس" فهي هنا صفة ظاهرة لجبريل الموحي اليه، وأَما عن المسيح فهي اسم ذات غيرهما. والمعلوم من التوراة والانجيل والقرآن ان الملائكة كانت واسطة الوحي بين الله والانبياء، فتخصيص المسيح بتأييد جبريل لا يفيد معنى التخصيص المطلوب وتفوت النكتة المقصودة؛ وليس هو الانجيل، فهو غير وارد، او غير معقول اذ يصير روح القدس فاعلاً ومفعولاً معاً ، والانجيل مؤيّدِاً ومؤيّدا. – فروح القدس اذن الذي به أّيّد الله المسيح هو ذاتُ قائمة بنفسها غير ما ذُكر: وهي " روح الله" كما قال الحسن، " و الذي كان يُحيي به عيسى الموتي" كما قال ابن عباس. فالروح القدس هو "الامم الاعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى" ويصنع المعجزات.
[39] قال الزمخشرى (بقرة 253): "وأما قوله" وآتينا عيسى بن مريم البينات" فإنما اختار لفظ المخاطبة لأن الضمير في قوله (وآتينا) ضمير التعظيم، وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الايتاء – لِمَ خص موسى وعيسى من بين الانبياء بالذكر وهل يدل ذلك على انهما أفضل من غيرهما؟ والجواب سبب التخصيص ان معجزاتهما أبهر وأقوى من غيرهما – وتخصيص عيسى ابن مريم بالبينات يدل أو يوهم ان ايتاء البينات ما حصل في غيره، أو خصهما بالذكر لأن تلك البيّنات اقوى عنده من غيره". على هذا يورد الزمخشرى قول من قال : لن بينات موسى اقوى من بينات عيسى فأن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة! – وهل في معجزات موسى ما يدانى غحياء الموتى و المقدرة على الخلق وهما من خصائص الخالق؟ لذلك خص القرآن المسيح وميزه على سائر الانبياء" بالبينات وتأييد الروح القدس".
[40] أية 135- كلن ابراهيم في السورة المكية مؤمنا، فصار في البقرة حنيفاً، وفي آل عمران يكون مسلماً(67):فالخلاف على الملّة وأَيهم احق بالانتساب إلى ابراهيم.
[41] أية 136- الخلاف ايضا على نبوّة اسماعيل وعيسى: فالقرآن يؤمن ليس فقط بالانبياء الذين يقبلهم اليهود بل ايضا بالذين لا يقبلونهم مثل عيسى نبي النصارى واسماعيل نبى العرب الاقدمين: لا يفرقّ بين احد منهم فكلهم في توحيد الاسلام سواء.
[42] أية 137 – "بمثل ما آمنتم به" : المعنى ان تحَروّا الايمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم فقد اهتدوا فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدّد الطرق و "المثل" مقحم كما في قوله " وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله" أَي عليه؛ ويشهد له قراءة "بما آمنتم به أَو بالذي آمنتم به" (البيضاوى).
"فإنما هم في شقاق" في خلاف (الجلالان) أي في مناوأَة ومعاندة لا غير
(الزمخشرى) لاحظ انه لا يقول في كفر. والأية 139 تبين ان الخلاف في طريق العبادة ليس خلافاً في الدين والتوحيد.
[43] آية 138 – "صبغة الله" مصدر مؤكد منتصب عن قوله "آمنا بالله" وهي فعلة من (صَبَغ) كالجلسة من جلس وهي الحالة التى يقع عليها الصبغ. والمعنى تطهير الله بالايمان لأن الايمان يطهّر النفوس. والاصل فيه ان النصارى يغمسون اولادهم في ماء اصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم، واذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً حقاً! فأمر المسلمين ان يقولوا لهم : آمنا بالله وصبغنا الله بالايمان صبغةً وطهرنا به تطهيراً. وانما جئ بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة (ومَن احسن من الله صبغةً) يعنى انه يصبغ عباده بالايمان ويطهرهم به من اوضار الكفار فلا صبغة احسن من صبغتِهِ (الزمخشرى).
وقال البيضاوي: "أي صبغنا الله صبغته أو هدانا هدايته أو طهّر قلوبنا بالايمان تطهيرة. وسماه (صبغة) لأنه ظهر أثرة عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغِ الثوبِ. أو للمشاركة فإِن النصارى كانوا يغمسون اولادهم في ماء اصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم. ونصبها على انها مصدر مؤكد لقوله آمنا، وقيل على الاغراء وقسل على البدل من ملة إبراهيم".
ويظهر لي ان هذه الآية مزيدة هنا من وقت آخر لأن اقحامها فيه سبب تفكيك للنظم وسوء الترتيب واخراج الكلام عن التئامه وانتساقه(راجع الزمخشري)، فان الحديث كله (136 – 141) جواب لليهود، وليس فيه جواب للنصارى، فاقحمتْ جواباَ لهم: صبغةُ الله بالايمان أفضل من صبغة العبد بالماء!
[44] آية 139 – تورد سبباَ ثالثا للخلاف وهو على عبادة الله: لنا اعمالنا ولكم اعمالكم. يقول : الله واحد، وهو ربنا وربكم، وان اختلفت طرق العبادة، "لنا اعمالنا ولكم اعمالكم" اذ ليس من الضرورى لصحة الدين والايمان والتوحيد طرق العبادة. وقد يكون الخلاف على ادعاء ضرورة اليهودية او النصرانية على الانبياء فلا يكون نبياً من غيرهم : الكل عنده سواء فهو يصطفى من يشاء.
[45] أية140 – تورد سبباً رابعاً للخلاف : صحة انتساب كل ملة من الثلاث الي إبراهيم، فليس انتساب النصارى واليهود إلى الآباء باصح من انتساب المسلمين لأنهم كما يقول كانوا قبل الانجيل والتوراة، وعيسى وموسى.
[46] آية 141 – ختام الجدال: على كل حال ليس الانتساب في صحة النسب بل في صحة الايمان والعمل: لهم ما كسبوا ولنا ما نكسب فلا تزر وازرة وزر اخرى.
[47] آية 253 – " فضلنا بعضهم على بعض" تقرير مبدإِ التفضيل "بتخصيصه بمنقبة ليست لغيرة" (الجلالان والبيضاوى) " منهم مَن كلم اللهُ" وقرئ مَن كلّمَ الله أو كالّم الله، وهو موسى، وقيل موسى ومحمد، ولكن كيف رأوا فيه محمداً وكيف راوه ايضاً في الثانية " ورُفع بعضهم درجات"؟ فمن هو هذا المرفوع درجات على غيره؟ قيل هو محمد وقيل إبراهيم خصصه بالخلة التي هي اعلى المراتب، وقيل ادريس عليه السلام لقوله " ورفعناه مكانا عليّاً" وقيل اولو العزم من الرسل؛ وفي حديث عن ابن عباس انه يحيي. واتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" خصه بالتعيين لافراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله لانها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره" (البيضاوى). وهذا التفسير ينقض زعم من قال مع الزمخشرى: "تحصيص عيسى ابن مريم بإيتاء البينات يدل او يوهم ان ايتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم ان ذلك غير جائز. فإن قلتم انما خصها بالذكر لأن تلك البينات اقوى! فنقول ان بينات موسي عليه السلام اقوى من بينات عيسى عليه السلام فأن لم تكن اقوى فلا اقل من المساواة" (آية253) – فنجيب ان تخصيص عيسى بالبينات مع تعميمها على سائر الانبياء يوحى بأن بيناته أقوى حتى اختص بها كما قال البيضاوى.
وقال الرازي " ان الضمير في قوله "آتينا" ضمير التعظيم وتعظيم المؤتي يدل على عظمة الايتاء وقد خص عيسى و موسى بالذكر مما يدل على انهما افضل من غيرهما". وقال الزمخشرى : "خصص عيسى و موسي من بين الانبياء بالذكر لما اوتينا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بيّن وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهذا دليل بيّن ان مَن زيد تفضيلاً بينهم بالآيات فقد فُضل على غيره".
[48] أية 18 – "أولو العلم" هم اهل الكتاب لمعرفتهم الوحي، كما انه يسمّي المشركين " الذين لا يعلمون" لأنهم لا يعرفون الكتاب.
[49] آية 19 – "الذين اوتوا الكتاب" من اليهود و النصارى (الجلالان والبيضاوى والزمخشرى). وعندى انه يقصد هنا اليهود وحدهم اذ خصهم بقتل الانبياء(21). "ان الدين عند الله الاسلام" : الشرع المبعوث به الرسل المبنى علي التوحيد (الجلالان). " وما اختلف الذين اوتوا الكتاب" في دين الاسلام فقال قوم انه حق وقال قوم انه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً. أو في التوحيد" (البيضاوي). واضاف الزمخشرى " هو اختلافهم في نبوة محمد وقيل هو اختلافهم في الايمان بالأنبياء". وعندي ان موضوع الخلاف ظاهر: هو على الاسلام(19) لا على التوحيد (18) اذن هو على طريقة عبادة الله الأحد أي على شرع او دين الاسلام لا على عقيدة الاسلام أو توحيده.
[50] آية 20 – "الاميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب (الزمخشرى) ومنه النبي الأمي.
[51] آية 39 – آل عمران "مصدقاً بكلمة من الله" أي بعيسى سمّي بذلك لنه وُجد بامره تعالي دون اب فشابه البدعيات التي هي عالم الامر. او بكتاب الله (البيضاوى). "يحيي اسم اعجمي، وهو الظاهر، مُنع صرفه للتعريف والعجمة. (مصدقاً بكلمة من الله) مصدّقاً بعيسي مؤمناً به، قسل هو اوّل من آمن به، وسمّي عيسي كلمة لانه لم يوجد الا بكلمة الله وحدها وهي قوله : "كن!" من غير سبب آخر. وقيل مؤمنا بكتاب منه تعالي"(الزمخشرى).
وقال الرازى " كلمة من الله" : أي كتاب من الله وهو قول ابي عبيدة، واختيار الجمهور أَنَّ المراد بكلمة من الله هو عيسي. وقال ابن عباس ان يحيي كان اكبر سناً من عيسي بسته اشهر وكان يحيي اول من آمن وصدّق بانه كلمة الله وروحه ثم قُتل يحيي قبل رفع عيسي. وسمي عيسي كلمة الله من وجوه : 1) أنه خلق بكلمة الله وهو قوله كن من غير واسطة الأب كما يسمّي المخلوق خلقاً وهو باب مشهور في اللغة؛ 2) انه تكلّم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمّي كلمة أي كاملاً في الكلام؛ 3) ان الكلمة كما انها تفيد المعانى والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والاسرار الالهية كما سمي القرآن روحاً؛ 4) لانه حقق كلمة بشارة الانبياء به كما قال وحقق كلمة ربك؛ 5) إِن الانسان يسمّي "فضل الله ولطف الله" فكذا عيسي عليه السلام كان اسمه العَلَم "كلمة الله" و" روح الله". واعلم ان كلمة الله هي كلامه؛ وكلامه على قول اهل السنة "صفة قديمة قائمة بذاته". والرازى يرفض المعنى الأخير لأنه يستحيل ان يقال ان كلمة الله القائمة بذاتها هي ذات عيسي؛ ولا نعلم لماذا يستحيل ذلك والله هو الموحي به! واضاف في آل عمران 45 : سمّي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز، او لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان
"سيداً". قال القاضي: هو المتقدمّ المرجوع اليه في الدين فيدخل فيه جميع الصفات؛ وقال الزمخشرى: السيد هو الذي يسود قومه أَي يفوقهم في الشرف وكان يحيي فائقا لقومه وفائقاً للناس كلهم في انه لم يركب سيّئة قط. "حصوراً" لا بمعنى المفعول بل بمعنى الفاعل وهو اختيار المحققين، وهو الذي لا ياتى النساء للعفة والزهد لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها. "احتجّ اصحابنا بهذه الآية على ان ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح" (الرازي) ؛ 45- 47 سبق تفسيرها: إِن الملاك يصف لمريم شخصية مولودها الفريدة : أربعة ألقاب تعنيه : كلمة منه تعالى – اسمه المسيح – عيسى ابن مريم؛ وأربع صفات تظهره : وجيهاً في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة – ومن المقربين في السماء بالجلسة ومشافهة الحق – ويكلّم الناس في المهد كلام النبوة كما يكلمهم كهلاً – ومن الصالحين الكاملين الخالدي الذكر. قال الزمخشرى: "لَمِ قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثة اشياء الاسم منها عيسى، واما المسيح والابن فلقب وصفه؟ – الاسم للمسّمى علامة يعرف بها ويتميّز بها من غيره فكانه قيل الذي يُعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة" كذلك الرازى والبيضاوى. – نقول حلّت هذه الالقاب والنعوت محل الاسم لشهرتها ومعرفته بها.
لاحظ في النص تعبيره" بكلمة منه" : فقوله منه يدل على المصدر الذي صدر منه الكلمة لا على التبعيض كما يُظَن ودحضه الرازى؛ وليس فقط كما يقول هو لابتداء الغاية فكل ارواح المخلوقين يصح فيها "من" الابتدائية، والمسيح اختص دونهم بهذه الصدور. ولو كان هذا التعبير "كلمة منه" تعني خلق المسيح بامر الله، لصح ان يطلق هذا الاسم على جميع المخلوقين لانهم كلهم خلقوا بامر الله. ولكن انفرد المسيح بهذا اللقب، وسماه القرآن بهذا الاسم بسبب ميزة الصدور الوحيدة التي بها صدر "من" كروحه وكلمته.
[52] آية48 – فيها قراءتان : يُعلمه أو نُعلمه. "والكتاب ، الكتبة او جنس الكتب المنزلة، وخص الكتابان لفضلهما" (البيضاوى) ؛ والرازي على التفسير الاول وهو بعيد الاحتمال. وإنما عنى اولا حنس الكتاب المنزل والحكمة المنزلة ثم خص الكتابان.
[53] آية 49 – " ورسولاً" على مَ تُحمل؟ " هو من المضائق" (الزمخشرى)، "منصوب بمضمر او بالعطف على الاحوال المتقدمة" (البيضاوى),
"الى بنى اسرائيل" وتخصيصهم لخصوص بعثته اليهم. " قد جئتكم بأية" المراد الجنس لا الفرد.
"اخلق لكم" جميع المفسرين يخففون من قوة اللفظ في تفسيرهم فيقولون "اقدّر لكم شيئا مثل صورة الطير" والخلق هو التصوير والتقدير وذلك لانه ثبت ان العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والابداع فوجب تفسيره كونه خالقاً بالتقدير" (الرازي والزمخشري والبيضاوي). –نقول يجب حمل اللفظ على معناه الاصلي البديهي لا ان نتحامل عليه ونتمحّل له ما نريد؛ ومقدرته على "احياء الموتي" تؤيد حمل الخلق علي اطلاقه.
"انه حكي ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسي. وروي انه عليه الصلاة و السلام ربما اجتمع عليه خمسون الفاً من المرضى من أطلق منهم أتاه ومًن لم يطلق اتاه عيسى، وما كانت مداواته الا بالدعاء وحده" (البيضاوى)؛ فأبرأ في يومٍ خمسين الفاً بالدعاء، بشرط الايمان" (الجلالان). والمفسرون يمرون مرور الكرام على "إحياء الموتي" ومدلولها العجيب.
[54] 50 – "وجئتكم بآية منر بكم" شاهدة على صحة رسالتى وهي "ان الله ربي وربكم" لان جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه. وقرِئَ على الفتح (أن) على البدل من آية. وقوله "فاتقوا الله واطيعون" اعتراض000
"ومصداّقاً لما بين يديّ من التوراة" : يجب على كل نبي ان يكون مصدقاً لجميع الانبياء عليهم السلام، لأن الطريق إلى ثبوت نبوّتهم هو المعجز، فكل من حصل له المعجز وجب الاعتراف بنبوته فلهذا قلنا بان عيسى عليه السلام يجب ان يكون مصدقاً لموسي بالتوراة؛ ولعلّ من جملة الاغراض في بعثه عيسي اليهم تقرير التوراة وأزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين (الرازي).
ولكن هلى في قوله ذاك تعارض مع قوله هذا : و "لأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم"؟ – إِن الناسخ والمنسوخ في الاحكام العملية كلاهما حق وصدق، والتصديق للتوراة لا معنى له الا الاعتقاد بان كل ما فيها حق وصواب.
[55] آية 52 – يذكر القرآن ايمان الحواريين بالمسيح وكُفْر باقى اليهود به بل مؤامرتهم لاغتياله (54).
وينقل لنا الرازى روايات متعددة عن آخرة المسيح وما كان أحراه بنَقْل رواية الانجيل كما ينقل منه معجزة صيد السمك في اسباب ايمان التلاميذ به. ومن اسباب كفرهم به أنه دعاهم إلى دين الله فتمردوا، او عرفوا فيه المسيح الذي يبطل من شرائعهم فتآمروا عليه.
"من أنصارى إلى الله" قيل "الى " بمعنى مع أو في اللام (البيضاوى)، وهذا القول كان في أَول أمره أو حين اختفائه عنهم أو في آخر آمره. ونصرة الله محال فالمراد اذن نصرة دينه وأنبيائه (الرازى)؛ و الباعث على طلب النصرة اقدامهم على دفْع الشرّ عنه. "قال الحواريين" وهؤلاء الحواريون مَن كانوا؟ ينقل الرازى الآراء المختلفة :كانوا من الملوك أِو من صيادى السمك أَو من القصّارين أَو من الغسالين أَو من هؤلاء جميعاً". هم أَعوان دينه، واصفياؤه واول مًن آمن به وكانوا اثنى عشر رجلاً؛ والاسم مشتق من الحَورَ وهو البياض (وكذا جميع المفسرين في اصل اللفظ، و يحمل معه دلالته على الاصل الآرامي)، وقيل كانوا قصّارين يحورّون الثياب أي يبيضونها" (الجلالان)، " وسمّي به اصحاب عيسى لخلوص نيتهم ونقاء سيرتهم؛ وقيل كانوا ماوكاً يلبسون (الثياب) البيض استنصر بهم عيسى" (البيضاوى)؛ " وحواريّ الرجل صفوته وخالصته وفي وزنه الحواليّ وهو الكثير الحيلة" (الزمخشرى).
"آمنا بالله" يجري مجري ذكر العلة في نصرتهم له. "واشهد بانّا مسلمون" فيه قولان : اشهدْ بأنّا منقادون لما تريد ولأمر الله، أَو إٍن ذلك اقرار منهم بأن دينهم الاسلام وأَنه دين كل الأنبياء. واعلم أنهم لمّا أشهدوا عيسى على ايمانهم وعلى اسلامهم تضرّعوا إلى الله (الآية 53) مؤمنين بالله، وكُتب الله، ورسول الله؛ وعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب " فاكْتُبنا مع الشاهدين" لك بالتوحيد ولأنبيائك بالنبوّة؛ وعن ابن عباس : في زمرة الانبياء. أًو ممن يكون في شهود جلالك مستعدّاً للشهادة بالدم (عن الرازى).
[56] أية 54 – "ومكروا" همّوا بقتله "ومكر الله" من باب حمل المعنى على لفظ ما قبله، ومكر اله بان رفع عيسي إلى السماء فلم ينالوه. ولفظ المكر في حقه تعالى من المتشبهات، ولكن ليس كذلك حسب المعنى لنه عبارة عن التدبير المحكم ثم اختص في العرف بايصال الشر. (عن الرازى).
[57] أية 55 – "يا عيسي إنى متوفيك" ونظيره قوله " فلما توفيتنى" (المائدة117).
"اختلف اهل التأويل في هاتين الايتين على طريقين (احدهما) اجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير فيها، (والثاني) فرض التقديم والتأخير. اما الطريق الأول فبيانه من وجوه: 1ً اني متمّم عمرك إلى اجلك؛ 2ً متوفيك أي مميتُك وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق، قالوا مع وهب : توّفيّ ثلاث ساعات ثم رفع، ومع محمد ابن اسحاق : توفي سبع ساعات ثم احياه الله ورفعه؛ 3ً قال الربيع بن أنس : انه تعالي توفاه حين رفعه إلى السماء؛ 4ً تُحمل الافاظ على ظاهرها من موت ورفع، ولكن كيف يفعل ؟ ومتي؟ فلا يذكره؛ 5ًمتوفيك عن شهواتك ؛ 6ً التوفي هو أخذ الشئ وافياً أي كاملاً بجسده وروحه؛ 7ً متوفيك : أي اجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك؛ 8ً التوفي هو القبض يقال توفي واستوفى وهو رفعه؛ 9ً ان يُقدَّر حذف المضاف أي متوفى عملك.- والطريق الثانى : لابد من تقديم وتأخير في الاية (فالواو) لا تفيد الترتيب، يقدَّم الرفع وتؤخر الوفاة وتحمل على ظاهرها بالموت. واهلم ان الوجوه التي قدمنا تغنى عن التزام مخالفة الظاهر"(الرازى). – فهكذا نرى الرازى وافضل المفسرين يحملون الوفاة على المعنى الوضعى الحقيقى لا المجازى.
وقال الجلاالن : "اني متوفيك" اني قابضك أي رافعك؛ والبيضاوى: "مستوفي اجلك ومؤخرك إلى اجلك المسمّي، او قابضُك من الارض؛ او متوفيك نائماً، اذ روي انه رفع نائماً؛ او مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وةقيل اماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء واليه ذهبت النصارى"؛ والزمخشرى : مشتوفي اجلك ومميتك حتف انفك.
وهكذا فالأكثرية من المفسرين تقول ان الآية تشهد بموت المسيح وإحيائه ورفعه. "وجاعل الذين اتبعوك". من هم؟ قال الزمخشرى : ومتابعوه هم المسلمون لانهم متبعوه في اصل الاسلام وان اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه او كذبوا عليه من اليهود والنصارى" – تفسير مغرض! وقال البيضاوى : ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى. وكذلك الجلالان.- ونقول لا محل لذكر المسلمين.
[58] أية 56 –57 تفصسل الحكم على المؤمنين بعيسى و الكافرين به (الزمخشرى والبيضاوى).
[59] آية 58 – "الذكر الحكيم" فيه قولان : (الاول) المراد منه القرآن، و(الثاني) غير القرآن. وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الانبياء؛ أخبر انه تعالى انزل هذا القصص عما كتب هنالك. والله اعلم بالصواب؛ كذلك البيضاوي. والجلالان والزمخشرى على الاول. وعندنا انه الكتاب المقدس.
[60] آية 59 – إِن شأن عيسي الغريب عند الله كشأن آدم في حلقه من غير أُم ولا أب وهو من تشبيه الغريب بالأغراب ليكون أقطع للخصم وأَوقع في النفس (الجلالان). صفة عيسي كصفة آدم و نظيره.
"خلق آدم" هنا من تراب . وفي غيرها من الماء " هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراَ" وفي غيرها من الطين " وبدأ خلق الانسان من طين". وفي غيرها " من سلالة من طين" أي مسلولة من ألطف أجزاء الطين وفي غيرها " من طين لازب". وفي غيرها من " صلصل ، من حما مسنون" والصلصال اليابس الذي له صوت ، والحمأ الذي استقر في الماء مدة وتَغير لونه ورائحته. ولهم اجتهادات في توفيق الآيات الواردة. "ثم قال له كن فيكونَُ" قال الرازى : " في الآية اشكال وهو انه كان ينبغي ان يقال : كن فكان. والجواب تأويل الكلام".
[61] آية 60 – "الحق" خبر مبتدأ محذوف أًي أًمر عيسي، قصته، خبره. والحق المذكور هو ما ورد في الآية السابقة من خلق عيسي كخلق آدم في المعجز، وفي الخلق ذاته يفسرها في الآية 62 : عيسي مخلوق لا اله.
[62] آية 61 – اذا امتنعوا عن الاقرار بخلق عيسي، يدعوهم إلى المباهلة أي إلى لعن الكاذب، والبَهلَة اللعنة.
[63] آية 62 – إِن خلق عيسي لهو القصص الحق فما من إله الا الله لا أحد يساويه فب القدرة التامة و الحكمة البالغة ليشاركه في الالوهية (البيضاوى). وهو جواب لهم : فقدرة عيسي محدودة بخلاف الله.
[64] آية 63 – "إِن الله عليم بالمفسدين" وضع المظهر موضع المضمر ليدل على ان التولَي عن الحجج والاعراض عن التوحيد فساد للدين والاعتقاد.
[65] آية 64 – "قل يا أَهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءً" (وقرأ الحسن سواءً بالنصب) : دعوة لاهل الكتاب إلى الاتفاق على التوحيد الخالص. وقد تكون دعوة خاصة بالنصارى للجدل السابق بحق عيسي. وقد تكون عامة لليهود والنصارى، بانقطاع الحديث السابق واستئناف غيره. وقد تكون خاصة بأهل نجران او يهود المدينة – في الايتيين 61، 62 الخطاب وإن كان مع محمد فالمراد به الكل.
"إلى كلمة سواء" المعنى هلموا إلى كلمة فيها انصاف من بعضنا لبعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء هو العدل والانصاف وذلك لأن حقيقة الانصاف اعطاء النصف مساوياً بين نفسه وبين غيره: جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل (الرازى)
"واشهدوا بأنّا مسلمون" يعنى اظهروا أَنكم على هذا الدين ولا تكونوا في قيد ان تحملوا غيركم عليه (الرازى).
[66] - ليس مثل أدم كمثل المسيح من حيث المعجزة وخرق العادة الطبيعية: آدم خلق بدون معجزة اوجده الله بدون اسباب مقرّرة؛ أما وجود عيسي ضمن قانون التسلسل البشرى وفوق العادة المقررة فهى المعجزة الدالة على كرامة خاصة له عند الله لم ينلها نبي سواه.
[67] - احتجاج المفسرين لتسمية المسيح "الكلمة" أنه مأخوذ من قوله "كن، فيكون" غير وارد لأن قوله "خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون" هو مفسر لخلق آدم بدليل قوله "من تراب" لا لوجود المسيح.
[68] آية 79 – " ما كان لبشر" المقصود منه النفي لا النهى. انما أراد تكذيب النصارى في ادعائهم ان عيسي قال لهم اتخذوني الهاً (الرازى). "الكتاب والحكم والنبوة" : الوحى وفهمه وتبليغَه (الرازى) يختلفون كثيراً في فهم معنى "الحكمة" او "الحكم" وقد ورد اللفظان. – تقول انها اسماء اسفار من الكتاب حسب تسمية اليهود.
"الربّاني" نسبة إلى الرب بزيادة الف ونون (الزمخشرى) وهو الذي يَعْلَم ويعلّمِ كتاب الرب. "تعلمون" فيه قراءَتان، تعْلمُون بالتخفيف من العلم، وتعلَمِون من التعليم بالتشديد : وكلاهما صواب (الرازى).
[69] آية 80 – "ولا يأمركم" قالوا يامركم بالرفع على الاستئناف، وقالوا بالنصب عطفاً على "يؤتيكم". قالوا (لا) زائدة، وقالوا ثابته، وقرأوا : ولن يأمركم. من هو فاعل يأمر؟ الله؟ ام محمد ام عيسي ام الانبياء؟ (عن الرازي). نقول هو البشر المُرْسل في الآية 79 كما يقول البشاوى – ولمن الخطاب في الآية 80؟ الذين يعبدون الملائكة، قيل هم الصابئة (الجلالان)؛ أم قريش، يسمون الاهاتهنم بنات الله ويقولون انهنَّ ملائكة (الزمخشرى). وعندنا ان الخطاب كله في79 و 80 لأهل الكتاب عن موقفهم من عبادة او تكريم الملائكة والانبياء، وقوله " ربانيين تعلمون الكتاب" تكفي شاهداّ ودليلاً، فالربانيون هم علماء الناموس أي التوراة.
"أيامركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون" : زعم الزمخشرى والرازى والبيضاوى ان الخطاب للمسلمين وهم المُسْتَأذنون لأن يسجدوا لمحمد؟! لا نستغرب ذلك منهم يحوّلون هذه الشهادة الصريحة باسلام اهل الكتاب إلى امتهم : انه لا يجوز لسامع القرآن ان يستأذن محمداّ بعبادته، فالكلام كله اذن عن أهل الكتاب، وجدالهم في اكرام عيسي والانبياء والملائكة. والمقصود نفي عبادة عيسي(79) واكرام الملائكة والانبياء اكراماً ربانياً " وهو ادنى من العبادة" والنهي عنه (عن البيضاوى).
[70] آية 83- الاسلام مفروض طوعاً وكرها على السماوات والارض: كل ما فيها يشهد بتوحيد الله فكيف يبغون غير هذا الدين!.
[71] آية 84 – "لا نفرق بين أحد منهم" التفريق بتفضيل البعض على البعض أو الايمان بعض دون كما فرقت النصارى واليهود؛ أو كما قال ابو مسلم لا نفرق ما اجمعوا عليه وهو كقوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. " ونحن له مسلمون" مثلهم اجمعين.
[72] آية 85 – الاسلام في هذه الآية يعنى عقيدة الاسلام أي دين الله (83) الذي آمن به جميع الانبياء (84) – فيما في الاية 19 كان يعنى شريعة الاسلام.
[73] آية 110 – " تأمرون بالمعروف" بيان لقوله كنتم خير امّة (الزمخشرى)
[74] آية 113 – من هي الأمة الصالحة المذكورة في الايات 113 – 115؟ من أَهل الكتاب أمة مستقيمة ثابته على الحقّ كعبد الله بن سلام واصحابه (الجلالان)؛ (ليسوا سواء) الضمير لأهل الكتاب، (من أَهل الكتاب امة قائمة) استئناف لبيان نفي الاستواء؛ و القائمة : المستقيمة العادلة وهو الذين اسلموا منهم (البيضاوى)؛ وقيل عن صلاة العشاء التي يصليها المسلمون ولا يصليها اهل الكتاب (الزمخشرى) – نقول ليست صلاة العشاء هى المقصودة لأنه يتكلم عن احياء الليل كله بالصلاة والتلاوة وهذا لا يفعله سوى رهبان عيسي. روى الرازى حديثا : أَلا اني نهيتُ أن أقرأ راكعاً أو ساجداً. وقوله " وهم يسجدون" حال من يتلون آيات الله، فلا تكون حال محمد ولا حال امته. بقيت انها حال من يمدح من أهل الكتاب لا من يذمهم. وقال الرازى "في المراد بأهل الكتاب قولان : (الأول) وعليه الجمهور المراد منه الذين ىمنوا بموسي وعيسي ، و(الثانى) المراد بأهل الكتاب كل مًن اوتي الكتاب من أهل الاديان وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم
[75] آية 181 – قالت اليهود – والآية تعنيهم وحدهم لقوله " وقتْلهم الانبياء" – مَن يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجاً ونحن نرى اله محمد يستقرض منا فنحن اغنياء وهو فقير؟ وينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا لقوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافاً كثيرة" فهذا محال، ومحمد يفتري على الله. وليس في الاية جواب ظاهر على الشبهة.
[76] آية 182 – هي الشبهة الثانية في الطعن في نبوة محمد وتقريرها، انهم قالوا: إِن الله عهد الينا ان لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تاكله النار، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك، فلست من الأنبياء ولا النبي الذي ننتظره (عن الرازى) وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان : إِن هذا الشرط جاء في التوراة، أو إِن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة – نقول : هذا الشرط غير وارد نصاً ولكن معنى أي يكون النبي على الشريعة موسي التي تأمر بتقديم قربان لله تأكله النار. والقربان مصدر من قرّب كالكفران وهو ما يُتقربق به إلى الله. والجواب على الشبهة :"قل قد جاءَكم" يقصد منه انه يقتضى توقيف الصدق على ظهور مطلق المعجزة المعينة وحدها "وبالذى قلتم" فلو كان الموجب للتصديق هو الاتيان به وكان توقفهم وامتناعهم من الايمان لاجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به؟ وبمعجزات أخر؟ واجترؤوا على قتله" (عن الرازى و البيضاوى) – قالوا : ان الذين جاؤوا بالقربان تأكله النار وقتلوهم هم زكريا ويحيي، وليس هذا وارد في الكتاب المقدس عنهما. بل جاء عن ايليا وظنوا ان ايليا سيعود بذاته ويجدّد معجزاته
النص العاشر: سورة الأحزاب 7-8
في مقطع قد لا يمت إلى السورة بصلة يذكر الميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء حيث بعثهم[1]. ومن جملتهم عيسى:
7 وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم. وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً.
______________
آية 7 - "ميثاقهم" عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم (الزمخشري والبيضاوي). وللجلالين عن الوقت الذي أخذ فيه هذا الميثاق نظرية غريبة: أخذ عن النبيين ميثاقهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر! "ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى" خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع. وقدم نبينا العظيم له" (البيضاوي) – لاحظ أنه هنا قدم محمداً على جميعهم، وفي موضع آخر قدم نوحاً عليه "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك"، ولهم في ذلك أقوال.
"وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً: عظيم الشأن. أو مؤكداً باليمين. والتكرار لبيان هذا الوصف" (البيضاوي والزمخشري)؛ وقال الرازي: هو العهد المؤكد غاية التأكيد.
[2]8 - ليسأل الصادقين عن صدقهم. وأعد للكافرين عذاباً أليماً. يورد في هذا النص ذكر عيسى بين مشاهير أرباب الشرائع، وهم في عرفة خمسة. ويذكر أنه أخذ عليهم جملةً وأفراداً عهداً، مغلظاً بالإيمان، أن "أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه" كما قال في موضع آخر. وسيسألهم الله عن هذا العهد يوما الدين، كما سيسأل تابعيهم.
وهكذا نرى في القرآن موقفين من عيسى: أحدهما أنه يدرجه في جملة الأنبياء (أحزاب 7، شورى 12، نساء 162، آل عمران 83، بقرة 136)؛ والآخر أنه يخصه بالكرامات التي يمتاز بها عن سواه (نساء 170، آل عمران 45، مريم 30 و31).
النص الحادي عشر: القسم الثاني من سورة النساء
في القسم الثاني من سورة النساء يحدد القرآن موقفه صراحة من اليهود (149 – 161) ومن "الناس" العرب المشركين (162 – 169) ومن النصاري (170 – 172).
أولاً: حملة القرآن على اليهود لكفرهم بالمسيح وأمه: النساء 149 – 161.
النوع الأول من أباطيلهم: ايمانهم ببعض الأنبياء دون البعض: آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والانجيل (الرازي).
149[3] – إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً:
150 اولئك هم الكافرون حقاً. واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً.
151 والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم اولئك سوف يؤتيهم اجورهم وكان الله غفوراً رحيماً.
النوع الثاني من اباطيلهم وجهالاتهم:
152 قالوا: ارنا الله جهرة...ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم الوأن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن 153 ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم.
154 فيما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الانبياء بغير حق، وقولهم: "قلوبنا غلف" – بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً.
155 وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً.
156 وقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم.
وما قتلوه ! وما صلبوه! ولكن شبه لهم.[4]
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم الا اتباع الظن.
157 وما قتلوه يقيناً! بل رفعه الله إليه. وكان الله عزيزاً حكيماً.[5]
158 وإن من أهل الكتاب ألا ليؤمنن به قبل موته. ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً".
في هذا المقطع يحمل القرآن حملة شعواء على كفر اليهود بالمسيح وأمه. فيعدد لهم صنفين من مظالمهم: أولاً بطلان إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض، ثانياً كفرانهم بمعجزات الله بطلبهم رؤية الله جهرة واتخاذهم العجل إلهاً يوم العهد يرفع الطور فوقهم.
ثم يعدد خمساً من جرائمهم: نقض العهد، وكفرهم بآيات الله ومعجزاته، وقتلهم الأنبياء وقولهم "قلوبنا غٌلف" ليست بحاجة إلى وحي، وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وقولهم: إنا قتلنا المسيح. ويرد على مقالتهم بقتل المسيح أن محاولتهم فشلت بمعجزة من الله: ألا وهي رفع المسيح إلى السماء.
وظاهر الآية 156 ينفي قتل المسيح وصلبه. فهل هذا صحيح؟ وهل يتفق مع أقواله عن موت عيسى في سورة مريم وعن وفاته في آل عمران وفي المائدة؟ سنرى ذلك في غير موضع.
ويختم بالوعيد لليهود أنهم لابد لهم من الإيمان بالمسيح: "وما من اليهود أحد لا ليؤمنن قبل موته بعيسى" (الزمخشري).
ثانياً: موقف القرآن "من الناس" المشككين بنبوته" النساء 162 – 169.
جاء في أسباب النزول للسيوطي" روى ابن اسحاق عن ابن عباس قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء، فنزلت:
162 إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً.
163 ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك. وكلم الله موسى تكليماً.
164 رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وكان الله عزيزاً حكيماً.
165 لكن الله يشهد بما أنزل إليك – أنزله بعلمه – والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيداً.
169 يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم. وان تكفروا فإن الله ما في السماوات والأرض، وكان الله عليماً حكيماً".
نرجح أن الخطاب للناس عامة (169) جواباً على المشككين بنبوة محمد: عن كيفية الوحي إليه (162 – 164)، وعن صحة هذا الوحي (165) مع دعوة عامة لقبوله (169).
هنا يظهر عيسى حلقة من سلسلة أنبياء الوحي: يعدد القرآن منهم اثني عشر سوى موسى، وتسميتهم كما تلاحظ لا تتبع التاريخ المتسلسل. ويظهر أن هذا النص ما وضع هنا الا ليخفف من سمو ما اختص به عيسى من الكرامات في رفعه (156) كما ورد في المقطع السابق، وفي ألقابه كما يصرح في المقطع التالي (170).
ثالثاً: تحذير النصارى من الغلو في اكرام المسيح وأمه: النساء 170 – 173.
"اعلم أنه لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك عن النصارى في هذه الآية. والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا فيل تعظيم المسيح: وذلك لأنه لما حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه، وكلا طرفي قصدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى لا تغلوا في دينكم" (الرازي).
170 يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم! ولا تقولوا على الله إلا الحق!
انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته – القاها إلى مريم – وروح منه.
فآمنوا بالله ورسله. ولا تقولوا: "ثلاثة"!
انتهوا! خيراً لكم: إنما الله اله واحد. سبحانه أن يكون له ولد!
له ما في السماوات وما في الأرض! وكفى بالله وكيلاً!
171 لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله – ولا الملائكة المقربون – ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فيحشرهٌٌمٌ إليه جميعاً.
172 فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم. ويزيدهم من فضله. وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً. ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
في هذا النص الجوهري يحذر القرآن النصارى من "الغلو" في تعظيم المسيح وتكريمه – مستطرداً إلى تعظيم الملائكة المقربين – ولكن لا يسمى هذا الغلو شركاً أو كفراً.
ويعطى عن عيسى ابن مريم هذا التعريف الجميل: أنه مسيح الله! ورسول الله! وكلمة الله! وروح الله! وهذه الألقاب لا يصف بها أحداً من الأنبياء وسائر المخلوقين.
ويقول هنا أنه كلمة الله وفي آل عمران "كلمة منه" تعالى. ويقول هنا أيضاً "روح منه" تعالى. فالمسيح كلمة الله وكلمة من الله. وروح الله وروح منه تعالى. والتعبير "من" يعني المصدرالذي صدر منه المسيح بدون واسطة مخلوقة أياً كانت كما يقول البيضاوي. وفي ترادف اللقبين "كلمة وروح" تفسير لهما وتعريف بهما.
ولكن هذه النعوت السامية لا تجعل المسيح "ولداً" لله فإنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد بل كل ما في السماوات والأرض ملك له وعبيد. وكفى الله والمسيح ومريم متوهمين ومُوهمين "أن المسيح ومريم إلهان من دون الله". لا يُستنتج من هذا النص أنه يعني حتماً تثليث الله أو تثليث الآلهة: وسيأتي ذلك في سورة المائدة.
لاحظ أن الخطاب في القرآن لأهل الكتاب من يهود الحجاز ونصارى الحجاز لا يتعداهم إلى سواهم. فإن أتهمهم القرآن بتفريط أو بإفراط فهذا لا يعني سواهم من يهود العالم ونصارى العالم. فلا يجوز منا التعميم حيث قصد القرآن التخصيص.
النص الثاني عشر: سورة الحديد 25 – 29
في القسم الأخير من سورة الحديد موجز لرسالة الأنبياء وموقف محمد من اليهود (26) والنصارى (27) ويوجه الدعوة إلى النصارى خصيصاً للايمان بمحمد (28 و29).
أولاً: عيسى خاتمة المرسلين، فقد اختص اتباعه بالرأفة والرحمة والرهبانية (25 – 27).
25 لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب أن الله قوي عزيز,
26 ولقد أرسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا من ذريتهما النبوة والكتاب: فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون.
27 ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل.
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون.
في هذا المقطع لمحة خاطفة عن تاريخ الوحي وعن النتائج التي وصل إليها عند أهل الكتاب في زمانه: لقد أرسل الله الأنبياء من ذرية نوح وابراهيم، حصراً. وأيدهم بالبينات، بالحجج والمعجزات. وأنزل معهم الوحي والعدل أي الحقيقة والعدالة. ونصرهم بأسلحة الحديد ليعلم بها من أنصاره. وهذه السلسلة النبوية من الذرية المصطفاة تبدأ من نوح وابراهيم وتنتهي بعيسى: "ارسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى" (البيضاوي): فعيسى خاتمة المرسلين.
وامتازت رسالة عيسى، ليس فقط بأنها الخاتمة، بل في طابعها الانساني الرحماني: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة". ومن خصائص اتباع عيسى: الرهبانية. قد تكون مكتوبة عليهم من عيسى وقد تكون مبتدعة من عند أنفسهم، لا يجزم القرآن بذلك. ويلاحظ الفتور المخيم في زمانه وبلاده على تلك المؤسسة النصرانية: "فما رعوها حق رعايتها". ثم يخرج بنتيجة مُرة عن أهل الكتاب من اليهود (26) والنصارى (27): فمنهم مهتد، عامل بإيمانه، مثاب عليه، وكثير منهم فاسقون, والفسق ليس الضلال في الدين بل الطلاح في العمل. لذلك يوجه الدعوة إلى أهل الكتاب ليجددوا به إيمانهم.
ثانياً: دعوة خاصة بالنصارى ليؤمنوا بمحمد ويتعاونوا معه (28 و29)
28 يا أيها الذين آمنوا: اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به، ويغفر لكم. والله غفور رحيم.
29 لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله.
وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم.
هذه السورة من منتصف العهد بالمدينة، وقد وقعت الواقعة النهائية، بعد واقعة الخلاف وتحزب اليهود مع مشركي العرب على محمد، بين محمد واليهود، فيلتفت النبي إلى النصارى ليستميلهم إليه. ويعدهم بنصيبين من رحمته لإيمانهم بالإنجيل ثم بالقرآن إذا قبلوه، وبالنور، والمغفرة على ما سبق لهم من فسق. يدعوهم إلى الإيمان برسول الله الجديد لتحطيم اليهود المتآمرين عليه فيعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. ويعلموا أن النبوة والملك بيد الله يؤتيهما من يشاء.
النص الثالث عشر: سورة التحريم 12
قد مر بنا تفسيره فنكتفي بذكره. في آخر سورة التحريم التي نزلت في نساء النبي، يضرب القراآن لهن مثل النساء الفاسقات امرآة نوح وامرأة لوط، ليهربن منه، ومثل النساء التقيات ليقتدين به كامرأة فرعون، ومريم بنت عمران:
12 ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه (أو فيها) من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.
والمعنى أن مريم صدقت بمواعيد الله وكتبه المقدسة التي تحويها. وهناك قراءة أخرى:
12 ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وصدقت بكلمة الله وكتابه.
قرأ ابن مسعود "فيها" كما قُرىء في سورة الأنبياء أي في "مريم", والمعنى أن مريم صدقت برسالة عيسى وانجيله (بالاجماع).
النص الرابع عشر: سورة الصف 6 – 14
جاء في أسباب نزول سورة الصف عن مقاتل أنها نزلت في توليهم يوم أحُد (السيوطي والبيضاوي). قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة" (10) فكرهوا الجهاد فنزلت لم تقولون ما لا تفعلون" (2) وهكذا يكون القسم الثاني (10 – 14) متقدماً في النزول على القسم الأول (1 – 4). والقسم الوسط (5 – 7) مزيداً على السورة في زمن آخر، ولو كان في مثل موسى وعيسى من التأسي لمحمد ما فيه.
الأول: التجارة الرابحة هي نصرة الله كما نصره الحواريون (10 – 14)
10 يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟
14 يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين" من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله! فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة. فأيدنا الذين آمنوا (بالله وعيسى) على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.
سألوا النبي: أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ قال الإيمان والجهاد، تلك هي التجارة الرابحة. ويعطيهم قدوة على نصرة الله الرابحة مثل الحواريين الذين لبوا دعوة المسيح في الحال فنصرهم الله على عدوهم.
ويشهد القرآن بفوز النصارى على اليهود في أيامه، ويعطي السبب في ذلك النصر: "لقد آيد الله الذين آمنوا بالله وعيسى على عدوهم فأصبحوا ظاهرين". يلتقي هنا القرآن بالإنجيل في جعل خراب اليهود ناتجاً عن كفرهم بالمسيح.
ثانياً: تسلية النبي بمثل موسى وعيسى
2 يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟
5 وإذ قال موسى: يا قوم لِمَ تؤذوني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم...
6 وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة – ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد – فلما جاءهم بالبينات، قالوا: هذا سحر مبين (أو ساحر مبين).
في هذا النص أمران: تسلية محمد عن واقعة فاشلة (أٌحد أوغيرها) وعن تخاذل قومه، وعن نخواتهم الفارغة، بمثل موسى إذ خذله قومه بعدما جاءهم بالبينات في أقواله وأعماله، وبمثل عيسى الذي صدق التوراة التي حكم بها الأنبياء الأولون، واظهر من البينات ما فاق أسلافه فقالوا ساحر يأتي بالسحر!
وهنا ينسب القرآن إلى المسيح نبوة "برسول يأتي من بعده اسمه أحمد". هذه النبوة سورة ثانية لنبوة التوراة والانجيل عن "النبي الأمي" (أعراف 157) يقولون أن القرآن قصد بالنبي الأمي "النبي" الذي تكلم عنه موسى في توراته، و"بأحمد" روح القدس الفارقليطس الذي ذكره انجيل يوحنا.
نلاحظ أنه وإن كان أحمد ومحمد من أصل واحد، فالصيغة ليست واحدة وليس الاسم واحداً وهذا النص هو الموضع الوحيد في القرآن الذي يرد فيه اسم النبي العربي بهذه الصبغة. وتظهر الزيادة على الآية في هذا المقطع فلو حُذف لما اختل المبنى والمعنى، ولانسجمت الآية أكثر فأكثر.
ويليه حملة على الظالمين (7) الكافرين (8) من المشركين (9) الذين يرفضون دعوة الاسلام.
النص الخامس عشر: سورة المائدة (متفرقات)
نظن مع المصحف الأميري أن سورة المائدة في مجملها من آخر عهد النبي العربي في المدينة – ولو كان فيها آيات من أوقات سابقة – وسورة المائدة مع آل عمران تجمعان موقف القرآن من المسيح.
أولاً: لقد نسى أهل الكتاب ميثاقهم (17 – 30)
يفتتح السورة بحملة على اليهود (13) والنصارى (15) لأنهم نقضوا الميثاق الذي عقده الله معهم بالإيمان بالنبي الآتي. فليسوا بعد أبناء الله وأحباءه كما يدعون (20) ويعرض نفسه عليهم (16) ويخصهم أيضاً برسالته (21) "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير: فقد جاءكم بشير ونذير". ومدة الفترة 569 سنة (الجلالان).
في هذاالمقطع آية مستقلة، عن المسيح (19) نظنها مزيدة، كررت هنا، وموضعها في (75).
19 لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم! – قل: فيمن يملك من الله شيئاً أن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً. ولله مُلك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء، والله على كل شيء قدير.
قال الجلالان: لقد كفروا وقد جعلوه إلهاً، وهم اليعاقبة فرقة من النصارى.
وقال البيضاوي: هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرح به أحد منهم! ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً، وقالوا لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم. وقال الزمخشري: معناه بت القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير. قيل كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. وكذلك الرازي.
ثانياً: لكل جعلنا منكم شِرعةُ ومنهاجاً (44 – 54): الاستقلال في الشريعة.
جاء في أسباب نزول هذه الآيات أنه زنى من أهل خيبر محصنان فكرهوا رجمهما، على حد التوراة، مفسرين الرجم بالجلد، فبعثوا إلى بني قريظة من يهود المدينة يسألوا محمداً في ذلك. فأفتاهم بالرجم، وأنهم يحرفون كَلِم التوراة عن معانيه التي وُضع فيها. وخُير النبي في التحكيم بينهم "فاحكم بينهم أو اعرض عنهم" (45) لأن عند اليهود التوراة فيها حُكم الله (46) فتكفيهم، وعند النصارى الإنجيل فيه حكم الله (50) وهو يكفيهم، ولأن الله جعل لك أمة من أمم الكتاب الثلاث شرعة ومنهاجاً خاصاً بها.
45....فإن جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم فلن يضروك شيئاً، وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط، أن الله يحب المقسطين.
46 وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها خكم الله! ثم يقولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين.
47 إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا، والربانيون والأحبار بما استٌحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، - فلا تخشوا الناس واخشوان ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً – ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
48...ومن لم يحكم بما أنزل الله في (التوراة) فأولئك هم الكافرون.
49 وقفينا على آثارهم (الأنبياء الذين اسلموا) بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه (قبله) من التوراة، وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين.
50 وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
51 وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه. فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجاً: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
52 – 53 وأن احكم بينهم بما أنزل الله..أفحكم الجاهلية يبغون، ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون,
في هذا النص الأساسي النهائي القول القاطع على اتحاد اليهود والنصارى والمسلمين على التوحيد في الدين، واستقلال كل ملة منهم بشريعة كتابها، وأن شريعة كل كتاب من الثلاثة مُلزمة لأهلها دون سواهم: "ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً". قال الرزاي: "الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم فلي قوله: إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور (47)، ثم قال: وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم (49)، وقال: وانزلنا اليك الكتاب (51)، ثم قال: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة وللانجيل شريعة وللقرآن شريعة". واختلاف الشرائع الثلاث واستقلالها من ارادة الله للتنافس في الخيرات: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه.
من هذا المبدأ يتفرع أمر الفرآن إلى أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل الله فيها لأن فيها حكم الله (47)، وأمره إلى أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه (50)، وذلك زمن النبي وبعد نزول القرآن: فنزول القرآن اذن لا يغير شيئاً من حقيقة الانجيل والتوراة ولا من شريعتهما.
لذلك يجب على أهل القرآن أن يحترموا شريعة أهل الكتاب، واستقلالها، ولا يُخضعوهم لأحكام القرآن والاسلام كما زعم الفقهاء أيام الاستبداد والطغيان، منحرفين عن النهج القويم الذي استنه القرآن لمحمد وأمته. فالنبي كان مخيراً في الحكم والتحكيم ما بين أهل الكتاب، لا مجبراً عليه (45) وإذا حكم بينهم فليحكم بما أنزل الله في كتابهم (51 و52) كما يدل منطق تسلسل الآيات واستقلال الشرائع الثلاث. وقول بعضهم بأن ذلك التخيير نُسخ في الحال بقوله "فاحكم بينهم بما انزل الله" (51) غير وارد لأن هذا الأمر يتبعه كما قلنا مبدأ استقلال الشرائع.
وقال الرازي: "وأنه وصف الانجيل بصفات خمس فقال: فيه هدى للحق، ونور للاحكام، وتصديق للتوراة، وهدى وموعظة للمتقين: فليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه". فهدى الانجيل ونوره وحكمه وموعظته باقية مع القرآن وبعده.
وقال الرازي أيضاً: "وإذا كان القرآن مهيمناً على الكتاب كانت شهادة القرآن على أن التوراة والانجيل والزبور حق وصدق باقية أبداً. فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً" (الرازي).
ثالثاًً: القرآن يدعو أهل الكتاب إلى "اقامة" التوراة والانجيل (62 – 73),
إنه لفسق من أهل الكتاب مقاومة المسلمين وهم مثلهم في الإيمان بالله. فلو أقاموا التوراة والانجيل وعملوا باحكامهما لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. لأن الاصل في الأديان كلها الإيمان بالله واليوم الآخر:
62 قل يا أهل الكتاب هل تنتقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل من قبل. وأن اكثركم فاسقون...
69 ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل، وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة! وكثير منهم ساء ما يعملون...
71 قل يا أهل الكتاب: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل، وما أنزل اليكم من ربكم. وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً: فلا تأس على القوم الكافرين.
72 إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى: من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
يدعو القرآن أهل الكتاب إلى العمل بما في التوراة والانجيل ومنه حسب رأيه الايمان بالنبي العربي.وفي هذه الدعوة اعتراف منه بصحة الكتابين اللذين في زمانه، واقرار على دوام إلزامهما لأهلهما. وأن العمل بما في التوراة والانجيل لباب سعادة على الأرض، يوسع الله عليهم الرزق ويفيض من كل جهة، ويعطيهم بركات السماء والأرض، يوسع الله عليهم الرزق ويفيض من كل جهة، ويعطيهم بركات السماء والأرض، وباب سعادة في جنات النعيم: فلهم خير الدارين.
ويختم بقوله: ان المسلمين واليهود والصائبين (فئة من اليهود المتنصرين) والنصارى سواء في الإيمان الواحد بالله واليوم الآخر (مائدة 72) كما أكد ذلك من قبل فلي سورة البقرة (62).
رابعاً: مهاجمة بعض نصارى الحجاز على كفرهم (75 – 80)
75 لقد كفر الذين قالوا: أن الله هو المسيح ابن مريم! وقال المسيح: يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم! أنه من يشرك بالله، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. وما للظالمين من انصار!
76 لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وما من إله إلا إله واحد.
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.
77 أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ والله غفور رحيم.
78 ما المسيح ابن مريم ألا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة. كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات ثم أنظر أني يوفكون!
79 قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً، والله هو السميع العليم.
80 قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل".
في هذا المقطع من سورة المائدة يظهر لنا أن القرآن بإيمانه بعيسى وأمه اختار مقالة النسطورية، وليدة الأريوسية، التي تسربت إلى المدينة من الحيرة بطريق "العباد": المسيح إله وابن الله، بالمجاز لسمو منزلته التي لا يدانيه فيها مخلوق، ولكن ليس الله المسيح كما تقول اليعقوبية، وليس الله ثالث ثلاثة: الآب والابن والروح القدس كما تقول الملكانية. – وأن فهم بالثلاثة بعض جهال العرب النصارى: الله والمسيح ومريم كما يحكي القرآن عنهم في هذا النص (77) – أو كما كان يتهمهم بذلك النساطرة فنقل القرآن تهمتهم – فقد وافق القرآن مقالة العباد في المسيح أنه كلمة الله وروح الله، ونبذ التعبير "اله" وابن الله" لما فيه من شبهة على خالص التوحيد، وأكد أنه "رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صديقة" (78) مثل الصديقين والصحابين.
ونقل القرآن براهين النساطرة ضد إلهية المسيح: من النقل على لسان المسيح "الله ربي وربكم" (مائدة 75 ويوحنا 20 : 17) في خطابه إلى مريم المجدلية, ومن العقل: "كانا يأكلان الطعام" (78) كتابة عن حدوثه وعبارة عن حاجته إلى غيره، والاله منزه عن كليهما.
ويختم بدعوة النصارى إلى نبذ "غلوهم" في اكرام المسيح وأمه: فالكفر الذي حكاه (75 و76) ليس إلا غلواً في الدين. وحسب المسيح وأمه ما فضلهما به الله من المميزات والكرامات.
خامساً: لعنة اليهود، ومودة النصارى (81 – 90)
81 لُعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون!
85 لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.
ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.
86 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
87 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.
88 فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين.
89 والذين كفروا (الآية 81) وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم.
التكفير السابق لا يشمل النصارى كلهم بل "الذين كفروا منهم" (76) فقالوا "إن الله هو المسيح" (75) بالاحالة والتحول، أو "إن الله ثالث ثلاثة" الله والمسيح ومريم أمه (76) بجعل مريم الاهة والثلاثة ثلاثة آلهة. النصارى لم يقولوا ولا يقولون ذلك على الاطلاق، فقد يكون ذلك قد صدر عن بعض جهال نصارى الحجاز البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة، ذلك لأن القرآن بعد أن يجدد لعنة داود وعيسى ابن مريم على اليهود (81) يشيد بمودة النصارى للمسلمين ويمدحهم على صداقتهم لهم، ناسباً ذلك إلى رؤسائهم القسيسين والرهبان (85). ثم يذكر حسن إيمانهم "ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" (86) وصدق تقواهم في سماع كلام التوحيد في القرآن "ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" - ويختم بوعدهم بالجنة "فأثابهم الله بما قالوا جنات من تحتها الأنهار" (88) – قال بعضهم هذا ثناء كان للنصارى الذين أسلموا وليس للذين بقوا على دينهم! ونقول أن نص الآية (85) يميز بين المسلمين "والذين قالوا أنا نصارى" مما يدل على أنهم بقوا على نصرانيتهم، ويمدحهم وهم على هذه الحال "لأنهم لا يستكبرون" (85) بينما يلعن اليهود بما عصوا وكانوا يعتدون (81) ويعدهم بالجحيم (89).
سادساً: استجواب عيسى عن الوهيته في يوم الدين 112 – 123
يوم يجمع الله الرسل (112) لمحاسبتهم، وبعد أن يذكر عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته (113) وبمعجزة المائدة التي بسببها آمن الحواريون به (114 – 118)، يسأله السؤال الكبير عن ألوهيته: هل هو الذي علمها؟ فينفيها ويؤكد شهادته للتوحيد (119 – 120).
1 المقدمة الأولى لاستجواب المسيح في يوم الدين (112 و113).
112 يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا انك أنت علام الغيوب.
113 إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك:
إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً! وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل! وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني! وإذ تخرج الموتى بإذني!
وإذ كففت بني اسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم ان هذا إلا سحر مبين.
وإذ اوحيت إلى الحواريين: أن آمنوا بي وبرسولي! قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون!
في هذه الآية الفريدة (مائدة 113) يعدد القرآن نعم الله على عيسى والميزات التي اختصه بها دون سواه، والخواص التي رفعته فوق المخلوقين إلى مقام يشعر بألوهيته، ويبدأ كل صنف منها بلفظة "إذ" دلالة الابتداء.
أن أساس انعاماته كلها التأييد، الذي خُص به دون سواه، بالروح القدس وهوغير جبريل كما ظنوا لأن جبريل موحي القرآن أيضاً فلا محل لذكره كنعمة خاصة بالمسيح. وليس هو أيضاً "روحه المختص به" كما يقول الرازي وغيره لأنه قوة خارجية بها عمل المسيح معجزاته المذكورة ههنا. بقى أنه روح الله، فالقدس هو الله، وهذا الروح قادر وأقدر عيسى على الاحياء والابراء والنبوة والمعجزات جميعها.
فالنعمة الأولى التي امتاز بها المسيح عن سواه أنه استنبأه طفلاً وكهلاً (الجلالان)، والمعنى الحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية كما في كمال العقل والتكلم (البيضاوي) وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده (الرازي).
والنعمة الثانية هي معرفته العلم كله والوحي كله وذلك منذ طفوليته واختص التوراة والانجيل بالذكر اشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء (الرازي).
والنعمة الثالثة أنه امتاز بمعجزة القدرة على الخلق. ولو كان هذا الخلق بإذن الله أي بقدرته وفعله، فقد مر هذا العمل فيه واقترن به، فشارك الخالق بمقدرته على الخلق، وهذا لم يعطه الله أحداً حسب القرآن.
والنعمة الرابعة شارك الله أيضاً في المقدرة على احياء الموتى واخراجهم من القبور. وهذه صفة إلهية محضة شاء الله أن يجريها في المسيح إظهاراً لفضله على سواه.
والنعمة الخامسة خص الله عيسى بالحجج والمعجزات التي فاق بها سواه حتى ائتمر من كفر من بني اسرائيل بقتله، فمكروا ومكر الله وكان الله خير الماكرين بمعجزة رفعه إلى السماء حياً: هذه ميزة سامية لم يشاركه فيها أحد.
والنعمة السادسة أوحى الله مباشرة إلى رسله فآمنوا به واستشهدوا الله على اسلامهم وتوحيدهم. وربما أوحى الله إليهم كما أوحى إليه فكانوا أنبياء الانجيل من بعده. فشاركوه في الوحي والنبوة ولم يحصل لرسول أو نبي أن أوحى الله إلى صحابته أو متابعيه واستأنبهم كما عمل بتلاميذ المسيح وصحابته.
2 المقدمة الثانية لاستجواب المسيح: معجزة المائدة
115 إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله ان كنتم مؤمنين.
116 قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
117 قال عيسى ابن مريم: اللهم، ربنا، أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين.
118 قال الله: أني منزلها عليكم. فمن يكفر بعد منكم فإني اعذ به عذاباً لا أعذبه أحد من العالمين".
في هذا النص اختص بالذكرى من بين معجزات المسيح التي ذكرها (113) المعجزة الكبرى التي فاق بها المسيح سواه من الأنبياء وكانت سبب إيمان الرسل النهائي به: ألا وهي معجزة المائدة. واعتبرها القرآن مع النصارى عيداً أبدياً لهم على مدى أجيالهم.
انهم طلبوها معجزة من السماء ولسان حالهم يقول: "إن جميع تلك المعجزات التي طلبتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها ونكون عليها من الشاهدين لله بكمال القدرة ولك بالنبوة" (الرازي)، ووعدوا أن يتخذوا يوم نزولها عيداً لهم مدى الأجيال. قالوا بالاجماع: "ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً". فعيد النصارى شهادة دائمة لتلك المعجزة الكبرى.
والجمهور الأعظم من المفسرين أنها نزلت لأنه قال "إني منزلها عليكم" وهذا وعد بالانزال جزماً من غير شرط فوجب حصول النزول. وبسبب نزول هذه المعجزة السماوية التي لا يفهم بعدها انكار نبوة المسيح قال "فمن يكفر بعد منكم فإني اعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين".
ولكن أي معجزة قصد القرآن بآية المائدة؟ لا يدرون سوى أنها معجزة قائمة بذاتها اختص بها المسيح لتأكيد رسالته ونبوته وقد يكون لها أصل كما وردت في الاناجيل الابوكريفية التي كتبها المسيحيون الأولون، بل نجد لها أصلاً وهيكلاً في قصة المائدة التي نزلت على الرسول سمعان بطرس وهو يصلي في يافا (أعمال الرسل 10)، ونفهم معناها عن الخبز الحي النازل من السماء الذي كنى به المسيح عن تعليمه وجسده الحامل الحياة (يوحنا 6) وفي ضمهم آية المائدة إلى الأحد قد عنى وقصدوا ذبيحة القربان التي يحتفل بها النصارى في كل أحد عيداً لهم، لأولهم وآخرهم، جيلاً بعد جيل. وفهم القرآن وصدق عنهم أنها "مائدة نازلة من السماء". فالعيد المذكور هو أحد النصارى. والمائدة هي ذبيحة القربان المقدس عندهم على مائدة الهيكل.
3 استجواب المسيح عن الاهيته في يوم الدين (119 – 123)
هذا المشهد من أروع المشاهد التي يذكرها القرآن، وقد بلغ القرآن الذروة في استنكار إلاهية المسيح: هناك في يوم الحشر، والقول الفصل، في حضرة الله، وعلى مشهد ومسمع من الملائكة والرسل والعالمين بعد أن يعدد الله للمسيح أنواع المعجزات التي اختصه بها دون سواه، ليستدرجه بذلك إلى السؤال العظيم عن البدعة الكبرى المنسوبة إليه، يسأله:
119 وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم، أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟؟"
قال: سبحانك! ما يكون لي أن أقول ماليس بحق! إن كنت قلته فقد علمته: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك! أنك أنت علام الغيوب.
120 ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. وأنت على كل شيء شهيد.
121 إن تعذبهم فإنهم عبادك. وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
122 قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ابداً رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم.
123 لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير.
على استجواب الله الرائع المحرج، يجيب المسيح بأدب لا أحد له مستنكراً التهمة من كل وجوهها. قال: "سبحانك" تنزيهاً لله عن مثل ذلك القولَ! وفي هذا الهتاف البديهي مجمل الجواب. وعقب باستنكار مبدئي: القول بذاته ليس بحق، فلا يكون للمسيح أن يقوله وهو الرسول الأمين. واستغنى عن الجواب بتفويض الأمر إلى علم الله المحيط بالكل فإنه "علام الغيوب" يعلم ما يبدو وما يخفي. ثم رد التهمة المنسوبة إليه بالحقيقة الواقعة: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم". وذكر أنه ظل رقيباً على أتباعه يمنعهم من مثل هذا القول ما بقى حياً فيهم، ومن بعده كان الأمر لله.
وفي الآية 120 تعليم صريح لا يقبل الجدل على موت المسيح الذي يعبر القرآن عنه بلفظ الوفاة (آل عمران والمائدة): "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني ..." قال البيضاوي: التوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه". وهنا يعني صراحة الموت لأن الوفاة ترد معارضة للحياة "ما دمت فيهم".
وكما كان جواب المسيح لله بأدب بالغ رائع، كان استعطافه وشفاعته لأمته، التي غلت في اكرامه بتأليهه، بالغاً حدود الفصاحة والبلاغة: "إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" (121). ولما كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (نساء 47 و115) فاستغفار عيسى للنصارى في موقف الصدق يعني أن "غلوهم" في اكرام المسيح وأمه ليس شركاً ولا كفراً يستوجبان الهلاك الأبدي. ويختم بموافقة الله على صدق اقرار عيسى.
النص السادس عشر: صدر سورة التوبة (أو براءة) 1 – 38
روى البخاري عن هذه السورة أنها الأخيرة في النزول (الجلالان) ولها أسماء عديدة منها براءة والتوبة (البيضاوي). وقد اختلف أصحاب الرسول فقال بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة، كلتاهما نزلتا في القتال، وقال بعضهم هما سورتان, وهما معاً تعدان من السبع الطوال في القرآن، وهما السابعة (الزمخشري). وقد صدروا القرآن بالسور السبع الطوال على غرار المعلقات السبع.
وعندنا أن سورة التوبة تصف حياة الاسلام في السنتين الأخيرتين من حياة محمد، فبعد أن أخضع مكة دانت له الجزيرة العربية كلها، وزال المشركون واليهود من الوجود الرسمي فيها. وكثر المنافقون جداً (102). ولذلك نزلت سورة التوبة كلها (الا صدرها) في بيان أحوال المنافقين وجهادهم.
ولما فرغ محمد من قلب الجزيرة حيث كان يربض أسد قريش، وجه جيوشه إلى أطرافها. فاكتسح على بن أبي طالب وخالد بن الوليد اليمن بسهولة. ولما توجهت الجيوش إلى الشمال اصطدمت بقوى النصارى، ومن بينهم العرب المتنصرين. وختمت حياة النبي بمأساة "جيش العسرة" (118). وقد تركت حملاته إلى الشمال في نفسه أثراً مريراً من العرب النصارى الذين تركوا سيد قومهم ليوالوا الأجانب ويحموا لهم أطراف ممالكهم. لذلك بعد أن وادعهم طيلة حياته أمر قبل موته بقتالهم.
وأصدر ذلك الأمر في يوم مشهود حج فيه أبو بكر بالناس الحج الأكبر (3). فبعث النبي في إثره عليا فأذن يوم النحر بمني: أن لا يحج بعد العام المشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده.
وتلا على صدر سورة براءة (1 – 37) في وجوب قتال المشركين حتى يسلموا فيسلموا (6) وقتال الكتابيين حتى يدفعوا الجزية (30) خاضعين لدولة الاسلام فيسلموا. ويبرر قتال المشركين بشركهم وقتالهم للمسلمين (9 و14 و25) ويبرر أيضاً قتال الكتابيين بما "يضاهي" الشرك في أقوالهم وصدهم عن سبيل الله (31 – 36). ويختم: "قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (37).
6 فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم.
ويبين الأسباب الداعية إلى قتالهم (7 – 29)
30 قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!
ويبين الأسباب الأربعة الداعية إلى قتالهم:
31 وقالت اليهود: عزيز ابن الله! وقالت النصارى: المسيح ابن الله! ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون (يضاهون) قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله أن يوفكون!
32 اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم. وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً. لا إله ألا هو سبحانه عما يشركون!
33 يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يُتم نوره ولو كره الكافرون!
34 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
35 يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (نار جهنم 36).
37 قاتلوا (بعد انقضاء الأشهر الحرم الأربعة) المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة. واعلموا أن الله مع المتقين. تلك هي وصية محمد الأخيرة لامته أذاعها عليهم يوم الحج الاكبر (3) يطلب فيها منهم قتال المشركين الدائم حتى يسلموا (6) وقتال الكتابيين الدائم حتى يخضعوا للجزية (30).
وفي غاية القتال مع الفريقين بون شاسع وتفاوت ساطع: لا سلام للمشركين الا بالإسلام، ولا سلام للكتابيين الا بالخضوع للجزية. يطلب من المشركين الاستسلام للدين الاسلامي، ومن الكتابيين أن احبوا البقاء على دينهم، القبول بالجزية عنوة واقتداراً. لا محل للشرك في دار الاسلام، ويباح لأديان الكتاب الوجود الرسمي في الدولة الاسلامية. لذلك يفرض القرآن على أمته، في وصية محمد الأخيرة، اخضاع المشركين للدين الاسلامي واخضاع الكتابيين للدولة الاسلامية. وشتان بين المطلبين,
ونلاحظ أيضاً أن قتال المشركين فريضة عامة مطلقة. بينما قتال الكتابيين مقصور "على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق" منهم. فهل من أهل الكتاب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر؟ حتى يصح قتاله!
يفسر القرآن في الآيات (31 و32 و33 و35) معنى هذه التهمة (30) ويوضح الأسباب الموجبة لقتال أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين:
1 أنهم بقولهم "عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله" يضاهون قول المشركين "الذين كفروا من قبلهم" وهذا "إفك" يستحقون عليه القتال (31)، 3 ويريدون أن يطفئوا نور الاسلام: ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كرهوا (33)، 4 أخيراً كثير من الأحبار والرهبان يأخذون الرشوة ويكنزون الأموال ولا ينفقونها في سبيل الله بل يصدون الناس عن الاسلام: ألا قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!
وبكلمة يستبيح قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنه يرى في قولهم بأفواههم "لا بقلوبهم" (الزمخشري) شيئاً ونوعاً من "الإفك والشرك والكفر" الذي "يضاهي قول الذين كفروا من قبل" من المشركين الحقيقيين.
فما هو بالحقيقة "شرك" بل "شبه شرك": مضاهاة أي مشابهةٌ لقول المشركين (الجلالان والبيضاوي). فالنص صريح قاطع لا يجمع بين المشركين "الكتابيين على صعيد واحد: فأنه يأمر بقتال المشركين حتى يٌسلموا ولا مندوحة لهم عن الاسلام، وبقتال الكتابيين حتى يعطوا الجزية للدولة الاسلامية وهم فيها على دينهم. لا يعترف بوجود وكيان رسمي للمشركين في دار الاسلام ويعترف لليهود والنصارى بالحرية والكيان الرسمي بعد دفع الجزية.
ثم أنه بعد هذه الحملة العنيفة تحريضاً على قتالهم يعود في آخر سورة التوبة، أي في آخر ما نزل من القرآن، فيجمع بين الكتب الثلاثة في منزلة واحدة ودرجة واحدة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنية يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويٌقتلون: وعدا عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله" (112).
إلى اليوم كان محمد يستبيح قتال اليهود وحدهم لا لخلاف في الدين بل في السياسة، بسبب مؤامراتهم، والآن في وصيته الأخيرة يبرر قتال اليهود والنصارى بعد أن اصطدم معهم في شمال الجزيرة بحجة الخلاف الديني. مع أنه قد أشاد منذ قليل بصدق مودة النصارى للمسلمين (مائدة 85) ولم يُسَمِ عبادتهم للمسيح إلا "غلواً في الدين" لا غير (مائدة 80، نساء 170).
وقد استخلص الزمخشري من سورة التوبة هذا المبدأ: "من دٌعيَ إلى الله عز وجل فأجاب، ودعى إلى الجزية فأجاب: فقد اتبع الهدى".
الجزء الثاني: تحليل النصوص القرآنية في المسيح
"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170).
"قال ربك: هو علي هين! ولنجعله آية للناس ورحمة منا!" (مريم 21)
تبسط القرآن في خبر مولد المسيح في سورتي مريم (15 – 33) و آل عمران (33 – 47)، وأوجزه في الأنبياء (91) والمؤمنون (51) والتحريم (12) والنساء (156).
أن قصة ميلاد المسيح في القرآن لمقطع من البلاغة الرائعة، فقد تكون شعراً لا يبالي بلغ أوج الوحي والسمو في سورة مريم، وقد وفاه القرآن وصفاً يجعله من بتول لم يمسها بشر، تحمل وتلد بقوة من الله وتلبث عذراء. والمعجزة الإلهية تكتنف أطوار الولادة كلها. قال الجلالان "وكان الحمل والتصوير والولادة في ساعة"!
وما أعظم مشهد البشارة بالمسيح! الله يرسل ملاكه (مريم) بل ملائكة (آل عمران). من السماء ليبشروا أمه مريم "بالغلام الزكي" الطاهر، النامي على الخير والصلاح! أنه طاهر منذ الحبل به، فلا يحتاج إلى تطهير بعد مولده. كلمها الملاك شفاهاً كرامة لها (البيضاوي) ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها (الرازي). تمثل لها بشراً سوياً تام الخَلق والخُلق. قالت من غاية عفافها لما وقف أمامها: "أني أعوز بالرحمن منك. إن كنت تقياً.." . لم يدعها الملاك في ريبة من شخصه، ولم يتركها تستكمل تعويذها؟ "قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً"! فاستغربت هذه البشرى وهي العذراء البتول التي لم يمسسها رجل قط: "قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشراً! ولم أكُ بغياً"!؟ ليس لبشر أو لمخلوق يد في ذلك، إنما الأمر كله لله "الله يخلق مع يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (آل عمران 47) فأجابها الملاك: "هو كذلك كما تقولين. قال ربك: هو على هين أن يكون لك غلام بدون مسيس بشر. ولنجعله آية للناس ورحمة منا! وكان أمراً مقضياً".
اتخذ بعض الجهال من قول الملاك "لأهب لك" ذريعة للقول بأن الملاك قام مقام الرجل في الحبل بالمسيح! والقرآن يعتبر مجرد التفكير بذلك كفراً شنيعاً. وقوله "لأهب لك" حكاية قول الله لا لسان حال الملاك، يؤيد ذلك قراءة "ليهب لك" (البيضاوي). ورواية آل عمران نقضي على كل شك في هذا الشأن: الحمل كان بمعجزة مباشرة من الله (47) "إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون"!
قال كثير من المفسرين: لم يقم جبريل مقام الرجل، بل كان الواسطة المعجزة للحمل البتولي كما جاء في سورة الأنبياء: "والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين" (91) نفخ جبريل في جيب درعها فحملت بعيسى (الجلالان). قد يكون هذا التفسير محتملاً إذا اقتصرنا على السور الملكية؛ أما سورة آل عمران، والنساء فلا تدع مجالاً لمثل هذا التأويل فعيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم (نساء 170)، هو روح من الله ألقى إليها (الزمخشري).
وعندنا أن بين السور الملكية (مريم، الأنبياء) والسورة المدنية (آل عمران والنساء) تطوراً: فبينما يظهر الملاك في الأولى وكأنه الواسطة المعجزة للحمل البتولي، يظهر الحمل في المدنية معجزة إلهية مباشرة يقتصر دور الملاك فيها على البلاغ: ألقى الله روحه إلى مريم، قائلاً يا عيسى كن! فكان (نساء 170، آل عمران 47). وهكذا يظهر معنى قوله "ونفخنا فيها من روحنا" (أنبياء 91، تحريم 12) أنه محمول على المفعول، فالمنفوخ هو المسيح روح الله. قال أحدهم "نزل نفخ الروح في عيسى، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح في مريم فعبر بما يفهم ظاهر هذا".
وفاتهم جميعاً أن الملاك روح لا جسد له، ولو تمثل لها بشراً سوياً، إنما ذلك تمثيل لا تحقيق، فالملائكة كما يقول الانجيل "لا يزوجون ولا يتزوجون".
فالمسيح "آية" البشرية وآية الدهور بسبب ولادته البتولية. وهذا شرف لم ينله ابراهيم حجر الزاوية في الدين الحنيف، ولم يحظ به موسى كليم الله، ولم يٌنسب مطلقاً إلى محمد "خاتم النبيين". فالنبي العربي وٌلد كسائر الناس، ولم يطهر إلا بعد أن شرح له الله صدره ووضع عنه وزره (الشرح 1) وموسى وابراهيم لم يتقربا من الله إلإ في كهولتهما.
ومعجزة المسيح لم تكن في الولادة البتولية بل أيضاً في الولادة الطاهرة من مس الشيطان، ومن كل أذى للخطيئة: فالملاك يبشر أمه "بغلام زكي" طاهر، ينمو على الصلاح من يوم إلى يوم. فهو ليس بحاجة إلى شرح صدر: فقد ظهر للوجود منذ الحمل به مشروح الصدر، طاهراً وابن طاهرة!.
والمعجزة ليست في الحمل فقط، بل هي أيضاً في الحمل السريع الذي قد يقتصر على ساعة حسب تأويلهم. وهي كذلك في الولادة المعجزة. لا يرضى أحد من المسلمين حسب الرأي العام أن يراها كسائر النساء، وأمهات الأنبياء. لقد انفرد المسيح بميلاد غريب فريد لا شبيه له. حاولوا تفسيره بقولهم "كما حملته نبذته" أي بمعجزة. ويرينا النص الكريم دهشة مريم ذاتها لما يجري بها، وخشيتها ألا يصدق الناس آية ولادتها. ولم تقاس آلام المخاض بل نراها واقفة لدى جزع النخلة تهز بجذعها لتساقط عليها رطباً جنياً، ثم تحمل وليدها في الحال وتأتي به قومها تريهم الصبي النبي!
تتعدد الخوارق لتثبت المعجزة الكبرى: فالرحمان يطعم الوالدة العذراء من نخلة يابسة زمن الشتاء تهزها فتساقط عليها رطباً جنياً! كما اطعمها من الجنة في حداثتهاوهي في المحراب. ويسقيها من جدول ماء سري كان قد جف. فناداها الملاك من تحتها ألا تحزني..فكلي من النخلة واشربي من السرى وقرى عيناً! "لم تقع التسلية بهما من حيث انهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة" (الزمخشري).
ويختم القرآن خوارق ميلاد المسيح بخاتم النبوة التي تؤيدها. نُطلقُ المسيح ونبوته من مهده: جاءت به قومها تحمله، قالوا، وقد عرفوها بكراً بتولاً: يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً! فأشارت إليه أن اسألوهَ! قالوا: كيف تكلم من كان في المهد صبياً! هل تهزئين بنا؟ قال: "إني عبد الله، آتاني الكتاب وجعلني نبياً منذ مولدي!". بهذا نطق المعجز شهد لنفسه ولأمه.
ومعجز آخر انفرد به المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين : تنبأ منذ مولده (مريم 30)! استنبأ الله الأنبياء جميعهم "رجالاً وكهولاً"، وهو وحده استنبأه طفلاً! "تكلم الناس في المهد وكهلاً" (آل عمران 47، مائدة 115) دون تفاوت في النبوة بين الطفولة والكهولة (البيضاوي). هم صاروا أنبياء في كهولتهم، وهو وحده وُلد نبياً! لك يقرب منه إلا سابقه يحيي بن زكريا فقد "آتاه الله الحكم صبياً" (مريم 11) ليؤمن ويصدق بكلمة الله (آل عمران 39).
لم يجمع القرآن الألقاب العظيمة والصفات الفريدة في كلامه عن نبي كما جمعها في خبر مولد المسيح: فالملاك يصف للوالدة مولودها العجيب! بأربعة القاب تعنيه: أن الله يبشرك بكلمة منه! اسمه المسيح! عيسى! ابن مريم! أنه ابن مريم والقرآن يخصه بهذا اللقب شهادة منه دائمة بمعجزة أمومة والدته البتولية: ينسبه إلى أمه لأنه نسب له من سواها ويهاجم اليهود "لكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً" (نساء 156). أنه عيسى وهو اسمه الذاتي الذي يحمل معنى نبوياً في أصله اللغوي: أي المخلص. إن المسيح الذي ظهر ممسوحاً منذ مولده في الخطايا والأوزار، ممسوحاً بدهن النبوة، ممسوحاً بالقدرة الخارقة على المعجزات. وما ذلك كله إلا لأنه "كلمة الله"، كلام الله القائم في ذاته تعالى (الرازي) وكلام الله الذي به كلم البشر شخصياً! ثم بأربع صفات تظهر ما له من الميزات الفريدة في عالم النبوة: "وجيهاً في الدنيا والآخرة" مقدماً على البشر في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بشفاعته وعلو منزلته! "ومن المقربين" إلى عرش الجلالة! في الدنيا "يكلم الناس في المهد وكهلاً" وعن الرازي "قال أبو مسلم معناه أنه يكلمهم حال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية المعجز". وفي الآخرة يكون "من الصالحين" الخالدين.
وما أن ظهر المسيح حتى أيد منذ اللحظة الأولى بشارة الملائكة عنه. قال: "أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً": واللقبان مترادفان، أنه عبد الله الذي يعمل بنبوته في سبيل الله منذ وجوده. أنه المصطفى حبيب الله طيلة حياته "وجعلني مباركاً أينما كنت". أنه رجل الله قبل كل شيء، ومدى الحياة "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً"! وليس برجل الدنيا يعمل لسلطان أو لدولة "ولم يجعلني جباراً شقياً"!
حياة فريدة تستحق الصلاة والسلام من المهد إلى اللحد: "السلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً! سلام الله عليه في هذه الأحوال لأنها أوحش المواطن (الزمخشري) وفي هذا السلام نبوة عن موت عيسى وبعثه للحال، تؤيد تلك النبوة المستقبلة معجزة نُطقه في المهد وهي حاضرة.
حياة تبدأ بمعجزتي النطق والنبوة في المهد، وتتكلل بمعجزتي الانبعاث والرفع حياً إلى الله: أن صاحبها لأقوى من الموت والحياة. هل ذكر القرآن شيئاً من هذا بحق نبي أو رسول؟ وأن مجموع هذه الالقاب والنعوت والصفات مدعومة ومحفوفة بالخوارق والمعجزات، لتجعل من عيسى ابن مريم آية الأنبياء والمرسلين.
وقد استحوذت معجزة مولد المسيح الخارقة على افكار نبي القرآن وملكت عليه مشاعره. فهو يؤكدها في كل مناسبة: في مكة (مريم 21، انبياء 91، مؤمنون 51) وفي المدينة (آل عمران 45، نساء 156، تحريم 12), وهو كيفما نظر إليها وجد فيها آية المسيح الكبرى التي ترفعه فوق سائر البشر، آية للناس ورحمة من الله:
"قال ربك: هو علي هين! ولنجعله آية للناس! ورحمة منا! وكان أمراً مقضياً". (مريم 21).
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين" (مؤمنون 51)
بهذه الآية يوجز القرآن حداثة عيسى ابن مريم: لقد آواهما الله إلى ربوة منعزلة. لا يذكر القرآن أين كانت هذه الربوة، والمفسرون مختلفون حيارى, على كل حال ليست ببعيدة عن الهيكل الذي تربت فيه مريم، ولا عن بلد القدس الشريف الذي خلقت فيه.
يصف تلك الربوة "ذات قرار" أي مستوية يستقر عليها ساكنوها (الجلالان). وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها (البيضاوي). ويذكر أنها ذات "معين" أي ماء جار تراه العيون. اذن كانت خلوتهما في جنة غناء على رابية، أليس في هذا الوصف صورة لبلدة الناصرة التي يذكر الانجيل أن يسوع قضى حداثته فيها مع أمه؟
حسب القرآن باشر المسيح نبوته منذ طفولته: "قال أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 30). ودرج على النبوة في حداثته: "يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ ايدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً" (مائدة 113). والنبوة فُطرت معه تعلمها من الله حين ظهوره للوجود (مريم 30) وكانت وحياً شاملاً "ويعلمه الكتاب بالحكمة والتوراة والانجيل (آل عمران 48، مائدة 110). ونبوته من المهد في طفولته وحداثته "خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله وبعده" (الرازي، مائدة 113).
منذ حداثته يظهر المسيح عنوان التقوى والفضيلة والقداسة "يكلم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين" (آل عمران 46) قال الرازي: "ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين، فلما ذكر بعض المقامات اردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات". لا غرو في ذلك فهو الصديق ابن الصديقة (مائدة 78) خاتمة الذرية النبوية (آل عمران 33) المصطفاة على العالمين.
وُلد على الهدى ونشأ على البركة الإلهية؛ "جعلني مباركاً أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً (مريم 31). بركة الله تكتنفه أينما كان، ويقضي حياته في الصلاة والزكاة جاعلاً فيها وحدها قرة عينه وما كان بحاجة مثل غيره ليشرح له الله صدره ويضع عنه وزر الصغر والكبر (الشرح 1)، ولا في عوز مثل ابراهيم جد الأنبياء إلى استغفار ربه عن شركه في حداثته وجهالته. إنه المبارك في كل زمان ومكان.
ويذكر القرآن من عجائب المسيح في حداثته تسليته في خلق الطيور: "ورسولاً إلى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فانفخ فيه فيكون طيراً باذن الله" (آل عمران 49). ويرجع إلى ذكر هذه الأعجوبة في سورة المائدة: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني" (110). ولئن "خلق بإذن الله" فإن فيه، على كل حال، مرت هذه القدرة الإلهية، ولم يكن أحد غيره أهلاً لها، وما ذكر القرآن قط أن الله اعطى نبياً مثل هذا السلطان الإلهي,
فتلك الحداثة الخارقة، التي لا يذكر القرآن مثلها لغيره من الأنبياء والمرسلين امتازت، مثل حياة المسيح كلها، بنعمة خاصة من الله عليه وعلى أمه، وبتأييد خاص من روح القدس أي روح الله: "يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، اذ أيدتك بروح القدس" (مائدة 113). بهذه النعمة الإلهية، وبهذا التأييد الروحي كانت حداثة المسيح عيسى ابن مريم ولم تزل آية للعالمين: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين" (مؤمنون 51).
"وآتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة 87، 253، مائدة 113)
ان رسالة المسيح في القرآن قد امتازت وانفردت بتأييد "روح القدس". تعليم القرآن عن "الروح" غامض: "يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" (اسراء 85) بيد أنا نشعر أن روح القدس الذي اختص به عيسى ابن مريم دون سائر الناس ودون سائر الأنبياء، هو غير سائر الأرواح، وإضافته ونسبته إلى القدس تجعله في صلة خاصة مع الله تعالى، فقد جعلوا "القدس" مرادفاً لله: فلا يذكر القرآن أن نبياً اختص بهذا الأيد، ولا ينسب هذا الأيد العلوي إلى "خاتم النبيين" نفسه؛ أجل يقول القرآن عن تنزيل الوحي على محمد "نزله روح القدس من ربك بالحق" (نحل 102) ولكن روح القدس هنا مرادف للروح الأمين" (شعراء 193) الذي هو جبريل: "قل من كان عدواً لجبريل، وبهذا التصريح يتمزير عن "روح القدس" الذي خص القرآن تأييده بالمسيح. وروح المسيح هذا ليس فقط روح وحي بل هو أيضاً روح قدرة إلهية، به أحيا عيسى الموتى، وخلق من الطين طيوراً. أجل صفة "القدس" واحدة في وصف روح محمد وروح عيسى، ولكنها شخصية مختلفة ذات قدرة متفاوتة: فجبريل روح من أمر الله "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" (شورى 52)، أما روح القدس فهو روح الله الذي يحيي الموتى ويخلق الطيور بواسطة المسيح.
فرسالة المسيح وحدها وكرازته وحدها أيدهما الله بروحه القدوس. عندما يفصل القرآن ميزات الرسل في باب المفاضلة بينهم يختص عيسى ابن مريم بهذا التأييد: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم من كلم الله؛ ورفع بعضهم درجات؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة 253). وعندما يوجز تاريخ النبوة ينفرد المسيح بتأييد الروح القدس: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة 87). ويصرح القرآن بأن هذا التأييد كان نعمة خاصة من الله بالمسيح: "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك – وعلى والدتك – إذ ايدتك بروح القدس" (مائدة 113).
فالمسيح بقوة الروح القدس "يكلم الناس في المهد وكهلاً" (مائدة 113)؛ وبقوة الروح القدس ينطق بمعجزة في المهد؛ وبقوة الروح القدس يعلم الغيب، ويعلم الناس سبيل الله. وهو بقوة الروح القدس أيضاً يبرئ الأكمة والأبرص، ويخلق الطيور ويحيي الموتى. أجل، البينات نزلت مع كل الرسل "لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب (حديد 25) وجاء موسى بالبينات (بقرة 92) ومحمد أعطاه الله "آيات بينات" (بقرة 99) لكنها آيات خطابية لا عملية. ولكن البينات التي ظهرت على يد عيسى ابن مريم بتأييد روح القدس لا شبيه لها "آتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة 87).
وهذا التأييد الإلهي ميزة وخاصية ونعمة، والصفة الفارقة لرسالة المسيح حسب القرآن. الأمر الذي يدل على سمو تلك الرسالة، وعلى سمو تلك الكرازة وذلك الوحي,
فالروح القدس علم المسيح كل أنواع الوحي، وهو بعد طفل: "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك – وعلى والدتك – إذ ايدتك بروح القدس...وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل" (مائدة 113). لكن الله اختص عيسى بالإنجيل "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور" (مائدة 46). لقد حصر النبوة والكتاب في بني اسرائيل، والمسيح منهم، ولكن ميزه بالإنجيل: "ولقد ارسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب...ثم قفينا على أثرهم برسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه بالإنجيل" (حديد 29).
بقوة الروح القدس ولد المسيح نبياً: "قال أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 20)، وجاء رسولاً إلى بني اسرائيل "إذ قال عيسى ابن مريم: يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم" (صف 6). منذ كونه في بطن أمه جعله "رسولاً إلى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين..." (آل عمران 49). وقد صار منذ وجوده على الأرض نبياً ورسولاً بمسحة الروح القدس التي مسحته مسيحاً "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح" (آل عمران 45).
ويظهر القرآن فلضل رسول الانجيل وسمو رسالته بالألقاب التي وصفه بها دون سائر الأنبياء "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 171) رسول الانجيل مٌسح مسيحاً بقوة الروح القدس لأنه كلمة الله وروح منه تعالى وحل في مريم ومنها ظهر على الأرض يهدي الناس إلى سبيل الحق.
ولكن ماذا علم المسيح عيسى ابن مريم؟ علم الاسلام المسيحي: بشر بدين الله أي الإيمان بالله واليوم الآخر. من المهد نادى: "الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" (مريم 36). وطاف يكرز ويقول: "جئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون: أن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم" (آل عمران 51). ويظل الحياة كلها عاكفاً على نشر التوحيد بالحكمة، مؤيداً دعوته بالبينات: "ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون: إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" (زخرف 64). وهذا الاسلام المسيحي أوحى الله إلى الحواريين تلاميذ المسيح: "وإذ كففت بني اسرائيل عنك إذ جئتم بالبينات، فقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين، وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي. قالوا: "آمنا واشهد بأنا مسلمون" (مائدة 114) فقبل الحواريون توحيد عيسى وكفر سائر اليهود: "فلما أحس عيسى منهم بالكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون! ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين" (آل عمران 50 – 53). "إن ذلك اقرار منهم بأن دينهم الاسلام وأنه دين كل الأنبياء" (الرازي) ولم يبشر المسيح عيسى ابن مريم إلا بالتوحيد الشديد: "وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار" (مائدة 72). وفي استجواب المسيح يوم الدين، يوم يجمع الله الرسل، يستنكر كل تعليم إلا التوحيد الخالص: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك! مايكون لي أن أقول ما ليس بحق. أن كنت قلته فقد علمته. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب! ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: إن اعبدوا الله ربي وربكم" (مائدة 117).
ومن أهداف رسالة المسيح أن يثبت التوراة ويصدقها: "ورسولاً إلى بني اسرائيل...مصدقاً لما بين يدي من التوراة" (آل عمران 49 – 50)، وشهادته للتوراة شهادة لرسالته: "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة" (صف 6). فجاء الانجيل نوراً وهدى وموعظة للمتقين تصديقاً للتوراة: "وقفينا آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين" (مائدة 46).
بيد أن هذا التصديق لا يمنع المسيح من تخفيف شدة بعض شرائع التوراة: "ورسولاً إلى بني اسرائيل..مصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرم عليكم" (آل عمران 50).
ومن مقاصد كرازة المسيح أن يوفق بالحكمة التي اوتيها، بين البشر فيما اختلفوا فيه، ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله واطيعون" (زخرف 64).
وأما طريقة تعليمه فقد كانت بالتصريح البسيط عن التوحيد، وبالإيجاز المعجز: "إن الله ربي وربكم: فاعبدوه! هذا صراط مستقيم" (مريم 36، زخرف 64، آل عمران 51، مائدة 116) فالصراط المستقيم هو التوحيد المسيحي! وكانت طريقته بالأقوال والأمثال، إلا أن القرآن لم يذكر منها شيئاً كثيراً؛ فقد حفظ ذكر مثل الزرع: "ومثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطئهُ فآزره فاستغلظ فاستوي على سوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار" (فتح 29).
وجمعت الطريقة المسيحية الحكمة إلى البينات: "ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة" (زرخف 63). بينات من الحكمة والهدى خلبت لبهم حتى عدوها سحراً: "وإذ كففت بني اسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات، فقال الذين كفروا منهم: أن هذا إلا سحر مبين" (مائدة 110) وكانت تلك البينات معجزة من الأقوال والاعمال لم يسبق لها مثيل، فصلها كأسهم نارية في سورة المائدة (113): يكلم الناس في المهد وكهلاً، ويخلق الطيور ويحيي الموتى! وتلك الخوارق التي انفردت بها رسالة المسيح كانت بسبب تأييد الروح القدس الذي اختص به عيسى ابن مريم دون سواه: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة 87 و253),
ومن خصائص رسالة المسيح معرفة الغيب والنبوات: كان المسيح مطلعاً على سرائر الناس وأسرارهم: "وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: أن في ذلك لآية لكم أن كنتم مؤمنين" (آل عمران 49). وكان يعرف الغيب المجهول من الغد. ويورد القرآن في سورة مريم نبوة المسيح الكبرى عن آخرته: سوف يموت ويبعث في الحال حياً. ويعطي القرآن معجزة نطقه في المهد دليلاً على صحة نبوته هذه وصدقها: "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (مريم 33) فهل أعجب وأعظم من نبوة كهذه ذات أثر دائم، ينطق بها وليد في مطلع وجوده؟ أنها معجزة خارقة تؤيد نبوة خارقةِ! وأنها نبوة مدهشة تشهد لمعجزة مدهشة!
وخاتم رسالة المسيح في القرآن المعجزات التي عجز عن مثلها جميع الأنبياء، وهي على نوعين: المعجزات التي تمت في شخصه: الحبل والميلاد باعجوبة، والنطق حال وجوده، والتنبؤ طفلاً، وارتفاعه حياً إلى الله في آخر حياته الأرضية – مات أم لم يمت – فهو آية للعالمين في شخصه منذ دخوله العالم إلى حين خروجه منه.
ثم المعجزات التي تمت في غيره على يده، يوجزها القرآن في مقطعين: في آل عمران: "ورسولاً إلى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. وابرئ الأكمة والأبرص. وأحي الموتى بإذن الله" (آل عمران 49) ثم في المائدة: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني, وتبريء الأكمة والأبرص بإذني. وإذ تخرج الموتى بإذني" (110).
ردد القرآن على الدوام هذه الخوارق الباهرة التي اجراها المسيح تأييداً لرسالته. ولا يذكر لنبي مهما سما، ولا لمحمد نفسه، معجزة مثلها أو تدنو منها. وهو يصف عيسى ابن مريم بصفات هي أقرب إلى الخالق منها إلى المخلوق: أنه يخلق أحياء من الجماد، وأنه يخرج الموتى من القبور أحياء، وأعمال الإحياء والخلق من صفات الله عز وجل.
والمعجزة الكبرى التي اكتسحت إيمان الحواريين هي أنه أنزل عليهم مائدة من السماء: "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله: وإني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني اعذبه عذاباً لا اعذبه أحداً من العالمين" (مائدة 115 – 118) قال الرازي والجمهور الأعظم من المفسرين: "أنها نزلت..وليس هذا شكاًُ منهم بالله بل باستجابته لعيسى بهذه المعجزة التي يقترحونها عليه: فقد رأوا معجزات أرضية وهنا يطلبون معجزة من السماء". وأي نبي اعطاه الله معجزة كهذه من السماء؟ فآمن الحواريون بنزولها وآمن العالم على شهادتهم بهاوظلت عيداً لهم لأولهم وآخرهم إلى يوم القيامة.
لا يذكر القرآن رسالة لنبي حتى محمد، تأيدت بالخوارق مثل رسالة المسيح" معجزات حياة المسيح ومعجزات كرازته رفعت رسالته، بشهادة القرآن، فوق جميع الرسالات.
"إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلى"
(آل عمران 55).
نصل إلى نقطة حساسة من شهادة القرآن للانجيل والمسيح موضوعها نهاية المسيح على الأرض؟
إن الإنجيل المقدس يكرس ثلث صفحاته ليسر تفاصيل استشهاد المسيح بيد اليهود في أيام ولاية بيلاطس البنطي من قبل رومة على اليهودية، تأييداً منه لرسالته وتعليمه للذين لم ينكرهما أمام الموت المحتوم: لقد زكى شهادته بتضحية حياته؛ والشهادة المطبوعة بخاتم الدم لا تٌنقض. فيخبرنا الانجيل أن المسيح قد أوقف وحوكم وتألم وصلب ومات على الصليب ثم قام من القبر في اليوم الثالث وصعد حياً إلى السماء. والانجيل كله، والدين المسيحي كله مبني على فداء البشرية من خطاياها باستشهاد المسيح. فهل يمكن أو يعقل أن يزور كتاب برمته تفديه الملايين من الناس بالمهج والأرواح، وهؤلاء الملايين قد اختلفوا في عقائدهم المستمدة منه وفي فهم بعض آياته الخطيرة، ولكن لم يختلفوا في نص الكتاب الذي ائتمنوا عليه وكانوا عليه شهداء.
والنصارى انتشروا في كل زمان ومكان، وافترقوا فرقاً وجماعات مدة 600 سنة قبل ظهور القرآن، وراحوا يبشرون في كل موضع بحقيقة موت المسيح التاريخية على الصليب. فكيف يمكن أن نُكذب شعوب برمتها، اتفقت جميعها، مع اختلافها في غير أمر، على هذه الشهادة لحدث جلل محسوس مشاهد منقول بالتواتر؟
والقرآن ينقل لنا أيضاً شهادة شعب اليهود تحت كل سماء، وتبجحهم يكفرهم وقولهم: "إنا قتلنا المسيح، عيسى ابن مريم" (نساء 157)؛ شعب بكامله يشهد لحادث خطير محسوس قاموا بتمثيله، ونقلوا خبره بالتواتر حيث رحلوا وحلوا، ونأتي فنكذب شهادتهم ونكذب عيونهم وأيديهم وآذانهم وألسنتهم؟ وذلك بعد 600 سنة من جريان الحوادث وتواتر الشهادة، التي لم يرتفع صوت من النصارى أو اليهود أو الوثنيين ينقضها أو يطعن فيها؟!!
وقد شعر العلماء المسلمون بهذا الاشكال الضخم يوجه إلى مقالة من أنكر موت المسيح من المسلمين. ونقل العلامة الرازي: "الاشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً في ما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء".
إذن موت المسيح حقيقة تاريخية رددت الشعوت المختلفة والأجيال المتعاقبة صداها مدة 600 سنة قبل القرآن. فهل في القرآن صدى لهذه الحقيقة التاريخية، أم أنه ينفي، كما يزعمون، قتل المسيح وموته؟
أن موقف القرآن العام من هذا الموضوع لرائع!
فهو يشهد أنه كما دخل المسيح العالم بمعجزة فريدة خرج منه بمعجزة فريدة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، وتاريخ الأنبياء والمرسلين. فعيسى ابن مريم – مات أم لم يمت – قد ارتفع حياً إلى السماء حيث لم يزل حياً عند الله إلى قيام الساعة: "إذ قال الله، يا عيسى ابن مريم أني متوفيك ورافعك إلى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" (آل عمران 55). ونقول أن معجزة ارتفاع المسيح إلى السماء حياً في آخر حياته على الأرض – دون أن يذوق طعم الموت شأن كل بشر وكل نبي ورسول – أغرب وأعظم في جانبه من موته وقيامته وصعوده: في هذه المقالة مجد جديد للمسيح لم يحلم به بشر أو نبي ألا وهو استثناؤه من فريضة الموت العامة التي لا يستنثى منها أحد!! فبدل معجزة واحدة لآخرة المسيح يجدون معجزتين: استثناءه من الموت، وارتفاعه حياً إلى الله.
أولاً: شهادة القرآن بموت المسيح
"وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت
الرقيب عليهم" (مائدة 120).
1 النصوص التي تذكر آخرة المسيح بحسب تاريخ نزولها
1) سورة مريم: "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (33).
2) سورة البقرة: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم: ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" (87) (قد يكون فيه تلميح لموت المسيح).
3) سورة آل عمران: "قالوا أن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قل قد جاءكم رسل قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين" (183). (قد يكون فيه تلميح لموت المسيح).
وأيضاً: "إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين تبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" (55).
4) سورة النساء: "وقولهم (اليهود): إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله! – وما قتلوه! وما صلبوه! ولكن شبه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً" (156). (هذا النص هو سبب كل الجدل). وأيضاً: "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً" (157).
5) سورة المائدة: "وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ - قال، سبحانك، ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق: إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم. وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليههم، وأنت على كل شيء شهيد" (116 – 120). (وهذا النص هو آخر ما نزل في آخرة المسيح).
2 تحليل ونقد
نرى من جميع هذه النصوص المذكورة أنها تؤكد تصريحاً أو تلميحاً "وفاة" المسيح؛ ما خلا الآية 157 من سورة النساء "فيظهر" أنها تنفي القتل والصلب، وتخلقك بذلك المتناقضات بين التاريخ العام الذي تدعمه شهادة النصارى واليهود والرومان والتاريخ الخاص الذي تبدؤه هذه الآية الوحيدة؛ وبين الإنجيل المبني جميعه على حادث الصلب الفدائي وبين القرآن الذي يحصرون معطياته، بدون مبرر، في هذه الآية؛ وأخيراً بين سورة النساء وسائر السور التي قبلها (آل عمران، مريم) والتب بعدها (المائدة).
وإزاء هذه المشكلة المستعصية يذهب المفسرون مذاهب متباينة متناقضة:
1 القائلون بالمجاز: يجنح أكثر المتأخرين من المسلمين على قصر رواية القرآن عن آخرة المسيح على سورة النساء، وعلى تفسير كل ما تبقى من سائر السور على ضوئها. وقد يجمع هؤلاء القوم على أخذ "الوفاة" المذكورة في آل عمران 55 والمائدة 120 بالمعنى المجازي أي وفاة النوم استناداً إلى قوله "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه" (انعام 60). وقوله: "الله يتوفى الانفس حين موتها. والتي لم تمت في منامها: فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (زمر 42).
ولكن هؤلاء القوم نسوا أن القرآن يأخذ "الوفاة" بالمعنى الحقيقي أي الموت خمساً وعشرين مرة. ولم ترد بالمعنى المجازي إلا في الموضعين المذكورين بسبب قرينة لفظية تحملهما على المجاز "يتوفاكم بالليل" (انعام 60) و"يتوفى الأنفس في منامها" (زمر 42). وبدون قرينة لفظية أو معنوية تقيد المعنى يجب حمل اللفظ على معناه الحقيقي الوضعي البديهي. والقرآن ذايته يشعر بأن المعنى الحقيقي "للوفاة" هو الموت "الله يتوفى الأنفس حين موتها" لذلك لما أخذ "الوفاة" على المجاز اضطر إلى تبيان ذلك بقرينة لفظية فأضاف "الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت، في منامها". وفي النصوص كلها التي تذكر "وفاة" المسيح لا توجد أدنى قرينة لفظية أو معنوية تحلم معنى الوفاة على المجاز بل بالعكس فالقرآن المعنوية واللفظية تتطلب وفاة الموت.
2 القائلون بالاستيفاء: وهناك فئة تفسر معنى "الوفاة" لغة "بالاستيفاء" من استوفى الشيء وتوفى الشيء أي أخذه كاملاً. فقوله "إني متوفيك معناه مستوفي أجلك المسمى". وهذا ما ذهب إليه الزمخشري والبيضاوي، لتستقيم نصوص القرآن وتنسجم في شأن آخرة المسيح.
وفات هؤلاء القوم أن الكلام مركب من ألفاظ تستكمل معانيها في تركيبها وإن احتملت لغة ومفردة معاني عديدة. فالوفاة قد تعني "الاستيفاء" بحد ذاتها ولكن في تركيب الكلام المفيد لا تعني في لغة العرب ولغة القرآن كله إلا الموت، ما لم تخرج بها قرينة لفظية أو معنوية عن هذا المعنى.
وقد اختصر الرازي تفاسير المفسرين بقوله: "يا عيسى أني متوفيك (آل عمران 55) ونظيره قوله: "إني متوفيك" (مائدة 120): اختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين (احدهما) اجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير، و(الثاني) فرض التقديم والتأخير. أما الطريق الأول فبيانه من وجوه: 1 أني متمم عمرك من أجلك؛ 2 متوفيك أي مميتك وهو مروى عن ابن عباس قال مع وهب توفي ثلاث ساعات ثم رفع، ومع محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه إليه؛ 3 قال الربيع ابن أنس أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء؛ 4 يحمل الألفاظ على ظاهرها من موت ورفع ولكن كيف ومتى فلا يذكره؛ 5 متوفيك عن شهواتك؛ 6 التوفي هو أخذ الشيء وافياً أي كاملاً أي أخذه بجسده وروحه؛ 7 متوفيك أي اجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك؛ 8 التوفي هو القبض، يقال توفى واستوفى، وهو رفعه؛ 9 أن يقدر حذف المضاف أي متوفي عملك. – والطريق الثاني لابد من تقديم وتأخير في آية آل عمران، فالواو لا تفيد الترتيب، فيقدم الرفع وتؤخر الوفاة وتحمل على ظاهرها الموت. واعلم أن الوجوه التي قدمنا تغني عن التزام مخالفة الظاهر".
وهكذا ما أخذ "الوفاة" بمعنى "الاستيفاء" إلا قول عشرة أقوال. وأكثر الأقوال تقتضي حمل اللفظ على ظاهره بمعنى الموت.
3 الآخذون بمبدأ النسخ: تشاهد حيرة المفسرين لاستنباط تفسير منسجم بين النساء من جهة وآل عمران والمائدة من جهة أخرى. وهذه الحيرة وهذا الارتباك شاهد على وجود اشكال لم يسلكوا بعد إلى حله السبيل السوي.
وظن قوم آخرون أن لهم مخرجاً في مقالة الناسخ والمنسوخ فقالوا: أن ما جاء في سورة النساء ينسخ ما ورد في آل عمران ومريم. وعليه ظل الرأي العام الاسلامي على أن المسيح لم يمت. ولكن فات هؤلاء القوم أن النسخ – إن قُبل كمبدأ في تفسير كلام الله – لا يقع إلا في الأحكام من أمر أو نهي، ولا يجوز البتة أن يُسند إلى الاخبار: فالخبر أمر جرى على وجه معين لا تقدر قدرة أن تجعله لم يكن، "وكان أمر الله مفعولاً". فبعد أن شهد في مريم وآل عمران أن المسيح سيموت ومات فلا يجوز أن يكذب هذا الخبر بقوله في النساء: "وما قتلوه وما صلبوه!...وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه"! أي أنه لم يمت بأي حال من الاحوال.
وهب وقوع النسخ في هذا الخبر بعينه، فالمعروف بديهياً أن النسخ يتناول ما قبله، ولا يقع فعله على ما بعده. وهب أن الآية 156 في النساء قد نسخت وفسرت ما قبلها من سورة مريم وآل عمران، فكيف تنسخ ما بعدها من سورة المائدة التي لم تكن بعد قد نزلت، ولما نزلت لم يرد شيء بعدها عن آخرة المسيح؟ فما النسخ هنا كما ترى سوى المسخ بعينه!
4 اسطورة الشبيه: وهناك اسطورة غريبة يتناقلها القوم، ويسف بعض المفسرين إلى الأخذ بها، ألا وهي قصة "الشبه"؛ ومضمونها أنه لما مكر اليهود بالمسيح ليقتلوه مكر الله بهم، فألقى شبه عيسى على غيره فأخذ هذا الغير المسكين وقُتل بدل المسيح فيما المسيح عيسى ابن مريم يُرفع حياً إلى السماء (نساء 157) وكان الله خير الماكرين (آل عمران 54).
فهذا التعبير "شبه لهم" من هذه الآية "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" ،(نساء 156) أصل الرواية التي اخرجوها. وقد أثارت جدلاً طويلاً عقيماً وانقسم القوم حول الموضوع فرقاً: هل قُتل أحد بدل المسيح أم لا؟ وعند من قالوا بمقتول بدل المسيح هل ألقى على المقتول شِبه عيسى أم لا؟ وهل يجوز القاء شبه انسان على انسان آخر؟ وبعد أن يسرد الرازي برصانته المعهودة روايات الشبه الملقى يختم بقوله: "وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله اعلم بحقائق الأمور".
ثم يورد الرازي اشكالات ستة لا مرد لها على فساد نظرية "الشبه" الذائعة بين عامة المسلمين: "فكيفما كان ففي القاء شبه عيسى على الغير اشكالات: (الأول) أنه ان جاز أن يقال أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة ويفضي أيضاً إلى القدح في التواتر: ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره ابطال النبوءات بالكلية. (الثاني) أن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو نفسه كان قادراً على احياء الموتى فهل عجز عن حماية نفسه؟ (الثالث) أن الله تعالى كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء فما الفائدة في القاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا القاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟ (الرابع) بالقاء الشبه على غيره اعتقدوا أن هذا الغير عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله. (الخامس) أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء. (السادس) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى، والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم".
لذلك يجب رفض خرافة "الشبه" الشائعة بين المسلمين إلى حيث لا رجعة ورفضها لا يغير من موقف القرآن، ومقالة النساء، شيئاً.
5 القائلون بالارجاف: بقى قول من قال: "لم يُقتل أحد، ولكن أٌرجف بقتله فشاع بين الناس" وإليه يميل الرازي. قال البيضاوي أيضاً: "وشبه مسند إلى الجار والمجرور "لهم" كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول، أو وقع لهم التشبيه في الأمر على قول من قال لم يُقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس". – نقول لا تجوز فرية على شعوب مختلفة مدة مئات السنين!. ولا شيء ينقض تعليل الزمخشري وتفسيره لقوله "شبه لهم": "شبه مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فالمسيح مشبه به، وليس بمشبه. وإن اسندته إلى المقتول، فالمقتول لم يجر له ذكر! – قلت هو مسند إلى الجار والمجرور (لهم) كقولك خُيل إليهم". وهكذا فليس من ضرورة لغوية لاسطورة الشبه والتشبيه.
ومعنى التعبير بسيط له أمثاله في العربية: "شبه لهم" أي "خيل إليهم" (الزمخشري) أو "وقع لهم التشبيه في الأمر" (البيضاوي) أو اشتبه الأمر عليهم. فاسطورة "الشبه" ومقالة المقتول بدل المسيح، باطلة لغوياً ومنطقياً وتاريخياً فيجب طرح هذه السخافة نهائياً.
6 استنتاجات وتطبيقات: وبناء على ما تقدم نقول:
أولاً: إن التعارض في آي القرآن عن آخره المسيح موجود لا سبيل إلى انكاره إذ أصر القوم على فهم الآية 156 من سورة النساء حسب "ظاهرها" الذي ينكر موت المسيح وقتله وصلبه. إن صراحة وشدة نفي القتل والصلب والموت في سورة النساء حمل القوم على "تدبر" معنى الوفاة في آل عمران والمائدة على غير معناها الحقيقي. وهي محاولة فاشلة كما رأيت.
فقبل سورة النساء يعلن القرآن مرتين تصريحاً ومرتين تلميحاً بموت المسيح وقتله.
1) ففي سورة مريم المكية يتنبأ المسيح في مهده عن حياته وآخرته بقوله "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (33).
قال قوم لا يذكر القرآن هنا موت المسيح الوهمي الذي حصل عند مجيئه الأول بل موته الحقيقي الذي سيتم عند مجيئه الثاني قبل قيام الساعة.
لاشك أن القرآن يعني موت المسيح الحقيقي وبعثه الحقيقي كما يعني مولده الحقيقي الذي يقص خبره. ولا شك أن القرآن يعني موته الحقيقي الذي ختم به حياته بعد ظهوره الأول على الأرض كما عنى ذلك عن يحيي بن زكريا الذي ختم ذكره بالكلام ذاته "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت، ويوم يبعث حياً": فكما مات يحيي مات عيسى: فالمشهور أن هذا السلام يصف حادثاً تاريخياً مماثلاً، وموتاً حقيقياً لا مجاز فيه ليحيي كما للمسيح.
ولا تنس أن كلام عيسى عن نفسه في مهده (29) نبوة منه عن آخرته، مدعومة بمعجزة نطقه الخارقة: فإذا كان المسيح لم يمت كانت نبوته كاذبة، وشهادته لنفسه بهاتين المعجزة والنبوة كاذبة! ومعجزة نطقه في مهده زوراً وبهتاناً! وحاشى! وإذ حملنا تحقيق النبوة إلى آخر العالم، ضاع مغزاها على أهل زمانه والاجيال المتعاقبة إذ لا يدري أحد متى تتحقق.
فعندنا في سورة مريم شهادة صريحة لا ريب فيها على حقيقة موت المسيح وانبعاثه في شكل نبوة ترتكز على معجزة. وقول من قال: الموت لا يعني القتل، أو هو الموت الآجل لا العاجل، حذلقة فارغة ينقضها سياق الحديث في السورة كلها.
2) في سورة آل عمران المدنية يسرد قصص آل عمران مطولاً ويختمه بهذا التصريح عن آخره المسيح لما مكر اليهود به ليقتلوه (54): "إذ قال الله يا عيسى أني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" (55).
هذا أيضاً اقرار لا ريب فيه عن حقيقة وفاة المسيح وانبعاثه ورفعه إلى السماء. وتفسير الوفاة هنا بمعنى النوم كما يريد البعض -. أي رفعه الله إليه في سنة الكرى – تفسير سخيف لا قرينة لفظية أو معنوية تدل عليه. وجمهور المفسرين على أن القرآن يعني وفاة الموت كما يتضح جلياً من سورة المائدة (117) حيث الوفاة ترد معارضة للحياة.
قال الرازي: "روى عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق أنهما قالا: متوفيك أي مميتك ثم أقامه الله ورفعه إلى السماء. وقال وهب توفي ثلاث ساعات ثم رفع إلى السماء. وقال محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه". وختم البيضاوي بقوله: "وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى".
لايوجد مفسر واحد في الاسلام وغيره يستطيع أن يجزم بأن الوفاة هنا لا تعني أيضاً الموت؛ قال البيضاوي: "التوفي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه". وسياق الحديث (54 – 56) يؤيد ذلك: مكر اليهود بالمسيح وقتلوه، فمكر الله بهم فتوفاه ورفعه إليه، وهكذا "كان الله خير الماكرين".
3) وهناك في سورة البقرة تلميح يتضمن معناه الكامل قتل المسيح: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا ابن مريم بالبينات وايدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم؟ ففريقاً كذبتم! وفريقاً تقتلون!" (87). يذكر المفسرون من الفريق المقتول زكريا ويحيي، لا عيسى. مع أن القرآن لا يذكرهما هنا بل يسمى صراحة موسى وعيسى، ويشمل بينهما باقي الرسل بكلمة عابرة، أفلا يقع التكذيب على موسى والقتل على عيسى؟
4) وتلميح آخر في آل عمران أوضح: "قالوا أن الله عهد الينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. – قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم أن كنتم صادقين؟" (183) – من هو الرسول الذي جاء بالقربان "الذي قلتم" وقتلوه؟ راجع قصص القرآن كله عن الأنبياء جميعاً، فلا ترى غير عيسى ابن مريم وحده قد أنزل على تلاميذه قرباناً أو مائدة من السماء (مائدة 111 – 115). فهو إذن رسول القربان الذي قتلوه (120).
وبعد سورة النساء التي ظاهرها ينفي موت المسيح وقتله يعود القرآن في آخر حياة النبي العربي يشهد بحقيقة موت المسيح في سورة المائدة التي بعدها لا ينزل شيء عن آخرة المسيح:
"وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" (120).
هذا النص هو الصخرة التي تتحطم عليها جميع محاولات الذين ينكرون شهادة القرآن بموت المسيح. فالوفاة هنا تعني الموت والموت دون سواه، وتعني الموت الحقيقي لأنها ترد معاكسة للحياة: "مادمت فيهم = فلما توفيتني". فهي شهادة صريحة وما من شك فيها. ويريد القرآن موت المسيح في ختام رسالته، لا موته في آخر العالم قبل قيام الساعة، لأن الله يستجوبه عن عبادته بعد رسالته: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" (119) فينكر المسيح أن رسالته تضمنت شيئاً من ذلك (119 – 120) ويقول شهدت لهم بالتوحيد مادمت فيهم فلما توفيتني صرت أنت الرقيب عليهم (120) فالوفاة عقبت رسالته في الحال. وموت المسيح عند قيام الساعة لا يترك مجالاً لأحد كي يبعده إلهاً من دون الله. وهذه الشهادة على لسان المسيح نفسه لا مرد لها لأنها من يوم الدين حيث ينفع الصادقين صدقهم (122). وهي شهادة نهائية لا ينسخها شيء لا يفسرها شيء لأنها آخر شيء ورد في القرآن عن آخرة المسيح.
وهكذا فقد تبين لنا بوضوح أن القرآن قبل سورة النساء في مكة والمدينة، وبعد سورة النساء، في آخر القرآن (سورة المائدة) يشهد دون التباس البتة بحقيقة موت المسيح في ختام رسالته. فإذا تمسكنا بظاهر الآية 156 من النساء "وما قتلوه وما صلبوه" بمعنى انكار موت المسيح وقتله، نجد أنفسنا أمامم تناقض صريح فاضح.
ثانياً: أن الطريق التي سلكوا إلى إزالة هذا التناقض الظاهر ليست بالطريق السوي: إنهم يفسرون الكل بالبعض! يريدون أن يفهموا كل آي القرآن عن آخرة المسيح على ضوء آية واحدة (نساء 156). لا تؤخذ نظرية أو عقيدة في كتاب منزل أو غير منزل من نص واحد، بل من مجموع النصوص الواردة في المعنى ذاته. وعندنا في القرآن أربعة أو ستة نصوص عن آخرة المسيح، تشهد جميعها ألا واحداً بموت المسيح وقتله، فهل من العقل والمنطق أن نهمل الكل لنتمسك بجزء واحد؟!
أنخلق بهذا الموقف الشاء تناقضاً في القرآن بين سوره، وبين الانجيل والقرآن، وبين تفسيرهم المخطيء والتاريخ العام عند النصارى واليهود والأمميين؟ وقد قال القرآن عن نفسه: "أفلا تدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" (نساء 82).
إن الطريق السوي هي في فهم آية النساء الوحيدة على أضواء جميع آيات القرآن عن حقيقة موت المسيح وقتله. فالمنطق يقتضي فهم البعض على نور الكل. والطريق السوي هي عكس التي سلكوا.
لقد "تدبرنا" الآية 156 من سورة النساء على أنوار ما قبلها وما بعدها فوجدناها لا تتعارض معها. وسياق الكلام في النص المشبوه يؤكد ما نحن ذاهبون إليه: فالقرآن يسفه اليهود على زعمين: "كفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً! وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم". قال البيضاوي: "وإنما ذمهم الله تعالى بما دل عليه الكلام من جرأتهم على الله وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات القاهرة، وتبجحهم به، لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم". إنه يسفههم على تبجحهم الفارغ، لا على حقيقة القتل والصلب والموت لأن مكر الله بهم باحياء المسيح ورفعه حياً إلى السماء كان أشد من مكرهم بنبيه. فقتلهم اياه ليس بالقتل الذي يتوهمون وصلبهم إياه ليس بالصلب الذي يظنون اذ ما لبث أن انبعث حياً للحال وصعد إلى السماء حيث رفعه الله إليه. نقل الرازي "اجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك إلى".
ظنوا أنهم قضوا على المسيح عيسى ابن مريم رسول الله قضاء مبرماً ولا شوا ذكره إلى الأبد، فلا حاجة إذن لأن يذكره النبي العربي لهم. ولكنهم قد خاب ظنهم فما قتلوه نهائياً وما قضوا عليه قضاء مبرماً أي "وما قتلوه يقيناً" إذ أحياه الله في الحال ورفعه إليه وكان الله عزيزاً حكيماً، ومن ثم فلابد لهم من الإيمان به.
ومجموع التعابير في الآية يؤيد أن تبجحهم بالقضاء نهائياً على المسيح: غرور
1) شبه لهم وخيل إليهم انهم قضوا عليه قضاء نهائياً: فما قتلوه ذلك القتل وماصلبوه ذلك الصلب، ولكن شبه لهم، واشتبه الأمر عليهم. 2) وهم أيضاً مختلفون فيما بينهم على زعمهم ذاك وفي شك من قولهم: "وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه" 3) تبجحهم الفارغ من باب الظن لا من باب العلم اليقين: "ما لهم به من علم الا اتباع الظن". 4) أجل "ما قتلوه يقيناً" أي نهائياً وما قضوا عليه إلى الأبد كما يفتخرون، بل رفعه الله إليه حيث لم يزل حياً عند الله. 5) فالذي قتلوه وصلبوه ثم هو قام منبعثاً حياً ورفعه الله إليه كان كأنه لم يقتل ولم يصلب، وكان الله عزيزاً حكيماً، قادراً على اجراء هذه المعجزة.
والآية 157 التي تؤكد موت المسيح صراحة توجب علينا فهم الآية 156 كما رأيت يقول: "وإن من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته". يوجد غموض في الضمائر. ولكن سياق الحديث كله من 154 – 157 يدل على أن المقصود بها جميعاً عيسى ابن مريم: لابد لكل كتابي أن يؤمن بالمسيح قبل موته. فآمنوا بالمسيح يا يهود، ولا تتبجحوا بقتله: فلا مندوحة لكم عن الإيمان به.
فاستنتج أنه كان ظاهر القول ينفي قتل المسيح وصلبه فإن باطنه يؤكده. وهكذا تنسجم جميع تصريحات القرآن عن آخرة المسيح؛ أما إذا أصر القوم على موقفهم بأن الآية 156 من النساء تنفي قتل المسيح وصلبه، فإن التناقض بينها وبين سور مريم وآل عمران والمائدة قائم لا يزول على الاطلاق. وعلى كل حال إن كانت ثمت تطور أو تعارض فقد استقر رأي القرآن وانتهى بصراحة المائدة: فإنه لا اشكال على شهادة القرآن بعد تصريح سورة المائدة: "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" (120).
ثانياً: صعود المسيح إلى السماء
"بل رفعه الله إليه" (نساء 158)
مهما يكن في مسألة موت المسيح التاريخية في القرآن فالقرآن الكريم يشهد بأن آخرة االمسيح على الأرض ختمت بمعجزة كما بدأت بمعجزة.
فسواء مات المسيح وقام أم لم يمت بل ظل حياً إلى الأبد، فهذا لا يقلل من قيمة شهادة القرآن للانجيل والمسيح: فالمسيح حي "رفعه الله إليه" (نساء 158) ولا يزال حياً عند الله. وتلك ميزة انفرد بها المسيح على جميع البشر وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. فعيسى ابن مريم آية في مولده للعالمين، وهو آية أعظم في آخرته: وهاتان المعجزتان الفريدتان هما أفضل شهادة شهد بها الله لولي أو نبي أو رسول أو مخلوق أياً كان.
والقول بأن المسيح لم يمت ولم يذق طعم الذل الأكبر كسائر البشر المحكوم عليهم بالموت لا يستثنى منهم أحد، قول أعظم من الاعتراف بموته وقيامته لو فطنوا: أنه ينقل عيسى ابن مريم من صف البشر المائتين إلى صف غير البشر الخالدين.
"ورفع المسيح حياً إلى الله" عقيدة راسخة في القرآن، يؤكدها في مكة والمدينة ثلاث مرات: في سورة مريم: "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (33) يتنبأ ميلاده عن بعثه حياً، ويخاطبه الله مؤكداً رفعه إليه: "يا عيسى ابن مريم أني متوفيك ورافعك إلي" (آل عمران 55)؛ وقد ينكر قتله ولكن يشدد على التاكيد برفعه: "وماقتلوه يقيناً! بل رفعه الله إليه"! (نساء 158): ما قتلوه نهائياً كما فعلوا بغيره من الأنبياء، لأن الله رفعه حالاً إليه فكأنه لم يقتل، وكأنه لم تسر عليه سنة الموت، فهو أقوى من الموت!.
هل قال القرآن مثل هذا عن بشر؟ هل نسب مثل هذا إلى نبي أو رسول؟ هل أشار القرآن إلى أن محمداً "خاتم النبيين"، قد نال شيئاً من هذا؟ فالقرآن والحديث والتاريخ العام تشهد جميعاً بأن محمد قد مات كسائر الأنبياء، وحواه قبر في المدينة المنورة: "فما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قٌتل انقلبتم على أعقابكم؟" (آل عمران 144).
ويقول القرآن عن مصير "خاتم النبيين: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً": فالقرآن اذن يؤكد أن المسيح صعد في الحال حياً إلى السماء فيما ينتظر محمد أن يُبعث مع سائر الناس يوم يبعثون؛ ويؤكد أنه "عسى" أن يبعث محمد "مقاماً محموداً"، بينما يجزم ثلاث مرات أن "الله رفع عيسى إليه" وهو عنده حي إلى الأبد "ومن المقربين". قال الرازي: "رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية. ونظير هذه الآية قوله في آل عمران "رافعك إلي" ودل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية".
ثم ما معنى قوله "عسى"؟...وما مدى اليقين في هذا التمني؟...
وهكذا يشهد القرآن أن واحداً لا غير بين البشر، ودون الأنبياء والمرسلين بلا استثناء، كان أقوى من الموت، فلم يكن له عليه من سلطان: ألا وهو عيسى ابن مريم. بهذه المعجزة الفريدة جعل القرآن المسيح نهائياً، فوق البشر أجمعين لا يستثنى أحداً من الأنبياء والمرسلين.
فكان عيسى ابن مريم في آخرته كما كان في مولده آية للعالمين.
عيسى ابن مريم آية في يوم الدين
"وإنه لعلم للساعة" (زخرف 61)
تتعدد الميزات التي انفرد بها المسيح بين الأنبياء والمرسلين حسب شهادة القرآن الكريم. وها هو يسند إلى المسيح دوراً عظيماً في آخر العالم، ويوم الدين، لم يسنده إلى غيره.
أولاً: عيسى ابن مريم "علم" للساعة
نقرأ في سورة الزخرف: "ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون. وقالوا: آلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون. أن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون. وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون: هذا صراط مستقيم".
قرأنا "علم للساعة" وبعضهم يقرأ "علم للساعة". قال الزمخشري "وإنه لعلم للساعة أي شرط من أشراطها يعلم بها فسمي الشرط علماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس "لعلم" وهو العلامة. وقري "للعلم". وقرا بي "وإنه لذكر للساعة" على تسمية ما يذكر به ذكراً كما سمى ما يعلم به علماً. وعن الحسن: "أن الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة"؛ كذلك البيضاوي.
لا يمكن أن يعود الضمير في "وانه" إلى القرآن إذ لا ذكر له
في المقطع كله. وسياق الحديث كله، من قبل ومن بعد، يعود
إلى موضوع واحد لا ريب فيه"عيسى
قال الجلالان:"وإنه (عيسى) لعلم للساعة (تعلم بنزوله).
وقوله عن عيسى أنه "علم" للساعة أي علامة لها يعرف دنوها
من مجيئه وظهوره ثانية، أو "علم" للساعة أي معرفة لها
بظهوره كشرط من اشراطها، قولان يتقاربان.
هذه الآية إخبار عن دور المسيح قبل يوم الدين، حين تحين "الساعة" الآذنة بحلول الدينونة. ومعلوم أن لفظ "الساعة" مرادف ليوم الدين. وقد ورد الخبر عقب جواب جدلي عن شخصية المسيح. قال لهم: "وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟" (45). فأجابوه: "النصارى أهل الكتاب وهم يعبدون عيسى ويزعمون أنه ابن الله، والملائكة أولى بذلك. وقالوا: "آلهتنا خير أم هو؟" – ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك بنو قريش منه يصدون ويضجون فرحاً، ظناً منهم أنهم حاجوه. فجاء الجواب الشافي: "إن هو الا عبد أنعمنا عليه، وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل". وأضاف إليه قوله: "وأنه لعلم للساعة" أي علامة ودليل على قرب اليوم الآخر. فهو يجعل ظهور المسيح ثانية على الأرض شرطاً من أشراط حلول يوم الدين، وذكراً ومعرفة له، وعلامة تدل على وقوعه.
وفي هذا التعليم تصريح عن مجيء المسيح ثانية في آخر الأزمان. وفيه صدى لمقالة الإنجيل واعتقاد النصارى: "كذلك المسيح سيظهر ثانية لا ليكفر الخطيئة بل لخلاص الذين ينتظرونه" (عب 28:9).
ومن هنا انتشرت رواية "المهدي" ذاك الإمام الذي يظهر في آتيات الأيام ويرد الدين الحنيف إلى أصله. ومن تتبع معزى الرواية وجد أن عمل المسيح الموصوف والمهدي المذكور واحد. قالوا في المهدي (وهو اسم بلا مسمى) ما قيل عن المسيح.
وهذا أيضاً دور فريد اختص به القرآن عيسى ابن مريم دون سائر الأنبياء والمرسلين؛ وفيه ميزة خارقة: ميزة ظهور المسيح "علماً" للساعة، وخارقة رجوع المسيح إلى العالم ثانية في آخر الأزمان، مما لم يقل مثله عن نبي أو رسول. ولم يقل القرآن عن ابراهيم أو موسى أو محمد أنهم سيظهرون أيضاً قبل يوم الدين للدعوة الأخيرة إلى الله التي لا دعوة بعدها.
وفي هذا التعليم أيضاً تصريح ضمني بأن عيسى ابن مريم سيكون فعلاً خاتمة الانبياء والمرسلين إذ لا رسول ولا نبي معه أو بعده في يوم الدين عند قرب "الساعة".
ففي قوله "وأنه لعلم للساعة" قد جعل عيسى ابن مريم آية للعالمين منذ ظهوره إلى يوم الدين!.
ثانياً: عيسى ابن مريم "وجيه" وشفيع في يوم الدين
الشفاعة توسط النبي بين الخالق والمخلوق في يوم الدين لينقذ من يتوسط له من النار، فيغفر له الله خطايا حياته على الأرض ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار (مؤمن 7 و8).
وإذ تفحصنا القرآن فهل نراه يجيز الشفاعة في يوم الدين؟ أنه في مواضع ينفيها (في البقرة): "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة...واتقوا يوماً...ولا تقبل منها شفاعة..ولا تنفعها شفاعة". ويهاجم العرب على اتخاذهم آلهتهم شفعاء عند الله حيث يقولون "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (زمر 3)، فيجيب: "أم اتخذوا من دون الله شفعاء؟ قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون! قل الله الشفاعة جميعاً:له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون" (43 – 44). ويحصر الشفاعة في الخالق وحده: "الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تذكرون" ((سجدة 4). فالشفاعة في القرآن من حقوق الله المحفوظة له دون سواه.
وفي مواضع يثبتها في معرض النفي – إذ يرتضي بالشفاعة ويأذن بها – لمن شهد بالحق. "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" (انبياء) "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه (بقرة) "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" (يونس) "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من اذن له الرحمن (طه) "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له" (سبأ) "ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق" (زخرف).
فكأنه نفى الشفاعة التي يدعون لآلهتم، واعترف بها للملائكة المقربين: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم؛ ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم" (المؤمن 7 و8). في هذه الآية تعريف بالشفاعة واعتراف بها.
ولا يذكر القرآن شفاعة لأحد من الأنبياء. ومحمد خاتم النبيين يحرمه القرآن حتى حق الشفاعة في الدنيا: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم: إن تستغفر سبعين مرة فلن يغفر الله لهم! ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين" (توبة 81): يبين له حسم المغفرة بآية: "استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم" (الجلالان) يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم (البيضاوي)، بل يعد القرآن استغفار محمد لهم عبثاً. ويحرمه حق الشفاعة في الآخرة بقوله: "أفمن حق عليه كلمة العذاب: أفأنت تنقذ من في النار؟!" (زمر 19) كررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الانكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلق فيه (البيضاوي).
وابراهيم جد الأنبياء يطلب أن يغفر الله له خطيئته يوم الدين: "رب العالمين...الذي خلقني فهو يهدين...والذي يميتني ثم يحيين...والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين...رب واجعلني من ورثة جنة النعيم..ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون" (77 – 90). فمن كان بحاجة إلى شفاعة لا يقدر أن يشفع في غيره، من يطمع في أن يغفر الله له خطيئته يوم الدين، لا يقدر أن ينقذ من في النار.
ومع ذلك فيظهر أن القرآن قد أعطى عيسى ابن مريم حق الشفاعة في الآخرة حيث يقول: "إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين" (آل عمران 45): أنه وجيه في الآخرة أيضاً، وأنه من المقربين.
أجمع المفسرون على أن وجاهة الآخرة هي الشفاعة. قال البيضاوي: "الوجاهة في الدنيا النبوة، وفي الآخرة الشفاعة"؛ وقال الجلالان: "وجيهاً أي ذا جاه في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العلى"؛ وقال الزمخشري: "الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة"؛ وقال الرازي: "الوجاهة في الدنيا هي النبوة، أو استجابة دعائه أو براءته من العيوب، وفي الآخرة بالشفاعة أو علو درجته ومنزلته أو كثرة ثوابه".
وفي قوله "ومن المقربين" رفع لمنزلة المسيح حتى الملائكة المقربين، وتمثيل لشفاعته كما يستغفرون هم للذين آمنوا (المؤمن 7 و8)؛ وقيل هو اشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة (الزمخشري والبيضاوي). وقيل: جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم (الرازي) فالقربى من الله في الجنة دالة على الله ومقام شفاعة واستغفار للمخلوقين.
فعيسى ابن مريم له في الآخرة دنو من الله، وتقرب منه تعالى، وحظوة لديه، ووجاهة عنده، ودالة عليه: وكل ذلك لا يعني الشفاعة كما يفسرون؟
ومهما يكن من معنى هذه الآية فهي تدل على كل حال أن للمسيح عند الله في الآخرة ميزة الوجاهة على الناس والأنبياء، التي كانت له على الأرض. وقد رأينا أنه انفرد بهذه الوجاهة في الدنيا، فكذلك ينفرد بها في السماء على العالمين والمرسلين. والقرآن لا يذكر لنبي مهما سما شيئاً من ذلك.
وهكذا يصادق القرآن قول الكتاب: "إن المسيح لم يدخل إلى أقداس صنعتها الأيدي رموزاً للحقيقة بل دخل إلى السماء بعينها ليتراءى الآن أمام الله من أجلنا (عب 25:9)؛ وأيضاً: فإنه بعد أن قرب عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس عن يمين الله إلى الأبد...فمن ثم يقدر أن يخلص على الدوام الذين يتقربون به إلى الله إذ هو حي كل حين ليشفع فيهم" (25:7) فالقرآن بعد الانجيل يشهد أن المسيح حي في السماء يشفع في العالمين؛ ومن ثم فعيسى ابن مريم آية في الدنيا والأخرة للعالمين.
عيسى ابن مريم آية في قداسته وكماله
"إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً" (مريم 18)
القداسة، هي التقوى والفضيلة الكاملة؛ بل هي مجموع الفضائل، وعنوان الكمال. وقد تقرن القداسة بالعصمة من الرذائل والخطايا إذا اقتضى الامر في وظيفة سامية ينتدب الله إليها مخلوقاً، كالنبوة مثلاً.
والقداسة صفة من صفات الله عز وجل. لا يسبغها إلا على من اصطفى من عباده ليختمه بخاتمه الإلهي. وهي ميزة منه تعالى لمختاريه، ومعجزة عظيمة جداً يشهد بها الله لأنبيائه وأوليائه: لا توجد في بشر إلا بمنة ونعمة سامية من جودة المولى بالجواد. فلا يقدر مخلوق خلق وجبل من لحم ودم أن ينزه عن الخطيئة والاثم إلا بفضل خاص ونعمة خاصة من الرحمن الرحيم: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء" (نور 21).
ولقد اختلف المسلمون في عصمة الأنبياء من الضلال والخطيئة. فمنهم من قال بعصمتهم على الاطلاق. ومنهم من قال بعصمتهم بعد سن البلوغ ونسب إليهم الخطأ في الصغر. ومنهم من قال بعصمتهم في تبليغ الرسائل فقط، وامكان ارتكاب الخطأ فيما سوى ذلك: فالعصمة تكون عندهم من الضلال لا من الرذيلة والخطيئةّ. والرأي الأخير هو ما كان يعتقده الامام محمد عبده مفتي الديار المصرية.
والقرآن لا يستثني أحد من الضلال والخطيئة. فالنفس خلقت أمارة بالسوء: "إن النفس لأمارة بالسوء" (يوسف 53) التعريف فيها للجنس لا للفرد، و"أمارة" من صنيع المبالغة، واللام فيها للتحقيق؛ "قال ذلك يوسف الصديق من حيث أنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات" (البيضاوي). وبسبب هذا الميل الفطري إلى الشر كان حتماً على كل بشر أن يرد جهنم: "وإن منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننتجي الذين اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثياً" (مريم) قال الرازي: "ولا يجوز أن يقال (ثم ننجي) إلا والكل واردون النار". وعن جابر: "الورود وهو الدخول: لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها". وقال البيضاوي: "منكم، التفات إلى الإنسان، واردها أي واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم. كان على ربك حتماً مقضياً، كان ورودهم واجباً أوجبه الله على نفسه وقضى بأن وعد به وعداً لا يمكن خلقه وقيل اقسم عليه".
وجاء الإيمان بالله عوناً على الشر وتزكية منه: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً" (نور 21) لذلك فالشيطان قرين للكافرين: "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين" (زخرف 35).
فالإنسان من طبعه ميال بالفطرة إلى الضلال والخطيئة، وما الهدى والفضيلة إلا من فضل الله ورحمته.
وينسب القرآ، الخطيئة إلى كل الأنبياء.
إلى آدم وزوجته "فأزلهما الشيطان" (بقرة 3)، "وعصى آدم ربه فغوى" (طه 121)، وقد اعترف بخطيئته (اعتراف 22). وإلى نوح: "ربي اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي" (نوح 28). وإلى ابراهيم، جد المؤمنين والأنبياء: فقد كفر ثم اهتدى (انعام 76) وكان يصلي هكذا: "ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب" (ابراهيم 41)، فلقد شمله الاثم الذي يمس كل البشرية (بقرة 26، أنبياء 64)؛ وإلى موسى، سيد الشريعة الذي كلم الله تكليماً (نساء 163) فقد وكز المصري فقضى عليه فقال "هذا من عمل الشيطان! قال ربي فاغفر لي! فغفر له" (قصص 16) كذلك شعراء 19، اعراف 149. وإلى داود، النبي والملك، صاحب الزبور: "وظن داود أنا فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب فغفرنا له" (ص 24 – 25) وإلى يوسف الذي همت به امرأة سيده وهم بها لولا أن رأ برهان ربه (يوسف 24). إلى سليمان، فخر الملوك، الذي سخر له الله الانس والجن والطير "إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد..قال ربي اغفر لي" (ص 29 – 40). إلى يونس الذي نجا من الحوت في البحر "إذ أبق إلى الفلك المشحون" (صافات 139).
وهكذا إلى جميع الأنبياء والمرسلين الذين هم صفوة البشرية.
وكنا نأمل أن ينزه القرآن، محمداً، خاتم النبيين، ومثال الكمال المأمول، عن الخطيئة. فإذا به ينسبها إليه كما نسبها إلى غيره:
فيقول: عن طفولته وحداثته: "ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك!" (شرح 1 – 3)؛ وزر ينقض الظهر ليس هو بالصغير ولا الحقير! وفي المدينة، عندما استفحل أمره، وبلغ أوج مجده بدعوة التوحيد، يقال له بعد "فتح" الحديبية: "إن فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" (فتح 2) سبق له ذنوب ويتبعها ذنوب! وقد شعر محمد بحاجة دائمة إلى الاستغفار: "واصبر أن وعد الله حق: واستغفر لذنبك" (غافر أو المؤمن 55)؛ ويؤمر مراراً وتكراراً بالاستغفار "واستغفر الله أن الله كان غفوراً رحيماً" (نساء 106). أنها حاجة ملحة فيه كما في سائر المؤمنين والمؤمنات: "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" (محمد 19). فالخطيئة مرض بشري وقع فيه محمد كما وقع فيه غيره من الأنبياء والمرسلين.
ثم ألا ينسب القرآن الشك إلى محمد في قوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسل الذي يقرؤن الكتاب من قبلك: لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" (يونس 94)؟ والميلان عن القضاء بالحق في قوله: "ولا تكن للخائنين خصيماً"؟ والركون إلى المشركين في قوله: "لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً" (اسراء 76)؟ والأذن للمنافقين بالقعود عن الجهاد في قوله "عفا الله عنك لما أذنت لهم" (توبة)؟
أما الخطيئة فقد جاء في الحديث أنه كما يستغفر ربه سبعين مرة في اليوم وعلى قول بعضهم مئة مرة في اليوم! فتلك الحاجة الماسة للاستغفار، يؤكدها أمر من فوق، تدل على شعور الضمير بالإثم الذي أتعب وجدان البشرية جمعاء لا يُستثنى منها أحد.
بلى! واحد أحدٌ بين الناس، وبين الأنبياء والمرسلين، لا يذكر له القرآن إثماً ولا علاقة بالإثم على الاطلاق! هو عيسى ابن مريم. فهو لا ينسب إليه خطيئة أبداً. ولا نرى منه أنه يشعر بحاجة إلى الاستغفار. ولا نقرأ أنه أمر بطلب الغفران,. ولا نسمع في القرآن أو في الإنجيل أنه تاب، أو احتاج إلى توبة، أو طلب صفحاً عن اثم. بل في الإنجيل يتحدى خصومه بهذه الجرأة الكاملة: "من منكم يثبت على خطيئة" (يوحنا).
قبل ميلاده عٌصم وأمه من الشيطان الرجيم "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" (آل عمران 36)؛ وحده هو وأمه بين صفوة المختارين حبل به وولد في نجوة من خطيئة الجنس البشري (الآية نفسها). وجاء عن هذه الآية في صحيح البخاري وصحيح مسلم: "كل آدمي يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء منه". فالقرآنن والحديث يعصمان المسيح وأمه من مس الشيطان وطعنته وكل أذى يؤتيه: أنها عصمة مبدئية مقررة قبل ميلادهما ونرى في مولد المسيح من أم بتول لم يمسها بشر معجزة تفسر عصمتهما من خطيئة الجنس البشري.
والملاك الذي يبشر العذراء بالحبل المعجز يبشرها "بالغلام الزكي": "إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً" (مريم 19) أي "طاهراً من الذنوب، كما يفسره البيضاوي، نامياً على الخير، مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح". ملاك الله يعلن لأمه أنه سيكون طاهراً من كل اثم، زكياً، طيلة حياته. وهذه البشرى من قبل أن يولد توكيد من السماء لطهارته ونبوة بقداسته.
وهذه الطهارة وهذه القداسة آتاه الله إياها، وأوصاه بها طيلة حياته في كل زمان ومكان: "وجعلني مباركاً أين ما كنت! وأوصاني بالصلوة والزكوة فهو ليس بجبار، رجل حروب وغزوات، وليس بشقي يرعب الناس وينتصر بوسائل الارهاب: بل هو رجل الله، رجل الصلاة والزكاة مادام حياً!.
ليس له سوى أمه، من صلات الدم، فهو "بر بها" وهذه الصفة تحوي كل واجبات الولد نحو والدته.
وهناك حديث مشهور أيضاً عن قتادة قوله: "وذكروا لنا أنهما (المسيح وأمه) كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم". شهد له بالعصمة الفعلية كما شهد له بالعصمة المبدئية. ونجد في انتصار المسيح على الموت برفعه إلى السماء حياً تفسيراً كاملاً لعصمته في حياته من سلطان الخطيئة.
لذلك، هو وحده، أعطى مثالاً وقدوة لبني اسرائيل وسائر الناس:"إن هو إلا عبد انعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل" (زخرف 79). ولا ينص القرآن عن غيره أنه اعطى مثلاً يقتدى به في جميع أعماله وأقواله.
وهكذا أجمع القرآن والحديث والتفسير على عصمة المسيح المبدئية والفعلية من كل خطيئة. فجعله القرآن في الدنيا "من الصالحين" وفي الآخرة "من المقربين" (آل عمران 45 و46). وهكذا استثنى المسيح من صف البشر الخاطئين الخاضعين بطبيعتهم لسلطان الشر.
ونعرف جميعنا بالخبرة الشخصية، وأولياء الله وأنبياؤه خبروا معنا، أن نفس الإنسان، كل إنسان، أمارة بالسوء. فكبار المختارين من ابراهيم إلى موسى إلى محمد لم يسلموا من شر الخطيئة. واحد وحده، عيسى ابن مريم، مسيح الله وكلمته وروحه، يشهد له الكتاب والقرآن أنه تبرأ من الاثم، وعصم من الخطيئة ولم يكن للشر عليه من سلطان على الاطلاق. بل "أنه قدوس بريء زكي متنزه عن الخطأة أعلى من السماوات" (عب 47:7).
بهذه القداسة الفائقة معجزة الكمال التي انفرد بها المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين، قد صار عيسى ابن مريم "غلاماً زكياً" "أعلى من السماوات" و"آية للعالمين".
[1] - هذا النص لا يمت إلى السورة بصلة لأنه متباين مع ما قبله ومع ما بعده. ويجوز أن يكون له صلة بعيدة بالآيتين الأولى والثانية: اتبع ما يوحي إليك ولا تطع المنافقين في جعلهم أدعياءهم ابناءهم؛ فهذا ميثاق عليك وعلى الرسل. وفكرة الميثاق والعهد فكرة كتابية محضة. والعهد واحد بين الله وشعبه كما نرى في التوراة. فجعل القرآن فكرة العهد مجددة مع كل نبي، وخاصة مع مشاهير أرباب الشرائع الذين يخصهم بالذكر.
[2] آية 8 "ليسأل الصادقين عن صدقهم" – في الضمائر غموض. "ليسأل الله يوم القيامة الانبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم؛ أو تصديق قومهم إياهم تبكيتاً لهم؛ أو المصدقين لهم عن تصديقهم؛ أو ليسأل الله المؤمنين عن صدقهم عهد الأنبياء" (البيضاوي).
[3] الآيات 149 – 150 "الكافرون حقاً هم الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض (المسيح) كاليهود؛ أو يؤمنون بالله ويكفرون بالرسل كالمشركين (عن الزمخشري).
[4] الآيات 152 – 153 يذكر لهم ثلاث جنايات فاضحات بعد بينات من المعجزات واضحات.
الآيات 154 – 156 يذكر فيها خمسة أسباب لظلمهم (158) أو خمساً من مظالمهم ومنها قولهم على مريم بهتاناً عظيماً بنسبتهم اياها إلى الزنى. وإنما صار هذا الطعن بهتاناً عظيماً لأنه ظهر عند ميلاد عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دل على براءتها من كل عيب (الرازي) ومنها قولهم إنا قتلنا المسيح!
آية 156 – فيها أقوال: 1) اليهود أعداء المسيح فكيف يعترفون بالقابه ورسالته "إنا قتلنا المسيح – عيسى ابن مريم رسول الله"! "قالوه استهزاء؛ ويتحمل أن يكون استئنافاً من الله بمدحه أو وصفاًً للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح" (البيضاوي والرازي) – لاحظ قولهم "إنا قتلنا المسيح"
هي مقالة شعب برمته يؤكد ذلك بالتواتر منذ ست مئة سنة. ولا يجوز الطعن في المتواتر وإلا لما بقى للاخبار التاريخية من مستند.
2) "وما قتلوه! وما صلبوه! ولكن شبه لهم": ما معنى قوله شبه لهم؟ "شبه" مسند إلى ماذا؟ أن جعلته مسنداً إلى المسيح فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول (زعموا أن اليهود قتلوا آخر شبيهاً بعيسى) فالمقتول لم يجر له ذكر! قلت هو مسند إلى الجار والمجرور "لهم كقولك خيل إليهم كأنه قيل وقع لهم التشبيه؛ ويجوز أن يُسند إلى ضمير المقتول (الزمخشري والرازي).
وهناك خلاف بين المفسرين: اقتل أحد بدل المسيح أم لم يقتل؟ "ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول، أو في الأمر على قول من قال "لم يٌقتل أحد" ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس (البيضاوي).
أما الذين قالوا أن ثم قتيلاً فيبررون تواتر مقالة اليهود بخلق شبه للمسيح يقتل عوضه؛ قال الرازي: "اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع وذكروا طرقاً: الأول، قال كثير من المتكلمين إن اليهود لما قصدوا قتلوه رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع القتنة من عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح. الثاني، أنه تعالى القى شبهه على إنسان آخر، ثم فيه وجوه: 1 دخل طيطاوس اليهودي بيتاً كان المسيح فيه فلم يجده وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب؛ 2 وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى؛ 3 تطوع أحد أصحابه فألقى اللع شبه عيسى عليه فأخرج وقتل، ورفع عيسى؛ 4 نافق أحد تابعيه ودلهم على عيسى ليقتلوه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه
عليه فقتل وصلب. – وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله اعلم بحقائق الأمور".
وقال أيضاً (في آل عمران): فكيفما كان ففي القاء شبهه على الغير اشكالات (الاشكال الأول) أنه ان جاز أن يقال أن الله تعالى يلقى شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة وأيضاً يقضي إلى القدح في التواتر: ففتح هذا الباب وله سفسطة وآخره أبطال النبؤات بالكلية؛ (والاشكال الثاني) أن الله أيده بروح القدس جبريل فهل عجز هنا عن تأييده؛ وهو كان قادراً على احياء الموتى فهل عجز عن حماية نفسه؛ (والاشكال الثالث) أنه تعالى كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء فما الفائدة في القاء شبهه على غيره وهل فيه الا القاء مسكيي في القتل من غير فائدة إليه؛ (والاشكال الرابع) بإلقاء الشبه على غيره اعتقدوا (اليهود) أن هذا الغير هو عيسى مع أنه ما كان عيسى فهذا كان القاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله؛ (والاشكال الخامس) أن النصارى (واليهود) على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء؛ (والاشكال السادس) إلا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى، والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم". ويحاول أن يذكر الجواب على تلك الاشكالات ويختم قوله "وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه" – لذلك يجب رفض خرافة الشبه الشائعة بين المسلمين. ورفضها لا يغير من موقف القرآن ومقالته شيئاً. وبقى قول.
[5] من قال: لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس، وإليه يميل الرازي والبيضاوي. وعليه نجيب كيف يمكن نقض مقالة اليهود والنصارى العامة المتواترة مدة ست مئة سنة قبل سورة النساء!
فقوله "شبه لهم" لا يمكن أن يٌسند نصاً إلى المسيح أو إلى المقتول المزعوم كما يشهد الرازي والزمخشري. بقى أن معناه "خيل إليهم الأمر" أو "وقع لهم التشبيه في الأمر" أي اشتبه عليهم الأمر ويفسره ما يرد بعده، كما يفسره الزمخشري والرازي.
3) "وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه" لفي تردد، وكما أن الشك يطلق على ما لا يٌرجح أحد طرفيه يطلق أيضاً على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكده بقوله "ما لهم به من علم الا اتباع الظن". ثم من هو فاعل "اختلفوا"؟ قالوا أنهم النصاري اتفقوا على أن اليهود قتلوا المسيح، واختلفت النسطورية والملكانية واليعقوبية في كيفية وقوع القتل على الناسوت دون اللاهوت، وقالوا أيضاً أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود" (الرازي) – ونقول ليس من محل لذكر النصارى في النص كله. بل الكلام كله في الآية والمقطع عن اليهود.
آية 157 – 4) "وما قتلوه يقيناً" قتلاً يقيناً أو متيقنين (الزمخشري والبيضاوي) أو يجعل يقيناً تأكيداً لقوله وما قتلوه (الزمخشري).
5) "بل رفعه الله إليه": رد وانكار لقتله وإثبات لرفعه (البيضاوي) "ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية. ونظير هذه الآية قوله في آل عمران: أني متوفيك ورافعك إلي". ودل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية
"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170)
نصل إلى نقطة الخلاف الكبرى بين النصرانية والإسلام: أعني ألوهية المسيح[1]. وهو الخلاف الوحيد أو يكاد بين الإنجيل والقرآن. ونظن أنه على كل حال خلاف ظاهري، لا حقيقي ولا جوهري، لاختلاف وجهات النظر إلى الموضوع الواحد في الكتابين[2].
فالألوهية التي ينكرها القرآن على المسيح ليست بالتي ينسبها الإنجيل إليه. والتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي.
والألقاب التي يصف بها القرآن المسيح هي أقرب إلى الخالق منها إلى المخلوق.
بحث أول: ألوهية المسيح في القرآن:
"قل إن كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين" (زخرف 81)
ينكر القرآن أشد الإنكار تعدد الآلهة بناء على شهادة الأنبياء المتعاقبين: "وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا، اجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون" (زخرف 45)، ومنطق العقل البديهي: "قل لو أن في السماء والأرض إلهين لفسدتا" (أنبياء).
ويشهد للتوحيد الخالص في كل صفحاته: "شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم – قائماً بالقسط – لا إله إلا هو العزيز الحكيم" (آل عمران 18).
ينفي القرآن الولادة في الله، ولا يقدر أن يتحمل تأليه أحد مع الله، بولادة أو بسواها: "قل هو الله أحد، الله الصمد! لم يلد ولم يولد! ولم يكن له كفوءاً أحد" (الإخلاص). لا تناسل فيه، ولا مثله أحد يتخذه ولداً، فوحدانيته لا يشاركه فيها أحد.
وينكر أشد الإنكار بنوة أي مخلوق من الله: "وقالوا اتخذ الله ولداً! – سبحانه بل له ما في السمواوات والأرض، كل له قانتون: بديع السموات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون" (بقرة 117). لا يمكن للإله أن يكون مخلوقاً ولا يمكن للمخلوق أن يصير إلهاً، بالبنوة أو بالتبني: "وقالوا: اتخذ الرحمن ولداً! – لقد جئتم شيئاً إذاً تكاد السموات يتقطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً: أن دعوا للرحمن ولداً! وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً: إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً" (مريم 88-93).
ينكر حتى البنوة المعنوية التي يدعيها اليهود والنصارى لأنفسهم من الله: "وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه! – قل فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق" (مائدة 20). وينكر هذه البنوة المعنوية حتى في الأنبياء والملائكة: "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً! أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟" (آل عمران 80) لأنها تقود إلى الشرك: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً! ... وجعلوا له من عباده جزءاً: إن الإنسان لكفور مبين" (زخرف 15، 19).
حتى عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته وروحه، لا يمكن لله أن يتخذه ولداً أو يصيره إلهاً، لأن كل مخلوق عبد الله بطبيعته. "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداص لله ولا الملائكة المقربون" (نساء 172) فبتأليه عيسى "ضاهى" النصارى قول الذين كفروا من قبل من المشركين: "وقالت النصارى: المسيح ابن الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهون قول الذين كفروا من قبل: قاتلهم الله أنى يؤفكون" (توبة 31).
وأما الأسباب التي دعت إلى هذا التكفير والنكران فتنحصر في نظريتين:
1) النظرية الأولى أن كل بنوة أو ولادة تنسب إلى الله لا يمكن أن تكون إلا جسدية تناسلية: "بديع السماوات والأرض، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" (أنعام 101): لا يفهم القرآن البنوة والولادة، أياً كانت إلا بزوجة وزواج. فكل بنوة عنده هي مخلوقة بشرية جسدية تناسلية. فهو يجهل البنوة المعنوية أو ما يسمى التبني الإلهي. وهو يجهل أيضاً مفهوم الولادة المجردة، لأن الولادة بحد ذاتها هي انحدار حي من حي انحداراً ينتج عنه، بفعله الذاتي، مشابهة تامة في الطبيعة. وهذا الانحدار قد يكون جسدياً كما في الإنسان، وقد يكون عقلياً كالذي يسنده الإنجيل إلى المسيح.
2) والنظرية الثانية، المنبثقة من الأولى، هي امتناع الصاحبة والولد عند الله لأنه "اتخاذ" لا تناسب فيه ولا تكافؤ في طبيعة الآخذ والمأخوذ: "وأنه تعالى جد ربناً: ما اتخذ صاحبة ولا ولداً" (الجن 3) تنزه جلاله وعظمته عما نُسب إليه من الزوجة والولد (الجلالان). لذلك ينتفي تأليه المسيح أو غيره لأنه "اتخاذ": "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً (آل عمران 80)، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم (توبة 32) ذلك عيسى ابن مريم، قول الحق، الذي فيه يمترون: ما كان الله أن يتخذ من ولد، سبحانه" (مريم 34).
ويساوي القرآن بين تأليه المسيح وتأليه آلهة العرب: كلاهما اتخاذ وضم "جزء" خارج عن الله إليه تعالى! "وجعلوا له شركاء الجن وخلقهم! وحرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون! بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" (أنعام 100-102)، "وقالوا اتخذ الله ولداً! سبحانه، بل له ما في السماوات والأرض، كل له قانتون، بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" (بقرة 117، 118)، نزلت لما قال اليهود "عزيز ابن الله" والنصارى "المسيح ابن الله" ومشركو العرب "الملائكة بنات الله" (البيضاوي).
وفسروا فلسفة استحالة الاتخاذ، استناداً إلى قوله (بقرة 117، وأنعام 101)؛ "وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجود: 1) أن من مبدعاته السماوات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها. 2)أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة. 3) إن الولد كُفؤُ الوالد، ولا كفؤَ له بوجهين إن كل ما عداه مخلوق فلا يكافئه، وأنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره. بالإجماع" (البيضاوي). فهم أيضاً لم ترق أحلامهم إلى ما فوق الولادة الجسدية الجنسية التناسلية.
وفسر القرآن استحالة التأليه، والاتخاذ إلهاً مما خلق بقوله: "وجعلوا له من عباده جزءاً: إن الإنسان لكفور مبين" (زخرف 15). فالاتخاذ والتأليه يصم إلى الله "جزءاً" خارجاً عنه ... وهكذا تفهم حملة القرآن العنيفة الصاخبة على فكرة البنوة والولادة منسوبة إلى الله.
ولكن ليس من "مضاهاة" بين بنوة عيسى من الله، وبنوة عزيز عند اليهود، وبنوة آلهة العرب المشركين:
فبنوة آلهة العرب تناسلية: وقد فهم القرآن "قومه" على حقيقتهم. فلا بدع أن ينتفض القرآن لهذه الفكرة السمحة تنسب إلى الله: فما اتخذ صاحبة ولا ولداً (جن 3) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً! لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً: أن دعوا للرحمن ولداً" (مريم 88).
وبنوة عزيز عند اليهود معنوية قد تجرهم إلى مشاكلة المشركين "فيضهئون" بقولهم قول الذين كفروا من قبلهم (توبة 31).
ولكن بنوة عيسى في الإنجيل ليست تناسلية، وليست معنوية. بل هي بنوة روحية محضة من ولادة عقلية محضة:
للمسيح في الإنجيل اسمان: اسم شعبي تفهمه الجماهير: ابن الله وابن الإنسان؛ اسم علمي فلسفي لاهوتي أوحى به الله في مطلع إنجيل يوحنا يبين طبيعة هذه البنوة: إنه كلمة الله: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله: به كوِّن كل شيء وفيه كانت الحياة" (1: 1-4). وهذا الاسم يشرح معنى بنوة المسيح من الله وفي الله: بما أنه كلمة الله فبنوته فكرية عقلية، لا علاقة لأي جسد فيها، بل هي قبل كل جسد. وبما أن الله روح محض، وعقله روح محض، وفكره وكلمته روح محض، فالولادة روحية من جوهر الله وفيه، لا يشاركه فيها أحد. وهكذا يسمى الإنجيل التفاعر الجوهري الإلهي "ولادة" والتسلسل العقلي الإلهي "بنوة" بلغة بشرية يفهمها جميع الناس: فكلمة الله هو ابن الله، وابن الله هو كلمة الله. ولا علاقة لمريم أو لمخلوق بهذا التفاعل والتسلسل الإلهيين.
وليس في هذا "اتخاذ" بضم جزء من خارج الله إلى الله، أو تأليه برفع مخلوق إلى منزلة الخالق وطبيعته، أو تناسل جسدي باستيلاد الله عيسى من مريم، فالله لا جسد له! بل جل ما في ذات الله من سر الحياة السرمدية والوجود الفياض، أنه في الجوهر الإلهي الفرد تفاعل روحي وتسلسل عقلي في الله، ومنه، ومعه: فكلمة الله هو فكر الله الناتج عن عقل الله في جوهره الروحي نتوج الابن عن أبيه، ولذلك يجوز بكل حق أن نسمي الله "أباً" وفكره الجوهري "ابناً".
وإذن فالألوهية التي ينفيها القرآن عن المسيح ليست بالألوهية التي يثبتها الإنجيل له. والبنوة التي يسندها الإنجيل إلى المسيح ليست كالتي ينفيها القرآن عنه.
إن بنوة عيسى في القرآن تناسلية جسدية، كأن الله اتخذ مريم صاحبة واستولدها عيسى: "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمنزون: ما كان الله أن يتخذ من ولد!" (مريم 59). والقرآن على حق حين يسمي مثل هذه الولادة السمحة، منسوبة إلى الله، افكاً: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام! انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون" (مائدة 78). والقرآن على حق حين يسمي بنوة كهذه كفراً: "لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم: قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً" (مائدة 19).
إن ألوهية عيسى التي ينكرها القرآن تستند إلى هذه البنوة الجسدية والولادة التناسلية، ومن ثم فلا بدع أن يثور ويصيح: "لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم!" (مائدة 19، 57). كأن الإنسان ابن مريم صار الله!! أو كأن الله استنحال عيسى ابن مريم!! لذلك ينزه القرآن المسيح عن ادعاه تأليه كهذا: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله" (آل عمران 79)؛ فحسب المسيح فخراً أن يكون عبداً لله: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله - ولا الملائكة المقربون"! (النساء 172).
وقصارى القول ليست لاهوتية المسيح كتأليه المشركين لآلهتهم. وليست بنوة المسيح العقلية والروحية في الله كبنوة وولادة الآلهة المتألهين من الله. هذه غارقة في اللحم والدم، والجسد والصاحبة، في دنيا المحسوسات، وتلك ضمن الجوهر الإلهي الفرد، الروح المحض، والعقل المحض، في عالم الأزل قبل الزمان والمكان، وقبل المحسوسات والمعقولات والأجساد والأرواح: "في البدء كان الكلمة! والكلمة كان لدى الله! وكان الكلمة الله" (يو 1: 1).
وهكذا فليست البنوة الروحية التي ينسبها الإنجيل إلى المسيح مثل البنوة الجسدية التي ينفيها القرآن عنه. وليست الألوهية التي يثبتها الإنجيل للمسيح، روح الله وكلمة الله، مثل التأليه الذي يستنكره القرآن فيه، ولا هي "الاتخاذ" الذي يضم إلى الله "جزءاً" ليس منه.
حاول وفد نجران إلى النبي الجديد، بعد أن أنسوا منه اعترافه بنبوة عيسى، أن يحمله على الإقرار ببنوته أيضاً، واتخذوا من ولادته البشرية المعجزة من مريم بلا أب دليلاً على ولادته الإلهية من الله دون أم أو علاقة مخلوق. فأجابهم ولادته المعجزة من مريم بلا أب ليست أغرب من خلق آدم بلا أب وأم معاً: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: الحق من ربك فلا تكن من الممترين ... إن هذا لهو القصص الحق" (آل عمران 59 – 63).
وأردف يقول: هذا المعجز الحقيقي في ميلاد المسيح لا يرفعه إلى رتبة الألوهية لأن الصدور عن الله لا يكون إلا بخلق، ويستحيل على مخلوق أن يتخذه الله إلهاً من دونه: "ذلك عيسى قول الحق الذي فيه يمترون: ما كان لله أن يتخذ من ولد! سبحانه! إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" (مريم 34-36).
السؤال قاصر، والجواب قاصر، ولا غرابة في ذلك: فالبيئة لا تحتمل أكثر!
خلطوا بين البنوة بالصدور والبنوة بالاتخاذ، وهذه مستحيلة إذ كيف يمكن أن يصير إلهاً من هو بشر يأكل الطعام كالحيوان! "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة: كانا يأكلان الطعام!" (مائدة 78).
وشابه قوم من نصارى العرب حال مريم بحال ابنها فألهوها، فاستفظع ذلك منهم، ووصل الاستغراب إلى الله عز وجل فاستجوب عيسى عن ذلك: "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ - قال: سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق!" (مائدة 119).
فالقضية في القرآن هي دائماص قصة "اتخاذ" و"تأليه"، دون تمييز بين حال وحال.
وليس تأليه عيسى – وأمه – منه بل من بعض أتباعه كما يظهر من جواب المسيح لله في يوم الدين (مائدة 119 – 122)، وهو "غلو" من قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً. لذلك يعتبر القرآن اعتقاد النصارى في ألوهية المسيح "غلواً" منهم في دينهم لا غير ويردعهم عنه: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: فآمنوا بالله ورسله" (نساء 170)؛ فلا تتبعوا أهواء من سبقكم: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غي رالحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل (مائدة 80). لذلك يدعوهم إلى التوحيد الخالص: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" (آل عمران 62).
ذلك هو اعتقاد القرآن في ألوهية عيسى كما فهمها بعض نصارى العرب الجهال: وهو بعيد كل البعد عن تعليم الإنجيل وإيمان النصارى:
فليست ألوهية عيسى تأليهاً ولا اتخاذاً! هذا مستحيل!
وليست بنوته العقلية الروحية في جوهر الله الفرد بنوة مخلوقة بشرية جسدية جنسية تناسلية: كل بنوة من هذا النوع منسوبة إلى الله أفك وشرك وكفر! (توبة 31-33). كأن الله اتخذ مريم إلاهة صاحبة واستولدها عيسى إلهاً من دون الله! إن مجرد فكر كهذا لكفر محض،! كفر لا يقول به إلا من أوغل في الهمجية، وما قدر الله حق قدره! يُنزِل الخالق منزلة المخلوق! وينسب اللهوت لغير الله! يا قوم ألا رحمة بعقولكم وعقولنا! ألا انصافاً لكتابكم وكتابنا! نحن أعقل من هذا! وأنتم أعدل من هذا!
أجل لقد كفر الذين جعلوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله! (آل عمران 80).
أجل لقد كفر الذين اتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله! (توبة 32).
أجل "لقد كفر الذين قالوا: عزيزٌ ابن الله!" (توبة 31).
أجل "لقد كفر الذين قالوا: أمٌ المسيح إلاهة من دون الله أو مع الله!" (مائدة 120).
أجل "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم". (مائدة 19و 75) فجعلوا المسيح إلهاً آخر دون الله!
أجل "لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة" (مائدة 76) أي الآلهة ثلاثة"! أو الذات الإلهية ثلاث!
أجل، أجل! لقد كفروا: فالذات الإلهية واحدة، والجوهر الإلهي فرد أحد! وليست بنوة "كلمة الله" منه تعالى جسدية، ولا معنوية، ولا اتخاذاً، ولا تبنياً، ولا تأليهاً، حتى ولا إلهية بمعنى أنها غريبة عن جوهر الله الفرد، ومن خارج الذات الإلهية الواحدة.
فالمسيح "روح الله"، وبنوته روحية في الله ذاته.
والمسيح "كلمة الله"، وبنوته عقلية.
وهكذا فالخلاف على ألوهية المسيح بين الإنجيل والقرآن خلاف ظاهري: وليس بينهما خلاف جوهري لاختلاف وجهات النظر: ليست ألوهية عيسى ابن مريم – تلك الألوهية الكاذبة التي حاربها القرآن عند بعض نصارى العرب الأميين الجاهلين – بألوهية المسيح الحقة التي يعلمها الإنجلي. وأعتقد كل الاعتقاد أنه لو وصل تعليم الإنجيل إلى محمد سالماً لاعتنقه ودان به: "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" (زخرف 81).
"يا عيسى ابن مري أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهي من دون الله" (مائدة 119).
كما حارب القرآن "تأليه" عيسى ابن مريم عند بعض نصارى العرب الجهال، حارب كذلك عقيدة "التثليث" عند قوم آخرين منهم ضلوا عن الإنجيل والقرآن.
فالتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي.
فالتثليث المسيحي هو من صميم التوحيد، من صميم وحدانية الله، في وحدة الذات الإلهية.
1) التثليث الذي ينكره القرآن:
هناك ثلاثة نصوص توحيه لنا:
الأول من سورة النساء:
170 يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلىمريم وروح منه. فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا: ثلاثة! انتهوا، خير لكم! إنما الله إله واحد! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى به وكيلاً!
171 لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون! – ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً.
والثاني من سورة المائدة:
70 لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم!..
76 لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وما من إله إلا إله واحد! وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهمعذاب أليم.
والثالث من سورةالمائدة أيضاً، أبان فيه تلميحاً ثم تصريحاً من هم "الثلاثة":
77 أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرون، والله غفور رحيم:
78 ما المسيح، ابن مريم، إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صديقة. كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات؛ ثم انظر أنى يؤفكون!"
119وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله! – قال: سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق! إن كنت قلته فقد علمته! ... ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.
فالخطاب في سورة النساء لأهل الكتاب عامة: "يا أهل الكتاب ... لا تقولوا "ثلاثة" (170). والخطاب في سورة المائدة خاص بفئتين أو ثلاث من أهل الكتاب العرب يفسرون معنى "الثلاثة": فئة تدعي أن الله هو المسيح ابن مري! وفئة تدعي أن الله ثالث ثلاثة!
وإذا سألت القرآن عن "الثلاثة" التي يزعمون، أجاب تلميحاً (مائدة 77) ثم تصريحاً (مائدة 119) بأنهم: الله، وعيسى ابن مريم، ومريم أم عيسى: فهما إلهان مع الله.
ذاك هو التثليث أو الثالوث الذي كان يدين به بعض نصارى العرب، فأنكره القرآن عليهم، وكفرهم به من النقل علىلسان المسيح: "وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم" (مائدة 75): "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم" (مائدة 119)؛ ومن المنطق والعقل أنه "ما من إله إلا إله واحد (76) وقد كان المسيح وأمه يأكلان الطعام (78) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً" (79).
اعتبر القرآن ذلك الاعتقاد الفاسد قولاً من بعضهم "الذين قالوا" (75 و76) الذين كفروامنهم" (76): ثم اعتبره غلواً منجميعهم (نساء 170، مائدة 80). لذلك يدعوهم إلى نبذ الغلو في تأليه المسيح والتثليث المذكور "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا "ثلاثة"، انتهوا خير لكم" (نساء 170) "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" (مائدة 80).
3) موقف المفسرين من قول القرآن: ولا تقولوا: "ثلاثة" (نساء 170).
قال الجلالان: "أي الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه".
وقال البيضاوي: "أي الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله – أو الله ثلاثة: إن صح أنهم يقولون: الله ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس ويريدون بالآب الذات، وبالابن العلم وبروح القدس الحياة". – ونقول: وإن صح أن النصارى يعنون "بالآب الذات وبالابن العلم وبروح القدس الحياة" فذلك لا يدل على تعدد الذات الإلهية، لأن العلم والحياة في الله هما ذات الله بعينها. وهكذا تختلف جوهرياً مقالة القرآن عن مقالة الإنجيل في التثليث.
وقال الزمخشري: "إن صحت الحكاية عن النصارى أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنو الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة: فتقديره "الله ثلاثة"، وإلا فتقديره "الآلهة ثلاثة":: والذي يدل عليه القرآن هو التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم: ألا ترى إلى قوله "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" وحكاية الله أوثق من حكاية غيره!!" – أجل حكاية الله أوثق من حكاية غيره، لكن القرآن بقوله ما تقديره: الآلهة ثلاثة، الله والمسيح ومريم، وأن المسيح ولد الله من مريم، حكى حكاية بعض نصارى العرب الذين يكفرهم، وليس حكاية الإنجيل والنصارى عامة الذين يقولون: الله جوهر واحد، في ثلاثة أقانيم، وهذه المقالة لا تنافي التوحيد، ولا دخل لمريم في هذا التثليث ولا لولادتها الجسدية لعيسى، وهي تختلف تماماً عن مقالة القرآن "الآلهة ثلاثة، الله وعيسى ومريم" أو الإله صار ثلاثة "الله وعيسى ومريم".
والرازي المدقق يقول: "قوله ثلاثة خبر متبدأ محذوف. ثم اختلفوا على تعيين ذلك المبتدأ على وجوه: (الأول) ما ذكرناه أي ولا تقولوا: "الأقانيم ثلاثة"؛ (الثاني) آلهتنا ثلاثة كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة؛ (الثالث) قال الفراء: "هم ثلاثة" كقوله "سيقولون ثلاثة" وذلك لأن ذكر عيسى ومريم ع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين". ثم يفسر لرأيه "الأقانيم ثلاثة": أي والمعنى ولا تقولوا "إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم"؛ واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهمأثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث؛ إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها (!) فلهذا المعنى قال "ولا تقولوا: ثلاثة، انتهوا". فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول: هو الله الملك القدوس العالم الحي القادر ... ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك. فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من قوله حياً".
وأنا لنستغرب قول الرازي "إن مذهب النصارى مجهول جداً"، وقد عرفه تمام المعرفة "إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم" وأنهم أي النصارى "اثبتوا،على قوله، ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث". وفي كل القولين ليس من تعدد ينقض التوحيد. ولكن ضل عندما أراد أن يطبق مذهبهم على مقالة القرآن القائلة "بثلاثة آلهة" فاستنتج منه "أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها!! كلا ليست "الأقانيم الثلاثة" ذوات قائمة بأنفسها مما يُشعر بأنها ثلاثة آلهة، بل هي علاقات ذاتية قائمة بالذات الإلهية الواحدة؛ وقد أشعر هو نفسه أن ذلك ممكن حيث قال: "فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم ثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره ... فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من قوله حياً"، وبهذه المقالة يلتحق الزمخشري والبيضاوي حيث يصف مذهب النصارى أنه: "جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس؛ وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة". وما كان ضرهم لو قالوا بقول النصارى وإنجيلهم القائم على توحيد الجوهر الإلهي الفرد: فالله واحد في ثلاثة أقانيم أي علاقات جوهرية غير قائمة بأنفسها بل قائمة في الذات الإلهية الواحدة؟
فمقالة "الثلاثة" أو الثالوث أو التثليث لها وجه مقبول ينسجم مع التوحيد الصارم ولها وجه مرذول ينقض التوحيد ويعني تعدد الآلهة. وما نهاهم القرآن عنها "ولا تقولوا: ثلاثة" إلا لأن العرب، أو بعض نصارى العرب الهال قد فهموا التثليث المسيحي على غير حقيقته فمالوا به إلى تعدد الآلهة أو تعدد الذات الإلهية، وأقحموا فيه ما ليس منه "مريم أم المسيح"، ونسبوا إلى الله ما يقشعر له المرء أبى استيلاده عيسى من مريم كما سيظهر من مقالاتهم في ما يلي:
"الله ثالث ثلاثة" (مائدة 76):
إن بعض نصارى الحجاز قد فهموا بالثالوث أو "الثلاثة" أن "الله ثالث ثلاثة" (مائدة 76)، ولا يجوز فهم هذا التعبير كفهم سابقه "ولا تقولوا: ثلاثة" لأنه في حد ذاته يجعل الله أحد ثلاثة فيعدد الآلهة، أو يعدد الذات الإلهية. وهذا كفر كما نعته القرآن. وتلاحظ أنه يكفر مقالة "الله ثالث ثلاثة" فيما ينعت مقالة "الثلاثة" بالغلو (نساء 170).
وقد نفسر هذه المقالة بأن "الابن والروح إلهان من دون الله" وهي تعني حتماً تعدد الآلهة، وقد تُفسر بأن "المسيح ومريم إلهان من دون الله" وظاهرها يعني أيضاً تعدد الآلهة. ويميل القرآن إلى التفسير الثاني لأن الآية 78 من المائدة بيان للآية 76 منها. وكلا القولين كفر كما نعتهما القرآن؛ بيد أن القرآن لا ينسبهما إلى عموم نصارى الحجاز بل إلى الذين "كفروا منهم" (76).
قال الجلالان: أي أحد آلهة ثلاثة والآخران عيسى وأمه. وهم فرقة من النصارى.
وقال البيضاوي: أي أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية (؟) والملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق (75) قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد[3].
وقال الرازي ناقلاً رأي المفسرين ورأي المتكلمين: "في تفسير قول النصارى "ثالث ثلاثة" طريقان: (الأول) قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، والدليل أنه المراد، قوله في الرد عليهم "وما من إله إلا واحد"؛ (والثاني) أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالآب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة؛ وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا أن الآب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد". نقول لقد أنصفهم المتكلمون، وظلمهم المفسرون بنسبة مقالة بعض نصارى العرب الكفار إلى عموم النصارى. وعقب الرازي على حكاية المتكلمين: "إن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة!" – أجل من وجه واحد، كلا من وجوه مختلفة، فالنصارى يوحدون جوهر الله أو طبيعته الإلهية، ويثلثون أقانيمه الذاتية، وهذا لا يعني جعل الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة حتى يجوز القول إنه لا يُرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى" (الرازي) فلا يراها المتكلمون كذلك، ولا الراسخون في العلم!!
فمقالة بعض نصارى الحجاز "الله ثالث ثلاثة" تفسير خاطئ فاسد لا يجوز تعميمه على سائر النصارى.
"إلهان من دون الله" (مائدة 119):
إن بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون "عيسى ومريم أمه إلهان من دون الله" (مائدة 78 و119) وهذه المقالة أيضاً تفسير آخر فاسد لمقالة النصرانية بالثالوث أو "بالثلاثة" الأقانيم.
فمقالة تلك الفئة الضالة تعني صراحة تعدد الآلهة، لا بل تأليه مخلوقين مع الله، الإنسان عيسى ابن مريم، وأمه. لذلك يستفظعها الله يوم الدين ويستجوب عيسى عنها: "إذ قال الله (يوم يجمع الرسل): أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟!" فيستنكر عيسى التهمة ويشهد للتوحيد؛ ويستغفر لمن قال بها.
ويرد القرآن على هذه المقالة الفاسدة ببراهين عدة: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله بآيات كما خصهم بها (البيضاوي)؛ "أمه صديقة": وإن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يككن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً (الرازي)؛ و"كانا يأكلان الطعام": أي أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطام أشد الحاجة والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إلهاً (الرازي)؛ و"قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟ أي أن عيسى وأمه لا يملكان الضر والنفع مثل الله حتى يكونا إلهين.
ونقول إنها براهين سديدة تنقض مقالةجهال الحجاز من النصارى لأنها تعني تأليه مخلوقين مع الله. ولكن قولهم ليس بقول النصارى الحق، ولا تعنيهم أدلة القرآن الواردة. فالإله في عيسى ليس ما ولد من مريم أي ناسوته أو طبيعته الإنسانية، بل منألقى إلى مريم من جوهر الله دون انقسام أي "كلمة الله" الذي هو "روح منه" تعالى.
"الله هو المسيح" (مائدة 75):
وإن بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون "إن الله هو المسيح ابن مريم" (مائدة 75) ومقالتهم هذه هي تفسير ثالث لعقيدة النصارى العامة في التثليث أي "الثلاثة" الأقانيم.
ومقالة أولئك تفسير خاطئ لأنها تعني أن جوهر الله كله، وذات الله كلها، وطبيعة الله كلها، قد صارت عيسى ابن مريم. أو تعني على الأقل "أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى" (الرازي) وهذا هو مذهب الحول الذي يجيز على الله ما لا يجوز أي أن يتغير أو يتبدل أو يتحول.
قال الجلالان: لقد كفروا حيث جعلوا ابن مريم إلهاً، وهم اليعقوبية، فرقة من النصارى.
وقال البيضاو: هم الذين قالوا بالاتحاد منهم؛ وقيل لم يصرح به أحد منهم بل حكى لسان حالهم.
وقال الرازي: حكى عن فريق منهم أنهم قالوا "إن الله هو المسيح ابن مريم" وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلهاً. ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى".
ونقول: إن النصارى يكفرون مع القرآن هذه المقالة: ليس لعيسى ابن مريم ذات غير ذات الكلمة الملقاة إلى مريم روحاً من الله: فليس هناك ذاتانبل ذات واحدة تجسدت من مريم أي تدرعت بجسد منها وهذا القول بعيد كل البعد عن مذهب الحلول والحلولية، ومذهب الامتزاج بين ذات خالقة وذات مخلوقة.
تلك هي التفاسير الثلاثة التي قال بها بعض نصارى العرب الجاهلين، البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة الرسمية، في ما يتعلق بعقيدة التثليث النصرانية، أي الأقانيم "الثلاثة" في الله الواحد، وتلك مقالات فاسدة جعلت القرآن يكفر أصحابها واحداً واحداً، وينهاهم عن الاعتقاد "بالثلاثة" على الإطلاق: "ولا تقولوا: ثلاثة! انتهوا، خير لكم" (نساء 170)[4].
استنتاج وتطبيق:
نستنتج مما تقدم أن التثليث الذي ينكره القرآن غير التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل. كل من الإنجيل والقرآن يقصد غير ما يعنيه الآخر. والمسيحيون يعتقدون غير ما ينكر المسلمون.
1) تصريح الإنجيل:
فالثالوث المسيحي مبني في الإنجيل على وحدانية الله، لا إله إلا هو. سُئل السيد المسيح: "أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟ فأجاب الأولى هي: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا هو الرب الوحيد فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك. فقال له الكاتب: حسن يا معلم لقد أصبت إذ قلت أنه الوحيد ولا آخر سواه" (مرقس 12: 28-34). ومع هذا الإقرار الصريح بالوحدانية الإلهية فالتصريح بالتثليث لا ريب فيه، وقد ختم المسيح حياته ورسالته وإنجيله بقوله لتلاميذه الحواريين: "لقد دُفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (خاتمة متى).
فهذا الإعلان النهائي سبقته تصاريح متعددة عن الوحدة بين المسيح الابن والله الآب: "ووقع عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء وكان يسوع يذهب ويجيء في الهيكل في رواق سليمان فتحلق اليهود حوله وقالوا له: "حتى م تريب أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقله لنا جهراً! أجابهم يسوع: لقد قلته لكم ولا تصدقون، والأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي ... (ثم قال) أنا والآب واحد! حينئذ تناول اليهود من جديد حجارة لكي يرجموه. فأجابهم لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب فلأي عمل منها ترجموني؟ أجابه اليهود: لسنا لعمل حسن نرجمك بل لأجل التجديف ولأنك تجعل نفسك إلهاً وأنت إنسان! فأجابهم يسوع: أوليس مكتوباً في ناموسكم: "أنا قلت أنكم آلهة"؟ فإن كان يدعو آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله = ولا يمكن أن ينقض الكتاب – فأنا الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم تقولون لي أنك تجدف! لكوني قلت: أنا ابن الله؟ إن كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تصدقوني، ولكن إن كنت أعملها ولا تريدون أن تصدقوني فصدقوا هذه الأعمال لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب في وأني في الآب" (يوحنا 10: 22-42).
فهذه الوحدة بين الله الآب والمسيح الابن ليست معنوية بل جوهرية، والمسيح هو ابن الله ليس على طريق الاصطفاء أو على سبيل المجاز، بل حسب الطبيعة "لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب في وأني في الآب" (10: 38)؛ ثم يعود إلى الشهادة ذاتها مع تلاميذه: "قال له فيلبس: يا رب، أرنا الآب وحسبنا، قال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان ولا تعرفني؟ يا فيلبس، من رآني فقد رأى الآب! فكيف تقول أنت: أرنا الآب! أفلا تؤمن أني أنا في الآب وأن الآب في؟ الأقوال التي أكلمكم بها لا أتكلم بها من نفسي بل الآب المقيم في هو يعمل أعماله. صدقوني أني أنا في الآب والآب في. وإلا فصدقوا من أجل الأعمال" (يوحنا 14: 3).
وقد سبقته أيضاً، تصاريح عن الوحدة القائمة بين الابن وروح القدس. فالروح القدس هو المحامي عن الحواريين في نشر الإيمان لأنه روح الحق الذي ينبثق من الآب: "ومتى جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي، وانتم أيضاً تشهدون بما أنكم معي منذ البدء" (يوحنا 15: 26)؛ وروح الحق ينزل بعد رفع المسيح: "غير أني أقول لكم الحق: أن في انطلاقي لخيراً لكم: فإن لم أنطلق لا يأتيكم المحامي وأما إذا انطلقت فإني أرسله إليكم (16: 7)، ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلها لأنه لا يتكلم من عند نفسه بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم بما يأتي. إنه سيمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. جميع ما للآب فهو لي: من أجل هذا قلت لكم إنه يأخذ مما لي ويخبركم" (16: 12-15).
2) تحليل التصريح:
وهكذا يعلمنا الإنجيل أن "الله روح" محض لا دخل للجسد ولشؤون الجسد فيه تعالى، "والذين يعبدونه يجب أن يعبدوه بالروح والحق" (يوحنا 4: 25)؛ ويعلم الإنجيل أن يسوع المسيح هو "ابن الله" و"كلمة الله" لأنه "كما أن الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته" (يوحنا 5: 26). إن الله هو الوجود، والوجود هو الحياة، والله هو "الحي القيوم" (آل عمران 2، بقرة 255، طه 111)، يحيا ويتفاعل ويتسلسل في ذاته الواحدة. والإنجيل بتسميته "الابن كلمة الله" (يوحنا 1:1) – كذلك القرآن نساء 170 – أفهمنا أن هذا التفاعل والتسلسل روحي عقلي. فالمسيح هو ابن الله، أي فكر الله الجوهري، أو نُطق الله الجوهري. فهل يمكن أن يكون الله بدون عقل؟ وهل يكون عقله إلا غير محدود كذاته. وفكره الذي هو منتوج عقله، وهو غير محدود في الله كعقله، هو ما يسميه الإنجيل بلفظ علمي فلسفي لاهوتي "كلمة الله"، وبتعبير شعبي تفهمه الجماهير "ابن الله" والشعب البسيط نفسه ألا يسمي الأفكار بنات العقل؟ وعندما يستعمل الإنجيل لفظ "كلمة" يدل بصراحة على أن بنوة الابن من الآب وفي الآب، ضمن الذات أو الطبيعة الإلهية الواحدة، هي بنوة فكرية نطقية عقلية؛ وأن الولادة في الجوهر الإلهي الفرد هي روحية إلهية، فوق الزمان والمكان، وفوق الجسد والمخلوق. يتسلسل كلمة الله من جوهر الله كما يصدر نطقنا من عقلنا. وهذا الصدور أو التسلسل غير المخلوق، نتيجة التفاعل الإلهي، لا يمكن التعبير عنه تماماً بكلام مخلوق، فيسميه الإنجيل بلغة بشرية تقرب غير المدرك من إدراكنا "ولادة وبنوة" ثم "أباً وابناً". فكلمة الله أو نطق الله الصادر عن القوة العاقلة في الله، هو في وضع يشبه عند البشر وضع ابن من أبيه، وفي علاقة ولادة روحية وبنوة عقلية تشبه فينا ولادة الفكر من العقل. فليس في ذلك إذن رفع مخلوق إلى صفة الخالق، ولاحظ الخالق إلى درجة المخلوق؛ بل هو تفاعل روحي وتسلسل عقلي؛ بل هو ولادة روحية وبنوة عقلية في الذات الإلهية الواحدة.
وكما أنه لابد من الاعتراف في الجوهر الإلهي الفرد بقوة عاقلة كذلك لابد من الاعتراف فيه بقوة محبة، كما قال الإنجيل: الله نور" و"الله محبة". فالطبيعة الإلهية الواحدة هي ذاتها قوة عاقلة وقوة محبة. والقوة العاقلة فيها تنتج فكرها أو "ابنها"، والقوة المحبة في الآب والابن تنتج، عن طريق التبادل، ثمراً حبياً هو الروح القدس الذي يعرفه النصارى "محبة الآب والابن المتبادلة". وحياة الحي القيوم هي حياة قوة ذاته العاقلة وحياة قوة ذاته المحبة: فابن الله هو فكر الله الجوهري، وروح الله أو روح القدس هو حب الله الجوهري. ولكي يقرب لنا المسيح فهم هذه الحياة الإلهية وكيفية تفاعلها في داخلها عبر لنا بكلام بشري عن ذات الله وعن ثمرة عقله الجوهرية وثمرة حبه الجوهرية، إذ لا عرض في ذات الله، إنها "الآب والابن والروح القدس" وأن "الثلاثة" هي الإله الواحد، لا إله إلا هو.
وهكذا فالروح اسم وحقيقة للمحبة المتبادلة في ذات الله؛ والابن اسم وحقيقة لثمرة القوة العاقلة في جوهر الله؛ والآب اسم وحقيقة لمصدر هاتين الثمرتين في الذات الإلهية الواحدة. وهكذا فالآب والابن والروح جوهر واحد، طبيعة واحدة، وذات إلهية واحدة، هو الله لا إله إلا هو. ومن ثم فإذا بشر الإنجيل بالتثليث ضمن الطبيعة الإلهية الواحدة فهو لا يجعل مع الله إلهاً آخر، ولا يجعل الله "ثالث ثلاثة"، ولا يجعل الله "ثلاثة" آلهة؛ بل هو تثليث علاقات أقنومية قائمة في الذات الإلهية الواحدة، هو تثليث في التوحيد الخالص.
وقد نجد عند أرسطو والغزالي ما يشبه من بعض الوجوه هذا التحليل:
فأرسطو يقول = على حد ما نقل عنه الشهرستاني: "المسألة الثالثة في أن واجب الوجود لذاته عقل لذاته، وعاقل ومعقول لذاته – عُقل من غيره أم لم يُعقل – أما أنه عقلٌ فلأنه مجرد عن المادة، منزه عن اللوازم المادية، فلا يحجب ذاته عن ذاته؛ وأما أنه عاقل لذاته فلأنه مجرد لذاته؛ وأما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره" (ص 313): فالله إذن عاقل وعقلُ ومعقول في ذاته الواحدة؛ ومثل هذا "التثليث" في الذات الواحدة لا يتنافى مع وحدانية الله.
وقال حجة الإسلام الإمام الأول الغزالي: "يعتقدون أن ذات الباري واحدة ولها اعتباران: فإن اعتبرت مقيدة بصفة لا يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالوجود، فذلك المسمى عندهم بأقنوم الآب. وأن اعتبرت موصوفة بصفة يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالعلم، فإن الذات يتوقف انصافها بالعلم على انصافها بالوجود فذلك هو المسمى عندهم بأقنوم الابن والكلمة. وإن اعتبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها فذلك المسمى عندهم بأقنوم روح القدس. فيقوم إذن من الآب معنى الوجود، ومن الابن أو الكلمة معنى العالم، ومن روح القدس كون ذات الباري معقولة له. هذا حاصل هذا الاصطلاح، فتكون ذات الإله واحدة في الموضوع موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم. ومنهم من يقول: أن الذات، إن اعتبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن العقل المجرد وهو المسمى بأقنوم الآب وإن اعتبرت من حيث هي عاقلة لذاتها فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى العاقل وهو المسمى بأقنوم الابن والكلمة. وإن اعتبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها فهذا الاعتبار عندهم هو المسمى بأقنوم معنى المعقول، روح القدس. فعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها، والابن أو الكلمة مرادفين له[5]؛ والمعقولية عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادفاً له. هذا هو اعتقادهم في هذه الأقانيم. وإذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ" (ص 43).
فيعود تحليله إلى قوله: الذات الإلهية موصوفة بخواص جوهرية ثلاث الوجود والعلم والمعقولية، وهي الآب والابن والروح القدس الإله الواحد؛ أو إلى قوله: الذات الإلهية هي عقل وعاقل ومعقول معاً وهي الآب والابن والروح القدس الإله الواحد: فهل في هذا "التثليث" ما ينافي التوحيد؟
وقد رأيت أن المفسرين أخذوا بالاصطلاح الأول، فيما المتكلمون يأخذون بالاصطلاح الثاني. وقد فسر الشهرستاني بعدهم عقيدة التثليث المسيحية بقوله: "وأثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة؛ قالوا: الباري تعالى جوهر واحد، يعنون به القائم بالنفس، لا التحيز والحجمية؛ فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية؛ ويعنون بالأقنومية الصفات كالوجود والعلم والحياة، الآب والابن وروح القدس؛ وأن العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم (ص 172): قد أوجز الشهرستاني عقيدتي "التثليث" والتجسد: فهل في مثل هذا ما ينافي التوحيد؟
لقد ثبت لنا بالنقل والعقل أن التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل ويدين به النصارى لا ينافي التوحيد، بل يقوم عليه، وهو من صُلبه، وهو تفسير سام لحياة "الحي القيوم" في ذاته، لا إله إله هو سبحانه وتعالى.
فالتثليث المسيحي إذن هو من صميم وحدانية الله، في وحدة الذات الإلهية.
أما في القرآن فقد رأيت أن التثليث الذي يذكره في تعابيره الأربعة: "الثلاثة" (نساء 170) و"الله ثالث ثلاثة" (مائدة 76) و"الله هو المسيح ابن مريم" (مائدة 75) و"عيسى وأمه إلهان من دون الله" (مائدة 119) يعود إلى نكران وحدانية الله، وتعدد الذات الإلهية وإيجاد ثلاثة آلهة أي إلهين غريبين مع الله هما الإنسان عيسى ابن مريم وأمه. وهذا التثليث القرآني كفر محض ينكره الإنجيل كما ينكره القرآن، لأنه يعني "تأليه" عيسى وأمه "واتخاذهما" إلهين من دون الله. والإنجيل لا يعرف اتخاذاً ولا تأليهاً. فقول كهذا يعني ثلاثة آلهة، وتعدد الذات الإلهية، مما لا أثر له في الإنجيل ولا في اعتقاد النصارى.
ومما يستفز النصارى اتهامهم بتأليه مريم أم المسيح كما فعله "المريميون" أو "الكليريون" من نصارى العرب الجهال فحكى القرآن حكايتهم. وها هي كتب النصارى ومؤلفات علمائهم تملأ العالم منذ ألفي سنة فلا تجد فيها أثراً لهذا التثليث الذي ينكره القرآن على نصارى العرب: الله والإنسان عيسى ابن مريم، وأمه؛ ولا تجد فيها ذكراً لا شراك أم المسيح من قريب أو بعيد في عقيدة التثليث. فهل جُن جميع النصارى منذ ألفي سنة حتى يؤمنوا بثلاثة آلهة؟ هل توصل جهلهم وحماقتهم إلى أن يؤلهوا مخلوقاً الإنسان عيسى ابن مريم، أو امرأة هي مريم بنت عمران أم عيسى؟! فالنصارى قبل إيمانهم بألوهية المسيح، وقبل إيمانهم بالثالوث الأقدس يدينون بوحدانية الله الخالصة. وإذا كان في ألوهية المسيح أو التثليث الإلهي ما ينافي وحدة الطبيعة الإلهية فهم يرفضونهما.
لذلك فالتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي. فلا النصارىيؤمنون ولا الإنجيل علم ولا المسيح قال للناس: "اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" (مائدة 119).
بحث ثالث: ألقاب المسيح في القرآن:
"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170)
الاسم دليل المسمى ... ومما يزيدنا معرفة لمنزلة المسيح الفريدة في القرآن، ما يضفيه على عيسى ابن مريم من الألقاب. وإنك لتراه يسبغ عليه من النعوت والصفات، والألقاب والأسماء ما يجعله وحيداً بين الأنبياء، وسيداً للمرسلين.
نجد في القرآن ألقاباً نبوية تجعل المسيح "وجيهاً" بين الرسل الذين خلوا من قبله.
ونجد في القرآن ألقاباً إلهية – أجل إلهية – ينفرد بها المسيح على سائر الأنبياء والمرسلين، بل ترفع المسيح من رتبة المخلوق إلى صلة ذاتية خاصة بالخالق.
أولاً: ألقاب المسيح النبوية في القرآن:
"قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 30)
يسمي القرآن المسيح عادة: "عيسى ابن مريم".
هو "عيسى": بالعبرية "إيشوع" (البيضاوي والزمخشري) أو بالحري العلم الذي به يُعلم.وصحيح الاسم "يشوع" بالعبرانية، و"يسوع" بالسريانية فمن أين نقله على هذه الصورة "عيسى"؟ الأرجح أنها منقولة ومنحوتة عن الرومية السريانية في صيغة المنادي "إيسو" فوصلت إلى قلب الجزيرة على هذه الصورة "عيسى".
ومعروف عند الشريقيين ما للاسم من مغزى وأمل.
وهو "ابن مريم" نسبة إلى أمه[6]. وينسبه إلى أمه تشريفاً له ولها. وليس في هذه النسبة أية إهانة أو تحقير لأن هذه الأم قد "اصطفاها الله على نساء العالمين" (آل عمران 42) وينسبه إلى أمه ليس لأنه مجهول الأب، فتلك إهانة ينتفض لها القرآن ويكفر اليهود الذين يقولون بها (نساء 157) بل هي شهادة دائمة من القرآن لأمومة مريم البتولية، ولمولد عيسى المعجز الفريد من بتول لم يمسسها بشر.
ويرد هذا اللقب "ابن مريم" مسنوداً إلى عيسى كناية له: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم" (بقرة 87، نساء 170، ماشدة 46) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" (بقرة 87 و253، مائدة 49)، و"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم" (مائدة 113 و119)؛ وهذا الاسم تصح به نسبة عيسى.
ويرد اللقب "ابن مريم" مستقلاً بنفسه، كناية علمية على الطريقة السامية: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" (مؤمنون 51) "ولما ضُرب ابن مريم مثلاً" (زخرف 57) وفي هذه الكناية تشريف، وتفضيل، واستشهاد، وشهادة.
ويدعوه "عبد الله" أي رجل الله، وهي صفة يتصف بها أنبياء الله ورسله. فهو قال عن نفسه "إني عبد الله" (مريم 30) حينما نطق طفلاً؛ والله يدعوه عبده "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" (زخرف 58)؛ ويجعل القرآن هذه الصفة ميزة رسالته. وحسبه فخراً أنه عبد الله "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله" (نساء 171).
وهو "النبي": وُلد نبياً بشهادته لما نطق حال ولادته "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 30)؛ بل نبوته ترتقي إلى ما قبل الولادة، إذ هو كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه" (نساء 171). وقد انفرد هذا "النبي" بخوارق شخصه ورسالته.
وهو "الرسول" أيضاً: لا يجعل القرآن عادة فرقاً بين النبي والرسول. وقالوا أن الرسول هو النبي الذي اختصه الله بشرع جديد، مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. إنه رسول الله "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله" (نساء 170). إنه "رسول إلى بني إسرائيل" (آل عمران 49) امتازت رسالته بتمام الوحي فيه "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل" (آل عمران 48 و49). فانفردت رسالته بخوارق لا مثيل لها في تاريخ النبوة والرسالة من إبراءْ، إلى إحياء، إلى خلق (آل عمران 49). واختصت بتأييد الروح القدس، روح الله (بقرة 78 و53، مائدة 113).
وهو "الغلام الزكي" (مريم 18) جسداً ونفساً؛ وحده وُلد بحال البتولية، ووحده وُلد بدون مس الشيطان، ووحده عاش "طاهراً بريئاً من الذنوب" (البيضاوي)، ووحده عاش "لا يصيب من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم حتى الأنبياء منهم" (قتادة)، ووحده لا ينسب إليه إثم على الإطلاق.
وهو "المبارك" أينما كان: حمل هذه البشرى معه منذ مولده "وجعلني مباركاً أينما كنت" (مريم 31)؛ وظل في كل لحظة، وفي كل موقف من مواقف حياته "المبارك" أينما كان. فأي نبي خصه الله بمثل هذه البركة في كل دقائق حياته "أين ما كنت"؟ من لا تتغلب عليه في ساعة من ساعات حياته عوامل البشرية، ومواطن الضعف، فلا يكون فيها "مباركاً"؟؟ لقد جاء محمد خاتم النبيين: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وإذن لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً" (إسراء 73) وأيضاً "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" (فتح)؛ وجاء عن سائر المرسلين:
"وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنى (قرأ) ألفى الشيطان في أمنيته"! إنما واحد أحد رافقته البركة والنعمة، وتأييد الروح القدس من المهد إلى اللحد ومن الدنيا إلى الآخرة "وجعلني مباركاً أين ما كنت"، هو عيسى ابن مريم.
وهو "البتول" دائماً: وُلد من بتول، وعاش بتولاً، وارتفع بتولاً لا يذكر له القرآن والإنجيل زوجة ولا أولاداً، ولا يُسندان إليه كنيسة ولد، ولا يلمحان إلى علاقة له بالنساء، ولم يمد عينيه إلى ما متع به الله أزواجاً منهم. بينما القرآن يزخر بحوادث النساء عند غيره، ولم يكتم في نفسه ما الله مبديه ... وحده مع يحيي بن زكرنا كان "حصوراً" ارتفع فوق حاجة الرجل إلى امرأة. إنه البتول.
وهو "المثل" الأعلى: "وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" (زخرف 58)؛ والقرآن لا يعرض غيره مثلاً[7]. فقد حقق المثل الأعلى في التقوى والفضيلة والقداسة: "وأوصاني بالصلوة والزكوة مادمت حياً! وبراً بوالدتي! ولم يجعلني جباراً شقياً!" (مريم 32). ويكفيه فخراً أن القرآن ينزهه عن كل إثم ومنقصة. فهو المثل الذي لا تشوبه شائبة.
هو "الوجيه في الدنيا والآخرة" (آل عمران 45) قالوا بالإجماع، كما رأينا، الوجاهة في الدنيا هي النبوءة، وفي الآخرة هي الشفاعة. زاد الرازي هي براءته من العيوب في الدنيا وكثرة ثوابه في الآخرة، واستجابة دعائه في الدنيا، وعلو درجته ومنزلته في الآخرة. لا بل أكثر من ذلك، فوصفه بالوجاهة يعني زعامة في النبوءة، وزعامة في الشفاعة، والتقدم، والدرجات العلى. هو "وجه" الأنبياء والمرسلين، المقدم في الدنيا عليهم، والمقرب في الآخرة من عرش الجلالة "فقد ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله" (خاتمة إنجيل مرقس).
وهكذا، فألقاب المسيح النبوية تظهر المسيح وحده "آية للعالمين" بين الأنبياء والمرسلين. قبل ظهوره يقول القرآن عنه "قال ربك: هو علي هين: ولنجعله آية للناس ورحمة منا! وكان أمراً مقضياً" (مريم 21) وبعد ظهوره يقول "وجعلناها وابنها آية للعالمين" (أنبياء 91) مشكراً الأم في شرف ابنها فهو آية بشخصه، آية بحياته، آية برسالته. ففي تاريخ النبوة المسيح وحده "آية الله للعالمين": وهذه الصفة موجز كل الألقاب.
هذه الألقاب النبوية تجعل وحدها عيسى ابن مريم نبي الأنبياء في القرآن. وتدل وحدها دلالة كافية على سمو رسالته وشخصيته اللتين انفرد بهما.
ثانياً: ألقاب المسيح الإلهية في القرآن:
"إنما المسيح، عيسى ابن مرين، رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170)
هناك في القرآن الكريم، بين النعوت والصفات، والأسماء والألقاب التي تكلل هامة المسيح بمجد لا يُدانى، ثلاثة ألقاب انفرد بها المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، والملائكة المقربين: "إنما المسيح، عيسى ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170).
فعيسى ابن مريم هو مسيح الله.
وعيسى ابن مريم هو كلمة الله.
وعيسى ابن مريم هو روح الله.
في هذه الصفات والألقاب تعريف بالمسيح أبلغ وأسمى من كل تعريف. فهي بحد ذاتها، مهما كان معناها، تحديد لشخصيته يرفعها فوق الجميع؛ وهي كما فسرها المسلمون تبين عظمة المسيح الوحيدة في العالمين. وهي في معناها الكامل – على ضوء التوراة والنبيين والإنجيل حيث اقتبسها القرآن وصدقها وشهد لها – ترفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة ذاتية خاصة مع الخالق.
ونقر منذ البدء أن لنا الحق كله بأن نفهم على ضوء التوراة والنبيين والإنجيل ما غمض في القرآن من النقاط المشتركة لأن القرآن ذاته، في حالة الشك من شهادته أو من فهمها، يحيلنا إلى الكتاب: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرأون الكتاب من قبلك" (يونس 94).
1 – عيسى ابن مريم هو مسيح الله:
"إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح" (آل عمران 45)
عيسى ابن مريم هو المسيح "إنما المسيح، عيسى ابن مريم" (نساء 170).
المسيح هو اسم لعيسى ابن مريم، وليس لقباً فقط: "يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه: اسمه المسيح" (آل عمران 45).
الملائكة تبشر بهذا الاسم، وهي تحمله معها من السماء إلى الأرض. والله ذاته يبشر به العذراء، بواسطة الملائكة: "إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح".
فهو اسم سماوي إلهي أوحى به الله مباشرة.
وعندما يوحي الله اسماً يعلق عليه رسالة خاصة: فالاسم دليل الشخصز ومهما كان معنى هذا الاسم العجيب، فإنه يعني أن (الله مسحه وأرسله) "رحمة وآية للعالمين".
لقد سبق الله في التوراة والأنبياء فأخبر عنه، ووصف شخصه ورسالته. ولما جاء القرآن، وصدق هذا الاسم لعيسى ابن مريم، وشهد للإنجيل والتوراة، دل على أن عيسى ابن مريم هو مسيح الله المنتظر، موضوع أحلام وآمال البشرية جيلاً بعد جيل؛ ودل دلالة واضحة علىأنه هو هو حامل الرسالة العظمى التي تنبأ عنها الأنبياء ووصفوها في شخصه.
ولما أعلن القرآن أن عيسى ابن مريم هو المسيح الموعود به شهد لما قالته التوراة عنه، وشهد لما قاله الإنجيل عنه. وباعتراف القرآن لعيسى بهذا الاسم أقر بأنه أتم الرسالة التي علقها كتاب الله على هذا الاسم الجليل.
التوراة والأنبياء سموا "النبي" الأعظم باسمه "المسيح". والإنجيل والقرآن يشهدان أن عيسى ابن مريم هو المسيح أي النبي الموعود به "اسمه المسيح" (ىل عمران 45).
ولو فتشت القرآن كله لما وجدت سوى عيسى ابن مريم وحده، بين الأنبياء والمرسلين، قد انفرد باسم "المسيح"، وانفراده به ميزة خُص بها دون سواه.
وقد ذهب المفسرون في تفسير هذا الاسم الفخيم، المثقل بنبوات الأنبياء الأولين، مذاهب شتى. ولكن كلها تنطوي على عظمة شخصية المسيح. وعلى عظمة رسالته اللتين دل عليها "اسمه المسيح".
قال البيضاوي: "المسيح لقبه. وهو من الألقاب المشرفة كالصديق. واصله بالعبرية "مشيحا" ومعناه المبارك[8]. سمي كذلك:
- لأنه مُسح بالبركة (ولم يُمسح غيره بالبركة).
- أو مُسح بما طهره من الذنوب (ولم ينل غيره مسحة طاهرة مطهرة مثله).
- أو مسح الأرض ولم يقم في موضع (وهل يستطيع غيره ذلك)؟
- أو مسحه جبريل صوناً له من مس الشيطان" (ولم يُصن أحد غيره بمثل هذه المسحة).
وقال الرازي: "المسيح: هل هو اسم مشتق او موضوع؟ أصله بالعبرية "مشيحا" فعربته العرب وغيروا لفظه: وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والأكثرون أنه مشتق[9] موضوع:
- قال ابن عباس: إنما سمي مسيحاص لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ من مرضه.
- قال أحمد ابن يحيي: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة.
- قال غيره: لأنه كان يمسح رأس اليتامة لله تعالى.
- لأنه مُسح من الأوزار والآثام.
- لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء ولا يُمسح به غيرهم[10].
- لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن".
تعود تفاسير مسحة المسيح إلى معنيين: إنه مُسح من الخطيئة، في ولادته "مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مس الشيطان"، وفي حياته كلها "مُسح بما طهره من الذنوب، مُسح من الأوزار والآثام". ثم نال مسحة النبوة الكاملة "مُسح بالبركة. إنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء". وذلك من بطن أمه "إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن" وفي هذه المسحة من بطن أمه للرسالة الكاملة سر شخصيته وسر عظمته التي يحوم حولها المفسرون ولا يجرأون على التصريح بها.
والمعنى الكامل لاسم "المسيح" يجب أن نفهمه في القرآن على ضوء الإنجيل والأنبياء الأولين والتوراة، التي أخذ القرآن عنها (أعلى 18، 19، مريم 15) ويصدقها (بقرة 41 و89 و91و 101).
فموسى يعتبر المسيح "النبي" خاتمة سلسلة أنبياء الكتاب.
وداود في زبوره يدعوه: الرب والملك والكاهن. وداود أول من يسميه المسيح.
وإشعياء يمسي المسيح المنتظر "عمانوئيل أي الله معنا" وينشد متنبئاً في شأن مولده: "قد وُلد لنا ولد، وأعطي لنا ابن؛ صارت رئاسته على كتفه، ولا حد لسلامه؛ ويجعى اسمه رسول المشورة العظيمة؛ مشيراً عجيباً؛ إلهاً قوياً؛ سلطاناً؛ رئيس السلام؛ ابا الدهر الآيت؛ ومخارجه منذ الأزل".
ودانيال يراه دياناً للعالم آتياً على سحاب السماء في "هيئة ابن الإنسان".
فلقب المسيح في الكتاب مثقل بالمعاني النبوية الكثيرة.
وقد نقل الشهرستاني[11] نظرية الكتاب كما يقول بها المسيحيون: "كمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء: نبوة وإمامة وملكية. وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الخصال الثلاث[12] أو ببعضها. والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء؛ وهو الذي به غفر زلة آدم عليه السلام. وهو الذي يحاسب الخلق".
فمسحة المسيح التي مسحه الله بها هي "نبوة وإمامة وملكية". فالمسيح هو النبي الأعظم والإمام أو الكاهن الأعظم والملك الأعظم. واختصاصه "باسم المسيح"، لهذه المسحات الثلاث، دليل على كمالها[13] فيه حتى عُرف بها وعرفت به.
والقرآن الكريم، على آثار التوراة والأنبياء والإنجيل، إذ يعترف لعيسى ابن مريم، باختصاصه "باسم المسيح" (أل للتعريف والفردية)، يقر له بكل تلك الخصال. فمسحة النبوة ومسحة الإمامية أو الكهنوت ومسحة الملكية انتهت إليه واستكملت فيه.
فهو "مسيح الله" بين الأنبياء والمرسلين من قبل أن يظهر ومن بعد: "إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح".
ذلك هو معنى "المسيح" في القرآن والإنجيل والتوراة.
2 – عيسى ابن مريم هو كلمة الله:
"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم" (نساء 170)
النصوص:
كل البشارات في القرآن تبشر بعيسى ابن مريم أنه "كلمة الله".
الله يبشر زكريا بيحيي، وعلامة نبوته تصديقه بكلمة الله: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: إن الله يبشرك بيحيي، مصدقاً بكلمةمن الله، وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران 39). أولى صفات يحيي أنه مصدق بكلمة من الله أي بعيسى ابن مريم، إنه كلمة "كائنة" من الله (الجلالان).
الله يبشر مريم مباشرة مبكلمة منه: "إذ قالت الملائكة يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين" (آل عمران 45). أولى صفات مولود مريم وأول ألقابه التي تسمع به مريم هو أنه "كلمة الله".
ومريم صدقت بالمسيح وإنجيله فسميت "الصديقة" (مائدة 78): جاء في سورة التحريم في قراءة صحيحة: "ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا. وصدقت بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين (12).
والقرآن الكريم عندما أراد أن يستجمع أوصال وألقاب المسيح ليعرف به بلقبه بهذا اللقب العظيم الفريد: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح ابن مريم، رسول الله، وكلمته – ألقاها إلى مريم – وروح منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا "ثلاثة"! انتهوا، خير لكم: إنما الله إله واحد! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون" (نساء 170 و171).
إن وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القرآن به عيسى ابن مريم وحده، يخلق أشكالاً ومشكلة في القرآن: فالقرائن تدل على أنه يختلف في مفهومه ومدلوله عما يصرح به القرآن عن عيسى ابن مريم؛ وهو حجر عثرة أيضاً عند المفسرين فهم يخبطون خبط عشواء في تفسيره: يرون فيه أكثر مما يقرون ولا يجهرون. ولا يُفهم معنى اللقب الكامل إلا بمقارنته بالإنجيل الذي نُقل عنه وقد سبق إلى تعريف المسيح به.
معناه في القرآن:
ما معنى هذا اللقب الفريد في القرآن؟
لا نجهل أن هذا اللقب السامي لا يحمل في القرآن عامة أدنى معنى للألوهية. فالقرآن ينكر بوجه عام بنوة المسيح الإلهية من الله، وأن قبل نبوءته ورفعه بها فوق الجميع[14] (وموقف القرآن من هذا اللقب خصوصاً يتضح من تعريفه الشهير في الىية 170 من سورة النساء: إنه كلمة الله! ولكن ليس لهذا الكلمة صفة الألوهية: صدر الآية ينهى عن هذا الغلو في الدين: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق"؛ وعجز الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة: 1) أنه رسول من رسل الله "فآمنوا بالله ورسله" 2) الإقرار بألوهية الكلمة ينتهي إلى القول "بالثلاثة" ولا تقولوا: ثلاثة، 3) "انتهوا، خير لكم، 4) "إنما الله إله واحد" فلا يمكن أن يكون الكلمة إلهاً معه، 5) وكيف يكون الكلمة إلهاً إلا بولادة الله له، "سبحانه أن يكون له ولد"، 6) فكل ما عدا الله ملك وعبيد لله "له ما في السماوات وما في الأرض"، 7) ولسنا بحاجة إلى غير الله "وكفى بالله وكيلاً"، 8) فالكلمة عبد الله مثل الملائكة المقربين، لا إله "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداص لله ولا الملائكة المقربون".
أما في الإنجيل فمعنى هذا اللقب الإلهي صريح: مطلع إنجيل يوحنا يكفي برهاناً قاطعاً. والمشكلة بين الكتابين في هذا: كيف نقل القرآن عن الإنجيل هذا اللقب الإلهي مجرداً عن ألوهيته؟ والحل الصحيح ليس في نقض الإنجيل أو القرآن بل في التوفيق بينهما ما أمكن ...
معناه عند المفسرين:
وبين المفسرين أيضاً تقوم المشكلة على هذا: هل يعني تعبير "الكلمة" اسم شخص أم مجرد "أمر" إلهي؟
لقد أجمع القوم على أن "كلمة الله" تعني "أمره". وقد تعني "وحيه" أو "كلامه الموحى به".
جاء في الجلالين عن آل عمران 39 "مصدقاً بكلمة من الله": كائنة من الله أي بعيسى أنه روح الله. وسمي كلمة لأنه خُلق بكلمةكن!" وفي آل عمران 45 يمر على التعبير دون أن يشرحه مما يدل على تحذر. وفي سورة النساء 170 يمر بالاسم مرور الكرام؛ مكتفياً بالإشارة الأولى: "سُمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن!" – ونقول لماذا وحده سمي بهذا الاسم "كلمة الله" وقد خُلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون بكلمة "كن"، ولم يقل الإنجيل والقرآن والتوراة عن أحد من المخلوقين أن "اسمه كلمة الله"؟ ثم كيف "روح الله" يكون مجرد أمر؟ أليس في التفسيرين تناقض وارتباك؟!
وجاء في البيضاوي: "مصدقاً بكلمة من الله" (ىل عمران 39) أي بعيسى، سُمي بذلك لأنه وُجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر؛ أو بكتاب الله". – ليس المعنى الثاني مقصوداً. ثم أليس كل الأنبياء والصالحين وجدوا "بأمره" تعالى؟ فلماذا لم يسم الإنجيل والقرآن أحداً منهم "كلمة الله"، واختص عيسى ابن مريم وحده بهذا الاسم؟ وعلى الآية 45 منها يمر مرور الكرام مع أنه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف القرآن بها "الكلمة" الذي يبشر به الله مريم. كذلك في الآية 170 من النساء. كأنه يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشى عن سبر معانيه.
وقال الزمخشري: "مصدقاً بكلمة من الله، مصدقاً بعيسى مؤمناً به؛ قيل هو أول من آمن به؛ وسمي عيسى كلمة لنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله "كن" من غير سبب آخر. وقيل مؤمناً بكتاب منه تعالى": - ولكن ليس المعنى الثاني مطلوباً لأن أوصاف يحيي نبوة عنه للمستقبل وليس إخباراً عن الماضي حتى تعني الكتاب المنزل قبله. ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصروا معنى "الكلمة" علىأمره تعالى "كن" من غير سبب آخر: لماذا آدم لم يسمه القرآن والإنجيل والتوراة "كلمة" مع أن خلقه أغرب من خلق عيسى كما يذكر "أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن، فيكون!" (آل عمران 59) فآدم أحق البشر بلقب "كلمة" لأنه أول من وُجد بكلمة "كن" الخلاقة من غير سبب آخر البتة؟!
وقال الرازي: "مصدقاً بكلمة من الله" أي كتاب من الله، وهو قول أبي عبيدة؛ واختيار الجمهور أن المراد بكلمة الله هو عيسى. وكان يحيي أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه. وسمي عيسى كلمة الله من وجوه: 1) أنه خُلق بكلمة الله وهو قوله "كن" من غير واسطة الآب كما يسمى المخلوق خلقاً وهو بابا مشهور في اللغة؛ 2) أنه تكلم في الطفولية وأتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً عظيماً فسمي كلمة أي كاملاً في الكلام؛ 3) أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية كما سمي القرآن "روحاً"؛ 4) أنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال "وحقت كلمة ربك؛ 5) إن الإنسان يسمى فضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم "كلمة الله وروح الله". واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذات الله". وأضاف في آل عمران (45): "سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان"؛ وفي النساء 170 يختار منها ما أجمع عليه القوم: "المعنى أنه وُجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة".
ونجيب عليها جميعاً: كل هذه التعريفات تنطبق على سائل اأنبياء، في عرفهم، وخصوصاً على خاتم النبيين: فلماذا لم يسم القرآن محمداً "كلمة الله"، وهو عندهم "أول خلق الله"، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز، وقرآنه "روح من أمره" تعالى، وقالوا أنه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل فبه حقت أكثر منعيسى كلمة الله، وقد جاء رحمة للعالمين كافة فهو أحق أن يكون "عين كلمة الله"، وقد أبان كلمة الله الأخيرة، خير بيان وأفضله؟!. فالقرآن يشهد بأن عيسى وحده دون العالمين خُص بهذا اللقب العظيم، حتى صار اسم علم له. وليس ذلك مجرد اسم علم، بل دلالة على أن كلمة الله هي كلامه، "وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله" على قول أهل السنة.
وهكذا فاختيار الجمهور أن "كلمة الله" لقب لعيسى ابن مريم؛ وهذا اللقب يعني كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله على حد قول أهل السنة.
اجتهادنا:
وعندنا أن النصوص واضحة تعني اسم شخص لا مجرد أمر إلهي.
فالله تعالى يبشر زكريا بيحيي ويصفه بأنه أول من يصدق بعيسى أنه "كلمة الله" (آل عمران 39)؛ ويحيي ليس أول من آمن بكلام الله ولا أفضل من آمن به، بل يحيي أول من آمن بعيسى أنه "كلمة الله" وهو يصدق بشخص اسمه "كلمة الله" وليس بمجرد أمر أو صفة. وجاء يحيي ليصدق ويبشر "بكلمة الله" الشخص المنتظر.
ومريم آمنت "بكلمة ربها وكتابه" (تحريم 12) والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب غير كتاب الرب. فهي آمنت بعيسى وإنجيله؛ آمنت بابنها النبي وبكتابه.
الملائكة تبشر مريم بولد وليس بأمر أو بمجرد كلام: "إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم" (آل عمران 45) ليس أوضح ولا أصرح:"فالكلمة" المبشر به "اسمه المسيح" ويؤكده "عيسى، ابن مريم": ثلاثة أسماء علم مشهورة تصف "الكلمة".
ومن يقرأ هذه الآية بإخلاص "غنما المسيح، عيسى، ابن مريم: رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه" (نساء 170) لا يستطيع إلا الإقرار بديهياً أن "الكلمة" اسم شخص لوروده بين الاسمين "رسول الله ... وروح الله"، فهو مراجف للأسماء المحيطة به، وهو خبر ثان معطوف على رسول الله وكلاهما خبران للمسيح عيسى ابن مريم؛ "وروح منه" خبر ثالث معطوف على "كلمته" يوضحه ويؤكده. فكلمته لقب بين ألقاب تعني شخص المسيح، فكيف يكون مجرد أمر؟!
وإلى ذلك فإن لفظ "الكلمة" ورد في آل عمران (45) مذكراً "بكلمة اسمه المسيح" فالهاء في "اسمه" تعود إلى كائن ذكر؛ واما قوله في النساء "كلمته ألقاها إلى مريم" فأنثها حملاً على اللفظ، لأن معنى التذكير صريح من الأسماء الثلاثة المحيطة به "رسول الله وكلمته وروح منه".
فهذا "الكلمة" الملقى إلى مريم هو "روح من الله" فكيف يكون مجرد أمر؟ هو "رسول الله" فكيف يكون مجرد كلام؟ هو "المسيح عيسى ابن مريم" فكيف يكون شيئاً لا شخصاً؟ لا جرم إن الأمر الإلهي خلاق ولكن ليس له صلة مولود برحم مريم.
"والكلمة" المبشر به له اسم معروف "اسمه المسيح عيسى ابن مريم" (ىل عمران 45)، "والكلمة" الملقاة إلى مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها وتوضحها (نساء 170)؛ فوجودها بينها يدل على أنها مثلها اسم علم لعيسى.
"ألقاها": فالكلمة الملقاة كائنة قبل أن تلقى إلىمريم وقبل مريم: فهذا الابن الذي سيولد، موجود قبل أمه!!
"يبشرك بكلمة منه" مولود مريم كائن قبل مريم وهو "منه" أي من الله لا من العدم! بل لا يمكن أن يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه "كلمة من الله".
"منه" تدل على صلة المصدر: قال البيضاوي "ذو روح صدر منه" إذن عن طريق الصدور لا عن طريق الخلق؛ وإلا فما معنى هذه التأكيدات التي خص بها: "كلمته، كلمة منه، روح منه" إذا كان يتساوى في طريقة وأصل وجوده مع سائر الناس؟
ورسول الله، المسيح عيسى ابن مريم، امتاز بين الرسل بأنه "كلمة الله وروح الله" (نساء 170) ولقب روح الله يوضح أن الكلمة شخص لا مجرد كلام. وأن هذا الشخص "الكلمة" هو "روح الله" أو "روح من الله" على السواء. وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح أفضل وأكمل وصف يميزه عن سائر الأنبياء والمرسلين، بعلاقة مصدرية أقنومية عقلية روحية إلهية.
"فكلمة الله" المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وروحه، ليس هو إذن كلام الله الخارجي الذي يخلق به الله أو يأمر به أو يوحي به: بل هو كلام الله الداخلي الجوهري "القائم بذات الله".
"صفة قديمة قائمة بذات الله":
لقد حدد "أهل السنةأن كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله" (الرازي) فكلام الله الخارجي مخلوق حتماً إذ يستحيل أن يتجزأ الخالق، وهذا هو كلام الخلق والوحي. أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره، فهو غير مخلوق، هو منه وفيه؛ فذاته تعقل ذاتها، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله. هذا ما فهمه الراسخون في العلم منهم وإن أبوا تطبيقه على اسم المسيح "كلمة الله". لذلك، فإن "كلمة الله"، الاسم العلم لعيسى ابن مريمن كائن من قبل أن يلقى إلى مريم، إنه "صفة قديمة قائمة بذات الله". وهدا ما يتضح جلياً من إنجيل يوحنا حيث ورد هذا اللقب الفخيم علماً للمسيح لأول مرة:
قال في وصف جوهره: "في البدء كان الكلمة
والكلمة كان لدى الله
وكان الكلمة الله؛"
وقال يصف عمله: "كان ذاك منذ البدء لدى الله.
به كُون كل شيء: وبدونه لم يكن شيء واحد مما كوِّن.
فيه كانت الحياة ...
أما النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، فكان آتياً إلى العالم ..
وقال يصف اتصاله بخلقه، بواسطة تجسده منمريم بمعجزة إلهية:
"والكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا.
وقد شاهدنا مجده، مجداً من الىب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقاً فإن الناموس قد أعطي بموسى؛ وأما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا ..."
وختم يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية: سر وجود الكلمة الإلهي، وعمله في الخلق، وإلقاءه إلى مريم فيتجسد:
"الله لم يره أحد قط:
الإله، الابن الوحيد، الذي في حضن الآب هو نفسه قد أخبر" (يوحنا 1: 1-18).
ويبرهن الإنجيل كله، من أعمال وأقوال عيسى ابن مريم، أن عيسى هو المسيح الكلمة الأزلي الذي ألقاه الله إلى مريم آية للناس ورحمة منه تعالى. والقرآن يشهد ضمناً بذلك بأخذ لقب "الكلمة" عن الإنجيل وإسناده إلى المسيح عيسى ابن مريم، وإن هو نفى ظاهرياً ألوهية المسيح "كلمة الله"، فإنما ينكر لاهوتاً غريباً عن ذات الله الواحدة، ولا يقصد إلى إنكار لاهوت "كلمة الله" "القائمة بذات الله"، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها: "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" (زخرف 81)! إن في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض القائم بين موقف القرآن الظاهري مننفي ألوهية المسيح وموقفه الحقيقي الناتج من النصوص التي بها يسمي عيسى ابن مريم "كلمة الله" كاسم علم يوضح سر شخصيتهز وهكذا يشهد القرآن للإنجيل ويصدقه.
رد تفسيرهم:
ذاك هو "القول الحق" الذي فيه يمنزون. قال الأستاذان مصطفىخالدي وعمر فروخ[15] في الرد على تفسيرنا "النصراني" الذي به نفهم نصوص القرآن عن اسم المسيح "كلمة الله": "وفي بعض الأحيان يختار المبشرون موضوعات إسلامية لها مقابل في النصرانية ثم يموهون الحقائق ويقزون فوق الفروق. إن القرآن الكريم يسمي المسيح "كلمة الله". ومعنى ذلك أن الله تعالى ألقى كلمته أي أمره (!) بأن يولد المسيح على ذلك الوجه المعجز في التاريخ. ولكن المبشرين يأخذون "كلمة الله" ليفسروها التفسير النصراني. ووجه الخلاف أن كل شيء في هذا العالم، كما يرى المسلمون، كان بأمر الله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (يس 82)؛ أما النصارى فيعتقدون أن التعبير "كلمة الله" تعبير خاص بالنصرانية يجب أن يُفهم على أن المقصود به عيسى ابن مريم وحدهن وأنه دال على الألوهية في المسيح. وللمبشرين أني فهموا ذلك كما يريدون؛ ولكن ليس لهم ان يقولوا على الإسلام ما لا يعلمون. إن كل موجود وكل حادث في العالم أمر يُلقى من الله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون". وفي القرآن آيات كريمات تجعل عيسى كآدم مثلاً، وتجعل آدم يتلقى من ربه "كلمات" لا كلمة واحدة[16]: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" (آل عمران 59) "فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم" (بقرة 37).
لقد وضعنا أمام القارئ المنصف، مسلماً كان أم مسيحياً، عناصر القضية كلها ليرى هل نحن في التفسير النصراني "لكلمة الله" الذي يسمي به القرآن عيسى ابن مريم، نُموه الحقائق ونقفز فوق الفروق، ونقول على الإسلام ما لا نعلم إرضاءً لشهوة التبشير. بل هو قول الحق، حسب الدرس العلمي النزيهز فنصوص القرآن الكريم عن "كلمة الله" عيسى ابن مريم أقرب في مبناها ومعناها إلى انسجام حقيقي خفي بين الإنجيل والقرآن منها إلى تعارض ظاهر يتعلق به الذين لا يعلمون "وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟ قل: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه".
3 – عيسى ابن مريم هو روح الله:
"إنما المسيح عيسى ابن مريم ..... روح منه" (نساء 170).
"الروح" في القرآن:
يأخذ القرآن "الروح" بمعاني عديدة مختلفة:
فمرات يظهر أن الروح ملاك: "تنزل الملائكة والروح فيها (ليلة القدر) بإذن ربهم" (قدر 4) ثم "يوم يقوم الملائكة والروح صفاً" (نبأ 138) ثم "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" (معارج 4).
ومرات يظهر أن الروح سيد الملائكة: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء" (نحل 2).
ومرات يجعل الروح من نصيب كل الأنبياء: "يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق" (غافر 15) ومرات يجعل الروح وحياً: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا" (شورى 52): فتارة الروح وحي، وتارة الروح واسطة الوحي.
بل يجعل الروح من نصيب كل المؤمنين يؤيدهم في إيمانهم: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه" (مجادلة 52): فهل الروح هنا ملاك أم قوة من الله أم عون معنوي؟
والروح، والروح الأمين، وروح القدس هو جبريل أوحى إلى محمد: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" (شورى 52) "نزل به الروح الأمين على قلبك" (شعراء 193) "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" (نحل 102) "قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك" (بقرة 97). وبما أن القرآن يسمي الروح الذي يوحي غلى محمد، أي جبريل، فلا سبيل بعد إلى تأويل الروح الأمين أو روح القدس المذكور هنا بغيره، ولا إلى خلط "روح القدس" الموحي إلى محمد "بروح القدس" الذي أيد المسيح.
فالروح الذي أيد المسيح يتصف بالقدس اختصاصاً، وامتيازاً له عن غيره: "وقفينا علىآثارهم بعيسى ابن مريم وايدناه بروح القدس" (بقرة 87 و253). بهذا الروح القدس امتازت شخصية المسيح ورسالته بالخوارق الخارقة: "يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس ... فيعمل معجزات على الأرض ومعجزات من السماء كإنزال المائدة" (مائدة 113 – 119).
وروح القدس هذا يتميز عن الروح الذي بشر مريم بعيسى: "فارسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" (مريم 16) فهذا الروح ملاك من ملائكة البشارة: "إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح" (آل عمران 45).
وروح البشارة يتميز عن الروح الملقى أو المنفوخ في مريم: "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (أنبياء 91) "ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" (تحريم 12). في هذين النصين قد يكون الروح نافخاً أو منفوخاً؛ فعلى معنى الفاعل "من روحنا" يعني الملاك النافخ وعلى معنى المفعول "من روحنا" يعني الروح المنفوخ في مريم أو في فرجها أي روح عيسى الذي كونه في رحم أمه مريم. وهذا الروح الذي كونه هو روح من الله ألقاه إلى مريم: "إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته – ألقاها إلى مريم – وروح منه" (نساء 170).
وهكذا فالروح في القرآن إما شيء وإما شخص؛ و"الشخص الروح" ملاك من اللمئكة كجبريل الذي يوحي إلى محمد، أو كالملاك الذي يبشر زكريا أو مريم أو ملاك آخر؛ "والروح – الشخص" الذي يؤيد المسيح في رسالته غير الروح الذي منه تكون عيسى في رحم مريم[17].
فالمسيح "روح الله أو روح من الله" غير روح القدس الذي أيده.
والقرآن بإسناده هذا اللقبل "روح منه" (نساء 170) إلى المسيح يعطي عيسى ابن مريم اسماً يفوق كل اسم، به تُعرف شخصيته ويحدد معنى اللقب السابق "كلمته ألقاها إلى مريم" (نساء 170).
"الروح" عند المفسرين:
فما معنى قوله "عيسى ابن مريم روح منه تعالى" في الآية الشهيرة؟
قالوا معناه ما ورد عن آدم "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (حجر 19)، "ثم سواه ونفخ فيه من روحه" (سجدة 9)؛ وعن مريم "فنفخنا فيها من روحنا" (انبياء 91)، "فنفخنا فيه من روحنا" (تحريم 12) بدليل المبدأ العام "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون" (آل عمران 59). فكما نفخ الروح في آدم نفخ أيضاً في مريم!
وفاتهم الفرق العظيم والبون الشاسع بين التعبيرين: فعن آدم ومريم فالروح نافخ فيهما، أما عن المسيح فهو روح منفوخ، ملقى إلى مريم.
في الأول الروح وآدم أو مريم متميزان، أما في الثاني "فروح منه" والمسيح شخص واحد على حد التحديد: "إنما المسيح ... روح منه": فروح منه خبر ثالث من المبتدأ أي المسيح.
وهب أن قوله "من روحي" (حجر 29، سجدة 9 وغيرها) تُحمل على المفعول فتعني الروح المفوخ في آدم أو المنفوخ في مريم فهذا يعني مشاكلة الصدور، ولا يعني قطعاً مشابهة الروح الصادر من الله.
على أن بين التعبيرين فرقاً ظاهراً "فنفخنا فيه (في آدم وفي فرجها) من روحنا" ثم "روح منه": ففي الأول يكون آدم والمسيح من روح الله؛ وفي الثاني يكون المسيح "روح الله".
فكما أن المسيح هو كلمة الله، فهو أيضاً روح الله؛ والقرآن يجمع بين التعبيرين في شأن المسيح فهو روح الله الذي ألقاه إلى مريم بنفخة من روحه.
ففي قوله "من روحه" يعبر عن صدوره من الله؛ وفي قوله "روح منه" يعبر عما هو في ذاته.
فلفظ "روح منه" تعريف بالمسيح وبشخصه يدل على مصدره الذي هو الله. فهل الروح المكونة للمسيح والتي صارت المسيح في مريم هي منسوبة إلى الله نسبة خلق أم نسبة مصدر؟ نقول: إنها نسبة مصد لأنها تفسير للقب السابق "كلمته وروح منه". ولنلاحظ أن القرآن يعطف "روحاً منه" على قوله "كلمته": فالاسمان يفسر أحدهما الآخر: فالمسيح هو كلمة الله وروح الله": كلمة الله من حيث الأقنوم، وروح الله من حيث الطبيعة.
وبما أن "روحاً منه" خبر من المسيح في الآية 170 المذكورة فلايجوز أن نموه فيه بكل أنواع التعابير التي وردت في القرآن عن الروح إذ يتغير معنى "الروح" من آية إلى آية، كما رأيت؛ ويدل على المعنى المقصود النص المحيط به والقرائن اللفظية والمعنوية الداخلة عليه. ففي تحديد المسيح، في سورة النساء، تعبير مستقل عما سواه: يظهر منه جلياً أن المسيح روح الله، قد صدر منه، صدور الفكر من العاقل، صدور كلمة الله من الله.
فروح الله اسم آخر للمسيح غير كلمة الله، وهو معطوف علي لتفسيره، وكلاهما معطوفان على "رسول الله" لبيان شخصية هذا الرسول الفريدة: فالألقاب الثلاثة تتساند، ويوضح بعضها بعضاً، ويفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً: "إنما المسيح عيسى ابن مريم: رسول الله وكلمته وروح منه".
وفي تفاسيرهم لهذا اللقب الفريد حيرة وتعظيم: يشعرون أنه يعني صلة خاصة بالله، ولكن لا يجرؤون على إعلانها:
قال الجلالان: روح، أي ذو روح (منه) أُضيف إليه تعالى تشريفاً له وليس كما زعمتم ابن إله أو إلهاً معه أو ثالث ثلاثة: لأن ذا الروح مركب واإله منزه عن التركيب ونسبة التركيب إليه". – تفسير مغرض يضعف قوة النص: المسيح روح الله لا ذو روح من الله فقط! ثم أين الإشارة في النص إلى فلسفة التركيب التي يذكر؟!
وقال الزمخشري: "قيل له روح الله أو روح منه تعالى لأنه ذو روح وجسد من غير جزء منذي روح كالنطفة المنفصلة عن الأب الحي؛ وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته الخالصة". – أفلا ينفرد المسيح عن البشرية جمعاء بهذا الاختراع الفريد؟ ألا يدل هذا الاختراع الفريد على شخص وحيد، له علاقة فريدة بالله؟
وقال البيضاوي: "وروح منه: ذو روح صدر منه تعالى، لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب". – فالروح الذي يحيي الأموات أو القلوب إحياءً حقيقياً ومعنوياً، وينفرد بعمل يدل عليه اسمه الفريد، ألا يصدر عن الله صدوراً خاصاً لائقاً به؟ ألا يكون له صلة خاصة بالله دون سائر المخلوقين الذين ليسوا "روح الله"؟
وقال الرازي مستجمعاص أنواع تفاسيرهم لهذا اللقب العظيم: "اما قوله روح منه ففيه وجوه: 1) أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح: فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح. والمراد من قوله "منه" التشريف والتفضيل؛ - 2) أنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلكوصف بأنه روح؛ - 3) روح منه أي رحمة منه: فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه؛ - 4) أن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل، وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا؛ - 5) قوله روح، أدخل التنكير ليفيد التعظيم. فكان المعنى: روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية. وقوله منه إضافة لدلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف والتعظيم.
ومن هذه الوجوه كلها تتضح شخصية المسيح الفريدة التي لا يدانيها نبي أو رسول، ويرفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة خاصة بالله. فهو روح من الأرواح الشريفة العالية لاقدسية، ولم يرد عن بشر أنه منها ولو كان خاتم النبيين؛ وقول الرازي هذا أو من نقل عنه يفترض أن روحاً علوية أي أحد الملائكة المقربيين قد تجسد وظهر في شخص المسيح؛ ومن يقول بذلك فالأجدر به أن يقول مقالة الإنجيل "إن كلمة الله تجسد وصار إنساناً".
وهو روح من نفخة جبريل: إذا قصدوا جبريل كمصدل للمسيح فهذا قول راء فليس جبريل بخالق ولا عنده نفخة خلاقة! وإذا قصدوا أنه الواسطة المعجزة فما أتوا بتفسير لشيء إذ أنه روح الله بمعزل عن جبريل. وعلى كل حال فشرف الواسطة يدل على شرف الغاية.
أما قوله سمي روحاً لأنه كان رحمة من الله على الخلق: ليس هذا من باب التفسير بل من باب المقارنة التي لا تفي. ومع ذلك ففيه إقرار بفضل المسيح على الخلق كلهم: ولم يرد مثل هذا الفضل لأحد من البشر كما ينسب القرآن والمفسرون إلى المسيح.
أما قوله سمي روحاً لغاية طهارته في مولده فمن باب الاستدلال لا من باب التفسير، وإن كان فيه إقرار بسمو تكوين المسيح الذي انفرد به.
وقد قارب المفسرون من فخامة الاسم وعظمته وجلاله بقولهم: سمي روحاً لأنه كان سبباً لحياة الخلق (الرازي)، لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (البيضاوي) فجعلوه سبب الحياة الطبيعية والروحية والمعنوية؛ وما ذلك إلا صدى لقول المسيح في الإنجيل "أنا الطريق والحقيقة والحياة" (يوحنا 10: 25): فهو روح الله الحي المحيي.
وقد دلوا على معنى "منه" في التحديدي المذكور بقولهم: "ذور روح صدر منه" (البيضاوي) أي ذور روح منه تعالى (الجلالان) فالتعبير يحتمل معنى المصدر الإلهي للمسيح، إذ من أين يصدر "روح الله" إلا من الله؟؟ فالروح الذي يصدر من الله كيفيتميز عنه؛ وبما أنه ليس في الله انقسام ولا تجزؤ، أليس هو والله واحداً كذات الله ونورها؟ وهذا أيضاً صدر لتعليم الإنجيل: "قد خرجت من الآب واتيت إلى العالم ... بهذا نؤمن أنك من الله خرجت" (يوحنا 16: 28، 30).أليس هذا هو المعنى الكامل الذي قصده القرآن في تعريفه المسيح: إنه كلمة الله وروحه؟ إنه لا ينطبق علىمجموع الألقاب في الآية 170 إلا هذا المعنى: المسيح روح صدر من الله ككلمته ونطقه الجوهري؛ وكلمة الله ليست مجرد كلام خارج عن الله بل هو كلامه الداخلي كروحه.
وهكذا يلتقي القرآن والإنجيل في تعريف المسيح: "في البدء كان الكلمة والكلمةكان لدى الله، وكان الكلمة الله ... فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" أي "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه": والحياة والروح بمعنى واحد؛ وبمقارنة التحديديين ينجلي معناهما العميق. إذا لم يكن التعبير واضحاً كل الوضوح في القرىن فلنستوضحه من الإنجيل لأن القرآن أخذ عنه وهو يحيلنا إلى الكتاب وأهله في حالة الشك والريب (نح 43، شعراء 193)، بل يأمر محمداً نفسه أن يستوثق من إيمانه لدى الذين يقرؤون الكتاب من قبله (يونس 94).
خاتمة بحث:
تلك هي الألقاب الإلهية الثلاثة التي بها يُعرف القرآن المسيح في آية النساء 170.
أجل المسيح هو عيسى، ابن مريم، عبد الله ونبيه ورسوله.
ولكن فوقذلك هو مسيح الله وكلمة الله وروح الله.
القاب وأسماء يكمل بعضها بعضاً ويدعم بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً في هذا التعريف الغني بالمعاني. وهذا الألقاب الثلاثة لا تدل على صلة الخلق بين الله وعيسى، بل تستوعب صلة شخصية عقلية روحية بجوهر الله. فمهما قللوا من دلالتها العميقة فهي تحتمل وتحمل معنى إلهياً بحد ذاتها كما يرشح من تفاسيرهم. نحن لا نستجلب المعاني، ولا نفترضها بهذه الأسماء الوحيدة التي انفرد بها المسيح دون العالمين، بل نظهر ماتستوعبه على نرو الإنجيل الذي نزل من قبل هدى ونوراً. "وكفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب" (رعد 45).
إنه مسيح الله: مسحه الله "بقوة الروح القدس" (لوقا 1: 35) اي "أيده بروح القدس" (بقرة 87، 253 ومائدة 113).
إنه "كلمة الله التي ألقاها في الزمن إلى مريم (نساء 170) لأن الكلمة الذي كان منذ البدء لدى الله صار جسداً وسكن في ما بيننا" (يو 1: 2، 14).
إنه "روح الله" الصادر "منه" (نساء 170)، فهو شبيه به لأن المصدر والصادر واحد في الله، وهو منه وفيه، لن الله لا يتجزأ. وروح الله هو "ضياء مجده وصورة جوهره" (عبر 31).
نعلم جيداص أن القرآن ينكر كل تعدد أو تجزؤ في اللاهوت، ويستنكر كل بنوة من خارج الله، وكل شرك وغلو في الدين. ونحن نؤيده ونؤمن بقوله. لكنه لا يذكر شيئاً عن حياة "الحي القيوم" في وحدة ذاته، عن حياته العاقلة ذاتها، وعن حياته المحبة ذاتها. فجاءت هذه الألقاب الإلهية تلقي ضوءاً عما انحجب عنا.
ومهما يكن من فهمها الصحيح، فهذه الصفات والنعوت والألقاب والأسماء التي اختص بها القرآن المسيح ذون سواه من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، تجعل المسيح في صلة شخصية وحيدة، عقلية وروحية وخاصة مع الله. ومهما قالوا في تفسيرها فهي ترفع المسيح فوق العالمين، من صفة المخلوقين، إلى هالة اللاهوت.
بهذه الألقاب النبوية، والألقاب الإلهية، جعل القرآن عيسى ابن مريم مسيح الله وكلمة الله وروح الله (نساء 170) وإذن آية في شخصه: "وجعلنا ابن مريم – وأمه – آية" (مؤمنون 71).
لا جرم أن القرآن ينتفض عند هذا السؤال، ويجيب: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوءاً أحد!"
بيد أن القرآن الكريمي نفي "الاثنين" (نحل 51)، وينفي "الثلاثة" (نساء 170) التي تتعارض مع وحدة الله، ومع وحدة الذات الإلهية، مع وحدة الجوهر الإلهي الفرد؛ ولا يفكر البتة في حياة "الحي القيوم" الداخلية وتفاعلها وتسلسلها. إنما هناك آية تدل على أنه إذا كان في الجوهر الإلهي الواحد بنوة لا تناقضه، فهو يقبل بها: "قل، إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" (زخرف 81).
وبناء عليه فهل يرفض القرآن إلهية الكلمة وإلهية الروح إذا كانت ضمن لاهوت الجوهر الإلهي الواحد؟ هل تُراه يرفضها إذا كان الكلمة الأزلي عبارة عن الفكر الجوهري، ثمرة القوة العاقلة في الذات الإلهية الواحدة، وكان الروح القدس عبارة عن ثمرة الحب الجوهري في الذات الإلهية الواحدة؟ ... لا نظن. فغن لقب "الكلمة" في القرآن يحمل معنى إلهياً، لن "الكلمة" الملقى إلى مريم هو شخص له اسمه الخاص وكائن قبل إلقائه إليها، وهذا الكلمة هو روح منه تعالى، وروح الله، يصدر منه ويبقى معه في كامل الوحدة الجوهرية (نساء 170).
ولقب "الروح" الغامض بسبب تنوع مدلوله، إذ يضيف القرآن إلى المخلوق كما يضيفه إلى الخالق، يتضح ويتحدد مفهومه بإسند القدرة الخالقة إليه: "فإذا سويته ونفخت فيه من روح فقعوا له ساجدين" (حجر 29) "ثم سواه ونفخ فيه من روح" "سجدة 6) وهكذا خلق الله آدم بنفخة من هذا الروح الخلاق، كما كون "المسيح كلمة الله وروحه" في رحم مريم بنفخة أيضاً من هذا الروح السامي "فنفخنا فيها من روحنا" (أنبياء 91 وتحريم 12)؛ وهذا الروح الخلاق بنفخته ليس ملاكاً، وليس الروح المنفوخ الحاصل من الفعل بل هو روح مستقل بذاته، يتمتع بالقدرة على الخلق، وهو الواسطة التي بها يخلق الله ويكون، وبها كون المسيح في مريم "روحاً من الله": ففي تكوين عيسى في مريم يظهر ثلاثة أرواح: روح مبشر هو الملاك، والروح النافخ، وروح الله الملقى إلىمريم بالنفخة المكونة. وقد جمعها الإنجيل وميزها بقوله: "فأجاب الملاك (الروح المبشر)، وقال لمريم: الروح القدس يأتي عليك (يقابل الروح النافخ) وقدرة العلي تظللك، ومن أجل ذلك فالقدوس الذي يولد منك (يقابل الروح الملقى) يُدعى ابن الله" (لوقا 1: 35): فروح القدس مستقل عن الملاك، وعن روح عيسى المتأنس في مريم. وهكذا فالروح في القرآن والإنجيل يحمل معنى إلهياً. ومن ثم ففي القرآن تثليث يتالف من الله والكلمة والروح أو روح القدس؛ ونكون من الكافرين إذا جعلنا هذا التثليث خارجاً عن التوحيد، ونكون في الصراط المستقيم إذا كان تفسيراً لحياة "الحي القيوم" متفاعلة متسلسلة، لا إله إلا هو.
إنه وحده "آية للعالمين" (مريم 20، أنبياء 91، مؤمنون 51)
لنستجمع الآن الخطوط التي تتكون منها شخصية المسيح في القرآن الكريم كما رسمها لناز لقد أوجزها بلفظة واحدة: إنه "آية للعالمين".
أعز الأشخاص على النبي العربي هم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد نفسه. ولا يخط القرآن لواحد منهم صورة تداني الصورة التي يرسمها لعيسى ابن مريم، مسيح الله وكلمة الله وروح الله. فإن أجمل وصف وأكمل تعريف حلاه القرآن بالنعوت الغنية والألقاب السامية هو خبر عيسى ابن مريم؛ وإن أسمى شخصية فيه تستلفت العقول وتستهوي القلوب هي شخصية يسوع المسيح. وإليك لاخطوط الكبرى التي تتكون منها صورة المسيح في القرآن؛ إنها مجموع ميزات خارقة انفردت بها شخصيته على العالمين.
ظهوره المعجز:
عيسى ابن مريم منذ مولده شخص فوق البشرية، شخص عجيب غريب فريد وحيد.
جميع الأنبياء، حتى محمد بن عبد الله "خاتم النبيين"، ولدوا بحسب ناموس الطبيعة البشريةز أما المسيح فوحده وُلد من أم بتول لم يمسسها بشر (مريم 20، آل عمران 45، نساء 156، أنبياء 91، مؤمنون 51)؛ ملاك متقدم على الملائكة المقربين يبشر به امه؛ وروح القدس يظلل مريم وينفخ فيها فتحمل وتلد وهي عذراء؛ وهذه المعجزة الوحيدة في تاريخ البشرية ترفع المسيح منذ مولده على كل البشر والأنبياء والمرسلين لأنها دليل خاص فائق على أن الله اصطفاه على العالمين كما اصطفى أمه على نساء العالمين "وجعلنا ابن مريم وامه ىية" (مؤمنون 51).
طهارته المعجزة:
تخطى الله من أجل المسيح ليس سنة الطبيعة فحسب بل سنة النعمةأيضاً.
فقد حفظه الله كما حفظ أمه من مس الشيطان ومن أذاه لكل مولود، حين ميلادهما: "إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" (آل عمران 36)؛ وأي مس للشيطان وأي أذى يلحق منه بالمولود سوى الخطيئة التي يولد بها ابناء آدم؟ حدث أبو هريرة عن النبي العربي قال: "سمعت رسول الله يقول: ما من مولود من بني آدم يولد إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها". وقد أخرج الصحيحان هذا الحديث بقولهما: "كل ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب". لقد عبروا عن خطيئة الجنس البشري، الموروثة بالتناسل، بطعنة الشيطان للمولود ومسه ونخسه. وقد صور القرآن حالة النفس الطبيعية الناتجة عن مس الشيطان بقوله: "وأن النفس لأمارة بالسوء". فعصم القرن والحديث المسيح وأمه من هه الوصمة الأصلية. ونجد في ميلاد المسيح من بتول لم يمسسها بشر دليلاً وتفسيراً لعصمة المسيح من الخطيئة، ونجد في الخوارق التي اكتنفت الولادة المعجزة والطهارة المعجزة بياناً لهما وبرهاناً.
وكما عصم الله المسيح من الخطيئة الأصلية التي يولد بها كل الناس حتى الأنبياء عصمه أيضاً من الخطايا الفعلية التي يصيبها سائر بني آدم، حتى الأولياء والصالحين والمرسلين، طيلة حياتهم. روي عن قتادة: "وذكروا لنا أنهما كانا (المسيح وامه) لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم". ورأى المفسرون في اسم المسيح إشارة إلى أنه مُسح بما طهره من الذنوب مبدئياً (البيضاوي). ودليلاً على أنه مسح من الأوزار والآثام فلم يكن لها عليه من سبيل (الرازي). فقد "مُسح بالبركة" وظل "مباركاً أين ما كان" (مريم 30). وقد نسب القرآن الإثم والخطيئة إلى كل الناس وكل الأنبياء، وواحد أحدُ في العالمين يقول عنه القرآن والحديث والتفسير أنه كان – وأمه – معصوماً من الخطيئة. ونجد في انتصار المسيح في آخرته على سلطان الموت تفسيراً كاملاً لانتصاره في حياته على سلطان الخطيئة.
الحداثة الخارقة:
وتتوالى الخوارق الإلهية في طفولة المسيح وحداثته.
قال الجلالان: كان الحمل بالمسيح والتصوير والولادة في ساعة. وقال الزمخشري: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وقالوا غير ذلك. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة وكما حملته نبذته: حملت بمعجزة وولدت بمعجزة؛ فأمه هي الام البتول وحدها بين النساء.
واطعم الله الوالدة من نخلة يابسة في الشتاء، وسقاها من "سري" ناشف: "لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان للناس أنهما من أهل العصمة" (الزمخشري).
والوليد يتكلم للحال منذ مولده: نطقه معجزة، وكلامه نبوة، وكلاهما ميزة فريدة "فأشارة إليه. قالوا كيف نكلم منكان في المهد صبياً؟ قال: إني عبد الله ..." (مريم 26)، قال الرازي: "هي خاصة شريفة كانت حاصلة له، ولا حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده".
لقد استنبأه الله طفلاً: "يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس: تكلم الناس في المهد وكهلاً" (مائدة 113): إن إبراهيم وموسى ومحمداص وسائر الأنبياء صاروا أنبياء بعدما تخطوا الكهولة أما المسيح فوحده وُلد نبياً، واستنباه الله طفلاً. قال الشهرستاني "جميع الأنبياء بلاع وحيهم أربعون سنة، وهو قد أُوحي إليه انطاقاً في المهد، وأوحي إليه إبلاغاً عند الثلاثين" (171).
منذ مولده تعلم من الله مباشرة "الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (آل عمران 48) فيما يتخذ الله بينه وبين أنبيائه الملائكة واسطة يوحي بهم إلى عبيده: "يُنزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده لينذروا يوم التلاق" (نحل 2، غافر 15، شورى 52)؛ واتخذ جبريل واسطة لوحي محمد: "قل من كان عدواً لجبريل؟ فإنه نزله على قلبك بإذن الله" (بقرة 97). قال الشهرستاني "نفس وجوده وفطرته ىية كاملة على صدقه، ونطقه من غير تعليم سالف" (171)؛ فلا غرو أن ينفرد بالوحي منذ مولده بين العالمين: فهو "كلمة الله" فلا حاجة له إلى من ينقل إليه كلام الله وهو "روح الله" فلا حاجة له إلى من يُسر إليه أسرار الله.
وكانت إعالته مع أمه على رابية غناء معجزة أخرى: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين" (مؤمنون 51).
ولا يذكر القرآن لمحمد أو لغيره منالأنبياء معجزة في حداثته فيما يذكر للمسيح معجزة الخلق: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني" (مائدة 113، ىل عمران 49): يسوع يتسلى بخلق الطيور في حداثته! إنها لبداية ملاى بالخوارق والمعجزات.
معجزة العفة:
حسب القرآن الكريم قضى المسيح حياته كلها في البتولية، في عفة لا يدانيه فيها نبي من كل من يذكر. فلا ينسب إلى عيسى ابن مريم أدنى علاقة بالزواج والنساء؛ فيما يتكلم عن أعمال الأنبياء وخطاياهم وأخطائهم، وعن أزواجهم ومشاكلهن (رعد 40)، ويتطرف إلى كلام عن النبي العربي، وعن أزواجه يحتاج إلى شرح كثير حتى نستسيغه؛ المسيح وحده ارتفع فوق حاجة الرجل إلى حواء، فعاش بتولاً ورُفع بتولاً: وفي هذا ما فيه من الكمال الذي انفرد به. وليس ذلك من نوع التقصير الجنسي كما يغمز الأستاذ العقاد حيث قال: "قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية. قلنا: إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط. فلا ينبغي ان تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه جمع بين تسع نساء[18]" ولكن هذا دليل على أنه خضع لعازة الرجل إلى المرأة حسب القول المأثور[19]: "المرأة شر كلها وشر ما فيها أنها لابد منها"، فيما سما المسيح فوق هذه العازة البشرية سمواً كاملاً لا يدانيه فيه أحد.
معجزة القداسة:
وشهد القرآن أيضاً للمسيح بالقداسة الكاملة التي لا يرسم لنا عنها مثيلاً للمثله: وُلد "غلاماً زكياً" (مريم 18) وعاش قديساً "وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً" (مريم 31). لم يكن له في العالم من صلة سوى أمه فكان "براً بوالدته" (مريم 32). عاش بعيداص عن كل ما يمت إلى السلطان والطغيان والسيف بصلة "ولم يجعلني جباراً شقياً" (مريم 32): بُعث رحمة للعالمين فكيف يكون غير الرحمة (مريم 21). لقد عاش كرجل الله بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فلا يفطن إلا لما لله. فقد يهمل أمور الحياة والزواج والرزق والتسلية، قد يترك أمور جسده ودنياه حتى لا يفكر إلا بمناجاة الحق ودعوى الناس إلى الإيمان بالله وحبه. لم يبن مثل غيره منازل لأزواجه قرب المسجدن ليختلف كل ليلة إلى واحدة منهن بعد صلاة العشاء[20]، بل كان يقضي ليلته في الصلاة إلى الله (لوقا 6: 13، يوحنا 6: 13)؛ لم يكن ليغزو ولا ليقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه[21] كأنه لا يقدر ان يستغنى عن المرأة حتى في معامع الحروب؛ بل كان يقول لتلاميذه: إن طعامي أن أعمل مشيئة من أرسلني وأتمم عمله (يوحنا 4: 34). لم يكن بحاجة في أول أمره إلى أن "يشرح الله له صدره ليضع عنه وزره الذي انقض ظهره" (الشرح 1و2)، ولا في آخر عهده أن "يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (فتح 2)؛ فهذه القداسة السامية التي يفترضها القرآن في المسيح لهي أكبر نعمة وأعظم ميزة يقدر الله أن يتحف بها مخلوقاً.إن عيسى ابن مريم أكمل مثال للكمال كما صوره القرآن.
كيف أدى المسيح رسالته؟
أداها كمثال للنبي والرسول الذي يهدي إلى الله بأقواله وأعماله: "لقد أحسن في كل ما صنع" هكذا شهد له الشعب اليهودي؛ والشرطة الرومانية المكلفة بتوقيفه ولم تفعل أجبات: "إنه ما نطق إنسان قط بمثل ما نطق هذا الرجل" (يوحنا 7: 46). كان يهدي الناس لا عن طريق الرهبة والقوة، ولا عن طريق الرغبة والمال: فلا يذكر القرآن أن المسيح شرع جهاداً لتوطيد حقيقة دينه بل ترك لسلطان الإيمان أن يفتح للحق مغاليق العقول والقلوب، ولا يذكر القرآن أن المسيح قام بغز أو حاصر قوماً: لم يغز قوماً ولم ينهض على بلد! ولا سبر السرايا والغزوات ليجلب لرجاله المال والمعيشة بل كان يعيش من حسنات الشعب، ووصى مبعوثيه لنشر دينه "ألا يحملوا في الطريق لا عصاً ولا زاداً". بل عاش فقيراً ومحباً للفقراء والمساكين محرماً "عبارة ربين: الله والمال". لم يهد المسيح العالم إلى الله بسلطان السيف، ولا بسلطان المال، ولا بسلطان الإغراء بطيبات الدنيا والآخرة، ولا بسلطان العلم والفلسفة، ولا بشيء من مغريات الحياة الدنيا؛ بل فرض احترامه واحترام دينه بالزهد، والقداسة، والنبوآت والمعجزات.
يشهد القرآن أن الله اختص رسالة المسيح بتأييد الروح القدس: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (بقرة 87، 253). أجل، لا نفهم صريحاً ما يقصد القرآن بروح القدس؛ غير أننا نرى ملياً أنه أيد علوي فريد لم ينله أحد من الأنبياء قبله أو بعده. فقط ميز الله المسيح بين الأنبياء والمرسلين بتأييد الروح القدس، وقد لا ينعت "الروح" بالقدس إلا في كلامه عن المسيح[22]: "إذ قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك – وعلى والدتك – إذ أيدتك بروح القدس" (مائدة 113): فهذا التأييد كان نعمة كبرى وميزة عظمى من الله. وأن رسالة يؤيدها روح القدس لهي أفضل رسالة.
وقد شهد الله للمسيح بمعجزة النبوآت التي لم يفه بمثلها لغيره: يصرح القرآن مراراً عن محمد بن عبد الله أنه لا يعلم الغيب (أنعام 50، 124)، فعلم الغيب من خصائص الله: "وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو". بل هي صفة إلهية من صفاته تعالى "إنك أنت علام الغيوب" (مائدة 120). فإذا أشرك الله أحداً في هذه الميزة يكون قد شهد له أفضل شهادة. والقرآن يقر أن المسيح أوتي علم الغيب: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: أن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" (آل عمران 49). وتنبأ من مهده أكبر نبوءة عن آخرته: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (مريم 33): منذ مولده يتنبأ أنه سوف يبعث حياً وقد تحققت النبوة لما "رفعه الله إليه" (نساء 157). فهل يذكر القرآن لسرول معرفة الغيب بهذه الصراحة وهذه القوة؟ وهل حققت الأيام قولاً كما حققت نبوة المسيح.
وشهد القرآن للمسيح أيضاً بمعجزة العجائب الباهرة: العجيبة فعل يفوق طاقة المخلوق ومعجزة إلهية لا يقدر أن يجترحها إلا الله القادر علىكل شيء. فإذا اختص الله عبداً له بشيء من هذه القدرة الإلهية فذلك دليل ساطع على أن الله اصطفاه على سواه. والقرآن لا ينسب لنبي من المعجزات كما نسب للمسيح. وفيما يصرح القرآن مراراً أن الآيات والخوارق مُنعت عن محمد "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا ان كذب بها الأولون" (إسراء 59)، يشهد مراراً للمسيح باجتراح المعجزات العظام: "ورسولاً إلى بني إسرائيل، إني قد جئتكم بآية من ربكم إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وابرئ الأكمة والأبرص، وأحيي الموتى" (آل عمران 49)؛ يعود إلى ذكرها أيضاً في آخر عهده (مائدة 113): فأي خارقة أعظم من إحياء الموتى[23] وأعظم من القدرة على الخلق؟؟ هل ينسب القرآن إلى بشر أو نبي أو مخلوق ما ينسبه إلى المسيح من خوارق في شخصه وفي رسالته؟ وتتخطى معجزاته نطاق الأرض إلى السماء فيُنزل على الحواريين تلاميذه مائدة من السماء يأكلون منها فتطمئن قلوبهم، ويؤمنون به مستشهدين في سبيله (مائدة 111-115): فظلت "عيداً لأولهم وآخرهم" وأعظم آية من الله في تاريخ الأنبياء والمرسلين.
ولكن شهادة الشهادات في القرىن عن لمسيح، وميزة الميزات التي انفرد بها المسيح ومعجزة المعجزات التي بها اختص الله عيسى ابن مريم دون سائر الأنبياء والمرسلين بلا استثناء هي أن "الله رفعه إليه" فهو حي نفساً وجسداً عند الله وإلىما شاء الله: "وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً" (نساء 15).
البشر كلهم يموتون، وينتهي أمرهم بالموت. ويولدون ليموتوا: الأولياء والصالحون، والأنبياء والمرسلون، ماتوا جميعاًمز ومحمد "خاتم النبيين" قد مات كغيره وقبره في المدينة المنورة "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم" (ىل عمران 144) فالموت سلطان السلاطين! الموت آخرة كل شيء: آخرة القداسة والنبوة، وىخرة العلم والفلسفة والسلطان: واحد وحده لم يكن للموت عليه من سلطان، هو عيسى ابن مريم، مسيح الله!
فهو وحده حي عند الله! وإذ هو وحده حي فيما غيره قد مات وصار رميماً فرسالته دائمة، وهدايته دائمة، وشفاعته دائمة. أليست رسالة الحي الدائم أفضل من رسالة الميت؟ أليست شفاعة الحي عند الله افضل من شفاعة الميت الذي صار تراباً؟ قال المسيح في الإنجيل: "أنا القيامة والحياة: من آمن بي وإن مات فسيحيا" (يوحنا 14: 26). وقال القرآن: "إذ قال الله: يا عيسىإني متوفيك ورافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" (ىل عمران 55).
وهكذا فقد اتفقت شهادة الإنجيل والقرآن للمسيح أنه حي عند الله. فهذه ميزته الخاصة التي انفرد بها دون العالمين؛ وهي ميزة الميزات ومعجزة المعجزات.
فلا عجب بعد ذلك إذا سمعنا القرآن يصف عيسى ابن مريم بألقاب ترفعه فوق المرسلين، وسائر المخلوقين إلى صلة خاصة شخصية مع الله.
لقد غمر القرآن المسيح بألقاب نبوية قد يشترك فيها غيره، ولكن القرآن قد خص ابن مريم بألقاب غريبة سماوية، وأسماء إلهية: فقد أعطاه مع الإنجيل اسماً يفوق كل اسم: "إنما المسيح عيسى ابن مريم: رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 157) فعيسى ابن مريم: رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (نساء 157) فعيسى ابن مريم، رسول الله هو بالحقيقة مسيح اللهن وكلمة الله وروح الله! مهما يكن من معنى هذه الألقاب الفريدة التي لا ينسبها القرآن لأحد من المرسلين والعالمين، فهي تجعل المسيح وحده في صلة شخصية خاصة مع اللهن صلة مصدرية عقلية روحية، ترفعه فوق صفة المخلوق.
لقد كتب الأستاذ العقاد "عبقرية محمد" فجمع في النبي العربي مجموع العبقريات والبطولات. وقد يكون ذلك. ولكن ليست العبقرية الخطابية، ولا العبقرية العسكرية، ولا العبقرية السياسية، ولا العبقرية الإجارية، ولا العبقرية الشخصية في الصديق والزوج والأب والسيد المطاع، والرجل الفرد المحبوب ... ليست كلها بشيء إزاء هذه الألقاب الإلهية التي وصف بها القرآن المسيح عيسى ابن مريم.
لقد عرفا لقرآن شخصية المسيح بأنه وحده في العالمين: مسيح الله، وكلمة الله، وروح الله!
ولخص عظمته بكلمة لم يقلها في غيره: "إنه آية للعالمين".
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية" (مؤمنون 51).
"وجعلناها وابنها ىية للعالمين" (أنبياء 91).
"قال ربك هو علي هين: ولنجعله آية للناس ورحمة منا. وكان أمراً مقضياً" (مريم 21).
"لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا. وإليه المصير" (شورى 15)
نوجزها بلمحتين خاطفتين:
1) موقف أهل الإنجيل من القرآن ونبيه:
إنهم يعترفون بأن محمداً بن عبد الله الهاشمي القرشي تطوع لأسمى رسالة يمكن أن يتطوع لها بشر: رسالة التوحيد! أي دعوة الناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
ويشهدون من القرآن ذاته أنها لم تكن رسالة مستقلة عما تقدمها في التوراة والإنجيل، بل إنما جاءت تصديقاً وتفصيلاً لرسالة الكتاب (انعام 114، يونس 37) وشاهدة عليها (مائدة 51) وواحدة معها (بقرة 136، 285 وآل عمران 84 ونساء 163 وتوبة 112).
ويؤكدون مع القرآن أن محمداً أخلص لرسالته كل الإخلاص، وعمل لها بالقلم والسيف ما استطاع سبيلاً حتى توصل إلى غايته. فأنشأ أمة وديناً ودولة قادت شطراً من العالم أجيالاً ولم يزل لها وزنها الثقافي والدولي.
ولا يقلل من عظمة سيد العرب في نظر التاريخ أنه لبى الدعوة مندفعاً من نفسه أو مدفوعاً من عل: فقد كان الرسول عظيماً والرسالة عظيمة ونتائجها عظيمة.
ونرى اليوم ضرورة رسالة التوحيد أكثر من كل زمن مضى عندما نرى تيارات الإلحاد الجارف تجتاح البشرية أو تكاد من مهاب الريح الأربعة. فالإيمان بالله واليوم الآخر هما الدعامتان اللتان لابد منهما للبشرية لكي تصعد ولا تهبط، لكي تتقدم ولا تتأخر، لكي تسعد ولا تشقى: وهذا كان عمل القرآن ونبيه.
فكم هو جميع مشهد هذه المآذن الشواهق المنتشرة في العالم والتي تمثل اشتياق الأرض إلى السماء، وسواعد البشرية المؤمنة المرتفعة فوق كل فضاء تنادي إلى الإيمان بالله وعبادته!
2) موقف القرآن من الإنجيل:
من يطلع بإخلاص على شهادة القرآن للإنجيل رأى في القرآن مدخلاً إلى الإنجيل.
لقد آمن القرآن ونبيه الإيمان كله بنبوة المسيح ورسالة الإنجيل، وما كان هذا الكتاب الذي بين يديك إلا رسماً صادقاً لهذا الإيمان: فليس في القرآن شخصية تداني شخصية المسيح، وليس في القرآن – بين الرسالات التي يخبر عنها – رسالة تسمو إلى رسالة الإنجيل.
ولكن النبي العربي لم يعترف ببنوة المسيح لأنه لم يعرفها حق معرفتها. فقد ظن أن كل بنوة تخضع حكماً وضرورة لناموس الجسد، ولا تكون إلا بامرأة وزواج: "بديع السماوات والأرض أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" (أنعام 101)، وظن أن البنوة في عالم الروح حاجة كما في عالم الأجساد "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً" (مريم 93)ح ليست البنوة في الروح حاجة "ما اتخذ صاحبة ولا ولداً" (الجن 3) بل هي فيض جودته، وضياء مجده. ونقول جازمين لو أن النبي العربي عرف بنوة المسيح حق معرفتها لاعترف بها دون ما تردد: "قل إن كان للرحمن ولد فأنا اول العابدين" (زخرف 81).
تلك هي بعض الأبحاث عن الكتاب والإنجيل في القرآن. فيها كل ما من شأنه أن يجمع ويؤلف بين أهل الكتاب وأهل القرآن. فإن ما حفظ القرآن عن المسيح والإنجيل والنصارى مفخرة للمسلمين والمسيحيين إذا تجردوا عن تفاسير الشحناء والبغضاء.
وفصل الخطاب، على حد قول القرآن، ان هناك إلهاً واحداً، ووحياً واحداً، وكتاباً واحداًمنزلاً، ورسالة واحدة وديناً واحداً في أصل، وإيماناً واحداً هو الإيمان بالله واليوم الآخر (بقرة 62، 177 ومائدة 62، 72)؛ يعطيه اسماً جديداً عربياً "الإسلام" أي التوحيد؛ وإن كان جديداً بالمبنى فليس جديداً بالمعنى "هو سماكم المسلمين من قبل (في الكتاب) وفي هذا (في القرآن)" (الحج 87) وقج ختم القرآن شهادته بمكة بقوله: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن – إلا الذين ظلموا منهم – وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون" (عنكبوت 46)؛ وختم القرآن رسالته في المدينة في آخر آية تقريباً من آخر سورة فيه بقوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" (توبة 112).
وحسن الختام في الصورة التي رسمها القرآن للإنجيل والمسيح: ليس بين الكتب المنزلة حسب قوله أسمى من الإنجيل، وليس بين الأنبياء المرسلين افضل من المسيح. لقد أعجبنا بتلك الصورة فجمعنا بعض خطوطها. ففي كل قصصه عن الأنبياء والمرسلين لا يرسم القرآن الكريم صورة أسمى وأكمل من شخصية المسيح عيسى ابن مريم. لقد كان للإنجيل وقع عميق في نفس النبي الأمي، وكان لتأثير شخصية المسيح على وجدان النبي العربي صدى بعيد فملأت عظمة المسيح، الذي وحده بين البشر والأنبياء انتصر على الموت والحياة وارتفع حياً إلى الله، كل مشاعره فرسمها بذلك الرسم الخالد.
أعاظم الأنبياء في القرآن هم إبراهيم وموسى وداود وعيسى ومحمد. وكلهم جاء بكتاب. وأعظم شخصية بينهم حسب القرآن هو المسيح عيسى ابن مريم لا يصف أحداً بما وصف به عيسى ابن مريم. ولا يلقب أحداً بما لقب به المسيح:
عيسى ابن مريم هو وحده مسيح الله.
عيسى ابن مريم هو وحده كلمة الله.
عيسى ابن مريم هو وحده روح الله.
فالمسحة السرية، والكلمة من الله، وروح الله، نعني صلة ذاتية حقيقية لا مجازية بين المسيح والله دون العالمين أجمعين.
المؤلف والمجموعة
مجموعة الأستاذ الحداد القرآنية والإنجيلية
أولاً: المؤلف
الأب يوسف درة الحداد (1913 – 1979)، المعروف أيضاً بـ "الأستاذ الحداد"، من يبرود (القلمون) مولداً، ومن خريجي إكليريكية القيدسة حنة (الصلاحية) في القدس ثقافة.
خدم النفوس بعد سيامته الكهنوتية (1939) في أبرشيتي حمص وبعلبك، ثم انقطع زهاء عشرين سنة للبحث والكتابة في حقل استهواه منذ أيام التلمذة، حقل الشؤون القرآنية على وجه عام، والمعضلات الإسلامية المسيحية، والدراسات الإنجيلية والكتابية على وجه خاص.
فاكب بجل على العمل، قل ان يضاهى بمثله، ويقدرة على الاستساغة والتأليف تثير الإعجاب، فأنتج نتاجاً ضخماً جداً، بعضه نشر وبعضه لا يزال مخطوطاً أو قيد الطبع.
ثانياً: المجموعة
مجموعة الأستاذ الحداد من أبرز المجموعات الدراسية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ومن أوسعها موضوعاً، وأعمقها تحليلاً، وأنزهها هدفاً، وأسلمها أسلوباً. وهي تتألف من ثلاث سلاسل: سلسلة الدروس القرآنية، وسلسلة الحوار الإسلامي المسيحي، وسلسلة الدراسات الإنجيلية.
وفي كل سلسلة طائفة من البحوث القيمة قلما عرض لها مفكر مثلما عرض لها الأستاذ الحداد، وقلما تعمق في حقائقها عالم كما تعمق وكشف عن أسرارها وخفاياها الأستاذ الحداد، وذلك كله بفكر ثاقب لا يكاد يخطئ هدفاً، وعلم واسع لا يعرف إلى الدقة والتدقيق أسلوباً، وقلم صريخ لا يخشى إلا خيانة الحقيقة والتقصير في خدمتها، وجلد لا مثيل له بتتبع أوثق المصادر والمراجع القديمة والحديثة، فيجول في عالمها جولة قدير، ويقارن ما بين نصوصها مقارنة ناقد حاذق، لا تلهيه القشور، ولا تغشى بصره الميول. إنه رسول حقيقة، في عالم من الاضطراب والمفارقات.
وهكذا كانت مجموعة الحداد، على ما فيها من بعض الشوائب التقنية، موسوعة ضخمة، لا عهد لنا بفرد طوى في ميدانها بقدر ما طوى هو وبمثل ما طوى. ولهذا كانت مرجع الباحث الذي يطلب العلم، ومنهل الوارد الذي يطمح إلى المعرفة.
(الاب جورج فاخوري البولسي)
للمؤلف
1 دروس قرآنية
1 – الإنجيل في القرآن
2 – القرآن والكتاب (طبعة ثانية)
· الكتاب الأول: بيئة القرآن الكتابية (طبعة ثانية)
· الكتاب الثاني: أطوار الدعوة القرآنية
3 – نظم القرآن والكتاب
· الكتاب الأول: إعجاز القرآن (طبعة ثانية)
· الكتاب الثاني: معجزة القرآن
2 في سبيل الحوار الإسلامي المسيحي
1 – مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي
2 – القرآن دعوة "نصرانية"
3 – القرآن والمسيحية.
4 – أسرار القرآن (مخطوطة)
5 – المسيح ومحمد في عرف القرآن (مخطوطة)
6 – سيرة محمد وسره (مخطوطة)
3 دراسات إنجيلية (مصادر الوحي الإنجيلي)
1 – الدفاع عن المسيحية
(في الإنجيل بحسب متى وبحسب مرقص)
2 – تاريخ المسيحية
(في الإنجيل بحسب لوقا وفي سفر أعمال الرسل)
3 – فلسفة المسيحية.
· الكتاب الأول: الرسول بولس.
· الكتاب الثاني: رسائل بولس.
4 – صوفية المسيحية.
· الكتاب الأول: في الإنجيل بحسب يوحنا.
· الكتاب الثاني: في سفر الرؤيا.
5 – المسيح في الإنجيل. (مخطوطة)
6 – "إنجيل" بولس (مخطوطة)
7 – سيرة المسيح وسره (مخطوطة)
8 – دروس إنجيلية (مخطوطة)
9 – الدفاع عن المسيحية من تاريخها وتعليمها (مخطوطة)
([1] ) النسبة إلى إله يسميها البيضاوي "ألوهية" والزمخشري "لاهوتية" والرازي والغزالي "إلهية".
([2] ) القرآن تعليم ابتدائي لقوم بدائيين عن توحيد الله، فلا يطلب منه في المحيط الذي نزل فيه أبحاثاً أو حقائق عن "ذات الله": قبل أن يعرفوا ما هو الله في ذاته، يجب عليهم أن يوحدوه، وهذا ما يسعى إليه القرآن فلا يجوز أن نطلب منه أكثر مما يريد. ونقلوا لنا حديثاً شريفاً: "البحث عن ذات الله كفر"ز وفي إهمال القرآن لعقائد النصرانية الخاصة، أو في نكرانها ألا ينسجم مع موقف فرق نصرانية عاصرته كالأريوسية والنسطورية أو تعاصرنا كأحرار البروتستنطية، وشهود يهوه.
([3] ) قد تكون مقالة الملكانية "الله ثالث ثلاثة" ولا يمكن أن تكون بحال من الأحوال مقالة النسطورية الذين لا يعترفون بأمومة مريم الإلهية، ويحطون من كرامتها!!
([4] ) فذلكة تاريخية: هل وراء أقوال نصارى الحجاز مذاهب نصرانية معروفة وصلت إلى قلب الجزيرة؟ قد يكون الأمر كذلكعلى ما يؤخذ من نصوص القرآن واجتهادات المفسرين، كما رأينا.
قبل مبعث النبي العربي كان يتقاسم العالم امبراطوريتان ضخمتان، الفرس في الشرق من الجزيرة العربية، والروم في الغرب. وقد تنصرت دولة الروم، وبدأت النصرانية تغزو دولة الفرس، وهذا سبب ما كان بينهما في مطلع القرن السابع من حرب سجال، علاوةعلى المنافسة على سيادة العالم، وتنازع البقاء.
وقد غزت النصرانية الجزيرة وتوغلت إلى الحجاز، آتية من الشرق ومن الغرب معاً.
وقد حاولت نصرانية الفرس أن تقرب بين المسيحية والدين القومي "المزدكية" القائلة بإلهين، إله الخير وإله الشر أو إله النور وإله الظلمة، فطلعت علينا ببدعة المانوية التي تسربت إلى قلب الجزيرة ونجد لها صدى في قول القرآن "وقال الله: ولا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد" (نحل 51). قال الشهرستاني هذه المقالة تنقل تعليم المانوية والديصائية، من مارقة النصارى، القائلين بعنصرين أو إلهين، إله الخير وهو النور، وإله الشر وهو الظلمة، (كتاب الملل والنحل ج 1 ص 143).
كما غزت الحجاز النصرانية الغربية بفرقها الثلاث المعروفة آنذاك: المكائية واليعقوبية، والنسطورية وليدة وحليفة الآريوسية المصرية. فكان آريوس يدعي أن المسيح عبد الله ورسوله فهو مخلوق قبل غيره، وبه كبواسطة خلق الله العالم، فهو غير الله، فتبرأت النصرانية منه، ودانت بالتثليث. وافترقت النصرانية الغربية ثلاث فرق في فهم هذا التثليث: فقالت اليعقوبية، أتبعا يعقوب البرادعي، "بالأقانيم الثلاثة" إلا أنهم قالوا انقلبت اكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو وعنهم أخبرنا القرآن: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم!". وقالت الملكانية أتباع الملك والمجمع النصراني "بالأقانيم الثلاثة، إلا أنهم قالوا أن الكلمة اتحد بجسد المسيح وتدرع بناسوته" ففهم العرب من ذلك أن الله صار "ثالث ثلاثة" فحكى عنهم القرآن: "لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة". وقالت النسطورية "وهي من الملكائية كالمعتزلة من السنة" وهم أتباع نسطور: أن مريم هي أم المسيح لا أم الله، فليست مريم بإله، ولا ولدت الله، وبهذا قد ينكرون عرضاً ألوهية المسيح كما قالت اليعقوبية، والتثليث كما قالت الملكائية. ونظن مع عبد المسيح الكندي، أن القرآن في قبوله نبوة المسيح، ونكرانه بنوته قد انتهى إلى مقالة النسطورية، فكفر معهم اليعقوبية والملكائية من النصرانية الغربية كما كفر النصرانية الشرقية ونهى عن القول بالتثليث "لا تقولوا: ثلاثة! انتهوا" ففيه مزلقة عن التوحيد. كما نهى عن القول بالثنائية: "ولا تتخذوا إلهين اثنين" ففيه نكران للتوحيد.
وننقل على سبيل الاطلاع ما كتبه الشهرستاني المؤرخ الديني: "واثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة. قالوا: الباري تعالى جوهر واحد يعنون به القائم بالنفس، لا التحيز والحجمية، فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية، ويعنون بالأقنومية الصفات: كالوجود والعلم والحياة أي الآب والابن وروح القدس. وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم (172) ... وقالت الملكائية: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته ويعنون بالكلمة أقنوم العلم. ويعنون بروح القدس أقنوم الحياة. ولا يسمون العلم قبل تدرعه به ابناً، بل المسيح مع ما تدرع به ابن ... وصرحت الملكائية بأن الجوهر غير الأقانيم وذلك كالموصوف والصفة. وعن هذا صرحوا بإثبات التثليث (173) ... وعنهم أخبر القرآن: لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة" ... وحسب رأي النسطورية، وهي من الملكائية كالمعتزلة من السنة: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة" الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام على طريق الامتزاج كما تقول الملكائية (؟) ولا على طريق الظهورية كما قالت اليعقوبية ولكن كإظهار الشمس في كوة أو على بلور أو كظهور النقش في الخاتم. وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم أحوال أبي هاشم من المعتزلة فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد (174). واليعقوبية أصحاب يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم: لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم. فمنهم من قال المسيح هو الله ومنهم من قال ظهر اللاهوت بالناسوت (176). وزعم آريوس أن الله واحد سماه أباً، وأن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل خلق العالم وهو خالق الأشياء. وزعم أن الله تعالى روحاً مخلوقة أكبر من سائر الأرواح وأنها واسطة بين الآب والابن تؤدي إليه الوحي. وزعم أن المسيح ابتدأ جوهراً لطيفاً روحانياً خالقاً غير مركب ولا ممزوج بشيء من الطبائع وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم. وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث فتبرأوا منه لمخالفتهم إياه في المذهب" (178) (كتاب الملل والنحل).
([5] ) لاحظ أن الغزالي قلب ترتيب أرسطو: فهذا يقول ذات الله عقل وعاقل ومعقول معاً؛ والغزالي يقول ذات الله عاقل وعقل ومعقول. راجع الرد الجميل على إلهية المسيح ص 43. ولاحظ أيضاً أن الغزالي يقبل بهذا التثليث في كتاب يرد به علىإلهية المسيح!
([6] ) قال البيضاوي: لماكان صفة تميز تمييز الأسماء ... تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الأب ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب.
([7] ) كان للمؤمنين في رسول الله محمد "أسوة حسنة" في الصبر وفي الحروب والغزوات؛ إنها أسوة محدودة خاصة.
([8] ) "مشيحا" معناه مسيح أي ممسوح. وقد تكون المسحة دلالة بركة خاصة.
([9] ) والأكثرون أنه مشتق: قال الزمخشري: "ومشتقهما (المسيح عيسى) من المسح والعيس كالراقم في الماء. وقال البيضاوي واشتقاقهما من المسح والعيس تكلف لا طائل تحته".
([10] ) لماذا ما سمي غيره مسيحاً لو كلهم مُسحوا؟
([11] ) كتاب الملل والنحل: في أصل النصرانية (172).
([12] ) لم يكن أحد من الأنبياء موصوفاً بها معاً بل جميعهم بواحدة منها أو اثنتين. مثلاً موسى كان نبياً وقائجاً ولم يكن إماماً أو كاهناً بل هارون. وداود كان نبياً وملكاً ولم يكن كاهناً. وإرميا كان نبياً وكاهناً ولم يكن ملكاً. المسيح وحده جمع الخصال الثلاث.
([13] ) وكمال هذه المسحات الثلاث في الإنجيل: مسحة الألوهية "مسحك إلهك، يا الله، بدهن البهجة أفضل من شركائك" (عبر 1: 8)، "مسح الله بالروح القدس يسوع الناصرية الذي اجتاز يحسن إلى الناس لأن الله كان معه" (أعمال 10: 8).
([14] ) راجع خصوصاً النصوص الإضافية التفسيرية: مريم 35، زخرف 59، آل عمران 59، 62.
([15] ) كتاب التبشير والاستعمار، بيروت 1953.
([16] ) في هذا الاستدلال التمويه الحقيقي الذي يقفز بين الفروق في الاسم العلم "كلمة الله" وفي "كلمات الوحي" التي نزلت على آدم وسائر النبيين دون أن تنفذ: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" (كهف 110).
([17] ) إزاء هذه الاحتمالات العديدة المختلفة اضطرب المسلمون وسألوا النبي عن الروح فقال: "يسألونك عن الروح؟ قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"! (إسراء 85) أي لا أدري. فقال أحدهم: "مضى محمد ولم يدر ما الروح!"
([18] ) عبقرية محمد للأستاذ عباس محمود العقاد ص 178.
([19] ) عن علي ابن أبي طالب.
([20] ) حسين هيكل: حياة محمد ص 413.
([21]) حسين هيكل: حياة محمد ص 324.
([22] ) مرة واحدة ينعت جبريل الموحى إلى محمد بروح القدس. وروح القدس هنا مرادف لجبريل (نحل 102).
([23] ) ذكر الكتاب لبعض الأنبياء إقامة موتى، وذكر أيضاً أنها كانت بغذن الله؛ فيما ينقل الإنجيل أن عيسى كان يقيم الموتى بقدرته الذاتية: "أنا اقول لك، قم! فقام الميت واستوى".