الأقليات الدينية في فكر الحركات الاسلامية

 

المسألة الرابعة : في جواز نقل جثث أو رؤوس الكافرين

إن جواب هذه المسألة متفرع عن ما قبلها ، فمن قال بجواز مبادلة الجيف بالأسرى ، لا شك من باب أولى أن يجيز نقل جيف الكافرين للمصلحة ، ونحن تطرقنا لهذه المسألة لأنه نُص على منعها في بعض كتب المحدثين ، جاء عند البيهقي في سننه الكبرى ( 9 / 132) " باب ما جاء في نقل الرؤوس ، قال عن عقبة بن عامر الجهني أن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريدا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق بطريق الشام  ، فلما قدم على أبي بكر رضي الله عنه أنكر ، ذلك فقال له عقبة يا خليفة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فإنهم يصنعون ذلك بنا ، قال أفاستنان بفارس والروم ؟ ، لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر ) وقال معاوية بن خديج يقول هاجرنا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فبينا نحن عنده إذ طلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ، إنه قدم علينا برأس يناق البطريق ولم تكن لنا به حاجة إنما هذه سنة العجم ) وعن عبد الكريم الجزري أنه حدثه ( أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أتي برأس فقال بغيتم ) وقال عن الزهري قال لم يحمل إلى النبي  صلى الله عليه وسلم رأس إلى المدينة قط ولا يوم بدر ، وحمل إلى أبي بكر رضي الله عنه فكره ذلك ، قال وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ، قال الشيخ والذي روى أبو داود في المراسيل  عن أبي نضرة قال لقي النبي  صلى الله عليه وسلم  العدو فقال (  من جاء برأس فله على الله ما تمنى فجاءه رجلان برأس فاختصما فيه فقضى به لأحدهما ) هذا حديث منقطع وفيه إن ثبت تحريض على قتل العدو وليس فيه نقل الرأس من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام " أهـ بتصرف .

وقد روي ما يدل على جواز نقل الرؤوس وإن كان فيه مقال ، قال ابن جرير في تاريخه ( 2/37 ) " حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل قال ( فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  آلله الذي لا إله غيره ) وكانت يمين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال قلت نعم والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال ( فحمد الله ) ، وقال الحافظ في الفتح ( 7/295) " وفي حديث بن عباس عند بن إسحاق والحاكم ، قال بن مسعود فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت أخزاك الله يا عدو الله قال وبما أخزاني هل أعمد رجل قتلتموه قال وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال له لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، قال ثم احتززت رأسه  فجئت به رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقلت هذا رأس عدو الله أبي جهل " ، وأورد الذهبي في السير ( 3/371 ) " قال ابن الزبير هجم علينا جرجير في عشرين ومئة ألف فأحاطوا بنا ونحن في عشرين ألفا يعني نوبة إفريقية ، قال واختلف الناس على ابن أبي سرح فدخل فسطاطه فرأيت غرة من جرجير بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس بينه وبين جيشه أرض بيضاء ، فأتيت أميرنا ابن أبي سرح فندب لي الناس فاخترت ثلاثين فارسا وقلت لسائرهم البثوا على مصافكم وحملت وقلت لهم احموا ظهري فخرقت الصف إلى جرجير وخرجت صامدا وما يحسب هو ولا أصحابه إلا أني رسول إليه حتى دنوت منه ، فعرف الشر فثابر برذونه موليا فأدركته فطعنته فسقط ثم احتززت رأسه فنصبته على رمحي وكبرت وحمل المسلمون فارفض العدو ومنح الله أكتافهم " ،

وقال يوسف الحنفي في معتصر المختصر (1 / 244-245) " في نقل رأس الكافر ورى عن علي بن أبي طالب قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس مرحب ، وروى عن البراء قال قال لقيت خالي معه الراية فقلت أين تذهب فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعد أبيه أن آتيه برأسه ، وعن عبد الله الديلمي عن أبيه قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس الأسود العنسي الكذاب فقلت يا رسول الله قد عرفت من نحن فإلى من نحن قال إلى الله عز وجل وإلى رسوله ، وكان أتيانهم به من اليمن ليقف صلى الله عليه وسلم على نصر الله وعلى كفايته المسلمين شأنه ، وفيه إجازة نقل الرؤوس نكالا من بلد إلى بلد ليقف الناس على النكال الذي نزل بهم ومن هذا الجنس قوله تعالى ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) وقوله في آية المحاربين ( أن يقتلوا أو يصلبوا ) ليشتهر في الناس أمرهم وإنكار أبي بكر على عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة حين بعثا رأسا إليه اجتهاد منه لما ظهر إليه من الاستغناء عنه ، ألا ترى أن أمراء الأجناد منهم يزيد بن أبي سفيان وعقبة بن عامر بحضرة من كان معهم لم ينكروا ذلك لما رأوا فيه من إعزاز دين الله وغلبة أهله الكفار ، فالمرجع في مثله إلى أراء الأئمة يفعلون من ذلك ما يرونه صوابا مناسبا لوقتهم ، ويتركونه إذا استغنوا عنه ، وقد أتى عبد الله بن الزبير برأس المختار فلم ينكر ذلك ، روي أن البريد لما وضعه بين يديه قال ما حدثني كعب بحديث إلا وجدته كما حدثني إلا هذا فإنه حدثني أنه يقتلني رجل من ثقيف ، وها هو قد قتلته قال الأعمش ولا يعلم أن أبا محمد يعني الحجاج مرصد له بالطريق " .

          قال الشوكاني في السيل الجرار ( 4 / 568)  " قوله ويكره حمل الرؤوس أقول إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك ، بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها ، ولا يتوقف جواز هذا على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك ، وقد وقع في حمل الرؤوس في أيام الصحابة ، وأما ما روي من حملها في أيام النبوة فلم يثبت شيء من ذلك ".

          وما أجمل كلام الإمام الشوكاني وتقعيده لمثل هذه المسائل ، بحيث جعل المقصد في الحرب هو تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار ، وبهذه القاعدة نستطيع أن نوجه أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الحرب التي خالفت نهيه ، أما هذه المسألة فلا شك أن أدلتها المانعة أضعف من أدلة المسألة التي قبلها وما قلناه في توجيه المسألة السابقة نقوله في هذه المسألة ، والله تعالى أعلى وأعلم .

المبحث الثاني : الرد على من احتج علينا وقال إنه يجب علينا أن نلتزم بما تعهدنا به من المواثيق الدولية واحترام حقوق الإنسان .

وقبل أن نبدأ بهذا المبحث لا بد لنا أن نعرف ما هي معاهدة جنيف الخاصة بالأسرى وأحكامهم الدولية ، إن الوثيقة الدولية بحق الأسرى المعمول بها في الدول الأعضاء لهيئة الأمم المتحده هي معاهدة جنيف الموقعة عام 1949م والتي تنص على " أن أسرى الحرب يعتبرون تابعين لسلطة دولة العدو وليس لسلطة الأفراد أو الوحدات العسكرية التي أسرتهم ، وعلى هذه الدولة أن تعاملهم دون تمييز للون أو لعنصر أو لعقيدة دينية أو سياسية ، وعليها أن لا تنزل بهم تعذيباً بدنياً أو معنوياً ، وأن لا تجردهم من شارات رتبهم وأوسمتهم ونقودهم ، وأن تتوافر في معسكراتهم الشروط الصحية اللازمة ، وأن يقدم لهم الغذاء واللباس واللازمان ، وأن يكون لكل معسكر مستوصف ، كما يحق لأسرى الحرب ممارسة نشاطهم الفكري والثقافي والرياضي ، ويسمح لهم بإرسال الرسائل و البطاقات واستلامها ، ولكن تحت الرقابة ، ويحاكم أسرى الحرب أمام المحاكم العسكرية فقط ، ولا يجوز إصدار حكم على أسير دون إعطائه فرصة للدفاع عن نفسه والاستعانة بمحام أو مستشار قانوني ، ويفرج عن أسرى الحرب ويعادون إلى أوطانهم لدى وقف الأعمال العدائية " هذه هي شريعة الأمم المتحدة التي يتحاكم لها دول الأعضاء ، وأي دولة لا تلتزم تطبيق هذه المعاهدة فربما تخضع لعقوبات من الدول الأعضاء أو توقف قروضها أو يمتنع مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات تخص حماية أراضيها إلى غير ذلك من العقوبات  .

وردنا على من احتج علينا بأنه يجب علينا الوفاء بهذا العهد من وجوه :-

الأول : إننا لسنا أعضاءً بهذه المنظمة ولا نرضى أن نكون أعضاءً بها حتى نلتزم بعهودها ومواثيقها.

ثانياً : لو كنا أعطينا أحداً من الكفار عهداً بأن لا نقتل أسراهم للتزمنا لهم بعهدهم لقول الله تعالى ( أوفوا بالعقود ) وقوله ( ولا تكونوا كالتي نقضت عزلها من بعد قوة أنكاثاً ) وقوله ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يُرفع لكل غادر لواء ويقال هذه غدرة فلان بن فلان ) ، ولالتزام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهد الذي وقعه مع قريش حتى نكثوا هم ولم ينكث ، ولم نعط روسياً عهوداً بذلك حتى يقال لنا أنكم نكثتم العهود .

ثالثاً : إن بعض ما جاء بالوثيقة الآنفة الذكر ، أمرنا به ربنا ، وعلى أننا نكفر بالوثيقة ومن شرعها ، إلا أننا نقر أن فيها موافقات لشرعنا ، مثل الإحسان إلى الأسير ، وبشهادة الأسرى الذين أطلقناهم سابقاً أن ما وجدوه عندنا لم يجدوه في كتائبهم من العناية والإحسان ، ويكفينا للإحسان إليهم مدح الله للمحسنين بقوله ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) ولم يكن الأسير في وقت الصحابة إلا كافراً ، فمدح الله من يحسن للأسير حتى وهو كافر ، وجاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن إلى ثمامة بن أثال بعدما ربطه في المسجد حتى من عليه بعد أيام وأسلم ثمامة رضي الله عنه بسبب إحسان الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ، وشواهد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وإحسانه للأسرى والمن عليهم كثيرة تغنينا عن البحث في غير شرعنا عن ما يصلح لنا في حربنا وسلمنا ، ولو أننا لا نريد الإطالة لسردنا بعض أحكام الأسير التي أمرنا شرعنا بها ليتبين للمستنكر علينا عظم شرعنا وشموله .

رابعاً : إن هذه المعاهدات الدولية وغيرها التي يصدقها ضعاف العقول ، إنما هي موضوعة لا للتطبيق من قبل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ، إنما هي سوط تساق به الدول الضعيفة ، وحد تحمي بها الدول الخمس رجالها ، فهي تدفعهم ليفسدوا وإذا أُسروا ضمنت رفاهيتهم و خروجهم ، فبما أنه لا يوجد لها رادع فلن تخشى غزو الدول الأخرى ، والاستنكار يأتي على الدول الضعيفة المغلوب على أمرها ، أما هم وربائبهم فلا ، ونسوق أمثلة على ذلك نبين فيها أن الدول الدائمة العضوية لا تلتزم بما ألزمت به غيرها ، فإذا كان الحق لها أبرزت الوثيقة ، وإن كان عليها قالت ما فعلناه يقتضيه أسلوب ردع العدوان ونحن نحتفظ بحقنا بأسلوب الرد ، والأمثلة هي :-

1- المجزرة التي حدث للمسلمين في البوسنة في شهر ربيع الأول من عام 1416هـ في مدينتي ( جيبا وسيربرنيتسا ) ، وكان ذلك بمعاونة رجال الأمم المتحدة (صاحبة الوثيقة) ، وكانت المدينتين سلمتا إلى قوات الأمم المتحدة من قبل الصرب ، وفرضت الأمم المتحدة الحماية للمدينتين واعتبرتا مناطقاً آمنة ، ثم بعدها تحرك الصرب بحشودهم العسكرية باتجاه المدينتين وقوات الأمم المتحده لاتحرك ساكناً ، بل إنها مهدت لهم الطريق وأخلت بعض المواقع الدفاعية قبل ذلك بيومين ، وتساعد الجنود الهولنديين التابعين لقوات الأمم المتحدة مع الصرب وأعطوهم لباسهم ووقودهم قبل دخول المدينتين ، وكان حلف الناتو يعلم بتحرك الصرب نحو المدينتين ولم يتخذ أية إجراءات ، ثم دخل الصرب على المدنيين بزي رجال الأمم المتحدة ، وطلبوا من الناس أن يتوجهوا إلى مصنع الألمنيوم ( مقر الأمم المتحده ) ، وبعد أن تجمع الناس فيه أقام الصرب مجزرة هناك ، تم ذبح عدد كبير من المسلمين فيه ، وبقية السكان واجهوا أنواع القتل والاغتصاب والتشريد وكانوا أكثر من 45 ألف مسلم ، وأين كانت قوات الأمم المتحدة ؟ إنها أصبحت قوات مساندة للصرب بالقتل والإغتصاب والتشريد ، وبعد دخول (سيربرنيتسا )جهز المجرم ( راتلوا ملادتش ) 40 حافلة لنقل الشباب والفتيات إلى أماكن مجهولة ، وبقية السكان الناجين من العجزة والأطفال اتجهوا إلى مدينة توزلا ، وأصبحت ( جيبا وسيربرنيتسا ) خاويتين على عروشهما ، وبعدها بأسابيع نقلت الأمم المتحدة نصارى الكروات الفارين من مدينتي ( كرينا وكينين ) إثر اجتياح الصرب لهما البالغ عددهم مئتا ألف ، نقلتهم بحافلاتها وخلال عشرة أيام إلى مدينتي ( جيبا وسيربرنيتسا ) التين فرغتا لأجل هذه الهجرة ، وصرح بعض رجال الأمم المتحدة بعد اجتياح الصرب لمدينتي ( كرينا وكينين ) صرح بأن حقوق الإنسان تقتضي الوقوف بكل ما نستطيع من إمكانات لإنقاذ الكروات المهجرين من الكارثة وبالفعل تم إنقاذهم و إنزالهم في مساكن المسلمين الذين سحقوا وهجروا ولا بواكي لهم ، فانظروا كيف ساعدوا الصرب في العملية الأولى ضد المسلمين ، ووقفوا مع الكروات في العملية الثانية وقالوا إن من تمام حقوق الإنسان أن ننهض لمساعدة المهجرين ، واسألوا الأمين العام آنذاك ( بطرس غالي ) لماذا لم يعاملوا الصرب كما عاملوا العراق قبله ؟! ، فأين المواثيق وأين العهود وأين حقوق المدنيين قبل حقوق الأسرى .

2- المثل الآخر هو ما حدث للأسرى العراقيين أثناء اجتياح القوات الأمريكية للكويت ، عندما دبرت القوات الأمريكية والبريطانية ، مجزرة بشعة لأكثر من ثمانية آلاف جندي عراقي ، وكان ذلك في يومي ( 24-25 فبراير 1991) حيث قامت الدبابات الأمريكية من طراز ( لبرامز و برادلي ) وعربات أخرى مزودة بجرفات بدفن أكثر من ثمانية آلاف جندي عراقي أحياء في مواقعهم وكانوا قد التزموا خنادقهم بعد حصار القوات لهم .

وقد نشرت صحيفة ( واشنطن بوست ) الأمريكية مقابلات مع عدد من ضباط فرقة المشاة الآلية الأولى تحدثوا فيها عن دفن جنود عراقيين وهم على قيد الحياة في تلك الخنادق التي يبلغ عرضها ثلاثة أقدام وعمقها ستة أقدام .

كما نشرت صحيفة ( نيوز ديلي ) الأمريكية تفاصيل العملية من خلال لقاءات مع القادة العسكريين الأمريكيين في الفرقة الحمراء الأمريكية التي نفذت العملية .

وقال العقيد ( مورنيو ) قائد الكتيبة الثانية في الفرقة الحمراء أن عملية الدفن التي تمت كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية في الخليج ، ومن بين مخططي الجريمة كان هناك المهندس ( ستيفن هاوكيش ) في الفرقة الأولى الذي كان قد أقام معسكراً تدريبياً من أجل تدريب وتعليم جنود حفظ الأمن على عملية دفن الجنود العراقيين أحياءً في خنادقهم .

وقال العقيد ( مورينو ) أنه بعد تنفيذ العملية ونظراً لبشاعة الموقف وللخشية من قدوم الصحفيين فقد تمت عملية مسح الرمال وتغطيتها من خلال معدات وأجهزة حربية أخرى لإخفاء المجزرة وأي أثر لها ، وأفادت الصحيفة أن العسكريين الذين نفذوا هذه العملية حصلوا على أوسمة وألقاب من ( البنتاغون ) حيث نقلت عن عسكري أمريكي لم يذكر اسمه أن تسلم النجمة الفضية ولقب ( بطل حرب ) من جراء ذلك النوع من العمليات .

وحدد الناطق باسم ( البنتاغون ) ( بيت وليامز ) في إيجاز للصحافة في ( سبتمبر من عام 1991م ) الهدف من هذه المجرزة فقال " إن الأمر كان يتعلق بتجنب مواجهة العراقيين الذين اختاروا البقاء في خنادقهم أو خلف السواتر والمواجهة ، وأن عدد الذين دفنوا كان كبيراً وكان هدف الفرقة الأمريكية هو اختراق الساتر العراقي ومغادرة المكان بسرعة كي يتسنى المرور للفرقة المدرعة الأولى البريطانية ، أي أن تمر الفرقة البريطانية خلال الساتر من دون معوقات أو متاعب تنجم عن التأخير ) .

وقد نشرت صحف ( التايمز ) في ( 3/9/1991م ) و ( الغارديان ) في ( 13/9/1991م ) و ( المانغستو ) الإيطالية في نفس التاريخ " أن عملية دفن الجنود العراقيين وهم أحياء لم تكن عملية معزولة ، وأن الجنود العراقيين الذين تم دفنهم أحياء كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية " .

لا يظن أحد أننا سقنا هذا الدليل تأييداً لموقف العراق في عدوانه السابق على المسلمين في الكويت ، ولكننا سقناه لنبين كيف تخالف الدول المتسلطة ما سنته من معاهدات ، وكيف أجرمت في حق الأسرى واعتبرت أنهم هم الذين أخطئوا ، وأن عملها عمل عسكري تكتيكي دقيق ، ولكم أن تتصوروا كيف يمكن للجرافات أن تقترب من الخنادق إذا كان من فيها يقاتلون ، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا لأن الجنود قد استسلموا ولزموا خنادقهم ، فانظروا كيف قُلبت الموازين وأصبح الجرم فناً وحذاقة ، ولو كان العراق هو الذي فعل ذلك بجنودهم لاستنكر العالم الغربي أجمع ، وبدؤوا يذكّرون بمعاهدة ( لاهاي 1907 ) ومعاهدة ( جنيف 1949) وغيرها من المعاهدات والبنود التي يقصمون بها ظهر من يريدون ‍.

3- قامت القوات الإسرائلية بعد انتهاء حرب ( أكتوبر 1973م ) بقتل ما يقرب من 2000جندي مصري كانوا قد وقعوا في الأسر ، وكان المشرف على المجزرة هو رئيس الوزراء الحالي ( يهود براك ) ، وسبق أن قامت قوات العدو الإسرائيلي بمجزرة بشعة في دير ياسين عام 1948م راح ضحيتاها 250مسلم والجرحى والمشردين أضعافهم ، وبعد ذلك أعطي قائد عصابات ( الأرغون ) منحين بيغن أوسمة على هذه المجزرة ، وعين عام 1977م رئيساً للوزراء وكان يفتخر بقيادته لتلك المذبحة ، ولا أظنكم نسيتم مذبحة المسجد الإبراهيمي التي قتل فيها 40ساجداً لله ، فأين حقوق الإنسان وأين العهود والمواثيق التي نساق نحن بها ، وهم في معزل عن المطالبة بها ، وحينما ننظر بالمقابل نجد أن اليهود لا زالوا يطالبون دول العالم كلها بتعويضات محرقة هتلر المزعومة ، ولا زالت أرصدتهم في سويسرا ترتفع بسبب ما يجنونه من تعويضات و العالم مدين لهم بها ، بل إن الاعتذارات عن التقصير في إنقاذهم لا زالت تنهال عليهم حتى قبل أسبوعين وعسى أن يرضوا ! .

والأمثلة كثيرة على مناقضتهم لما تعهدوا به لغيرهم ، ولو أردنا أن نستشهد بجرائمهم القديمة والحديثة لطال بنا المقام ولكننا نظن أن حي القلب يعقل بما قدمنا .

          خامساً : ننبه أننا لم نتكلف الرد لنتهرب من المحاسبة تحت قانون هذه المعاهدات ، بل إننا نسعد حينما نخالفهم فيما لا يوافق شرعنا ، فنحن نعمل بمقتضى قول الله تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إن برءا منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحدة ) فمخالفتنا الظاهرة لهم تفرحنا ، لأنها تدل على كفرنا بهم وبما يعبدون من دون الله ، وبراءتنا منهم .

سادساً : وقبل أن نختم أذكركم إخواني الكرام يامن وجهتم لنا أصابع الاتهام ورميتمونا بأننا منتهكون لحقوق الإنسان ونشوه الإسلام ، نذكركم بأنكم أخطأتم توجيه التهمة ، ورميتمونا ظلماً بما لم نقترفه ، فهل المجرم الذي ينتهك حقوق الإنسان هو الذي يدافع عن دينه و عن أرضه وأعراض المسلمين ضد عدو معتد غاصب ؟ ثم أين الإنسان الذي انتهكنا حقوقه ، هل هو الجندي الروسي الذي غزا أرضنا وتفنن في ذبح المسلمين وفي انتهاك أعراضهم ؟ إن أصابعكم عندما توجهت إلينا واتهمتنا بالإجرام لا شك أنها أخطأت الطريق وضلت ، فإذا أردتم أن تدافعوا عن أحد فابحثوا عن أحد غير الروس تدافعون عنهم فجرائمهم ملئت الخافقين ، إن المجرم الذي يستحق هذا الاسم ، هو الذي قتل منا في الحرب الأولى أكثر من مائة ألف مسلم ، ولا زال يقتل ويشرد مئات الآلاف ، إن المجرم هو الذي قتل في أفغانستان ما يقرب من مليون مسلم ، إن المجرم هو الذي قتل في طاجكستان مائتي ألف مسلم ، إن المجرم هو الذي قصف ملجئ العامرية في العراق وقتل من فيه ، إن المجرم هو الذي دمر مصنع الشفاء في السودان رغم أنه كان يعتقد أنه يحتوي على مواد كيماوية وفي حالة قصفه فإنه الغازات المنبعثة منه ستقتل مالا يقل عن عشرة آلاف نسمة في محيط المصنع ، إن المجرم هو الذي حرق قبلتنا الأولى وهدمها ، إن المجرم هو الذي قتل أكثر من مائة مدني لجئوا إلى مقر الأمم المتحدة في لبنان ، إن المجرم هو الذي دمر المرافق الحيوية في لبنان قبل أكثر من شهر ، إخواني الكرام هل عرفتم المجرمين لتوجهوا لهم التهمة ؟ وإذا لم تعرفوا بعد كل هذا ، فلا نظنكم ستعرفونهم أبداً ، وابقوا كما أنتم وصدقوا كل ناعق .

          هذا ما أحببنا بيانه لإخواننا في هذا البحث ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه هو الهادي إلى سواء السبيل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه

كين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم ) أخرجه الترمذي وغيره ، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده ) فقال ابن هشام بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف ، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله فهذا شاهد لحديث ابن عباس ، وإن كان إسناده غير قوي انتهى ، قوله ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه الخ ، قال الحافظ في التقريب محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا من السابعة انتهى ، قال الحافظ في تهذيب التهذيب : قال عبدالله بن أحمد عن أبيه كان سيء الحفظ مضطرب الحديث كان فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه ، وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس ذكره زائدة فقال كان أفقه أهل الدنيا ، وعبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة ، قاله الحافظ في التقريب وقال في تهذيب التهذيب كان الثوري إذا قيل له من مفتيكم يقول ابن أبي ليلى وابن شبرمة " .

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم(1/419)" ومما نهى عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا خرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال ( قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ) فلم يقبل منهم شيئا وخرجه الترمذي  ، وخرجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلا ثم قال وكيع الجيفة لا تباع ،  وقال حارثة قلت لإسحاق ماتقول في بيع جيف المشركين من المشركين قال لا ، وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر فاستتابه فأبي أن يتوب فقتله فطلبت النصاري جيفته بثلاثين ألفا فأبي علي فأحرقه"  .

وسنتناول هذه المسألة من وجوه : -

الوجه الأول : هو أن حديث المسألة ليس له إسناد يحتج به ، وقد روي من طرق ومدارها على محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وعلى الحجاج بن أرطأة ، أما عبد الرحمن بن أبي ليلى فقد تقدم قول الترمذي والبخاري وأحمد في تضعيفه وقال عنه ابن الجوزي في الضعفاء ( 3/76) " قال عنه شعبه : ما رأيت أسوأ حفظاً منه ، وقال أحمد : ضعيف ، وقال مرة : سيء الحفظ مضطرب في الحديث " وقال أبو حاتم في علل الحديث ( 251-278) " كان ابن أبي ليلى سيئ الحفظ " ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال " قال كان يحيى يضعف ابن أبي ليلى ومطرا عن عطاء ، عن ابن عباس ( إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل  أصيب يوم الخندق ..الحديث ) حسنه الترمذي وقال عبدالحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها وضعفاه من جهة ابن أبي ليلى وقول الترمذي أولى " .

أما الحجاج بن أرطأة فقد قال عنه أحمد " لا يحتج به " وقال أبو حاتم " يدلس عن الضعفاء " وقد اتفق الحفاظ على تدليسه ، وهذا أمره ظاهر ، وقد عنعن في هذا الحديث كما جاء عند أحمد .

وله علة أخرى وهي أن مِقسم قيل عنه مدلس وقيل لم يسمع من ابن عباس وقد عنعن وقد ضعفه محمد بن سعيد وقال عنه أبو حاتم " صالح الحديث لا بأس به " وعندما سئل أحمد عن أصحاب ابن عباس " قال ستة ثم عدهم ولم يعد مقسم ، قيل له ومقسم ؟ قال مقسم دون هؤلاء " .

وله علة أخرى وهي أن الحكم بن عتيبة الذي روى بكل الأسانيد عن مقسم ، لم يثبت له سماع لهذا الحديث وقد قدمنا قول " عبدالحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف أي حديث الباب - ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها" وقال عنه النسائي الحكم " مدلس " وقد عنعن في هذا الحديث ولم يصرح بالتحديث ، وقال عبدالله سمعت أبي يقول : الذي يصحح الحكم ، عن مقسم أربعة أحاديث : حديث الوتر وحديث عزيمة الطلاق والفيء والقنوت ، ثم قال الله عندما سئل هل روى غير هذا قال يقولون هي كتاب ، أرى حجاجا روى عنه ، عن مقسم عن ابن عباس نحواً من خمسين حديثاً ، وابن أبي ليلى يغلط في أحاديث من أحاديث الحكم " وقال عبدالله وسمعت أبي مرة يقول : قال شعبة " هذه الأربعة التي يصححها الحكم ، سماع من مقسم " .

فإذا كان هذا الحديث لا تقوم بإسناده حجة فلا دليل فيه على حرمة بيع جيف الكافرين على أهليهم إذا احتيج إلى ذلك في الحرب .

الوجه الثاني : قد يقول البعض إن هذا الحديث مع أن إسناده لا تقوم به حجة ، ولكن له شواهد تعضده منها ما جاء في الصحيحين من إلقاء جيف قتلى بدر في البئر والإعراض عن بيعها كما فهم البخاري ، ومنها ما ثبت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الميتة .

فنقول إن كبار الحفاظ كأحمد وابن المديني وغيرهما ، لا يقبلون الشواهد للحديث إلا إذا توفرت في الحديث المراد تقويته بالشواهد شروط ، ومن هذه الشروط أن لا يكون أصلاً في الباب ، وهذا الحديث نعتبره أصل في باب النهي عن بيع جيف الكافرين لذويهم في حال الحرب ، رغم أننا نقول بحرمة بيع الميتة ولكن في السلم و ليس في الحرب ، أما ما نريد تحريمه في حال الحرب فيحتاج إلى دليل منفرد يفيد تحريمه في حال الحرب ، وإذا لم يصح حديث ابن عباس ، فيبقى الأمر في الحرب على أنه مسكوت عنه ، ولا تعمل فيه الأدلة الأخرى التي تفيد تحريم بيع الميتة في السلم ،  لأن ما حرم في السلم ليس بالضرورة أن يكون محرماً في حال الحرب ، لا سيما إذا كان مما فيه مصلحة ظاهرة للجند أو لبلاد المسلمين ، والشواهد على جواز فعل المحرمات في الحرب كثيرة من السنة ومن فعل الصحابة أيضاً  ، كتحريق الرسول صلى الله عليه وسلم لنخل اليهود وهو قد نهى عن تحريق الشجر في أحاديث أخرى ، وإباحته الكذب في الحرب ، وعقر دواب العدو كما فعل علي في غزوة حنين ، ولبس الحرير ، والاختيال ، وكما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف الصحابة على رأسه حرساً في صلح الحديبيه وهذا ما كان ينكره في غير هذا الموضع لما فيه من تعظيم له ، وقد كتب جند الشام لعمر رضي الله عنه إنا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفّروا أي غطوا أسلحتهم بالحرير وجدنا ذلك رعباً في قلوبنا ، فكتب إليهم عمر : وأنتم كفّروا أسلحتكم ، كما يكفّرون أسلحتهم ، وقد قال شيخ الإسلام عندما سئل عن لبس الحرير لإرهاب العدو قال فيه قولان للعلماء ، وأظهرهما الجواز ، ويذهب رحمه الله إلى أبعد من ذلك في تقرير مثل هذه الأحكام في الحرب خاصة لوجود مصلحة في ذلك ، رغم ورود النصوص المحرمة لمثله من الأحكام في غير حال الحرب ، ففي كتاب الاستقامة 2(/165) قال " وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين ، أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، بل يصده عن الكفر والفسق ، وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيرا للمؤمنين ، وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما ، ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم ، وأقول إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الأرض ، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في إعانتهم على الصحو ، بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره " ، وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها ، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو ، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ، إذن هذه الأدلة والفتاوى تبين أن للحرب أحوالا خاصة لا يصلح أن نعمم عليها الحكم بأدلة  الحضر ، فما نريد أن نحكم به في الحرب يحتاج إلى دليل ظاهر الدلالة صحيح السند يفيد الحكم ، وحتى ولو كان منهياً عنه في حال الحرب ، فإن النهي لا يكون مطلقاً على كل حال ، لا سيما إذا تعارض مع مصلحة أكبر أو جر ضرراً على المسلمين أعظم ، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريق وقطع الأشجار ونهى عن قتل النساء والصبيان وعندما حاصر بني النضير حرق نخلهم كما في البخاري ، وعندما سئل كما في الصحيحين عن تبييت المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم أجاز ذلك وقال ( هم منهم ) ، بل إن الأمر أعظم من ذلك فلو تترس الكفار بأسرى المسلمين ، ودعت الضرورة إلى قصف الكفار بحيث لو كف عنهم المسلمون ظفروا بهم أو أكثروا فيهم القتل ، جاز رميهم رغم ما يصاب من أسرى المسلمين ، وهذا مذهب الشافعي كما في مغني المحتاج ( 4/224) وأحمد كما في كشاف القناع ( 3/51) وأبي حنيفة كما في شرح فتح القدير ( 5/447-448)  ، كل ذلك من الأدلة والفتاوى تقوي القول بأن حديث الباب يعتبر أصلاً يحتاج لأن يصح بنفسه لا أن يشد بغيره ليفيد تحريم المسألة ، وإذا تعذر ذلك ، فلنا أن نقول في المسألة من الصعب أن نحرمها تورعاً بغير دليل ظاهر الدلالة ، خاصة وأن ذلك ربما يضيع  مصلحة علينا والله تعالى أعلم بالصواب .

الوجه الثالث : إن ما نحن بصدده من إعلاننا أننا نريد مبادلة جيف الأسرى ، ببعض الأسرى من المسلمين ، إن هذا الإعلان إنما هو إعلان مبادلة ، وليس إعلان بيع ، فلو حسن حديث الباب بشواهده فلا يدل على حرمة المبادلة فهذه مبادلة وليست بيع فيها ثمن ومثمن ، قال الشوكاني في السيل الجرار ( 4 / 568) "  وأما قوله ويجوز رد الجسد مجانا فلا وجه للتقييد بقوله مجانا ؛ لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس " . قال السرخسي في المبسوط ( 10 / 137-138 )" قال وسألته أي أبو حنيفة عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين ، وقال أبو يوسف أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى ، معناه أن في غير عسكر المسلمين ، لا آمان لهم في المال الذي جاءوا به فإن للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم ، بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة ". وقال محمد الشيباني في السير( 1 / 249) " قال أبو يوسف وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من المشركين قال أبو حنيفة لا بأس بذلك في دار الحرب في غير عسكر المسلمين ألا ترى أن أموال أهل الحرب تحل للمسلمين أن يأخذوها فإذا طابت بها أنفسهم فهو جائز " ، هذا ما رأيناه من جواز المبادلة ، لأنه لا يوجد دليل على منع البيع فكيف بالمبادلة ؟ ، لذا قلنا بالجواز وعملنا به ، وقد سبق أن بادلنا 14عشر رأساً من رؤوس الروس ، بثلاث جثث من جثث إخواننا ، فمصلحة هذه المعاملة ظاهرة بالنسبة لنا ومنعها بلا دليل قوي مضر لمصلحتنا .

الصفحة الرئيسية