شخصية المسيح
عيسى ابن مريم آية في
مولده
تبسط القران
في خبر مولد المسيح في سورتي :
مريم( 15-33) وال عمران (33-46) ؛ واو جزه في الأنبياء (91) والمؤمنين (51) والتحريم (12) والنساء (156) .
ان قصة مولد
المسيح في القران لمقطع من البلاغة الرائعة ، فقد تكون شعرا لا يجارى بلغ اوج الوحي والسمو في سورة مريم ؛ وقد وفاه
القران وصفا بجعله من بتول لم يمسسها بشر ، تحمل وتلد بقوة من الله وتلبث عذراء .
والمعجزة الإلهية
تكتنف أطوار الولادة كلها . قال الجلالان : وكان الحمل والتصوير والولادة في ساعة
.
وما اعظم مشهد
البشارة بالمسيح ! الله يرسل ملاكه (مريم) بل ملائكته (ال عمران) من السماء
ليبشروا امه مريم (بالغلام الزكي) الطاهر ، النامي على الخير والصلاح والخالي من
العيوب والذنوب انه طاهر منذ الحبل به ، فلا يحتاج الى تطهير بعد مولده . كلمها
الملاك شفاها إكرام لها (البيضاوي) ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها (الرازي) .
فتمثل لها بشرا
سوياً تام الَخلْق والخُلْق . قالت
من غاية عفافها لما وقف أمامها: اني أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا ...) ؟ لم يدعها
الملاك في ريبة من شخصه ، ولم يتركها تستكمل تعويذها؟ ( قال : إنما انا رسول ربك
لأب لك غلاما زكيا) فاستغربت هذه البشرى وهي العذراء البتول التي لم يمسسها رجل قط : قالت انى يكون
لي غلاما ولم يمسسني بشر ولم اكُ
بغيا ) ؟ ليس لبشر او مخلوق يد في ذلك ، إنما الأمر كله لله ( الله يخلق ما
يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون (ال عمران 47) فأجابها الملاك : هو كذلك كما تقولين . قال ربك : هو علي هين
ان يكون لك غلام بدون مسيس بشر.
ولنجعله اية للناس ورحمة منا ! وكان امر مقضيا .
اتخذ بعض الجهال
من قول الملاك (لأهب لك) ذريعة للقول بان الملاك قام مقام الرجل في الحبل بالمسيح
! والقران يعتبر مجرد التفكير بذلك كفرا شنيعا .
وقوله (لأهب لك)
حكاية قول الله لا لسان حال الملاك، يؤيد ذلك قراءة (ليهب لك) البيضاوي . ورواية
ال عمران تقضي على كل شك في هذا الشأن : الحمل كان بمعجزة مباشرة من الله 47 (اذا
قضى امر فإنما يقول له كن فيكون)!.
قال
كثير من المفسرين : لم يقم جبريل مقام الرجل ، بل كان الواسطة المعجزة للحمل
البتولي كما جاء في سورة الأنبياء : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
وجعلناها وابنها اية للعالمين ) 91 نفخ جبريل في جيب درعها فحملت بعيسى (الجلالان)
.
قد يكون هذا
التفسير محتملا إذا اقتصرنا على السور المكية ؛ اما سورة ال عمران ، والنساء فلا تدع
مجالا لمثل هذا التأويل فعيسى رو
الله وكلمته القاها الى مريم (نساء 170) ، وهو روح من الله القي اليها ( الزمخشري
) .
وعندنا ان بين
السور المكية (مريم ، الأنبياء) والسور المدنية (ال عمران والنساء) تطورا : فبينما
يظهر الملاك في الأولي وكأنه الواسطة المعجزة للحمل البتولي ، يظهر الحمل في
المدنية معجزة الهية مباشرة يقتصر دور الملاك فيها على البلاغ : ألقى الله روحه
الى مريم ، قائلا يا عيسى كن ! فكان
(النساء 170 وال عمران 47) .
وهكذا يظهر معنى
وله : (ونفخنا فيها من روحنا ) (أنبياء 91 ، تحريم 12) انه محمول على المفعول ،
فالمنفوخ هو المسيح روح الله . قال أحدهم (نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف
مريم ، منزلة نفخ الروح في مريم فعبر بما يفهم ظاهر هذا . وفاتهم جميعا ان الملاك
روح لا جسد له ، ولو تمثل لها بشرا سوياً ، إنما ذلك تمثيل لا تحقيق ، فالملائكة
كما يقول الإنجيل ( لا يزوجون ولا يتزوجون) .
فالمسيح آية
البشرية وآية الدهور بسبب ولادته البتولية . وهذا شرف لن يناله إبراهيم حجر
الزاوية في الدين الحنيف، ولم يحظ به موسى كليم الله ، ولم يُنسب مطلقا إلى محمد (خاتم النبيين)! . فالنبي العربي ولد كسائر الناس ، ولم
يطهر الا بعد ان شرح له الله صدره ووضع عنه وزره (الشرح 1) وموسى وإبراهيم لم
يتقربا من الله الا في كهولتهما.
ومعجزة المسيح لم
تكن في الولادة البتولية بل أيضا في الولادة الطاهرة من مس الشيطان ، ومن كل آذى
للخطيئة : الملاك يبشر امه (بغلام زكي) طاهر ، ينمو على الصلاح من يوم الى يوم .
فهو ليس بحاجة إلى شرح صدر : فقد ظهر للوجود منذ الحمل به مشروح الصدر ، طاهرا
وابن طاهرة !
والمعجزة ليست في
الحمل فقط ، بل هي أيضا في الحمل السريع الذي قد يقتصر على ساعة حسب تأويلهم . وهي
كذلك في الولادة المعجزة . لا يرضى
احد من المسلمين حسب الرأي العام ان يراها كسائر النساء أو أمهات الأنبياء .
لقد انفرد المسيح
بميلاد غريب فريد لا شبيه له . حاولوا تفسيره بقولهم (كما حملته نبذته) أي بمعجزة
. ويرينا النص الكريم دهشة مريم ذاتها لما يجري بها ، وخشيتها الا يصدق الناس آية
ولادتها . ولم تقاس ألم المخاض بل نراها واقفة لدى جذع النخلة تهز بجذعها لتساقط
عليها رطبا جنيا ، ثم تحمل وليدها في الحال وتأتي به قومها تريهم الصبي النبي!
تتعدد الخوارق
لتثبت المعجزة الكبرى : فالرحمان يطعم الوالدة العذراء من نخلة يابسة زمن الشتاء
تهزها فتساقط عليها رطبا جنيا ! كما أطعمها من الجنة في حداثتها وهي في المحراب .
ويسقيها من جدول ماء سري كان قد جف فناداها الملاك من تحتها لا تحزني ….
فكلي من النخلة واشربي من السري وقري عينا ! ( لم تقع التسلية بهما من حيث انهما
طعام وشراب ، ولكن من حيث انهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة )
الزمخشري .
ويختم
القران خوارق ميلاد المسيح بخاتم النبوة التي تؤيدها : نطق المسيح ونبوته من مهده
: جاءت به قومها تحمله ، قالوا ، وقد عرفوها بكرا بتولا : يا مريم لقد جئت شيئا
فريا ! فأشارت اليه ان أسالوه ! قالوا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا ؟ هل
تهزئين بنا ؟ قال : ( اني عبد الله ، آتاني الكتاب وجعلني نبيا منذ مولدي ! ) .
بهذا النطق المعجز شهد لنفسه ولامه .
ومعجز آخر انفرد
به المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين : تنبأ منذ مولده (مريم 30) ! استنبأ الله
الأنبياء جميعهم ( رجالا كهولا) وهو
وحده استنبأه طفلا ! ( تكلم الناس في المهد وكهلا ) (ال عمران 47 مائدة 115) دون تفاوت في النبوة بين
الطفولة والكهولة (البيضاوي ) .هم صاروا أنبياء في كهولتهم ، وهو وحده ولد نبيا !
لم يقرب منه الا سابقه يحيي بن زكريا فقد ( اتاه الله الحكم صبيا ) (مريم 11)
ليؤمن ويصدق بكلمة الله (ال عمران 39) .
لم يجمع القران
الألقاب العظيمة والصفات الفريدة في كلامه عن نبي كما جمعها في خبر مولد المسيح :
فالملاك يصف للوالدة مولودها العجيب ! بأربعة ألقاب تعنيه : ان الله يبشرك بكلمة
منه! اسمه المسيح! عيسى! ابن مريم ! انه ابن مريم القران يخصه بهذا اللقب شهادة
منه دائمة بمعجزة أمومة والدته البتولية : ينسبه إلى أمه لانه لا نسب له من سواها
يهاجم اليهود (لكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) (النساء 156). انه عيسى هو
اسمه الذاتي الذي يحمل معنى نبويا في اصله اللغوي : أي المخلص .
ان المسيح الذي
ظهر ممسوحا منذ مولده من الخطايا الأوزار، ممسوحا بدهن النبوة ، ممسوحا بالقدرة
الخارقة على عمل المعجزات . وما ذلك
كله الا لأنه (كلمه الله) ، كلام الله القائم في ذاته تعالى (الرازي) وكلام الله
الذي به كلم البشر شخصيا !
ثم بأربع صفات
تظهر ما له من الميزات الفريدة في عالم النبوة : ( وجيها في الدنيا والآخرة )
مقدما على البشر في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بشفاعته وعلو منزلته ! (ومن
المقربين) الى عرش الجلالة ! في الدنيا (يكلم الناس في المهد وكهلا) عن الرازي قال
ابو مسلم معناه انه يكلمهم حال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك انه
غاية المعجز).
وما ان ظهر المسيح
حتى أيد منذ اللحظة الأولى بشارة الملائكة عنه. قال : ( اني عبد الله آتاني الكتاب
وجعلني نبيا) : واللقبان مترادفان ، انه عبد الله الذي يعمل بنبوته في سبيل الله
منذ وجوده . انه المصطفى حبيب الله طيلة حياته ( وجعلني مباركا اينما كنت ) . انه
رجل الله قبل كل شيء، ومدى الحياة ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت
حيا ) ! وليس برجل الدنيا يعمل لسلطان او لدولة (ولم يجعلني جبارا شقيا) ! حياة فريدة تستحق الصلاة والسلام
من المهد الى اللحد: ( السلام علي يوم ولدت ويوم امت ويوم ابعث حيا!) سلام الله
عليه في هذه الأحوال لأنها أوحش المواطن (الزمخشري) وفي هذا السلام نبوة عن موت عيسى وبعثه للحال، تؤيد تلك النبوة
المستقبلة معجزة نطقه في المهد وهي حاضرة .
حياة تبدأ بمعجزتي
النطق والنبوة في المهد ، وتتكلل بمعجزتي الانبعاث والرفع حيا الى الله : ان
صاحبها لاقوى من الموت والحياة .
هل ذكر القران
شيئا من هذا بحق نبي او رسول ؟ وان مجموع هذه الألقاب والنعوت والصفات مدعومة ومحفوفة بالخوارق والمعجزات ، لتجعل من
عيسى ابن مريم آية الأنبياء والمرسلين .