تأديب الرجل زوجته

 

جواز ضرب المرأة (في حالة النشوز) مبني على القرآن والحديث. فيقول القرآن: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" (النساء 4: 23). وقد بذل الفقهاء والكتاب المعاصرون في العصر الحديث قصارى جهدهم في تضعيف مضمون هذه الآية، من خلال تفسيرهم "نشوزهن" بالعصيان والزنا، حيث يكون الضرب الوسيلة الأخيرة لصد المرأة عن هذا العمل الشنيع، إلا أن الفقهاء والمفسرين القدامى كانوا أكثر واقعية وصراحة. فعند الشافعي للرجل أن يضرب امرأته ولكن تركه أفضل. وأما الآية الأخرىالتي يستدلون بها على جواز ضرب النساء فهي: "وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث. إنا وجدناه صابراً، نعم العبد إنه أوّاب" (ص 83: 44). إن المخاطب هنا هو النبي أيوب. روى عن قتادة: "كانت امرأة أيوب عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال: لو تكلمت بكذا وكذا وأن حملها عليها بالجزع. فحلف نبي الله: لئن الله شفاه ليجلدنها مئة جلدة". يقول الجصاص: وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديباً. لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها، ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه. والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت نشازاً بقوله (واللاتي تخافون نشوزهن) إلى قوله (واضربوهن) وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديباً لغير نشوز، وقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) فما رُوي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب، لأنه رُوي أن رجلاً لطم امرأته على عهد رسول الله فأراد أهلها القصاص فأنزل الله (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض). يقول القاضي ابن العربي: "إن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة" ويضيف بالإشارة إلى قول عطاء بأن في ذلك كراهة، إذ روي عن محمد قوله: "إني لأكره الرجل أن يضرب أمته عند غضبه، ولعله أن يضاجعها من يومه".

ولا يجوز أن يكون الضرب مبرحاً كما ورد في حجة الفقهاء عن السنة في جواز ضرب النساء: "عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان، ليس يملكون منهن شيئاً غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح". يقول الصابوني إن قول محمد هذا يدل على جواز ضربها فوق حدود الأدب (7). أما كون الضرب دون التبريح فمعناه "أن لا تكسر لها عظماً أو ضرباً غير مؤثر. مع أنه هناك أحاديث عديدة في كراهية ضرب المرأة يبدو أن الفقهاء والمفسرين في مختلف العصور (حتى في يومنا هذا) اختاروا من بين الروايات ما يبيح ويحبذ تأديب النساء مثل "لا يُسأل الرجل فيما يضرب امرأته". الحديث الذي أكثروا من الاستشهاد به.

وأما متى يجوز ضرب المرأة، أو بعبارة أخرى ما هو النشوز الذي يؤهل الرجل أن يضرب امرأته كآخر وسيلة، ففيه خلاف بين العلماء. و"إن أكثر الفقهاء قد خصّوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش، والخروج من الدار بدون عذر. وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزاً، وقالوا: له أن يضربها أيضاً على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة. والظاهر أن النشوز أعم، فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء. إنه من الغرابة بمكان أن يرى الفقهاء ضرب المرأة كوسيلة شرعية ليجبرها الرجل على المضاجعة ولكن الأغرب من ذلك هو محاولة الكتّاب المسلمين في القرن العشرين تبرير هذه الحجة الشاذة بما يدعون من اكتشافات علم النفس الأوروبي. فالعداء للنساء أو التعصب الأعمى أدى بأحدهم إلى الزعم (وهو ينقل حسب زعمه عن عالم أوروبي) أن المرأة تجد متعة في أن يحكمها الرجل بحكم غريزة الطاعة والانصياع لديها، وإنه كلما يضربها زوجها تزداد إعجاباً به! ولا يُحزن بعض النساء شيء مثل رجل يكون دائماً لطيفاً ودوداً. ويقول محمد زكي عبد القادر إنه يعجب النساء من الرجال من هو "صعب" لكي تكسر إرادتها بإرادته. فمع أنهن يصرخن و .. يحسسن في أعماق نفوسهن متعة الضعف تجاه قوة رجالهن. وكتب أحد الأساتذة التقدميين قبل بضع سنوات: "أما الضرب فهو في حالة إمعان المرأة في النشوز وهي تزرع البؤس في بيتها، ونفوس أولادها وذويها، وفي أعماق زوجها، ولا يظنن أحد أن في الضرب وجهاً وحشياً، إذ هنالك نساء يضربن أزواجهن، ونساء أخريات لا يسمحن بقرب الزوج إلا بعد أن يوجعهن ضرباً، أو يدميهن، وهذا ما أشارت إليه الدراسات البسيكولوجية عن الشذوذ".

يهاجم الإمام محمد عبده من يسميه ب"بعض مقلدة الإفرنج الذين يستكبرون من مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرؤوساً بل محتقراً" فيسأل: "فأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويدهورها من نشز غرورها بسواكٍ يضرب به يدها، أو كفٍ يهوى بها على رقبتها؟ إن كان يثقل على طباعهم إباحة هذا فليعلموا أن طباعهم رقت حتى انقطعت، وأن كثيراً من أئمتهم الإفرنج يضربون نساءهم العالمات المهذبات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم، وملوكهم وأمراؤهم، فهو ضروروة لا يستغني عنها الغالبون في تكريم أولئك النساء المتعلمات، فكيف تستنكر إباحته للضرورة في دين عام للبدو والحضر، من جميع أصناف البشر؟.

ويضيف المصلح الكبير الأستاذ الإمام: "إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة، فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بإحسان، والأحاديث في الوصية بالنساء كثيرة جداً".

ولا يقصر العلماء في التأكد على أنه لا تضرب كل امرأة، فإنه توجد نساء (وهن الأكثرية) لا يحتجن إلى الضرب لتأديبهنّ. على أنهم يقولون إن لضرب المرأة حكمة إلهية وإلا لما كان القرآن الكريم طرحه حلاً للأزمات العائلية، الأمر الذي يجعل رفضه رفضاً حاسماً من المستحيل، فلا يدري المسلم كيف يجب أن يدافع أو يبرر هذا الأمر. فهو يأتي بالشاهد المبرر من الجندية والمدرسة، أو يقارن الضرب بالحروب التي لو لم تكن لما بقي نظام في العالم!

أما غيرهن وهن اللاتي يحاولن الخروج على حقوق الزوجية، ويحاولن الترفع والنشوز عن مركز الرياسة البيتية، بل على ما تقتضيه فطرهن، فيعرضن الحياة الزوجية للتدهور والانحلال، فقد وضع القرآن لردعهن وإصلاحهن، وردهن إلى مكانتهن الطبيعية والمنزلية، طريقين واضحين، مألوفين في حياة التأديب والإصلاح. وقد أساء المتحضّرون من أبناء المسلمين فهم هذا النوع من العلاج، ووصفوه بأنه علاج صحرواي جاف، لا يتفق وطبيعة التحضر القاضي بتكريم الزوجة وإعزازها.

إن الإسلام لم يكن لجيل خاص، ولا لإقليم خاص، ولا لبيئة خاصة، وإنما هو إرشاد وتشريع لكل الأجيال، ولكل الأقاليم ولكل البيئات. والواقع أن التأديب المادي لأرباب الشذوذ والانحراف، الذين لا تنفع فيهم الموعظة ولا الهجر، أمر تدعو إليه الفطرة ويقضي به نظام المجتمع.

وقد وكلته الطبيعة في الأبناء إلى الآباء، كما وكلته في الأمم إلى الحكام، ولولاه لما بقيت أسرة، ولا صلحت أمة. وما كانت الحروب المادية التي عمادها الحديد والنار بين الأمم المتحضرة الآن، إلا نوعاً من هذا التأديب ينتظر المهاجمين. وفي تقدير الشرائع لظاهرة الحرب والقتال "فإن بغَت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين".

والحق مرة أخرى، أن هؤلاء المتأففين من تشريع القرآن في هذا المقام ليسوا إلا متملقين لعواطف بيئة خاصة من النساء نعرفها ويعرفونها جميعاً، يتظاهرون أمامها بالحرص على كرامتها وعزتها، وعلى أن تكون في مستوى لا تعلق به الأبصار إلا على نحو خاص؟".

ولا يتخلّف الكاتب الفيلسوف عباس محمود العقاد عن المصلح الكبير الإمام محمد عبده في حججه إلا صراحة وتنوعاً في الأمثلة، فهو يجيز أن يضرب الرجل امرأته في حالة الغضب لكي يقوّم خطأها. فليس معنى الضرب طبعاً إيجابياً في كل حالة ومع كل امرأة. وإنما يُباح الضرب لأن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره. ومن اعترض على إجازته من المتحذلقين بين أبناء العصر الحديث، فإنما يجري اعتراضه مجرى التهويش في المناورات السياسية، ولا يجري مجرى المناقضة في مسائل الحياة وأخلاق الناس، لأن الاعتراض على إباحة الضرب بين العقوبات لا يصح إلا على اعتبار واحد: وهو أن الله لم يخلق نساء قط يؤدَّبن بالضرب، ولا يجدي معهن في بعض الحالات غيره. ومن قال ذلك فهو ينسى أن الضرب عقوبة معترف بها في الجيوش والمدارس، وبين الجنود والتلاميذ، وهم أحق أن ترعى معهم دواعي الكرامة والنخوة إذا جاء الاعتراض من جانب الكرامة والنخوة. وأن رؤساءهم ليملكون من العقوبات المادية والأدبية، ومن وسائل الحرمان والمكافأة، ما ليس يملكه الأزواج في نطاق البيوت المحدودة.

يمكن أن نلخص "تفكير" العقاد بشأن ضرب النساء أنه توجد بينهن من لا يمكن إصلاحها إلا بالضرب بل توجد العصبيات المريضات اللاتي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب: وقد يهزأ النساء بهذه الحذلقة التي تخلط بين مظاهر السهرات في الأندية وبين وقائع العيش ومشكلات البيوت في ناحية من نواحي الضنك والضرورة، فإن النساء ليعلمن أن عقوبة الضرب عند المرأة العصية الناشزة ليست من الهول والغرابة بهذه الصورة المزعومة في بيئات الأندية والسهرات. فربما كان من أنيقات الأندية والسهرات أنفسهن من يعرفن عن هذه الحقيقة ما يجلهه المتحذلقون والمتزوقون في مجامع اللهو والبطالة بزواق الفروسية و"اللطافة" المستعارة، فيعلمن ويعلم الكثيرون - كما قلنا في كتابنا عبقرية محمد - "أن هؤلاء النساء الناشزات لا يكرهنه ولا يسترذلنه. وليس من الضروري أن يكون من أولئك العصبيات المريضات اللاتي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب".

ويعاني الأستاذ أحمد شلبي من الصعوبة نفسها في فهم المعارضين لضرب المرأة "لا سيما أن الضرب يطبق كوسيلة الاصلاح والتأديب فقط حيث يرجى الخير، وأنه من الحماقة أن يتصور المرء أن ليس للجنس البشري عضو يمكن إصلاحه بالضرب. أو لماذا لا يحتج هؤلاء على عقوبة الضرب في الجندية". لا ندري ما عساهم أن يقولوا لو أخبرناهم أنه أُلغيت عقوبة الضرب في المدارسوالجندية في بعض البلدان، أو أن علم النفس الحديث أثبت أن الضرب لا يصلح بل يدمر نفسية الإنسان، سواء إن كانت ضحيته طفلاً أو امرأة!!