عدسة الصليب الملهبة
بقلم
القمص زكريا بطرس
"كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن
المخلصين فهي قوة الله"
(كورنثوس الأولي 1: 18)
متى تجمعت أشعة الشمس الوضاءة في بؤرة عدسة، استطاعت أن تشعل النار في ورقة رقيقة
(كورقة السجاير مثلا)
هكذا أيضا يصير لقلوبنا متى وضعت في بؤرة الصليب حيث تتجمع محبة الله فتشعلها
بنيران الحب الإلهي.
دعني أيها القارئ العزيز، أحاول أن أجمِّع تلك الأشعة المقدسة، التي لمحبة المسيح
الفائقة المعرفة، في بؤرة صليب الجلجثة، من خلال عبارة رائعة صاغها فيلسوف المسيحية
بولس الرسول، معبرا عن مفاعيل الصليب في حياتنا بقوله: "كلمة الصليب عند الهالكين
جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله" (كورنثوس الأولي 1: 18).
لعل هذه الكلمة ذات القوة الإلهية تضرم النار في قلوبنا الفاترة.
تعال معي يا عزيزي لنستمتع بما تحمله لنا هذه الآية من مكنونات النعمة الغنية
النافعة لنفوسنا. والواقع أن مقالي هذا ليس بحثا متعمقا ولا عظة مقسمة ولا تعليما
موجها، وإنما هو مجرد خواطر لأحداث عبرت علي ذهني عندما شرفني الرب بزيارة الأراضي
المقدسة لأول مرة عام 1995م، فقد كان شغلي الشاغل أن تكتحل عيني بمشاهدة جبل
الجلجثة حيث علق الرب يسوع المسيح على خشبة الصليب ذبيحا من أجل خطاياي "أسلم من
أجل خطايانا".
خاطبت نفسي قائلا وأنا أقف تحت الصليب مرتعدا ومرتجفا: "ما كان يستحق الصلب حتى
الموت سواك يا نفسي، من أجل خطاياي الكثيرة ومن أجل طبيعتي الفاسدة."
فسمعت صوتا يأتيني من الأبدية عميقا وقويا ينطق بكلمات الرسول العذبة "الله بين
محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" وطرقت شغاف قلبي الكلمات الحنونة
التي لمخلصي الصالح "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من
يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية"
انهمرت الدموع من عيني ودوى أنين قلبي في أذني ودارت بي الأرض لتلقيني في أحضان
الحبيب المعلق علي الصليب لأسمع صوته مجلجلا يخاطبني مع الجموع المحتشدة "اغفر لهم
يا أبتاه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون"
اهتزت جدران كياني وأردفت قائلا والخزي يغطي وجهي: "أنا لست مثل هؤلاء الناس يا
سيدي الذين التمست لهم العذر فإني أعرف ما أفعل من آثام".
ربتت علي كتفي يد حانية وهمسات اخترقت أذني قائلة: "يقينا أنت يا بني تعرف جرم ما
تفعل لكن العذر الذي ألتمسه لك هو أنك لا تعرف مدى الآلام التي تحدثها خطاياك في
عمق أحشائي وفؤادي".
فصرخت من أعماق جوفي:
"ارحمني يا ربي فإني خاطئ".
وأفقت من ذهولي لأجد نفسي منطرحا تحت أقدام الحبيب الذي أسلم للموت على الصليب من
أجل خطاياي وأقيم لأجل تبريري.
وتذكرت ما قاله معلمي القديس كيرلس الأورشليمي يوم أن وقف في ذات المكان منذ آلاف
السنين وأنشد قائلا:
"يا لمحبة الله المتحننة! لأن الأبرار قضوا سنين طويلة في إرضائه، فإن ما أرادوا أن
يقتنوه خلال السنوات العديدة من النسك وهو رضا الله عليهم، فإن الرب يسوع المسيح
مستعد أن يمنحه لك الآن في هذه الساعة … وينقلك إلي الفردوس الذي أدخل فيه اللص.
فلا تشك في إمكان ذلك لأن الذي خلص اللص على هذه الجلجثة المقدسة في ساعة إيمانه هو
أيضا يخلصك بإيمانك".
نزلت هذه الكلمات على قلبي كالندى مرطبة جوفي وماسحة دمع عيوني، وشكرت الرب من
أعماقي الذي سمح لي بهذه النعمة التي لا أستحقها.
كان الصليب بحق عدسة مقدسة جمعت أشعة الحب الإلهي في بؤرة أشعلت النار في أعماقي.
وتيقنت وقتها أن موت الرب يسوع المسيح نيابة عن البشرية، رغم أنها حقيقة قديمة منذ
آلاف السنين لكنها تصبح اكتشافا جديدا له قوته وأثره النافذ عندما يخصص الإنسان هذا
العمل المجيد له شخصيا.
وهذا ما حدث فعلا لكل من التهبت أحشاؤهم بالحب الإلهي.
نعم إن كلمة الصليب عند هؤلاء المخلصين هي عدسة الله الملهبة والمشعلة قلوبهم بهذا
الحب الفائق.
وعلي الجانب الآخر ما أفدح الخسارة التي تلحق بمن لا يخصص لنفسه هذا الخلاص، فتصير
كلمة الصليب عندهم جهالة، إذ يجهلون قوته الملهبة.
وقد وضح معلمنا بولس الرسول مبدأ تخصيص الفداء للنفس عندما طبق ذلك على نفسه قائلا:
"الذي أحبني (أنا) وأسلم نفسه لأجلي (أنا)" [غلاطية2: 20].
ليتك أيها القارئ العزيز تضع قلبك في بؤرة عدسة الصليب الملهبة الآن، ليشتعل كيانك
الداخلي بالحب الإلهي، هذا هو ما أصلي من أجله بحق وما يسعد قلبي بكل يقين، الرب
معك. آمين.
E-mail:
coptic@pavilion.co.uk
Web Site: www.Coptic-church.org.uk