عبادة القمر فى الشعر العربى
فيما يلى جزء من رسالة " القمر فى الشعر الجاهلى" - إعداد : فؤاد يوسف إسماعيل اشتية - إشراف د. إحسان الديك - جامعة النجاح الوطنية - كلية الدراسات العليا (قدمت هذه الإطروحة "الرسالة" إستكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الماجيستير فى اللغة العربية بكلية الدراسات العليا فى جامعة النجاح الوطنية ، نابلس ، فلسطين 2010م نوقشت هذه الرسالة بتاريخ 23/5/2010م وأجيزت وأعضاء لجنة المناقشة هم 1 - د. إحسان الديك / مشرفاً ورئيساً "توقيع" 2 - د. جمال غيطان / ممتحناً خارجياً "توقيع" 3 - أ . د. عادل أبو عمشة / ممتحناً داخلياً "توقيع"
***************************************************************************************************************************
القمر فى الشعر الجاهلى
(رسالة مقدمة من فؤاد يوسف إسماعيل اشتية للحصول على درجة الماجستير فى اللغة العربية بكلية الدراسات العليا فى جامعة النجاح الوطنية ، نابلس ، فلسطين نوقشت هذه الرسالة بتاريخ 23/5/2010م وأجيزت)
1 - البعد الدينى
من خلال تتبعنا صورة القمر فى أشعار الجاهليين (الوثنيين) يمكن أن نلحظ قدراً كبيراً قدراً كبيراً من الإشارات الإسطورية والدينية التى تبرز عنصراً مهما من عناصر الصورة ، ولأن الأساطير والخرافات تشكل جانباً مهما من المعتقدات الدينية الجاهلية (الوثنية) فقد صارت مكوناً أساسياً للصورة الشعرية عند شعراء الجاهلية بحيث ترجع أكثر هذه الصور إلى أصول ميثولوجية موغلة فى القدم . (ص145 من الرسالة)
ويكشف الشاعر الجاهلى من خلال صورة القمر فى التراث الجاهلى عن الكثير من القضايا الفكرية والدينية التى كانت شائعة فى هذا المجتمع ، إذ أصبحت النظرة إليه كإلـــه من المكونات الأساسية للصورة الشعرية عند الشعراء الجاهليين
وقد إرتبط القمر فى
العقلية الجاهلية ببعض ما ترسب فى أذهانهم من معتقدات دينية وميثولوجية ،
أفرزتها الأفكار البدائية حول الكون والحياة والموت والكائنات ، والذى إنعكس فى
أشعارهم, وبخاصة ارتباط القمر بالملك والرجل المثال, يقول الدكتور علي البطل:"
أما ارتباط الرجل المثال بالقمر, فهو شكل من أشكال التقديس التي يخلعها الذهن
البدائي على العظماء, ولقد ( عُبدت الملوك والأبطال في الديانات القديمة نتيجة
وعهم المتميز في المجتمع" (1)
وإذا نظرنا إلى صورة القمر في الشعر الجاهلي، التي تعدّ امتدادًا لصورته في
التراث العالمي، نجدها قد خرجت من إطارها المادي كعنصر من عناصر الطبيعة، لتدنو
من صورة الإله المعبود، يقول الأعشى معبرًا عن قدسية القمر وعبادته: (المتقارب)
فَلمَّا أَتاَنا بُعَيْدَ ال َ كرَى ** سَجَدْنا لَهُ وَرَفعنا عَمَارَا (2)
لعل البيت السابق جاء تأكيدًا على انتشار عبادة الملك المرتبط بالقمر عند
الجاهليين، الأمر الذي يجعل من القمر إلهًا بارزًا في أثناء دراستنا للأبعاد
الدينية لصورته في العصر الجاهلي .
كما نلاحظ أن هذه الصورة مليئة بالحركة التي تدلل على عبادة الملك المرتبطة
بالإله القمر, فالناس يسجدون للملك ويرفعون العمامة لأنهم بين يديه,ففي السجود
ورفع العمامة حركة تعبد, إلا يدلل ذلك على أن القمر والملك نظراء في الألوهية,
ثم متى يكون هذا السجود للقمر؟ لا بد أن يكون ليلا, وهي من دلالات القدسية أيضا.(ص146
من الرسالة)
القمر والملك إلهين
ويقودنا بيت الأعشى
إلى قضية مهمة في دراستنا للبعد الديني في صورة القمر، وهي الربط بين القمر
والملك، والنظر إليهما كإلهين، كما أنه جمع بينهما في المكانة الاجتماعية
والدينية، بما يحمله كل منهما من دلالات وأبعاد أسطورية، تجسد معاني الشمول
الأرضي والسماوي، يقول الدكتور إبراهيم عبد الرحمن: " إن سبب ذلك يعود إلى أن
الشعراء الجاهليين أخذوا يبحثون عن رموز صورهم من خلال ردها إلى أصولها
الميثولوجية التي صدرت عنها، .سواءً في صورها الحقيقية أو في الصور التي
استحالت إليها على يديّ هذا الشاعر أو ذاك"(3)ولعل من الإشارات الدينية التي
ارتبطت بصورة القمر في أشعارهم والتي تجسد تلك العلاقة بين القمر والملك، ما
ورد في مدح الأعشى لإياس بن قبيصة الطائي: (الوافر)
( مُنِيرٌ يَحْسُرُ الغَمَرَاتِ عَنْهُ وَيَجُلو ضَوْءُ ُ غرَّتِهِ الظَّلامَا
(4)
نجد أن الأعشى في هذا البيت قد أحلّ الملك محل البدر في قدرته على إجلاء الظلام،
في صورة دينية حية يملؤها الطهر والنقاء، ( 5) " فهو منير, يجلو ضوء غرته
الظلام لأنه بديل عن الإله القمر" فضلا عن النور الإلهي المتمثل بالضوء، وفي
هذا تقديس وتأليه. فهل من شيء قادر على إجلاء الظلام إلا البدر المتمثل بالملك
.
مثل الملك للشاعر والقبيلة الجاهلية رمزًا من رموز القمر المعبود، حيث جسده
الشاعر الجاهلي باعتباره نظيرا مقدسًا يحمل صفات الرب الذكري (القمر)، كما أنه
سعى إلى ترسيخ هذه الرموز في الذهن الجاهلي، من خلال صورة ميثولوجية، محاكيًا
رمزيتها في نماذج متألقة ضربت في أعماق عصره، مكرسًا معاني الإله الأب .
وكثيرة هي الصور التي يشبه فيها الملك بالقمر في أشعار الجاهليين، والتي تحمل
بين طياتها الكثير من الأبعاد الدينية الموغلة في القدم، والتي جسدتها تلك
الرغبة الملحة عند الإنسان الجاهلي في إيجاد نظير أرضي للإله القمر السماوي.(ص147
من الرسالة)
يقول الدكتور مصطفى عبد الشافي الشوري " كان الملوك يُقدَّسون في كثير من
الأحيان، ليس فقط بصفتهم رجال دين أو كهنة، أو كوسطاء بين العبد والرب، بل
أيضًا باعتبارهم هم أنفسهم آلهة أو أربابًا قادرين على أن يمنحوا أتباعهم تلك
البركات التي كان يظن أنها تجاوز طاقة البشر الفانين(6) . "
فالقمر يتميز عن غيره
من المعبودات بأفعاله وقدراته وسيطرته، باعتباره أبًا في أسرة الآلهة الكوكبية،
والملك رب مقرون به في القداسة والتعظيم، كما يتميز عن الآخرين بأفعاله وقدراته
التي لا يجاريه فيها احد, ونتيجة لهذا عُبدت الملوك وورد في الشعر الجاهلي ما
يدلل على هذا, على نحو ما نرى في قول الأعشى يمدح الأسود بن المنذر اللخمي: (الخفيف)
( أَرْيَحِيٌّ صَلْتٌ يَظَلُّ لَهُ الَقوْمُ رُكودَا قِيَامَهُمْ لِلْهِلال
((7)
وقول الخنساء : (الخفيف)
( مَلِكٌ مَاجِدٌ يَقومُ ِبهِ النَّا سُ جَمِيعًا قِيَامَهُمْ لِلْهِلا ِل (8)
يتضح لنا من خلال بيتي الأعشى والخنساء، أن صورة القمر الإله وصورة الملك قد
جاءتا متناغمتين في إيقاع ديني، محاط بهالة من التقديس والتعظيم، والتي تدلل
على قدسية هذا الترابط الأرضي السماوي. فهذه الصورة " تنصبّ على علاقة الناس
بالممدوح, وعلاقتهم بالقمر المعبود. فنجد أن نوع العلاقة واحد في الحالين,
فالقوم هنا يظلون ركودا في خشوع وسكون للممدوح وكأنهم في صلاة ورعة للإله القمر"(
9), ولولا ذلك, فلم يقوم الناس للهلال إذن؟ كما أن القمر باعتباره معبودا بارزا
عند الجاهليين، عمل على إثراء الصورة وتفجير طاقاتها الإيحائية عبر توظيف
رموزها المستمدة من الميثولوجيا الدينية عندهم . (ص148 من الرسالة)
فالملك هنا هو القمر، ووقوفهم بين يديه يتناغم تماما مع وقوفهم بين يدي القمر
ساجدين متعبدين، فالركود والقيام لا يتمان إلا بين يدي إله مقدس، يحمل جذورًا
أسطورية تتعلق بعقائد قديمة ترتبط بالقمر في فكر الشاعر الجاهلي .
وقد حملت هذه الإشارات الدينية المترابطة في البيتين دلالات رمزية توحي بعبادة
القمر وتقديسه، جسدت معاني الطاعة والخشوع القابعة في أعماق الشاعر الجاهلي
تجاه القمر والملك على حدّ سواء ,فكان القمر رمزا للإله المعبود الذي يقوم
الملك بدوره.
ومن الملاحظ خلال البيتين السابقين أيضًا أن الشاعرين اتجها إلى رسم صورة مليئة
بالإيحاءات الدينية، مستخدمين عبارات تدلل على ذلك (ركودًا، يقوم، قيامهم )،
مما يؤصل هذا المعتقد الديني، والذي خلق الشاعران من خلاله جوًا فنيًا وصورة
دينية، حيث وصفا قيام الناس للملك بقيامهم للهلال الإله .
لننظر كيف تتكرر صورة تشبيه الملك بالهلال عند الشاعر نفسه، في مدحه للملك هوذة
بن علي الحنفي، فيقول: (المتقارب)
إِلى مَلِكٍ كَهِلا ِ ل السَّما ء أَزْ َ كى وَفَاءً وَمَجْدًا وَخِيرا
( طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ العِمَا د يَحْمِي المُضَا َ ف وَيُعْطِي
الَفقِيرَا(11)
فالأعشى يصور الملك تصويرًا فنيًا مبدعًا أساسه القمر فهو يرى أن صورة الملك
كصورة الهلال قي السماء، الذي يعد علامة للألوهية، فهو يعتمد على ما تحمله
عبارات الوفاء والمجد والخير من معان ودلالات دينية عميقة لإبراز صفات الملك،
فتجسد رؤية الشاعر الدينية التي تجمع صفات الألوهية بين الملك والهلال الإله،
كما أنها تعمق الإحساس عند الشاعر بحاجتة الملحة للإله والتي تتمثل في الدفاع
عنه والتقرب منه .
وتشبيه الملك بالقمر في الأبيات السابقة " لا يقصد منه مجرد التشبيه أو التعبير
عن رفعة الشأن أو وضاءة الوجه وما إلى ذلك، بل هو امتداد وتأثر بالنظرة الدينية
التي كانت تربط الملوك وزعماء القبائل بالأرباب( 10)، فالشعر حين يوظف النظرة
الدينية " تنفلت القصيدة من (ص149 من الرسالة) أهم مساوئها التقريرية
والتسجيلية والأيديولوجية المباشرة، ويصبح الواقع شبكة من الرؤى . ( الرمزية
المتعددة الأبعاد والموغلة في أعماق النفس البشرية"(11) يقول الدكتور نصرت عبد
الرحمن: " قد بات من سقط المتاع القول بأن وظيفة التشبيه في الشعر الجاهلي هي
التزيين أو التوضيح، فما الشاعر طاهيا يريد أن يزيّن ما يطهو كي يلذ للناس
التقامه، وما هو بمعلم يفترض في تلاميذه الغباء فيسعى إلى إيضاح، ولكن التشبيه
يضرب في أعماق الوجود الإنساني الذي يسعى إلى اقتناص الحقيقة. والمشبه والمشبه
به إذا ما كثر . ( تردادهما يدلان على علاقة رمزية أبعد من العلاقة الظاهرية
بين الطرفين(12)
الثالوث الكوكبى القمر والشمس والبدر
وكثر تشبيه الممدوح
والمرثي بالقمر كثيرًا في أشعار الجاهليين، وحمله هذا التشبيه بين طياته
أبعادًا دينية وأسطورية، تصور ما كانوا يعتقدونه تجاه القمر، ومن ذلك على سبيل
المثال، قول كعب بن زهير في المدح: (الطويل)
فَتىً َلمْ يَدَعْ رُشْدَا وَلمْ يَأْتِ مُنْ كرَاً وَلمْ يَدْر مِنْ َفرْطِ
السَّمَاحَةِ مَا البُخْلُ
بهِ أَنْجَبَتْ لِلْبَدْر شَمْسٌ مُنِيرَةٌ مُبَارَكَةٌ يَنْمِي ِبهَا الفَرْعُ
وَالأَصْلُ (13)
فالشاعر يصور الممدوح بالكرم وعلو المكانة، اللتين تفهمان ضمنا من خلال تشبيه
أبيه بالبدر وأمه بالشمس، بكل ما تحمله هذه الصور من أبعاد دينية مترسخة في ذهن
الشاعر تجاه الثالوث الكوكبي.
ففي هذه الصورة تتكشف بجلاء عبادة القمر الأب,فقد عدّه الشاعر أبًا, ومن المعرف
أن الجاهليين عبدوا الإله القمر باعتباره أبًا في الثالوث الكوكبي, وهي معتقدات
ظلت مفرزاتها تظهر في الشعر الجاهلي, كما ورود كلمة (مباركة),لخير دليل على
الإشارات القدسية في هذا البيت. (ص150 من الرسالة)
ولعل صورة القمر في هذين البيتين وما يحمله من بعد ديني، تعكس النظرة الأبوية
التي كانت مترسخة في ذهن الشاعر تجاه القمر، وتجسد رغبته الملحة في الرفع من
مكانة ممدوحه من خلال ربطه بهذا الإله المقدس.
ويبالغ زهير بن أبي سلمى في وصف ممدوحه هرم بن سنان، فوصل الأمر به إلى وضعه لو
لم يكن من البشر مكان البدر (الإله) لينير الأرض، في صورة تحمل بين طياتها
أبعادًا ومعانيَ دينية، أبرزت مدى إعجاب الشاعر بالممدوح، فيقول: (الكامل)
( َلوْ ُ كنَت مِنْ َ شيْءٍ سِوَى بَشَر ُ كنت المُنوِّرَ َليْلَة البَدْر (15)
يعمد زهير إلى تشبيه ممدوحه بالبدر المضيء، وفي هذه الصفة تركيز على إبراز جانب
الألوهية، " فلو ُقدِّر لممدوحه أن يكون شيئا غير بشريّ لكان الإله القمر"(
16), فأي رجل يتحدث عنه زهير ؟ إنه الأب المعبود القمر الذي يبدد الظلام مهما
اشتد .
ففي هذه الصورة الجمالية يؤكد الشاعر قدسية الممدوح، الذي استشف هذه القيمة من
خلال تصويره بالكوكب المقدس (القمر)، حيث يركز الشاعر على معاني الإشراق والنور
للقمر من خلال كلمة (المنور)، ويربطها بالممدوح .وهذا يوحي بأن الشاعر قد وضع
ممدوحه في صورة تختلف عن صورة البشر, فهو يرفع من قدره ليجعله منزّها من أن
يكون عاديا.
أما الأعشى فيشبه ممدوحه بالبدر، في صورة مليئة بالتقديس والإجلال والرفعة
والسمو، فيقول : (مجزء والكامل)
مُتحَلِّبِ الكَفيْن مِثْل البَدْر قَوَّال وَفاعِلْ (17)
فالشاعر في هذا البيت يقرن بين الممدوح والبدر في الكرم وتحقيق المطالب، في
صورة حبلى بالرموز الدينية والأسطورية، فالممدوح هنا يشبه البدر(الإله) في
القدرة على الوفاء بما يتعهد به. (ص151 من الرسالة)
وقد لجأ الشاعر في هذا البيت إلى المساواة بين الرجل وبين القمر، فالرجل هو
كالقمر نفسه، له نفس المكانة الدينية والقدسية، عطاؤه كعطاء الإله القمر .
كما أن الشاعر لم يلجأ إلى تقديم صورة جامدة، بل رسمها من خلال تقديم صورة حية،
تحمل بين طياتها صفات رجل مثالي حظي بالتقديس، وحمل وظيفة الإله الأب واهب
الخير والعطاء .
لعل هذا الربط بين هذا الإله والممدوح، يحمل أبعادا رمزية تزيد من الطاقات
الإيحائية للصورة، وتجسد الموقف المحاط بالقدسية الذي كان عليه الشاعر أثناء
وقوفه بين يدي الممدوح.
خسوف القمر علامة موت كبير القوم أو أميرهم
ومن الإشارات الدينية التي ارتبطت أيضا بصورة القمر في أشعار الجاهليين ، ظاهرة
الخسوف، تلك الظاهرة التي ارتبطت في أذهانهم بالموت والفقد، على نحو ما نرى في
قول عنترة حين وصف ما صاحب موت الملك زهير بن جذيمة: (الخفيف)
( ُ خسِف البَدْرُ حِينَ كَانَ َتمَامَا وَخَفى ُنورُهُ فَصَارَ َ ظلامَا (18)
وقول الشاعر أوس بن حجر يرثي صاحبه فضالة: (المتقارب)
أَلمْ ُتكْسَفِ الشَّمْسُ والبَدْرُ وَالكَوَاكِبُ للجَبَل الوَاجب
( لِفقْدِ َفضَاَلة لا َتسْتوي ال ُفُقودُ وَلا َ خلَّة الذَّاهِب (19)
فالشاعران في هذه الأبيات يقرنان بين موت المرثي وخسوف القمر، بما تحمله هذه
الصورة من أبعاد ودلالات دينية تحمل بين طياتها ذلك التناغم الواضح بين الموت
والخسوف.
كما أن الشاعرين أحاطا هذه الصورة بإطار أسطوري ديني، يصور ما كانا يتخيلانه،
وترسب في الأذهان من ارتباط بين خسوف القمر والموت .
فالقمر( الإله ) لا يمكن أن ينخسف إلا لرجل مقدس مثله، فكأن المرثي هنا الإله
القمر على الأرض، الذي يعم نوره وضياؤه الكون، وبموته يحل الظلام والخراب .
ولعل لمكانة المرثي في حياة الشاعر وشدة حاجتهم إليه، علاقة بهذا الربط النفسي
والديني بين الخسوف وموت المرثي، من حيث الفقد والشعور بالفراغ .(ص152 من
الرسالة)
الهلال رمز الخصوبة
وعبادة المرأة
ويزخر الشعر الجاهلي
بالصور ذات الأبعاد الدينية التي تربط بين القمر والمرأة، والتي
. ( ارتبطت بدورها " بنوع من العبادة الغامضة التي ترمز إلى تقديس الخصوبة
والنماء "(20)
من هنا ارتبطت صورة المرأة المثال عند الشعراء الجاهليين إلى جانب الشمس بالقمر
الذي أضفى عليها نوعًا من العبادة والتقديس، واقترنت بعض هذه الصور برموز
الخصب كالشجرة مثلا ، على نحو ما نرى في قول عنترة : (الكامل)
( مُنَعَّمَة الأَطْرَافِ َ خوْدٌ َ كأَنَّهَا هِلالٌ عَلى ُ غصْن مِنَ البَان
مائِدِ (21)
وقول ابن إسرائيل : (الطويل)
( َتخْتُال بَيْنَ البَدْر مِنْهَا وَالنَّقا غُصْنٌ يَمِيسُ ِبهِ النَّعِيمُ
مُهَفْهَف (22)
فقد برز القمر في هاتين الصورتين عنصرًا محاطًا بهالة من التقديس، أكسبته بعدًا
دينيًا خاصًا، وبخاصة في ارتباطه بأحد الرموز المقدسة، وهي الشجرة. والقمر من
المعبودات الجاهلية المعروفة التي شبهت به المرأة، والذي أكسبها هذه القداسة،
وأحلها هذا المقام المتميز .
فكيف يقدر" الوثني على تشبيه المرأة بما يعبد إن لم يكن للمرأة الموجودة في
شعره شيء من .( القداسة (23)
ولعل خير دليل على تقديس المرأة وربط صورتها بصورة القمر في العصر الجاهلي، قول
عبد الله بن العجلان النهدي، في زوجته : (المنسرح)
قدْ َ طالَ َ شوْقِي وَعَادَنِي َ طرَبي مِنْ ذِكْ ِ رخوْدٍ كَرِيمَةِ الحَسَب
( غَرَّاءُ مِثْلُ الهِلا ل صُورَتها أَوْ مِثْلُ تِمْثَال صُورَةِ الرَّهَب
(24)
تبدو صورة الشاعر صورة مميزة، تجمع فيها الكثير من العناصر الدينية التي ارتبطت
بالمرأة المثال. فيصف صورتها بالإشراق والبهاء الجمالي الوضاء من خلال تشبيهها
بصورة الهلال أو صورة التمثال المقدس، ليدلل من خلال هذه الصور الدينية على
قدسية المرأة . (ص153 من الرسالة)
وتركيز الشاعر على صور الإشراق الأنثوي المميز وربطه بهذه الرموز المقدسة اللون
الأبيض، الهلال، والتمثال يحمل بين طياته معانيَ ودلالات دينية راسخة في القدم،
"وقد ظهر بتجليi الجديد: القمر، والذي يتصل بعلاقة مباشرة مع عشتار (ملكة
السماء) التي حظيت بعدة ألقاب دللت على علاقتها بالقمر، كعابرة السماوات
والساطعة .والمنيرة (25)
كما يتضح لنا من خلال البيتين السابقين أن ابن العجلان يعمل على رسم تمثال
لمحبوبته بصورة مليئة بالجمال والقدسية، فهو يركز على كامل جسمها، ويربطه
مباشرة بالهلال الذي يشبه جسم المحبوبة، فيعمد إلى مقاربة جسمها بجسم الإله
القمر، هذا إلى جانب لجوئه إلى تشبيهها بنظائر مقدسة للهلال، كاللون الأبيض
المقدس المرتبط بالهلال. ولعل هذه الصورة ذات الأبعاد الدينية المتأصلة في ذهن
الشاعر تشي برغبته الملحة في إبراز صورة حية ذات صفات مثالية لامرأة حظيت
بالتقديس والإجلال، فلا يقوى الشاعر الجاهلي على تشبيه محبوبته بالقمر، .( "إن
لم يكن ذكرها في شعره على غير ما يبدو في ظاهرها ذات صفة قدسية عنده"(26) ويصف
النابغة الجعدي جمال محبوبته وشدة نورها وبياضها بالليلة القمراء، يما تحمله
الليلة القمراء من دلالات دينية، ترسخت في ذهن الشاعر، مستمدًا لها صفات الرفعة
والعلو والإشراق والبهاء التي تتصف بها الليلة القمراء، فيقول: (المنسرح)
( غَرَّاءُ َ كالَّليْلةِ المُبَارَكةِ الَقمْ رَاءِ َتهْدِي أَوَائِلَ
الظُّلمِ (27)
ففي هذه الصورة نجد الكثير من الرموز الدينية والأسطورية، المرتبطة بالقمر،
فالمحبوبة هنا في قوله (غراء)، ترتبط ببياض البدر، لها تأثير قوي على من حولها،
وهذا يدلل على الصفات التي تقربها من الآلهة، فاللون الأبيض المقدس، رمز
الطهارة والنقاء، بما تحمله عبارة (المباركة) من دلالات العبادة والتقديس، حيث
يرجع بعض الباحثين بياض المرأة إلى (ص154 من الرسالة)
بياض الزهرة والشمس والدمى، وجميعها مما عبده العرب، وقد حيكت حولها الأساطير(
28)، كما أن الليلة القمراء التي يكون فيها البدر بكامل نوره ارتبط جمال صورتها
بجمال صورة المحبوبة، وأحيطت بهالة من التقديس والتعظيم عند القدماء، فهم
يعتقدون " أن بركة القمر وخصائصه الإيجابية إنما تكمن في طوره المتزايد، طور
اكتمال النور، لذلك كانوا يشرعون في كل عمل يريدون له نجاحًا خلال هذه الفترة.
فإذا ابتدأ القمر بالتناقص كان ذلك نذيرًا لكل سوء
.( محتمل، فكانوا يقلعون عن كل عمل يريدون له فلاحًا (29)
ولعل استحضار الشاعر الليلة القمراء، يشي برغبته الملحة في تصوير محبوبته
بالمرأة المثال في تميزها، والتي تجسدت في القدسية الكبيرة التي كان تحظى بها
هذه الليلة .
ولا يقتصر استخدام القمر عند الشعراء الجاهليين للتدليل على مكانة المحبوبة، بل
صور بعض الشعراء الرجل القدير ذا المكانة العالية في قومه بالقمر ونظائره
المقدسة، في إشارة إلى منزلته الرفيعة المميزة، على نحو ما نرى في قول الخنساء
تصف أخاها باللون الأزهر، الذي هو لون الزهرة، واللون المقدس عند العرب، وربطته
بالقمر، فتقول: (البسيط)
قدْ كَانَ حِصْنًا َ شديدَ الرُّكْن مُمْتنِعًا لَيْثًا إِذا َنزَلَ الفِتْيانُ
أَوْ رَكِبُوا
أَغرُّ أَزْهَرُ مِثْلُ البَدْر صُورَتُهُ صَافٍ عَتيقٌ َفما في وَجْههِ نُدَبُ
(30)
لقد أرادت الشاعرة أن تمجد أخاها وتبين علو مكانته ورفعته
(تشبهه بالإله القمر) مستمدة هذه الصورة من صور البدر بما فيها من صفات
الرفعة والعلو والبهاء الذي يتصف به البدر، كما أنها لجأت إلى تشبيهه بنظائر
مقدسة للبدر، كاللون الأزهر، وذلك لما له من علاقة قوية وصلة دينية به، يقول
فراس السواح " ارتبط كوكب الزهرة عند العرب بالأم القمرية الكبرى، وكانوا
يعبدونه لدى .ظهوره ويسمونه العزى "(31) (ص155 من الرسالة)
ويتحدث الأعشى عن ممدوحه علقمة بن علاثة، واصفًا وضوح أعماله الحسنة بوضوح
القمر في وسط السماء ساطعًا منيرًا، والذي لا يستطيع أحد أن ينكره، فالسيد يرمز
إلى نور القمر الإله، فيقول: (المتقارب)
وَإِنْ َفحَصَ النَّاسُ عَنْ سَيِّدٍ َفسَيِّدُ ُ كمْ عَنْهُ َ لا يُفْحَصُ
( َفهَلْ ُتنْكرُ الشَّمْسُ فِي ضُوئِهَا أَوْ القَمَرُ البَاِهُر
المُبْرِصُ(32)
ويتضح في أبيات الأعشى، أن صورة الممدوح تنسجم مع صورة القمر الإله، فالرفعة
والعلو والبهاء صفات لا تليق إلا بإله .
**********************************
المراجع
.(1) البطل: الصورة في الشعر العربي, ص 183 )
(2) الأعشى: شرح الديوان, ص 85 . ( عمارا: العمائم ) (الكرى :
النعاس أو الجسم المستدير) العصر جاهلي عدد الأبيات 67 مصدر القصيدة الديوان
(95-103) بتحقيق محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة
(3) عبد الرحمن: التفسير الأسطوري
للشعر الجاهلي, ص 134 )
(4) الأعشى: شرح الديوان ص 195 . ( الغمرات: الشدائد. )
(5) البطل: الصورة في الشعر العربي, ص 189
(6) الشوري: الشعر الجاهلي تفسير
أسطوري, ص 69 )
(7) الأعشى: شرح الديوان، ص 26 )
(8) الخنساء: الديوان، شرح: ثعلب، أبو العباس أحمد بن يحيى بن سيار الشيباني،
تحقيق: أنور أبو سويلم، ط 1، عمان، )
(9) دار عمار، 1988 ، ص 3
(10) الأعشى: شرح الديوان, ص 26 )
(11) البطل: الصورة في الشعر العربي, ص 184
(12) بوعزة, محمد: الأسطورة والشعر,
مجلة العربي, عدد 411 , الكويت, 1993 )
(13) نصرت: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي, ص 110 )
(14) كعب بن زهير: الديوان, ص
(15) زهير: شرح الديوان, ص 82 )
(16) البطل: الصورة في الشعر العربي, ص 185 )
(17) الأعشى: شرح الديوان, ص 143
(18) عنترة: شرح الديوان, ص 166 )
(19) أوس بن حجر: الديوان, ص 10
(20) الشوري: الشعر الجاهلي تفسير
أسطوري, ص 70 )
(21) عنترة: شرح الديوان, ص 73 )
(22) مقداد: شعر يهود في الجاهلية وصدر الإسلام, ص 395 )
(23) نصرت: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي, ص 111
(24) لأصفهاني: الأغاني, ج 22 , ص 236
(25) يُنظر: السواح: لغز عشتار, ص 64
)
(26) نصرت: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي, ص 109 )
(27) النابغة الجعدي, شعره, ص 151
(28) يُنظر: الديك إحسان, الهامة والصدى, صدى الروح في الشعر الجاهلي ,مجلة النجاح للأبحاث \ العلوم الإنسانية,جامعة ) . 2001 \ ص 160 152,163 154 , النجاح الوطنية, ع 15 .86,
(29) يُنظر: السواح: لغز عشتار, ص 85
)
(30) الخنساء وليلى الأخيلية : ديوان الباكيتي ص91
(31) السواح: لغز عشتار, ص 99 )
(32) الأعشى: شرح الديوان, ص 48 )