شخصية المسيح
كلمة الله
(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ) النساء 170.
والقران عندما أراد ان يستجمع أوصاف وألقاب المسيح ليعرف به يلقبه بهذا اللقب العظيم الفريد : ( يا أهل
الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق : إنما المسيح ابن مريم ،
رسول الله ، وكلمته –ألقاها إلى مريم – وروح منه . فآمنوا
بالله ورسوله ولا تقولوا (ثلاثة) انتهوا ، خير لكم : إنما الله اله واحد
سبحانه ان يكون له ولد ، له ما في السماوات وما في الأرض ، وكفى بالله وكيلا . لن
يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) نساء 170-171 .
ان وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القران به عيسى اين مريم وحده ، يخلق
أشكالا ومشكلة في القران : فالقرائن تدل على انه يختلف في مفهومه ومدلوله عما يصرح
به القران عن عيسى ابن مريم ؛ وهو حجر عثرة أيضا عند المفسرين فهم يخبطون خبط
عشواء في تفسيره : يرون فيه اكثر مما يقرون ولا يجهرون . ولا يفهم معنى اللقب
الكامل إلا بمقارنته بالإنجيل الذي نقل عنه وقد سبق إلى تعريف المسيح به .
معناه في القران
ما معنى هذا اللقب الفريد في القران ؟
لا نجهل ان هذا اللقب السامي لا يحمل في القران عامة أدنى معنى للألوهية .
فالقران ينكر بوجه عام بنوة المسيح الإلهية من الله ، وان قبل بنبوءته
ورفعه بها فوق الجميع (وموقف القران من هذا اللقب خصوصا يتضح من تعريفه الشهير في الآية 170 من سورة النساء انه كلمة الله ! ولكن ليس لهذا الكلمة
صفة الألوهية صدر الآية ينتهي عن
هذا الغلو في الدين : ( يا أهل الكتاب ولا تقولوا على الله إلا الحق ) ؛ وعجز
الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة : 1 انه رسول من رسل الله (فآمنوا بالله ورسله) 2 الإقرار بألوهية
الكلمة ينتهي إلى القول (بالثلاثة) ولا تقولوا ثلاثة ، 3 (انتهوا خير لكم ) ، 4
(إنما الله اله واحد) فلا يمكن ان يكون الكلمة آلها معه ، 5 وكيف يكون الكلمة آلها إلا بولادة الله له ،
(سبحانه ان يكون له ولد) ، 6
فكل ما عدا الله ملك وعبيد لله (له ما في السماوات وما في الأرض ) ،
7 ولسنا بحاجة إلى غير الله ( وكفى بالله وكيلا
) ، 8 فالكلمة عبد لله مثل
الملائكة المقربين ، لا اله ( لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون ) .
أما في الإنجيل فمعنى هذا اللقب الإلهي صريح : مطلع إنجيل يوحنا يكفي
برهانا قاطعا . والمشكلة بين الكتابين في هذا : كيف نقل القران عن الإنجيل هذا
اللقب الإلهي مجردا عن ألوهيته ؟؟ والحل الصحيح ليس في نقض الإنجيل او القران بل
في التوافق بينهما ما أمكن . … .
معناه عند المفسرين
وبين المفسرين أيضا تقوم المشكلة على هذا : هل يعني تعبير (الكلمة) اسم شخص
ام مجرد (أمر) الهي ؟.
لقد اجمع القوم على ان (كلمة الله) تعني (أمره) . وقد تعني (وحيه) او
(كلامه الموحى به ).
جاء في الجلالان عن ال عمران 39 ( مصدقا بكلمة من الله ) : كائنة من الله
أي بعيسى انه روح الله . وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن ! ) وفي ال عمران يمر على
التعبير دون ان يشرحه
مما يدل على تحذر. وفي سورة النساء 170 يمر بالاسم مرور الكرام ؛ مكتفيا
بالإشارة الأولى : (سمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن ! ) –
ونقول لماذا وحده سمي بهذا الاسم
(كلمة الله) وقد خلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون ، والملائكة المقربون بكلمة
(كن) ولم يقل الإنجيل والقران
والتوراة عن أحد من المخلوقين ان ( اسمه كلمة الله ) ؟ !
ثم كيف ( روح الله) يكون مجرد أمر ؟ أليس في التفسيرين تناقض وارتباك ؟ ! .
وجاء في البيضاوي : ( مصدقا بكلمة من الله ) (آل عمران 39) أي بعيسى ، وسمي
بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون اب فشابه البدعيات التي هي عالم الامر ؛ او بكتاب
الله ) . – ليس المعنى الثاني مقصودا . ثم أليس كل الأنبياء
والصالحين وجدوا (بأمره) تعالى ؟ فلماذا لم يسم الإنجيل والقران أحدا منهم (كلمة
الله) ، واختص عيسى ابن مريم وحده بهذا الاسم ؟ .
وعلى الآية 45 منها يمر مرور الكرام مع انه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف
القران بها (الكلمة) الذي يبشر به
الله مريم . كذلك في الآية 170 من سورة النساء .
كأنه يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشى عن سبر معانيه .
وقال الزمخشري : (مصدقا بكلمة من الله مصدقا بعيسى مؤمنا به ؛ قيل هو أول من آمن به ؛ وسمي عيسى كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة
الله وحدها وهي قوله (كن) من غير سبب اخر . وقيل مؤمنا بكتاب منه تعالى ) : - ولكن
ليس المعنى الثاني مطلوبا لان أوصاف يحيى نبوة عنه للمستقبل وليس أخبار عن الماضي
حتى تعنى الكتاب المنزل قبله .
ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصروا معنى (الكلمة) على أمره تعالى (
كن) من غير سبب آخر : لماذا لم يسميه القران والإنجيل والتوراة (كلمة) مع ان خلقه
اغرب من خلق عيسى كما يذكر ( ان مثل عيسى عند الله . 59 .
فآدم أحق البشر بلقب (الكلمة) لأنه أول من وجد بكلمة (كن) الخلاقة من غير
سبب آخر ألبته ؟ ! .
وقال الرازي : (مصدقا بكلمة من الله ) أي كتاب من الله ، وهو قول ابو عبيدة
؛ واختيار الجمهور ان المراد بكلمة الله هو عيسى . وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه
كلمة الله وروحه
وسمي عيسى كلمة الله من وجوه : 1 انه خلق بكلمة الله وهو قوله (كن) من غير واسطة الاب كما يسمى المخلوق
خلقا وهو باب مشهور في اللغة ؛ 2
انه تلكم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلا
بالغا مبلغا عظيما فسمي كلمة أي كاملا في الكلام ؛ 3 ان الكلمة كما انها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى
الحقائق والأسرار الإلهية كما سمي
القران (روحا) ؛ 4 انه حقق كلمة
بشارة الأنبياء به كما قال ( وحققت كلمة ربك) ؛ 5 ان الإنسان يسمى فضل الله ولطف الله فكذلك عيسى عليه السلام كان اسمه
العلم (كلمة الله وروح الله) . واعلم ان كلمة الله هي كلامه ؛ وكلامه على قول أهل
السنة صفة قديمة قائمة بذات الله )
.
أتضاف في ال عمران 45 : (سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له
بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة الله افضل بيان ) ؛ وفي النساء 170 يختار منها ما
اجمع عليه القوم :( المعنى انه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة) .
ونجيب عليها جميعا : كل هذه التعريفات تنطبق على سائر الأنبياء ، في عرفهم
، وخصوصا على خاتم النبيين : فلماذا لم يسم القران محمد (كلمة الله) ، وهو عندهم
(أول خلق الله ) ، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز ، وقرانه (روح من امره
) تعالى وقالوا انه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل فيه حقت
اكثر من عيسى كلمة الله ، وقد جاء
رحمة للعالمين كافة فهو أحق ان يكون (عين كلمة الله ) .
وقد ابان كلمة الله الأخيرة ، خير بيان وأفضله ؟ فالقران يشهد بان عيسى
وحده دون العالمين خص بهذا اللقب العظيم ، حتى صار اسم علم له . وليس ذلك مجرد اسم
علم ، بل دلالة على ان كلمة الله هي كلامه ، (وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله ) على
قول أهل السنة .
وهكذا ان اختيار الجمهور ان (كلمة الله) لقب عيسى ابن مريم؛
وهذا اللقب يعني كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله
على حد قول أهل السنة .
اجتهادنا
وعندنا ان النصوص واضحة تعني
اسم شخص لا مجرد أمر الهي . فالله تعالى يبشر زكريا بيحيى ويصفه بأنه أول من يصدق
بعيسى انه (كلمة الله) آل عمران 39 ؛ ويحيى ليس أول من آمن بكلام الله ولا افضل من
آمن به ، بل يحيى أول من آمن بعيسى انه (كلمة الله) وهو يصدق بشخص اسمه) (كلمة
الله) وليس بمجرد أمر أو صفة .
وجاء يحيى ليصدق ويبشر (بكلمة الله) الشخص المنتظر .
ومريم آمنت (بكلمة ربها وكتابه) تحريم 12 . والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب
غير كتاب الرب . فهي آمنت بعيسى وإنجيله ؛ آمنت بابنها النبي وبكتابه .
الملائكة تبشر مريم بولد وليس بأمر او بمجرد كلام : ( اذ قالت الملائكة با
مريم ان يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) . ال عمران 45. ليس أوضح ولا
أصرح : (فالكلمة)المبشر به (اسمه المسيح ) ويؤكد (عيسى ، ابن مريم) : ثلاثة أسماء
علم مشهورة تصف (الكلمة) .
ومن يقرأ هذه الآية بإخلاص ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه) نساء 170 . لا يستطيع إلا الإقرار بديهيا ان ( الكلمة)
اسم شخص لوروده بين الاسمين (رسول الله ….
وروح الله) ، فهو مرادف للأسماء المحيطة به ، وهو خبر ثان معطوف على رسول الله
وكلاهما خبران للمسيح عيسى ابن مريم ؛ (وروح منه) خبر ثالث معطوف على ( كلمته)
يوضحه ويؤكده . فكلمته لقب بين القاب تعني شخص المسيح ، فكيف يكون مجرد أمر ؟؟!!.
والى ذلك فان لفظ ( الكلمة ) ورد في آل عمران (45) مذكرا (بكلمة اسمه
المسيح) فالهاء في (اسمه) تعود إلى كائن ذكر ؛ واما قوله في النساء (كلمته ألقاها
إلى مريم ) فأنثها حملاً على اللفظ ، لان معنى التذكير صريح من الأسماء الثلاثة
المحيطة به ( رسول الله وكلمته وروح منه ) .
فهذا ( الكلمة) الملقى إلى
مريم هو (روح من الله) فكيف يكون مجرد أمر ؟؟ هو (رسول الله) فكيف يكون مجرد كلام
؟ هو (انالمسيح عيسى ابن مريم ) فكيف يكون شيئا لا شخصا ؟ لا جرم الامر الإلهي خلاق ولكن ليس له
صلة مولود برحم مريم .
(والكلمة) المبشر به له اسم معروف (اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) آل عمران
45 ( والكلمة ) الملقاة إلى مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها وتوضحها
(نساء 170) ؛ فوجودها بينها يدل على أنها مثلها اسم علم لعيسى .
(ألقاها) : فالكلمة الملقاة كائنة قبل ان تلقى إلى مريم وقبل مريم : فهذا
الابن الذي سيولد ، موجود قبل أمه !!.
(يبشرك بكلمة منه ) مولود مريم كائن قبل مريم وهو (منه) أي من الله لا من
العدم ! بل لا يمكن ان يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه (كلمة الله) .
(منه) تدل على صلة المصد : قال البيضاوي : (ذو روج صدر منه) إذن عن طريق
الصدور لا عن طريق الخلق؛ والا فما معنى هذه التأكيدات التي خص بها : (كلمته ،
كلمة منه ، روح منه) إذا كان يتساوى في طريقة واصل وجوده مع سائر الناس؟. ورسول
الله ، المسيح عيسى ابن مريم ، امتاز بين الرسل بأنه (كالمة الله) وروح الله) ولقب
روح الله يوضح ان الكلمة شخص لا مجرد كلام .
وان هذا الشخص (الكلمة) هو (روح الله) او (روح من الله) على السواء .
وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح افضل واكمل وصف يميزه عن سائر
الأنبياء والمرسلين ، بعلاقة مصدرية اقنومية عقلية روحية إلهية .
(فكلة الله) المسيح عيسى ابن
مريم ، رسول الله وروحه ، ليس هو إذن كلام الله الخارجي الذي يخلق به الله أو يأمر
به أو يوحي به : بل هو كلام الله الداخلي الجوهري (القائم بذات الله).
صفة قديمة قائمة بذات الله
لقد حدد(أهل السنة كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله ) الرازي. فكلام
الله الخارجي مخلوق حتما اذ مستحيل ان يتجزأ الخالق ، وهذا هو كلام الخلق والوحي .
أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره ، فهو غي مخلوق ، هو منه وفيه ؛
فذاته تعقل ذاتها ، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله . هذا ما
فهمه الراسخون في العلم منهم وان أبوا تطبيقه على اسم المسيح (كلمة الله).
لذلك ، فان (كلمة الله) ، الاسم العلم لعيسى ابن مريم ، كائن من قبل ان
يلقى إلى مريم ، انه (صفة قديمة قائمة بذات الله) . وهذا ما يتضح جليا من إنجيل
يوحنا حيث ورد اللقب الفخم علما للمسيح لأول مرة : قال في وصف جوهره : (في البدء
كان الكلمة ، والكلمة كان لدى الله ، وكان الكلمة الله؛ )
وقال يصف عمله : ( كان ذاك منذ البدء لدى الله.
به كون كل شيء : وبدونه لم يكن شيئا واحد مما كون .
فيه كانت الحياة . . . . .
أما النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان ، فكان آتيا إلى العالم . ..
وقال يصف اتصاله بخلقه ، بواسطة تجسده من مريم بمعجزة إلهية : ( والكلمة
صار جسدا وسكن فيما بيننا .
وقد شاهدنا مجده ، مجدا من الاب لابنه الوحيد ، الممتلئ نعمة وحقا فإن
الناموس قد أعطى بموسى ؛ واما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا .
وختم يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية : سر وجود الكلمة الإلهي ، وعمله
في الخلق ، وإلقاءه إلى مريم فيتجسد : (الله لم يراه أحد قط : الإله ، الابن
الوحيد ، الذي في حضن الآب هو نفسه أخبر .
يوحنا 1: 1- 18 .
ويبرهن الإنجيل كله ، من أعمال وأقوال عيسى ابن مريم ، ان عيسى هو المسيح
الكلمة الأزلي الذي ألقاه الله إلى مريم آية للناس ورحمة من تعالى.
والقران يشهد ضمنا بذلك بأخذ لقب (الكلمة)عن الإنجيل وإسناده إلى المسيح
عيسى ابن مريم ، وان هو نفى ظاهريا ألوهية المسيح (كلم الله) ، فإنما ينكر لاهوتا
غريبا عن ذات الله الواحدة ، ولا يقصد إلى إنكار لاهوت (كلمة الله) (القائمة بذات
الله) ، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها : ( قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول
العابدين ) الزخرف 81 !.
ان في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض القائم بين موقف القران
الظاهري من نفي ألوهية المسيح وموقفه الحقيقي
النتاج عن النصوص التي بها يسمي عيسى ابن مريم (كلمة الله) كاسم علم يوضح
سر شخصيته . وهكذا يشهد القران للإنجيل ويصدقه .