الفصل الخامس: إسلاميون هازلون
"إني أُنكر وأستنكر استفتاء الإسلام اليوم في أية مشكلة من مشكلات هذا المجتمع، فالذين يستفتون الإسلام - بحسن نية - هازلون، والذين يردّون على هذه الاستفتاءات، والذين يتحدثون عن مكان أي وضعٍ مِن أوضاع البشرية الحاضرة من الإسلام ونظامه، أشد هزلاً".
هذه دعوةٌ صريحة لتنحية رأي الإسلام من ساحة الواقع، وإقصاء الحلول الإسلامية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي من حلبة الصراع الأيدلوجي. والغريب أن الذي أطلق هذه الدعوة ليس من المعسكر الشيوعي ولا من التيارات التي تُوصف بالعداء للتيار الإسلامي، ولا هو من الذميين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، لكنه من ذات القاعدة التي أطلقت وما زالت تطلق دعوتها بالمطالبة الفورية بتطبيق الشريعة الإسلامية!
هذه دعوة سيد قطب عملاق الفكر الإسلامي - كما يحلو لبعض الإسلاميين وصفه - وهو المنتج الأيدلوجي لجماعة الإخوان المسلمين أُم الحركات الإسلامية المعاصرة. ومؤلفاته - التي دّون فيها هذه الدعوة وشرحها وأيدها بالأدلة وجعل منها نظرية فقهية جديدة - من أكثر الكتب الإسلامية رواجاً وانتشاراً، كما يؤكد ذلك المراقبون للحركة الثقافية، وهو صاحب أعظم تفسير حركي للقرآن.
لقد أدرك سيد قطب أن الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في مجتمع خاص به، وبيئة من صنعه. ولذا فعندما أعلن في كتابه معالم في الطريق جاهلية المجتمع الذي نعيش فيه، أعلن أيضاً أنه لا يصلح لتطبيق القوانين الإسلامية. واعتبر تقديم وجهة النظر الإسلامية لقضايا هذا المجتمع عبثاً وهزلاً ينافي روح الإسلام الواقعية. فالواجب أن يُسلم هذا المجتمع أولاً ويفهم معنى لا إله إلا الله . فإذا دخل في الإسلام أمكنه أن يجتهد لحل مشكلاته. أما دُعاة الإسلام فقد وقعوا فريسة مناورةٍ خبيثةٍ من الجاهلية دفعتهم إلى إحراج الإسلام عندما حاولوا تقديم شرائعه في غير بيئته فيجب على دُعاة الإسلام ألاّ يستجيبوا لها وأن يكشفوها ويستَعْلوا عليها، وأن يرفضوا السخرية الهازلة فيما يُسمَّى تطوير الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله .
وهو يهاجم من أسماهم المخْلِصين المعجّلين من أصحاب الدعوة الإسلامية، الذين يُخيَّل إليهم أن عرض أسس النظام الإسلامي والتشريعات الإسلامية على الناس مما ييسّر لهم طريق الدعوة ويحبّب الناس في هذا الدين. وهو وهمٌ تنشئه العَجَلة وعدم التدبُّر لطبيعة هذا الدين ومنهجه الرباني (من مقدمة تفسيره لسورة الأنعام).
ويفصِّل سيد قطب دعوته في كتابه الإسلام ومشكلات الحضارة فيقول: "إن محاولة وضع أحكام تشريعية فقهية إسلامية لمواجهة أقضية المجتمع الذي تعيش فيه البشرية، والذي ليس إسلامياً، ليست من الجد في شيء، وليست من روح الإسلام الجادة في شيء. إنه عبث مضحك أن نحاول مثلاً إيجاد أحكام فقهية إسلامية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا أو روسيا، وكلتاهما لا تعترف ابتداءً بحاكمية الإسلام".
إن أبا بكر وعمر وعلياً وابن عباس، ومالكاً وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي، وأبا يوسف والقرافي والشاطبي، وابن تيمية وابن قيم الجوزية والعز بن عبد السلام وأمثالهم، كانوا وهم يستنبطون الأحكام:
أولاً - يعيشون في مجتمع إسلامي يحكّم الإسلام وحده في شئونه، حتى مع بعض المخالفة الجزئية في بعض العصور.
ثانياً - كانوا يزاولون العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي في حياتهم الخاصة، وفي إطار المجتمع الإسلامي الذي يعيشون فيه، ويتذّوقون المشكلات ويبحثون عن حلولها بالحسّ الإسلامي، ومن ثمّ كانوا مستوفين للشرطَيْن الأساسيين لنشأة فقه إسلامي وتطّوره ليواجه الأحوال المتطّورة، فوق استيفائهم طبعاً لشروط الاجتهاد. أما الآن، فمع احترامي الكبير للعلماء المعاصرين والتجاوب مع شعورهم المخلص ورغبتهم المشكورة، وتقديري للجهد الذي يبذلونه - يحاولون استنبات البذور في الهواء. وإلا فأين هو المجتمع الإسلامي الذي يستنبطون له أحكاماً فقهية إسلامية يواجه بها مشكلاته؟
إن كل حكم فقهي يوضع الآن لمواجهة مشكلة قائمة في المجتمعات التي ليست إسلامية، لن يكون هو الذي يصلح الواقع في مجتمع إسلامي، لأن هذه المشكلة ذاتها قد لا تقوم أصلاً في المجتمع الإسلامي حين تقوم. وإذا قامت فلن تكون بحجمها وشكلها، ولن تكون طريقة المجتمع في مواجهتها، وهو إسلامي، هي طريقته في مواجهتها وهو جاهلي .
هذا ما انتهى إليه عملاق الفكر الإسلامي الشيخ سيد قطب في مؤلفاته، وقد جاء حلاً للعديد من المعضلات التي طرحتها كتابات الإسلاميين في فقه الحركة .
جاءت دعوته لتنحية الإسلام من الساحة متماشية مع ما يقدمه الإسلاميون من فهم شامل للإسلام. فهذا التراث الذي ورثه المسلمون المعاصرون من قوانين وتشريعات موجودة في بطون الكتب القديمة، جاء من مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع المسلم في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم تكن الشريعة الإسلامية هي التي أنشأت المجتمع الإسلامي، إنما كان المجتمع الإسلامي بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هوالذي أنشأ الفقه الإسلامي. فالإسلام كما قدمه الإسلاميون دين ودولة، ومصحف وسيف وعبادة وقيادة. وهو قبل هذا وبعده دين متكامل يتضح تكامله من مناهجه التشريعية النابعة من بيئته، بحيث لا يمكن تطبيق هذه التشريعات خارج نطاق بيئته التي فُصِّلت من أجله تفصيلاً. فإذا لم تكن تلك البيئة موجودة افتقدت دعوة تطبيق الشريعة أهم سند لها!
ستحل دعوة تنحية الإسلام من الساحة لغز المعادلة الصعبة، وسترفع التناقض الواقع على أبناء الحركة الإسلامية حين يُطالبون بتطبيق منهج الإسلام في أنفسهم ليُقام على أرضهم، في حين لا توجد البيئة المساعدة على ذلك. إذ أنه بموجب هذه الدعوة أصبحوا أحراراً من قيود المناهج الإسلامية غير القابلة للتطبيق في البيئة المعاصرة، أو البيئة الجاهلية بتعبيرهم.
تُقدّم دعوة سيد قطب الحل المنطقي للأسئلة التي كانت تطرح نفسها إزاء مبادئ الشريعة والتي كانت تبدو غريبة، مثل عدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قول القرآن: "فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ" (النجم 53: 32). ومن قول محمد "إنّا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله". فإن الباحثين الإسلاميين ظلوا يبحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية، فإذا بهم في حيرة. فكيف سيختارون أهل الحل والعقد أو أهل الشورى، من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية؟
وكيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها، والناس لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يوزنون بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة؟ وكيف سيختارون الإمام؟ هل يكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم وترشيحهم لأنفسهم - فكيف يعودون هم ليختاروا الإمام؟ ألا يؤثّر هذا في حكمهم؟
ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام، ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصاً يضمن ولاءهم له، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟
ورفض سيد قطب طرح مثل هذه الأسئلة وغيرها من مناهج الشريعة، لأن طرحها الآن والبحث عن إجابات عنها في كتب الفقهاء القديمة يُعدّ اعترافاً ضمنياً بإسلامية المجتمع الحاضر، وهو ليس كذلك. وهو أيضاً اعتقاد بأنهم سيجيئون بقواعد الإسلام ونظامه وأحكامه الفقهية لتُطبَّق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العنصري الحاضر وبقيمه وأخلاقه الحاضرة. وهذا أمر لا يصعب تحقيقه فحسب، بل يُعدّ مخالفةً لروح الإسلام أيضاً.
وأخيراً أقتبس كلمات سيد قطب من كتابه في ظلال القرآن : إن العمل في الحقل الفكري للفقه الإسلامي عمل مريح، لأنه لا خطر فيه. ولكنه ليس عملاً للإسلام، وهو لا من منهج هذا الدين ولا من طبيعته. وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب والفن أو التجارة. أما الاشتغال بالفقه الآن على هذا النحو بوصفه عملاً للإسلام في هذه الفترة، فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للوقت والأجر معاً .
وقول سيد قطب هذا في حق الفقهاء المعاصرين ألقى في وجوههم قنبلة لم تُودِ بحياتهم فقط، ولكن أدَّت إلى مصرع دعوته أيضاً. فلم تعد حركته الإسلامية التي ينتمي إليها تملك عناصر البقاء، إذ أن دعوة تنحية الإسلام وشريعته من المجتمع إقرارٌ ضمني بشرعيّة عمل القوانين الوضعية لحين قيام المجتمع المنشود، الذي لم يوضح سيد قطب وأقرانه لنا كيف يقوم وما الطريق الذي يوصّل إليه.