الأقليات الدينية في فكر الحركات الاسلامية
المسألة الأولى : في بيان جواز قتل الأسير والرد على من أنكر علينا بقول الله تعالى ( فإما من بعد وإما فداء ) وبقوله تعلى ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
إن الأسير في الإسلام قد حضي بتشريع متكامل يحفظ له حقوقه ويردعه أيضاً عن انتهاك حقوق الناس ، وقد كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى غاية في الحكمة ، فله معاملات مع الأسير تتغير بتغير الظروف وأشخاص الأسرى ، وبما أننا نؤثر الاختصار على الإطالة ، فلن نتطرق إلى أحكام الأسير بشكل كامل ، بل إننا سوف نتناول في هذه المسألة ما نحتاجه لبيان الوجه الشرعي من فعلنا في قتل الأسرى ولا سيما التسعة الأخيرين ، فنقول وبالله التوفيق والسداد .
للعلماء في الأسير أقوال خمسة هي :-
القوال الأول : قول من قال أن الأسير المشرك يقتل بكل حال ولا يجوز أن يفادا ولا يمن عليه ، والناسخ لجواز المن أو الفداء في قوله تعالى ( فإما من بعد وإما فداءً ) وقوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) وقوله تعالى ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله ( فشرد بهم من خلفهم ) ، وقالوا إن هذه الآيات وخاصة ما جاء في برآءة ناسخة لما قبلها ، وهذا قول حكي عن قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس وكثير من الكوفيين ، وقال عبد الكريم الجوزي كتب إلى أبي بكر في أسير أسر ، فذكروا أنهم التمسوا بفدائه كذا وكذا ، فقال اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا ، وهذا القول معارض لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف نسوق ما يعارضه من الأدلة في القول الخامس .
القول الثاني : قول من قال إن جميع الكفار من مشركين وكتابيين لا يجوز فدائهم ، أو المن عليهم بل يقتلون ، والآية المجيزة للمن والفداء بقوله ( فإما من بعد وإما فداء ) منسوخة في حق المشركين و الكتابيين ، وهذا القول أعم من القول الأول ، وقالوا إن آية المن منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر ، منهم قتادة ومجاهد ، قالوا إذا أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه ولا أن يفادي به فيرد إلى المشركين ، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة لأنها لا تقتل ، والناسخ لها ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، فإذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف فوجب أن يقتل كل مشرك ، إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن يؤخذ منه الجزية ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين ، ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة ( فإما منا بعد وإما فداء ) قال نسخها ( فشرد بهم من خلفهم ) وقال مجاهد نسخها ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وهو قول الحكم .
القول الثالث : قول من قال أن الأسير لا يجوز فيه إلا الفداء أو المن ، لقول الله تعالى ( فإما من بعد وإما فداء ) ، فقالوا آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى تخييره فيهم بين المن والفداء ولا يجوز التعدي إلى غيرهما ، وقالوا إن الآية ناسخة لما سواها قاله الضحاك وغيره ، روى الثوري عن جويبر عن الضحاك ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) قال نسخها ( فإما منا بعد وإما فداء ) وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء ( فإما منا بعد وإما فداء ) فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى كما قال الله عز وجل ، قال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير ويتلو ( فإما منا بعد وإما فداء ) ، وقال الحسن أيضا في الآية تقديم وتأخير فكأنه قال فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أزوارها ، ثم قال حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله ولكنه بالخيار في ثلاثة منازل إما أن يمن أو يفادي أو يسترق ، وهذا القول مردود لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف هذه الآية بعد نزولها ، ولو سلمنا بقوة هذا القول فإنه ليس فيه حجة علينا ، لأن الحرب لم تضع أوزارها ، ولا زالت رحاها دائرة ، فلا حجة لأصحاب هذا القول علينا .
القول الرابع : قول من قال لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن ) في الأرض فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره ، وهو قول سعيد بن جبير .
القول الخامس : قول من قال بأن الإمام أو من ينوب عنه مخير في الأسرى بين أربعة أمور إما القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق ، وهذا هو قول مالك والشافعي وأحمد و جمهور العلماء ، وهو القول الذي تنتظم فيه الأدلة ، ولا تتعارض مع بعضها ، ولا نحتاج للقول بالنسخ لإعمال كل الأدلة في هذا القول ، ولأنه هو القول الذي عملنا به ، لأنه أقوى الأقوال أدلة فسوف نبسط بعض أقوال العلماء فيه .
قال الإمام الطبري في تفسير قول الله تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ) " القول في تأويل هذه الآية يقول تعالى ( فإذا لقيتم الذين كفروا ) بالله ورسوله من أهل الحرب فاضربوا رقابهم ، وقوله ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) يقول حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم فصاروا في أيديكم أسرى ( فشدوا الوثاق ) يقول فشدوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم ، وقوله ( فإما منا بعد وإما فداء ) يقول فإذا أسرتموهم بعد الإثخان فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم وتخلوا لهم السبيل " .
حتى قال " والصواب من القول عندنا في ذلك – أي في تفسير الآية - أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى وذلك قوله ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .. الآية ) ، بل ذلك كذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ويفادي ببعض ويمن على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي معيط وقد أتي به أسيرا ، وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد وصاروا في يده سلما وهو على فدائهم والمن عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أسروا ببدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى فخص ذكرهما فيها لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرراً ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ماله فيهم مع القتل " .
" وقوله (حتى تضع الحرب أوزارها ) يقول تعالى ذكره فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم وافعلوا بأسراهم ما بينت لكم ، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم فيؤمنوا به وبرسوله ويطيعوه في أمره ونهيه فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل حتى تضع الحرب أوزارها والمعنى حتى تلقي الحرب أوزار أهلها ، وقيل معنى ذلك حتى يضع المحارب أوزاره " .
وقال الإمام القرطبي في تأويل هذه الآية فيها خمسة أقوال - ثم سردها ورجح الخامس - ، فقال " إن الآية محكمة والإمام مخير في كل حال ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم وهو الاختيار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك ، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا ، وفادى سائر أسارى بدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين ، وهبط عليه قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم ، وقد من على سبى هوازن وهذا كله ثابت في الصحيح وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة والمشهور عنه ما قدمناه وبالله عز وجل التوفيق " .
" وقيل معنى الأوزار السلاح فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح وقيل معناه حتى تضع الحرب أي الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، ويقال للكراع أوزار قال الأعشى :" وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود يحدى بها على أثر الحي عيرا فعيرا " ، وقيل حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها والوزر الثقل ، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال وأثقالها السلاح لثقل حملها ، قال ابن العربي قال الحسن وعطاء في الآية تقديم وتأخير المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " .
وقال " ( فضرب الرقاب ) ولم يقل فاقتلوهم لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه ، قوله تعالى ( حتى إذا أثخنتموهم ) أي أكثرتم القتل ، فشدوا الوثاق والوثاق بكسر الواو لغة فيه وإنما أمر بشدة الوثاق لئلا يفلتوا ، فإما منا عليهم بالإطلاق من غير فدية ، وإما فداء ، ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام " أ.هـ مختصراً .
قال الجصاص في أحكام القرآن ( 5 / 268- 270 ) " قال الله تعالى ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان وهو نظير قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) و عن ابن عباس في قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى ( فإما منا بعد وإما فداء ) ، فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم – شك أبو عبيد في وإن شاءوا استعبدوهم - ، وقال قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا ، قال أبو بكر اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر ، وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر ، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بالقتل وسبى الذرية ، ومن على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق أن لا يكتم شيئا فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله ، وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح وآخرين ، وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم ، وروي عن أبي بكر الصديق يقول وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا ، وعن أبي موسى انه قتل دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله ، فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه ، واتفق فقهاء الأمصار على ذلك " أ.هـ بتصرف .
قال ابن كثير في تفسيره ( 4 / 174) " قال الشافعي رحمة الله عليه الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً ، وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام " .
قال ابن قدامة في المغني ( 9 / 179-180 ) : " وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم ، وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض ، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم ، وإن رأى فادى بهم ، وإن رأى استرقهم ، أي ذلك رأى فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل ، وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب أحدها النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن قتل النساء والولدان ) متفق عليه ، وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم ، الثاني الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية ، فيخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم ، الثالث الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء القتل أو المن والمفاداة ، ولا يجوز استرقاقهم وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي ، وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور ، وعن مالك كمذهبنا ، وعنه لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة . ولنا على جواز المن والفداء قول الله تعالى ( فإما منا بعد وإما فداء ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال ، وأبي عزة الشاعر ، وأبي العاص بن الربيع ، وقال في أسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له ، وفادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم بأربعمائة ، وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين ، وأما القتل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة ، وقتل يوم بدر النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط صبرا ، وقتل أبا غزة يوم أحد ، وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرات وهو دليل على جوازها ، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح ، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ، ففداؤه أصلح ، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم والدفع عنهم فالمن عليه أصلح ، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان ، والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض ذلك إليه وقوله تعالى ( اقتلوا المشركين ) عام لا ينسخ به الخاص بل ينزل على ما عدا المخصوص ، ولهذا لم يحرموا استرقاقه ، فأما عبدة الأوثان ففي استرقاقهم روايتان ، إحداهما لا يجوز وهو مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في أخذ الجزية ، ولنا إنه كافر لا يقر بالجزية فلم يقر بالاسترقاق كالمرتد وقد ذكرنا الدليل عليه ، إذا ثبت هذا فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة ، فمتى رأى المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه ولم يجز العدول عنها ، ومتى تردد فيها فالقتل أولى ، قال مجاهد في أمرين أحدهما يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع به في الكثير "أ.هـ .
ورجح قول الجمهور شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في الفتاوى ( 34 / 116) " فإن الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء ، فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده حاكما بحكم الله ويكون له أجران ، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة " .
كما اختار شيخ الإسلام ابن القيم قول الجمهور فقال في زاد المعاد ( 3/109 ) " كان – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – يمن على بعضهم ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسرى المسلمين ، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة " ثم ساق من الأدلة ما تقدم .
وقرر ذلك ابن حجر في الفتح ( 6 / 151-152 ) " قوله – أي قول ثمامة بن أثال للرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان أسيراً - أن تقتل تقتل ذا دم وأن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ولم ينكر عليه التقسيم ، ثم من عليه بعد ذلك فكان في ذلك تقوية لقول الجمهور ، أن الأمر في أسرى الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين ، قال الطحاوي وظاهر الآية حجة للجمهور ، وكذا حديث أبي هريرة في قصة ثمامة ، لكن في قصة ثمامة ذكر القتل ، وقال أبو عبيد لا نسخ في شيء من هذه الآيات بل هي محكمة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم عمل بما دلت عليه كلها في جميع أحكامه فقتل بعض الكفار يوم بدر وفدى بعضا ومن على بعض ، وكذا قتل بني قريظة ومن على بني المصطلق وقتل بن خطل وغيره بمكة ومن على سائرهم وسبى هوازن ومن عليهم ومن على ثمامة بن أثال فدل كل ذلك على ترجيح قول الجمهور أن ذلك راجع إلى رأي الإمام ، ومحصل أحوالهم تخيير الإمام بعد الأسر بين ضرب الجزية لمن شرع أخذها منه ، أو القتل أو الاسترقاق أو المن بلا عوض أو بعوض هذا في الرجال ، وأما النساء والصبيان فيرقون بنفس الأسر ويجوز المفاداة بالأسيرة الكافرة بأسير مسلم أو مسلمة عند الكفار ولو أسلم الأسير زال القتل اتفاقا " أ.هـ بتصرف .
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ( 1 / 121) " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، هذه القاعدة نص عليها الشافعي ، وقال منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم ، ومنها أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل والرق والمن والفداء لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر " أ.هـ بتصرف .
وقال الكاساني في بدائع الصنائع ( 7 / 119) " وأما الرقاب فالإمام فيها بين خيارات ثلاثة إن شاء قتل الأسارى منهم وهم الرجال المقاتلة وسبى النساء والذراري لقوله تبارك وتعالى ( فاضربوا فوق الأعناق ) وهذا بعد الأخذ والأسر لأن الضرب فوق الأعناق هو الإبانة من المفصل ولا يقدر على ذلك حال القتال ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر ، وروي أن رسول الله لما استشار الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم في أسارى بدر فأشار بعضهم إلى الفداء وأشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى القتل فقال رسول الله لو جاءت من السماء نار ما نجى إلا عمر أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن الصواب كان هو القتل ، وكذا روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر وبقتل هلال بن خطل ومقيس بن صبابة يوم فتح مكة ولأن المصلحة قد تكون في القتل لما فيه من استئصالهم فكان للإمام ذلك " أ.هـ
قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 8 / 145-147) " ومذهب الجمهور أن الأمر في الأسارى الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين ، قال الطحاوي وظاهر الآية يعني قوله تعالى ( فإما منا بعد وإما فداء ) حجة للجمهور ، والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور ، فإنه قد وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم المن وأخذ الفداء كما في أحاديث الباب ، ووقع منه القتل فإنه قتل النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ، ووقع منه فداء رجلين من المسلمين برجل من المشركين كما في حديث عمران بن حصين ، قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين المذكور والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم ، أن للإمام أن يمن على من شاء من الأسارى ويقتل من شاء منهم ويفدي من شاء ، قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد إذا أسر الأسير يقتل أو يفادى أحب إليك قال إن قدر أن يفادي فليس به بأس وإن قتل فما أعلم به بأسا .
وبنص الشوكاني قال المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 5 / 158) .
وقال العظيم آبادي في عون المعبود ( 7 / 247-248 ) " باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح " أ.هـ .
قال السرخسي في المبسوط ( 10 / 137-138 )" قال وسألته – أي أبو حنيفة - عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الإمام؟ ، قال أي ذلك فعل فحسن ، لأن بالأسر ما تسقط الإباحة من دمه حتى يباح للإمام أن يقتله ، فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه ، ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على من قتله ، وإن أتى به الإمام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الإمام ، والأول أقرب إلى إظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي أن يختار من ذلك ما يعلمه أنفع وأفضل للمسلمين .
وبعد عرض بعض أقوال العلماء في ذلك يتبين للمستنكر أن قتلنا للأسرى لم يكن عن هوى في أنفسنا ، بل إننا رأينا المصلحة في قتلهم مقابل المطالبة برجل واحد ، ولو قال أحد لنا فما ذنب الأسرى التسعة إذا كان ذاك هو المجرم والله يقول ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ؟ نقول إن الأسير بوزرة استحق القتل فإذا كان الله سبحانه وتعالى أجاز لنا أن نقتل الأسير فقط لأنه أسير ، أي لم تكن هناك مؤثرات أخرى ترجح قتله ، فكيف والحال هذه بعدما كان قتله بجريرة غيره أعظم مصلحة ، ونعاملهم بقول الله ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) فنعاقب بعضهم بجريرة بعضهم أردع لهم وأنكى ، وقد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً بجريرة قومه ، وقد روى ذلك الحديث مسلم عن عمران بن حصين قال كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من بني عقيل ، وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الوثاق ، فقال يا محمد فأتاه فقال ( ما شأنك ) فقال بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء فقال ( أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ) ، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم متجاوزاً بهذا الفعل فحال الحرب تقتضي مثل هذه الأفعال لضمان سلامة جند الإسلام ، بل إننا لا يمكن أن نحفظ أعراض المسلمين إلا بمثل هذه الأفعال ، ولنا مبررات أخرى قد لا تتبين لغيرنا أن في قتل الأسرى مصلحة راجحة متضحة لنا ، فإن مننا عليهم وقد فعلنا لبعضهم ، فهذا ما نراه يصلح لبعض الأشخاص ، وإن قتلنا فهي مصلحة تقتضي ذلك ، وإن فادينا فالفداء لبعضهم أصلح ، ولم نكن مقيدين بفعل واحد تجاه الأسرى ، بل إننا نتحرى الأصلح لحالنا وحال المسلمين في الأسرى ، ونعمل ما نراه أرجح من الأدلة لحال الأسير ، فلما تحمر أنوف بعض الناس قبل أن ينظروا في دليلنا واستدلالنا ، ونسأل الله أن نكون ممن عرف الحق وأحسن اتباعه .