الفصل السابع: تحريفٌ في القرآن

 

كانت مرحلةُ جمع القرآن في مصحف من أخطر المراحل التي تعرَّض لها النصّ القرآني. لقد نزل القرآن على سبعة أحرف، وأجاز المسلمون قراءته بالمعنى دون اللفظ، وأباحوا تعدّد النصوص قبل توحيدها في مصحف عثمان. وقد جعل كل هذا مرحلة جمع القرآن نقطة تحّول في نزاهة النص القرآني.

فبالرغم من معارضة الصحابة في بداية الأمر لجمع القرآن في سفرٍ واحد، لأنهم رأوه بدعة لم يفعلها الرسول في حياته. وما أن خرجت الفكرة إلى حيّز الوجود حتى تعدّدت المصاحف، وأصبح لكل صحابي مصحفٌ لا يرضى عنه بديلاً!

روى عكرمة أن علياً بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر، فقيل لأبي بكر: كره بيعتك! فأرسل لعلي قائلاً: أكرهت بيعتي؟ قال: لا والله! فسأله أبو بكر: ما أقعدك عني؟ قال: رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه، فحدَّثْتُ نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاةٍ حتى أجمعه. قال أبو بكر: نِعْم ما رأيت.

أما مصحف أبيّ بن كعب فقد كان منتشراً في بلاد الشام، وهو يختلف عن المصحف العثماني بزيادة سورتي الحفد والخلع. وقد روى البيهقي أن عمر بن الخطاب صلّى بهما، وأن علياً كان يعلّمهما الناس، وكانوا يقرأون بهما في حضرة عبد الملك بن مروان!! (أي إلى عصر الدولة الأموية).

ويختلف مصحف أُبيّ عن غيره أيضاً في أن سورتي الفيل وقريش فيه سورة واحدة، لا سورتان كما في مصحف عثمان، وكذلك سورتا الضُّحى والانشراح.

وهناك مصحف ابن مسعود، وكان ابن مسعود من أئمة القرّاء الذين أوصى محمدٌ بهم، فقد أورد السيوطي عن جابر أنه سمع النبي يقول: خذوا القرآن عن أربعة: عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم، وأُبي بن كعب . ويختلف مصحف ابن مسعود عما سواه في أنه لا يورد سورة الفاتحة والمعّوَذتين (الفلق والناس). ومن المرويّ عنه قوله: "إن المعوذتين ليستا من كتاب الله !"

أما مصحف زيد فقد كان جمعه وتدوينه بأمرٍ من الخليفة أبي بكر، بعد توصية عمر بن الخطاب له، وقد جمعه زيد من صدور الصحابة ومن العظام وأوراق الأشجار ولباب الأخشاب والنخيل!!

عثمان بين التوحيد والتحريف!

كانت مرحلة جمع القرآن ذات أثر واضح في تاريخ المصحف، فقد أصبحت هناك نصوص عديدة للقرآن مختلفة متباينة، وتفرَّق المسلمون وتشيَّعوا للنصوص، وقد بلغ الاختلاف أشده عندما تقاتلوا وكفَّر بعضهم بعضاً، وتبادلوا التّهم المختلفة، وعلى رأسها تهمة التحريف.

وعندما رأى الخليفة عثمان بن عفان ما حدث للمسلمين، عزم على أن يوحِّد أحرف القرآن على حرفٍ واحد. فقد روى أنس بن مالك أن الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلّمون، فبلغ ذلك عثمان، فقال: أعندي تكذبون وتلحنون فيه؟ فمَن نأى عني كان أشدّ تكذيباً ولحناً! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً .

وبعد أن كوّن عثمان لجنة تتولّى كتابة المصحف، أمر بغيره من المصاحف وغلى لها زيتاً وألقاها فيه. وهذا يثير لدى الباحثين الشك في مصداقية النصّ الذي بين أيدينا.

فعلي بن أبي طالب يشهد أن كتاب الله يُزاد فيه!

ويذكرون أن علياً كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، أما عثمان فقد حذف المنسوخ من مصحفه. وما بين أيدينا الآن به آيات عديدة ناسخة ومنسوخة!

ومن الحقائق التاريخية التي ستظل تثير شك الباحثين في تاريخ المصحف هو كيف اختلف ابن مسعود في مصحفه عن غيره من الصحابة، فأنكر سورة الفاتحة وسورتي الفلق والناس، وكفّر من اعتبرها من كتابالله؟! وابن مسعود هذا ممن أوصى محمد بالأخذ عنهم في قراءة القرآن، وقد رُوي عنه قوله إنه يعلم ما صغُر وما كبُر في القرآن - وعندما كُلِّف زيد بجمع القرآن من دونه غضب واشتدّ حنقه على تكليف من لم يتجاوز العشرين من عمره بهذه المهمة التي كان هو أكثر المؤهَّلين لها، فقال مستنكراً تكليف زيد بجمع القرآن: واللهِ لقد أسلمت وهو مازال في صُلْب رجلٍ كافر! .

أما مصحف أُبي فقد دُّوِن فيه ما ليس في المصحف العثماني من آيات وسور.

فلماذا كان الخلاف والاختلاف؟ وقد كان القوم حديثو عهدٍ بحياة قائدهم؟!

ونحن نتساءل أيضاً: لماذا تجاهل المسئولون عن جمع القرآن عظماء الصحابة أمثال علي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس؟ كما يحق لنا التساؤل: لما شكّل عثمان لجنةً لجمع القرآن وترتيبه ورفع المنسوخ منه، لماذا لم يرضَ هو ومن معه بنسخة زيد، وقد رضيها أبو بكر وعمر وعلي وكبار الصحابة مدة خلافة أبي بكر وعمر؟

إن فعلة عثمان التي فعلها في حق المصحف ستظل محل اتهام وتشكيك، وهي إحراقه لما بين يديه من مصاحف. فإذا كانت المصاحف التي سبقت المصحف العثماني، ومنها مصحف زيد الأول، موافقةً للنص العثماني الموحّد، فلماذا أُتلفت؟

وإذا كانت مخالفة وحقَّ عليها التلف، فكيف نطمئن إلى نسخة عثمان كما لم يطمئن هو إلى ما فعله أبو بكر وعمر وعلي؟!

 

الشيعة وتحريف القرآن

كل ما ذكرناه فيما مضى يمثِّل أقوال وآراء علماء السنّة المعتمَدين، وهي تطعن في نزاهة القرآن وتتّهمه تصريحاً وتلميحاً بالنقصان تارة، والزيادة تارةً أخرى، والتغيير والتبديل ثالثةً.

ويقول علماء الشيعة بوقوع الزيادة والنقصان في القرآن. وقد أجمع أهل النقل والتفسير عندهم على أن القرآن المتداوَل بين أيدي المسلمين اليوم ليس القرآن كله! قال بذلك علي بن إبراهيم وتلميذه الكليني وقال به أيضاً الإمام العياشي والطبرسي وغيرهم.

وقد أكد الإمام محمد بن جعفر في كتابه الإمامة أن الله لم يقل قط في القرآن ثَانِيَ ا ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ا لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ا للَّهَ مَعَنَا" (التوبة 9: 40).

وللمذهب الشيعي عدد من الكتب صنّفها كبار أئمتهم في تأكيد وقوع التحريف في النصوص القرآنية، أشهرها كتاب فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب للإمام النوري . وقال المؤلف في مقدمته: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضائح أهل الجور والعدوان .

والكتاب يضم ثلاث مقدمات وبابين:

ويؤكد المؤلف في مقدمته الأولى نبْذ ما جاء في جمْع القرآن وجامعه وسبب جمْعه، وقد تطرّق النقص والاختلاف بالنظر إلى كيفية الجمع، معّزِزاً رأيه بروايات للإمام الصدوق والطبرسي والصغار والكليني وابن شهر أشوب والمجلسي والعياشي والنعماني وغيرهم، ملخصها: أن علياً جمع القرآن ولم يزد فيه حرفاً، ولم ينقص منه حرفاً، فرفضوه ونبذوه وراء ظهورهم، وأن الخلفاء الثلاثة وَكلوا تأليف القرآن ونظمه إلى من وافقهم على معاداة أولياء الله، فأسقطوا منه ما تضمَّن مدحاً للأئمة والنص الجلي على إمارة أمير المؤمنين. وعلى هذا فلا يستطيع أحد ادّعاء جمع القرآن كله غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ويضيف الإمام النوري في كتاب فصل الخطاب : والجامعون، منهم جامعه الأول أمير المؤمنين، وجمْعه يخالف جمع الآخرين إجمالاً. أما المصاحف الأخرى فهي مصحف الخلفاء الثلاثة. ومصحف أُبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود، وهذه مصاحف أربعة .

ويخلُص إلى القول: ويُستفاد من مجموع تلك الأخبار خاصيها وعاميها، منطوقها ومفهومها، وبعد إمعان النظر فيها أن القرآن الموجود الآن بين أيدي المسلمين شرقاً وغرباً المحصور بين الدفتين، جمعاً وترتيباً، لم يكن كذلك في حياة الرسول !

أما المقدمة الثانية لكتاب الإمام النوري فهي في بيان أقسام الاختلاف والتغيير الممكن حصوله في القرآن. والصور في الزيادة والنقصان كثيرة، فالنقصان يشمل سورة كسورة الحفد والخلع. أما التبديل فقد شمل الكلمة والحرف وحركات الكلمات .

وأكّد الإمام النوري رأيه باقتباس أقوال علماء الشيعة في تغيير وتحريف القرآن، وأورد أقوال أكثر من اثني عشر عالماً أصولياً يُقِرّون بتحريف القرآن، أمثال الكليني والمجلسي في كتابه مرآة العقول ومحمد بن الحسن الصيرفي في التحريف والتبديل وأحمد بن محمد في كتابه التحريف .

أما الباب الأول من كتابه فقد ذكر فيه الأدلة على وقوع التغيير والنقصان في القرآن، معّزَزة بالأخبار والروايات:

1 - هناك أخبارٌ تدلّ على سقوط آيات كثيرة مثل آية الرجم، ونقصان بعض السور، فسورة الأحزاب كانت بطول سورة البقرة، وسورة البيّنة ورد فيها ذكر سبعين شخصاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وأنها كانت في طول سورة البقرة!

2 - لعلي بن أبي طالب قرآن جمعه بنفسه، يختلف بالزيادة والنقصان عن قرآن عثمان. ومن الزيادات:

ألست بربكم، ومحمد رسولي، وعلي أمير المؤمنين.

... وكان أبواه مؤمنين وكان كافراً.

... وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث.

... وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم..

إن الإنسان لفي خُسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر..

3 - وجود مصحف لعبد الله بن مسعود يخالف المصحف الموجود الآن، ويخالف أيضاً مصحف أمير المؤمنين (علي). ثم يذكر الإمام النوري بعض الآيات التي تفرَّد بها مصحف ابن مسعود:

إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمدٍ على العالمين

ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك بعليٍّ صهرك.

نماذج من النصوص التي يعتقد الشيعة بتحريفها:

يقدم لنا الأستاذ محمد مال الله في دراساته عن الشيعة أكثر من ستين موضعاً يعتقد الشيعة بأنها محرّفة، نذكر بعضها، وقد وضعتُ العبارات المعتبرة لديهم والغير موجودة فيما بين أيدينا من مصاحف بين قوسين:

عن أبي بصير عن أبي عبد الله في القول:

"وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (في ولاية الأئمة) فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب 33: 71) إذ يعتقد الشيعة أن صحابة محمد قد حذفوا كلمة "في ولاية الأئمة".

عن أبي بصير بن أبي عبد الله عليه السلام في القول:

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ بتركهم ولاية أمير المؤمنين ـ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (فصلت 41: 27).

عن الحسين بن مباح عمن أخبره قال: قرأ رجل عند أبي عبد الله عليه السلام وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( التوبة 9: 105).

فقال: ليس هكذا، إنما هي: "والمأمونون" ونحن "المأمونون".

عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية هكذا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا (آل محمد حقهم) لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (النساء 4: 168 و169.

عن أبي حمزة أيضاً في قوله تعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ (بولاية عليّ) إِلاَّ كُفُوراً (الإسراء 17: 89).

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة 2: 106) يرون أن أصل الآية بدون كلمة أو مثلها !

فماذا يقول القارئ في كل ما أوردناه هنا؟

الصفحة الرئيسية