الذي يُولد من الله يغلب العالم
أبتاهُ، لا تغضبْ إذا
ما قلتُ شيئاً مِن عتاب
عندي عتابٌ يا أبي، عندي عتاب
أبتاهُ، قد علّمتَني حبَّ التراب
كيف الحياة أعيشها رغم الصعاب؟
كيف الشباب يشدّني نحو السحاب؟
حاسبتُ نفسي عمرها
حتى يئستُ من الحساب!
وضميريَ المسكينُ مات من العذاب
أبتاه، مازال في قلبي عتاب
لِمَ لمْ تعلِّمني الحياة مع الذئاب؟!!
عندما يولد إنسان في عصر يجد حياة الذئاب فيه فريضة وضرورة، في عصرٍ ضاق صدره بكل طاهر عفيف، وارتدَّ أهله إلى عصر الرقيق، فإذا بهم يعرضون أبناءهم في سوق النخاسة، لا طمعاً في حياة القصور، وإنما ابتغاء حياة الكفاف!
عندما يأتي إنسان في مثل هذا العصر، وعلى مثل تلك الأرض، ما أظنه ينشغل كثيراً إن كان الكتاب الذي بين يديه جديراً بالتقديس أم التدنيس، وأن دينه الذي يدين به صالحاً ينتمي إليه أم ظالماً ينقلب عليه! إنما حَسْبه من دنياه عملٌ يلتهم قُواه ليُدِرّ عليه رِزقاً يفترس عقله انشغالاً في جمعه وطرحه وقسمته! إن هموم أهل القاع كثيرة، ولكثرتها فإنها جديرة بأن تجعل البحث في المسائل الدينية ترفٌ لا يحصل عليه إلا المترَفون، أو فاقدو الأمل في حياة مُترفة!
إن هذه الهموم هي الباب الضيق الذي قصده سيدي المسيح عندما قال في موعظته على الجبل: اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! (متى 7: 13 و14).
إن الجريمة الكبرى التي تُرتكب في حق الإنسانية أن يضطر الإنسان للدخول في صراعٍ يومي من أجل الحصول على ضروريات الحياة، حتى يستوعب هذا الصراع عمره، فإذا به طاحونة هواء أو كمَن حرث المياه!
لقد حيَّرني هذا الاستفهام حتى أجابني الكتاب المقدس أن الذي يُولد من الله يغلب العالم (يوحنا 5: 1-5)! لقد اقتربتُ من الله ذراعاً فإذا به يقترب مني باعاً. بحثت عنه، فاجتباني. منحته جزءاً من عمري فمنحني خلاصاً أبدياً. علَّمني الكتاب أن كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ ا لْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي ; (يوحنا 18: 37). إني أستطيع أن أقول إن ثمرة أكثر من أربع سنوات من البحث والدراسة كانت سكينةً للنفس، واطمئناناً نابعاً من ذلك الحق الذي بحثتُ عنه ووجدته بين ثنايا الكتاب فآمنت به.
ولربما يستعظم البعض هذه النقلة، وربما يستصعبها آخرون، ويؤكد مشاكلها الكثيرون. فكيف يتحوَّل المسيح عيسى بن مريم بالنسبة لي إلى يسوع الإله المتجسّد؟! وكيف يصبح رسولُ الله وكلمته عندي ابنَ الله الحي؟!
نبيُّ بني إسرائيل، كيف يصبح فادي الأّولين والآخِرين؟! بَيْد أن العلم بحقيقة مسيح القرآن يجعل من التصوُّرات السابقة استفهاماتٍ لا محل لها، وإشكالات لا معنى لها. فإن الإيمان بالمسيح كما قدمه القرآن، هو المقدمة المنطقية للإيمان بالمسيح كما صّوره الإنجيل.
ولقد قدمت في الباب الأول من كتابي الدوافع القرآنية للإيمان الإنجيلي وكيف قادني القرآن إلى الإيمان بمعتقدات الكتاب المقدس. وفي الصفحات القادمة أقف أمام نصوص الكتاب متعبّداً بدراستها، مقدّماً بعض ما تعلّمته منه.
ولا أقصد دراسة أكاديمية، ولا أهدف لبحثٍ لاهوتي يقف عند النصّ يتأمله ويستخرج منه الكوامن من المعاني القريبة والبعيدة، ولكني أردت دراسةً من الداخل تتحدث وتتكلم لأنها تتجاوز الخارج إلى المعاناة الحية.
إن غاية الأمر في دراسة النصوص لذاتها هي أن تحّولها متحفاً للعلم أو معرضاً للفن، مهما يكن من أمره فهو مزارٌ يؤمّه طالب معرفة، أو ناشد طرافة.
أما مَن يحياها فهي كيانه في مَصْبحه ومَمْساه. وشتّان الفرق بين الكيان والمزار!
فمن أجل الإنسان الحي - هنا والآن - نعيش هذه التعاليم. وفي جانبٍ من الفن، وجانبٍ مِن الفكر، وجانبٍ مِن الوجدان، يكتمل باجتماعها ذلك الكيان النابض الذي ننشده. وإنه لكيان يموج بالصراع والحوار: صراع الفكرة المُعَاشة، لا حوار الذهن البارد والحروف الصمّاء.
بهذا سنأخذ أنفسنا. وعند قسطاسه يكون حسابنا.