الفصل الأول: هل يمكن تطبيق الشريعة اليوم؟
لو أن شاباً توجّه إلى أحد المنادين بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية وقال له: "أريد أن أنكح ابنتك فلانة" (يعني أن يتزوجها باللفظ المتعارف عليه اليوم) لاستشاط الرجل غضباً وطرد الشاب من منزله، ورماه بقلة الأدب. مع أن الشاب لم يخطئ بل استعمل اللفظة الشرعيّة الصحيحة!
وكما أن اللغة - أي لغة - كائن حيّ يتطّور بمرور الأيام، فكذلك كل جيل في كل زمان له ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وأعرافه وتقاليده. ومحاولة قسر جيل حديث على ظروف وتقاليد وأعراف أجيال سبقته محكوم عليها بالإخفاق والفشل.
لقد رُوي في الأثر: "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". فإذا كان الأمر كذلك خاصاً بالأولاد الذين لا يفصلهم عن آبائهم أكثر من ثلاثة عقود، فما بالكم إذا كانت تفصلها عن التي سبقتها قرون عديدة؟
هذه بديهيّة كنت في غِنى عن ذكرها لولا أن إخواننا المسلمين يتجاهلونها في غمرة حماسهم لمقولة التطبيق الفوري للشريعة، غير مدركين العواقب الوخيمة المترتبة على هذا التجاهل الذي يصادم سُنّة كونية وناموساً من نواميس المجتمع.
والغريب أن هذا التجاهل قد جاوز حدود العامة والدهماء إلى أهل الاختصاص في الفقه والشريعة، الذين أكاد أجزم أن الغالبية العظمى منهم لم يدرسوا بدقّة أبواب الحدود والديَّات التي جاءت في كتب الصحاح. ولو فعلوا لأيقنوا أن المسألة ليست بالبساطة التي يتصّورونها، وأن الأمر يحتاج إلى جهود مضنية، خاصة بعد غلق باب الاجتهاد، لجعل الحدود ملائمة للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الناس الآن، وإلا كانت النتيجة سَقْطة مدوية ونكسة مريعة وإساءة بالغة، لا للشريعة الإسلامية فحسب، بل للإسلام كله عقيدةً وشريعة.
فإذا أردنا التدليل على ما سبق ذكرنا:
رُوي عن محمد قوله: ليس على العبد ولا على أهل الكتاب حدود (رواه الدارقطني في سُننه) ومعنى الحديث أنه إذا قتل مسلمٌ مسلماً عمداً، أُقيم عليه الحد أي القتل وإذا قتل مسيحيٌّ مسلماً عمداً فلا يُقام عليه الحد، أي لا يُقتل ولكن يُعّزَر. والتعزير عقوبة أقل من الحد!
وعن ابن عباس قال: قال محمد: ليس على العبد الآبِق إذا سرق قطع، ولا على الذمي (رواه الدارقطني في سُننه). ومعنى الحديث أن المسلم إذا سرق قُطعت يده، أما إذا سرق مسيحي فلا تُقطع يده! وليس الإشكال في تخفيف العقوبة على المسيحي، بل على عدم المساواة بين رعايا الدولة في جريمة واحدة، وما يُحدثه ذلك من أثرٍ في نفوس عامة المسلمين!
وعن أم المؤمنين عائشة قالت: "سمعت محمداً يقول: لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً . وعن عمر أن محمداً قطع يد سارق سرق برنساً من صُفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم" (رواه أحمد وأبو دواد والنسائي). وعن جابر أن محمداً قال: "ليس على الخائن ولا على المختلس ولا على المنتهب قطع" (رواه الخمسة وصحّحه الترمذي). ومعناه أن من يخون الأمانة أو يختلس أو ينهب مئات الألوف من الجنيهات، لا تُقطع يده، ومن يسرق ما يساوي ثلاثة جنيهات تُقطع!!
وهذه الأحاديث المحمدية في النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة المنشودة يضع أمام الإسلاميين إشكالات عديدة بحاجة إلى بحوث ودراسات قبل أن تنطلق الأبواق قائلة: "الإسلام هو الحل، شرع الله عز وجل" . "الإسلام عقيدة وشريعة" . "مصحف وسيف" . "دين ودولة" وغير ذلك من الشعارات المستهلكة.
لقد كانت التجارة في عهد محمد عصب الحياة الاقتصادية، فكانت جريمة السرقة هي السائدة، فنزل بشأنها هذا العقاب الصارم المؤيِّد لما كانت عليه الحال قبل محمد. وأوردت كتب السيرة المعتمدة أن سارق كنز الكعبة المشرَّفة قطعت قريش يده . لكن الحال الآن تغيّر، واختلفت أوجه المعاملات المالية، واستجدَّت جرائم جديدة لم تكن معروفة في عهد محمد، مثل اختلاس الأموال العامة والنصب وإصدار شيكات بدون رصيد بمئات الألوف من الجنيهات. فإذا طبّقنا على مُرتكبيها حدّ قطع اليد خالفنا الأحاديث الصحيحة التي منعت القطع فيها. وإذا لم نفعل، كان مختلس مئات الألوف أسعد حالاً من سارق الجنيهات القليلة!
عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال محمد: "لا يُغرَّم السارق إذا أقيم عليه الحدّ" (رواه الدارقطني في سُننه). فكيف الحال إذا سرق رجلٌ مئات الألوف من الجنيهات وقُطعت يده ورُكِّبت له يد صناعية وعاش مستمتعاً بما سرق طيلة حياته؟ بل إن تقدُّم الطب جعل من الميسور تركيب اليد المقطوعة بعد قطعها!
عن ابن مسعود قال: "دية الخطأ أخماساً! عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض" (رواه الدارقطني في سننه). ونحن نسأل: هل سوف يُنصّ في القانون الجنائي الإسلامي على هذا بلفظه؟ وكم من القضاة الذين سيطبّقونه والمحامين الذين يترافعون فيه، يعرفون الفرق بين "الحقة" و"بنت المخاض" ؟ لقد كتب شيخ الإسلام الإمام الدارقطني أكثر من ثلاث صفحات ليحقق كلمتي "الحقاق" و"بني لبون" الواردة في العبارة السابقة، شعوراً منه بمسئولية من يغيّر في ألفاظ أحاديث الرسول!
فإذا ردّ إخواننا المسلمون بأنه لا بأس من استبدال هذه الألفاظ بمصطلحات مُتعارف عليها. قلنا: إن من المعلوم أن أحاديث الرسول (حسب ما يعتقد المسلمون) تُطبَّق تطبيقاً دقيقاً يلتزم اللفظ ولا يخرج عنه. ونحن نذكر في هذا المقام أن محمداً كان يعلّم أحد صحابته دعاءً يقوله قبل النوم هذا نصه:
"اللهمّ إني أسلمْتُ نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجَى منك إلا إليك. آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت".
ثم طلب محمد من صاحبه أن يعيد عليه القول فأسمعه إياه ولكن قال: "وبرسولك الذي أرسلت" بدلاً من نبيّك الذي أرسلت . فصحّحه له محمد بقوله ونبيّك الذي أرسلت .
إذاً فتغيير الألفاظ ليس سهلاً في المعتقد الإسلامي. وهذا بلا شك مشكل خطير يُظهره ما رُوي عن محمد: لا قود إلا بالسيف أي: لا يجب قصاص القتل، إلا إذا كانت جريمة القتل تمَّت بالسيف . وهنا وضع محمدٌ قاعدةً شرعية هي أن القتل بالسيف وحده هو الذي فيه القود (أي القصاص). أما وسائل القتل الأخرى فلا قصاص فيها!
ومعلوم أنه في عصرنا الحديث استُحدثت عشرات الوسائل للقتل. فإذا طبقنا فيهاحديث لا قود كان ذلك خروجاً على الحديث. وإذا قلنا بغير القود، كان ذلك في غاية الغرابة، لأن من بين تلك الوسائل ما هو أقسى وأشد إجراماًمن السيف. فكيف لا يُعاقب مرتكبها بالقود أي القصاص ؟! هذا فضلاً على أنه أصبح القتل بالسيف الآن يكاد يكون في حكم النادر، وبذلك نضع في قانون العقوبات نصاً لا يُطبَّق في واقع الحياة!
جاء في مُسند الإمام أحمد أن الصحابي سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إنْ وجدتُ مع امرأتي رجلاً، هل أنتظر حتى آتي بأربعة شهود؟ قال: نعم . وفي هذا الحديث أثار الصحابي صعوبة إثبات جريمة الزنا بإحضار أربعة شهود يرون المرود يدخل في المكحلة . وهي صعوبة ما زالت قائمة حتى اليوم، بل ازدادت وتحّولت إلى استحالة. فإذا استطاع من يهمُّه الأمر أن يثبت حدوث تلك الجريمة بطرق الإثبات الحديثة، مثل التصوير الفوتوغرافي أو التسجيل بالفيديو التي تؤكد لمن يراه أن الزنا تم، فهل يُقبل منه هذا الدليل؟
إذا أجزنا ذلك، خالفنا السنّة الصحيحة، وأفلت الزانيان رغم قوة الدليل. أم لا بد من الدليل الشرعي: أربعة شهود؟ وهذا إن لم يكن مستحيلاً فهو شبه مستحيل في أيامنا، إذ أن جريمة الزنا تتم في غُرف مُحكمة الغلق؟!
هذا قليل من المشكلات التي تواجه المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود في القرن العشرين!
إن علامات الاستفهام التي أطرحها هنا قائمة منذ عشرات السنين، ولم يتصدَّ لها فقيهٌ واحد. ولم نقرأ لواحدٍ من الدُّعاة تصوُّره لشريعة الإسلام بثوبٍ جديد يليق بمعطيات العقل البشري في القرن العشرين. بل كل ما قدمه علماء الأزهر في باب الفقه ما جسَّده مفتي مصر عندما قدم فتواه بمفطرات رمضان، من مثل الطين الأرمني وبزاق الصديق الخ!! ولم يعلم أن هناك أشياء أخرى أصبحت مستخدمة غير الطين الأرمني في المأكل والمشرب!!
لقد أطلق الإمام الإيراني الخميني على علماء الأزهر بمصر أنهم علماء الحَيْض والنّفاث . وقال عنهم: إنهم فقهاء المراحيض. وهو مُحقّ إلى حد بعيد فيما ذهب إليه، لأن الدعاة المنتشرين في بقاع الأرض، والذين ينادون بتطبيق الشريعة، لديهم تضخّمٌ في فقه دورات المياه، وجفافٌ في معطيات العلم بما قدمته الشريعة. وأعتقد أن مقابلة هذا بذاك ضرورة عقلية لا مناص منها قبل أن يطلقوا شعاراتهم المستهلكة!!