الفصل الثاني: وهل طُبِّقت الشريعة من قبل؟
قال الإسلاميون عن الشريعة الإسلامية إنها مشروع الإنقاذ الوحيد القادر على إنقاذ البشرية من الحيرة. والقلق والاضطراب والشرور، وزعموا أنها أصبحت حاجةً بشرية ملحة فرضتها عدم صلاحية النموذج الغربي والشرقي للحكم، بعد أن افتقدا عناصر البقاء. وقالوا أيضاً إن "شريعة الإسلام هي الحل الوحيد لأنها فوق الهوى البشري والنقص الإنساني، ولا تخضع لمقاييس الخطأ والصواب. فهي فوق التجربة. وهي قبل ذلك وبعده قوانين إلهية"!
هذا ما قاله سيد قطب في كتبه: "هذا الدين" - "المستقبل لهذا الدين" - "معالم في الطريق" - "السلام العالمي والإسلام" - "نحو مجتمع إسلامي" - "في ظلال القرآن" .
وإن سلّمنا مؤقَّتاً بما قالوه عن شريعة الإسلام، وإنها قادرة على حل معضلات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (نظرياً)، فلا يمكننا التسليم ولو المؤقت بأنها طُبِّقت عملياً في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولا أنها أتت بأفضل الثمرات! فإن الدارس لتاريخ مصر - على سبيل المثال - يجد نفياً قاطعاً للقولة السابقة، فنحن لا نستطيع الحكم بأن الشرع الإسلامي في مصر قد أنصف الأقباط لأن عمر بن الخطاب أمر بجلد ابن عمرو بن العاص حاكم مصر عندما ظلم قبطياً، أو لأن عمر بن عبد العزيز أمر بإعطاء الذمّيين من أموال الزكاة!!
إن مواقف الآحاد لا ينبغي أن تُسحب على وقائع التاريخ الإسلامي لمصر فيوصف بالعدل والمساواة، فهذا مجافٍ للروح العملية التي ينبغي أن توصف بها الأبحاث والدراسات التي تتناول مباحث التاريخ!
فإذا قسنا مباحث الإسلاميين عن معطيات الشرع الإسلامي تاريخياً على ضوء عبارة الأستاذ العقاد القائلة: كل قولٍ لا يستند إلى البحث، ولا يستند البحث فيه إلى الدليل، فهو حديثٌ من أحاديث الإشاعات، إن لم نقُلْ أحاديث الخرافات. فإن الحديث عن تاريخ الشرع الإسلامي وتطبيقاته لم يزد عن كونه حديث خرافة .
ولكي نبرهن على صدق ما ذهبنا إليه، لنُلْقِ نظرة عاجلة على تاريخ مصر الإسلامية، ليتأكد قولنا إن الشريعة الإسلامية وإن كانت مقبولة نظرياً فإنها غير قابلة للتطبيق عملياً.
أولاً - سياسياً واقتصادياً
اتَّسم تاريخ الحكم المصري الإسلامي بسِمَتين هما:
أ - غياب العدالة الاجتماعية.
ب - الحكم الديكتاتوري، مقطوعُ الصلةِ بمبدأ الشورى الإسلامي!
فالبرغم من تأكيد الشريعة في نصوصها على مبدأ توزيع الثروة "حَتيْ لاَ يَكُونَ (المال) دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمُ" (الحشر 59: 7). إلا أن نظام الحكم الإسلامي في صعُب عليه تنفيذ هذا النص، فجاءت الأحكام مؤكدة بأن مثل هذه النصوص جاءت للحفظ لا للتطبيق!
يروي محمد بن إياس الحنفي في المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور : لما تُوفي أحمد بن طولون خلّف من الذهب عشرة آلاف دينار، ومن المماليك سبعة آلاف مملوك، ومن العبيد السود أربعة وعشرين ألف عبد، ومن الخيول سبعة آلاف فرس، ومن البغال والحمير ستة آلاف رأس. ومن الجمال عشرة آلاف جمل، ومن اللؤلؤ والجواهر واليواقيت مائة صندوق، ومن التحف ما لا يُحصى عدده. وهذا غير الضِّياع والأملاك والبساتين. أما ابنه خمارويه فقد كان مثلاً فريداً في البذخ والإسراف، فلقد زوّج ابنته قطر الندى للخليفة المعتضد، وجهزها بجهاز أسطوري، قلَّ أن تجد له في التاريخ نظيراً، حتى قيل إنه لم يُبق تحفةً من كل لون إلا جمَّلها بها. وبلغت نفقات الجهاز مليون دينار. ولم يكتفِ بذلك بل أعطاها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما يتعذَّر وجوده في مصر. وبنى لها بين مصر وبغداد قصراً على رأس كل مرحلة تنزل بها، أمدَّه بكل وسائل الراحة والرفاهية كأنها في قصر أبيها. ومن الطبيعي أن يظهر لهذا السُّفْهُ أثرَهُ على بيت المال !
وتؤكد الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف في كتابها مصر في عهد الإخشيديين : "خلَّف كافور في خزانته بعد وفاته ما قيمته نحو مليون دينار من الجواهر والثياب والسلاح والأمتعة".
أما الفاطميون فقد رُويت عنهم رويات ليبلغ مبلغها الأساطير في العبث بالأموال العامة. وكُتُب التاريخ القديمة والحديثة زاخرة بوصف قصورهم ومواكبهم، وحيازتهم للثروات الطائلة وحرمان الشعب منها.
فقد كتب د. حسن إبراهيم حسن في بحثه "تاريخ الدولة الفاطمية": "كان للمعزّ أختٌ تسمى سيدة الملك قيل إنها تُوفّيت في خلافة أخيها المعزّ فوُجد عندها من الذهب ثلاثمائة صندوق، ومن فصوص الياقوت الملوّن واللؤلؤ خمس وبيات ووجد لها مدهن من الياقوت الأحمر وزنه سبعة وعشرون مثقالاً".
هذا مع ما كان يعانيه سواد الشعب المصري من المجاعات الرهيبة والطواعين والقحط واختفاء المواد الغذائية. ويكفي أن نشير إلى المجاعة التي حدثت في عهد الخليفة المنتصر بالله الفاطمي الذي ظل جاثماً على صدر البلاد أكثر من ستين عاماً، حدثت فيها من البلايا والمصائب والفظائع ما تشيب له الولدان. ويكفي أن نعرف أن الناس اضطرت إلى أكل الكلاب والقطط ثم إلى أكل جثث من يموت من البشر. واصطلح المؤرخون على تسمية هذه الفترة بالشدّة العظمى .
وقد فصَّل صاحب كتاب المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور أحداث هذه المجاعة، ننقل منها ما يلي: كان طائفة من الناس يجلسون على السقائف ومعهم حِبال تنتهي بكلاليب. فإذا مرَّ بهم أحدٌ من الناس ألقوا عليه تلك الحبال ونشلوه بتلك الكلاليب في أسرع وقت. فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه! وكان بمدينة الفسطاط حارة تسمى (حارة الطبق) فيها نحو عشرين داراً، كل دار تساوي في الثمن ألف دينار. فبيعت بيوت هذه الحارة كلها بطبق من الخبز، كل دار برغيف، فسُمِّيت يومئذ حارة الطبق .
وبالطبع فإن ما عاناه المصريون من جراء هذه المجاعة كان يمكن أن يكون أقل لولا عبث الحكام المسلمين بأموال البلاد، والإسراف الذي ليس له مثيل الذي مارسه أسلاف المستنصر بالله دون وازعٍ من ضمير. ومن المضحك المبكي أن من جاء بعده من الخلفاء لم يتعظ من "الشدة العظمى" وما حدث فيها من بلاء، فإذا بالخليفة الظافر بالله بعد أن تولى الخلافة (بالتعيين لا بالبيعة) انكبَّ على اللهو والطرب وشرب الخمور. والأنكد من ذلك والأدهى أنه كان يهوى ابن وزيره عباس وينزل إليه ويبيت عنده في غالب الأوقات. ثم أهداه صينية من ذهب فيها ألف حبة لؤلؤ. ولو كان لحكم الشريعة الإسلامية سلطة وقدرة على الحكم (كما يدَّعي الإسلاميون) لكان جزاء الظافر بالله هو الحرق بالنار! فلقد أورد ابن القيم الجوزية في كتابه السياسة الشرعية أن أبا بكر أحرق اللواطية وأذاقهم حرّ النار في الدنيا قبل الآخرة!! ويؤكد د. سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه المجتمع المصري في عهد المماليك : "ظل اللواط منتشراً في سلاطين المماليك وأمرائهم". حتى إن الذي كان يولع بالجواري ويكتفي بهن يُعتبَر شاذاً مثل السلطانحسن الذي قيل عنه: "لم يكن له مَيْل للصبيان كعادة الملوك من قبله"!
وما قيل عن غياب العدالة الاجتماعية، يقال أكثر منه عن غياب الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي في مصر، فلقد كان كل ملك يورِّث حكم مصر المحروسة للذي يليه كما يورِّثه قصوره وأملاكه. وليس لعلمائها ولا لفقائها ولا لذوي الرأي ولا للعامة أي وزن وكما قال الشاعر: "ولا يُستأذنون وهم شهود".
ثانياً - اجتماعياً
أوردت الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف وصفاً دقيقاً للحالة الاجتماعية في المجتمع المصري في عصر الإخشيديين. قالت: "ولم تجد العامة ملاذاً إلا في الاعتقاد بالخرافات وكرامات الأولياء. وظهر دجالون أشاع بعضهم عن نفسه أنه رأى النبي وجبريل وعلي بن أبي طالب. وآخر رأى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي وهو يستغيث مما ينزل عليه من العذاب، فافتتن بهم الناس. ولقد أغرقوا العامة في شرب الخمور والطرب في المجالس العامة والخاصة، ولم يكن ذلك وقفاً على الشباب بل كان الشيوخ لا يتورّعونه. حتى أهل الورع من الفقهاء ولم يتحرّج العلماء من سماع المغنّين والمغنيات، وانتشرتالمواخير ودور القمار واللواط".
ولم يكن الانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي وقفاً على سلاطين وملوك الدولة الإخشيدية، فإن التركيب الطَّبقي في عهد الدولة الفاطمية لم يتغير، واستمرت الأمراض الاجتماعية كما هي، بل لم يتورع الفاطميون عن فرض الرسوم على بيوت الدعارة. ويرى المؤرخون أنه في غروب الدولة الفاطمية تولى الأمر خلفاءٌ ضعاف، وأصبح الزمام بيد الوزراء، وحدثت مذابح وفِتن عديدة وحوادث شنيعة كان آخرها حريق مدينة الفسطاط في عهد آخر الخلفاء الفاطميين العاضد بالله بمشورة خَرْقاء من وزيره. واستمر الحريق واحداً وخمسين يوماً، حتى صار الدخان يُرى من مسيرة ثلاثة أيام، كما ذكر ذلك المؤرخ الشهير ابن عبد الحكم .
أما الدولة الأيوبية (إذا استثنينا فترة حكم الناصر صلاح الدين) فإن الحياة الاجتماعية في مصر على عهدهم كانت سيئة، فقد كان الشعب يعاني من الضرائب التي كان صلاح الدين قد أبطلها، فإذا بابنه العزيز بالله قد أعادها وزاد في شناعتها. وانتشرت الخمور، بل حُملت أوانيها جهاراً من غير إنكار. وكانت الدولة تحمي بيوت الدعارة وأماكن الحشيش، وفُرضت عليها الضرائب الثقيلة، ولم يقدر أحد على معارضة أماكن الفسوق، وصارت طاحون الحشيش عمالة وعملاً يُكتسب منه، واضطربت الأحوال لقِلَّة العدل وكثرة المعاصي والفسوق (من كتاب بدائع الزهور).
ومن أهم مظاهر الانحلال الخلقي في عصر الدولة الأيوبية تفشّي الرشوة بين الحكام والمحكومين، حتى أن المقريزي يذكر أن أصل الفساد في عصره هو تحكّم الرشوة في ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية، كالوزارة والقضاء وولاية الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصُّل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل !!
هذا هو المجتمع المصري الذي حكمته شريعة الإسلام على مدى قرون طويلة، فهل كان لأمراضه دواء؟ وهل أنقذت الشريعة الشعب المسكين من مظالم حكمه؟ لقد كانت سوطاً وسيفاً في أيديهم يضربون به عنق الخارج عليهم بوصفه خارجاً على الطاعة المفروضة عليهم باسم الشريعة!
لو تتبعنا التاريخ الفعلي لتطبيق الشريعة، باحثين عن مجتمع الحرية والأُخوَّة والمساواة، لظللنا نتراجع ونتراجع دون أن نهتدي إليه، إلى أن نتوقف عند عصر محمد، وإن أكدت بعض الدراسات الإسلامية أنه لم يُخْلُ من الأطماع والشهوات التي تقدح في نزاهة هذا المجتمع.