شخصية المسيح
عيسى ابن مريم هو أيضا روح الله
ان القران يصف
عيسى ابن مريم انه ( روح منه ) النساء 170 ) أي ذو روح صدر منه . البيضاوي .
ولغة الروح
متشابهة في القران . فهو يطلق كلمة ( روح ) على الإنسان وعلى الملاك ، وعلى (
الروح) الذي فوق الملاك، وذلك على طريق المشاكلة ، لا على طريق المقابلة .
معنى أول روح
الإنسان : ( ونفخت فيه من روحي ) حجر 29 ص 72 ، ( ونفخ فيه من روحه ) السجدة 9) .
معنى ثان : (
َابَنِيَّ
اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الكَافِرُونَ . يوسف 87 . روح الله
هنا رحمته (الجلالان) . قال البيضاوي : (من روح الله)بالفتح أي من فرجه وتنفيسه .
وقرِئ : (من روح الله) بالضم أي رحمته التي يحيي بها العباد. نقول : يريد ملاك
الله الذي يهدي عباد الله .
( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ
مِنْهُ ) . المجادلة 22 . أي بنور
منه ( الجلالان) ، بروح منه أي من عند الله ، وهو نور القلب، او القران ، او النصر
على العدو ، وقيل نور الايمان فانه سبب حياة القلب . البيضاوي .
فالله يؤيد المؤمنين بروح منه ، قد يكون نورا ، وقد يكون ملاكا ، وهذا
هو الاصح .
معنى ثالث : الروح والقران
( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) . النحل 102 .
( نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ ). الشعراء 193 .
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا ) . الشورى 52 .
هنا الروح ، والروح الآمين وروح القدس
هو جبريل منزل القران . ،
وقريب منه قوله : (يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلَاقِي . غافر 15 ، فهو روح النبوة والوحي .
معنى رابع : الروح والملائكة
(يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ ) في يوم الدين .
النباء 38 .
( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ
أَمْرٍ) . القدر 4
( تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ). المعارج 4 .
يُنَزِّلُ
الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ
أَنذِرُوا) . النحل 2 .
هنا يجعل الروح في
صلة مع الملائكة بمناسبة يوم الدين . ونلاحظ انه بمناسبة الوحي والتنزيل (تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . القدر 4
تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ . المعارج 4 .
يُنَزِّلُ
الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ
أَنذِرُوا) . النحل 2 .
هنا
يجعل الروح في صلة مع الملائكة بمناسبة يوم الدين . ونلاحظ انه بمناسبة الوحي
والتنزيل
(ينزل الملائكة
بالروح) كأنهم سيدهم بأمر الله .
فما معنى (الروح)
في هذه الآيات التي تجمعه مع الملائكة ؟.
(الروح) معرف ،
ومميز عن الملائكة : فليس هو واحد منهم ، وإن جمع إليهم بالمعراج والتنزيل وتوزيع
الأقدار . وقوله : (ينزل الملائكة بالروح ) يدل على انه سيدهم ، والواسطة بين الله
والملائكة . فما هي هويته ؟ لا يقول القران شيئا .
معنى
خامس :
( روح القدس ) – (روح الله) ، عيسى – (من روحنا) .
هنا ثلاثة تعابير
متقاربة في صلة مع المسيح :
1) (
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) . البقرة 87 .
( وَأَيَّدْنَاهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) . البقرة 253
(إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) . المائدة 110 .
2) (فَنَفَخْنَا
فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) . الأنبياء 91 .
ما معنى قوله ( أيدناه بروح القدس ) ؟ فسره البيضاوي مستجمعا
أقوالهم : ( بروح القدس : بالروح المقدسة . أراد به جبريل ؛ او روح عيسى عليهما السلام ، ووصفها به
لطهارته من مس الشيطان ، او لكرامته على الله تعالى ؛ وذلك أضافها إلى نفسه تعالى
؛ أو لانه لم تضمه الأصلاب ولا الأرحام الطوامث ؛ أو الإنجيل ، أو الاسم الأعظم
الذي كان يحيي به الموتى .
اما قولهم ( روح القدس ، جبريل ) فهو على المشاكلة مع جبريل ،
روح القدس الذي انزل القران على محمد . وهنا ليس المقصود التنزيل المخصوص في لغة
القران بجبريل ؛ بل التأييد الدائم للمسيح . فهو ليس جبريل هنا وليس الإنجيل .
وروح القدس المؤيد للمسيح على الدوام نوعين : إما ( روح عيسى
عليهما السلام ): فروح القدس مقيم في عيسى ، فهو تعبير آخر قريب من قوله : ( كلمته
ألقاها إلى مريم ، وروح منه )؛
ففي عيسى روح من الله هو روح القدس ، وهذا يجعل المسيح في صلة
خاصة ذاتية مع الله نفسه
وإما الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ) ، وهنا روح القدس
غير روح الله في المسيح ، بل هو روح من الله ، في الله ، يتمتع مع الله بالاسم
الأعظم .
فسواء كان روح القدس روح الله في المسيح ، أو الروح ، الاسم
الأعظم ، فهو روح تميزه نسبته الى الله –والقدس هو الله – عن سائر الأرواح المخلوقة .
فروح الله في المسيح ، وروح القدس في الله يصدران من الله
بالصدر لا بالخلق ، كما يؤيده الترادف
بين كلمة الله وروح من الله في آية النساء 171 .
وما تسمية جبريل بروح القدس (النحل 102) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
) او ( رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). مريم 17 ، إلا على سبيل
المشاكلة .
وما معنى قوله : ( ونفخنا فيها ( فيه) من روحنا) ؟
فسره البيضاوي : نفخنا فيها : بعيسى أي أحييناه في جوفها ؛ وقيل : فعلنا
النفخ فيها ؛
(من روحنا) : من الروح الذي هو بأمرنا وحده ، او من جهة روحنا جبريل.
فقوله اذن (من روحنا) قد يكون على الفاعل، فيكون الروح النافخ هو جبريل ؛
وقد يكون على المفعول ، فيكون الروح المنفوخ في مريم .
والروح ( المنفوخ ) أو (الملقي) إلى مريم هو روح الله في عيسى.
أخيرا ما معنى قوله : (كلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ؟
فسره البيضاوي : ( روح منه ) ذو روح صدر منه تعالى ، لا بتوسط ما يجري مجرى
الأصل والمادة له . وقيل : سمي روحا لأنه كان يحيي الأموات والقلوب .
فروح الله الذي القي إلى مريم في عيسى هو روح در منه تعالى مباشرة ، ودليل
مصدره الإلهي الذاتي انه قادر مثل على أحياء الأموات والقلوب .
وفسره الرازي مستجمعا كل التفاسير : ( أما قوله: ( روح منه )ففيه وجوه : 1)
انه جرت عادة الناس انهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا : انه
روح ! فلما كان عيسى لم يتكون من
نطفة الأب ، وإنما تكون من نفخة جبريل (؟) عليه السلام ، لا جرم وصف بأنه روح .
والمراد من قولهم (منه) التشريف والتفضيل .
2) انه كان سببا لحياة الخلق في أديانهم . ومن كان كذلك وصف بأنه روح .
3) روح منه : أي رحمة منه . فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث
انه كان يرشدهم الى مصالحهم في دينهم ودنياهم، لا جرم سمي ( روحا منه ) .
4) ان الروح هو النفح في كلام العرب ، فان الروح والريح متقاربان : فالروح
عبارة عن نفخة جبريل ؛ وقوله ( منه ) يعني ان ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله
وإذنه فهو ( منه ) ؛ وهذا كقوله (ونفخنا فيها من روحنا ) .
5) قوله : (روح) : ادخل التنكير ليفيد التعظيم ، فكان المعنى ؛ روحا من
الأرواح الشريفة العلوية القدسية ؛ وقوله (منه) إضافة لذلك الروح إلى نفسه تعالى
لاجل التشريف والتعظيم .
وعليه نقول : ان هذه الأقوال
الثلاثة ، الأول ، روح الطهارة ؛ الثالث ، معنى الرحمة ؛
الرابع ، نفخة جبريل ؛ كلها بعيدة عن نص القران ، لان روح الله الذي حل في
عيسى
اسمه كلمة الله ، فليس نفخة ، ولا رحمة ، ولا طهارة ؛ انه ذات روحية صادرة من الله
.
بقي المعنيان الآخران : انه روح من الأرواح العلوية الشريفة القدسية)، (سبب
لحياة الخلق) .
هذا هو المسيح في القران . فالمسيح ليس فقط بشرا ، بل فيه أيضا روح سماوية
قدسية اسمها كلمة الله. وهذا
التعريف يجعل المسيح اعظم من بشر ، فهو روح الله حل في المسيح .
ومن يعتبر روح الله الذي حل في عيسى أحد الملائكة المقربين فانه يجعل
المسيح بشرا وملاكا روحانيا نورانيا معا . ومن يقول بتجسد ملاك من الله في عيسى ،
أليس الأولى به أن يقول بتجسد كلمة الله الذي أيلقاه إلى مريم في عيسى ؟ تلك هي
الازدواجية في شخصية المسيح بحسب القران .
وهكذا يلتقي القران والإنجيل : ( والكلمة صار بشرا وسكن في ما بيننا )
بمريم الإنجيل الشريف بحسب حرف
البشير يوحنا 1 : 4 . وتعبير الإنجيل هو تعبير القران ( وكلمته ألقاها إلى مريم .
والقران إذ يجمع ( كلمة الله ) و (روح الله) في شخص المسيح ، فانه يفسر
اللقبين أحدهما بالآخر ؛ ويجمع في شخصية المسيح ، فوق شريته الكاملة من مريم (روحا
صادرا من الله ) ذاته ، اسمه كلمة الله . فمسيح الله هو كلمة الله وروح منه .
3) عيسى ابن مريم هو أيضا مسيح الله
المسيح ، لقب ، صار اسما ، كما بشرت به الملائكة : ( إذ قالت الملائكة : يا
مريم ان الله يبشرك، بكلمة منه ، اسمه المسيح ) آل عمران 45. والقران يعرف بعيسى
ابن مريم انه المسيح.
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) النساء 171 .
والقران بتصديقه لعيسى ابن مريم انه المسيح يشهد كما يشهد الإنجيل بان عيسى
ابن مريم هو النبي الموعود في الكتاب ، المسيح المعهود والمشهود.
فالتوراة تسميه ( النبي الآتاتي ) مثل موسى .
والزبور يدعوه : ( الرب والملك والكاهن . وداود في الزبور
أول من يسميه المسيح .
والأنبياء يصفه كل واحد منهم
بصفة . فالمسيح عند اشعياء ، هو
L عمانوئيل ) أي بحسب حرفه العبري : ( الله معنا) .
ودنيال يرى في المسيح : ( ابن البشر-ابن الإنسان- آتيا على سحاب السماء ) ملك يوم
الدين .
والإنجيل بتسمية يسوع ( المسيح) شهد بأنه يحمل آمال الأنبياء .
والقران ، إذ يصدق لعيسى ابن مريم ، اسم ( المسيح) يشهد لما ورد عنخ في
الكتاب والإنجيل .
يقول القران : ( اسمه المسيح ) : فما معناه ؟
قال البيضاوي ( ال عمران 45) : المسيح لقبه . وهو من الألقاب المشرفة .
واصله بالعبرية (مشيحا) ومعناه المبارك . سمي كذلك: لأنه مسح بالبركة .
أو مسح بما طهره من الذنوب .
أو مسح الأرض ولم
يقم في موضع .
أو مسحه جبريل
صونا له من مس الشيطان .
فمسحة الله التي
جعلته المسيح كانت مسحة البركة ، ومسحة العصمة من مس الشيطان عند مولده، ومن
الذنوب ي حياته . بمثل هذه المسحة الإلهية كان (يمسح الأرض ولم يقم في موض).
فاسم مسيح الله
يجعله أسمى من البشر وأعلى من المخلوق .
وقال الرازي مستجمعا تفاسيرهم : ( المسيح
هو اسم مشتق او موضوع ؟ - اصله بالعبرية (مشيحا ) فعربته العرب وغيروا لفظه . وعلى
هذا القول لا يكون له اشتقاق ؛ والاكثرون انه مشتق موضوع .
( قال ابن عباس :
انه سمي مسيحا لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا بريء من مرضه .
قال احمد بن يحيي
: لأنه كان يمسح الأرض ، أي يقطعها في المدة القليلة .- وقال غيره لأنه كان يمسح
راس اليتامى لله.
لأه مسح من
الأوزار والآثم .
كان ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ، ولا
يمسح به غيرهم .
لأنه
مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون له ذلك صونا من مس الشيطان .
لأنه خرج من بطن
أمه ممسوحا بالدهن ).
فقد سمي (المسيح)
بسبب مسحة العصمة من الخطيئة في مولده ، وفي حياته من الأوزار والآثام : عصمة مبدئية
وفعلية ؛ وبسبب مسحة النبوة ؛ وبسبب مسحة التبريك والتقديس للناس ؛ وبسبب مسحة المعجزة؛ وبسبب مسحة أسمى من
المخلوق تجعله يمسح الارض في مدة قليلة.
تلك هي مسحة
المسيح التي تميزه على العالمين وعلى المرسلين جميعا.
فعيسى ابن مريم هو
اذن مسح الله .
إذا استجمعنا
تفاصيل القران في تلك الأسماء الحسنى للمسيح ،مع تفاسير العلماء المسلمين لمعانيها
، تجلت لنا شخصية المسيح في سرها الذي يسمو على بشريته كعيسى ابن مريم .
فالمسيح ، بحسب
الظاهر القرآني، بشر ، هو عيسى ابن
مريم .
والمسيح بحسب باطن
القران ، كما يبدو من أسمائه الحسنى ، اكثر من بشر : هو روح الله ز
تلكما هما
الناحيتان المتعارضتان في شخصية
المسيح بحسب القران . والنتيجة الحاسمة المحتومة ، لهذا الواقع القرآني ، هي
الازدواجية في شخصية المسيح .
ثالثا : تلك
الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح دليل سرها
الواقع القرآني ،
الذي لا مناص منه ، ان في شخصية المسيح ازدواجية:
فبحسب ظاهر القران
إن المسيح ، عيسى ابن مريم ، هو بشر ، أي عبد لا رب .
ومع ذلك فهو أيضا
، بنص القران القاطع ، وبالإجماع : ( روح الله ). و(روح الله ) يعنى في أدنى
معانيه انه ملاك : فهل يكون المسيح بشرا وملاكا معا ؟ أي ملاكا متأنسا ؟ هذا حرف
القران .
على كل حال
فالمسيح بشر ، وأسمى من البشر معا . وهذا برهان قاطع على الازدواجية القرآنية في
شخصية المسيح.
إنما المسيح ، روح
الله ، أسمى من ملاك مخلوق : 1)
فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) مريم 17، يعني روح الله الذي
بشر مريم بالمسيح، أي جبريل . وقوله (روحنا) إضافة لتشريفه ، لا للمصدرية . ولاحظ
الفرق في لتعبير بين (روحنا) للملاك ، وبين (روح منه) .
2) ( فنفخنا فيها
من روحنا ) الأنبياء 91 ، ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) التحريم 12 .
قد يكون التعبير
على معنى الفاعل ، فيعني قوله : ( من روحنا ) الملاك النافخ ،
وهذا المعنى ينقضه
قوله : ( …إذا قضى أمر فإنما يقول له كن ! فيكون)آل عمران 47 ؛
وقد يكون على معنى المفعول ، فيعني قوله : (من روحنا) الروح المنفوخة في عيسى ،
مثل الروح البشرية المنفوخة في آدم : ( ونفخت فيه من روحي) الحجر 29 ص 72 ، (ونفخ فيه من روحه) السجدة 9. لاحظ الفرق العظيم، بالنسبة للمسيح، بين
التعبيرين: ( من روحنا ) و (وروح منه). ففي المسيح ، عيسى ابن مريم ، روح (من
روحنا) ذاته ، ورح إلهية بصفته( كلمة الله وروح منه ) تعبيران يفسر بعضهما بعضا.
3) بقى التعبير
الثالث ( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء 171 في تحديد شخصية المسيح . وهو تعبير فريد ، خاص بالمسيح وحده ،
لا مثيل له في القران كله. وقوله ( روح منه) يدل على المصدرية ، كما فسره البيضاوي
: أي (صدر منه) . وهذا الصدور يفسره الاسم الثاني المرادف له : (كلمته) . ان
المسيح (روح من الله) يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة. وهذا القيد والتخصيص
يميز المسيح ، (روحا منه) تعالى بالصدور ، عن كل روح من الله بالخلق والإبداع .
ولا يرد عليه
بقوله : ( إن مثل عيسى عند الله ، كمثل آدم : خلقه من تراب ثم قال له : كن !فيكون
) آل عمران 59 ، لان التمثيل يقع على طريقة التكوين من التراب أو من مريم ، لا على
الذات نفسها الملقاة من الله في عيسى ابن مريم . لاحظ أيضا انه هنا يذكر (عيسى )
ابن مريم في صلته بمريم وولادته المعجزة منها ، لا المسيح (كلمته الملقاة إلى مريم
وروح منه)، أي المسيح في صلته المصدرية بالله.
ويؤيد معنى
المصدرية في ( روح منه ) تأييد المسيح بروح القدس ، في قوله : (الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة 87 ، (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ) البقرة 253 ، (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) المائدة 110.
ولهذا التعبير
(وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) معنيان في تفسيرهم : قد يعني روح المسيح
القدوسة في تكوينه عند إلقائه إلى مريم ؛ وقد يعني ( روح القدس ) المتميز عنه
شخصيا ، والمؤيد له ، (يسير معه حيث سار) ، (لا يفارقه ساعة) ، وهو الاسم الأعظم
الذي كان به المسيح يحيي الموتى ويخلق طيرا؛ والأحياء والخلق من صفات الله وأفعاله
؛ فهو (الروح ) المطلق (الإسراء 85) لا جبريل .
وروح القدس الذي
يؤيد المسيح ، في كلا المعنيين ، أسمى من المخلوق – ولا عبرة بتسمية جبريل (روح القدس) على طريقة المشاكلة، في التعبير، لا على طريقة المقابلة لان (
روح القدس) جبريل له صلة بمحمد في التنزيل ، لا في (التأييد) المخصوص للمسيح ، في
ذاته وسيرته .
فإذا اعتبرنا
(أيدناه بروح القدس ) انها روح المسيح (الشريفة العالية القدسية) (الرازي –النساء 171) التي
يؤيد المسيح في ذاته وشخصيته ، كان المسيح روح الله القدس ، فهو أسمى من المخلوق.
وإذا اعتبرنا
(أيدناه بروح القدس) انها روح القدس
، الذات القائمة بنفسها ، والتي تؤيد المسيح في سيرته ورسالته ، كان المسيح أيضا
أسمى من المخلوق .
وفي كلا الحالين
تأييد المسيح بروح القدس يرفعه فوق المخلوق . قال الإمام ابن حنبل وهو من أئمة السنة الأربعة : من قال ان
روح القدس مخلوق بدعة أي ضلالة .
ففي قوله : (كلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه ) يمتاز التعبير عن سائر التعابير القرآنية، ويحدد ذات
المسيح انها )وروح منه) تعالى أي صادر منه، لا على طريقة الخلق ، لا بل على طريقة
الصدور ، كما يدل عليه ترادف الاسمين : (كلمته وروح منه) . فهو روح منه تعالى ،
يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة، في حديثها النفسي ؛ واذ لا حدوث في الله ،
فكلمته في ذاته غير محدثة ؛و(روح منه) غير محدث .
فكلمة الله هو روح
من الله – لا
مجرد أمر تكوين، بكلمة ( كن) .
و (روح منه) تعالى
هو ( كلمة الله ) أي كلام الله في ذاته ، بما انه روح منه .
ترادف الاسمين
يفسر بعضهما بعضا : كلمة الله هو ( روح منه ) ؛ وهذا (الروح منه) هو كلمة الله .
فالمسيح هو (روح
الله) في ذاته ، من ذات الله : فليس هو روح بشر فقط ؛ وليس ( روح الله) روح ملاك
قثط . انه ( روح منه) تعالى أسمى من المخلوق ، لانه كلمة الله أي كلام الله الذاتي
النفسي. قال الرازي : ( واعلم ان كلمة الله هي كلامه ، وكلامه، على قول أهل السنة
صفة قديمة قائمة بذات الله) .
فالمسيح في ذاته
السامية من ذات الله : ( كلمته وروح منه) .
ان المسيح في ذاته
السامية (روح منه) تعالى ، يصدر منه صدورا ، كما تصدر( الكلمة ) من الذات الناطقة في حديثها النفسي .
وبما ان الذات الناطقة في (كلمة الله) هي الله نفسه ؛ فالمسيح ، كلمة الله ، هو
نطق الله في ذاته ؛ (فكلمته) تعالى الذاتية : من ذاته ، مثل ذاته ، في ذاته.
فالمسيح بحسب باطن
القرآن ، وأسمائه الحسنى في القران ، هو أيضا رب .
فالمسيح في القران عبد ورب معا ؛ أو بشر
وملاك معا .
هذه الازدواجية
القرآنية في شخصية المسيح قائمة لا تنقض .
فالمسيح بصفته
عيسى لبن مريم بشر مخلوق ؛ لكن المسيح بصفته ( كلمة الله وروح منه ) فهو فوق
المخلوق ، من ذات الله، في ذات الله ، يصدر فيه روحا منه، صدور كلمته في ذاته .
وهذا اصح من كونه بشرا وملاكا معا.
هذه هي شخصية
المسيح في ازدواجيتها القرآنية . وفي هذه الازدواجية سر شخصية المسيح التي تحير
العقول في القرن .
ونلمس حيرة القران
نفسه في قوله : ( ويسألونك عن الروح ؟ - قل : الروح من أمر ربي ! وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الإسراء 85. فسره البيضاوي : الروح من أمر ربي : معناه
من وحيه … وقيل
مما استأثر الله يعلمه .
وقوله ( ما أوتيتم
من العلم إلا قليلا ) دليل على ان العلم
( بالروح) في
القران قليل . قا أحدهم : ( مضى محمد ولم يدري ما الروح )! لذلك ليس من الغريب
التشابه والازدواجية في شخصية المسيح بحسب القرن ، سواء كان ( روح الله ) في عيسى
ملاكا ، او كلمة الله الذاتية.