الأقليات الدينية في فكر الحركات الاسلامية

اولا: الاصولية الاسلامية الاستئصالية المتشددة:

يجعل هذا الاتجاه جوهر الاسلام احتجاجا سلبيا على كل الظواهر غير الاسلامية. وافضل من يمثل هذا الاتجاه المتشدد هو المفكر المعروف سيد قطب، الذي يشكل خطابه حول المسيحية واليهودية الاطار الايديولوجي المرجعي للمجموعات والحركات الاسلامية المتشددة، سواء في مصر ام في الجزائر ام في لبنان ام حتى في افغانستان. يقوم خطاب قطب هذا على الاعتقاد بأن العالم كله يعيش عيشة جاهلية، من خصائصها الالحاد والعلمانية والمادية. تقوم هذه القوى المسيطرة على العالم بمحاربة الدين الحقيقي، مما يجعل المسلم الذي يشعر بدونية روحية هو الوحيد الذي ينظر الى الاسلام، وبفعل ضغوط الظروف السيئة، او بفعل الضعف، كعقيدة فقط، لا كنظام للحياة.

ان العلاقات بين المجتمع الاسلامي والمجتمعات غير الاسلامية تقوم، عند قطب، على محاولات التصفية المتبادلة، او على الاقل، الاخضاع والهيمنة. وهو لئن آمن بحق المسيحيين واليهود بأن يمارسوا طقوس عباداتهم وفقا لشعائرهم الخاصة، فان على هؤلاء، اي الاقليات، ان يخضعوا للاسلام بصفته الاطار العام الوحيد لأي تفاعل ايجابي. وهذا الخضوع يتمثل عند قطب بدفع الجزية، اذ لا يمكن الا ان تكون الشريعة الاسلامية الناظم الوحيد لعلاقة الاسلام بالمسيحية واليهودية. اما الشرائع الاخرى كلها فتؤدي بالمجتمع بأسره الى الدخول في حالة في الكفر، واذا كان هذا ينطبق على المسلمين، فهو ينطبق ايضا على اليهود والمسيحيين.

وينطبق هذا ايضا على جميع المجتمعات والدول لأن المسيحية، على سبيل المثال، فقدت، بحسب قطب، جوهرها الحقيقي، وذلك عندما عقدت الكنيسة تحالفا مع الامبرطورية الرومانية وبات الانسان عندها بطبيعته خاطئا. ان ادخال الاساطير والآلهة اليونانية في الجسم المسيحي افسد جوهرها. فبعدما كانت المسيحية في الاصل تعتبر الانسان صالحا بالفطرة، ما لبثت ان افسدت تلك الفطرة بربطها بالخطيئة الاصلية، ما جعل الجنس البشري يعيش حالة دائمة من الشعور بالذنب. فبينما تنظر الكنيسة الى المسيح بصفته المخلص فانه لم يحدث بالفعل اي خلاص حقيقي. وهكذا اصبحت غرائز الانسان ورغباته الجنسية مؤشرا الى "القذارة" والى الوعي بالذات المنحرفة والى الخطيئة.

وبحسب قطب فان الوثنية والشرك قد ادخلا الى المسيحية من جانب منافقين تظاهروا بأنهم مسيحيون وتبوأوا مراكز عالية في الامبراطورية الرومانية. كما ان الامبراطور قسطنطين لم يكن عادلا ولم يتبع باخلاص تعاليم الكنيسة. فلم تستطع المسيحية آنذاك ان تقضي على الوثنية بل امتزجت بها ونتج من ذلك مسيحية جديدة. في حين ان الاسلام اقتلع الوثنية من جذورها. لقد طوع قسطنطين المسيحية خدمة لسلطته الشخصية ومزج تاليا بين المسيحية والوثنية بحيث نشأت مسيحية وثنية جديدة كان تعبيرها السياسي الامبراطورية الرومانية وتعبيرها الديني الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

الا ان هذه المسيحية الجديدة لم تستطع، كما يرى قطب، ان تنأى بأوروبا عن الحياة المادية والوثنية، الامر الذي ادى الى رد فعل غير طبيعي تمثل بكهنة يقمعون رغبات الانسان الغريزية والطبيعية وطاقاته خالقين بذلك ازمات روحية ولامبالاة اجتماعية وحضارية. واخيرا فان اوروبا تمردت على الكنيسة وفي شكل خاص على عقائدها وابتعدت عن الدوغمائية في اتجاه العقل. لكن العقل ما لبث ان جُعل اليها جديدا ينبغي ان يحكم كل مناهل الحياة. ثم اطاحت الوضعية العقل في القرن التاسع عشر. وبات يعتقد ان المادة خلقت افكار الانسان الذي هو صنيع الطبيعة ليس الا، ثم جاء داروين وفرويد وماركس لتوجيه الضربة الاخيرة لأي فهم ديني للحياة، اما بالقول ان رغبات الانسان كلها هي جنسية بطبيعتها وإما بأن الانسان اداة اقتصادية للانتاج، وكذلك هو المصدر الحقيقي للتاريخ والافكار.

وهكذا فان ابتعاد الغربيين عن الدين يعود في شكل عام الى الكنيسة من جهة والى اساءة استخدامها للسلطة ونظرتها الى الانسان من ناحية اخرى. لكن الاسلام لم تكن لديه المشكلة التي عانى منها الغرب سواء في السياسة ام في الاخلاق، ويعود ذلك عند قطب، الى كون الاسلام لم يقم منذ البداية بازدراء حاجات الانسان ورغباته، كما لم يسمح لأي مؤسسة دينية بأن تحكم باسم الله ولم يعزل الحياة عن التفاعل الاجتماعي. ويرى قطب ان البروتستانتية الاولى كانت اكثر قربا الى الاسلام. فهي كما دعا اليها مارتن لوثر في القرن الخامس عشر، هاجمت "تعاليم الشيطان" او تعاليم البابوية والتثليث والكنيسة الكاثوليكية، وانكرت ان يكون البابا هو الذي يمنح الخلاص: فقد جعل لوثر السيادة (او الحاكمية) العليا للنص، "الانجيل" ودعا الى حرية التأويل وحض على اعطاء الدين الاولوية على العقل او الطبيعة. وكذلك جاء كالفن ليعطي كما فعل لوثر، ودائما وفقا لقطب، الانجيل السيادة المسيحية العليا ولينكر مبدأ التثليث ولكن كل ذلك ادى الى ان يصبح الدين مادة جدال وخلاف بين الاوروبيين.

وهكذا فانه من المؤكد ان سيد قطب يبني خطابه على فرضية ان اللاهوت المسيحي ذو جدور وثنية. فالاعتراض على الكنيسة الكاثوليكية على مر التاريخ ربما يعود الى كونها لا تمثل "المسيحية الحقيقية"، اذ انها عند قطب لا تمثل المسيحية التي اوصى بها الله، ولكنها تمثل تطورا انسانيا في بعض الحقبات واهدافا سياسية محددة. ولقد بلغ بها الامر حد العمل ضمن جوهر الدين واستخدام اسوأ انواع الاضطهاد والتعذيب، لذا، فالصراع بين الايمان والعقل هو في الحقيقة صراع بين الفكر الانساني والكاثوليكية في الحياة الاوروبية.

واذا كان كل رسل الله من نوح الى عيسى قد جاؤوا بالتوحيد الخالص ومركزية موقع الانسان في الكرة الارضية الا ان الاسلام وحده هو الذي بقي نقياً وكما كان في الاصل. والذين لا يتبعون الاسلام يحملون في نظره آراء دينية غير صحيحة. وهو يأخد على سبيل المثال جوهر اليهودية او ديانة بني اسرائيل. فهي كالمسيحية مليئة بالملامح الوثنية والقومية. ومع ان بني اسرائيل قد بُلّغوا برسالة التوحيد عندما انزلت عليهم شرعة موسى، الا انهم افسدوها باضافة اساطير العهد القديم المماثلة للاساطير اليونانية. وعندما دعا ابرهيم الى التوحيد لم يتبعه سوى عدد قليل من اليهود، واصر الآخرون على عبادة الاصنام ونقضوا مواثيق الله، بل انهم اعتقدوا ان الههم هو اله قومي وليس الهاً للجميع، الامر الذي سمح لهم بتبرير استخدام مبادئ اخلاقية في ما بينهم تختلف عن تلك التي يستخدمونها مع الآخرين. والعهد القديم مليء بالاشارات الى اله اسرائيل والى تجسيد الله (آدم يختبئ من الله، وحزن الله، وشعوره بالذنب... الخ).

وهكذا فان سيد قطب يستخدم التوحيد الخالص بصفته المقياس الوحيد لصحة اي دين سموي وهو رغم اعترافه بالاصول السموية المسيحية واليهودية يساوي في وضعها الحالي بينها وبين الشرك، اذ يعتبر ان الاسلام هو الدين الوحيد الذي حمى رسالته من الاساطير الميثولوجية، ومن الفساد الاقتصادي والسياسي. فالنص الاسلامي هو بكل تأكيد كلمة الله التي اوصى بها، في حين ان الديانات الاخرى هي، في احسن الاحوال، ومن دون ادنى شك ايضا، ملتبسة ومن صنع الانسان، كما يرى قطب.

لذا يطالب قطب المسلمين اليوم بتطبيق منهج اسلامي يعيد الانسان الى طبيعته الحقيقية، وذلك عبر عبادة الله وحده وتحريره من كل الديانات والعبادات الاخرى. ففي الاسلام الله هو الحاكم المطلق الوحيد، وهو المشرع المطلق ولا يوجد اي مشترع آخر او اله آخر يحظى بالشرعية. وهكذا، يستخلص قطب ان كلا من المسيحيين واليهود، بالاضافة الى معظم المسلمين، ارتكبوا الخطيئة الكبرى بخلطهم بين  ما امر الله به والتأويلات الانسانية، وكذلك بقبولهم التشريع من المسؤولين السياسيين والمجالس التمثيلية عوض التشريعات الالهية. فعندما يقوم الكهنة او الحاخامات على سبيل المثال، بالتشريع فأنهم ومن اتبعهم انما ينحرفون عن جادة التوحيد.

كما يعلن قطب ان الاسلام وحده هو الذي لم يعط هذا الحق لمجموعة من البشر. وتاليا فانه من المفروض على المسلمين "الحقيقيين" ان يحققوا المنهج الخالص لله على الارض، وذلك عبر التزامهم بحاكمية الله وبرفضهم الجاهلية البشرية. اذ ان التشريع البشري لا يمكن ان يكون بطبيعته حياديا او مطلقا، فهو متأثر بالزمان والمكان، وهكذا، فانه ينبغي عدم الالتزام بالمسيحية واليهودية والاسلام،  او بأي دين لا يستند الى النص الاصلي او الوحي، كما لا يجوز الالتزام بهذه الاديان او حتى احترامها، بل ينبغي دحضها والقضاء عليها.

من هنا، ينطلق قطب للدعوة الى الجهاد كوسيلة لتطهير النفس. واذا كان الاسلام يتقبل المسيحية واليهودية فهو انما يفعل ذلك تحت مظلته هو لأن هدفه الرئيسي هو وحدة البشرية في ظل مبدأ التوحيد، وهو لذلك لا يعتبر اي نوع من الاختلاف مصدرا للتمايز سواء في اللون ام العرق ام اللغة ام الثروة. بل ان التمايز، وتاليا الحقوق والواجبات، انما ينبع من نقاء المبادئ وخضوعها للحكم الرباني ودحضها الوثنية، ولهذا، فان الجهاد، بما في ذلك الحرب، هو الوسيلة التي يلجأ اليها المؤمنون لكي يقيموا النظام العادل والمستقيم اي الاسلام. والناس مخيَّرون في ان يكونوا مسلمين او غير مسلمين. فاذا كان الاسلام يمنع فرض الايمان بالله بالقوة، الا ان سيادة النظام الاسلامي وضرورة اقامته، ولو بالقوة، امر لا يقبل الجدل. ذلك ان دار الاسلام تتشكل من الارض التي تعتمد الشريعة الاسلامية، سواء أكان مواطنوها مسلمين ام غير مسلمين. وبالعكس، فان دار الحرب هي الارض التي لا تعتمد الاسلام قانونا لها، سواء أكان مواطنوها مسلمين ام غير مسلمين. الا ان المثير والعجيب في هذا الامر هو ان قطب يُجوّز عقد معاهدات سلام بين دار الاسلام ودار الحرب اذا كانت نيات الاخيرة جيدة وغير عدوانية او خيانية. لكن اذا لم تكن النيات كذلك، اي عدوانية او خيانية، كما هي حال الغرب بحسب قطب، فان الحرب وحدها هي الكفيلة بحسم الصراع بين الطرفين.

لكن كيف يرى قطب "دار الحرب" المعاصرة: اذا جمع المرء بين آرائه السياسية حول العالم المسيحي، او الغرب حاليا، واليهودية، او اسرائيل حاليا، فانه يمكن توضيح آفاق العلاقة بين المسلمين، من جهة والمسيحيين واليهود، من جهة اخرى. فالخطاب السياسي لقطب في ما يتعلق بالمسيحيين واليهود اكثر حسماً وراديكالية واستئصالية من آرائه الدينية. فقبول قطب تواجد المسيحية واليهودية في ظل النظام الاسلامي ينبع من التزامن بالنصوص القرآنية، الا انه يؤمن بأن الاسلام لا يمكن ان يتعايش مع نظام سياسي غير مسلم، خصوصا في ظل الهيمنة الصهيونية والامبريالية والاستعمارية. فالاستعمار الغربي احتل العالم الاسلامي كله تقريبا وتمكن من فرض انظمته الفكرية والسياسية والاجتماعية عليه. وقد حاول الاستعمار عبر الوسائل كلها ان يقضي على العقيدة الاسلامية، لكنه لم يتمكن من ذلك. والدليل على هذا ان العقيدة الاسلامية تشهد نهضة متجددة تمهيدا لاستعادة العالم الاسلامي لقوته. وكل ذلك يتطلب ترفعا واستعلاء عما هو غير اسلامي. ذلك ان الكرامة مرتبطة بالايمان، لا بقوة مادية عظمى، وعلى المسلمين ان يقاوموا ويناضلوا ليتوصلوا الى مثل هذا الترفع لأن الله هو القوة المطلقة. فلقد قاتل العالم الاسلامي بأسره وعمل في سبيل التحرير، لذلك لا يمكن الفصل بين وحدة المسلمين واستقلالهم.

الا ان العالم الاسلامي لا يمكنه ان يتخلص من السيطرة الفكرية للعالم الغربي دون ان يتخلص اولا من سيطرته السياسية. لقد "التهم" الغرب المسلمين فردا فردا وحول عالمهم عددا من الدول التابعة المهمشة، كما اوجد في كل دولة طابورا خامسا او اقلية متحالفة مع الغرب ومصالحه. ولقد مضى الغرب الحديث في تدميره العالم الاسلامي الى حد لم يكن له سابق في التاريخ ولا حتى قبل التتار او الصليبيين. اضف الى ذلك ان الكتلة الشرقية التي تظاهرت بأنه لا دين لها عملت على تنفيذ الاهداف الامبراطورية الروسية. فبينما كان عدد المسلمين خلال الحكم الروسي نحو 42 مليونا، تقلص خلال ثلاثين سنة من الحكم الماركسي الى 26 مليونا، اذ تم القضاء على 16 مليونا منهم. كذلك فان يوغوسلافيا والبانيا شهدتا تطهيرا عرقيا ودينيا لم يسبق له مثيل في التاريخ، وتاليا فان قطب يرى "ان الروح الصليبية" لا تزال حية وتقف وراء تعامل الغرب في كتلتيه الغربية والشرقية مع العالم الاسلامي. وللبرهنة على ذلك يستشهد بما قاله ماريشال فرنسي مثل الجنرال كاسترو عند دخوله القدس عام :1941 "نحن ابناء الصليبيين، ويمكن لكل من لا يحب حكمنا ان يرحل". ويرى قطب ان هذه هي روحية اوروبا والولايات المتحدة والبلدان الشيوعية. فكلهم يكرهون الاسلام ويحقدون عليه حقد الصليبيين. فالغرب يمتص دم المسلمين، من ناحية، والدولة القومية تخدم مصالحه، من ناحية اخرى.

بل ان سيد قطب يعود الى عام 1909 لينقل لنا ما قاله منسق لمؤتمر المبشرين الذي عقد في جبل الزيتون في القدس: "لقد فشلت جهودنا في شكل مأسوي لأنه لم يتحول الى المسيحية سوى واحد او اثنين..." الا ان احد الرهبان وقف قائلا: "ان مهمتنا لا تتمثل في تحويل المسلمين مسيحيين، بل في جعلهم غير مسلمين. وبهذا المعنى فقد نجحنا في شكل كامل، ذلك ان كل خريجي المدارس الارسالية قد تركوا الاسلام..."

ويعتبر قطب انه في مثل هذه الحال يصبح الجهاد اداة ضرورية للدفاع عن العالم الاسلامي ونشر رسالة الله الحقيقية. فهو يرى ان كل الحروب الحديثة انما وقعت لخدمة المصالح القومية ولاستغلال الثروات الوطنية لشعوب العالم ونهبها وجعل بلدانها تابعة للغرب واسواقا لها. لذا، يؤكد على ان الحروب العالمية هي نتيجة افلاس البشرية الروحي.

فاذا كان الهدف الاول للجهاد عند قطب هو حماية المسلمين بحيث لا يبتعدون عن الاسلام سواء من طريق الفكر او القوة، فان عليهم، وهذا هو الهدف الثاني، ان يمتلكوا حرية الدعوة الى الاسلام. اما الهدف الثالث فهو اقامة حكم الله على الارض والدفاع عنه، وتاليا فان الاسلام لا يبحث عن اي سلام وبأي ثمن، ولكنه يتطلب، اضافة الى ما ذكرنا، تحقيق العدالة. كل هذا يعني عند قطب ضرورة الا يتعامل المسلمون مع طغاة الارض، سواء أكانوا افرادا ام جماعات ام طبقات، وألا يقبل المسلمون من غير المسلم الا واحدة من ثلاث: اما اعتناق الاسلام واما الجزية واما الحرب.

والجزية عند قطب تشير الى وقف مقاومة الاسلام وقيام دعوة اسلامية حرة والقضاء على القوة المادية التي تقف عائقا امامها. اما الحرب فهي رد فعل على مقاومة الدعوة الاسلامية، ويصبح المستسلمون اهل ذمة، يعاملون على قدر المساواة مع المسلمين، وتفرض عليهم الجزية. ويعتقد قطب ان الجزية مساوية للزكاة المفروضة على المسلمين، اذ ان هناك حاجة مادية لتغطية نفقات الدولة لكي يتمتع جميع المواطنين، مسلمين وغيرهم، في الدولة الاسلامية بالعدالة والطبابة ورواتب التقاعد. واذا كانت الزكاة فرضا من فروض الاسلام فان الجزية ليست كذلك، بل هي، عند قطب، ضريبة بديلة تجبى من غير المسلمين.

بالاضافة الى هذا، ليس واجباً على غير المسلمين ان يحاربوا اعداء الدولة الاسلامية، فالحرب في الدولة الاسلامية لها بعد ديني وغير المسلمين لا يشاركونهم في ذلك. فالجهاد العسكري هو واجب ديني، وتاليا ليس على غير المسلمين ان يلتزموا به. لكن اذا كان المسيحيون واليهود يودون ان يقاتلوا الى جانب المسلمين فان في وسعهم ان يفعلوا ذلك، وفي المقابل يعفون من دفع الجزية. وهكذا فان قطب يعتبر ان اثارة الشكوك والمشاعر حول وضع الاقليات في المجتمع الاسلامي وتحت الحكم الاسلامي هي نوع من الحملات المعادية للاسلام التي تقوم بها بعض المجموعات الغبية داخل الاقليات وبعض الذين يحملون اسماء اسلامية ولا يسعون الى خدمة الاسلام بل يلهثون وراء المكسب المادي الذي سيحصلون عليه من مصادر اجنبية "صليبية".

طوّر قطب هذه المفاهيم من زنزانته حيث نظّر لأسس الاصول الانعزالية الاستبعادية. فنظر الى الاديان من منظار عدائي نابع مما سماه الحملة الصليبية الدولية (الاستعمار والامبريالية) والصهيونية على العالم الاسلامي. وتجني شخصيات امثال مصطفى كمال اتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، على الاسلام. فهؤلاء الشخصيات يخدمون مصالح الغرب عبر علمنة العالم الاسلامي. كما كان لانشاء دولة اسرائيل، كما يضيف قطب، دورا مهما في كشف حقيقة الغرب ونياته حيال الغرب، فالبريطانيون على سبيل المثال، وعدوا العرب باعادة اراضيهم اليهم فيما كانوا يعطونها لليهود. وكذلك فان الولايات المتحدة خانت العرب بوقوفها مع الصهاينة في الامم المتحدة في ما يتعلق بانشاء الدولة اليهودية وبالتحيز ضد العرب بفعل ما تمارسه من حملات معادية للعرب وموالية لليهود.

ويرى قطب ضرورة سيادة الحاكمية الربانية، المكون السياسي الرئيسي للتوحيد، في كل الاوقات، سواء لدى انشاء المجتمع العادل والصالح او لدى توفير الحريات الشخصية او الاجتماعية. وفي كل الظروف، داخل السجن او خارجه. فقطب يفهم الحرية في شكل سلبي، فالناس احرار ما دام اختيارهم للنظم السياسية والاجتماعية لا ينتهك الحاكمية الربانية ولا يعوّق الحياة الدينية. كما يفهم وظيفة الدولة باعتبارها مسؤولية الحفاظ على الاخلاق على المستويين الفردي والجماعي. ونظرا الى كون التشريع ربانيا فانه ليس للأديان والافراد والمجتمعات والدول عند قطب ان تحدد في شكل شرعي الحقوق والواجبات المعيارية، سواء في ما يتعلق بالحريات الدينية ام بالتعددية ام بالاحزاب السياسية. اذ ينبغي ان تكون القوانين الالهية الكلية، كما يحددها القرآن، قاعدة كل اشكال الحريات والعلاقات. وبعبارة اخرى، فان على الناس جميعا، مسلمين وغير مسلمين، ان يربطوا منهاجهم في الحياة بالمنظور الاسلامي العالمي، وعلى الدول الاسلامية وغير الاسلامية ان تلتزم بالقوانين الالهية ودون اي استثناء.

انتهى تنفيذ قطب برنامجاً طليعياً للمسلمين الراديكاليين باعدامه شنقا عام 1866 اذ انه عند خروجه من السجن عام 1964 بدأ بتأليف "حزب" يلتزم بالمبادئ المذكورة اعلاه. لقد ادى سجن ليمان طرة دورا مهما في التربية القطبية الراديكالية وانتشارها فيما بعد. ويكفي للدلالة على ذلك ايراد بعض الامثلة.

فلقد اقتنع مصطفى شكري، وهو احد الذين كانوا مع قطب في السجن، بآرائه والف التنظيم الاستبعادي لجماعة المسلمين المعروفين بجماعة التكفير والهجرة بصفتها الطليعة التي تحدث عنها قطب. ويرفض شكري تعددية الفهم الديني ويدعو الناس الى الالتزام بالقرآن والسنة وحدهما. ولقد اوضح شكري لدى محاكمته امام محكمة عسكرية في القاهرة استبعادية مجموعته من خلال رفضها النظريات والفلسفات المستندة الى النصوص، وقال ان القرآن والسنة هما المعياران الوحيدان للشرعية الحقيقية، وتاليا فان الحكومة المصرية خارجة عن الحاكمية الربانية، بل اكثر من ذلك يعتبر شكري كل المسلمين الذين لا يرون في الاسلام ما يراه هو ولا يدعون الى الاسلام الذي يراه هو ولا يمارسون الهجرة من المجتمع المصري ولا يدعون الى القيام بالواجبات الدينية كفارا. وهو تاليا يعتبر ان جماعته المعزولة هي الجماعة الاسلامية الحقيقية الوحيدة. ويؤمن شكري بأن القرآن يحض المسلمين على قتال اهل الكتاب من يهود ومسيحيين لأن كثيرا منهم يريدون ان يبعدوا المسلمين عن دينهم ولن يتوقفوا الا بعد دفعهم الجزية.

اما صالح سرية الذي ارتبط اسمه في البداية بحزب التحرير والذي اصبح زعيم تنظيم الفنية العسكرية، وهي منظمة راديكالية استئصالية اخرى، فقد تأثر ايضا بقطب ويمكن ان نرى استبعاديته واستئصاليته من خلال تصنيفه البشر ثلاث فئات فقط: المسلمين والمشركين والمنافقين، فالاسلام الغى في ما بعد كل الشرائع السابقة واصبح هو جوهر الايمان والكفر. ومن هذا المنطلق، قام سرية بمحاولة انقلاب فاشلة على انور السادات او "الفرعون الجديد" مما ادى الى اعدامه عام ،1974 كما حدث لاحقا لشكري عام .1977

وكذلك فان عبود الزمر، ضابط الاستخبارات السابق وزعيم تنظيم "الجهاد" وأحد مؤسسي جماعة "الجهاد الاسلامي" والذي خرج منه ايمن الظواهري ولاحقا تزعمه، كما كان له الأثر الكبير في فكر اسامة بن لادن، يتبع منطق قطب في التشديد على اهمية الانخراط المتشدد في المعارضة التامة للدولة والمجتمع. ويؤمن الزمر أن على الحركات الاسلامية ان تمحور برنامج عملها على رؤية اسلامية قابلة للتطبيق تساعد على توحيد الحركات الاسلامية في اطار واحد وتؤدي الى التغاضي عن الاختلافات الفردية والعامة، وهو يستخدم احد المصطلحات القطبية السياسية الرئيسية - معالم الطريق - ليحض الحركة الاسلامية على التركيز على هدفها الرئيسي: قلب نظام الحكم واقامة الدولة الاسلامية. وكل هذا يتطلب موقفا حاسما رافضا الانظمة والمجتمعات والاديان القائمة على الجاهلية في علاقتها بمناحي الحياة كلها. اذ ان هدف الاسلام هو القضاء على الشرك والوثنية بما في ذلك القومية والوطنية والعقائد الدينية غير الصحيحة وعلى كل الانظمة غير الاسلامية.

ويعتقد محمد عبد السلام فرج، الامين العام لتنظيم "الجهاد"، ان السبب الذي جعل الاسلام يفقد موقعه العالمي يعود الى ان المسلمين تخلوا عن تطبيق الجهاد. فازالة الطغيان عن هذه الارض يحتم استعمال القوة واقامة حكم الله، اي الجهاد في سبيل الله وهو واجب ديني على المسلمين. وهو يرى ايضا ان دار الاسلام هي الارض التي يقوم فيها حكم الشريعة، ودار الكفر هي الارض التي تحكمها شرائع اخرى. وتاليا فان ما يسمى ارض المسلمين او ارض المسيحيين يمثل دار الكفر. اما القانون الذي يحكم العالم كله في ايامنا هذه فهو قانون الكفر، فالحكام ينشأون على  "الصليبية او الشيوعية او الصهيونية"، وهم كالتتار استعاروا شرائعهم  من اليهودية والمسيحية والاسلام، وتاليا يجب القضاء عليهم.

كما ان الجماعة الاسلامية الجهادية، وهي فرع من تنظيم "الجهاد" في صعيد مصر، والتي رأسها عمر عبد الرحمن، ليست اقل استبعادية او استئصالية من غيرها. فعبد الرحمن يقسم الحركات الاسلامية قسمين: قسم يقوده الاخوان المسلمون ويقر بالنظام القائم كنظام شرعي ويقر تاليا بحقوق الانسان والتعددية والديموقراطية كأدوات مشرعنة في العمل السياسي وفي التوصل الى اقامة الدولة الاسلامية. اما القسم الثاني، والذي تقف على رأسه "الجماعة الاسلامية"، فيرفض حقوق الاقليات وشرعية النظام ويتبع علناً خط المواجهة الشاملة. كما يتهم عبد الرحمن "الاخوان المسلمين" بالمهادنة، وذلك بسبب عملهما مع الرئيسين السادات ومبارك وبسبب ادانتهم مقتل السادات والعنف وبسبب زياراتهم "اعداء الدين" امثال بابا الاقباط وغيره من المسيحيين. علاوة عن هذا، يرفض عبد الرحمن ايضا موقف الاخوان الاستيعابي المعدل والمساوم، المتمثل مثلا، في تحالفهم مع حزب "الوفد" وحزبي "العمل" و"الاحرار" في الانتخابات العامة. لذا، يدعو عبد الرحمن لاستبدال استيعابية الاخوان باستبعادية "الجماعة" التي ترفض الانخراط في المؤسسات الدستورية وتتبنى خطأ حاسما معارضا ومتشدداً من قضايا اساسية تتعلق بالهداية والاخلاق ونظام القيم وما الى ذلك.

وبذلك يتبع عبد الرحمن خطى سيد قطب ايضا في وصفه لأي نظام يتبنى مبادئ غير اسلامية كنظام ينتمي الى الكفر والجاهلية ويشرعن اطاحته. ومثل هذا الموقف يقود "الجهاد" مثلا الى اعلان الحرب على البرلمان المصري. ذلك ان البرلمان قد منح نفسه حق التشريع، وسمح بالديموقراطية، ولو كانت شكلية. اذ ان الديموقراطية هي مبدأ يساوي قانونيا بين المؤمن والكافر كمواطنين. ان النظام "الديموقراطي المفترض" في مصر يريد منا، يقول عبد الرحمن، ان ندخل في نظام الاحزاب حتى يتساوى الاسلام مع الايديولوجيات والاديان الاخرى.

 

استاذ العلوم السياسية والدراسات الاسلامية

في الجامعة الاميركية في بيروت

الصفحة الرئيسية