القمر في الموروث الإنسانيّ القديم : السامريون وعبادة القمر

فيما يلى جزء من رسالة " القمر فى الشعر الجاهلى" - إعداد : فؤاد يوسف إسماعيل اشتية - إشراف د. إحسان الديك - جامعة النجاح الوطنية - كلية الدراسات العليا (قدمت هذه الإطروحة "الرسالة" إستكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الماجيستير فى اللغة العربية بكلية الدراسات العليا فى جامعة النجاح الوطنية ، نابلس ، فلسطين 2010م نوقشت هذه الرسالة بتاريخ 23/5/2010م وأجيزت وأعضاء لجنة المناقشة هم 1 - د. إحسان الديك / مشرفاً ورئيساً "توقيع" 2 - د. جمال غيطان / ممتحناً خارجياً "توقيع" 3 - أ . د. عادل أبو عمشة / ممتحناً داخلياً "توقيع"

***************************************************************************************************************************

المبحث الأول
القمر في الموروث الإنسانيّ القديم

وقد احتلّ القمر مركزًا أسمى من مركز شمش أو عشتار، إذ كانوا يعتقدون أن شمس هى زوجته ونجمة الزهرة عشتار ابنته (1) ولم يحتل هذه المكانة في ديانتهم من قبيل المصادفة؛ فقد اتصف بصفات عديدة أهلته لذلك، فعدّوه أعظم الكواكب وإيحاءاته أعظم الإيحاءات، ، وضوؤه خيرًا في الليل، حيث يقود
القوافل في الليالي الندية، كما أن وهجه لا يميت، وليس بلا رحمة كوهج الشمس، وذلك فضلا عن كثير من التنبؤات التي يؤديها للآلهة والبشر (2) وأدت هذه المكانة إلى اهتمامهم بعلم الفلك، ومتابعة أحوال الكواكب والنجوم، وبخاصة الشمس والقمر، وقد أدى بهم ذلك إلى النظر إليها كآلهة، فتوجهوا إليها بالعبادة والتقديس، لعله تعود عليهم بالخير والنفع، وتذهب عنهم شرها المرتقب.

السامريون وعبادة القمر
عبد السومريون "ننا" واعتبروه إلهًا للقمر، وأحد أعضاء الثالوث السومري المكون من .و"إنانا" إلهة الحب والخصب التي تقابلها عشتار عند البابليين "utu" " إله الشمس (3) (ص6 من الرسالة)
وكان الإله "ننا" اكبر أبناء الجو "Enlil " الذي أنجبه سفاحًا بعد اغتصابه الصبيةالمقدسة "Nenkal" إلهة القمر السورية.
(3)

واتخذ إله القمر عندهم شكلا مميزًا، فمثلوه في كتاباتهم جالسًا على عرش، ذا لحية تتدلى على صدره، حاملا بيده فأسًا؛ والصولجان رمز الملوكية، فضلا عن العمامة ذات أربعة أزواج .( من القرون التي يتعمم بها، والتي نقش عليها الهلال رمز القمر(4) ورمزوا للإله" نانا" إله القمر" بهلال في وسطه نجمة ذات اثني عشر شعاعًا، ستة من الأشعة على شكل مدبب، والستة الأخرى على شكل شريط شعاعي مكون من ثلاثة خطوط والعدد الرمزي للإله نانا هو " 30 " وهو يشير إلى أيام الشهر الذي كان يقاس بدورة القمر الشهرية، ويشير إلى فكرة جعله مصدرًا للتاريخ والزمن (5)وصار القمر مقياسًا للتقويم السومري، ولم تؤخذ الشمس في ذلك لثباتها الدائم، على الرغم من تفوقها عليه في الحجم، وهذا يعود إلى اعتماد الناس قديمًا على الشهر القمري في التقويم، فهم يقدمون الليل على النهار في توقيتهم، والقمر كما هو معروف يظهر بأطواره المختلفة، فيكون هلا ً لا ومن ثم قمرًا وأخيرًا في المحاق وهكذا، ............. وهي ظواهر طبيعية وظفها الإنسان منذ أقدم العصور، في تحديد التقويم الشهري ثم السنوي(6) وورد في أساطيرهم ما يؤكد بقاء التقويم القمري الأداة الوحيدة التي استخدموها في حساب الوقت وترقب حركة الفصول، فها هو الإله "مردوخ" بعد قتله الأم الكبرى في أسطورة التكوين البابلية يؤكد سيطرته على القمر ويأمره أن يبقى مقياسا للوقت : "ُثمّ أخْرَجَ الَقمَرَ، َفسَطعَ ِبنورهِ، وأوْكَلهُ بالّليل وَجَعَلهُ حِلْيَ ً ة وزيَنة وليُعَيِّنْ الأيَّام أنْ اطْلعْ ُ كلّ َ شهْر دونَ انْقِطاع مُزَيَّنًا ِبتاج وفي أوَل الشَّهْر عندما ُتشْرق عَلى ُ كلِّ الِبقاع سَتظْهَر بَقرْنين ِبعَيْنيْن، سِتَّة أيَّام وفي اليَوم السّاِبع يَكْتمِلُ نِصْف تاجك وفي المُنْتصَفِ مِنْ ُ كلِّ َ شهْر سَتغْدو بَدْرًا في َ كِبد السَّماء" (7)
وقد كانوا حريصين على تمثيل شهور السنة القمرية بأبراج السماء الإثني عشر وأسموها . منازل القمر(8) وقد ورد في قصيدة التكوين البابلية في اللوحة الخامسة ما يدلل على ذلك، حيث قام الإله مردوك كبير الآلهة البابلية بإعطاء الإله" نانا" دورًا عظيما في السماء من خلال توكيله بالزمن:
ثمَّ جَعَلَ نانا الَقمَرَ يَظْهَرُ
وَعَهدَ إليه بالّليْل
اّلذي عيَّن َلهُ الجَوْهَرَة الّليليّة
لَتحْديدِ الأيّام
في ُ كلِّ َ شهْر قال له وبدون انقِطاع
فلْيَمْ ِ ض ُقرْصُكَ في مسيرَتِه
في الأوَل مِنْ الشهْر
أضِئْ بَنفْسِكَ َفوْق الأرْض
ثمّ حافِظْ على َقرْنيْكَ اّللامعين
للإشارة إلى الأيّام السِّتَّة الأولى
وفي اليوم السّابع يَجبُ أنْ يَكونَ ُقرْصُكَ في نِصْفِهِ
وفي اليوم الخامِس عشِر، وفي ُ كلّ مُنْتصَفِ َ شهْر
(ص7 من الرسالة)
ضَعْ نفسَك في اقتِران مَعَ شيمِش"(9)
وهذان النصان يحملان بين طياتهما من الدلالات والمعاني، ما يشي بالقدرة الهائلة التي امتاز بها، ويعكسان الصورة المثالية التي كانوا يرونها له، والتي كانت من الدوافع الأساسية لتقديسه والنظر إليه كإله .
ومن المظاهر الأخرى التي تؤكد سيطرته المطلقة على الزمن، النظر إليه كخالق وسيد للزمن، ورب للفصول التي هي نتاج لدورته الشهرية (10) واتخذوا له معابد خاصة، منها: معبد أور المسمى "اكيشنوكال"، ومعبد "الهلهول" لابنه الإله "نوسكو" إله الضوء والنار(11) وكانت تقام فيها الأعياد والاحتفالات الخاصة، التي اقترنت به، وبخاصة في الأيام المقدسة، كاليوم الأول من الشهر القمري، وقت ولادة القمر الجديد، ويوم اكتماله في شهر شباط، ويوم اختفائه في تموز(12) وحذا البابليون حذو السومريين في عبادتهم للقمر، فسموه "سين"، وخصصوا له معبدًا كبيرًا في مدينة حرّان، في حكم الملك البابلي"نبونئيد" الذي شغلت أمه "أدد كوني" منصب الكاهنة العظمى لهذا المعبد الذي عرف باسم "أي خلخل" وقد عثر في هذه المدينة على مسلتين حجريتين أقامهما الملك لذكراها كتب على كل منهما نصّ بابلي متشابه المضمون ويسجل منجزات الكاهنة ويؤكد على إيمانها وإخلاصها لعبادة إله القمر (13) كما كرس هذا الملك ابنته كاهنة عظمى للخدمة في معبد إله القمر في أور، واكتشف مخروط بالقرب منها حمل كتاب التكريس، وفيه :
سَألْت للمَرَةِ الّثالِثةِ والنِّيابَة عَن ابَنتي وبَعدَ أنْ أَتمَتْ ُ طقوسَ العَراَفةِ وأعْطتْني جَوابًا مُرْضِيًا
(ص8 من الرسالة) مَجَدْت َ كلِمَة الإلهِ سين السّيِّدَ الجَليلَ الإله خالقي وأوامرَ الإلهِ شمش وادِدْ وآله َ ة العرّافين كرَّسْت ابْنتي لِتكونَ آلِهَة عُظْمى وإني سميتها"بل سنتي ننا" "(14)
كما قام الملك بإعادة إعمار هذا المعبد، مما يدلل على الاهتمام العظيم به (14) وكرس الملك سرجون مؤسس السلالة الأكادية ابنته " انخيدوانا " لهذا الإله في المعبد نفسه (15) وأضفى الاهتمام الملكي بهذه المعابد على القمر بعدًا دينيًا خاصًا، وأكسبه مكانة وشعبية ميزتاه عن سائر آلهتهم .

 

************************

المراجع
(1) يُنظر: لابارت، رينيه، وآخرون: سلسلة الأساطير السورية، ترجمة مفيد عرنوق، ط 2، دمشق، دار علاء الدين، . 2006 ، ص 329
(2) يُنظر: المرجع السابق، ص 329 يُنظر: علي، فاضل عبد الواحد: عشتار ومأساة تموز، ط 1، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر، 1999 ، ص 22

(3) صالح، عبد العزيز: الشرق الأدنى القديم، ج 2, مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، مصر، 2004 ، ص 617

(4) يُنظر لابارت، رينيه، وآخرون: سلسلة الأساطير السورية، ص 329

(5) مجموعة من كبار الباحثين: موسوعة عالم الأديان، بإشراف ط . ب مفرج, ج 2، بيروت, دار ص 120 ،nobilis 3

(6) يُنظر: علي، فاضل عبد الواحد: الشمس والقمر والزهرة في ضوء النصوص السومرية والبابلية، مجلة الأقلام، بغداد, العدد . 63 \ 2000

(7) السواح: لغز عشتارالألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، ص 93

(8) يُنظر: المرجع السابق، ص 93

(9) الشواف، قاسم: ديوان الأساطير، سومر وأكاد وآشور، الآلهة والبشر، ط 1، بيروت، دار الساقي، 1997 ، ص 171

(10) يُنظر: السواح، لغز عشتارالألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، ص 82

(11) يُنظر: الماجدي، خزعل: الدين السومري، ط 1، عمان، دار الشروق، 1998 ، ص 77

(12) يُنظر: مجموعة من كبار الباحثين, موسوعة عالم الأديان، ص 133

(13) يُنظر: علي، فاضل عبد الواحد: الشمس والقمر والزهرة في ضوء النصوص السومرية والبابلية، مجلة الأقلام، 265 \ 2000

(14) علي، فاضل عبد الواحد: الشمس والقمر والزهرة في ضوء النصوص السومرية والبابلية، مجلة الأقلام، 2 66 \ 2000

(15) يُنظر: علي، فاضل عبد الواحد: من سومر إلى التوراة، ط 2، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1996 ، ص 151 , 66 \ 2000

الصفحة الرئيسية