منصـور فهمي
أحـوال المـرأة في الإسـلام
ترجمة .
رفيدة مقدادي
مراجعة :
هاشم صالح
منشورات الجمل
أتمّ، منصور فهمي (1886- 1959) دراسته الثانويّة سـنة 1906 وفاز ببعـثة
الجامعة المصريّة لدراسة الفسلفة فى جامعة السوربون ببارس، حيث أنجز رسالته
للدكتوراه والتى مُنع عـلى أثرها من التدريس، لكنه أعـيد إليه بعـد ثورة 1919.
لم ينشر بالإضافة إلى أطـروحـته التى صـدرت بالفرنسـيّة فى باريس عـام 1913
إلا كـتابًا واحدًا هـو: أبحـاث وخطـرات، دار المعـارف، القـاهرة 1930.
ولدت رفـيدة مقـدادى عـام 1937 ببرلين وتقـيم اليـوم فى القـدس. أتمّت
دراسـاتها الجامعـيّة ببيروت ومارست العـمل الصحافى والترجمـة.
هاشم صالح (1950 ) كاتب ومترجم من سوريا، مختصّ فى الدراسـات الإسـلاميّة،
مقـيم فى باريس.
منصور فهمي : أحوال المرأة في الإسلام
حقوق الطبع
محفوظة لمنشورات الجمل،
الطبعة
الأولى، كولونيا - ألمانيا 1997.
هذه هي
الترجمة العربية لكتاب منصور فهمى:
Mansour
Fahmi: La Condition de la Femme dans la Tradition de L'Islamisme, Paris, 1913
تمهـيد - وضع المـرأة فى عـرف وتطـور الفكر الإسلامى
المقدمة - وضع المرأة
عند العرب قبل الإسلام
شـرّع محمد
القوانين للجميع واستثى نفسه
زيجات محمد
حياة محمد العائليّة
آراؤه و مواقفه المؤيّدة
والعدائية نحو المرأة
آراء محمد المؤيّدة للمرأة
الحجاب والعزلة
التاريخ الديني للحجاب
التاريخ الاجتماعى للحجاب
أبحاث فيلولوجيه ( فقهية لغوية ) حول تاريخ الحجاب
دراسة تاريخية عن العزلة
العبودية في القانون
العبودية في التقاليد والوقائع
تأثير العبوديّة على وضع المرأة
المرأة ومبادىء القانون الإسلامي وتأثيرها الممارس على النظام الأبوي عند
العرب
المرأة وقانون الوراثة
عجز المرأة أمام القانون
القبول أو المواففة
الشروط الواردة التي يمكن أنْ تذكر في عقد الزواج والحقوق والواجبات
المتبادلة بين الأزواج
الطلاق أو فصم العلاقات الزوجية
المهر - الدوطة
الخاتمة - مكانة المرأة في الأدب - نحو تحرير المرأة
خاتمة عامة بقلم: محمد حربىّ
غاية البحث هـذا هو وضع المرأة في الإسلام .
فخاصية حياة المـرأة المُسلمة أذهـلت الأ
وربيين منذ وقت طـويل. فكُتب الأدب تصف خَـْبة أمل المطلقات. وحـياة الحريم. وأمّا
علماء العـِراقة فإنّهم يصوّرون النساء بالجاهلات.
المخـبولات والمستعـبدات لشهـوات الرجل، بينما يُصدم المسافر: الأوربي الذي زار
الشـرق المسلم بالوضع المؤلم للمرأة.
أثناء غـزوته لمصر خاطب بونابرت جـنوده
قائلاً: في مصر تختلف معاملة الرجال لنسائهم عـن معاملتنا لهـن ".
والذي يذهل فعلاً
في وضع المرأة المسلمة هو العزلة المفـروضة عـليها. من
هـنا، أهـمّيّة الدراسات المكرّسة لدراسة العـزلة ومن ناحية أخرى فإنّ موضوع تحرير
المرأة هـو موضوع الساعة في البلاد الإسلامية المتقـدّمة. فقـد شعـر المسلمون
بالحاجة لإصلاح السلوك والأوضاع الإجتماعـية في حـياتهم. ومن ضمن هـذا الإصلاح
إعـطاء الأولوية لمصير المرأة.
وإضافة لأهمية موضوع الساعة، فإنّ عملنا
هذا يمثل اهتماما تاريخيًا: فالبحث الذي قمنا به يؤكّـد أنّ ظاهـرة عـزل النساء لم
تكن فقط بسبب العامل الديني بل هي أيضًا نتيجة السلوك الإجتماعي والفـروقات
الطـبقـية.
أذن - مع أخذ معطيات تعقّـد الأسباب التي
حددت وضع المرأة المسلمة – كان عـلينا تفحّص الأسئلة المختلفة فى الظاهـر ولكن
المرتبطة بصميم موضوعـنا هـذا. الدين، القوانين،
التقاليد، كل هذه العوامل متعلقة في بعضها. ولهذا السبب
كان علينا أن نصرّ عـلى ذكـر عـدّة مواضيع قد تبدو غـريبة أو لا علاقة لها بموضوع
الأطروحة هـذه. وهكذا تكلّمنا مُطـوّلاً عـن زوجات محمد
لأنّها كانت ذات صدى في مجال القانون وأثّرت على سلوك الناس وتقاليدهم: فـذهـنيّة
التقـليد التي شـجّـعت أوائل المسلمين المتحمّسين للقرآن، دفعـتهم أنْ يتّبعـوا
حـرفيًا أمثولة النبي. أي في سـيرته وتصرّفاته التي أعـتبرت موسـومة بدمغة
إلهـيّة. وكذلك سلوك محمد تجاه زوجاته أعـتبر أيضًا كمثل تـقـتدي
به الأجيال القادمة. وهكذا فإنّ فكرة الثبات المقدّسة المدعّـمة بفكرة الإلوهـيّة،
بسبب الضغط الذي مارسته عـلى الضمير، قد أبطأت مسيرة التطور الأخلاقي.
وهـذا البحث، بالنسبة لنا، هـو مناسبة
للإشارة إلى التأثيرات الإيجابية التي أثرت عـلى دراستنا العـلمية: وُلدت مسلمًا،
ونشأت في وسط مسلم وبعـدها جئت إلى باريس لإتمام دراستي. وفي باريس، وتحت إشـراف
الأسـتاذ القـدير ليفي – برول. اكتسبت المناهج الضرورية للبحث الدقـيق. وبحـثنا
هـذا بتوخّى الحقـيقـة ولاشيء آخـر.
وقد يعتب البعض من أهلنا - من دون شـكّ لهـذه الذهـنية
النقـدية - هؤلاء المسلمون الذين يحفظون احتراما دينيًا للتقاليد. ونحن أردنا أنْ نكـون صادقين في عملنا رغم إحساسنا بالتمزّق من
فكـرة جـرح أو أذى الضمير المقصود لهـؤلاء العـزيزين عـلينا.
ومع ذلك يكفي أنْ نفكـّر أنْ الحتميّة غـير موجـودة في
الشخـصيّة الإنسانية وأنّ كل شيء قابل للتغـير حسب الظروف المجتمعة. فنحن في
الحقيقة لا نملك الماضي، وإنّما هـو بالأحرى ملك الأسباب المختلفة التي ساهمت في
خلقه، ولهذا آمـل من أهـلنا
وأصدقائنا أنْ لا يسـتاءوا منّـا وأنْ لايثـير عـملـنا هـذا
ابتسامات السـخرية والتعـليقات اللاذعة بسبب غـرابة دراستنا المطبقة عـلى بعـض
التقاليد والمؤسسات, فلا مبرّر للتهكّـم أو للغضب الذي إنْ دلّ عـلى شيء فهـو يدلّ
عـلى عـقـليّة ضيّقة أو مُغـلقة. فالعالم يتجاهل هـؤلاء لأنّه يبحث عـن الحقيقة. فهل هـناك من شعـب يخـلو من تقاليد شاذّة أو غـريبة، إنّ حكمنا
عليها من وجهة نظر عصرية أو حـديثة؟.
من خلال دراسة الوثائق التاريخية استنتجنا
الوقائع الضروريّة لنمسك بخط العلاقات بينها. وقد أشرنا
إلى بعـض الصلات التي تربط عادة عـزل النساء بنظام العـبودية، فالأولى تريـد
التمييز بين المرأة الحرّة وبين الجارية. وفي كل المؤسسات المختلفه التي تعمقنا في
درسها والتي تشكل القاعدة لعملنا، ذهـلّنا للصلة النسبية بين هـذه المؤسسات. وبالتالي فإنّ هـذا البحث ما هـو إلا " تفاعل داخلي بين
عـدّة عـناصر وأسباب " كما يقـول العالم. رابو، وسيكون الحكم عـلينا أفضل إنْ
أخـذنا بعـين الاعـتبار هـذا المنطلق – تفاعـل مرّكب – الـذي ينطبق جيدًا في عـلم الاجتماع والذي تمّ
إثباته في بحـثنا هـذا. فكلّ قسم يحمل بصمة مجـموع
المؤسّسات التي بنيت على قاعدة واحدة. ومن جهة أخـرى،
كان عـلمنا في المقدمة أنْ نجمع بعـض المعـطيات عن وضع المرأة العـربية قـبل
الإسلام. فسلوك قدماء العـرب لعب دورًا في تكـوّن
المؤسّسات الإسلامية.
هـذه اللمحة الإفـتتاحية تسمح لنا بأنْ
نتعـقـّب، وباهـتمام كبير، الإنحطاط المـتزايد للمرأة المسلمة الذي لم يسـتطع النظام النظري المتضمّن فى القـرآن من
أجل حمايتها أنْ يمنعـه.
وأنْ نذكـر سني الدراسة في السوربون وذكرياتنا
الحلوة في الحي اللاتيني والانتظام المفـيد الذي خلق مـنا عـقـولاً متفـتّحة فإننا
ننتهـز الفرصـة لنقـدّم خالص شـكرنا وتقـديرنا للجامعة المصرية، وإلى سمو الأمير
أحمد فـؤاد الذي شـجّعـنا كـثيرآ، وأرتن باشا، والبرو فسور ماسبييرو الذي عـرّفـنا
إلى البروفسور لفي برول الذي أظهر اهـتمامًا كـبيرًا بعـمـلنا.
ولقد أشـرنا سـابقًا للتأثير
الإيجابي الذي مارسه ليفي برول عـلى تطـوّرنا العلمي ولهذا نحن له شاكرون.
و شكرًا أيضًا للسيد Picaet الذي اهـّتـمّ في الماضي في عملنا لنيل الدبلوم.
وأخيرآ لا ننسى البروفسور Snouck-Hurgronje المستشرق الهـولندي اللامع لنصائحه المفـيدة أثناء
إقـامتنا في Leyde وعـرفاننا بالجميل لمكـتبة هـذه البلدة.
منصور فـهمي ( باريس 1913 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ا ) مراسلات نابليون الجزء اللأول ص . 2 9 ا - 183
( 2) رابو : التحويل
والخبرة ص10
إنّ الرجوع إلى تاريخ العـرب ما قـبل الإسلام هو للبحث
عـن دلائل متعلّـقة بوضع المرأة وإسهام للتنوير عن وضعها في الأزمنة بعـد الإسلام،
وبكلمة أخرى، ربط الماضي بالحاضر بتلك الاستمرارية غـير المرئيّة التي توحـّدهما.
وأخيرًا إنّ الرجوع إلى الماضي هـو لتأكيد وإثبات ما يقـوله لفي برول: " إنّ
العادات المتأصلة في أفكارنا وعـواطـفـنا، وآلاف الروابط غـير المحسوسة التي
تربطـنا بماض نعـتقد أنّه انتهى، هـذه العادات شئنا أمّ أبيْنا تجعـلنا دائمأ نصب
النبيذ الجـديد في الأقـداح القـديمة ونضع الأفكار الجديدة في البراويز
القـديمة"(1).
إذا ما عـدنا في الزمن إلى الوراء بقـدر ما
تسمح لنا الوثـائق بذلك وجـدنا أنّ الكتب المقـدّسة، وكـتب الشـعـر، والأمثلة
والأساطير وحصيلة الدراسات الفـلسـفـية تمكّننا من تحديد مصير المرأة في المجتمع
العـربي الذي وُلـد فـيه الدين الإسلامي، حيث شيّد وتبلور، فـتاريخ ما قبل الإسـلام
هـو تاريخ تمهـيدي، عـبارة عـن رواق أو مدخل إلى زمن محمد وخلفائه (2). وإنْ يبدو
الإسـلام ثورة أحـيانًا، لاغـيًا بعـض العادات أو بانيًا مؤسّسات جديدة في المجتمع
الذي وُلد فيه فإنّه يؤكّد بجلاء، أنّ بين الاختلافات والمعارضات وجود عدد كبير من
السمات المشتركة لتأمين الاستمرارية بين العادات العـربية والمؤسّسات الإسلامية.
فالعمل الثوري الذي غـيّر الجزيرة العربية بمجيء محمد يكشف
عن اتجاهين: الأوّل هـو الرغبة في تدمير الماضي كلّه والثاني هـو الرغبة في الحفاظ
عـلى الشواهـد.
هذه النزعة الثنائية
تركت دمغة حتمية عـلى الأعـمال التي تبدو لأول وهلة، أنّها حدثت فجأة. ولكن
العادات العربية كانت نفسـها مختلفة ومتباينة حسب الحقـبة الزمنية من تاريخ العـرب
القديم. أو المناطق التي سـكنتها القـبائل وحسب الطبقات الإجتماعية.
يروي التاريخ لنا تقاليدًا، عـادات
متغـيّرة مُشـوّهة ومغـمورة، فتظهر لنا متناقضة، ولكن هـذا لا يُدْهـشـنا أنْ
تذكّـرنا أنّ الجزيرة العـربية الصحراوية القديمة كانت ملتقى للحضارات القـديمة. فـإسماعـيل، مثلاً، الذي تاه في الصحارى العـربية، والملكة سبأ
التي تذكـر الأساطير علاقاتها مع الملك سليمان، ومجـوس الفـرس، وجيوش الحبشة، كل
هؤلاء ما كانوا إلا صـدىً بعيدًا يبرهن عـلى أنّ الجزيرة العربية لم تكن معـزولة
عـن بقـيّة العالم القـديم.
وفيما يتعلق بموضوعنا هذا، تستطيع الأساطير القديمة أنْ
تلقي الضوء عـلى مفهـوم فكـرة العائلة عـند العـرب القـدماء أو مفهـوم المؤرّخين
لها.
تصف الأساطير، في تاريخ العرب، وادي
مكة.مهـدًا بدائيًا للسلالة العـربية، واسماعـيل ابن إبراهـيم هـو الجـدّ الأوّل
لهذه السلالة ورواية زواج اسـماعيل وحياته العائليّة تعـطينا صورة عـن العائلة
العـربية القـديمة، عـلى الأ قـل في ذهنيّة مؤرّخي الإسلام (3).
ذهب ابراهيم في زيارة لابنه اسماعـيل بعـد
مرور سـنة عـلى زواجه. وعـند وصوله باب منزل ابنه يلتقي بامرأة. " من
أنت؟" سأل إبراهـيم. " إنني امرأة اسـماعـيل " أجابت المرأة. سألها
" أين اسـماعـيل؟" قالت " ذهـب إلى الصيد " قال ابراهيم
" إنني ضائع، جائع هـل لك أنْ تطعـميني؟" أجابت امرأة اسـماعيل "
هـذه بـلد صحراوية وليس عـندي ما أطعـمك " لم يكن إبراهـيم جائعًـا وإنّما
راد أنْ يمتحن زوجة ابنه وقبل أنْ يغادر المكان قال لزوجة ابنه" " إنني
ذاهب، ولكن أخـبري زوجـك عـند رجـوعه بزيارتي وصفي له ملامح شخصي وقولي له أنني
اطلب منه أن يُغـيّر عـتبة باب بيته. فهم اسـماعـيل مغـزى نصيحة والده إبراهـيم
وطلّـق امرأته وتزوّج امـرأة ثانية - ابنة المدحذج. وبعـد زمن قصير يرجع إبراهـيم
البطـريرك إلى منزل ابنه فـرأى إمرأة جميلة " من أنت؟ "
سأل. فأجابت: " أنا امرأة اسـماعيل" " أين اسماعـيل؟" سأل أجابت: " ذهـب إلى الصيد " أراد
إبراهـيم أنْ يمتحنها كما فعـل مع الزوجة الأولى فطلب منها أنْ تطعـمه.
جلبت إمرأة اسـماعـيل الحليب، اللحمة
والتمور، واعـتذرت عـن عـدم وجـود الخبز. أكل إبراهـيم
وبارك الطعام المقـدّم له متمنيًا وفـرة الأصناف الثلاثة في المنطقة. وعـند
انتهائه، دعـته زوجة اسـماعـيل لأن يغـسل لحيته ورأسه الملئ بالغبار.
غـادر إبراهيم مسرورًا وقال لزوج ابنه:
" صـفي لزوجك ملامح شخصي وقـولي له بالنيابة عـني، إنْ عـتبة باب البيت صالحة
وجميلة" فهم اسـماعيل كلمات أبيه وعاش حـياة سعـيدة مع زوجته التي أنجبت
كثيرًا من الأطفال فأداموا ذريته.
هـذه الأسطورة التي ترجع إلى تاريخ قـديم
جـدًا، تمـثّل في جوهرها عـنصرين متواجدين في سلوك وتقاليد العـرب القدماء، فمن
ناحية تُمثّل سلطة ربّ العائلة عـلى زوجته ومن ناحية ثانية، وبرغم هـذه السـلطة،
فإنّ دور المرأة الاجتماعي لم يلغْ بسبب هـذه السلطة فدورها موجود إذ كانت تستقبل
الضيف، تتكلم وتبحث وتتصرف في غـياب زوجها.
يُشـير تاريخ الأزمنة القديمة في كل مكان، أنّ ربّ العائلة
هـو السيّد المطلق الذي أمام سـلطته يخضع له جميع أفراد العائلة من النساء
والأطفال. ولا شكّ أنّ سلطة الأب هـذه قـد أنقصت من شأن المرأة، لأ ن الأب كان هـو
الذي يحسم القـرار في زواج ابنته (4).
فالزوج هـو الذي يهيمن، وسـلطـته، لأنه ربّ
البيت، لاتعـرف حـدودًا إلا عـواطفه وحسن معاملته. والأكثر
من ذلك فإنّ المرأة، مبدئيًا، أزيحت وحل محلها الوارثون الذكور، وفيما بعـد جاء
الإسلام أعـطاهـا حصتها من الميراث – قسمـًا منه -.
عـلى الرغـم من وضعها المتدني، نظـريًا،
فإنّ المرأة كان لها وجود، كانت تتكلم، وتفكّـر وتتصرف. يشهد التاريخ بعـدد من
الوقائع التي تذكر تفوق ونشاط المرأة العربية القديمة. فكانت تشارك في الغـزوات(5) وتعمل في التجارة (6) ولها الحـرية
بأنْ تعـتنق الدين الذي يناسبها دون أنْ تتبع إرادة زوجها سـلبيا(7). وإنْ قارنا
دور المرأة المزدوج في
تاريخ العـرب القديم ودور المرأة الآن في المجتمع الإسلامي، يمكننا أنْ نقول مع
رينان بأنّ " المرأة العربية في زمن محمد لاتشبه مطلقا هذا الكائن الغـبيّ
الذي يسكن قصور الحريم في عهد العثمانيّين "(8).
كانت المرأة العربية القديمة جميلة لأ ن
دورها كان فعالاً، إيجابيًا. كانت تعـيش.
فيما بعـد جاء الإسلام (9)، بمؤسساته
المختلفة، وقوانينه التيوقراطية والعواقب التي أسفرت عـنها، جاء وغـيّر المفاهيم
والسلوك وهكذا شُلّت حركة المرأة.
وعـلى الرغم من أنّ محمدًا أراد حمايتها
إلا أنّ الإسلام ساهم في انحطاط المرأة. هـذه الحقيقة التي تبدو متناقضة لها ما
يفسرها. فالمرأة في الأزمنة القديمة كانت محميّة الرجل، كانت تعـتبر في نفس الوقت
أدنى منه، ولكن عـندما يكون الرجل هـو ربّ العائلة أو البطريريك، فإنّ المرأة التي
هي أمّ أولاده كانت تستطيع أنْ تظهر إنْ صحّ القول، ملكة البيت العائلي.
يحميها الرجل ويحترمها(10) في آن واحد، والأكثر من ذلك لم
يكن الرجل يقصّر في تنظيم وضع شريكته - المال - حسب عـواطفه نحوها.
ولكن عندما تحوّل المجتمع العـربي من نظام
أبـوي إلى نظام ملكي، حيث أعـطى الحاكم نفسه مهمّة نشر العـدالة حسب قوانين ثابتة
وصارمة أو صادرة ومفروضة من الله، وجدت المرأة نفسها مُجْـبرة عـلى بعـض الواجبات
التي لم تسـتطع أنْ تحلم، حتى مجرد حلم بالتخلص منها.
فقبل مجيء الإسـلام، كانت المرأة خاضعة
لسلطة الأ ب أو الابن أو الزوج، وهـذه السلطة، كما قلت سابقـًا، كانت تُلطفها
المحبة والعاطفة. أمّـا الآن، ومع الإسلام، فقد وجدت
المرأة نفسها خاضعة لسلطة الله، الله العادل، الذي حسب عدالته الفائقـة، راح يصفع
المرأة بالدونيّة.
فالمرأة قبل الإسلام هي
غـير المرأة بعـده. فالأ ول كانت تلعـب دورًا اجتماعيا، بينما الثانية أصـبح دورها
محـدودًا في بيت العائلة. وبالغ بعـض المسلمين
الأخلاقيّين في هـذا الدور بقولهم إنّ البيت يجب أنْ يكون عمل المرأة الوحيد وأنّ
عـليها أنْ تـنزوي فيه.
المرأة عـند العرب القدماءء كانت مرتبطة
عاطفيًا بعائلتها أكثر من عائلة زوجها، وبالنسبة لها فان مكانة الأخ هي أهـمّ
عاطفيًا من الزوج.
المثل السائر يفسر هـذه الظاهرة بوضـوح:
"مـوت الأ خ لايُعَـوّض، فهـو ليس كالزوج الذي يمكن إيجاده أو الطفل الذي
تمكن ولادته "(11).
ربما كانت هـذه السمة المميزة هي إحدى مخلّفات نظام الزواج اللُحمي، الذي انتقل فيما بعـد إلى
الإسلام. هذه الطبيعة البطريركية لم تستوعـب أبدًا تلك
العاطفة التي قد تستطيع اقتلاع امرأة من الحنان المقتصر عـلى العائلة فقط. نقرأ،
في كتاب الأ غاني، قصة المحارب الوسـيم - من قبيلة يشكر - الذي في غـزوة ضد قبيلة
تميم، خطف فتاة شابة نبيلة، وذهب عـمّ الفتاة يطالب المحارب باسترجاعها لقاء
فـدية. أعـطى المحارب الخـيار للفتاة الأسـيرة أما أنْ تبقى معه
أو تلتحق بعائلتها. واختارت الفتاة المحارب الوسيم الذي
سـرق قلبها.
رجع عمّ الفتاة
الأسيرة الجميلة إلى عـشيرته ساخطًا من ضعـف الجنس الذي يقبل هذا الاختيار.
وتملّكه الغـضب فأمر بدفن ابنتيه الصغيريتين وحلف نفس المصير إنْ جاءته ابنة ثالثة
أو رابعة في المستقبل. فالواقع إنّ اعـتماد المرأة عـلى
عائلتها عـلى حسـاب - ضرر- علاقاتها الزوجية كان يضمن لها الحماية ضد تعسف الزوج.
فسلوك الزوج اتجاه زوجته كان يتحدد من خلال علاقته مع أهلها. إذ كان يخشى سـلطة
أهلها، وقوّتهم أو ضعفهم كانت تفرض عـليه موقفـًا تجاه
زوجته(12). وقد لزم مرور وقت طويل لكي يخف ارتباط المرأة
بقبيلتها، وتقوى علاقتها بزوجها.
هذه العقليّة، وإن خفت مع مرور الزمن، إلا أنّها انتقلت
من المجتمعات الأبويّة إلى المجتمعات الملكيّة في الإسلام، مع سمات متعـدّدة
للاستمراريّة.
أما الطلاق أو حل الزواج، فكان يتم بطرق متعـدّدة:
تُشـير بعض الوثاثق أنّ المرأة العربيّة كانت تستطيع أنْ تطلّـق زوجها (13) وبعضها
الآخر يقول أنّ الزوج وحده له الحقّ بأن يطلّق زوجته وأنّه أحيانًا كان يستغـلّ
هـذا الحقّ. ولكن في بعـض الأحيان تصف لنا كتب الأ دب بأنّ المرأة كانت سيّدة
نفسها، وتختار زوجها، ولها الحقّ بأنْ تهجره عـندما يناسبها ذلك.
وإذا كانت المرأة العربية القديمة قاصرة أمام سـلطة الرجل
إلا أنّها كانت لها الكفاءة أن تتحلّى بشخصيّة تمكنّها أنْ تستفيد من وسطها
الاجتماعيّ.
نظريـًا، أراد محمد أنْ ينهض بشأن المرأة،
هـذه التي بمفاتنها، أثّرت عـلى إحساسه الشاعـريّ، إلا أنّ الإسلام عـلى نقيض
نواياه حطّ من مكانة المرأة. صحيح إنّ الإسلام حمى
النساء من تعـسّف وظلم الرجل، ولكنه خنقهُنّ بجعـل تبادل العلاقات بينهُنّ وبين
المجتمع صعـبًـا جدًا والنتيجة كانت أنّه انـتزع منهنّ الوسائل نفسها لكي يستفدن من
حمايته.
أما ظاهرة هـذه العـزلة الشاذة التي ساهمت
كثيرًا في انحطاط سلوك المسلمين ، فلا نستطيع كتابة
تاريخها بشكل جـد مرضٍ.
تشير بعض الوثائق، عـلى الأقـل في بعـض المناطق أنّ
استعـمال الحجاب لم يكن معروفـًَا أو بعـضها بالعكس يشير أنّ عادة استعـمال الحجاب
يرجع إلى حقبة قديمة من الزمن. وفي هـذا الصدد يقول المشـنا " إنّ طـريقة
التدثـّر- التحجب – التي لاتطابق الطريقة العـربية لاتستحقّ بأنْ تسمّى بـ "
عملية التحجب "(14). واستعـمال الحجاب لم يكن
شاملاً، ولدينا الوثائق التي تشير بالتأكيد إلى أنّ النساء في تلك الحقبة الزمنيّة
وفي مجتمع محمد لم يخضعـن لاستعـمال الحجاب. ومن دون
شـكّ فإنّ عادة الحجاب أخـذت، مع مرور الزمن، تُعـمّم وتوطـد مع تقـدّم الإسـلام.
في كل مكان حيث تأكدنا من عادة الحجاب في
تاريخ سلوك المرأة العربية أو المرأة المسلمة، تأكدنا أيضًا من أنّ الجاريات –
العـبدات - كنَّ مستبعـدات من اسـتعـماله وأنّ شـرف اسـتعـماله كان محفوظًا
للطبقات الراقية، توجـد هـنا عـلاقة بين مسألة الطبقات الإجتماعية ومسألة العـزلة
( أي عـزل المرأه )، وسـنرى فيما بعد الوثائق التي تبرهن عـلى ذلك.
ونضيف أنّه من الصعب عـلينا
اسـتقراء أصـل هـذه العادة. فهي، كمنشأ كلّ الظواهـر الإجتماعية تقريبًا, دفنت في
ظلام الزمن. ومع هـذا.نستطيع أنْ نقـدّم الفرضيّة
التاليّة. في مجتمع العـرب القـدماء، غـالبًا ما كانت
تتكـرّر الحـروب بين القبائل وكانت المرأة تُخطف كغـنيمة ثمينة، فكان عـلى الرجل
أنْ ينتبّه ويحـترس لحمايتها. فكان يضعها في ملجأ محصّن
صعـب الوصـول إليه من قـبل العـدو. فكان يغـلق عـليها ليوفّـر لها حماية أفضل -
وهناك أسباب فلفسـيّة لامجال لذكـرها هـنا تؤكّـد هـذه الفرضيّة.
من ناحية ثانية، فإنّ الجاريات، بطبيعة
وضعهن كنّ مجـبرات عـلى القيام بأخـس الأعـمال، أمّـا الأخريات الحـرّات فكنّ
معـفيات من هـذه الأعـمال، بفضل وجود الجاريات اللاتي كن عـلى اتصال بالعالم
الخارجي وحارسات الخيم.
وهكذا، ولدت فكرة عـزل النساء من جرّاء المفاهيم الحربية للقبائـل، وتوطدت مع الإسلام، وتطـوّرت
في تلك الأوساط التي كانت عـقليتها مهيّأة لأنْ ترى في المرأة شخصية سـفـلية
ومنبعـًا للدونيّة. في بداية أيام المسـيحيّة، تشكلّت الأسطورة ذات الأصـل المسيحيّ والتي تعـمّمت - لسوء حظ
المرأة - في البلاد المسيحيّة التي بدورها هيمن عـليها الإسلام (15).
وهذا ملّخص الأسطورة:
يغادر أرخيليدس وهـو شاب في مقـتبل العـمر،
مدينة القسطنطينيّة إلى مدينة أخـرى ( بيروت أو الإسكندريّة ) ليلتحق بالدير حيث
يريد أنْ يمضي حياته كراهـب. وقد حلف هـذا الشاب الراهـب أنْ لايرى امرأة في
حياتـه. وتعـرف أمّه بالصدفة أين تجده بعـد فترة انقطاع
أخباره عـنها. تصل الأم إلى الديـر وتطلب من بوّاب الدير أنْ يأذن لها بالتكلم مع
ابنها الراهب أخيليدس. يرفض الراهب أنْ يرى أمّه لأ نه نـذر أن لايـرى امرأة.
تصـرّ الأ م عـلى رؤية ابنها ويعـد الراهب أنْ يسـتقبلها حالما ينتهي من صـلاته.
ويترك البواب الراهـب لكي ينهي صلاته ولكن عـندما يرجع إليه يجـده جـثة هامدة.
تدخـل الأم، وعـندما ترى جـثة ابنها، تموت بدورها.
لا شك أنّ نذر الراهب أنْ لايرى امرأة في
حياته هو نتيجة الاحتقار للمرأة الذي نجده مكررأ في الأدب المسيحي القديم والذي
يفسر لسببين :
1 - إنّ روايات العهد القديم - التوراة تنسب إلى حـوّاء أصل الخطية في تاريخ البشرية.
2 - النزعات التقـشـفية التي كانت منتشرة
بين أوائل المسيحيّين والتي كانت عـدائيّة للعـواطف أو الغـراميّة التي تلهمها
المرأة.
وأخيرًا فيما بعـد: أي بعـد انتصار
الفـتوحات الإسلامية ذبلت شخصيّة المرأة العـربيّة النشيطة وتلاشت قيمة وزنها
الاجتماعيّ. إنّ المؤسّسات ذات المصادر المختلفة، كتعـدّد الزوجات،
والارسـتقراطيّة، والتيوقراطيّة، كل هذه العوامل تضافـرت لتساهم في مهانة المرأة
التدريجيّة.
وموضـوع بحـثنا هـو دراسة مجموعة هـذه
التأثـيرات المتضافـرة.
1ـ انظر: ليني برول ، أخلاق وعـلم السلوك ص 191 باريس 1907 بالفرنسية Levy-Bruhl, La
Moral et la science des moeurs, Paris. 1907.
2 ـ كوسان دوبيرسيغال: مقالة
حول تاريخ العرب ، 1902 ، ج 1 ، ص 9.
3 ـ المسعودي
: مروج الذهب، باريس ج 03ص97.
4 ـ فلهاوزن، 1893.
وانظرأيضآ البستاني، ترجمة الإلياذة، القاهرة، مطبعة الهلال، ص 559.
5 ـ وهذه هي حالة خديجة،
زوجة محمد، انظرص 8.
6 ـ ابن سعـد: الطبقـات، ج8، ص 237.
7 ـ مجلة كلا العـالمين،
ديسـمبر 1951، أرنسـت رينان، محمد وأصـول الديانة الإسـلامية، ص 1059.
8 ـ أن مصطحلى المحمـديّة
والديانة الإسـلاميّة يدّلان عـلى شـيئين مخـتلفـين من وجهة نظـرنا فالأوّل يدلّ
عـلى عـقـيدة محمد فى نقـائها الأوّلى، والثانى عـلى العـكس يدلّ عـلى مؤسّسات عـديدة
من أصـول شـتى والتى اتّخـذت بمـرور الزمن هـيبة القـوانين المقـدّسـة.
9 ـ أنظـر كـودارى: درس فى
التاريخ الإسـلامى، القـاهرة، 1911، ج1، ص26.
10 ـ البستانى: مصدر مذكور
سابقًا، ص280.
11 ـ الأغـانى، ج19، ص 143.
12 ـ بيرون: النسـاء
العـربيات، باريس، فصل16، ص14.
13 ـ Mold quaton, fol.
24a, 1.24
14 ـ البستانى، مصدر سـابق،
ص 214.
15 ـ انظـر هـذه الأسـطورة التى نشـرها السيّد فنسينك، الأستاذ فى
جامعـة ليدن.
فبينما يقدّم الدين المسيحيّ بطله يسوع في
إطار مقدس . طبيعة فوقيّة عن البشر، فإنّ
الإسلام يقدّم نبيه في شكل مختلف. فهو إنسان بكلّ ما في الكلمة من معنى: رجل حسّاس طيّب. رجل ذو نزوات وعواطف
ورجل اجتماعي من الطراز الأوّل. لكن محمد، الرجل الذي سنّ القوانين ليخضع نفسه
والآخرين لها منح لشخصه بعض الامتيازات. ففي اللحظة التي كان يسترجع وعيه فيها
أدرك محمد أنّه من الصعب عليه أنْ يُلزم نفسه بالقوانين الصادرة عن الله ومع هذا
كان عازمًا كرسول أنْ يفرض هذه القوانين على الأمّة التي أراد تأسيسها، وبسرعة وجد
حلأ للمعضلة: احتفظ للرجال المبشرين برسالة سماوية: حق التمتع بامتيازات لاتتمتّع
بها عامّة الناس.
فمحمد الرجل - باعتباره رجلاً كبقيّة
الرجال - لم يتخلّ عن امتيازات الأنبياء. هذه الامتيازات ساعدته في تبرير تصرّفاته كرجل فمثلأ " أخبرنا محمد بن عمر حدثني أسامة بن زيد
الليثي عن صفوان بن سليم قال : قال رسول الله صلعم لقيني جبريل بقدر فأكلت منها
وأعطيت قوّة أربعين رجل في الجماع "(1) وهذه الامتيازات التي منحها محمد
لنفسه عند سنّه القوانين امتدت لتشمل إلى حدٍ ما كل فصول القانون.
مثلآخـر: فبعد أنْ نام محمد نومًا
عميقًا استيظ وأدّى صلاته دون أنْ يُجدّد وضوءه، بينما جميع المؤمنين كانوا ملزمين
أنْ يتوضؤا مجددًا بعد النوم. يقول محمد بهذا الصدد مبررًا فعله: " إنّ عيني
تنام ولاينام قلبي ولذلك كان ينام حتّى يسمع فحيحه ثمّ يصلّي من غير أنْ يتوضأ
"(2). وحى أثناء شهر رمضان كان محمد يسمح لنفسه بأنْ يُداعب زوجته عائشة
بينما منع هو العلاقات الجنسية للمؤمنين في شهر الصيام " كان يقبل وهو صائم…
سئل عن رجل قبّل امرأته وهو صائم فقال قد أفطر " (3). ووجدت السنّة تبريرًا
لصرف محمد فقالت " إنّ قبلات محمد خالية من الشهوة
".
طالب محمد الأزواج المتعدّدي الزوجات
بالعدالة بين زوجاتهم .
هذه القواعد الدقيقة في المساواة بين
الزوجات كانت غايتها الحدّ أو الحصر من تعدديّة الزوجات.
هنا أيضًا لم يتّبع محمد هذه القوانين ولم يطبّقها على نفسه. فنظريًا
مبدأ العدالة بين الزوجات مذكور في القرآن (4) ولكن عمليًا لم يعامل محمد زوجاته -
أمهات المؤمنين - على قدم المساواة (5). فزوجاته أرسلن يومًا
فاطمة - إحدى كريمات محمد - في مهمّه حسّاسة إلى أبيها النبي. قالت فاطمة لأبيها :
" زوجاتك يطلبن منك أنْ تعاملهن كمعاملتك لعائشة " . كان من الصعب على
محمد - الذي كان مغرمًا كثيرًا بعائشة - أنْ ينحني أمام
رغبات زوجاته. ألم يُنعم الله على محمد مقدّمًا العفو عن كل أخطائه التي يرتكبها
فى منزله مفضّلاً زوجةً منهن على الأخريات؟ . ومع هذا كان مجمد منصفًا
شكليًا معهن (6). فكان يوزّع وقته بشكل عادل بينهن ولكن قلبيأ لم يدافع عن نفسه
لميله وحبّه لعائشة، فواجه ربّه مبرّرأ موقفه قائلاً: " هذا قسمي في ما أملك
ولا تلمني فى ما تملك ولا أملك " (7). وبعبارة أخرى فإنّ محمدًا سيد وقته وأملاكه يستطيع أنْ يقسّم وقته وما يملك بالعدل بين زوجاته
بينما القلوب هي ملك الله فلا يستطيع إذن أن يسيطر على عواطفه، فهو الذى حدد تعدد
الزوجات للآخرين استثنى نفسه من ذلك . فالرجل المسلم لايحقّ له أنْ يتزوّج أكثر من
أربع زوجات. وكل زواج يجب أنْ يعقد بوجود شهود ودفع
المهر للزوجة (8). وأمذا محمد فإنّه تزوّج أكثر من أربعة واعفى نفسه من الشهود
والمهر.
وفضلاً عن ذلك فإن هذه الامتيازات النبويّه
لم تكن وقفًا فقط على شخص النبي وإنّما تعدّته إلى عائلته(9)، فزوجات النبي لسن
كبقيّة النساء. " يا نساء النبي لستُنّ كأحد من النساء، أنْ إتقيتُنّ فلا
تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقُلّنَ قـولاً معروفًا. …وما كان لكم أنْ
تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده "(10) " يا نساء النبي من
يأت منكن بفحشة مُبينه يُضعّف لها العذاب ضعفين وكانّ ذلك على الله يسيرًا. ومن
يقنُت منكن لله ورسوله وتعمل صلحًا نؤتها أجرها مرّتين واعتدنا لها رزقا كريمًا
"(11).
ا - الطبقات ابن سعد الجزء
الثامن ص 139Edition
de Leyde
2- ابن قتيبة طويل مختلف
الحديث ص 309 القاهرة.
3- نفس المصدر ص 308
4- " ترجيء من تشاء
منهن وتؤوي من تشاء " القرآن سورة 33.
5- الطبقات
، ابن سعد، حصن الأسوّة.
6- حصن الأسوّة، طبعة
اسطمبول ص 57
7- القرآن سورة الأحزاب.
8- سراح ابن هشام، طبعة
غوتنغن 1860 ص153.
9- نفس المصدر ص 153
10- نفس المصدر ص 154
11-
نفس. المصدر ص 154.
ولنلق الآن نظرة على زيجات النبي ونراقب
تصرفه في البيت الزوجي والمشاحنات البيتيّة فهذه تُعطينا صورة دقيقة عن موقفه
ونوعية نظرته إلى المرأة.
فىالخامس والعشرين من عمره وقبل رسالته
السماويّة وكان، ما يزال يعمل تاجرًا، عقد محمد أوّل زواج له. تزوّج من خديجة
الأرملة الثريّة التي كانت تكبره بخمسة عشر عامأ؟(1). فى ذلك الوقت كان محمد يعمل
لديها مسؤولاً عن أعمالها التجاريّة وقد سلّمته إدارة أربعة جمال (2).
أعجبت خديجة بنزاهة محمد وأخلاقه وطلبت منه
أنْ يتزوّجها.
أنجبت خديجة ابنتهما فاطمة وأطفالاً آخرين -
يختلف الرواة في عددهم - ولكنهم لايختلفون بأنّ خديجة كانت الزوجة الوفيّة المخلصة
له.
فى سنّ النبوّة - أربعون عامًا - كان محمد
يحبّ الانفراد بنفسه وغالبًا ما كان يذهب إلى الوديان البعيدة باحثّا عن العزلة.
وفي يوم وكان بعيدآ عن بيته، تقول الأسطورة، يرى النى في عزلته الملاك جبريل الذي
يحجب عنه الأ فق(3) " جعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا انظر في ناحية
منها إلا ورأيته ".
قلقت خديجة لغياب زوجها الطويل وأرسلت من
يبحث عنه. ويرجع محمد إلى البيت ويجلس بقرب زوجته متكئًا عليها - حتى أتيت خديجة
فجلست غلى فخذها مصغيا إليها (4)، يحدثها عن الرؤية السماويّة التي أُنْعِمَت
عليه. لم ترغب خديجة في معاكسة زوجها في أفكاره فتذهب لتستشير ابن عمها الذي كان
يُعْـتبر ماهرًا في تفسير الرؤى. وهذا يُبشّرها بمستقبل النبي لمحمد. وهكذا تروي
لنا السنّة ما جرى بين محمد وخديجة " أي ابن عم أتستطيع أنْ تُخبرني بصاحبك
الذي يأتيك " (5) وفي يوم وبحضور خديجة يرى محمد الرؤية السماويّة ويصرخ:
" خديجة! هذا هو جبريل "(6) " تعال يا
ابن عمي! - تقول خديجة - وإجلس عل ركبتي اليسرى ". يجلس محمد على ركبة خديجة
اليسرى. " هل ترى الآن الملاك؟ " تسأل خديجة زوجها في صوت رخيم. "
نعم يجيب النبي" "غيّر مكانك وإجلس على ركبتي اليمنى؟" تسأل خديجة
ويجيب محمد بالايجاب. وهنا تخلع خديجة ثيابها وتلتصق بزوجها الطيب وتسأل "هل
ما زلت ترى الملاك؟" وفي هذه المرة يجيب محمد بالنفي. تبتسم خديجة وتستنج أنّ
رؤية محمد ذات سمة سماويّة وليست شيطانيّة وتقول لزوجها: " قالت يا ابن عم
اثبت وإبشر فوالله إنّه لملك وما هذا بشيطان" (7).
هذه الأسطورة إنْ دلّت عل شيء فهي تدلّ بوضوح على نظرة
الأدب الإسلامي إلى العائلة المثاليّة المبنيّة على أسس المحبّة والعواطف
المتبادلة والمشاركة بين الزوجين. والحقيقة أنّ النبي كان يذكر خديجة بكثير من
الخشوع والقدسيّة. فهي التي وقفت إلى جانبه تقوّي إيمانه المهزوز تعاسة في بداية
رسالته. ومحمد العارف للجميل كان يتغَنّى بفضائل زوجته النبيلة قائلاً: "
أثرتنى خديجة عندما كنت فقيرأ وخديجة صدقتنى وآمنت
بي عندها اتهمني الآخرون بالكذب، وبقيت إلى جانبي عندما لعنتي الأمّة. وكلّما
تألّمت أكثر أحبتني أكثر " والحقيقة إنّ خديجة تبدو لنا بعيدة كل البعد عن
الزوجة الرازحة تحت عبوديّة ربّ الأسرة المستبد. فهى الندّ الكفوء لزوجها تنصح
زوجها وترشده أحيانًا.
وحرّية المرأة تتجلّى بوضوح عندما نرى
خديجة تخرج مع زوجها بصحبة ابن عمهما الشاب على (8) للتضرع فى الكعبة إلى آله محمد الأسمى.
كانت خديجة الصديقة المخلصة للنبي في زواج دام خمسة وعشرين عامأ. وموتها سبّب ثورة
في حياة محمد. فنراه يعقد زيجات عديدة بعد وفاتها، الشيء
الذي يدلّ على تغـيير عميق في شخصه المعنوي وطبيعته.
فالني الذي تألّم كثيرأ إثر موت زوجته
الأولى خديجة " كانت أمّ العيال وربة البيت " (9) كما كان يُسمّيها، لم
يستطيع انْ يصبر شهرأ واحدأ دون زوجة وسريعًا يعقد قـرانه على سودة الأرملة العجوز
التي لم يكن راضيًا عنها وأراد أنْ يُطلّقها في الحال إلا أنّ سودة كان لها من
حدّة الذهن انْ استطاعت أنء تحتفظ بمكانتها كزوجة للرسول إذ توسّلت إلى زوجها
القديس لكي يدع لها الشرف في أنْ تبقى زوجته حتّى تحمل اسمه في اليوم الآخر. إلا
أنّ محمدّا لم يكن مستعدًا أو راغبّا أنْ يُبقيها زوجته لإرضائها في اليوم الآخر
وهكذا اتفقا على الآتي: مقابل أنْ تبقى زوجته قبلت سودة أنْ تتخلّى عن حقوقها
الزوجيّة - المغازلة أو المضاجعة - لصاح عائشة - زوجة محمد المفضّلة. هذا المشهد في الحياة الزوجية للني له أهمّية في تفسير احد
القواعد المذكورة في القرآن. على الزوج أنْ يحترم
العلاقات الزوجيّة وانّ يتجنّب ما يستطيع تطليق زوجته وأنْ يحاول بالحسنى حل
الاختلافات مع زوجته. ألم يُفضّل اتباع المحمدية أنء يتبعوا أمثولة النبي: أي
الحفاظ على الزوجة بدلاً من تطليقها: أليس هذا منتهى طيبة المعاملة (10).
إذن عاثشة هي التي حازت على حبّ النبي
ومغازلته لها.
ومحمد يُبَرّر
تفضيله لعائشة بقوله إنّ اختياره لها هو من إيحاء ومشيئة الله تعالى. فالملاك
جبريل - نقلاً عن رواية - عرّف عائشة لمحمد وكانت آنذاك
طفلة نائمة في سريرها. قال جبريل: " وإنّ في هذه خلفًا من خديجة "
(11) رواية ثانية تقول إنّ عائشة ظهرت في
أحلام محمد كزوجته في المستقبل . " رأيتك في المنام مرتين "(12).
والنبي الذي لم يُخفِ نواياه عن صديقه القديم أبي بكر والد
عائشة كان كلّ مرة يزور صديقه أبا بكر يظهر تعاطفه نحو الطفلة عائشة. موصيًا
أبويها بالإعتناء بها. وفي ذات يوم ذهب محمد كعادته إلى بيت أبي بكر فوجد عائشة تبكي أمام باب منزل أبيها،فسألها محمد عن سبب بكائها
وتقول عائشة - التي كان لها من العمر ست سنوات - إنّ أمّها ضربتها لأنّها وشت
أمّها لأبيها. تأثّر النبي من دموع الطفلة حتى دمعت عيناه وقال لأم عائشة: "
ألم أوصّك بعائشة أنْ تحفظيي فيها "(13) فوعدت أمّ عائشة بألا تنكّد طفلتها
عائشة التي فيما بعد لعبت دورآ مهمأ في تاريخ المحمدية.
بعد ثلاثين يومآ من زواجه من سودة يطلب
محمد يدّ عاثشة من أبيها أبي بكر ليتزوجها فيما بعد .
وأبوبكر الذي أبدى دهشته بسبب فارق العمر يقول: "
خطب النبي عائشة بنت أبي بكر وهي صبية فقال أبو بكر إلى رسول الله أيتزوّج الرجل
ابنة أخيه؟"(14) وافق أبو بكر على طلب محمد وفسخ ارتباطآ سابق لابنته مع رجل
آخر. فقال أبو بكر إنّي كنت أعطيتها
مطعمًا لابنة جبير فدعني حتى استلّها منهم " (15). " فكان لعائشة بذلك
منزلة عند أهلها وهم لايشعرون بأمر الله فيها " (16). وتكبر
عائشة وهي محاطة بعناية خاصّة من قبل أبويها تنتظر اليوم القريب لتأخذ مكانها في
بيت النبي. وبعد ثلاث سنوات يذهب محمد إلى المدينة حيث
يُستقبل بحفاوة وهناك يعقد قرانه على عائشة.
واسم عاثشة - الشقراء الصغيرة كما كان يناديها
زوجها تحببًا - ملأ صفحات بداية التاريخ الإسلامي أكثر من أي اسم آخر. فجمالها، وشبابها اليافع ونزواتها، بالإضافة إلى مكانة أبيها
أبو بكر، كل ذلك كان له تأثير كبير على الهيئة التشريعية وعلى مصير الشعوب التي
اعتنقت الإسـلام. ونقلاً عن السنّة فإنّ النبي كان يُبْدي تسامحًا أبويًّا نحو
زوجته الشابة فكان يتغاضى عن حردها وغضبها الطفولى. فعائشة كانت تحلف بإله ابراهيم
أنْ هي مستاءة من زوجها وأن كانت راضية تحلف بإله محمد (17).
فمحمد، مُشرّع القوانين الكبير، كان ينقاد لنزوات
وتقلبات عائشة، فكان يعمل جهده ليرضيها فينزل إلى مستواها الطفولي، يركض ويلعب
معها (18) والمثل الآتى يكفي للإشارة إلى مدى تأثيرها على القوانين القرآنيّة.
كانت عائشة برفقة زوجها النبي في طريق عودتهما من غزوة عسكرية، وكانت الطريق التي
عبروها ممرآ قاحلأ جافأ وهناك تفقد عائشة قلادتها ويبدأ مرافقوا النبي بالبحث عنها
لأ ن عائشة أصّرت على إيجاد القلادة. وطال البحث وأخذ المؤمنون يشعرون بالقلق بسب
قرب موعد الصلاة وتواجدهم في مكان لاماء فيه، وهنا يبادر محمد يطمئن مرافقيه
المؤمنين بعد أنْ طلب الإذن من الله أنْ يسمح لمرافقيه بالصلاة دون الوضوء. كل هذا لخاطر عائشة وهذه الحادثة هي أصل القاعدة القرآنيّة
التي يعمل بها في الظروف حيث يتواجد المؤمنون في مكان بلا ماء فيه (19).
وعاثشة - في نظر السنة - لها مكانة خاصة
تميزها عن بقية زوجات محمد والسبب أنّ حضورها برفقة محمد ما كان يمنع أو يضايق
الملاك جبريل من الظهور
على النبي. ومحمد الرجل غاو النساء
والعطور كان غالبًا يستقبل الوحي السماوي في عزلته مع ابنة أبي بكر: " وكان
ينزل عيه الوحي وهو معي" (20).
ولم يمنح الملاك جبريل أبدًا شرف ظهوره على
النبي عندما كان برفقة زوجته العجوز سودة -الزوجة الثانية - الذي على الأرجح ما
كان يرى أمامه إلاّ شيخوختها.
وعائشة كانت تتباهى لكونها المفضلة من قبل
الإرادة السماوية وما كانت تقصر في إهانة منافساتها زوجات النبي الأخريات ومع هذا
وبالرغم من مسايرة محمد لزوجته عائشة والاعتبار الإلهي لزوجة رسوله فإنّه يُقال
بأنّ عائشة كانت تذكر وتبكي بحرارة شبابها الضائع في السجن المنزلى"... بكت حتى تبلّل خمارها" (21) نعم كانت تبكي بحرقة كلّما
تذكّرت الآية القرآنيّة التي فرضت على نساء محمد بأنْ يبقين سجينات البيت وحارسات
له. ولكن محمد، وبرغم كل حبّه لعائشة، يعقد زواجه الرابع على حفصة ابنة مساعده عمر
(22). حفصة الأرملة الشابة لم تكن جميلة. إذ يُقال أنّ أباها عمر سعى جاهدًا أنْ
يجد لها زوجًا " قال عمر فأتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصه... فلقـيت أبا
بكر الصديق فقلت إنْ شئت زوجتك حفصة..." (23) والأرجح
أنّ محمد بزواجه من ابنه عمر أراد أنْ يُقوّي علاقاته بعمر الرهيب الذي كان ينتظر
منه خدمات مهمّة.
حماة حفصة لا تهمّنا كثيرّا بموضوعنا هذا
والجدير بالذكر أنّ محمدًا أراد أنْ يُطلّقها ولكن الملاك جبريل أوحى له بأن
يبقيها لأنّها في نظر زوجها كانت مؤمنة صالحة وأكـثر من ذلك فإنّ أباها عمر "
فقال لي (جبريل ) ارجع حفصة فإنّها صوامة قوامة "(24).
في السنة الرابعه للهجره يعقد النبي زواجه
الخامس عل الأرملة الجميله أم سلامة. وبعكس حفصة فإنّ أم سلامة تهم موضوعنا
كثيرًا. إذ هي كانت زوجة مؤمن صالح ومن أشجع جنود النبي.
كانت تحبّ زوجها كثيرّا لدرجة أنّها هاجرت معه إلى الحبشة عندما كان اتباع الدين
الجديد مضطهدين. أحبّت أم سلامة زوجها لدرجة أنّها عاهدت نفسها بألا تتزوّج رجلاً
آخر من بعده " فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدى ولا أتزوج بعدك "(25) ولكن أبو
سلامه الجندى الشجاع مصاب بجروح قاتله في معركة أحد وينضم إلى قافلة الشهداء في
الجنة. يذهب محمد إلى أم سلامة معزيًا ويطوّل زيارته " إنذ رسول الله دخل على
أم سلامة حين توفّي أبو سلم فذكر ما أعطاه الله وما قسّم له وما فضّله فمازال يذكر
إلخ..." (26).
أُخذ محمد بجمال أمّ سلامة وقال لها وهو
يغادر بيتها أنْ تطلب من الله تعالى في صلاتها أنْ يخفف من مصابها وأن يجازيها
خيرآ وهنا تصرخ أم سلامة وتقول ما هي المكافأة التي تجعلني أنْ أنسى أبا سلامة؟
" اللهب أجرني في مصيبتي واعقبني خيرًا منها "(27).
لم تشك أم سلامة لحظة واحدة في نو عية
المكافأة وما كان مقدرًا لها. بعد أربعة أشهر يطلب محمد
من أم سلامة أنْ تتزوجه، والتي رفضت من قبل الزواج من غيره. " خطبها أبو بكر
فردّته ثم خطبها عمرفردّته "(28) ويبدو أنّ أم سلامة التي لم تكن لها رغبة في
أنْ تصبح واحدة من زوجات رسول الله، تعتذر رافضة بسبب عمرها، ومهمة رعاية أطفالها
وأخيرًا طبيعتها الغيورة.
لكن النبي لا يقبل هذه الأعذار ويقول لها: " أمّا
مسألة العمر فأنا أكبر منك سنًا وأمّا الغيرة فإنّ الله يزيلها "(29). وهكذا تصبح أم سلامة الأرملة الجميلة، الزوجة الخامسة للرسول
والمنافسة الخطيرة لعائشة (30) والتي كثيرًا ما سببت وأثارت الغيرة بين زوجات
النبي اللواتي كن يعاتبن النبي من جرائها.
زواج محمد الخامس لم تمله الإرادة
السماويّة ولكن يجدر بنا أنْ نذكر هنا شخصية أم سلامة، هذه المرأة النبيلة المحبّة
لزوجها والتي بقيت عنيدة بإخلاص لذكرى زوجها الراحل فتردّ جميع من طلب يدها ولكنها
تخضع أمام النبي، فما من شكّ أنّ شخصية محمد والهالة السماوية المحيطة بها جعلت أم
سلامة تضع حدًا لترمّلها.
بعد فترة من الزمن، يبعث النبي من يبحث في الحبشة عن أم
حبيبة، هذه المرأة المؤمنة التي هاجرت من مكة إلى الحبشة مع زوجها. وهذا كان رجلا
إرتيابيًا وسكيرًا وأتى الإسلام ليضايقه ذوقه ومزاجه، ومن أجل أنْ يتخلّص من هذا
العائق الديني، غـيّر دينه في الحبشة وأصبح مسيحيًا بينما بقيت زوجته أم حبيبة على
دينها الإسلام - الإيمان الجديد للعرب. وبعد قليل من يموت زوج أم حبيبة من كثرة
إدمانه الكجول. ترمّل أم حبيبة وموقف أبيها القوي
العدواني تجاه محمد شجعه على الزواج منها ليضمن والدها بأنْ يهتدي إلى الدين
الجديد (31).
فيسرع بارسال مبعوث إلى النجاشي - امبراطور
الحبشة - لتسهيل عقد زواجه من أم حبيبة. والنجاشي الذي كان على علاقة جيدة مع محمد
يُلبّي رغبته ويدفع بنفسه المهر لأم حبيبة التى تلتحق بزوجها الجديد فى المدينة
وهى سعيدة جدًا لوضعها الجديد.
تاريخ أم حبيبة يثبت لأيّة درجة كانت
المرأة حرّة قبل مجيء الإسلام إنْ هي قورنت مع امرأة في المجتمع العري الإسلامي. فهذه الأخيرة كانت مطموسة كلية وراء الزوج، بينما أم حبيبة
نبقى على دينها الإسلام وزوجها يرتدّ عنه. وليست أم حبيبة حالة منفردةن ومن جهة
أخرى سنثبت فيما بعد، بدراسة موضوع المهر، أنّ زواج محمد من أم حبيبة أثّـر على
تحديد الحد الأقصى للمهر (32)، إذ إنّ مؤرّخي المحمدية وضعوا في السنة الخامسة
للهجرة خاتمة زواج مُميز ذي نتائج كبيرة على عُزلة المرأة .
إحدى هذه الروايات تخبرنا الآتي: زوّج محمد ابنه
المتبنّى زيد ابن الحارث إلى الأرملة زينب بنت جحش. وفي يوم يذهب النبي لزيارة ابنه المتبنى
فتستقبله زوجته برداء يُظهر مفاتنها. يرفض
النبي دخول بيت ابنه ويرجع إلى منزله في حالة مضطربة.
" فأعجبت رسول الله فولّي وهو يهمهم بشيء لايكاد يفهم منه إلا ربّما أعلن
سبحان الله العظيم، سبحان مغير القلوب "(33) بعد هذه الزيارة يقرر محمد أنْ
يتزوج زينب بالرغم من العراقيل الإجتماعية التي لاتقبل بالزواج من زوجات الأولاد
المتبنّين. فالتقاليد تطابق جوهر ما ورد في القرآن من
تفاصيل هذه الرواية وعلى كل حال فإنّه من الصعب تكوين فكرة دقيقة عمّا جرى ولكن من
المؤكد أنّ محمد بدا ساذجًا في صدقه لأنّه يقول إنّ الله عاتبه لحبّه لزينب وهو
يتظاهر باللامبالاة. " فلمّا قضى زيدُ منها وطرًا زوجناكها لكي لايكون على
المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً "
(34).
ومن ناحية أخرى فإنّ زيدًا أتى إلى محمد باكيًا زينب
ويريد طلاقها ولكن محمد ينصحه بأنْ يبقيها. وكما ذكرنا
سابقًا فإن الله قرأ قلب محمد واتّهمه بأنّه يُخْفي حبّه لزينب وهكذا يفشي الله
سرّ محمد ويزوجه بزينب وحسب أقوال السنة قالت عائشة بهذا الصدد "... يا رسول
الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك إنّ الله يسارع لك فيما
تريد..." (35).
تمّ زواج محمد بزينب دون مهر أو شهود ودون تصريح من أحد. وما من شكّ فيه أنّه كان حقًا فريدًا أنعمه الله على رسوله
وإنّ زينب كانت فخورة باهتمام العناية الإلهيّة بشخصها.
كان لمحمد زيجات أخريات لم يكن لهن تأثيرًا
مباشرًا على المؤسّسات الإسلامية. فبعد معركة بدر، يتزوج محمد من أرملة - اسها
أيضًا زينب - قتل زوجها وهو يحارب في جيش النبى. زينب
هذه عاشت مع الرسول حوالي ثمانية أشهر ثم توفيت وكان لها من العمر ثلاثين سنة
تقريبًا. وبعد معركة مؤتة يتزوج محمد من الجارية جويرية وبهذه المناسبة يعتق
الرسول أبويها. وبعد معركة خيبر يتزوج اليهودية صفية التي كانت واحدة من أسرى
الحرب.
وتذكر الروايات ناحية طريفة في شخصية الرسول وكياسته نحو
النساء: " أنّه قدم ركبته للأسيرة الشابة الجميلة صفية لكي تضع قدمها وتمتطى
ظهر الجمل المعد لها " (36) صفية الزوجة الجديدة أشعلت نار الغيرة في منزل
محمد المتعدّد الزوجات.
وحسب الروايات المتناقضة والغامضة التي
تقول أنّ الرسول تزوج من ريحانة التي اختطفت كأسيرة حرب ولكنه ليس من الثابت عن
ماهيّة العلاقة بين محمد وريحانة، البعض يقول أنّه فعلاً تزوجها والآخرون يقولون
أنّها كانت خليلته فقط (37) وفي السنة السابعة للهجرة يتزوج محمد زوجته الأخيرة
وكانت تسمّى ميمونة. سنرى فيما بعد أهميّة هذا الزواج الأخير تأثيره على الجانب
القانوني.
1 - نفس المصدر ص 154
2- الطبقات
ص 10
3- نفس المصدر 10
4- نفس المصدر صر 36 والقرآن
أيضآ
ه - نفس المصدر الجزء 8 ص 54
6- نفس المصدر ص 44
7- نفس المصدر ص 45
8- نفس المصدر ص 40
9- نفس المصدر ص 40
10- نفس المصدر ص 54
11- نفس المصدر ص 55
12- الغزالى إحياء علوم
الدين الجزء 2 ص 29 القاهرة
13- البخاري طبعة بولاق
الجزء 1 ص 51
14- الطبقات الجزء الثامن ص 43 طبعة ليد
15 - نفس المصدر ص 56
16- نفس المصدر ص 57
17- نفس المصدر ص 58
18 - نفس المصدر ص 61
19 - نفص المصدر ص 64
20- نفس المصدر ص 62
21- نفس المصدر ص 62
22- نفس المصدر ص 62
23- نفس المصدر ص72
24- سورة
الأحزاب الآية 36
25- حصن الأسوّة، الطبقات
الجزء 8ص 141
26- الطبقات
ابن سعد الجزء 8 مقالة صفية
27- نفس المصدر ص 93
28- نفس المصدر ص 62
29- نفس المصدر ص 66
30- نفس المصدر ص 70
31- انظر فيما بعد دراستنا
عن المهر.
32- ابن سعد: الطبقات ص 72.
33- القرآن:
سورة الأحزاب، الآية 37.
34- حصن الأسوّة، ص141.
35- نفس المصدر، مادة صفية.
36- انظر فيما بعد.
تسع زوجات شكّلن البيت العائلي للرسول. تسع نساء ذوات أعمار مختلفة، ظرف مختلف، وجمال مختلف. والروايات المتلهفة دائمًا في تتبع سيرة النبي حتى في حياته
الحميمة زودتنا ببعض التفاصيل عن حياة النسوة التسع داخل بيوتهن.
سنحاول أنْ نعطي صورة عن حياتهن ولكن علينا
أنْ لاننسى أنّ هذه الحكايات لا تملك دقة الحقائق التاريخية إلا أنّها تعطي فكرة
عن البيئة الحياتية التي في نظر المؤمنين كانت المثل الأعلى لأنْ يقتدوا بها
لأنّها تمثّل الكرامة والوقار. وهؤلاء المؤمنون كانوا
يطبقون سيرة حياة الرسول على حياتهم الشخصية إلا أنّ تطبيقها تطور قليلاً قليلاً
خلال القرنين الأوّلين للهجرة.
أوّل سمة مميّزة في بيت الرسول المتعدّد الزوجات كانت عامل
الغيرة، غيرة النسوة من بعضهن البعض وغيرة الزوج محمد عليهن.
" قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع
إمرأتي لضربته. بالسيف غير مُصفح. قال صلعم أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغْير منه
والله أغْير مني "(1).
ومرة أخرى وقبل ظهور الإرادة السماوية بعزل
النساء فاجأ محمد زوجته عائشة بصحبة رجل شاب وتقرأ عائشة الغضب في عيني زوجها
فتحاول أنْ تخفف من غضبه قائلة إنّ الشاب هو أخوها في الرضاعة إلا أنّ تفسيرها هذا
لم يقلّل من غضبه" (2).
" ورأيت الغضب في وجهه …".
وصلت غيرة محمد على زوجاته لدرجة أنّه
منعهن من الزواج بعد وفاته. وجاءت الآيات القرآنيّة تمنع زواجهن بعد أنْ أعرب طلحة
بن عبد الله عن رغبته في الزواج من عائشة بعد موت النبي (3) وعلى أثر هذا القانون الصارم
اضطرت زوجات محمد الشابات أنْ يعشن سنينًا طويلة عيشة ترهب (4).
ويقال أيضًا أنّ محمد ذهب بعيدّا في غيرته بأنْ طلب من ابن
عمه علي أنْ يقتل القبطي المبعوث من مصر ليكون في خدمة الخليلة ماريّا التي عرضها
حاكم مصر على النبي. اتّهم القبطي بأنّه كانت له علاقات جنسيّة مع
ماريا، جارية محمد الجميلة. ولم ينج القبطي من الموت إلا
عندما تبين لعلي أنّه كان مخصيًا (5). وسنرى فيما بعد كيف أنّ غيرة النبى أدّت إلى
نتائج ساهمت بدورها في انحطاط المرأة المسلمة.
إلى جانب نوبات الغيرة هذه، علينا أنْ نبيّن في شخصية
محمد صفات رقيقة، إذ كان يعامل زوجاته بأقصى الرقة حتى في مواجهة المشاجرات
والمعارك اليومية المستمرة والتي كانت تهز بيت النبي المتعدّد الزوجات. فكان على محمد أنّ يكون الحكم وأنْ يتدخّل بدماثته ليخفف من
شدّة الخلافات المشتعلة بين زوجاته. في يوم تعاركت عائشة مع صفية وعيّرتها بمولدها
اليهودي وأخذت - عائشة - تتباها بأبيها أبي بكر صديق محمد وحامي الدين الإسلامي. وعندما علم محمد بهذا العراك - الذي كان يتكرّر يوميًا دون شكّ
- أخذ يواسي صفية مقترحًا عليها أنْ ترد على غرور عائشة: " ألا قلت أبي هارون
وعمى موس "(6).
تسامح الرسول تجاه زوجاته كان فريدًا من
نوعه. كان يتحمل الكثير من المعارك اليومية التي كانت تفرق بين زوجاته، نعم كان
يتحمل الكثير دون اللجوء إلى الحسم السريع على الرغم من تملكه سلطة مضاعفة. سلطة
الرسول وسلطة الملك. الحادثة التالية تدل كما ذكرنا على
تسامحه الكبير: في إحدى غزواته العسكرية كان النبي مصطحبًا معه زوجتين من زوجاته
أم سلامة وصفية. وأمضى يومًا كان بالأصل مخصصا لأ م سلامة، أمضاه النبي مع صفية
وتغتاظ أم سلامة غضبا لشعورها بالغبن فتخاطب زوجها النبي بالكلمات الآتية: "
فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله " (7). ويقبل محمد هذه
الإهانة دون الردّ عليها. وتضع هذه الشتيمة علامة استفهام على سماته النبوية. ومثل
آخر على تسامحه وهذه المرة مع زوجته عائشة. فبينما كانا في نقاش حام إذْ بعائشة تطعن بجرأة، في صدق كلام رسول الله. ويبعث محمد بحثًا عن حماه أبو بكر الصديق ليكون الحكم بينهما.
وفي حضور أيب بكر يسأل محمد بلطف زوجته " هل تريدين بحث المشكلة أو أبدأ أنا؟ "
" تستطيع أنْ تبدأ، تجيب عائشة الحردانة ولكن بشرط أنْ لا تقول إلا الحقيقة
" يغضب أبو بكر غضبًا كبيرًا لسماع كلمات ابنته و يخرج عن دور الحكم ويضرب عائشة عل
وجهها قائلاً " وهل من الممكن أنْ يقول النبي غير الحقيقة؟ " ولكن محمد يدافع عن زوجته ويقول لأبي بكر: " لم نأتك
لتتصرف هكذا "(8) ويتصالح الزوجان.
إذن فالمشاحنات والخصومات بين زوجات محمد
كانت أحيانًا، تصل إلى منعطف آخر أي أنّ يتفقن ويقفن كلهن في صف واحد ضد الزوج
محمد. تحمّل النبي هذه الأجواء البيتيّة بكل صبر فمحمد كانت له عادة أنْ يزور
زوجاته على التوالي بعد صلاة الظهر. وفي أحد الأيام
يتأخر أكثر من اللزوم في بيت واحدة منهن لأنّ هذه أرادت أن يذوق محمد العسل الذي
استلمته من والديها. زوجات محمد كن على علم بالسبب البريء الذي أخّر زيارة محمد
لهن ولكن الغيرة تفلّبت عليهن.
سودة العجوز - التي نعرف جيدآ دورها السلبي
في بيت محمد- أوعزت إلى بقيّة الزوجات الشابات بالحيلة التالية: كل مرّة يقترب
محمد من واحدة منهن عليها أنْ تصدّه بذريعة أنّ رائحة فمه كريهة. يستفرب محمد هذا
التصرف قائلآً: " ومع هذا لم آكل إلا قليلا من العسل " ربما، تجيب
عائشة، " إنّ النحل أكل زهرًا ذا رائحة كريهة ". كلّ زوجة بعد الأ خرى
راحت تصدّ محمد كلما كان يقترب من أحداهن. وفي النهاية اقتنع الرسول أنّ العسل
الذي أكله هو السبب وحلف أنْ لايذوقه أبدأ " (9).
رقة محمد مع زوجاته صارت يُضرب بها المثل. فإنْ اختلفت امرأة مع زوجها،
كانت تذكر زوجها بمعاملة محمد لزوجاته، فزوجة عمر بن الخطاب كانت تشتكي من
قسوة معاملة زوجها، تخاطبه قائلة " أنا أعجب، يا ابن الخطاب، من رفضك النقاش
معي ومع هذا فإنّ ابنتك - إحدى زوجات النبي - تبحث وتناقش مع زوجها النبي حتى تثير
غضبه " " وإنّ ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان " (10).
من الأرجح أنْ تعليق زوجة عمر لم يلق
أذنًا صاغية عند عمر الذي كان يظهر القليل من الاعتبار أو التقدير نحو النساء.
ولم يكتف محمد بالمعاملة الرقيقة تجاه زوجاته وإنما تعدّى
ذلك بأنْ يهتم بأوقات فراغهن وأنْ يساعد في أعمال المنزل. " قالت عائشة كان
النبي في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة " (11) إلا أنّ الروايات
التي تشهد للنبي بعذوبته ورقته تجاه زوجاته تذكر أيضًا أنّه كان رجلاً خائب الظن
في النساء، هو الذي أعطى الكثير من الطيبة اتجاههن انتهى بالشعور بالخيبة.
1- البخاري الجزء 3ص 20طبعة
بولاق
2- صحيح مسلم الجزء 1 ص 16 4
طبعة بولاق 1290. البخارى وغيره.
3- الطبقات الجزء 8 ص 145
4- حسان بن ثابت
5- الطبقات الجزء 8ص 155
6- نفس المصدر ص 91
7- نفس المصدر ص 67
8- الغزالي إحياء… الجزء 11
ص 19
9- البخاري
الجزء 3 ص 262
10- صحيح مسلم الجزء 1 ص 437
طبعة بولاق 1290هـ
11- البخاري
الجزء 3ص 133.
إنّ الأحكام أو الآراء التي تُنْسب إلى الرسول
فيما يتعلّق بالمرأة كان منها المؤيد ومنها العدواي. ومواقف النبي هذه تعكس الأفكار السائدة في مختلف الأوساط المسلمة خلال
القرنين الأوّلين للهجرة. لنلق نظرة سريعة على بعض منها.
في أحد الأ يام كان محمد مشغولاً بنشر
العدالة بين الناس وحلّ مشاكلهم إذ أتته امرأة شاكية قائلة أنّ زوجها ضربها وتطلب
منه العدالة. في مثل هذه الحالة كان محمد يطبّق قانون
العقوبة بالمثل - شريعة النّحّل - إلاّ أنّه يتردّد في أنْ يعاقب الزوج المتهم
بعقاب قاس ويوحي الله إلى محمد بتشريع قانون ينتفع منه الرجل: " الرجال
قوامون على النساء. يقول القرآن "(1). وترفض التهمة عن الزوج. وحكم القرآن
هذا ما زال يتردّد على أفواه المؤمنين ويستعمله الرجال ليثبتوا تفوّقهم على النساء
وفي لحظة تأمّل كان محمد يفكر في حالة المرأة فيتراءى له أنّ العديد من الرجال
برزوا في حياتهم وأنّ القليل من النساء لَمعن (2). والذي قاله محمد يذكّـر بما
قاله الكاهن عضو الإكليروس " بين ألف رجل وجدت واحدًا وبين كل النساء لم أجد
واحدة ". يظهر هنا واضحًا التأثير المسيحي لكن لا
شيء يبرهن بالتأكيد أنّ محمدًا قد نطق فعلاً بهذه الكلمات. إلاّ أنّ أهمّية هذه
الكلمات أنّها تعتبر حديثًا إسـلاميًا أصيلاً.
مثل آخر لنظرة محمد العدائيّة تجاه النساء
أنّه في عودته من إحدى رحلاته الخارقة يقص الرسول على رجاله الخـبر الحزين الذي
يقول إنّ الأغلبية الساحقة من النساء متواجدة في جهنم (3) ويستغرب أصحاب محمد هذا
ويسألون عن السبب ويجيب محمد " لأنهن ناكرات للجميل نحو أزواجهن و لا يعترفن
بالمعروف "(4).
حتى فى الحياة اليومية كان محمد يعتبر
المرأة كائنًا يخشى منه، فنصح الرجل بأنْ لا ينفرد مع امرأه وأنْ لايراها إلاّ
برفقة قريب لها. فالنبي الشبق كان يتخوّف من انفراد الرجل بالمرأة لأنّ الشيطان
حتمًا سيتدخّل (5). ولأنّه كان يهاب الإغراء فلقد عبّر
عن أفكاره بمثل كلمة تيرتوليان " يا إمرأة…أنت باب إبلس "(6).
وأيضًا، ما كان محمد ليثق بالمرأة فلما
جاءه واحد من جنوده ليخبره أنّ زوجته سافرت للحج وحدها وأنّه هو التحق بإحدى
الغزوات قال النبي " فقال انطلق فحج مع امرأتك " (7) ولم يخش محمد فقط
مدخل الشيطان عندما ينفرد بامرأة بل ذهب بعيدًا لأنْ يهاب تدخّل الشيطان حتى عندما
يتبادل الرجل النظر مع المرأه. ففي يوم كان محمد يخاطب
جمهورًا من الناس أتوا إليه لسماع إرشاداته وكان إلى جانبه أحد أصحابه، شابًا
وسيمًا وبين الجمهور كان هناك امرأة ذات جمال أخّاذ أتت لتطلب من الرسول نصيحته.
ووقعت أنظار الشاب على المرأه الجميلة وإذا بمحمد اليقظ ينتبه إلى النظرات
المتبادلة: " فأخذ بذقن صاحبه فعدل وجهه عن النظر إليها "(8).
هذه الحادثة وهي
لست منفردة تشير إلى مكانة المرأة. التي كانت أكثر فعالية وأقلّ انحطاطًا من
المرأه المسلمة اليوم، لأنّها كانت تنخرط بين الجماهير بحرّية وبدون حجاب. ونضيف هنا أنّ الأساطير في زمن الرسول تخبرنا أنّ المرأة كانت
في وضع اجتماعي أفضل.
ودونية المرأة برأي محمد تمنعها أنْ تؤدّي
بعض الأدوار. فعندما علم النبي أنّ الفرس اختاروا امرأة لتحتل العرش - ابنة كسرى -
صرخ محمد قائلاً " لن ينجح شئ من هؤلاء الذين يقبلون أنْ تحكمهم امرأة "
(9).
ذكرنا سابقًا
حوادث الغيرة التي مزّقت البيت العائلي للرسول. وحسب تعبير عمر إذا صحّ: "
كُنّ يأخذن بعنقه " (10) وكن أيضًا يأخذن بأعناق
بعضهن البعض. وفي يوم وبعد مشاجرة بين عائشة وزينب فلتت
كلمة من فمه وقال " المرأة قاتلة "(11) وفي مناسبة ثانية أضاف "
فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".
من ناحية ثانية فإنّ حديث السنّة، هذه
الموسوعة الكبيرة التي تحتوي على جميع الآراء التي انتشرت في العالم الإسلامي في
القرنين الأوّلين للهجرة، تصوّر محمدًا بالرجل الفروسي الأبيّ، الحامي والمدافع عن
النساء. وهكذا كان يسخط عندما يرى الأزواج يضربون - كشيء
مألوف - زوجاتهم " يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها لا يستحي
"(12).
وإنْ كان محمد قد صرخ " المرأة قاتلة
" فإنّه قال أيضًا: " عن عبد الله بن عمرو قال الرسول الدنيا متاع وخير
متاع الدنيا المرأة الصالحة " (13) وإنْ قال لنا أنْ نتقى النساء فإنّه أضاف
" واستوصوا بالنساء خيرًا " (14) وإنْ استخفّ الرسول بمقدرة المرأة على
أنْ تحكم شعبًا فإنّه في نفس الوقت اعـترف بكونها " والمرأة راعية تلى بيت
زوجها وولده " (15) ومن جهة ثانية فإنّ إله محمد الذي ببدو متحيزًا - في عدّة
مناسبات - لمصلحة الرجال يظهر في مناسبات أخرى عطوفًا نحو النساء. فأم سلامة، إحدى
زوجات - السول الجميلات تقول لزوجها: " قالت فما لنا لا نُذكر في القرآن كما
تُذكر الرجال " (16) وهكذا فإنّ الرسول يصغي إلى زوجته وتنزل الآية فيما بعد:
" إنْ الله يقول أنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " (17)
محمد الرجل العربي، كان له شغف وحبّ كبير للأطفال إلاّ
أنّه وضع المرأة في مرتبة أعلى من الطفل. عندما سأله أصحابه عن كيفيّة احتفالهم
بمجد الرسول في صلواتهم فيجيب محمد " قولوا اللهم صلّ
على محمد وأزواجه وذرّيته "(18). وفي مناسبة أخرى
قال الرسول " أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله " بدلاً من
أنْ ينفقه على الجهاد المقدّس. وقال أيضًا في دفاعه عن حقوق المرأة: " إنْ
الحقّ الشرط أنْ يوفى به ما استحللتم به الغروج "(19).
وهناك رواية أخرى تنسب الكلام الآتى إلى
محمد: " من يربّي طفلتين حتّى سنّ البلوغ فله مكان بجانبي يوم الحساب
"(20).
ومتى تصبح المرأة أمًّا فإنّها تتمتع باحترام
وإجلال لامثيل لهما. فإنْ ألقينا نظرة على الشرق الإسلامي بكل طبقاته الإجتماعيذة
نجد أنذ الأمّ محطّ احترام ديني مقدس. " لي رغبة قويّة في الذهاب إلى الجهاد
- قال هذا مؤمن للرسول – " هل لك أم ؟ سأله الرسول،
نعم، أجاب الرجل المؤمن " احم قدمها، الجنة تحت
أقدام الأمهات "(21).
لا شكّ أنّ جميع هذه الأقوال تكفي لتبرهن على وجود تراث
آخر يظهر فيه النبي كحامٍ للمرأة. لكن هذه الشواهد هل هي فعلأ أصيلة وهل نطق بها
النبي؟ لقد سبق وأن لاحظنا أنّ ظاهرة التاريخ المقارن
تعرض لنا عدّة أمثلة وأنّ الروايات تنسب إلى النبي أعدادًا كبيرة من الأحاديث
والتصرّفات التي من المؤكّد أنّه ليس بصاحبها أو قائلها. وهذه
- أي الروايات - إنْ عبّرت عن شيء فإنّها تعبّر عن المجتمع الإسلامي في حقبة
تأسيسه. وهذه تحتوي على الكثير من التناقضات والاختلافات. حتى في مجتمعنا العصري فإنّ كلّ فئة اجتماعية لها نظرياتها الخاصة لتبرّر طريقها في
الحياة. وهكذا خلال القرون الأولى للإسلام كانت وجهات
النظر للفئات المختلفة في المجتمع الإسلامي قد وجدت طريقها إلى منهج سرد الروايات
التي في النهاية انضمت لكتب الصحاح.
الهوامش
1-
الطبري التفسير الجزء 5 ص 35-36
2-
البخاري الجزء 3 ص 56
3-
نفس المصدر ص 23
4-
نفس المصدر ص 23
5- حصن الأسوّة ص 363
6- Du Cultu Feminarium 1.1 ( t.l.p.126 )
7- مسلم الجزء 1 ص 380 طبعة
بولاق
8- البخاري الجزء 3 ص 158
9- حصن الأسوّة ص 201
10- ابن سعد الطبقات الجزء
2ص 37،16
11- البخاري
12 - البخاري
13 - ابن سعد الطبقات الجزء
8ص 138
14- صحيح
مسم الجزء 1 ص 430
19- البخاري
الجزء 3ص 19
16- نفس المصدر ص 23
17- حصن الأسوّة ص 117
18 - نفس المصدر
19- نفس المصدر
. 2- صحيح
مسم الجزء 1 ص 400
ا 2- الصحاح،حصن الأسوّة ص 396
منذ أكثر من خمسة وعشرين عامأ انتقد
المستشرق الهولندي المعروف الأستاذ سوك هورنج المغفلين الذى وقعوا في الخطأ الشائع
الذي خدع حى العقول المتفحة مثل شبرنجر Sprenger .
" كتب
العالم الهولنديّ: ما يلفت النظر أنْ نرى العلماء الأوروبّيّين يبحثون في القرآن
عن الحجج المتعلقة بالحجاب، إذ أنّهم يستندون على الآية رقم 53 من السورة 32. هذه
الآية القرآنيّة لاتتكلم لا عن الحجاب ولا عن النساء المسلمات. وإنّما هى فى
الحقيقة تتكلم فقط عن نساء النبي. والقارىء يذكر هذه القواعد الإستثنائيّة التي
علقنا عليها في الفصل الاول.
قاسم أمين، الكاتب المصري العصري، الذي حضّ
أمّته على تحرير المرأة، لاحظ هو أيضًا أنّ النبي ميّز بين نساثه ونساء غيره.
فشخصيات كداوود وسليمان ومحمد - أيّ ما يدعى بالطبقة المقدّسة - عرفت داثمًا أنْ
تحتفظ بامتيازات لها فيما يتعلق بعدد نسائهم وطريقة تصرفاتهن وحياتهن.
أمّا نحن، فإننا نعتقد أنّ هناك علاقة
متماسكة بين مشكلة عزلة النساء والطبقات الإجتماعيّة. فالطبقات الغنيّة في الشرق
الإسلامي التي تتباهى بتجميع ما يُطلق عليه الأوروبيون " الحريم " تختلف
كثيرًا عن الطبقات العاملة. فبصورة
عامة في الطبقات العاملة كل رجل له زوجة واحدة تشارك في عمله.
فزوجة العامل لاتقارن بزوجة الغني الذي
لاينغك عن تحقيرها لإشباع أنانيّته.
زوجة العامل، بالعكس حرة كزوجها تساهم في العمل وتشارك
زوجها في النضال الحياتي المشترك لأنّها تعمل إلى جانب زوجها لكسب قوتهما.
لندرس الحجاب من وجهة نظر
الدين الإسلامي. هنا نستشهد بقول المستشرق هورغرونج الذي لاحظ أنّ الآية القرآتية
رقم 32 تخص فقط زوجات محمد. ولاحظ أيضًا أنّ "
الحجاب " الذي فرضه النبي على زوجاته ليس بالضرورة الحجاب المستعمل في البلاد
المسلمة. وأنّ الدين الإسلامي لايمنع أبدًا أنْ يُرى وجه المرأة. حتى في أثناء
التعبّد في فترة الحجّ فإنذ الدين الإسلامي يتطلّب من النساء أنْ لايفطين وجهوهن
أو أيديهن. وتتفق جميع الطوائف الإسلاميّة على هذا. فعند الشافعيين فإنّه من الأ
فضل أنْ يرى الرجل وجه المرأة قبل الزواج. والنبي نصح رجلاً أنْ يرى المرأة التي
ينوي أنْ يتزوجها(1) " إذهب فانظر إليها ".
ونسأل هنا كيف أمكن لهذه النصوص الدقيقة أنْ تفقد قيمتها
العملية على الأقل في بعض البلاد الإسلامية وكيف استطاعت عزلة النساء أنْ تصبح
صارمة إلى مثل هذا الحد؟ وكيف نفسر تقاليد بعض البلاد المسلمة وبعض الطبقات
الإجتماعيّة التي منعت منعًا باتًا سفور وجه المرأة إلا في حضور الأقارب والأهل.
التفسير الوحيد الممكن إدراكه هو متسببات
النظام الإجتماعي التي ساهمت في تعليل هذا المنع. وربّما، من ناحية أخرى، التطور
الذي أدّى إلى تعميم عزلة النساء كان من تأثير القدوة الشخصية للرسول في علاقاته
مع زوجاته. هذا على الرغم من أنّ الآيات القرآنيّة تتكلم فقط عن نساء النبي ولا
تشمل بقية النساء. والجدير بالذكر بأنّ الآية هذه تطلب من النساء أنْ يحافظن على
زي مُحتشم " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من
جلابيبهنّ ذلك أدنى أنْ يُعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورآ رحيمًا " (سورة
الأحزاب ).
وذكرنا سابقًا أنّ محمدًا، لكي يتجنب الإغواء الشيطاني منع
الرجل من الانفراد بالمرأة. ومن كل هذه البراهين وُلد عّرف وكبر وتطور في بعض
البلاد وترعرع في بعض الطبقات الإجتماعية. بينما في بلاد
أخرى لم يتوطد هذا العرف أو هذا الاستعمال. فهناك بيئات شجعت على استعمال الحجاب
وبيئات أخرى أظهرت مقاومة لإستعماله. ونترك هنا للتحليل التاريخي والاجتماعي ليعطي
أسباب هذه الفروقات. وهدفنا أنْ نستعيد تاريخ النظريات
المحمدية التي سيّرت مراسيم المناقب والأخلاق الإسلامية.
وإنْ صدقت بعض الروايات فإنّ عمر - أحد صحابة محمد- هو
الذي نصح النبي بأنْ يعزل النساء " وعن أنس قال، قال عمر يا رسول الله إنّ
نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب "(2). ورواية
أخرى تقول " قالت عائشة كان عمر يقول لرسول الله
أحجب نساءك "(3). في باديء الأ مر تردّد محمد في إتّخاذ مثل هذا القرار ولكن
فيما بعد راح يطبقه.
والأرجح انّ رسول الله، تحت ضغط صاحبه عمر،
قد صاغ الأ مر الإلهي لوضع العراقيل للعلاقات الحرّة بين الرجال والنساء. فالحديث يُبيّن أنّ الوحي صدر في السنة الخامسة للهجرة في ليلة
زواج النبي من زينب بنت جحش حيث دعا محمد الكثير من أصحابه لحضور حفلة الزواج.
وطالت إقامة الضيوف بعد تناول العشاء ومحمد في قرارة نفسه يتمنى أن يظهر المدعوون
قليلاً من اللياقة فيغادروا المكان. وإضطر محمد أنْ يترك عروسه الجديدة ويذهب
لزيارة زوجاته. أمّا الضيوف فبقوا غير مبالين في غرفة زينب الزوجة الجديدة التي
كانت منعزلة في إحدى زوايا الغرفة. ويرجع النبي ظانًا
أنّهم أخيرًا قد غادروا المكان وعندما يراهم مازالوا هناك يتبادلون أطراف الحديث
يلتجيء إلى الله كي ينقذه من هذه الورطة ويوحي الله إلى رسوله أنْ يأمر رجاله
بمغادرة المكان بعد إنتهاء الاحتفال ومنع الرجال من تبادل الحديث مباشرة مع زوجات
النبي إلا من وراء ستار يحجب النظر عنهن. هذه الواقعة هي الأكثر قبولاً لتفسير إحدى
الحكم الإلهية التي بنيت عليها نظرية أو عقيدة العزلة
والحجاب للنساء. ومع ذلك فان الروايات لا تؤكّد تفاصيل هذه الآية. فرواية أخرى
تقول: " وقال آخرون كان ذلك في بيت أم سلمة" (4) وثانية تقول أ ّعائة
حضرت حفلة الزواج مع زوجها وضوفه وأنّه - أي محمد- صُدم عندما رأى يد أحد المدعوين
تلامس يد زوجته(5) ورواية ثالثة تقول أنّ التماس عمر ساهم في الأ مر الإلهي لعزلة
نساء النبي (6).
الجديربالذكر أننا لانملك إلا القليل من
مصداقية تفاصيل هذه الروايات. والمهم فيها أنّ الرسول حَدّ من حرية زوجاته - أي
نسائه فقط وليس بقية النساء بشكل أنّ هذا العرف كوّن قسمًا من القانو الاستنثائي
الذي وطد لمصلحة مقتصرة على الرسول فقط. ولنترك هذه الأقوال التي تخص زوجات محمد
ولنسمع ما يقوله القرآن في سورة الأحزاب " يا أيها النبي قل لأ زواجك وبناتك
ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله
غفورًا رحيمًا ".
وكتب المعجم تذكر " الجلباب "
القريب من " الخمار " و " الملاخ " الرداء أو الإزار وهي
أسماء ملابس ترتديها المرأة عند خروجها من البيت. والآية القرآنية هذه هي لتمييز
المرأة الحرة من الأمة أو من النسوة المنتميات إلى طبقة إجتماعية سفلى. فهؤلاء عند خروجهن من المنزل لا يرتدين الخمار فوق ملابسهن
المنزلية. وهي - أي الوصية القرآنية - لاتشمل على ما يبدو، أيّة توصية عامة تفرض
فيها على النساء أنْ يحجبن وجوهن. ولهذا فلا داعي هنا
للاهتمام بدرس هذا النصّ لكي نفسر أو نبرر استعمال الحجاب في بعض البلدان
الإسلامية. على كل حال فإنّه من الممكن - لنعترف بذلك - أنْ نجد هنا البذرة
والالتزام بهندام معين حيث إنطلقت منه فكرة البذلة النسائيّة التي تحجب وجه
المرأة.
وإنْ كان هذا النصّ القرآني ليس مقنعًا
لاستعمال الحجاب فإنّه كذلك فيما يتعلّق بالتمييز بين
الطبقات. فالقرآن عندما وصّى نساء المؤمنين أنْ يلبسن هندامًا خاصًا بهن فإنّه
أراد أنّ يميزهن عن الأمات وتتفق جميع الروايات على هذه النقطة بالذات 07) وهناك
حادثة أخرى - الجميع متفق عليها أيضًا- تشرح لنا ما حدث لنساء النبي وهي الآتية:
فزوجات النبي، عندما كن يخرجن ليلاً لقضاء حاجتهن، كان يلحق
بهن رجال ذوو سمعة سيئة وعل أثر ذلك تذمّرت النسوة واشتكين أمرهن إلى الرسول.
واعتذر الرجال من تصرفهم البذيء قائلين أنّهم ظنّوا
النسوة أمات وليس بالحرّات. ولتجنب تكرار هذا الخطأ طلب محمد من النسوة الحرات أ
ْيُميزن أانفسهن عن الأخريات بلباس خاص بهن.
وخلاصة القول أنذ الدين الإسلامي والشريعة
لا علاقة لهما (على الأقل مباشرة ) في الدعوة إلى استعمال الحجاب. فالانظمة التي
تلتزم بالحجاب واقعة تحت تأثير التقاليد، هذا إذا امكننا أنْ نميز ونوضح بدقة في
العالم الإسلامي بين التقاليد والأديان. وتاريخ الديانة الإسلامية يشهد على صعوبة
التمييز بين وجهة نظر اجتماعية ووجهة نظر دينية محضة. فالإسلام
هو دين ودنيا إذ نظم حياة المؤمنين في أدق التفاصيل ولكن في فترة تطوره التاريخي. أرغم الإسلام على أنّ يتأقلم مع الضرورات الاجتماعية والأوضاع
المتناقضة للواقع الإنساني.
وعندما يسألون عن تبرير استعمال الحجاب
يتحصن المسلمون وراء ميثاقهم - الإتفاق أو الإجماع " ووجهة الإمام باتفاق
المسلمين على منع النساء من الخروج "(8).
وميثاق المسلمين هذا يتدرّع به كجوهر أساسي
في الدين ليعطي ثقلاً قانونيًا لمؤسسة الإسلام .
وإن اعتبرنا الأشياء من وجهة نظر التقاليد ودافعنا عن
فكرة الحجاب كنقطة جوهرية في الدين الإسلامي فإنّ ذلك يعني أننا لا نتحدث عن دين
قابل للتغير والتطور. فالركيزة هنا هي إجماع المسلمين. ومن المستحسن أنْ لا نضيع وقتنا بجدل عقيم ودائرة مفرغة ولنسمي
الأشياء بأسمائها ونقول إنّ الحجاب هو حصيلة التقاليد وليس الدين.
ليس هناك من شكّ - أنّه في الربع الأوّل من
السنة الأولى للهجرة أنّ الحجاب وعزلة النساء لم يكن لهما سبب أو هدف آخر إلا الذي
ذكرناه سابقًا وهو التمييز بين الطبقات الإجتماعية.
عمر، الخليفة المشهور، يلتقي بامرأة غريبة
في بيته، وهذه كانت ترتدي الجلباب فيرتد عمر خارجا من بيته ولا يجرؤ على الدخول
إلا عند خروج المرأة الغريبة. يسأل عمر زوجته من تكون
هذه الزائرة فتجيب الزوجة إنّ الزائرة هي جارية تمتلكها إحدى العائلات. ويثور عمر على إثر هذه الحادثة ويصدر أمره بمنع الجواري من
ارتداء ثياب الحرات: أي لبس الحجاب أو الجلباب الذي يغطي الرأس والوجه.
وأمر الخليفة عمر هذا - الذي صدر في المدينة صدّق على
المبدأ الوارد في القرآن وجعله فعالاً. وبدءًا من ذلك التاريخ وضعت النسوة فى
فئتين: الحرّات والجواري(9).
الهوامش
ا - صحيح مسلم الجزء 1 مر
401
2- حصن الأسوّة ص 125
3- البخاري
الجزء 3 ص160
4- تفسير
الطبري الجزء 2ص 240
5- نفس المصدر الجزء 22 صر
29، طبقات ابن سعد الجزء 8 ص 126
6- الطبرى الجزء 22 ص 25
والطبقات الجزء 8 ص 125 ( التى لاتتفق مع الطبرىي) انظر البخاري الجزء 3 مر 160 (
الذي يتفق معه الطبري ).
7- تفسير
الطبري الجزء 22 ص 30، ابن سعد الطبقات الجزء 8 ص 126.
8- باغوري - فقه الجزء 2ص
105
9- حصن
الأسوّة ص 94، ويُنسب إلى عمر أيضًا أنّه منع الحرّات من الاستحمام في الحمامات
العامة بحضور امرأة غير مسلمة.
مع تطوّر وتقدّم الدين الإسلامي في الزمان
والمكان،أصبحت الحدود أكثر عمقًا بين الطبقات المختلفة،
وأخذ الحجاب والعزل أهمية متزايدة. وعندما فتح الإسلام
أراض أخرى، زاد عدد الإماء وأصبحت النساء الأحرار تدفع أكثر فأكثر التبعات المزعجة
لقاعدة الحجاب والعزل.
في هذا الوقت، فتح الإسلام بلاد فارس والرافدين من جهة،
وسورية المحتلة من قبل الرومانيين منذ سبعة قرون من جهة ثانية. ونحو الغرب استطاع
الجنرال عمرو بن العاص تحقيق انتصارات سريعة بفتح مصر وبلاد النوبة. وهكذا، وفي حوالي عشرين عامًا، توسّعت الإمبراطورية العربية
بشكل كبير وأصبح الفاتحون على صلة بحضارات جديدة. ومع احتفافظهم لأنفسهم بامتيازات
الفاتحين، فقد أبقوا عل نسائهم في نظام العزل المؤسف لتفريقهن عن باقي النساء.
إنّ مبدأ الفصل والتفريق الذي جعل منه محمد
نظامًا متكاملاً لم يلبث أنْ اعطى ثماره المرّة. هيبة الحجاب أصبحت سريعًا عامّة
في الطبقات العليا من المجتمع الإسلامي. إلا أنّ الطبيعة الإنسانية لها مطاليبها
وتستطيع أنْ تعثر على منافذ بالرغم من صرامة الآداب وبالرغم من الشذوذات
الاجتماعية التي تبعد لوهلة، الإنسان عن الظروف الطبيعية والتوازن المنتظم
لحاجياته البيولوجية. وهكذا، فإنّ المكّيّين، سكّان العاصمة المقدّسة للإسلام، لم
يتأخّروا عن أن يجدوا على لسان أهل الأ خبار وسيلة غاية في السهولة للانعتاق من
الحجاب لفترة. فحرصًا على مصالحهم العمليّة، فإن مدوّن الأ خبار الفقيهي، الذي
يستشهد به سنوك هورغرونج يروي أنّه في مكة، كانت الفتيات اللاتي ينشدن الزواج،
يخرجن مرّة إلى الطواف بالكعبة لإعطاء الفرصة لرؤيتهن من قبل الرجال الذين يريدون
طلب يدهن (1).
ودون شكّ، فإنّ من المحتمل أنْ يكون ذلك من
بقايا عادات قديمة حوفظ عليها بالرغم من التطوّر العام للمجتمع الإسلامي في اتجاه
العزل. ومهما يكن، فإنّ هذه الممارسات التي يحتمل وجودها طيلة القرنين الأوّل
والثاني للهجرة، تلطف إلى حدٍ معيّن، من مضار تشريع لايتناسب مع مصالح الرجال. إلا
أنّ هذا الملطف لم يلبث أنْ اضمحل مع تزايد تخفيض رتبة المرأة وكلما ازدادت قساوة
الأخلاق التي تصاعدت وتعممت مع الوقت لتشمل كل البلدان التي عرفت الإسلام الأوّل.
وفي اليمن، في القرن الثالث للهجرة، وعندما
بلغ الإمام يحيى الهادي أنّ سكان العاسوم لايحترمون بدقة قواعد الإسلام في حياتهم
الجنسية والزوجية، رأى من الضروري أنْ يفرض على سكان هذه المنطقة قو اعد صارمة،
فطلب أن ترتدي النساء الحجاب ومنع النساء البدوّيات من الذهاب إلى السوق مكشوفات
الوجه (2).
في مصر، وفي الحقبة نفسها، نلاحظ مبدأ
العزل بكل أبعاده. المؤرخ المصري ابن إياس يخبرنا بأن الفقيه الشافعي قد طلب في
وصيته أن تقوم نفيسة، وهي من حفيدات النبي، بالقيام بصلاة الميت عليه. وقد تمّ احترام وصيّته، وقامت نفيسة بالصلاة، ولكن لوحدها مع التابوت
معزولة عن الجموع بستارة (3).
في القرن التاسع للهجرة، أي في الحقبة التي وصل فيها
نظام العزل في مصر إلى ذروته، قرر سلطان مصر، منع كل النساء، تحت أي عذر كان، من
الخروج باستثناء العاملات في غسل الموتى (4). وبذلك أضحينا بعيدين جدأ عن الحرية
التامة التي تركها محمد للنساء في الصلاة في المسجد والكشف عن وجوههن وأيديهن.
كلما ازداد الوضع المأساوي للمرأة سوءا في
العالم الإسلامي، كلّما تعقّد زيّ المرأة بتأثير نظام العزل. ففي الأزمنة الأولى
للإسلام، وفي وقت كان معظم العرب فيه مازالوا بدوًا تتكون قراهم من خيم مزروعة في
الصحراء، كان فن الخياطة مهملاً إلى حدٍ ما، ولم يكن هناك تقسيم للعمل (5) وكان
الحائك ينجز العمل كله وحده، ولانستطيع التمييز كثيرًا بين ثياب المرأة وثياب
الرجل. فمعظم اللباس كان يختصر في ثوب مخاط من قطعة
واحدة تحيط بالجسم. بعدها، ومع الفتوحات، أخذ العرب الفاتحون عن الشعوب المهزومة
الكثير من ملابسهم والكثير من الترف ويشير ابن سيده إلى ما أخذوا عن الفرس
والرومان (6).
في أسبانيا، وبشكل خاص في الحقبة الأخيرة
لامبراطوريتهم، تبنّى العرب قسمًا كبيرًا جدًا من ملابس الفرسان المسيحيّين كما
يشير دوزي (7). وأستعير من هذا المؤلف المقطع التالي المتعلق بملاس المرأة: "
عندما منع فيليب الثاني على المور (8) الأسبانيين ارتداء أزيائهم الوطنية قال أحد
الموريين الذين استدعاهم مارمول فرانشيسكو نيونيز مولي هذه العبارات: إنّ زيّ
نسائنا لم يعد موريًا، إنّه زي الريف كما هو حال كاستيليا. في البلدان الأخرى
يختلف المسلمون عنا في هندام الرأس والملبس والأحذية. من
يستطيع أن ينكر أن زي نساء المور الإفريقيات والنساء التركيّات لايختلف تمامًا عن
الزي الذي ترتديه نساء غرناطة ؟ "(9).
إن التعقيد المتزايد في الملبس، يظهر بوضوح عندما نقارن
بضعة الأسماء التي تشير إلى الملابس في زمن محمد والتي حفظتها لنا الأدبيّات
القديمة، مع تلك التي استعملت فيما بعد. وفي قاموسه لأسماء الملاس عند العرب، يتناول
دوزي ملابس الرجال والناس مع الإشارة إلى أصلها الغريب. لن
نتوقف كثيرًا عند ذلك، وسنتناول الملابس التي كانت سائدة في القرن الأوّل للهجرة
والتي يتناولها التشريع القرآني والتي تهم موضوع دراستنا حول عزل النساء.
يمكننا أن نجزم، بشكل شبه قاطع، وفقًا
لمعرفتنا بالحياة والأخلاق في الفترة التي سبقت محمد بأنّه لم يكن موجودًا في تلك
الحقبة قطعة ملابس غايتها ستر وجه المرأة عن أنظار الرجل، ويمكننا أنْ نوضّح هذا
التأكيد، بشكل أكثر قطعية عند الحديث عن المجتمع العربي في عهد محمد، والذي طبق
قوانينه فيه.
سبق وأشرنا، في الفصل السابق إلى أنّ
محمدًا كان يذهب مع زوجته خديجة وابن عمه الشاب (علي ) للصلاة معأ في الكعبة وقد
كانت النساء تشارك في الحياة العامة بشكل يشغل الرجال ويثير مخاوف تأثر نسائهم
وأطفالهم بالدين الجديد (10).
ولم يكن ثمة عوائق تعكّر
صفو العلاقات الطبيعية في الحياة اليومية بين الجنسين.
من نقطة الانطلاق هذه، ومن هذا الوضع، الذي
ليس فيه مايصدم نظرتنا المعاصرة، سننتقل تدريجيًا إلى وضع الفصل الجذري بين النساء
والرجال.
في البدء، طلب محمد إلى النساء الحرّات أنْ
يتميّزن عن الإماء بارتداء الجلباب، وقد صاغ ذلك في الآية التي أوردناها آنفًا
(11). هذا الجلباب تمّ وصفه بشكل غير دقيق من قبل رواة الحديث والعلماء، وقد أثار
فيما بعد تعارضات لا نهاية لها، كانت نتيجها تعقيد الوضع أكثر، وسمحت بإذلال
وتحقير المرأة أكثر.
وإذا تفحصنا المشكلة بأسلوب معمّق أكثر،
ونقدي أكثر، من الممكن الوصول إلى تحديد شكل الحجاب هذا وبالتالى تقديم زي المرأة
الذي أراده محمد.
كلمة جلباب تعني تحديدأ القميص، حسب
القاموس وحسب عالم اللغة الجوهري، فهو ملبس خارجي يشبه الشال الكبير أو المعطف
ويعطيه اسم ملحفة.
ابن سيده في المخصص يقول بأن "
الجلباب " يعني " الملاءة "، وهي نوع من المعطف يسمّى أيضأ "
المرط " (12).
المرط حسب الجوهري ملبس من خيط مشاقة
الحرير يستعمل كغطاء. ابن سيده يستعمل أيضًا هذا التعبير: المرط هو اللباس الذي
يستخدم كإزار.
من هذه النبذة اللغوية يمكن أن نخلص إلى
أنّ الجلباب يمكن أنْ يعني إمّا القميص أو المعطف أو الشال. وعلينا أنْ نبعد على
الفور معنى القميص الذي لايتوافق مع حكم القرآن. في الواقع إنّ القرآن يطالب
المؤمنات بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والقميص في شكله لايسمح بالتأكيد،
بالإستجابة لهذا الطلب، وعلى العكس من ذلك فإنّ الملابس التي لها شكل المعطف أو
الشال تتناسب تمامًا مع ذلك. ومن هنا يحقّ لنا بأنْ نترجم كلمة جلباب
بشال أو معطف. والترجمة تنال شرعيتها من أنّ المرط كان أيضًا لباسًا عامًا تضعه
النساء فوق باقي الملابس. ونخلص من ذلك، إلى أنّه غير
مطروح بحال ارتداء ملبس خاص لتغطية الوجه: الإزار أو الجلباب يوضع فقط بشكل يغطي
الرأس أو قسمًا من الوجه لتتميز به النساء الأحرار كما أراد محمد.
بعد عامين أو ثلاثة من الفرض الإجباري للحجاب، وضع محمد
لنسائه قاعدة العزل. وبهذين الأمرين المتضامنين (
الجلباب والعزل ) واللذين يبالغ أحدهما في الآخر، أخذت المسألة سريعًا أبعادًا لا
حساب لها بالقياس إلى المضمون الأصلي الذي جاءتا فيه. ومن المؤكّد أنّه لم يكن
بالإمكان عدم اتباعهما دون المس بالدين، ولكنهما لم ينالا هذه الأهمّية إلاّ لأنّهما وجدا
ظروفًا مناسبة كما سنرى بواسطة مؤسّسات ملازمة لهما كالعبودية. ولكن موضوع بحثنا
ينحصر بقضية الحجاب والملابس الخاصة لحجب الوجه.
إنّ ما أتينا على ذكره، يبين بأنّه لم يكن في عهد محمد
عند العرب قطعة ملابس خاصة غايتها تحديدًا حجب وجه المرأة. والأدبيّات عندما
تتناول قضية ملابس النساء لا تورد سوى الإزار والجلباب والدرع أو القميص والخمار.
ونحن نعرف بشكل أكيد بأنّ هذه الملابس كانت ترتديها كل النساء في زمن النبي (13)،
إلاّ أنّ أدبيّات الحقبة لاتشير إلى غيرها. وقد بقيت أيضًا تشكل
الملابس الكلاسيكية لبعض الوقت بعد وفاة محمد (14). ولكن في القرنين الأوّل والثان
للهجرة دخل " النقب " و " البرقع " في الآداب وهما عبارة عن
حجابين مهمتهما تغطية الوجه، ونستعير من دوزي التفسيرات التي يعطيها بشأنهما ثم
نتناول بعد ذلك ماوجدناه في تاريخ الحجاب.
" إل هنا، يقول دوزي، لم يمرّ بنا أيّ
مصطلح يستخدم لتسمية حجاب للمرأة فيه ثقبان مقابل العينين.ومع ذلك، فإنّ حجابًا كهذا كان يستعمل لأنّ الرحالة يتحدثون عنه. ولكن
الفعل نقب بالعربية وفي العبرية يعنى perfovarit _ ( المنقب بالعربية - المترجم ). ومن الطبيعي إلى حد ما الافتراض بأنّ
كلمة نقاب يمكن أنْ تعني Velum cuit Sunt Foramina وفي الواقع فإنّ ابن جني يؤكد
ذلك بالقول: " النقاب أن تعمد المرأة إل برقع فتنقب منه موقع العين (في
تعليقه على شعر المتني، مخطوط 126 ورقة 220 ). ونقرأ في رحلة نيان غيستل (15):
" وترتدي نساء الريف أمام الوجه قطعة من قماش مزودة بثقبين للنظر منهما
". ويقول بيلون (16) الشىء نفسه: وطريقة الفلاحات العربيات والمصريات هي
القناع، الأ كثر دمامة: لأنّهن يضعن فقط مقطع نسيج قطن أسود أو من لون آخر أمام
العينين معلق على الوجه ومتحدر حتى الذقن مثل كمامة فتاة تدعى ذات اللحية. وللتمكن
من الرؤية عبر هذه المفضلة " الفوطة " يجعلن
ثقبين عند العينين. وهن بذلك يشبهن في زيهن المتحصن الفرسان الذين يتصارعون في
الجمعة المقدسة في روما وانيينيون (قارن مع بيترا دولا نيال)(17).
الأمير رادزينييلي (18) يقول أيضًا: "
يشكل حجابهن قطعة من القطن يوجد فيها ثقبان عند العينين ( Foraminibus
pro oculis excisis ) وتنزع الريح بسهولة الحجاب وليس من الصعب رؤية
وجوههن. ونقرأ في كتاب آخر (19) أنّ نساء الأرياف "
يغطين الوجه بقطعة قماش مخيفة المنظر فيها ثقبان عند العينين ". وعند كوبان (20): " بنات الأشخاص الميسوري الحال يضعن
برقعًا أحمر، وبنات الفقراء يضعن برقعًا أبيض أو ازرق. وفي
الحالتين نجد فتحتين أمام العينين تتمكن عبرهما المتسترات من الرؤية عند السير
". وهذا النوع من الحجاب كانت ترتديه أيضًا النساء البدويات في مصر. ونجد عند هيلفريخ (21): " يغطين وجههن بقطعة قماش
فيها ثقبان للرؤية" ويقول روجيه (22) في حديثه عن بدويات سورية: " يضعن
قماشأ على الوجه مثقوبًا في منطقة العينين " (23) أ.هـ.
إذن فالحجاب المسمى " النقاب " كان الموضة
الأكثر استعمالاً، هذا الحجاب لم يكن يستعمل في عهد محمد. ولم نجد سندأ واحدأ يمكن
أنء يجعلنا نتنازل عن تأكيدنا هذا. والنقاب لم يكن مستعملأ إلا في حالات خاصة،
وكرداء استثنائي. ويخبرنا الحديث أنّ عائشة خرجت مرّة في نقاب عند باب المدينة
لرؤية صفية السبية اليهودية التي اعتقها محمد والتي ضمها إلى نسائه (24).
هذه الواقعة التي يستشهد بها الرواة بوصفها
استثنائيّة لاتؤيّد بالتأكيد قدم استعمال الحجاب، بل تقودنا إلى تأكيد العكس. إنّ ابن سيرين، عالم من القرن الأوّل (توفي في 110 هـ )(25)
يعلن أنّ النقاب لم يكن سوى موضة (26). وهذا يُدعم فرضيتنا بأنْ استحداث النقاب
كان في النصف الثاني من القرن الأوّل للهجرة.
النقاب، هذه الموضة الإسلامية أصبحت ذات
استعمال شبه معمم، وكما يمكن أنْ نلحظ عن دوزي، كان لها حظها من النجاح عند
مسيحيات صقلية في القرن السادس للهجرة، لنقرأ نص ابن جبير الذي يتحدث عن صقلية:
" وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين فصيحات الألسن ملتحفات
متنقبات خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن باللحف
الرائقة وانتقبن بالنقب الملونة رانتعلن الأ خفاف المذهبة وبرزن لكنائسهن أو كنسهن
حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر " (27). من الممكن
ألاّ تكون ملاحظة ابن جبير صحيحة إلا عن مسلمات أصبحن مسيحيات واحتفظن بالزي والعادات
الإسلامية، أما الواقع ومايهمنا، فهو تعميم النقاب.
النقاب، مستحدث القرن الأول الهادف إلى تغطية صارمة لوجه
المرأة، يجد إلى جواره لهذه الغاية حجابًا من نفس النمط: البرقع، والموظف لنفس
الغاية، ويعود استعماله تقريبًا إلى نفس حقبة استعمال النقاب.
وحسب عالم اللغة الجوهري فالبرقع يشير إلى ملابس النساء
البدويات (28). ومن الاعتباطية أخذ موقف سريع حول دور هذا الزي. هل كانت غايته
الحماية من قساوة الطقس أم ضد الحشرات؟ هل استعمل لحماية وجه البدوية من نظرات
الرجل؟.
ليس بالإمكان الحسم في ذلك، إلا أنّه
بالإمكان الإفتراض أنّ للبرقع دورآ آخر غير العزل. النصوص البدوية القديمة
والعربية ماقبل الإسلامية تعرض لنا حالات يرتدي فيها الرجال الحجاب، الأمر الذي
يمكن وصفه حسب اعتقادنا بالشيء العادي في لظروف الخاصة بالحرب والقتال والثأر. ولا يقدّم لنا الأدب أو فقه اللغة من معلومات مفيدة أو واضحة
حول هذا الملبس الذي لم يكن عامًا عند قدماء العرب وتعمم استعماله لاحقًا. ونقتطف
توضيحات دوزي الذي جمع معلومات عن زي بحمل هذا الاسم في حقبة أكثر حداثة:
" نعرف أن البرقع كلمة استعملها الشعراء العرب كالمتنبي.المعري إلخ. وبمقارنة الشعر
الذي يستشهد به الجوبري نرى بأنّه كان متعدد الألوان في القديم. ويشير الشعراء غالبًا إلى هذا الحجاب في استعاراتهم. ولكن في القرون الوسطى
للتاريخ العربى، كان مصير هذا الحجاب الاندثار وأصبحت الموضة هي استبداله بحجب
أخرى. وفي الواقع، نبحث دون جدوى عن هذه الكلمة في " ألف ليلة وليلة "
الكتاب الذي نجد فيه اشارات لعدّة أنواع من الحجاب. وأظن، إن لم أكن مخطئًا أن
الاشارة إلى هذه الكلمة عادت في القرن الماضي حيث نجد " البرقع " في
مصر. يصفه الكونت شابرول كما يلي (29): " ما يغطي الوجه من مارن الانف وهو
متصل بهندام الرأس أعلى الجبهة في كل جانب، وهو قطعة من الحرير أو القماش الأبيض
الرقيق بعرض الوجه ويمتد حتى الركبتين. وهذا الحجاب ضروري للمرأة التي تخرج من بيتها ".
ونقرأ في كتاب بوكوك (30): " وتضع
نساء العامة على الوجه نوعا من المريلة التي تتصل بشريط إلى هندام الرأس فوق
الأنف" وفي مرجع أخر نجد (31): " قطعة من الحرير الأ سود تقوم تمامًا
بدور الحجاب بحيث لايمكن أن نرى من الوجه سوى العينين ( يذكر الكاتب ذلك عن نساء
العامّة ). وفي " Planche XX " يمكن أنّ نرى زي امرأة من القاهرة من وضع
اجتماعي أكثر يسرًا يتجاوز فيه البرقع الأسود فقط منتصف الجسم. وهو يشير فى الوقت
نفسه تمامًا إلى ماتعنيه كلمة " يشمق " التركية، حيث يمكن أنْ نقرأ في
كتاب تورنر (32)، أن هذا الرحالة شاهد في رحلته بين دمياط والإسكندرية نساء قبطيات
يرتدين " اليشمق" الطويل الإسود الذي ينزل من أعلى الأنف إلى الركبتين. ونفس الرحالة يقول في مكان آخر (ج 2 ص 396) عن نساء العامة في
مصر بأنّ هذا المنديل يعلق عليه عند الجبهة بعض الحلي من ذهب وفضة أو نحاس أصفر. و
" اليشمق " حجاب من القطن الأسود أو الحرير يغطي كل الوجه عدا العينين
وينزل حتى الصدر وأحيانًا حتى الركبتين ". وأخيرًا نورد مايذكره لين (33) في
كتابه الجميل: " برقع أو حجاب الوجه (للنساء من الطبقات الراقية والمتوسطة )
وهو قطعة من النسيج الموصلي (نسبة لمدينة الموصل في العراق - المترجم ) الأبيض
تغطي كل الوجه عدا العينين وتنزل تقريبًا حتى القدمين، يعقد في طرفيها العلويين
شريط يمر على الجبهة ويتصل بدوره مع نهايتي الحجاب العليا بشريط آخر حول الرأش.
وبعد ذلك بقول نفس المؤلف (جزء 1، ص 64) بأنّ نساء العامة يرتدين برقعًا، نوعا من
الكريب ( قماش رقيق جعد - المترجم ) الأ سود الواسع، وبعض من ينحدرن من أسرة
الرسول يلبسن برقعًا أخضر. وفي مكان آخر يصف بعض زينة
البرقع (جزء 1، ص 66، 97) بهذا الشكل: القسم الأعلى من البرقع الأسود مزين بحلي من
المجوهرات المزورة وقطع نقود صغيرة من الذهب، وحلي أخرى من نفس المعدن، صفائح
صغيرة تسمى البرق؟ وفي بعض الحالات بحبات المرجان تحتها قطعة نقد ذهبية. وفي أحيان
أخرى، قطع نقود فضية ليست ذات قيمة كبيرة؟ والأكثر
اعتيادًا سلاسل من النحاس الأصفر أو الفضة تتصل كل منها بأحد طرفي البرقع في
الأعلى. وتسمّى عيون. ويمكن أن نجد شكل البرقع عند لين (
ج 1،ص 64،62، 65، 66) وفي وصف مصر (34).
وفي أيامنا لانلحظ نوعًا آخر للحجاب في
مصر.
في سورية، ترتدي البرقع النساء البدويات
اللات يطلق عليهن اسم " قبيلي " Keblis (35) وفى الساحل السوري يلاحظ
وجود هذا النوع من الحجاب أيضًا (36). أما في الجزيرة
العربية، فترتدي البرقع حاليًا نساء مكة وجدة والمدينة ويلبسنه أبيض أو أزرق (37).
وفي القرن الرابع عشر للميلاد يبدو أن
البرقع كان مستعملاً في شيراز لأن ابن بطوطة في رحلاته يتحدث عن نساء هذه المدينة
بالقول: " ويخرجن ملتحغات متبرقعات فلا يظهر منهن شيء".
ومن المفيد الإشارة إلى أنّه في بلاد
ماوراء النهر، فإن تعبير برقع يعني حجابًا للوجه، ولكنه حجاب كبير أو معطف تلتحفه
المرأة بشكل كامل. ونقرأ في أحد المراجع (38): " وتضع النساء على أجسامهن
اللهادر (التشادور ) أو غطاء من الحرير يسمى بوركا يغطي الجسم من الرأس حتى
القدمين، ولكن يترك قرب العينين فتحة صفيرة كالشبكة بالشكل الذي نلحظه عند
الفرس" (وهذا ينطبق حصرًا على نساء المدن، أمّا نساء الريف فسافرات الرأس
وكذلك النساء المسنات في المدن ) (نفس المصدر، ص 86)، وفي مكان آخر (ص 104 ) نجد
أنّ نساء المدن والقرى يتحجبن كما في الدول المحمدية الأخرى ويلبسن البوركا التي
تغطي الجسم من الرأس حتى القدمين "(39) أ.هـ
هذا التحقيق الذي قام به دوزي، يظهر أنّ
" البرقع " كان موجودًا في عدة أماكن وفي أشكال مختلفة. وأصل هذا الملبس
غير واضح تمامًا، وهو نادرًا مايرد في الأدبيات القديمة، وأقدم نصّ يشير إلى
البرقع هو شعر لسحيم عبد بني الحسحاس(40) والذي قتل في عهد الخليفة عمر، ونجد أيضًا
في الحماسة (ص 95، طبعة 23، فريتاج ) جملة تشير إلى هذا الهندام.
التبريزي، الذي اعتاد التعليق على الأشعار
القديمة يحدّثنا بأنّ الشاعر " القتّال " نجا من انتقام أعدائه بارتدائه
ثياب امرأة(41) وفي مقطع آخر من الحماسة نجد إشارة للبرقع كجزء من تجهيز الحيوانات
(42).
هذه هي أقدم النصوص التي تشهد على وجود هذا
اللباس، وليس بالامكان استخلاص استنتاج مقبول إلا في إطار ماسبق وذكرناه آنفًا.
ولنعرض واقعة تشير إلى مدى أهمّية الحذر في هذا المجال.
فأثناء بحثنا في أصل البرقع، مر بنا مقطع يورد فيه الشاعر عمر بن أبي ربيعة كلمة
" القناع " في إحدى أشعاره المجازية، ونحن نعلم أن القناع زي يضعه
الجنسان على الرأس. ولو أراد الشاعر لاستعمل كلمة
تتبرقعا بدل كلمة تتقنعا، ولا يعترض على ذلك اللحن ولا الضرورة الشعرية (43). إنّ
استعمال الشاعر لهذه الكلمة يؤكد على ندرة استعمال الحجاب الذي يغطي الرأس.
الهوامش
1 – فقيهي، ص 2، طبعة
وستنفيلد:
ذكرالطواف بالجواري الأحرار
والإماء بمكة إذا بلغن... وجعلوا عليها حليًا إن كان لهم
ثم أدخلوها المسجد الحرام مكشوفة الرأس بارزته حتى تطوف بالبيت والناس ينظرون
إليها ويبدونها أبصارهم فيقولون من هذه؟ فيقال فلانة بنت فلان إنّ كانت حـرة ومو
لدة آل فلان إن كانت مولدة.
2- هذه الرواية، أخبرنا بها
السيد اريندوك من لايدن، الذي يعمل على تاريخ أئمّة اليمن. وهي مأخوذة
من مخطوط في في مكتبة المتحف البريطاني.
3- ابن إياس، تاريخ مصر،ج 1،ص 33، طبعة بولاق.
4- ابن إياس، تاريخ مصر، ج
2، ص 21: ثمّ أنّه ( أي الأشرف برسباي ) نادى بأن امرأة لاتخرج من بيتها مطلقًا
فكانت الغاسلة إذا أرادت التوجه إلى ميت، تأخذ ورقة من المحتسب وتجعلها في رأسها
حتى تمشى فى السوق.
5- هذه الفكرة العامة عن
البداوة ليست دقيقة، فقد كان هناك تقسيم عمل بين الجنسين وكانت الحياكة من مهمّات
المرأة التي تشكل العنصر الانتاجي الأساسي في القبيلة. للتوسّع، إنظر: هيثم مناع:
إنتاج الإنسان شرقي المتوسط، ص 89 ومابعدها (المترجم).
6- ابن سيده، المخصص، الفصول التي تتعلّق بملابس النساء والأمتعة المنزليّة.
(الجزء الرابع).
7- دوزي، قاموس مفصل لأسماء
الملابس عند العرب (بالفرنسية ).
8- المور: تسمية تاريخية
كانت تطلق على المسلمين العرب والبربر في شمال إفريقيا وعلى المسلمين الذين أقاموا
الإمبراطورية الأموية في الأندلس وذلك بين القرنين الثامن والخامس عشر (المترجم ).
9- دوزي، نفس المصدر، ص 3.
10- البخاري،
صحيح البخاري، ج 1، ص 319: فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا.
11- الآية هي: ياأيها النبي
قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلبابهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا
يؤذين - الأحزاب 9ه - ( المترجم ).
12 - ابن سيده، المخصص، ج 4،
ص 76: الملحفة - الملاءة واللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه -
المرط ملحفة يؤتز لها الجلباب الملاءة. وفي نفس المصدر،
ص 94 نجد: الجلباب هو القميص وقد تقدم أنّه الملاءة.
13 - طبقات
ابن سعد، ج 8، ص 69: كانت ميمونة تصلّى في الدرع والخمار وليس عليها إزار.
14 – تفسيرالطبري، ج 2، ص
205: إن شريحًا كان يمتع بخمسمائة قلت لعامر ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.
15-
T.Vojage van Mher Joos van Ghistele, Page.23.
16-
Belon, Observations, Page.233.
17- Pietra della Valle, Viaggi, tom. I. Page. 330.
18- Radzivill, Jersolymitane perigrintio, Page.187.
19- Arelation of a journey gegun An. Dom 1610, Page. 209.
20-
21- Kurtzer
und wahrhaftiger Bericht von der Rayszn, fol.387 V
22- Roger. La Terre Sainte, Page. 208.21 – La Religion de
23- Dozy, Dictionnare
detaille des noms des vetements chez les Arabes p.424 et suiv.
24- انظر طبقات ابن سعد، ج 8، ص 90: " فسمع بها نساء الأنصار
وبجمالها فجئن ينظرن إليها وجاءت عائشة متنقبة حتى دخلت عليها فعرفها النبي
".
25- إنظر: ابن قتيبة، كتاب
المعارف.
26- لسان العرب، كلمة نقاب. يقول ابن منظور: وفي حديث ابن سيرين: النقاب محدث،
أراد أن النساء ما كنّ ينتقبن أيّ يختمرن (إضافة من المترجم ) .
27- ابن جبير، رحلة إلى
صقلية.
28- البرقع:
حسب الجوهري والليث وابن منظور والأزهري: تلبسه الدواب ونساء الأعراب. وبرأينا فإن استعمال البرقع عند الاعراب سبق استعمال النقاب ولم يكن
عامًا في الجزيرة العربية، وكان الوصوصة.يقول ابن منظور : " الوصوصة والبرقع
وكان من لباس النساء، ثم احدثت النقاب بعد ". (المترجم).
29-Egypt, tom.XVIII, Page. 114.+29-
Chbrot, La description de L
30-
Pocock, Beschrijving van bet Oosten, tom I Page. 374.
31- Relation.
32- M. Turner, Journal of a Tour in the Levant, tom II. Page. 308.
33- M. Lane, Modern Egyptian. Tom I Page. 61.
34- Egypte ( atlas, tom I pl. E. 41 ).+
34- La Description de L
35- Burckhardt, Notes on the Bedouins and
Wahabys, Page. 29.
36- Voyez:
37- Burckhardt, Travals in
38- Relation de Fraser,
Journwy into Kgorasan, Appendix E, Page.89.
39- هـذا المقطع الطويل مأخوذ عن كتاب دوزى ص 65، 66، 67، 68. (نود
التنويه إلى أـ كتاب دوزي صدر عام ه194، ومن هنا، فحاليًا بالنسبة للمؤلف، تعني
النصف الأ ول من القرن التاسع عشر- المترجم ).
40- يعود الفضل في هذه الملاحظة إلى نولدكه، عبر السيد سنوك، وهي
مأخوذة من مخطوط قديم في لايبزغ .
(سحيم شاعر غزل من أصل حبشي
ومن رقيق شعره، نجد استعمال المئزر أيضًا في قوله:
حَمَلْنَ جِرانَ العَوْدِ
حتى وَضَعنَهُ بعلياء
في أرجائها الجنُّ تَعْـزفُ
وأحرَزْنَ مناكِل حُجرةِ مئزرٍ لهن،
وطاحَ النَوْفَلي المزخرفُ
وقُلْنَ: تمتع ليلة النأي
هذه فإنك مرجومٌ غدًا
أو مُسَيّفُ
وقد مر بنا أكثر من مثل على
البرقع والبرقوع منها قولة الجعدي:
وخدّ كبرقوع الفتاة مُلَمّعٍ وروقين
لما يَعدُ أن يتقشرا
فيما لايتعارض مع وجهة نظر
منصور فهمي - المترجم )
41- انظرالحماسة ص 95: ثم
خرج من القتال هاربا وأصحاب القتيل يطلبونه فمر بابنة عم له تدعى زينب متنحية عن
الماء فدخل عليها فقالت ويحك قال إلقي عليّ ثيابك فألقت عليه ثيابها وألبسته
برقعها.
42- نفس المصدر، ص 541:
عهدت بها وحشًا عليها براقع وهذي
وحوشٌ أصبحت لم تبرقع.
43- نفس المصدر، ص 522:
ولمّا تفاوضن الحديث وأسفرت وجوه
زهاها الحسن أن تتقنعا.
الصرامة المتزايدة في لباس المرأة تلحق
مسيرة موازية في قسوة ممارسة العزلة على النساء. عندما نذكر الحقبة الزمنية التي كان
فيها النبي واصحابه يجلسون لتناول الطعام في حضور زوجة المضيف، وعندما نقارن هذه
الفترة بالفترات المتعاقبة نجد أنّ انتقاص مهم من حرية المرأة. " عن سهل قال
لما عرّس أبو أسيد دعا النبي وأصحابه فما صنع لهم طعامًا ولا قرّبه إليهم إلا
امرأته أم أسيد بلت تمرات في تور من حجارة من الليل فلما فرغ النبي صلعم من الطعام
أماتته له تتحفه بذلك "(1).
وإذا عبرنا الجزيرة العربية إلى مصر من القرن الأوّل
للهجرة إلى القرن التاسع حيث سلطان مصر أمر العزلة التامة للنساء يمكننا أن نتبع -
بين هاتين النقطتين المتطرفتين - الدرجات المتلاحقة في انحطاط وضعية المرأة. في القرن الثامن في مصر منع ملازم السلطان النساء من ارتداء
قميص ذي أكمام واسعة. " وفي سنة ثلاث وتسعين (بعد السبعمائة ) أمر كتبغا ناثب
القبة أنْ لاتخرج النساء إلى الترب بالقرفة وغيرها ومنع النساء من لبس القمصان
الواسعة الأ كمام
"(2) ويظهر بوضوح هنا أنّ سبب المنع هو الرغبة في تقييد حرية
المرأة وليس انهماك السلطان في مسألة جمالية.
وفي بداية القرن الخامس يروي المؤرّخون أنّ الخليفة
المجنون الفاطمي الحاكم منع النساء الخروج من بيوتهن. " وفي سنة 405 زاد
الحاكم في منع النساء من الخروج من المنازل ومن دخول الحمامات ومن التطلع من
الطاقات والأسطحة ومنع الخفّافين من عمل الخفا لهن "(3).
وفي غضون القرن نفسه - حب الأسطورة
التاريخية - دأب ابن الخليفة الفاطمي عل إبادة الجنس الأنثوي.
والحقيقة أنّ انحطاط المرأة المتواصل استمر عدّة قرون بعد مجيء
الإسلام وأنّ هذا التدهور لا علاقة له بالحياة العربية في الأزمنة البدائية.
لنترك بلاد مصر ولنرجع إلى الجزيرة العربية في أوائل الفترة
الإسلامية حيث نلاحظ اضطرابًا مثيرًا في العقليات والأخلاق بكلّ ما يتعلق بأحكام
وتنظيم مكانة النساء. إذ يُقال أنّ أوائل العرب من أنصار
محمد - بعد قليل من وفاته - كانوا يتناقشون حول موضوع السماح للمرأة بالصلاة في
الجامع. هل من اللائق أنْ يُسمح لها أو هو شيء غير
مُستحب؟ "… عن ابن عمر قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد
بالليل فقال ابن لعبد الله لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلاً قال فزبره ابن عمر وقال
أقول قال رسول الله وتقول لا ندعهن "(4) وأمّا الروايات فتقول أنّه كان هناك
طرفان متناقضان: طرف مع وطرف ضدّ إلا أنّ الجانب المعادي للسماح للمرأة بالصلاة في
الجامع هو الذي طغى.
ينسب إلى الخليفة عمر الكلام التالى: -
وتنقل إلينا الروايات أن أفعاله وكلماته ساهمت في انحطاط مكانة المرأة – "
ابقوا النساء أسيرات لأنهن إنْ خرجن لحضور أفراح الزفاف والأعياد وحضور الجنائز
وكانت لهن حرية الخروج من منازلهن فإنّهن ينتهزن الفرصة أنْ يرين ما يسرهن حتى
عندما يكون أزواجهن أكثر
وسامة ونبلاً من الرجل الآخر. فالرجل الذي لايمتلكهن يصبح اكثر
نفيسًا من الزوج وهكذا ينجذبن إليه "(5).
لاندّعي هنا أنّ كلمات عمر هذه هي فعلاً
كلمات خرجت من فم الخليفة، عندما نذكر أنّ الروايات التاريخية هي مشوشة وخاصة تلك
التي تنسب إلى محمد وأصحابه أكثر من رأي واحد وهنا أهمية النقد التاريخي. إلا أنّ
الحديث يحتوي على المباديء والآراء التي اخترقت الدوائر المهيمنة في المجتمع
الإسلامي في القرون الأولى من الهجرة. وهذا يكني لبحثنا الذي نتوخى من ورائه تحديد
ودراسة تطور المفاهيم الإسلامية التقليدية عن المرأة والأخذ بعين الاعتبار للسمات
والوقائع الأكثر أهمية والأكـثر تميّزًا.
وخلاصة القول أنّ عزلة النساء أصبحت مع
الزمن شيئًا مألوفًا وأخذت تُعَمّم أكثر وأكثر وأعتبرت في النهاية شيئًا طبيعيًا
جدًا. فالمصطلحات التي تعبر عنها كانت تستخدم لإطراء
امرأة ما أو عائلة بأسرها.
فسابقًا عند العرب القدماء كان يميز بين المخدرات وغير
المخدرات. فالمخدرات كنّ الفتيات أو النسوة اللواتي ينتمين إلى العائلات الثرية
وبحكم ذلك كن يتركن للجاريات أو الأمات القيام بأعمال البيت البدوي كحلب الجمال
والعناية بها. وهن يبقين سيدات في خيامهن. إلا أنّ عزلة
المخدرات عند قدماء العرب تختلف عن عزلة المسلمات إذْ لم يكن هدفها حجب المرأة عن
رؤية الرجل بل لترسيخ التمييز بين النبلاء المنتصرين والعبيد المنهزمين. والشعراء في تلك الفترة إنْ أرادوا إطراء قبيلة ما أو قائد ما
كانوا يتباهون بصدارة القبيلة بأنْ يسمّوا نساءهم بالمخدرات.
هذا الإطراء المتأمل في المناقب والأخلاق
العربية كان مايزال حيًا ومستمرًا في عهد العباسيين حيث حكمت مصر في القرن السابع
للهجرة الملكة شجرة الدرّ. فالواعظون في الجوامع لم
يجدوا تعبيرًا أفضل لإسداء الإطراء للملكة شجرة الدر إلا بالحديث عن حجابها
الصارم. " فكانت الخطباء بعد الدعاء للخليفة تقول واحفظ اللهم الجبهة
الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل والستر الجليل والدة
المرحوم خليل "(6).
نذكر مثل الملكة
شجرة الدرّ لأنّه يطابق ما تكرره أقوال الروايات العربية الإسلامية. فالمثل القديم
يردّد: " تأخذ الناس مثلاً من الحاكم " فالحاكم هو المثل الأعلى للشعب.
وبما أنّ الحكام يعتبرون عزلة النساء كقيمة في الأخلاق فاذن، فإنّ الشعب يتبع
ماتقوله الحكام. وكم من المرات غير حكام بغداد ومصر
مباشرة أو غير مباشرة موضة الملابس في البلاد. فبغداد المدينة التي انصهرت فيها كل
اجناس البشر، من عباقرة وفنانين أتوا إليها من كلّ جهة صنعت ملابس الرجال بشكل
متماثل ووجهت ملابس النساء لتناسب عزلتهن.
الصدفة أيضًا ساهمت في تطور ملابس النساء
في نهاية القرن الثانى وبداية القرن الثالث للهجرة. تقول
الرواية إنّ ابنة عم الخليفة المأمون كانت تحتل مكانة مرموقة في مجتمع بغداد نظرًا
لجمالها وموهبتها كشاعرة وتذوقها للموسيقى. إلا أنّ جمالها لم يكن كاملاً - إذا
أردنا تصديق الرواية - إذ أن جبينها كان كبيرًا أكثر من اللازم ولتمويه هذا النقص
إتّخذت هذه السيدة اللامعة منديلاً من الحرير مزينًا بالأحجار النفيسة وحورته بشكل
قطري لتضعه على رأسها. في اليوم التالي تبنّت سيدات مجتمع بغداد المخملي زي ابنة
عم المأمون.
" أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد
النوفلي عن عمه قال كانت علية بنت المهدي من أحسن الناس وأظرفهم تقول الشعر الجيد
وتصوغ فيه الألحان الحسنة وكان بها عيب في جبينها فضل سعة حتى تسمح فاتخذت العصائب
المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها فأحدثت والله شيئًا ما رأيت فيما ابتدعته النساء
وأحدثته أحسن منه "(7).
تذكر كتب الأدب العربي الكثير من ذكريات
هذه العصائب الحريرية التي كانت في فترة من التاريخ تعتبر قمة في زينة النساء ذوات
الذوق الرفيع والقدوة الحسنة.
وإذ نخرج قليلاً عن موضوعنا هنا، نلاحظ أنّ
انهماك الحاكم في مصر المسلمة في فترات مختلفة، كان يتركز على تمييز الناس من خلال
ملابسهم. في بداية النصف الثاني من القرن الثامن للهجرة أصدر المجمع الديني
القانون التالي: على المسيحية أنْ ترتدي معطفًا ازرق واليهودية معطفا أصفر
والسمارية معطفا أحمر "(8).
وبعد عشرين سنة أي حوالى سنة 373 سنّ
السلطان القانون الذي يلزم المتحدّرين من سلالة النبي بأنْ يتميزوا عن غيرهم
بإرتداء العمامة الخضراء(9). ونضيف هنا أنّه منذ زمن العباسيين كان حكام بغداد
والقاهرة يجدون الوقت الكافي للاهتمام بالملابس. فهندام المرأة أصبح أكثر صرامة
والرجال تلبس ملابس متشابهة.
الهوامش:
1- صحيح
البخاري الجزء 4، صر 19
2- حصون
المحاضرة الجزء 2صر 166
3- نفس المصدر ص 152
4- صحيح مسلم الجزء 1 صر 129
مطبعة بولاق
5– الجاحظ
ص 274 ed. Brill, 1898
6- ابن اياس تاريخ مصر الجزء
1 صر 89 مطبعة بولاق
7- الأغاني الجزء 9 ص 83
8- حصون المحاضرة سيوني ص
164
9- ابن اياس تاريخ مصر أحداث
عام 773
كان الرجل في مجتمع العرب القدماء يستطيع تملّك العديد من
النساء بقدر ما يسمح له وضعه المالي. وكلّما زادت انتصاراته زاد عدد تملّكه
للعبيد. والعبد - أو الجارية كان مُِلك سيّده يفعل به ما يشاء. ومن بين العبيد كان
الرجل يختار خليلاته. وأمّا الطفل الذي يُولد نتيجة علاقة أبيه السيّد الحرّ مع
أمّه العبدة فإنّ مصيره كمصير أمّه. فلا هو ولا أمّه
يُُعتقان إلا إذا تكرّم عليهما صاحب الأمر والنهي(1).
هؤلاء العبيد كانوا مكلّفين بالقيام بكل
الأعمال ومنها الأعمال المنزلية.
وفي بعض الأحيان - حسب الروايات - كان السيّد يستغل
الأمَة بأنْ يدفعها إلى ممارسة الدعارة (2) إلا أنّ المُغَنّيَة الأمَة كانت تدرك
مكانة أفضل من الأمَة العادية. وهذه الأخيرة كانت في البيت المنزلى تقوم بكلّ ما
يتطلب البيت وكذا تعفي سيّدتها من القيام بهذه الأعمال. نتيجة ذلك فإنّ زوجة
السيّد كانت حبيسة المنزل وحُرمت من الاتّصال بالعالم الخارجي ولهذا فإنّ حدًا
فاصلأ نشأ بين دور المرأة الأمَة الإيجابي والدور السلبي للزوجة.
والزوجة كانت تختار من عائلة نبيلة لكي
يضمن الزوج نبالة طفله من ناحية الأم والأب. كما أنّ
الحافز السياسي ّكان يلعب أحيانًا دورًا مهمًا في إنتقاء الزوجة من أجل تحقيق
التقارب بين قبيلتين عدّوتين، - وهذا ما فعله النبي في إحدى صفقات زيجاته.
وخلاصة القول: أنّ بين العقلية التي كانت
توجّه عقد الزواج مع النساء النبيلات الحرّات وبين الأوضاع التي كانت تنّظم مصير
الأمات كان هناك اتّجاه لخلق طبقتين متميّزتين من النساء اللواتى تفرّق بينهما
أعمالهن أو وظائفهن ونمط حياتهن والعناية المحاطة بهن.
وفيما بعد وفي بداية الحِقبة الإسلامية تضخّم الفرق بين
هاتين الفئتَين لدرجة أنّ الأمَة أُجبرت أنْ تميّز نفسها بملابسها وإعفائها من
العزلة.
إلا أنّ عزلة النساء الحرّات كانت موجودة في مجتمع العرب القدماء. وجاء الإسلام ليحسّن نظريًا وضع المرأة الأمَة.
والآن لندرس الموضوع من وجهة نظر القانون ومن ناحية الواقع
والنتائج التي تتعلّق بعزلة النساء الذي هو موضوع درسنا.
مصدر أو منبع العبوديّة هو مبدأ الحرب أو من نتيجته، فالكافرون
الذين رفضوا اعتناق الإسلام أو دفع الفدية، وجدوا أنفسهم في خانة العبوديّة. لكن في حالة حصول حرب بين المسلمين أنفسهم لم يكن مسموحًا أنْ
يخضع سجناء الحرب للعبوديّة بيدّ أنّه كان ممكنًا شراء العبد المسلم من العدو
الكافر أو من يدّ مسلم آخر كان قد اشتراه في مثل هذه الظروف.
وعجز الأمّ الأمَة يقود إلى عدم أهلية
أطفالها ويستثنى منهم هؤلاء الذين يكون أبوهم سيّدها أو
مالكها.
وفيما يختص بحالة العبيد فيمكننا القول أنّها كانت معتدلة رحيمة إذا قارنّاها بوضعيّة
العبيد عند اليونان أو الرومان أو حتّى عند العرب القدماء. إلا
أنّ العبد يبقى بلا شخصيّة قانونيّة إذ هو ملك مالكه وسيّده. ولكن
قانون العبوديّة هذا يعترف أيضًا بحق العبد في الحياة، فلا يحق لمالك العبد أنْ
يقتله حسب توصيات الفقيه أبي حنيفة. ومبدئيًا لا يحقّ
للسيّد أنْ يعاقب عبده إلا في حالات خاصّة، وكل عقاب غير إنساني يعرّض المالك
للمحاكمة أمام القاضي.
وينتج عن قانون حق ملكيّة العبد أنّ هذا الأخير لا يتمتّع بحق الوراثة. والأكثر من ذلك فإنّ
العبد لايملك أيّ شيء وإنْ وُهب بأيّ شيء فهو ملك سيّده.
فأمّا في الدعاوي المدنيّة فإنّ أقوال
العبد - إنْ كان مدافعًا أو طالبًا - يجب أنْ تكون مدعومة من قِبَل سيّده لتأتي
بأيّة نتائج. وعليه أي العبد أن ينفّذ بأمانة الأعمال
التي يطلبها المالك والمالك بدوره مُلزَم بعناية وعلاج العبد في حالة المرض. وبطبيعة الحال فإنّ حقّ التملّك يعطي المالك الحريّة بأنْ
يتخلّص من عبده ببيعه أو ببيعها. ومبدأ بيع العبد خاضع لحالات استثنائيّة
مشروطة بقيود أخلاقيّة. فالمالك الإقطاعي يلتزم مبدئيًا أنْ لايُفرّق بين الأم
الأمَة - العبدة - وطفلها طالما أنّ هذا يحتاج إلى رعايتها، أيّ حقّ حضانة الطفل -
الفقيه مالك.
إنّ حق المالك بالتمتّع بالجارية لايسري
مفعوله إلا بعد وقت معيّن من دخولها في ميراثه أو في حوزته. هذه الفترة تُسَمّى
بفترة " الاستبراء " وهي تعتبر ضروريّة للتأكّد من أنّ المرأة الأمَة
ليست حاملاً. وتُقاس هذه الفترة بالعادة الشهريّة الواحدة للعبدة أمّا المرأة
الحرّة فإنّها تقاس إلزاميًا بثلاثة. وتفسير هذا الفرق يرجع إلى أصل القوانين
المسلمة. فكلما ارتفع شأن الفرد كلما تعقّدت علاقاته مع الآخرين، فاخطاؤه ومناقبه
تتضاعف كتضاعف العقاب أو المكافأة.
بعد إنفضاء الفترة القانونيّة أو بعد ولادة
الطفل إنْ كانت العبدة حاملاً عندئذ فقط يحق للمالك أنْ يتّخذها خليلة له. والمالك
طبعًا يحقّ له أنْ يمتلك ما شاء من السريّات إلى عدد غير محدود.
وعندما تصبح السرية أمًا نتيجة علاقاتها مع
مالكها فإنّها تكتسب وضعًا جديدًا وهذا يضعها بمرتبة الوسيطة بين الزوجة الحرّة
والسريّة العاديّة وبالإضافة إلى ذلك فإنّها لاتباع ولا " تُؤجّر" كما
أنّ خدماتها أو أعمالها تقلّ عن السابق. وستُعتق عند
وفاة مالكها.
ويمكن أن تتزوج السريّة أو الأمَة في
الحالات الثلاث الآتية فقط :
ا - أما أنْ
تتزوج مالكها.
2- أنْ تتزوج عبدًا.
3- أو أنْ تتزوج
رجلاً حرًا.
في الحالة الأولى على المالك أنْ يعتق خليلته
الأمَة أولاً، وبعدئذ يستطيع أنْ يعقد قرانه عليها، وعتقها ضروري حتى تسترجع
كرامتها وحريتّها، ثمّ أنْ الرجل لايستطيع أنْ يكون زوجًا ومالكًا في آنٍ واحدٍ.
وبعد عتقها يمكن أو يحلّ للرجل أنْ يتزوج
أمته دون أنْ يكون مُلزمًا بدفع المهر. ونذكر هنا أنّ
عتق الأمَة يساوي في ذهنيّة القانون الإسلامي المهر الذي يدفعه الزوج إلى زوجته
الذي بدونه لا يمكن أنْ يجرى عقد الزواج.
وفي الحالة الثانية حيث تتزوج العبدة رجلاً
آخر غير مالكها أو سيّدها فإنّ حقّ تملّك هذا الأخير لا بطلان فيه.
فالتشريعات الإسلاميّة تعترف بشرعيّة هذا
الزواج. وهنا فإنّ المالك يتحمّل دورًا مضاعفًا: الدور الحامي لقاصر ودور مالك
العبدة، وهكذا تلتقي مصالح المالك بمصلحة العبدة.
والمالك للعبْدة أو للعبْد يملك أيضًا قدرة
" الجبر " أي بستطيع أنْ يزوّج المرأة العبْدة أو الرجل العبْد مع الشخص
الذى بختاره هو. وله الحقّ أيضًا أنْ يضع يده أو يستولي على المهر الذي يُقدّم
للعبْدة. وما هذا إلا تطبيق لقانون حق ملكيّة العبيد. ولكن من جهة ثانية فإنّ واجب الحماية يُلزمه بأنْ يقدّم جهاز
العُرْس الذي يمثّل على الأقل قسمًا من المهر. في حالة بقاء العبْدة بعد زواجها في
خدمة بيت سيّدها فإنّ عليه أنْ يعولها. وأمّا إذا سمح
لها بأنْ تغادر بيت سيّدها لتهتم بإدارة بيت زوجها فإنّ هذا الأخير يتكفّل
بإعالتها أثناء فترة الحمل.
أمّا إذا تزوّجت المرأة العبْدة رجلاً حرًا
فيُطبّق على هذا الزواج ما ذكرناه سابقًا من القوانين بالرغم من تواجد بعض
العراقيل بما يخصّ وضعيّة الأطفال الناتجين عن هذا الزواج.
ونذكر هنا أنّ فقهاء المسلمين لايتّفقون في
بعض تفاصيل أو أمور هذا الزواج. - أيّ زواج العبّدة من رجل حرّ.
فجماعة المالكيين
تعترف بنوعيّة هذا الزواج ولكنهم يحدّون منه حماية للطفل. وفي رأيهم أنّ هذا النوع
من الزواج لايُسمح به إلا في حالة الرجل الحر العاجز عن إنجاب الأطفال مثل الرجال
المسنيّن. ويقبلون أيضًا بزواج رجل حرّ مُعْدم لدرجة أنّه لايستطيع دفع مهر امرأة
حرّة أو يشجعون هذا الزواج لتجنّب الفحشاء.
أمّا الحنفيّون فإنّهم يقبلون دون استثناء
زواج المرأة العبْدة من رجلٍ حرٍّ. والعبْدة من زواجها برجلٍ حرٍّ تصبح هي بدورها
حرّة وهنا لا داعي للقلق على الأطفال لأنّهم يُخلقون أحرارًا.
من هذا العرض القانوي نستطيع أنْ نستنتج
أنّ وضع المرأة العبدة يتحسّن تلقائيًا في حالتين (3) عندما تكون حاملاً من سيّدها
(4) وعندما تتزوج من رجلٍ حرٍّ.
أمّا فيما يتعلّق بالطلاق فهو يتْبَع المبدأ القائل - أقلّ
تعقيدًا لأدنى وقارًا وأهمية. أي أنّ وضع المرأة العبْدة هو أقلّ تعقيدًا من وضع
المرأة الحرّة. فالعبْدة المطلّقة إنْ هي أرادت أنْ تتزوّج مرّة ثانية فعليها أنْ
تتقيّد بفترة معيّنة وهذه تقاس بحدوث الطمث مرّتين - أي شهرين… بينما المرأة
الحرّة فإنّ فترتها تقاس بحدوث الطمث ثلاث مرّات - 3أشهر. ونفس الشيء ينطبق في
حالة وفاة الزوج فعندئذ على العبدة أنْ تنتظر شهرَين وخمسة أيام.
وفي حالة غياب الزوج أو الشكّ فيما إذا كان
على قيد الحياة أو لا فإنّ العبْدة تنتظر سنتين قبل أنْ تتزوّج من جديد. إلا أنّ
الحرّة عليها الإنتظار أربعة سنوات لتتزوّج من آخر.
ونضيف هنا أنّ طلاق الحرّة لكي يُصبح
لاغيًا فإنّها تحتاج إلى ثلاثة طلاقات وأمّا العبدة فاثنان يكفيان. ويُلاحظ أيضًا أنّ عتق المرأة المتزوّجة من عبد يعطيها حق
الاختيار بين البقاء على زواجها أو إلغائه. ويتْبع من ذلك أنّ العبْدة التي كانت
قاصرًا قبل عتقها وراشدة بعد عتقها تتسطيع - حسب أبو حنيفة أنْ تطالب بإلغاء
زواجها من العبد الذي فُرِض عليها في وقت عبوديتها.
هذه هي السمات القانونيّة المهمّة في نظام
العبوديّة وهذا هو وضع المرأة العبْدة في التشريع الإسلاميّ وعلينا أن نذكّـر
القارىء بالنقاط التالية:
ا - أنْ لاننسى سهولة الزواج من العبْدة.
2- إن الطفل المولود من الزواج يُولد حرًا لأن أباه حرّ.
3- وأخيرًا أنْ لاننسى أنّ العبدة تتميّز
عن المرأة الحرة بالبساطة التي تطبع اندماجها القانويّ مع الآخرين وحياتها
اليوميّة حيث لايُفرض عليها أيّة صرامة في ملبسها ومظهرها الخارجي.
هذه الملاحظات الثلاث ستقود القارى، فيما
بعد إلى ما سنقوله عن موضوع سهولة الطلاق، والبيت المتعدّد الزوجات والميْل
للعبدات. هذه النقاط الثلاث ستأخذ بعين الإعتبار الدور الذي لعبته المرأة العبْدة
من خلال علاقاتها بوضعيّة الزوجة والأفكار التي تطوّرت خلال القرون عن موضـوع
المرأة المسلمة.
ولنعرض الآن نقطتين متّصلتَين مباشرة
بالعبوديّة واللتَين تشكّلان الانتقال الطبيعي إلى ما سوف يتبع في منزلة المرأة:
عزلتها وانحطاطها المتزايد- النقطتان هما: العتق والعبوديّة في واقع الحياة
الإجتماعيّة الإسلاميّة.
من المؤكد أنّ القرآن والتقاليد يحتويان الكثير من العوامل
المتعاطفة لصاح العبد أو العبدة. وهذه تختصر في مبدأيْن مهمَّين
:
1- المعاملة
الإنسانية تجاه العبد عندما لا يُراد عتقها أو عـتقـه.
2- المحاولة قدر
المستطاع عتق العبد، والقانون يُسهّل ذلك.
تكلمنا سابقًا عمّا يُسمّى _ بـ " أم
الولد " ومكانتها كوسيطة بين المرأة الحرة وبين العبدة. توجد حالة مشابهة
لهذه وتُسمّى " التدبير " عندما يعلن السيد عتق العبد أو العبدة بعد
موته، وهذا الإعلان يجب أنْ يُنَفّذ. في غضون حياة
السيّد فإنّ العبد يُعامل معاملة حسنة نتيجة هذا الإعلان.
وذكر Milliot في أطروحته وضع المرأة المسلمة
في المغرب سنة 1909 في باريس ص 187 الآتى ونحن هنا نستعمل كلماته نفسها: "
فعملية تحرير العبد تجري بين الأحياء بالعتق والكتابة".
والعتق هو إعلان واضح أو كلام ضمني بأنّ
العبد أعتق أو العبدة اعتقت وعتقها يصبح فوريًا.
وأما الكتابة فهي الاتفاق الذي يسمح للعبد
أو للعبدة أن تفتدي نفسها بعملها وهذا يمنحها من الآن وصاعدًا حريّة العمل لتكسب
قوتها. ومن هذه اللحظة فصاعدًا ليس بالإمكان بيعها أو استخدامها أو منعها من العمل
لكي تحصل على المبلغ اللازم وتشتري حرّيتها. إلا أنّها لاتستطيع - دون موافقة
سيدها - أنْ تتزوج أو أنْ تتنازل مجانيًا عمّا تملّكه.
والعبدة أو " المكاتبة " ( أي
التي تريد أن تفتدي نفسها بالكتابة ) التي تلد ولدًا من سيّدها تستطيع أنْ تفكّ
عبوديتها من خلال الكتابة وتصبح أم الولد وهكذا تملك اليقين بأنْ تتحرّر ولكن
بأقلّ سرعة. وبالعكس فإنّ أم الولد تستطيع أنْ تعقد"الكتابة" وبهذا تحصل
بسرعة أكثر على حرّيّتها إذا كان بإمكانها أنْ تدفع الفدية والفدية هي عبارة عن
أشياء لها وزنها.
وفاة السيّد أو مالك العبْدة لاتلغي مفعول
الكتابة أمّا المكاتبة، في حالة وفاتها ولم تكن بعد قد سدّدت الفدية " فديتها
" فإنّها تدفع من قبل وارثيها حتى تتمكن العبدة أنْ تموت حرّة.
والعتق أيضًا يكون نتيجة قرار سلطة
قانونيّة إذا بُرهن أنّ السيد مذنب بسوء وعنف معاملته للعبدة.
وبالنسبة لأبي حنيفة فإنّ العبدات اللواتي
ذات قرابة معيّنة مع مالكهن هذه القرابة التي من شأنها أنْ تمنعهن من الزواج منه
فإنّهن يُعْتبرن معتوقات. وهكذا فإنْ اشترى أحدهم أمّه
أو أخته فهذه تُعتبر حرّة بكامل حقوقها.
وبين المعتوقة والمالك - صاحب الأمر والنهي
- توجد علاقة حقوق، فللمالك حقوق ميراثيّة وللمعتوقة واجب الإجلال والاحترام
ومساعدة سيّدها السابق.
والتشريع المختصّ بالعبيد ليس قديم العهد
كبقيّة المصادر الأولى للإسلام، وإنّما هو حصيلة متأخّرة نسبيًا لجدل الفقهاء.
في النصف الثاني من القرن الأوّل كان الفقهاء ما زالوا
يتناقشون إنْ كانت شهادة العبيد مقبولة شرعيًا أم لا! " وقال شريح كلكم بنو
عبيد وإماء (في شهادة العبيد) وأجازه سريح "(5).
وهناك رواية بصدد هذه المناظرة التي حصلت
بحضور القاضي شريح الذي كان يُعتبر مثالاً للقضاة. شريح الذي كان نفسه ابن أمة
دعّم حقوق العبيد واقترح قبول شهاداتهم.
وفي التقارير الآتية من المصادر الأولى
للقرآن والحديث نجد أحكامًا متعاطفة مع العبد والعبدة، خاصّة فيما يتعلّق بعتقه
كما أنّ سهولة عتق الأمة أثّرت كثيرّا على مكانة الزوجة. فبين
زوجات محمد كانت هناك أمات أعتقهن محمد وبعد ذلك تزوجّهن. وقد عوملن معاملة مساوية
للنساء الحرّات.
والقرآن وصّى كثيرًا بتحرير العبيد إذْ ذكر أنّ الطريق وعرة
بين جهنم والجنّة وعتق العبد يسمح للمؤمنين بعبور الطريق دون عناء " فلا
أقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة " (سورة البلد).
ومن ناحية أخرى فإنّ التقصير في أداء
الفروض الدينيّة له كتائب إيجابية بالنسبة للعبد إذْ أنّ القرآن يوصي الذين أخطأوا
وأرادوا التوبة أنْ يُحرّروا عبيدهم: " وما كان لمؤمن أنْ يقتل مؤمنًا إلا
خطأ ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودَيّة مسلمة إلى أهله (سورة النساء).
وحتى في شهر رمضان إنْ لم يتبع المؤمن
الأصول الدينيّة بتقوى وصرامة أي قيامه بالصيام والصلاة فإنّه مجبر في هذه الحالة
إمّا أنْ يعتق عبدًا أو أنْ يُطعم جائعًا (6). وفي
مناسبات أخرى يدافع القرآن بكلمات بليغة عن قضية تحرير العبيد كما أنّ الرسول
يُظهر عطفه الكبير على العبيد.
فالنبي ساهم في احترام العبد بمنع المؤمنين
من استعمال كلمة العبد وأنْ يستبدلوها بعبارة فتاى وفتاتي " لا يقلْ أحدكم
عبدي أمتي وليقل فتاي وفتاتي " (7). وقال أيضًا " من كانت له جارية
فعالها فأحسن إليها ثم اعتقها وتزوّجها كان له أجران " (8).
وهكذا نرى أنّ أفعال النبي مثل كلامه كانت
حنونة تجاه العبيد. فأحد المؤمنين فاجأ عبده الشاب بجريمة الزنا مع إحْدى زوجاته
وبدون أنْ ينطق كلمة يخصي عبده المذنب. ويذهب العبد التعس يشكو مصابه إلى النبي
الذي لايتردّد أبدًا بأنْ يعتق العبد بسبب قساوة المعاملة التي تلقّاها من سيّده.
هذا الموقف تجاه العبيد يذكّرنا بالقانون
المستعمل عند اليهود والذي يذكره كتاب الإنجيل إذا جرح أحدكم عين
عبده أو خادمه لدرجة أنّ العبد يفقد استعمالها فإنّه يعتق (الخروج 26)
وبنفس الأسلوب يوصي القرآن بمنح العبيد حريتهم إنْ هم لجأوا ليحتموا في بيوت
المؤمنين ويعتنقوا الإسلام. وكتاب الإنجيل يقول نفس الكلام " لا تُسلّم العبد
إلى سيّده إنْ هو إلتجأ إليك " (Deuteronome, XXIII, 16 ).
جميع الأمثلة التي ذكرت سابقًا تُبرهن أنّ المبدأ الذي كان
ينظّم وضع العبيد كان عطوفًا نسبيّا إنْ قورن بأنظمة أخرى فالوقائع التاريخيّة
تثبت ذلك. وكذلك تثبته المكانة التي احتلّها العبيد أو
سلالتهم في تاريخ الإسلام. فالنبي لم يتردّد في تعيين
عبده أسامة قائدًا على الجيش ليغزو فلسطين في السنة الثانية. وعمرو بن العاص غازي
مصر أرسل عبده عبادة ليمثّله عند حاكم مصر المهزوم. وعبادة
هذا بعد أنْ أكمل دوره كمبعوث سياسي مطلق التفويض عُيّن فيما بعد قاضيًا في
فلسطين.
وهكذا نرى أنّ عددَا كبيرّا من الشخصيات اللامعة في التاريخ
الإسلامي من حكّام، قادة جيش، علماء، أدباء كانوا عبيدًا. ابن حزم العلاّمة
الأندلسي كتب يقول " ولم يلِ الخلافة في الصدر الأوّل من أمُّه أمَةٌ حاشا
يزيد وابراهيم بن الوليد ولا وليها من بني العباس من أُمه حرّة حاشا السفاح
والمهدي والأمين ولم يلها في الأندلس من أمه حرّة قط "(9).
وهذه الحقائق التاريخيّة تشهد أنّ الأمات
كنّ يعاملن معاملة حسنة وأنّ التقاليد تطوّرت أكثر وأكثر فدمجت الأمات في إطار
العائلة العربية.
ولو عاش ابن حزم الأندلسي في فترة متقدّمة
لكان بإمكانه أنْ يُعَبّر بكلمات أكثر بلاغة وأنْ يلاحظ أنّ أكثريّة الطبقات
الميسورة كانت تنحدر من سلالة العبيد.
وإذا تأمّلنا المجتمع الإسلامي في حقبة
معيّنة فإنّنا نلاحظ ثلاث سمات متميّزة:
1- امتداد
وانتصار الإسلام في مناطق مختلفة حيث احتك المسلمون العرب بشعوب أكثر تحضّرا من
الغازين أنفسهم.
2- منح الغازون العرب كرامة إنسانيّة للعبيد إذ ل يتردّدوا في استيعابهم في عائلاتهم
وإضافتهم إلى شجرة النسب العائليّة.
3- يعترف الإسلام بتعدد الزوجات والاستسرار
(معاشرة غير شرعية ) وحثّ أتباعه على التكاثر.
هذه العوامل الثلاثة أثّرت على المنزل
العائلي المتعدّد الزوجات وسبّبت الانحطاط المتزايد للمرأة وتفاقم وضعها.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سهولة الطلاق
والزواج من الأمة لايتطلّب التعقيدات النسبيّة المطلوبة في الزواج من امرأة حرّة.
كلّ هذه الظروف شكّلت أرضيّة خصبة لتكاثر الزيجات والطلاق
وتأثيرها على الحياة الجنسيّة للنساء و على تدهّور وانحطاط الأخلاق.
"... قالت خولة بنت قيس كنّا في عهد
النبي وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما
عالج بعضنا فيه الخوص فقال عمر لاردتكن حرائر فأخرجنا منه إلا أنا كنّا نشهد
الصلوات في الوقت " (10).
والخليفة عمر الذي طالما قيّد من حرية
النساء الحرّات أدخل إلى الجزيرة العربيّة بسبب غزواته الحربيّة عددًا كبيرًا من
الأمات ذوات الذوق الرفيع. وهو نفسه كان يقدّم هؤلاء الأمات الفارسيّات إلى جنوده
المنتصرين. وهو أيضًا كان يقدّر ويتأثّر بجمالهنّ. ألم يقل - حسب الروايات - لا
أجمل من أطفال الأمات لأنهم يجمعون نبالة العرب وأناقة الفرس "(11).
وإذا كانت الروايات تنسب للنبي كلمات استرضائيّة
ورقيقة أحيانًا تجاه المرأة فإنّ خلفاء محمد أبدوا العكس من ذلك فكانوا أكثر صرامة
نحوها.
فالسبب الرئيسيّ لانحطاط المرأة هو فصل النساء عن الرجال وعزلة المرأة. ومن
جرّاء هذه العزلة أوجدت وظيفة جديدة للمرأة في المجتمع الإسلامي. إذْ كانت مهمّتها
البحث عن الجميلات لغرض الزواج. فقصص الأدب العربي تصف -
في المجتمع القديم في المدينة في بداية عهد السفيانيّين - بيت المرأة العجوز حيث
يتوافد عليها الشبان الراغبين في الزواج. كانوا يأتون
ليطلبوا من العجوز أنْ تتفحّص لهم خطيباتهم وتخبرهم عن رأيها فيما بعد (12). وهذه
العادات تختلف عمّا كان سائدًا في زمن النبي. فمحمد نفسه
ذهب إلى بيت الأرملة أم سلامة ليتفاهم معها ويتزوجها فيما بعد.
ولكن يجب أنْ لانعمم سريعًا ولا أنْ نفكّر
أنّ عزلة النساء كانت قانونًا مطلقًا يطبق على كل النساء. إذْ أنّ الأمات بسبب
وضعهن الخاص كن مستثنيات من التزام العزلة. فهن - أي الأمات - كن يعرضن أمام
الجنود لتقدير جمالهن وحيث كان كل جندي محارب يأخذ حصّته من غنيمة الحرب. وفي بعض الحالات كن يعملن كبنات هوى في بعض المدن كمكة
والمدينة (13).
ونلفت الانتباه إلى أنّ الأخلاق السائدة في
تلك الفترة لم تكن تستهجن رؤية الشبان وهم يتراكضون لمغازلة الأمات.
ذكرت سابقًا أنّ الخليفة عمر منع منعًا
باتًا الأمات أنْ يرتدين ملابس كملابس الحرّات. ويذكر المؤرّخون في المجتمع العربي
القديم أنّه من جرّاء قانون الخليفة عمر هذا فإنّ جميع الأمات كن يخرجن عاريات
الرأس وأحيانّا عاريات الذراع (14).
وفي فترة لاحقة نوقش موضوع هندام العبدات
بحماس كبير وفي بداية عهد السفيانيّين في العراق كان من رأي العلاّمة المسلم الحسن
البصريّ أنّ على الأمات أيضًا أنْ يلبسن الخمار – "وحكى عن الحسن البصري أنّه
كان يُوجب الخمار على السريّة يعني الأمة التي اتّخذها الرجل لنفسه سواء كانت
جميلة أو شوهاء وأمّا أمّهات الأولاد فحكمهن حكم الحرائر في لباسهن "(15).
وفى رأي علاّمة آخر قال يجب التمييز بين
الأمات الجميلات والقبيحات، فعلى الجميلات أنْ يرتدين الخمار أو الحجاب بينما
القبيحات فلهن الاختيار... وفرّق ابن القطّان في كتابه المسمى بـ " النظر
" في هذا بين الإماء الحسان المصونات المقصورات الحاملات من الجمال أكثر ما
تحمله الحرائر وبين الأماء المبتذلات فمال لوجوب التستر على من كان منهن بالصفة
الأولى وسقوطه عن من كان بضد ذلك "(16).
والزمن الذي كانت فيه تبحث هذه الآراء
والقوانين كان عصر الفتوحات الإسلاميّة حيث امتدّ الإسلام إلى المناطق الجديدة ففي
هذا العصر تمّ فتح والاستيلاء على شمال إفريقيا حتى المحيط وجزر البحر الأبيض
المتوسط. من جهة ثانية فإنّ الإسلام اخترق أفغانستان وتابع الفاتحون المسلمون
تقدمهم المنتصر حتى سمرقند.
وامتدّت هذه الفتوحات في آسيا حتى وصلت إلى
حدود الصين وإلى أوروبا حتى المحيط الأطلسي. وفي بداية القرن الثامن الميلادي
اقتحم العرب جبل طارق واحتلّوا قسمًا من أسبانيا التي كانت من ممتلكات القوطييّن.
وخلاصة القول أنّ الإسلام سيطر على مناطق ممتدّة ما بين القوقاز والخليج الفارسي والهند حتى المحيط
الأطلسي.
ومن جراء هذه الغزوات أو الحروب امتلك
العرب عددًا كبيرًا لايستهان به من الأمات والعبيد. وهكذا نرى أنّ أكثريّة الرجال
في المجتمع الإسلامي وبغض النظر عن انتمائهم الطبقي كانوا يمتلكون الأمات.
" كتب الخليفة هشام بن عبد الملك إلى
عامله في أفريقيا:
أما بعد فإنّ أمير المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى
بن نصير إلى عبد الملك أراد مثله منك وعندك من الجواري البربريّات المالئات للأعين
الآخذات بالقلوب... ما هو معوز به لنا بالشام فتلطّف في الإنتقاء وتوخّ أنيق
الجمال وعظم الأكفال وسعة الصدور ولين الأجساد ورقّة الأنامل... ومع ذلك فاقصد
رشدة المولد وطهارة المنشأ فإنّهن يتخذن أمهات أولاد " (17).
وتطري الروايات الأدبيّة جمال الأمات من
خلال أفواه الخلفاء الأموييّن إذ قال الخليغة عبد الملك بن مروان: " من أراد
البآة فعليه بالبربريات ومن أراد الخدمة فعليه بالروميات ومن أراد النجابة فعليه
بالفارسيّات "(18).
وإنْ كان الحكام يتصرّفون تمامًا كبقية أفراد الشعب فإنّ
اللغة نفسها كانت تحكى في كل مكان فكل رجل كان يتمتع باقتناء جارية. وهنا يروي
الجاحظ قصة الجندي الذي اشترك في غزوة خراسان: " خرج رجل مع قتيبة بن مسلم
إلى خراسان وخلف امرأة يقال لها هند من أجمل نساء أهل زمانها فلبثت هناك فاشترى
جارية اسمها جمانة... وكانت له فرس يسمّيه الورد فوقعت الجارية موقعًا حسنًا،
فأنشأ يقول:
ألا لا أبال اليوم ما فعلت هند اذا
بقيت عند الجمانة والورد
شديد مناط القصرتين إذا جرى وبيضاء مثل الرئم زندها العقد
فهذا لأيام الهياج وهذه لحاجة نفسي حين مصرف الجند
فبلغ ذلك هندأ فكتبت اليه
:
ألا أقره مني السلام وقل له غنينا
بفتيان غطارفة مرد
فهذا أمير المؤمين أميرهم سبانا وأغناكم أراذلة
الجند
إذا شاء منهم ناشئ مدّ كفّه إلى كبد ملساء أو كفل مهد(19)
هذه الأبيات الشعرية أصبحت فيما بعد أدبـًا
كلاسيكيًّا فى كتب أدب العرب؟
ومن الجاحظ ننتقل إلى الشاعر المبرّد الذي
يقول على لسان أمير: " قال مسلمة بن عبد الملك أي لأعجب من رجل قص شعره ثم
عاد أطاله ورجل شمّر ثوبه ثم عاد أسبله ورجل تمتع بالسراري ثم عاد إلى المهيرات
"(20).
وفي نفس هذه الحقبة الزمنيّة التي تكلم
فيها الأمير بهذه العبارات نجد آخرًا يتنهّد ويشكو هجر أطفال السراري ويتمنّى أنْ
يعيش في بلد لايرى فيه أطفالاً متروكين:
إنّ أولاد السراري كثروا يارب فينا رب
أدخلني بلادًا لا أرى فيها هجينًا(21)
هذا العصر الذي شجع على تملكك السراري كان
أيضًا مرتعًا خصبًا لعقد الزيجات وفكها بالطلاق. فيُحكى أنّ رجلاً تزوج من مئة
امرأة: قال المغيرة بن شعبة حصنت تسعًا وتسعين امرأة ما أمسكت واحدة منهن على حب
ولكني احفظها لمنصبها (22).
وأنّ رجلاً معروفًا طلّق زوجته لسبب تافه وهو أنّها رفضت
التفاحة التي قدّمها لها زوجها بعد أنْ كان أكل منها (23).
وصدم الكاتب م. لمنس من تراخي العلاقات
الزوجية وانحطاط الأخلاق فكتب يقول: إنّ روايات السنّة ذكرت أنّ المغيرة بن شعبة
قد سجلّ رقمًا قياسيًا من حيث الزواجات والطلاقات. ويقال بأنّه تجاوز إلى حد بعيد
الحسن، الابن الأكبر للخليفة علي، إلا أنّ المؤرّخين لا يتفقون على العدد الذي
أتاح للثقفي هذه الشهرة الغريبة. فهم - أي المؤرخين -
يتكلمون عن 99، 300 أو ألف عقود زواج تمّت منذ مجيء الإسلام، هذا دون أنْ نتحدّث
عن الزيجات السابقة على الإسلام. إلا أنّ معاصري المغيرة
لم يروا في بدعة الطلاق أي شيء خارج عن المألوف. والكلّ
استغل عدم دقة قوانين الزواج الواردة في القرآن. ولكن الثقني اختير هنا لكي يكون
كبش الفداء من قبل الشيعة المعادين للأمويّين الذي كانوا متسامحين ومتساهلين تجاه
ابن الخليفة علي (24).
نذكر أنّ الزواج السياسي كان يُلتزم به ويُحترم. فالمغيرة نفسه يُنسب إليه عدد مثير من
الزواجات كان يعلن أنّه يحافظ على زوجاته لأسباب تتعلق بمنزلتهن الإجتماعية. وكذلك
كان الكثير من قادة الجيش ومديري الشرطة يتزوجون تلبية
لرغبة السلطان حتّى يكتسبوا مكانة سياسية (25).
وهكذا فإنّ سهولة الطلاق، والزواج السياسي
وتذوق الاستسرار وأخيرًا العزلة المتفاقمة للحرّات، جميع هذه الأسباب أدّت حتمًا
إلى التأثير بشكل مريع على وضع المرأة، إذ أنّ الحرّات عوملن بإزدراء وكنّ الضحايا
المشؤومات للتفضيل الذي حظيت به السراري.
ويُعبّر الجاحظ، الذي عاصر تقريبًا هذه
الحقبة، بكلمات واضحة عن سبب تفضيل الرجال للإماء، يقول: " قال بعض من احتج
للعلة التي من أجلها صار أكثر الأماء أحظى عند الرجال من أكبر المهيرات، أنّ الرجل
قبل أنْ يملك الأمة قد تأمّل كلّ شيء منها وعرفه ماخلا حظوة الخلوة فاقبل على
ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة والحرّة إنّما يستشار في جمالها النساء والنساء
لايُبْصرن من جمال النساء وحاجات الرجل وموافقتهن قليلاّ ولا كثيرًا ".
ونحن نعتقد أنّ تفضيل الأمات على الحرّات
كان معمولاً به في كل العصور وفي كل البلاد المسلمة حيث كان الحجاب مستعملأ.
يقول البروفسور هورغرونج: " عندما
تسأل رجلاً من مكّة عن عاطفته الحقيقيّة يعترف بأنّ قلبه لا يميل إلى أيّ امرأة من
مكّة وأنّه بالتأكيد يفضّل الأمة " (26).
وفي مصر وقبل إلغاء تجارة الرقيق كان الرجال يفضلّون
اختيار زوجاتهم من الرقيق. ويجب هنا ذكر أنّ هذا التصرّف
كان ينطبق فقط على الرجال من الطبقات الثريّة. لأنّ الفقراء كانت لهم حياة مختلفة
وقوانين تفرضها الحاجة الاقتصادية.
وأهم سبب ممكن أنْ نعطيه لتفضيل الزواج من
الأمات على الحرات كان وما يزال نفس السبب: إمكانية رؤية الأمات والتعرّف عليهن.
غوستاف لوبون استعار من إ.آتوت الكلمات
الآتية التي تعبّر جيدًا عن انتشار هذه العادة.
" يقول أبوت: كانت العبودية أمرًا اعتياديًا
في البلاد المسلمة فلم تكن محتقرة فأمّهات جميع السلاطين القسطنطينية - خلفاء
الإسلام - كن من الأمات وهؤلاء السلاطين كانوا فخورين بذلك ".
والمماليك الذين حكموا طويلاً في مصر كوّنوا عائلاتهم عن طريق
شراء أطفال القوقاز وتبنّيهم عند بلوغهم سنّ الرشد.
وغالبًا ما كان إقطاعيّ مصريّ كبير يري
ويعلّم طفلاً عبدًا وعندما يكبر يزوّجه إلى بنته ويقوم مقامه بكل الحقوق.
وفي القاهرة كان المرء يقابل الوزراء وقادة الجيش والقضاة
الذين في شبابهم بيع الواحد منهم، بـ " ألف أو ألف وخمسمائة درهم فرنك تقريبا
"(27).
وخلاصة القول أنّ الرجل في ذلك الزمن، زمن ازدهار تجارة
الرقيق كان يواجه آلاف العراقيل لأن يتعرّف على حرّة ويأخذها كزوجة وبالعكس فإنّه
كان من السهل جدًا أنْ يتعرّف على أمة.
وفي نفس الوقت فإنّ الأب الذي يزوّج ابنته إلى رقيق من
بيته فإنّه ينظر مليّا إلى مصلحة ابنته التي على الأقل تتعرّف على زوجها المقبل. وهكذا فإنّ كثرة الزيجات من الرقيق هي نتيجة وردّة فعل ضد عزلة
النساء التي كانت مطبّقة بصرامة على الحرّات.
لنترك الآن المجتمعات العصرية ولنرجع إلى
المجتمع القديم لنلقِ
نظرة على عصر العباسيّين.
تقدّم كتب الأدب العربي صورة رائعة عن
المرأة في عصر العباسيّين حيث كانت تلعب دورًا بارزًا في المجتمع. فكانت هناك
المغنيّات والشاعرات والنساء ذوات الجمال الخارق.
وقيل أنّ قسمًا من كتاب ألف ليلة وليلة كُتب في عصرهم. هذا
العصر الذي اندمجت فيه شعوب وأجناس مختلفة في بغداد، وقد ساهم هؤلاء كثيرًا في
االحضارة العربية بدمائهم وعبقريتهم وعلومهم.
ويقول بيرون (28): " إنّ عصر
العباسيّين شهد قمة استغلال العبيد وبصورة خاصة طبعًا استغلال الأمة. كان عهدهم
عهد الأمات الجميلات اللواتي كن يُشْتَرَين من تجار الرقيق أو كن أمات سجينات حرب
- أختطفن أثناء الغزوات - أمات أُشترين بسبب أغنية أنشدت بأداء جميل أو بإلقاء
أبيات من قصيدة مشهورة، أو من نظرة عابرة ولحظة إعجاب لمشية رشيقة فيها كل
الإغراء، من قامة جميلة ووركين متناسقين. والرجال كانت
تشتري هذه النسوة دون تفكير بثمنهن فلا أحد يحسب حسابه وتكفي رغبة تملك الأمة
والتلذذ بها. كانت هذه عملية تجارية حيث تباع الأ مة وتمتلك Le jeus
untendi et abutendi. "(29).
ووصلت درجة السلوك الاجتماعي - باستثناء نساء الطبقة
الفقيرة - إلى حدّ أنّه تواجد في ذلك العصر صنفان من النساء. صنف
مُبعد أو معزول وبعيد عن أضواء التجارة مع الرجال - هنا أيضًا باستثناء القريبات -
وصنف آخر وهن اللواتي كن يختلطن في مجتمع الرجال وحاضرات حفلات تجمع الأصدقاء.
الصنف الأوّل من النساء كنّ غالبًا أقلّ ثقافة وعلمّا وأقلّ
طرافة من نساء الصنف الثاني اللواتي كنّ الزوجات المحظور عليهن الخروج إلا في
حالات خاصة بسبب الأعراف السائدة حينئذ. أمّا الصنف الثاني وهن الأمات أو الجاريات
فكنّ فاتنات المجتمع بحضورهن الأخّاذ في طريقة غنائهن ومواهبهن الموسيقية
وأحاديثهن اللبقة.
فالمجتمع العباسي هذا يذكّرنا بالمجتمع
اليوناني القديم ويحق لنا هنا أنْ نستشهد ببول جيد في كتابه عن حياة المرأة
اليونانيّة إذ يقول: " إذا كان الرجل يعيش دائمًا خارج المنزل فإنّ المرأة
بالعكس لم تكن تستطيع الخروج من البيت. فكان محظورًا عليها حضور المسارح أو
المحاضرات أو حتى الوجبات الشعبية، وأحيانًا لم يكن مسموحًا لها بمشاركة الوجبات
العائليّة إذا تواجد أصدقاء الرجل بين المدعوّيين "(30). ويضيف
بول جيد في الكتاب نفسه ومع هذا كانت هناك فئة من النساء معفيّات من ضغط الأعمال
المنزليّة فهذه النسوة كنّ يستطعن الاختلاط بالرجال ويشاركنهم أعمالهم وأوقات
لهوهم. هذه كانت فئة المحظيات اللواتي كن على درجة عالية من الثقافة ويتساوين مع
الرجال في العلم والمعرفة.
وإذا كانت الأمات معفيّات من شرف وعراقيل
العزلة المفروضة على الحرّات فيجب أنْ لا نندهش من وجود بعض أمات الخليفة
والنبلاء، اللواتي كنّ خاضعات للعزلة لأنّهن كنّ يُعتبرن المفضّلات والمقرّبات عند
الخليفة ومرتبتهن كانت تقريبًا كمرتبة الزوّجات. وهنّ أي الأمات كنّ غالبًا ما
يقدّمن كهدايا من قِبَل الخلفاء أو السلاطين إلى قادة جيشهم وأنصارهم. وبول جيد
يشبّه العصر العباسي بالعصر الروماني فيقول: " فنرى أنّ حكام الإمبراطوريّة
الرومانيّة يدخلون رسميًا المناطق التي يحكمونها متبوعين بالسرائر التي قدّمها
الإمبراطور نفسه لهم "(31).
ويظهر أنّ التمييز بين الحرات والسرائر من وجهة نظر العزلة
كان يمارس في الفترات اللاحقة على الأقل للنصف الأول من القرن الثاني للهجرة.
فالأمات كن يخرجن عاريات الرأس في زمن الخليفة عمر. وفي زمن الأمويّين ميّز فقهاء
البصرة بين الأمات اللواتى استطعن الخروج عاريات الرأس والأخريات اللواتى لم
يستطعن.
وفيما بعد عرفنا من خلال نصّ أدبي أنّ المنصور طلب من أمتين
جمليتين أنْ يرتدين الخمار على طريقة الحرّات. " مما يحكى عن أبي العباس
السفاح قال بعض مواليه لعمري به ليلة وأنا صغير وهو على سريره مع أم سلمة إذ مرّت
به جاريتان صغيرتان لم أر أحسن منهما قط اختمرتا كما تختمر الحرائر فاستدعى بهما
وقال لهما أإماء أم حرائر فقالتا أماء، قالتا إن ذلك شأننا في بلادنا وكانت أم
سلمة وصتهما بذلك قصدًا ألاّ ينظر إلى محاسنهما " (32).
وعندما بدأت العزلة تطبق على الأمات كان
سببها الاعتبار المتزايد لهن ولهذا أصبحن يعتبرن قليلآً قليلاً من فئة الزوجات.
وفي بداية العصر الإسلامي كان مجتمع
المدينة ينظر شذرًا إلى أطفال الجاريات (33) ولكن فيما بعد أخذت الناس تتباهى
بصفاتهم الحميدة والمتميزة ومن جراء ذلك بدأ التكاثر السريع للتزاوج بين أجناس
بشرية مختلفة وميل متزايد لمنح الجارية مكانة الزوجة مع كافة الاعتبارات من واجبات
وحقول. وفي وقت لاحق أخذت العبوديّة مجرى بعيدّا عن معناها البدائي إذ أنّ مصدرها
ما عاد يأتى من الحروب فقط بل أيضًا من تجارة الرقيق.
وبدأ التزود بالجاريات لتحويلهن إلى زوجات
شرعيات لهن كرامة الحرات وطبق عليهن نظام العزلة.
الهوامش:
1- الشاعر عنتر، واحد من
هؤلاء العبيد
2- تفسيرالطبري الجزء 18 ص
51
3- صحيح
البخاري الجزء 1 ص 375
4- حسب
أقوال الشافعي
5- صحيح
البخاري الجزء 3ص 57
6- نفس المصدر الجزء 2ص 57
7- التيجاني رقم 126
8- طبقات ابن سعد الجزء 8ص
217
9- التيجاني رقم 126
10- الجاحظ
ص 122
11- حصن الأسوة ص 96طبعة
القسطنطينية
12- التيجاني رقم 126
13- نفس المصدر
14- نفس المصدر
15- نفس المصدر
16- نفس المصدر
17- الجاحظ
ص 229
18- مبرد التيجاني
19- نفس المصدر
20- الجاحظ
ص 219
ا 2- ابن قتيبة المعارف ص
105
22-
V. Lammens, Ziad Ibn Abihi
23- العقد الفريد الجزء
3بمناسبة زواج الحجاج
24- الجاحظ،
الرسائل ص 166 مطبعة القاهرة
25- هورنغرونج مكة ، الجزء 2 ص 132
26- غوستاف لوبون حضارة
العرب ص 396
27- النساء العربيات قبل الإسلام ومنذ الإسلام ص 536
28- بيول جيد، دراسة عن وضع
المرأة الخاص ص 68
29- نفس المصدر ص 564
30- التيجاني، العقد الفريد
31- العقد الفريد الجزء 3
32- المصدر
السابق.
33- المصدر
السابق.
الإسلام كما هو معروف، وُلد فى مجتمع
بطريركي. وسلطة الأبّ التي مصدرها العرف والعادات كانت
إلى حدٍ ما تلطّف من قبل العلاقات العائليّة. ثمّ تحوّلت مع مجيء الدين الجديد إلى
قوّة جامدة وعنيدة لاتناقش: الإلوهيّة. فالله تجسّد رغباته وإرادته في القرآن.
فمجموعة القوانين القرآنيّة تعطي جميع الوصفات لتصرّفات
المسلمين. فعلم الدين، الأخلاقى وقانون العقوبات الخاص والعام كلّها موجودة في
القرآن.
ومحمد الناطق الرسمي باسم الإلوهيّة، كافح
لحماية المرأة ضد عادات الوثنية. وبدون أنْ يجعلها
متساوية مع الرجل أعطاها بعض الحقوق التي لم تنقذها من انحطاط متزايد. فوضع المرأة
استمر في التدهور تحت تأثير ظواهر اجتماعية مختلفة على الرغم من أنّ النبي حسّن
وضعها نظريًا.
هذا وعلى الرغم أنّ الإسلام أعطى للمرأة
شخصية خاصة بها إلا أنّنا نؤكّد أنّ المرأة بعد الإسلام وُجدت في وضع أكثر دونيّة
عمّا كانت عليه قبل الإسلام. والشخصيّة التي أعطاها محمد للمرأة لم تستطع أنْ
تتطوّر وراء نطاق معيّن لأنّ الألوهيّة أرادت للمرأة أنْ لاتتخطى القوانين
المُنزلة من السماء. وبالعكس ففى المجتمع البدائى كان كلّ واحد ينمو ويتطوّر
بحرّيّة تجاه الهدف الذي يصبو إليه، بكلّ صفاته ومميّزاته حسب الظروف الخاصة
والعامة التي تحيط به. والمرأة العربية قبل الإسلام - بالرغم من أفكارنا العصريّة
اليوم التي تصورها كشيء - كانت في الحقيقة شخصًا يختلف عن الرجل وما كانت تعاني من
نتائج سلبيّة ومؤسفة.
بيد أنّ علينا أنّ نأخذ بعين الاعتبار مبدأ
القانون الجديد للعرب: أي القرآن الذي يعتبر تقدّمًا في تطور الاعتراف بحقوق
المرأة على الرغم من أنّ التطوّرات اللاحقة في المجتمع الإسلامى أخذت مجرى معاديًا
و سلبيًا تجاه المرأة.
معظم الروايات التي ترسم لنا صورة المجتمع
العربى قبل الإسلام تقدّم لنا مجتمعًا حيث العائلة قائمة على تفضيل الآباء الذكور.
فالمرأة مبعدة عن عائلتها الأصلية لتنضم إلى عائلة زوجها
وهذا الآخر يكون قد حصل عليها إمّا بالشراء أو بالأسر. ومنذ لحظة انضمامها إلى
عائلة الزوج تصبح المرأة قسمًا من الميراث العائلى للزوج الذي له الحق أنْ -
يبيعها مثلما كان قد اشتراها من قبل.
" يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم
أنْ ترثوا النساء كرها ولا تفضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - قال كانوا إذا مات الرجل
كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإنْ شاؤوا زوجوها وإنْ شاؤوا لم
يزوجوها "(1).
وبالطبع فإنذ هذه العواقب المتطرفة لم تكن
تمارس كثيرًا لكنّها كانت نتيجة وضع المرأة التي لم تكن تمتلك حق الميراث. وأكثر
من ذلك، بما أنّ المرأة لم تكن تشارك مشاركة فعلية في الحروب أو الغارات- التي هي
إحدى مصادر الثروة فى ذلك العصر- فلم يكن لها الحق أنْ تكسب أو أنْ تربح أى شىء من
مغانم الحملات العسكريّة أو من أعمال القرصنة.
كانت ردة فعل النبي ضد هذه المفاهيم أنْ حاربها. فسياسيًا ألغى الإختلافات القبليّه ليؤسّس الوحدة
الوطنية المبنية على الإيمان وفي نفس الوقت قلّل من أهمّية قيم العادات الذكوريّة
المتواجدة في القبائل والتي ما كان تعـترف بالرابطة النسائيّة.
وحقّ الميراث عند قدماء العرب كان يعتمد
على مساهمة الرجال فى اكتساب الثروة. ومنها أيضًا قدّم محمد فكرة أدبيّة بشأن حقّ
الميراث، فيرث المتوفي كلّ من كان له علاقة حُبيّة أو عاطفيّة معه. وهكذا فإنّ
شخصية المرأه من الآن فصاعدًا مرتكزة على حقها بأنْ ترث قسمًا من الأملاك. وهكذا
أصبح يحق لها أنْ ترث إما من عائلتها الأبويّة أو من عائلة زوجها – علاقة الرحم -
إلا أنّ النظام القرآني لم يخلّص المرأة من كلّ عجزها الميراثى قبل الإسلام وإنّما
أعطاها قسمًا منه فقط، أى نصف ميراث الرجل. وعلى الرغم من ذلك فإنّه كان تقدّمًا
ملحوظًا ومهمًا. وكما يقول السيد ميلو، " كان إصلاحًا جريئًا نستطيع أنْ
نعتبره بحق وحقيق كأحد أجمل وأشرف أمجاد محمد (2) وهذا الحق المنقوص أو غير الكامل
الذى أعطي للمرأة يذكّرنا ببعض قوانين الغرب التي تتحيّز للذكر على حساب بما
يتعلّق بالميراث. يقول بول جيد " فالقوانين التى تختلف في الذهنية والهدف
تلتقى وتتفق على هذه النقطة بشكل مثير: فني البلاد الكاثوليكية مثل انكلترا البروتستاتية
فإنّ الابنه مستبعدة من قبل الابن والأخت من قبل الأخ. كما
إنّ أحكام قوانين " مودين " حصة النساء إلى نصف حصة الرجل. وهذه
القوانين متواجدة في القانون التركى وفي مختلف القوانين الإسكندنافية. وأمّا في روسيا فإنّ الفتاة ترث 1/8 فقط من قيمة الأثاث والفرش
و 14/1 من قيمة العقار. وفي أماكن أخرى ترث الفتاة قسمًا
من الفرش وفي مناطق ثانية فإنّ حقها من الميراث يتحدد بحق الانتفاع من الممتلكات
أو العقار. وأخيرًا فإنّ القوانين لم تستبعد المرأة من الميراث مباشرة لكنها في
نفس الوقت شجعت وسمحت على استبعادها من الميراث بإعطاء الصلاحية للقانون عن طريق
تأجيل سن البلوغ إلى أجل غير محدّد وتخلّي الفتيات ذات المهر عن حقهن فى الإرث في
المستقبل (3).
وأما الشريعة الإسلامية فإنها أعطت المرأة
تعويضًا، فإنْ هى لا ترث إلا نصف حصة الرجل فلها من جهة ثانية حق المهر وأنْ يقوم
الزوج بالنفقة. وفي نظر مشرّع القوانين الأوّل كان هذا
مقياسًا مخففًا وضروريًا لانتصار مبدأ العدالة والذي سعى النبي إليه بكل حماسة.
العجز المقترن بالجنس يظهر أيضًا في الشهادة (4) فشهادة
الرجل الواحد تعادل شهادة امرأتين إلا في الحالات التي تكون فيها المرأة هي
الوحيدة القادرة.
ونحن لانفهم جيدًا الدوافع التي حفزت مؤسّس
الدين الإسلامي على أنْ يصوغ مثل هذا العجز. فالمجتمع القديم قبل الإسلام لم يكن
مُلمًا بقوامحد الحياة العامة حتى يتطرق إلى مسألة الشهادة.
ولكن حياة المجتمع القديم قبل مجيء الإسلام قد تفسّر إلى
حد ما نزعه محمد إلى إزاحة شهادة النساء. والواقع أنّ
النسوة كنّ مكرهات على البقاء في المنزل يتدبرن أمور البيت ووحدهم الرجال كانوا
على صلة واحتكاك مع الآخرين فهم القادرون على استيعاب وفهم هذه العلاقات.
ومهما تكن قيمة التفسير هذا أو تبريره فالحقيقة
تبقى ذات دلالة على أن تفوق الرجل كان دائمًا وفي كل مكان على حساب المرأة حتى في
الغرب نفسه وفي حقبة زمنية قريبة نسبيًا " في زمن دام سيفنه ومدام لافايت
يذكر بول جيد أنّ خبيرًا قانونيًا تجرأ أيضًا أنء يكتب إنّ شهادة ثلاث نساء ليس
لها قيمة أكثر من شهادة رجلين " (5).
وعجز المرأة أو قصورها يترجم أيضًا بالقيمة
التى تعطى لها كثمن دمها - في حالة القتل - في القانون الجزائي. فالقيمة هنا أيضًا
نصف قيمة الرجل. هكذا كانت القاعدة
عند قدماء عرب. فقيمة الشخص تقاس بقدرته الحربية التي هي
مصدر مباشر للثروة.
هناك تقدم ملحوظ آخر حققه الإسلام وهو أنّه أعطى المرأة
بعض الحرية في قدرتها على الرفض أو قبول الزوج. " تأيمت خنساء بنت خذام من
زوجها فزوجها أبوها وهي كارهة فأتت البني صلعم فقالت يا رسول الله إنّ أبى تفوت
على فزوجني ولم يشعرني قال لانكاح له انكحي من شئت "(6).
فقبل الإسلام كان أبو الفتاة أو المسؤول
عنها هو الذى يقرر ويختار الزوج لها.
ومع هذا فإنّ الروايات تشير أنّه في بعض الأحيان كان يؤخذ برأي الفتاة. وعلى
كل حال فإنّ النبي لم يقبل بأنْ تتزوج الفتاة ضد إرادتها وأعلن إلغاء عقد الزواج
الذي يجري بخلاف رغبة الفتاة ولكن يجب التمييز بين الفتاة القاصرة، أما بسبب صغر
سنها أو عذريتها أو تخلفها العقلي وتلك التي تكون قادرة. فالأوّلى ممكن أنْ تخضع
لحق " الجبر
" أو الإكراه فأهلها لديهم الحق أنْ يفرضوا عليها زواجًا أو
أنْ يرفضوه وبالعكس فإنّ الثانية التي تصبح راشـدة فيما بعد تستطيع أنْ تطلب من
المحاكم المدنية إلغاء عقد زواجها الذي عقد عندما كانت قاصرة وهذا من ضمن حقها في
الاختيار.
ونضيف أنّ الفتاة الراشدة على الرغم أنّها
حرة فى اختيار زوجها لها لكنها لاتستطيع استغلال هذه الحرية بأنْ تتزوج رجلأ
لايناسب مقام أو منزلة عائلتها. وفي هذه الحالة فإنّ
الأشخاص المهتمين بالأمر هذا - يستطيعون الاعتراض ووقف زواج المرأة. ويرجع أصل هذه القاعدة إلى فترة ما قبل الإسلام حيث كانت تعطى
أهمية كبرى لنقاوة الدم ونبل المنشأ. وهي إحدى مخلفات الماضي التي كانت تشجع على الزواج اللحمي (7) - زواج الأقرباء - الذي كان - يمارس عند
العرب.
وهي أيضًا - أي عادة زواج القرابة - ممكن أنْ تكون من
مخلفات الوضع البدائي لنظام الأمومة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ المجتمع الأبوي
عند قدماء العرب كان يعتقد أنّ الطفل يرث صفات خاله وهذا - أي الخال كان مهتمًا
بصفات صهره.
وأخيرًا وبعد قبول المرأة فإنّ الزواج هو عقد يتم بواسطة المهر. وسوف
نحلل صفات المهر نظرًا للأهمية التي تعطى لهذه المؤسّسة التي حسب معرفتنا لم تُدرس
حتى الآن بشكل نقدي وجدّي.
نستطيع أنْ نؤكّد أنّ الزواج هو عقد بين طرفين:
المرأة والرجل وفيه شروط اتفق عليها الطرفان (8) ووصى محمد بطريقة واضحة، باحترام
كل الشروط الخاصة والمدرجة في عقد الزواج (9) وبطبيعة الحال فإنّ هذه الشرو ط
المدرجة من قبل الطرفين يجب أنْ لا تكون في طبيعتها معارضة للقوانين المتواجدة أو
أنْ تكون ضد جوهر الزواج. وهكذا فإنّه ليس بالمستطاع عقد
زواج دون مهر أو عقد زواج مؤقت.
ولكن يمكن عقد قران بشرط احترام "
الزواج الأ حادي " أو إعطاء المرأة حرية الخروج عندما تشاء أو أنْ لا تسكن في
منطقة معينة وإمكانية الحصول على مثل هذه الشروط ما هي إلا طريقة لتسحين وضعها والنظام
القرآنى عالج إلى حدّ ما قساوة القوانين المطبقة على المرأة.
ولندرس الآن عواقب عقد الزواج على الأزواج
أنفسهم، علينا هنا أنْ نتذكّر الأعراف الرصينة والعادات عند قدماء العرب حتى
نستوعب أحسن التوصيات أو القوانين التى نص عليها محمد. في
الفترة ما قبل الإسلام لم تكن وظيفة القاضي العام ذات أهمية تذكر فالزوج كان يأخذ
عل عاتقه تأديب زوجته وفي بعض الأحيان يستغل حقه هذا ويعاقبها بقسوة. فعمل محمد
على إزالة سلطة رب الأسرة وعهد فيها إلى ممثلي السلطة الإلهيه الذين وحدهم
يستطيعون تنفيذ إرادة الله بتطبيق العقاب على المذنبين. ولكن
علينا أنْ ألا ننسى أنّ الديانة الإسلامية تأثرت بذاكرة العرف والتقاليد التي كانت
شائعة في العهود السابقة. وبعيدًا عن أن يُنزع من رب الأسرة جميع سلطاته فإنّ
النبي ترك له سلطة يمارسها على الذين يوجدون تحت رعايته أى نساءه وأطفاله: "
فاتقوا الله في النساء فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله
ولكم عليهن أنْ لايوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فأضربوهن ضربًا غير مبرح
ولهن عليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف ".
وهكذا في بعض الحالات يستطيع الزوج إصلاح زوجته
عندما يكون تصرفها يستحق العقاب قانونيًا. ولكن حق العقاب الذي يعطيه القانون
للزوج هو محدود. فهو أي العقاب
إمّا أنْ يكون بالهجر القصير أو المؤقت وأحيانًا يكون بالضرب غير المبرح. فالديانة
الإسلاميه تعتبر المرأة قاصرًا كالطفل والزوج كالأب الذي يستطيع في بعض الحالات
أنْ يصلح نزوات طفله بأنْ يعاقبه بالضرب الجسدي غير المبرح. إلا أنّ النبي الذي
كافح بنشاط ضد قساوة الأزواج تجاه زوجاتهم لم يسمح بالعقاب الجسدي إلا للأسباب
الجدية كالشكّ في خيانة الزوجة.
أما فما يتعلق بالحقول والواجبات بين
الأزواج فإنّها مرتكزة على هدفين: 1) التناسل 2) والحفاظ على العائلة فعلى المرأة
أنْ تكون وفيّة لزوجها وأنْ تطيع وترضخ لرغبات زوجها الجنسية إلا أنذها غير مجبرة
أنْ تخضع لرغباته غير الطبيعية التى قد تزعجها. التى تمنع الإنجاب. وفي المقابل فإنّ المرأة لها الحق أن تطالب زوجها بالنفقة وأنْ
تعامل بنفس المستوى الذي كانت تتمتع به بيت أهلها.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ على الزوج أنْ يؤدي
قسمًا من واجباته الجنسية نحو زوجته. وأمّا إذا كان متعدّد الزوجات فيجب أنْ يكون
عادلاً تجاههن وإنْ كان أحادي الزواج فيجب عليه القيام بدوره الجنسي طبقًا للقانون
ويختلف الفقهاء في تقديرهم لكثرة هذا الواجب أو الفرْض.
ولكن حق الزوج في طاعة زوجته له لايعني
دائمًا أنّ الزوجة مجبرة أنْ تسكن في المكان الذي يتواجد فيه الزوج. فمكان إقامتها
يجب أنْ يوفر الرفاهية الضرورية للزوجة وهي لها الحق أنْ تلجأ إلى القانون
لحمايتها ضد إرغام الزوج.
أما المبدأ الثاني أي إدارة وحفظ المنزل فينجم عنه حق
المرأة في النفقة وحق الزيارة والخروج من المنزل وأخيرًا واجب المرأة في إدارة
وتدبير المنزل. ومتى تمّ الزواج وأصبحت المرأة مستعدة لأنْ تتحمّل مسؤولية مشاركة
الحياة المنزلية لزوجها فعلى الزوج أنْ يدفع النفقة التي تقدّر قيمتها حسب وضع
الزوج المالي. وهي - أى النفقة - تشمل المنزل المفروش، والغذاء المناسب والكسوة
التي تناسب متطلبات الطقس والتقاليد السارية وملحقات أخرى كأدوات التجميل كالعطور
مثلاً وأخيرًا دفع ثمن العلاج الطبي في حالة المرض.
وإذا كانت المرأة لا تستطيع
اللحاق بزوجها الغائب فيجب عليه أنْ يلتزم بمصروفها. وإنْ احتاجت الزوجة شراء
مايلزمها فإنّها تستطيع أنْ تحصل من القاضي على السماح بأنْ تفعل ذلك أي الشراء
على حساب زوجها الغائب أو أنْ تبيع أثاث البيت. وحتى في حالة اعتقال الزو ج فإنّ
الزوجة لها نفس الحقوق.
ونستطيع أنْ نؤكّد أنّ الزوجة الحرّة في
إبداء عاطفتها نحو زوجها ليست مجبرة قانونيًا أنْ تتحمل سوء حظ زوجها العاثر
ومشاركته فى الضراء. وأحيانًا تستطيع أنْ تتصرف كدائنة
أو غريمة له.
وحق النفقة الذى هو نتيجة الزواج يستمر
مبدئيًأ مادامت العلاقة مستمرة، وأثناء فترة رضاعة الطفل إنْ طلقت الزوجة. ولكن
توجد بعض الحالات التي لا يكون الزوج مجبرًا على دفع
النفقة. فمثلاً في حالة معرفة الزوجة فقر الرجل قبل
زواجها منه. والحالة الثانية لايحق للزوجة بالنفقة إنْ هي لم تنفذ الشروط الضرورية
التى هى جوهر الزواج أى التى تتعلق بالنسل والانسجام في الحياة الزوجية أو عندما
تهمل أعمال المنزل أو تترك البيت للحاق بعمل يبعدها عن الاهتمام بالزوج وإدارة
البيت.
ومبدئيًا وحسب ذهنية القانون يجب على المرأة أنْ تكون الحارسة
الوفية للمنزل ومع هذا فلها حق الخروج من البيت. ويجب أنْ نذكر أنّ الفترة التي
دُوّن فيها القانون الإسلامى كانت عزلة النساء في أوجها وهكذا فإنّه من الطبيعي
أنّ مشرع القوانين محمد فرض أولاً مبدأ العزلة أو الانحباس على النساء وأنّه
ثانيًا اهتم بأنْ ينظّم الحالات المعينة التي تسمح للمرأة بالخروج أو استقبال الزيارات.
فلها الحق أنْ تزور أباها وأمّها أو أن تستقبلهما مرة في
الأسبوع وزيارة الأقارب مرة في السنة. وإذا كان لها
أطفال من زواج سابق فلها الحق أنْ تستقبلهم يوميًا إنْ كانوا صغارًا ومرّة في
الأسبوع إنْ كانوا كبارًا.
لكن الزوجة ليس لها الحق أن تمضي الليلة خارج المنزل دون
إذن زوجها.
وعدم مراعاة الواجبات من كلا الطرفين يتطلب تدخل القاضي
الذي يتصرف لصالح العائلة ويستطيع إنْ ظهر له أنّ الطلاق هو الحلّ الأنسب أن يقضي
بذلك.
هذه الدراسة السريعة عن الحقوق والواجبات
المتبادلة بين الزوجين تشير إلى أنّ الرجل ملزم تجاه
المرأة بصفتها زوجته. ليس كما يقول Milliot " بسبب التمتع أو اللذة التى توفرها وتمدّها
المرأة لزوجها أثناء فترة الزواج "(10) فرغم بصيرة الكاتب إلا أنّه على
الغالب متأثر بالإنحياز للفكرة التي تعتبر المرأة المسلمة أداة للعلاقات الجنسية
فقط. وعدم دقة هذا التفكير يظهر جليًا عندما نذكر أنّ
الرجل مجبر على نفقة المرأة المطلقة الحامل وليس مجبرًا على نفقة المرأة التي تهمل
أعمالها المنزلية ركضًا وراء عمل آخر يبعدها عن البيت. هذا في
الوقت الذي يحافظ فيه الزوج على إمكانية التمتّع بالعلاقات الحميمة مع زوجته.
وهكذا نرى في النظام الإسلامي تفوق ذهنية الزواج وعقلية
التناسل التي لا تدهشنا إنْ اعتبرنا أنّ جذور الإسلام تغطس في العصور القديمة
الأبوية. والمهم أنْ لانغفل أصل هذه المفاهيم إنْ أردنا تجنّب الوقوع في المبالغات
المتطرفة وإنْ أردنا أنْ نفهم بشكل أفضل الذهنيّة التي سنّت قانون العائلة.
إنذ اتهام الإسلام بسهولة فسخ العلاقات
الزوجية أصبح من الشيء المألوف أو الأمر الكلاسيكي. وهذا الاتهام - إنْ دلّ على
شيء - فإنّه يدلّ على المبالغة والجهل الكبير بتاريخ الإسلام ومؤسّسة النبي (صلعم
). فمن الخطأ أنْ يعتمد أحد أنّ محمدًا أعطى الرجل حق
طلاق زوجته دون تعريضه للعقوبات. صحيح أنّ محمدًا لم
يقرن صيغة الزواج على الطريقة المسيحيّة وأنّ إله محمد فكّر وصاغ العلاقة الزوجيّة
بطريقة أكثر بساطة: " وإنْ يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعًا
حكيمًا "(11).
هذه هي العقلية التي توصي بعقد أو حلّ
الزواج. وإذا كان قد أعطى الزوج الحق والسلطة بأنْ
يُطلّق زوجته فإنّ محمدًا لم ينسَ أنْ يمنح الزوجة الحق بأنْ تُطلّق زوجها في بعض
الحالات. وإضافة إلى ذلك فإنذ النبي ترك للأزواج حرية إضافة شروط معينّة في عقد
الزواج.
والملاحظ أنّ الإسلام الذي يقبل أو يجيز حق
الزوج بطلاق زوجته أو بالانفصال من جانب واحد - أى من طرف الزوج فإنّه أيضًا يعترف
بالطلاق الناتج عن القبول المتبادل بين الزوجين أو من قِبَل واحد من الزوجين.
وبهذا فإنذ الإسلام حقق تقدمًا عن الديانة اليهودية التي منها استوحى الإسلام
كثيرا - والتي لاتعرف إلا الطلاق من قبل الزوج.
في أوائل الحقبة الإسلاميّة كان عقد الزواج
محترمًا. ولكن فيما بعد أخذ الرجال يبالغون في ممارسة
الطلاق. وهذا التطوّر هو عكس ما نلاحظه عند قدماء
اليهود. فالذين درسوا الحياة الإجتماعة عند قدماء اليهود يؤكدون أنّه في البداية
كانوا يطلقون زوجاتهم دون إجراءات قانونية تقريبًا إلا أنّ الحاخام فيما بعد وضع
العراقيل للحد من سهولة الطلاق (12). أمّا الفقهاء المسلمون فعملوا العكس أي أرخوا رباط الزواج الذي شدّه محمد بقوة.
والتقاليد عند قدماء العرب أعطت الحق للزوج
أنْ يطلّق متى يشاء. وهذا التقليد كان معمولاً به أيضًا
عند قدماء اليهود.
ومن جراء هذا الوضع كانت المرأة تقاسي الكثير من الإجحاف والضرر البليغ. إذ كان - يحدث أنّ
زوجًا قاسيًا يطلّق زوجته ثم يسترجعها قبل إنقضاء المدة الزمنية التي تحررها من
سلطته. هذه العملية التي كانت تتكرر باستمرار كانت تمنع
المرأة من إمكانية الزواج مرة ثانية وجاء الإسلام ليغيّر وبُعدّل هذا الوضع
بتنظيمه صيغة الطلاق:
" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. فإنْ طلّقها فلا تحلّ
له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره فإنْ طلّقها فلا جناح عليهما إنْ يتراجعا إنْ ظنّا
أنْ يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون" (13).
وفي خلال ستّة أشهر- مدة اجراء الطلال -
يكون الزوج أثناءه قد فكر وأخذ القرار الحاسم والدائم.
ولم يكتف محمد بإنشاء المهلة أو الفترة
الزمنيّة التي تتيح المصالحة بين الزوجين ورجوع السلام إلى البيت بلّ وضع العراقيل
للطلاق وإنْ سمح به. ولقد تأثّر محمد بتقاليد اليهود والمسحييّن إذ كان ينصح
أتباعه بأنْ يأخذوا قدوة متانة العلاقات الزوجية عندهم. فيقول عن أهل الكتاب:
" إنّ رجل
الكتاب - أي المسيحي أو اليهودي يتزوج أحيانًا امرأة فقيرة فلا يفترقا حتى يفرقهما
الموت(14).
وبرغم شرعيّة الطلاق فإنّه يبقى "
ابغض الحلال عند الله هو الطلاق " (15).
وعلى الرغم من كلّ هذه القيود والاحتياطات،
وعلى الرغم من أنّ الإسلام فرض مهلة زمنية قبل فسخ الزواج وعلى الرغم من المثال
الحسن الذي أعطاه محمد فإنّ الوضع العائلي أخذ بالانحلال وتفاقمت الاختلافات
والطلاق أصبح شيئًا مألوفًا ومتكررًا. فمهلة الستة أشهر التي فرضها محمد لكي يصبح
الانفصال أو الطلاق قطعيًا ألغتها القوانين الجديدة التي ألغت إجبارية المهلة
وهكذا أصبح الطلاق ساري المفعول بصيغة واحدة - كانت ثلاثة - فما إنْ أنْ تقال هذه
الصيغة حتى يأخذ الانفصال مفعوله والفقهاء سمحوا به رغم أنّها تبقى مكروهة (16).
وينسب هذا الابتكار إلى الخليفة عمر بن
الخطاب الذي لاغرابة فيه حين نذكر أنّ عمر ساهم أكثر من أي شخص آخر في تطبيق
وتطوير عزلة النساء وأنّه بكلامه، تصرفاته وقوانينه حطّ كثيرًا من مكانة المرأة
(17).
وعلى كلٍ فإنّ الظروف هي أيضًا ساهمت في
الحط من شأن المرأة. فانتشار الغزوات وتوسّع الفتوحات الإسلامية وتراكم الثراء في
أيدي العرب وتجمع أسرى الحرب من جميع الأراضي المحّتلة هذا من جهة ومن جهة أخرى
ترسّخ الدين البطريركي المشجع على الزواج وفرض حالة أخلاقية حيث المرأة منعزلة
أكثر وأكثر ومنفصلة عن الرجل ومجهولة منه. كل هذه العوامل ساهمت وشجّعت على إشباع
نزوات الرجل وارتفاع نسبة الطلاق.
بعد هذه البدعة المشؤومة - صرعة الطلاق -
التي لم تكن مرفوضة بإجماع الفقهاء تميز نوعان مز الطلاق: الطلاق الرجعي والطلاق
البيّن أي النهائي الذي يحلّ الزواج دون أيّة مهلة. ومهما يكن شكل الطلاقى فإنّ
الزوجة تدخل في عزلة قانونيّة مدّتها ثلاثة أشهر العدّة والغرض من ذلك التأكّد
فيما إنْ كانت الزوجة حاملاً أم لا.
فإذا كان الطلاق رجعيًا فإنّ أيّة علاقة
حميمة بين الرجل وزوجته خلال هذه الفترة تعطيها الحق بالرجوع. ونتيجة ذلك يبقى هو السيد المطلق بأنْ يسترجعها وهي تلتحق به مطيعة رغبته.
نذكر القارىء هنا بأنّ نفقة المرأة المطلقة في حالة الحمل هي مسؤولية الزوج حتى
ولادة الطفل وفترة رضاعته.
والطلاق الذي يهدم العلاقة الزوجية يؤثر
أيضًا على حق الوراثة ومع هذا فإنّ مشرع القوانين النبي صلعم باهتمامه مصلحة
المرأة أعطاها حق الوراثة عندما يجرى الطلاق في لحظة مرض الزوج ووفاته. والملاحظ أيضًا أنّ رباط الزواج الذي يلزم الطرفين عند عقده
يفقد هذه الخاصية عند انحلاله.
صحيح إنّ للرجل وحده الحق بأنْ ينطق الطلاق، إلا أنّ
المشرع المسلم يعترف أو يقبل الطلاق بالموافقة المتبادلة وحتى في بعض الحالات يقبل
حق المرأة بالمطالبة به.
وفي حالة الطلاق بالموافقة المتبادلة فإنّ الطرفين يتفقان بأنْ يتنازلا عن حقوقهما. وفي بعض الأحيان تعرض المرأة على زوجها أنْ يسترجع المهر. وهذا
يسمى بطلاق الكحلة وهو غير مستحب من قبل الفقهاء (18).
وأحيانآ لكي تتخلّص الزوجة من حياة
لاتُحتمل مع زوجها تعرض عليه فدية. ولكن إذا كان الزوج لايقوم بواجباته الزوجية
ولا يحترم الشروط المتفق عليها في عقد الزواج أو إذا كان يوجّه بذيء الكلام لزوجته
فإنّ المرأة في هذه الحالة تستطيع أنْ تطلب من القاضي أنْ يتدخّل لكي يعلن الطلاق.
وتستطيع المرأة أنْ تحل زواجها بنفسها دون الاستعانة بالقاضى إنْ هي اشترطت على
حقها في العصمة في عقد الزواج. ولها الحق ايضًا في طلب الطلاق في حالة إصابة الزوج
ببعض الأمراض أو أنْ يكون ذا آفة أو علّة تبطل الزواج (19). وطبعًا فإنّ نتيجة الطلاق هي حلّ الرباط الزوجي. فالأزواج
الذين يريدون الزواج مرة ثانية عليهم أنْ يقدّموا مهرًا جديدًا إلا أنّه في بعض
الحالات ليس مضطرًا أنْ يجدّد كل شروط الزواج عندما يعقد قرانه من جديد.
المهر عند المسلمين كما
هو معروف - يدفعه الزوج إلى المرأة. ومن السابق لأوانه
أنْ نجرب أنْ نعطى تعريفًا كافيًا قبل تقرير مميزاته وتوضيح صورته التاريخية. فإنْ طلبت من رجل قانوني أنْ يعرّف المهر أجابك بأنّ الزواج هو
عقد وأنّ المهر هو عبارة عن تعويض، يقدّمه الزوج مقابل شخص المرأة (20) وأمّا إذا
سألت فقيهًا - رجل دين - فيجيب إنْ الدين يتطلب دفع المهر ليصدق الزواج ويجعله
شرعيًا (21). أمّا الأعراف السائدة في مختلف البلاد المسلمة فتقول إنّ تقديم المهر
من قبل الزوج يمثّل قيمة أو أهمية عائلة المرأة المخطوبة.
أما في التاريخ الإسلامي فنرى أنّ المهر
تحوّل إلى رمز بسيط. فما هو المعنى الحقيقى لهذه المؤسسة التي تختلف كثيرًا عن
المهر الموجود في الأ مم الحديثة أو عند الرومان.
فعند العرب قبل الإسلام كان الزوج يدفع
المهر إلى أبّ المرأة أو أي مسؤول عنها كثمن لها. وكانت العادة أنّ اصدقاء وأقارب
الرجل يقدّمون له التهاني بمناسبة ميلاد أنثى، والتي تستطيع فيما بعد أنْ تكون
مصدرًا للثراء للأبّ الذي يقبض هو نفسه المهر وبالتأكيد فإنّ النظام الأبوي كان -
يبتهج ويقدر أكثر ولادة ذكر لأن هذا سيكبر لينضم إلى صفوف المحاربين في القبيلة.
ومع هذا فإنّ الأنثى كانت مصدر فرح بسبب المهر الذى يقبضه أبوها عند زواجها.
وجاء الإسلام ليغيّر هذا النظام. فحافظ محمد على مبدأ المهر المدفوع من قبل الزوج إلا أنّه من
الآن فصاعدًا سيُدفع للمرأة وليس لأبيها. فماذا كانت غاية مشرع
القوانين من وراء هذا التغيير؟.
في نظر محمد يجب أنْ يبقى المهر ثمنًا
للزواج وهذا ما تؤكّده الروايات: " فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارًا على
أنْ تخلى بينى وبين نفسها ففعلت حتى إذا ندرت عليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم
إلا بحقه (22) وينسب
إلى النبي - وربما على خطأ- فكرة وضع كل المهر في ميراث المرأة بعد إتمام الزواج
" و كيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض - فأتوهن أجورهن "(23).
ففكرة الاتفاق أو العقد واضحة: أي بمقابل
الخدمات التى تقدمها المرأة إلى مؤسّسة الزواج فإنّ الزوج يدفع المهر كضرورة
مقايضة.
إلا أنّ تصرف محمد الموثوق من صحّته في الحادثة
التالية يشير أنّ الغاية النظريّة للنبي كانت شيئًا آخر: جاء رجل إلى النبي طالبًا
منه أنْ يزوّجه بامرأة كان النبي مسؤولاً عنها. فيطلب
محمد من الرجل أنْ يدفع المهر لكن الرجل كان فقيرًا جدًا " اذهب - قال له
محمد واجلب عل الأقلّ خاتمًا من حديد ولكن الرجل ما كان - يملك شيئًا. وهنا قال
محمد سائلاً: هل قرأت القرآن؟ نعم
أجاب الرجل حسنًا أزوجك بمقابل ما تملكه من القرآن وتم الزواج (24).
أن يطلب محمد من الرجل خاتمًا من الحديد- أي شيئًا ذا
قيمة ضئيلة ليزوجه من امرأة تحت رعايته - فإنّ ذلك يبرهن على أنّ المهر كان شيئًا
شكليّا بالنسبة له لا أكثر ولا أقلّ. فأثناء حياة محمد وبعد وفاته أيضًا لم يكن
للمهر أيّة صفات أخرى. ويقال أنّه حتى عمر أراد تحديد
قيمة المهر- بما لا يزيد عما يعادل اليوم 200فرنك (25).
هذا الميل لتقليل قيمة المهر- يضر بالوضع الجديد للمرأة
إذ هي أصبحت - كما أشرنا سابقًا - سيّدة شخصها بنفسها، فلم يعد المهر ملك أبيها
بلّ ملكها. وهكذا فقد الأبّ اهتمامه بالمهر وأصبح همّه أنْ يزوج ابنته ليتخلّص من مصاريفها. ورغبة الآباء
هذه في التخلّص من بناتهم كانت تلاحظ بوضوح عند العرب في وقت محمد - قبل وبعد
رسالته – (26) " قالوا إنّكم قد فرغتم محمدًا من همه فردوا عليه بناته
فاشغلوه بهن ".
فالآباء غير المبالين بقيمة المهر- لم يتردّدوا في اغتنام
الفرص لعرض بناتهم للزواج (27) وموقف الخليفة عمر تجاه ابنته يشير إلى ذلك.
والقانون الجديد الذي غيّر من خاصيّة المهر وحافظ على نظام
تعدّد الزوجات والذي أخيرًا شجّع على الزواج سهّل تأسيس وانتشار العائلة المتعدّدة
الزوجات. هذه المؤسسة تطوّرت وشملت تقريبًا جميع الطبقات الإجتماعية وأصبحت عادة
متّبعة أكثر بكثير من فترة ماقبل الإسلام.
وصحابة النبي صلعم كانوا جميعًا تقريبًا متعدّدي
الزوجات ونحن نعتقد أنّ من بين الأسباب والمؤسسات الإجتماعية التي شجّعت وحافظت
على نظام تعدّد الزوجات كان خاصية المهر الذى شرّعه محمد والذي لعب دورًا مهمًا في
حياة الناس. فالمهر شغل فكر الحكام. وهكذا فإنّ محاولة عمر أنْ يعيّن الحدّ الأقصى
للمهر طبقت في عهد الأمويّين: عبد الملك ابن مروان حددها بـ 400درهم أي مايعادل بـ
200 فرنك (28).
ولا ننسى أنّ فكرة المهر بنظر محمد كان لها
طابع شكلي أكثر من أنء تكون ضرورة مقايضة في عقد الزواج.
كما أنّ فكرة المهر الماديّة كانت ذات فائدة تاريخية منذ
البداية، فالمرأة التي تبدو من وجهة نظرنا العصرية كشريكة نشيطة في عقد الزواج.
ماكانت تستطيع بأى شكل من الأشكال أنْ تهب
أو أن تعطى شخصها وخدماتها بدون أي ثمن إلى الشريك الآخر أى الزوج. إذ كان يجب على
هذا الأخير أنْ يقدّم المهر كضرورة مقايضة. والنبي نفسه
عمل بهذا المبدأ وإنْ كان قلّصه إلى أمر شكلي وعندما نبحث عند الفقهاء المسلمين عن
تفسير للتناقض الكائن بين حرية المرأة - مبدئيًا - أن تختار من تريد والواقع الآخر
الذى لايسمح لها بحرية التصرف بما تملك أي المهر فإننا نجد لديهم الكثير من
الإحراج والارتباك. والتفسير الوحيد الذي يقدموه هو أنّ المرأة كربة بيت وأم لها
وظيفة مقدسة وأنّ العناية الإلهية التى ألبست المرأة هذه الميزة، تقضي بأنْ يُدفع
لها المهر. وخلاصة القول أنّ اقتضاء المهر أتى من الله
فإذن هو مجرد أمر ديني.
لكن هذا المنطق الصوفي لايتجاوب أبدًا مع
التاريخ والوقائع. وفي الحقيقة إنّ المهر يظهر لنا في باديء الأمر كتسعيرة ثمن.
ثمّ انحرف في وقت محمد عن معناه وأصبح مسألة شكلية. ولكن
سرعان ما فرض علماء الدين فيما بعد معنى جديدًا للمهر ومخالفًا لفكرة محمد.
وعلى الرغم من كل المحاولات لتعيين الحد
الأقصى للمهر، فإننا نرى أنّ قيمة المهر ارتفعت ارتفاعًا كبيرًا. واتخذ المهر صفة
جديدة: إذ لم يعد ملك المرأة كما أراد ذلك النبي وما عاد أيضًا من حق عائلة المرأة
المخطوبة كما كانت الحالة عند قدماء العرب والمجتمعات البطريركية وأخيرًا فقد
المهر صفته الدينيّة الشكلية - أى دون أيّة قيمة مادية تذكر. فما
هي إذن الصفة الجديدة للمهر؟.
فرغبة الرجل في ان تشارك زوجته مصاريف
البيت الزوجي تتم كالآتي: يدفع الرجل مهرًا محترمًا حتى يختار زوجته من عائلة
مرموقة. وقيمة المهر تقاس بمكانة عائلة الزوجة أى من ناحية النسب والثراء ومركزها
الاجتماعي. ومن جهة عائلة الزوجة فإنّ أبويها يقدّمان الجهاز والهدايا الكثيرة وهى
بالطبع تنضاف إلى المهر وتزيد من قيمته زيادة كبيرة. والزيادة هذه تتجاوب مع رغبة
الزوج.
وأعطت العادات السائدة في ذلك العصر صفة
أخرى للمهر. المهر أصبح وسيلة لشراء رتبة اجتماعية، أو الحصول على الثروة أو مكانة وصفات تتباهى بها العائلة.
وعلى الرغم من كل هذه التقلبات في أسعار
ومعاني المهر فإنّه يبقى في نطر رجال الشريعة كضرورة مقايضة يدفعه الزوج للمرأة
التي يختارها كزوجة. وسننظر من وجهة نظر القانون إلى مفهوم المهر.
فالمهر بمعناه البدائي هو ملك المرأة
المطلق ولها كل الحق في أنْ تتصرّف به كما تشاء، كما لها الحرية أيضًا أنْ تتصرف
ببقية ممتلكاتها الشخصية التي لا تدخل في مصاريف أو نفقات المنزل.
وفصل أموال
الزوجين هذا ذو علاقة محصورة بنظام تعدّد الزوجات المعمول به في القرآن. فمحمد -
مشرع القوانين – ما كان بإستطاعته أنْ يقبل شيوع الأموال بين الأزواج المتعدّدي
الزوجات دون أنْ يتعارض ذلك مع العدالة والمنطق السليم. ومع هذا فإنّ فصل أموال
الزوجين ليس تمامًا بالأ مر المطلق وكذلك فإنّ حرية التصرف في الأموال هي أيضًا
محدودة.
وفي الواقع إنّ الزوجين لا يستطيعان التصرف
بأموالهما بدون مبرر
إلا بالثلث فقط مما يملكه كل واحد منهما.
ولا يحق لهما تبذير ورثتهما دون أنْ يكونا مهدّدين بتدخل
الورثة - أى اولادهم - الذين لهم الحق أنْ يعلنوا أبويهم عاجزين عن إدارة
أموالهما. وقانون تحديد حرية التبذير والوقاية ضد الإسراف سنّه محمد والغاية من
ورائه حماية حقوق الورثة فى المستقبل.
ونضيف هنا أنّ الزوجة كما
الزوج كل يرث الآخر.
ألا نرى هنا في حق مراقبة كل من الزوجين
على ما يملكه الشريك الأخر ميلأ نحو شيوع أموال الزوجين؟.
وأخيرًا نلاحظ أنذ المرأة لاتمتلك المهر
بعد عقد الزواج. فلها الحق في نصفه أو في قسم منه الذي يجب أنْ لا يكون أقل من
المبلغ القانوي – ما يساوي خمسة فرنكات. وفي القسم الآخر
من المهر فإنّ المرأة لها حق الدين فقط.
وفي حالة تطليق المرأة قبل إتمام الزواج فلها حقّ نصف
المهر المعتمد. وإذا تمّ الزواج فإنّ للمرأة الحق بأنْ
تطالب بكلية المهر. وإذا لم تُعيّن قيمة المهر فإنّه يُقرّر حسب وضع المرأة. وكل هذه الملاحظات هي
نقاط قانونية ولن نصرّ عليها.
وسلوك المرأة المذنب أو البذيء يمكن أن
يُبطل حقوقها في المهر وهذا في نظر علماء المسلمين يفسّر اضطرار الزوج إلى تطليقها
بسبب سلوكها السيء. وسلوكها السيء يشمل حالة ارتدادها- عن دينها- أو أنْ تكون
زانية أو أنْ تكون حاملاً قبل الزواج. ونلاحظ أيضًا أنّه
في حالة عدم دفع الزوج للمهر الذي يجب دفعه قبل إتمام مراسيم الزواج فإنّه يعطي
للمرأة الحق في أنْ تطلب الطلاق. وهذا الدأفع نفسه يعطى للمرأة الحق بأنْ لاتلتزم
ببعض القوانين الضرورية في العائلة المثالية - مثل قوانين الزياوة والخروج من
البيت.
وفي نفس الوقت تستطيع أنْ ترفض مصاحبة زوجها في السفر،
وأنْ ترفض أيضًا العلاقات الجنسية. ورغم كل هذه الحريات
يبقى حق النفقة معمولاً به.
نحن هنا في نهاية مراجعتنا السريعة للوضع
القانوي للنساء .يمكننا أنْ نتساءل ماذا كان - رغم كل
الثغرات - تأثيرالنظام التشريعي على انحطاط وضعية النساء؟. ويظهر
أنّه لم يكن كبيرًا إذا اعتبرنا أنّ الفقهاء الأربعة اختلفوا فيما بينهم بخصوص
موقفهم المنحاز قليلاً أو كثيرًا لصالح المرأة وخاصة عندما نذكر أنّ محمدًا أراد
حمايتها وعمل جاهدًا ضد العادات السائدة في زمنه. فأعطاها
حق الوراثة وشخصية تسمح لها بأنْ تتزوج من تريد وأنْ تنظّم حياتها مع زوجها حسب
شروطها.
ولكن هذه الأحكام
النظرية العطوفة والمتسامحة لم تكن مع الأسف ذات فعالية تستحق الذكر.
فالتطبيق وسلوك المجتمع .حبذا عزلة المرأة وإنقاص حقوقها، وتغلّبًا في النهاية على
نظام محمد.
ومن جهة أخرى فإنذ محمدًا باهتمامه بحماية
المرأة ورعايتها فإنّه اعترف ضمنيًا بضعفها واعتبرها قاصرة تقريبأ. وهذه خاصيّة كل القوانين الدينيّة والقديمة.
وبقدرما تفقد الآلهة من سلطتها يختفي معها
وينهار تحيز الامتيازات المرتبطة ببعض الطبقات ويتلاشى التحيز الذي يميز بين
الجنسين في النضام القضائي.
الهوامش:
1- تفسيرالطبري الجزء 4 ص
192البخاري الجزء 3ص 26
2-المصدر
السابق ص168
3- بول جيد دراسة وضع المرأة
ص 416 باريس
4- نفس
القانون كان موجودًا عند الإسرائيليين القدماء.
5- بول جيد دراسة عن وضع
المرأة ص 422باريس
6- طبقات ابن سعد الجزء 8ص
334 أنظر أيضًا صحيح البخاري الجزء 3 ص 13.
7-
Wellhausen, Nachrichten von der Konglichen Gesellschaft der Wissenschaft en zu
Gottingen, 1893, Die Ehe bei den Arabern, p. 432
8- V. Pour le Matriarcat, Robenston Smith,
Kinshipund Mariage.
9- القرآن 28
10- صحيح
مسلم الجزء 1 ص 400
11- صحيح
مسلم الجزء 1 ص 247
12- أطروحة قانونية ص 125 باريس
13- سورة النساء آية 129
14- العائلة
عند قدماء الإسرائيليين صر 213 باريس 05 19
15- من سورة البقرة الآية
229
16- بخورات الكلام الشيخ
حمزة طبعة بولاق صر 87
17- الغزالي الجزء الثاني ص
42
18- نفس المصدر
19- نفس المصدر
. 2- نفس المصدر
21- خليل الجزء 2 ص 44044-407
22- Milliot أطروحة
قانونية ص 107 باريس
23- Milliot أطروحة
قانونية ص 172 باريس
24- البستاني ترجمة الإلياذة
صر 559 مطبعة الهلال القاهرة 1904
25- الغزالي الجزء الثالث ص
97 القاهرة 1282
26- تفسير
الطبري الجزء 4 ص 201
27- صحيح
البخاري الثالث ص 373
28- حصن الأسوة ص 42
المرأة في الأسطورة اليهودية متهمة بالخطية
الأولى.
فلقد أغراها الشيطان وهي بدورها أغرت زوجها
آدم. أمّا القرآن فإنّه نسب الخطيئة إلى الرجل والمرأة
بالتساوي. لكن على بالرغم من هذا الموقف المماثل للجنسين أمام إغراءات إبليس فإنّ
القرآن صفع المرأة بالدونيّة.
وفيما بعد وعندما احتكت الديانة الإسلاميّة
بالمسيحييّن والمجوس فإنّ المعتقدات الدينيّة والأسطوريّة لهؤلاء تشعّبت في قماشة
الدين الجديد الذي لم يتأخر عن إحيائها تحت الشكل الإسلامي، يقال مثلاً أنّ موسى -
وهو يتحدث مع الشيطان نصحه هذا الأخير بأنْ لا يختلي مع امرأة لأنّ إبليس سيوقعهما
في الإغراء (1).
لن نبحث في هذا المضمار عن التأثيرات الدينية الأخرى
التي دورًا في صياغة الدين الإسلامي ولكننا سنذكر بعض الكتاب المهمين في العالم
الإسلامي وسنتعرض لآرائهم في موضوع المرأة.
ففى القرن الثاني للهجرة عاش ابن المقفع
الكاتب الفارسي والذى اعتنق الإسلام والذي لمع في الأدب العربى حتى أنّه أعتبر من
أحسن الكتاب. قال ابن المقفع ينصح الرجل بما يلى: وؤطن نفسك على أنّه لاسبيل لك
على قطيعة أخيك وإنْ ظهر منه ما تكره فإنّه ليس كالمرأة التي تطلقها إذا شئت
"(2).
فابن المقفع عاش
في عصر كان الطلاق فيه يمارس بإسراف ومبالغة. إلا أن انتاجه الأدبي يفيض برحابة
الفكر وعقلية منفتحة إلا أن احتقار المرأة المتغلغل في محيطه وتراثه العرفى يسيطر
على أعماله كسيطرة العقيدة. يقول: لا شيء أكثر بلاءً للدين، للجسد، للخير، للذكاء
- لاشيء يدمّر العقل أكثر إلا حب النساء " فالرجل الذى ينغمس في ترف حبّ
النساء هو رجل ضعف الذهن لا أكثر ولا أقلّ، وهو يشبه الرجل الحشع النهم الذى
لايفكر إلا بلذائذ المائدة.
وفي القرن الثالث للهجرة كان الجاحظ الكاتب
المشهور - الذي كان في نفس الوقت يترأس ملّة فلسفه - كان يتكلم عن المرأة باعتدال
أكثر وعلى الأرجح أنّه كان متفقًا مع قول القرآن: والرجال قوّامون على النساء إذ
يقول هو أنّ " تفوق الرجل على المرأه خارقٌ وأنّ هذا التفوق يسطع في كل
الميادين " إلا أنّ الجاحظ حضّ الرجل على أنْ يحترم حقوق المرأة لأنّه يقول:
" وليس ينبغى لمن عظّم حقوق الأباء أنْ يصدّ حقوق الأمهات "(3).
والجاحظ كان بعيدًا جدًا عن الجمعيات في
أيامنا هذه والتي تطالب بتساوى المرأة مع الرجل في كل ميادين الحياة. فهو كان يعقد أنّ المرأة يجب أنْ لا تتحول عن وظيفتها
الحقيقية: فرسالتها أنْ تكون أمًّا وامرأة. ومع هذا فإنّ الجاحظ انتقد الرجل
المتكلّف والذى يدّعى العلم إذا ما اهتمّ بأمور هي من اختصاص المرأة مثل موضوع
الموسيقى ونستطيع أنْ نقول بكلمة واحدة إنّ الفترة الزمنية التي تلت مجيء الإسلام
كان همّها الرئيسي أنْ تنظم حياة المرأة بما يناسب صفة ومصلحة الرجل.
وفي القرن الخامس للهجرة نجد عند الغزالي
هذا الصوفي الغريب الأطوار أفكارًا مختلفة تهمّ موضوعنا هذا.
فالغزالي، هذا الصوفي الذي تأثر كثيرًا
بالصوفية المسيحيّة والذي كان له تأثير كبير على تاريخ الفكر الإسلامي، كانت له
أفكاره الخاصة بخصوص المرأة. فالمرأة في نظره يجب أنْ لا
تشغل الرجل بأي حال من الأحوال. وأمّا الزواج فيجب أنْ يُقضى عليه لأسباب اقتصادية
وصوفية. فالأسباب الإقتصادية مستمدّة من وضع المرأة في
الإسلام: فالمرأة بوضعها الاجتماعي لا تستطيع كسب قوتها.
وهذا الواجب مفروض كليًا على الزوج. والغزالى الذي على الأرجح، كان يعتبر الحياة
صعبة كان يرى أنّ المرأة،تكلّف مبالغ باهظة ولهذا فمن الأحسن أنْ لايتحمل الرجل
مسؤولية هذا العبء (4).
أمّا السبب الصوفي فهو أنّ هم العائلة يصبح
أمرًأ ينهك القلب وكل شيء الذي قد يلهينا عن خدمة الله - إنّ كان العائلة أو متاع
الدنيا أو حتى الأطفال - كلّ هذه العو!مل ما عي إلا مهلكة وذات نحس (5).
الغزالى، هذا الفقيه والغريب الأطوار الذي
أغلق نفسه على عالم الحب ماعدا الحب الصوفي يعلن أنّ الحمقى فقط قادرون على الب.
ونظرة الغزالى للحب تتقارب مع نظرة عالم لاهوتي
آخر من القرن الثامن عشر- القس جيرار فيقول هذا الأخير: " إنّ الحب يُسبب
الكثير من البلاهة عند أكثرية النساء وأما الرجال النوابغ فنادرًا مايستسملون للحب
ولكنهم غالبأ ما يعطون من أوقات فراغهم لحب عابر فقط.إلا أنّ الغزال ذهب بعيدًا
وكان أكثر إطلاقية في رفضه للحب من القس جيرار. فهو يقول مثلاً: " فالهوى أو
الشهوة، قد تأخذ شكل الحب: إذن هذا الهوى ماهو إلا حاجة جنسية والرجل يجهل ذلك.
إنّه شكل متفاقم بشهيّة حيوانية لأنّه، بالإضافة إلى أنّ
العاشق هو فريسة عاطفته الجنسية التي هي أشنع وأكثر بغضًا من كل العواطف فإنّه أي
العاشق يحتاج إلى شخص واحد ليشبع رغباته بينما تعرف الحيوانات أنْ تشبع رغبتها على
الأقل في أي مكان وفي أول مناسبة تُعرض لها.
فالحب ماهو إلا عبارة عن هوس أحمق "
فالذي يكسر قوة الحب من بدايته يشبه الرجل الذي يمسك بزمام الحيوان في لحظة في
طريق ضيق مسدود ولا أسهل من ذلك، أمّا الذي يبحث عن أن يتخلّص من الحب بعد أنْ
استحوذ عليه فهو يشبه الرجل الذي يترك
الحيوان فالتًا في الطريق المسدود ويحاول أنْ يخرجه بسحبه من ذنبه. الفرق كبيربين
الإثنين: رغد في الحالة الأولى وصعوبة في الحالة الثانية "(6).
وبعد أن يُبدي رأيه في المرأة، يتكلم
الغزالى كغيره من الكتّاب الواعظين القدماء فيخطّط لها طريقة سلوك في تنظيم
حياتها. يقول الغزالى: " ينبغي على المرأة أنْ تغلق نفسها في بيتها وأنْ الا
تترك منزلها، وعليها أنْ لا تظهر كثيرًا على سطح منزلها وأنْ لايراها الأخرون.
وينبغي أنْ لا تمارس الثرثرة مع الجيران وأنْ لاتزورهم إلا في الوقت المناسب. وأنْ
تسهر على راحة زوجها حاضرًا أو غائبًا وأنْ تبحث عن متعته وسعادته في كل ما تفعل،
فلا تخونه بشخصه أو بأملاكه وأن لاتخرج من المنزل إلا بإذن الزوج. وفي الخارج عليها أنْ تتصرف بشكل غير منظور. أى أن تأخذ
الشوارع غير المطروقة وتتجنب الطرق المزدحمة وأنْ تنتبه أنْ لا تعرفها الحارة
"(7).
هذه الأوامر التعسغية والجائرة التي يوجهها
الغزالي الصوفي إلى النساء كان لها تأثير كبير على الثقافة الإسلامية.
ويندهش المرء ويغتاظ وهو يقرأ صفحة كهذه في
سجل تاريخ الدين الإسلامي، فهي تمثل إدانة للعصر الذي أنبت مثل هذه العقلية ومثل
هذه الأ فكار.
ولندع الغزالي الكئيب والغريب الطبع ولنسمع
ما يقوله كاتب أخلاقي آخر الذي بدوره كان مشهورًا جدًا ابن حزم المؤرخ الأندلسي.
في القرن الخامس. يقول ابن حزم في كتابه المشهور " طوق الحمامة ".
فابن حزم الذي عاش في مجتمع راقٍ، كان أكثر
تحضرًا وأكثر إنسانية من الغزالى. فالغزالي، عن طريق أساتذته، تأثّر على الأرجح
بالدين المسيحي واحتقر المرأة. أما ابن حزم فإنّه تأثرّ بأستاذه محمد وخلع عليه
الشاعرية. فماذا كان رأيه بالحب.
" الحب أعزك الله أوّله هزل وآخره
جدّ. وليس بمنكر في الديانة ولامحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله "(8).
ويبحث ابن حزم هذا التقي المتدين، عن سبب
صوفى ليفسّر الحب فيجده: " والذي اذهب إليه أنّه اتصال بين أجزاء النفوس
المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع "(9).
وأما فيما يتعلق
بقيمة الحب وأهميته فإنّه يبالغ بذلك. فبينما يجد الغزالي في الحب نوعًا من العار
والحيوانية فإنّ ابن حزم بعكس الغزالي يعلن بعبارات تشهد تأثره بالمحمدية فيقول:
" ولولا أنّ الدنيا دار ممر ومحنة وكدر والجنة دار جزاء وأمان من المكاره
لقلنا أنّ وصل المحبوب هو الصفاء الذي لاكدر فيه"(10).
فابن حزم المعروف بحساسيته اللافتة للنظر،
كما يشهد شعره المؤثر الرقيق، عرف أيضًا كيف يطلق أحكامًا حازمة ناتجة عن خبرات
شبابه وأن يعبر فى ملاحظات رقيقة عن أمور المرأة.
وبصورة عامة، فإنّ المرء يتوهّم المرأة
كائنًا ضعيغًا أمام إغراءات الحب إلا أنّ ابن حزم دعم قولاً آخر بأنّ "الرجال
والنساء يخضعون بالتساوي أمام الحب والعلاقات الجنسية "(11).
كما أنّه دافع عن المرأة ضد الإفتراء
وتلطيخ سمعتها من قبل الذين أرادوا أنْ - يبقوها في العزلة - أي سجن الرجل - وعلى
الرغم من أنّ ابن حزم تأثر بعصره وتميز مجتمعه ضد المرأة إلا أنّه عرف كيف يكون
أكثر عدالة أو على الأقل أقل تزمتًا وصرامة تجاه النساء من الغزالي، فيلسوف
عصرالانحطاط.
والأدب الإسلامي في تطوره التاريخى أذلّ
أكثر فأكثر المرأة بتحقيرها لنفسها. والدليل على ذلك أنّ المرء ينذهل إنْ تابع
سيرة تطور الشعر العربي فيجد مثلاً في العصر الوثني تجمع المقاتلين في الليل قرب
خيمة في رمال الصحراء وتحت ضوء القمر ومحاطون بدائرة من الفتيات النساء الشابات.
كان هؤلاء يغنون احتدام المعارك ويقرضون الشعر في أجواء
مرحة وسعيدة. وهذه الأشعار تبدأ عادة ببيت شعر - يهدى
للمرأة التي تستحوذ على قلب الشاعر بعاطفتها أو بإيحائها الحب، بجمالها أو أخلاقها
النبيلة - هذه المرأة - امرأة المجتمع العربي القديم كانت فخورة وجديرة بأنْ تكون
الكائن المحبوب الذي يوحي بأنبل المشاعر. ولكن فيما بعد، بعد مجيء الإسلام، وتفاقم
عزلة المرأة أصبح الشعراء يتغزلون بامرأة وهمية يحلمون نها، أي امرأة الأزمنة
القديمة التي لا يعرفوها. وفي حين أنْ الشعر الوثني كان مزخرفّا بصور حقيقية
للمرأة الجميلة القوية المليئة حيوية وعنفوانًا، فإنّ الشعراء المسلمين افتعلوا
صورًا وهميّة لامرأه لاوجود لها إذ أنّ النساء المسلمات ذبلن في حياة يائسه وهزيلة
وسرية في عقر بيوتهن.
وتطور الشعر هذا يؤكد أولاّ على تقهقر
المرأة وإذلالها لأنّها فقدت مكانتها الحقيقية والحيوية في مضمار الضمير الإنساني
والوجدان الشعرى. ومن جهة ثانية فإنّ الشعر الجنسي أو الغزلي الذى غنّى الحب ونادى
به جرّد من معناه وحياته لأن المرأة، التي هىعموده الفقرى، عزلت وأبعدت من حياة
الشعراء بل ومن الحياة نفسها. وتدنّى مستوى الشعر الذى يتغنى بالمرأة إلى أدب
واقعي صلف والذى لايعرف من المرأه إلا جسدها الموصوف بكثيرر من الصبر والدقة.
فكتاب التيجاني المنتشر في المغرب يصف جمال المرأه فقط وكأنّها خلقت لمتعة الرجل
" إنّ المتعة التى تعطيها المرأة تفوق كل المتع وإنّ الله وضع عشق المرأه فوق
بقية العواطف "(12).
أمّا السيوطي، الكاتب المصري الذي عاش في
القرن التاسع، والذى كتب في كل ميادين الأدب، هذا
السيوطي كتب كتابًا يخجل المرء من قراءته. إذ يصف فيه جسد المرأه ويُشرّحه في
علاقتها الجنسية وإشباع الرغبات الجنسية المبتذلة ." وبعد
فقد أكثر الناس من التصنيف في فن النكاح ما بين مسهب ومختصر "(13).
وأمام مثل هذا الكتاب من الأ دب الرخيص لا
يسعنا إلا أنْ نغلق أعيننا وآذاننا. وهو إنْ دلّ على شيء فإنّه يدلّ على إذلال
واستعباد المرأة من قبل الرجل، ولنرجع الآن إلى المرأة الجميلة الفاعلة في العصر
الوثنى عند العرب... فالنساء العربيات قبل الإسلام اللواتى طفن الصحراء وسحرن
الشبية عند رجوعهم من انتصاراتهم وغنين الأناشيد تكريمًا لهم أو تهكمن من الجبناء
بسخريتهن، اللواتي عشن وأحببن. أولئك النساء اللواتى كنّ نساء بحق وحقيق فقدن مع
الإسلام كل ما كان عندهن من جميل وإيجابي أو فعال.
إنّ تخلّف المرأة المسلمة هو حقيقة لانزاع
فيها. فإلى أي حدّ يمكن إرجاع ذلك إلى الدين؟ فعامة
الناس ينسبون إلى الدين أكثر مما يستطيع. فالدين هو نظام
عقائدي حيث الفعل لا أهمية له إلا إذا صاحبته آثار اجتماعية أخرى. ويجب البحث عن
هذه الآثار في الكل الثقافي الإسلامي. ويجب أيضًا رصد الحياة الإجتماعية الحاضرة
في العالم الإسلامى وإلقاء نظرة على الماضي. ويجب أيضًا التمييز بين العصور،
الأوساط والطبقات المختلفة وحينئذ سنرى بروز عدد من الملامح والنماذج الإجتماعية
في مختلف العصور والاوساط والطبقات. فالدين هو عامل من
بين عوامل كثيرة وهو ليس بالعامل الرئيسي. ومع ذلك ففيما
يخصّ موضوعنا هذا فالصفحات السابقة أظهرت أنّ المرأة في القرآن وفي السُنّة تختلف
كثيرًا عن المرأة في الواقع المعاش. فالحياة العملية أو الممارسة لها قوانينها
التي هي أقوى من النظرية. ويمكن القول بأنّ الأسباب
المعقدة والمتطلبات الملحة للحياة الاقتصادية والاجتماعية هي التي حسمت التطور
الحقيقى للمرأة المسلمة.
ففي الكل الفوضوي للتقاليد يستطيع الناقد أنْ يميّز صوتًا
رقيقًا متحمسًا وإنسانيًا كان لابدّ منه للتطور الذي حدث داخل الجزيرة العربية.
فبالنسبة للفقيه المؤمن كان ذلك الصوت هو صوت الله الذي ينبغي أنْ يرن صداه في
الأبدية اللامتناهية. أمّا بالنسبة للعالم الاجتماعي فإنّه كلام الإنسان الذي يفكر
تحت تأثير محيطه ويصوغ قواعده حسب أخلاق وتقاليد عصره.
وهذا هو موقف المصلح البارع، الذي يعبر عن موهبة النبى محمد.
ولكن أين نجد الكلام الصالح والمقدس لذلك الرجل الذي كان
همّه أنْ ينظم المجتمع العربي؟ فلا القرآن بشروحه أو
تفسيره ولا مجموعة روايات السنة تستطيع دون نقد قاسٍ أنْ توصّلنا إلى ذلك الصوت
الذي خنقته الأخطاء التاريخية المتراكمة في تاريخ الإسلام. وإذا ما تمّ ذلك النقد
نستطيع أنّ نجد كلمة منبعثة من فكر سليم وحقيقة تفرضها الطبيعة الإنسانية وقانونًا
تفرضه الضرورات الإجتماعية وحماسًا للنظام والجمال والعدالة. فمن هنا نقول إنّه
بإمكاننا أنْ نتوصّل إلى سماع ذلك الصوت الواضح لعبقري عربي ألا وهو محمد. وهنا
أيضًا سيكون الملاذ الأخير للذين يريدون التمسك بالعقائد التى ببقائها راسخة وسط
المتغيرات التي يجلبها التطور حتمًا، يستطيعون المحافظة عل فكرة الثبات الإلهي.
وهي فكرة غالية جدًا على قلوب المؤمنين.
سوف يأتي اليوم الذي ينشق فيه التراث الإسلامي إلى قسمين:
قسم قليل سوف يبقى على أمد الدهر. وهو يمثل العقائد التي تشبع الطبيعة
الميتافيزيقية ورغبات النفوس الورعة والتقية. وقسم كبير
يمثل العادات والتقاليد القديمة، وسوف ينقرض كليًا عندما يدخل التقدّم والمؤسسات
الجديدة إلى البلدان الإسلامية ويحلان محلها.
وعندما تنقرض هذه المؤسّسات
البالية، فإنّ علماء الاجتماع والفنانين سيجدون في جردها مادة ممتعة للبحث
التاريخي.
وحينئذ تصبح مؤسسات الزمن القديم التي مارست
في البلاد الإسلامية شريعة الذحل ( قانون عقوبة المثل ) في حكم المهمل والمنسي.
أما المؤسسات الأخرى التي هيمنت على الوعي طيلة قرون
وقرون فستصبح حينئذ خاضعة للفكر ولتحليل الإنسان.
فهكذا نرى قضية المرأة تطرح من جديد وبعيون جديدة بعد أنْ
عانت من الانصراف عنها بسبب آثار التقاليد القديمة والبالية التي ظلت عالقة بها.
في مصر والقوقاز وفي الهند، تركيا وبلاد شمال أفريقيا المتقدّمة، كل إمريء يشعر
الآن بأهمية الموضوع ويناقشه مشاركًا في معركة تحرير المرأة. وأمّا الدين فيتراجع
أمام هذه التيارات التحديثية لكي يعتكف في ميدان الشعر و الميتافيزيقيا.
فالدين فى بداية عهده يشبه الشجرة التى
تمدّ ظلالها أكثر فأكثر كلما ازدادت قوة ونموًا. لقد أظل دين محمد بظلاله الكثير
من المعتقدات المختلفة والظواهر الإجتماعية المتعدّدة. وقد تدخّل إله محمد حتى بتفاصيل حياة البشر!!! وقد
كان الهدف من بحثنا هذا أنْ نكشف عن تاريخية الظواهر وأنْ نربطها بالعوامل
الاجتماعية وأنْ نزيل عنها غبار الزمن المتطاول والتقديس الذي لا مبرّر له.
فالفتوحات، ونظام الرقّ، والطبقات الإجتماعية، وتعدّد الزوجات، والحكم الاستبدادي،
كلها أشياء ساهمت في انحطاط وتدهور وضع المرأة.
ولكن العوامل الإجتماعية التي لعبت دورها
في تزايد انحطاط المرأة هي في طريق الانحلال. والمؤسسة
التيوقراطية أو الحاكمة دينيًا التي تسيطر وتعتّم على الجميع هي أيضًا في طريق
الزوال. فالتطور المحتم الذي لامفرّ منه آخذ في التشكل لتحرير المضطهدين. وقريبًا
فإنّ الصورة العليلة للمرأة المسلمة ستتغير وستتحلى بالعافية والحيوية، عندما تنجح
جهود الشبيبة التقدمية بإصلاح المجتمع وتنظيفه من التقاليد البالية. وعلى أنقاض
المؤسسات المحطمة ستتشكل مؤسسات أخرى محافظة على خاصية وطبيعة الشعوب والأوساط
الإسلامية. وإنّ تحرير المرأة سيتبع بالضرورة نفس قوانين المؤسسات الجديدة وبعيدًا
عن تقليد المرأة الأوروبية ستُحرر المرأة المسلمة وستتطور وستأخذ كرامتها وأخيرآ
حقوقها حسب تاريخ وعبقرية شعبها.
وإذ أتأمل فيما يجري في العالم الإسلامي
لايسعني إلا أنْ أحني الرأس أمام ذكرى الكاتب المصرى قاسم أمين الذي بذل حياته فى
سبيل قضية تحرير المرأة والذي خطفه الموت قبل أنْ يتمكن من التمتع بنتيجة أعماله:
فلنأمل أنْ تتواصل مسيرة التقدّم لكى تكمل رسالته.
الهوامش :
1- الغزالى الجزء 3ص 73
2- ابن المقفع اليتيمة ص3 مطبعة بيروت
3- رسائل
الجاحظ ص 168
4- الغزالي الجزء 2 ص 22
5- نفس المصدر ص 23
6- نفس المصدر الجزء 3 ص 74
7- نفس المصدر الجزء 2 ص 28
8- طوة الحمامة ابن حزم
(مخطوطة غير مرقمة )
9- نفس المصدر
10- نفس المصدر
1 1- نفس المصدر
2 1- تحف العروس التيجاني
مخطوطة رقم 126
13- الإيضاح السيوطي مخطوطة رقم
630
هذا الكتاب ليس مقالة هجائيّة موجهة ضد وضع
المرأة في المجتمعات الإسلامية من أجل إدانته والتشهير به أمام الغرب. وإنّما هو
عبارة عن أطروحة دكتوراة نوقشت في السوربون عام 1913 في وقت كانت فيه أطروحات
الدكتوراة تمثل عملً علميًّا جادًّا يتمتع بكل مواصفات الدراسات الأكاديمية
الصارمة. وكان يمكن لهذه الأطروحة أن تختفي تحت أنقاض الدراسات الجامعية الأخرى،
لولا أنّ حراس النظام التقليدي القديم قد هاجموها وصبّوا عليها جام غضبهم. وهم
بذلك أشهروها على غير علمٍ منهم، وأتيح لها بالتالي أنْ ترى النور وتنتشر بين
الناس.
فى الواقع إنّ منصور فهمي كان قد تعّرض
للهجوم فور عودته مصر. فقد شهّر به بعض الصحفيّين الذين
لا ضمير لهم. وحرّضوا عامة الناس عليه لكي ينتقموا منه. وممّا يؤسف له أنّ السلطات
الجامعية قد انحنت بكل عار أمام هذه الحملات الصحفيّة الكاذبة، ولم تفعل شيئًا
للدفاع عن أحد أعضائها: الدكتور منصور فهمي. وقد تمّت محاكمته بناء على تقرير لئيم
ومغرض يقول ما معناه: إنّ المدعو منصور فهمي قد ناقش فى فرنسا أطروحة دكتوراة
مضادة للإسلام ونبيّه، وذلك تحت إشراف " أستاذ يهودي " يُدعى ليفي برول!
وهكذا اضطهد منصورر فهمي وأزيح عن التدريس الجامعي في مصر، ولم يعد إلى الجامعة
إلا بعد ثورة 19 19. ولكن يمكن القول بأنّه قد نسي من
قبل الناس ولم يعد موجودًا كمفكر بعد عودته تلك. فقد حطمته الرقابة الصارمة
والضغوط الإجتماعية وقضت على آماله وأحلامه في التقدم والبحث العلمي. إنّ من يجهل
الإكراهات اليوميّة الممارسة على الوعي في المجتمعات الإسلامية لا يمكنه أنْ يفهم
مسار منصور فهمي ولا مصيره. والواقع أنّه تأثّر كثيرًا من الناحية النفسية بعد أنْ
أنكروا عمله واحتقروه ولم تقم له قائمة بعدئذ. نقول ذلك على الرغم من أنّه كان
باحثًا صاعدًا يعد بعطاء كبير.
إننا ننبش هذا
الكتاب من تحت الأنقاض اليوم وننشره باللغة الأصلية التي كتب بها: أي
الفرنسية.ولكننا نرفق هذه الطبعة الغرنسية بترجمة عربية سوف تصدر قريبًا. إننا
ننشره ليس فقط كنموذج على الفكر النقدي المطبق هنا على وضع النساء المسلمات في
المجتمع، وإنّما نهدف أوّلأ إلى كسر جدار الصمت الذي أحاط به منذ ظهوره. إننا نريد أنْ نكشف عن مضمونه الحقيقي ونعلنه على الملأ بعد أن
طُمس طيلة سبعين سنة!. ونحن نهدف من وراء ذلك إلى محاربة
أعداء الفكر اليوم، أي أحفاد مضطهدي منصور فهمي بالأمس.
إن التاريخ العربي الحديث يتزايد بشكل كمي،
كما لو أنّه على هيئة طبقات جيولوجية متراكمة فوق بعضها البعض، بمعنى أنّه لم
يستطع حتى الآن أنْ يحقق القفزة النوعية الهائلة إلى الأمام والتي تجعل كل عودة
إلى الماضي أو كل انتكاسة أمرًا مستحيلاً. ويعود سبب ذلك
إلى أنّ نموذج التطوّر الذي يقدّمه لا ينحو باتجاه القيم التحريرية للفرد بقدر ما
ينحو باتجاه الجماعات العضوية التي ينتمي إليها هذا الفرد. ونقصد جماعات العضوية
هنا: الطائفة الدينية، أو العائلة، أو الحزب، أو العشيرة، إلخ … فهذه التشكيلات
الجماعية هي التى تتحكم بتربية الفرد وتشكيل شخصيته. وينطبق ذلك على الشخصيات الليبرالية
والماركسية أيضًا. وهذا ما يعرقل الحداثة أو التوصل بها
إلى نهاياتها. هذا هو سبب إجهاض الحداثة.
إنّ " مسألة المرأة " والعاثلة
والأخلا الجنسية هي إحدى المسائل الأساسية التي يستخدمها اتباع الماضي اليوم لكي
يستعيدوا المواقع التقليدية التي كان جيل كامل من النهضويين قد حاول تدميرها.
والنواة الصلبة لهذا النظام القديم تتمثل بنظام الأبوة البطريركي الذي خلع الإسلام
عليه القدسية، ولكنه في الواقع منفصل عن الإسلام أو مستقل عنه أو حتى سابق له.
كان المفكر المصري قاسم آمين ( 1865- 1908 ) قد نشر منذ
عام 1899 أول كتاب مؤيدًا لـ " تحرير المرأة ". صحيح أنّ بعض السوريين
واللبنانيين كانوا قد سبقوه إلى هذا العمل، ولكنه كان أول من أمسك بالمقص الكبير
لكي يمزق الحجاب الذى يغلّف النساء العربيات ويمنعهن من رؤية النور. إنْ منصور فهمي يعترف بديْنه له، ولكنه يذهب بعيدًا أكثر في الاتجاه.
إذا ما نظرنا إلى الأمور من الناحية
التاريخية وجدنا أنّ الفكر الاصلاحي السائد في نهاية القرن التاسع عشر قد أحس
بضرورة تحري النساء من النظام البطريركي المغلّف بقداسة الدين الإسلامي. في مواجهة
مخاطر الهيمنة الخارجية المحدقة بالبلاد، راح الإصلاحيون يحاولون جاهدين إعادة
تحديد الإسلام وإصلاحه لكي يحافظوا على هيمنته على المجتمعات العربية. فقد كانوا يعرفون أنّه لا يمكن أنْ يستمر في الهيمنة على
العقول إذا ما ظلّ على حالته التقليدية العتيقة. وهكذا
راحت أفكارهم تلغم التراث من الداخل لكي تخلق ثغرات جديدة، أو حرّيات مضادة للحكم
الاستبدادي المطلق، ولكن بدون أنْ يقطعوا مع هيمنة المركزية الإسلامية. وكان ذلك
هو ردّهم الدفاعي ضد هيمنة المركزية الأوروبية الوافدة - أو الهاجمة - التي صادرت
النزعة الكونية لصالحها، وحاولت تهميش كل الثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة العربية
- الإسلامية.
كان اتجاه النخب الحاكمة أو الطبقات المهيمنة يكمن في
إثارة التغيير عن طريق تجديد الدولة من فوق لا عن طريق تحويل المجتمع أو تغييره من
تحت. ولهذا السبب رفضت الطبقات الشعبية أنْ تتبع هذه
الحركة وأنْ تتحمل وحدها الانعكاسات الاجتماعية لهذا التقدم الذي لا مصلحة لها فيه
لأن الطبقات القائدة هي وحدها التي تقطف ثماره. فمن المعلوم أنّ لتحقيق التقدم
ثمنًا ينبغي دفعه، فلماذا تدفعه الطبقات الشعبية وحدها، في حين أنّ ثماره ليست
لها، فالانتقادات التي وجهها أيديولوجيو الطبقات المهيمنة لمجتمعاتهم كانت محصورة
بالعادات والتقاليد والأفكار السياسية - الدينية والمؤسسات .
ولكنهم لم ينتقدوا القاعدة الاجتماعية - الاقتصادية للعالم القديم ء أو لم يجرأوا
على الاقتراب منها. ولم يفهم هؤلاء الأيديولوجيون أنّ حيوية الغرب أو نجاحاته
الساطعة ليست نتيجة إحداث ثورة أخلاقية ( أي في العادات والتقاليد ) لصالح النخبة
فقط. فثورة الغرب على ذاته كانت أكبر من ذلك بكثير. وينبفي أن ننظر إليها في كل
أبعادها. صحيح إنّه يمكن للتغيير الاقتصادي أنْ يفصم عرى
العصبيات البدائية العتيقة السائدة في المجتمع منذ قرون وقرون. ولكن هذا التغيير
إذا ما ترك لحاله بدون أن يعترف به الفرد وبدون الفصل بين السياسي / والديني وبدون
أي ديمقراطية، فإنّه لا يولّد، إلا ردود فعل من نوع ديماغوجي شعبوي ( لا شعي ).
وبالتالى فلا ينبغي أنْ نعلّق كل الآمال على التغيير الاقتصادي كما يفعل بعض
الماركسيين الذين فهموا الماركسية من ذنبها. فالتغيير الاقتصادي أساسي، ولكنه لا يكفي لوحده. وإنّما ينبغي
أنْ يرفق بتغييرات على مستويات أخرى.
بعد أن ذكّرنا بكل هذه المعطيات يمكننا أن
نفهم السياق العام للوضع السائد في العشرينات من هذا القرن: أى في الوقت الذي ظهرت
فيه أفكار منصور فهمي وقاسم أمين وغيرهما. فقد شهدت الحركات السلفية والتبجيلية
عندئذ صعودًا كبيرًا، ووقفت ضد الأفكار الحديثة الوافدة من الغرب ومنعتها من النمو
والترسخ في الأ رض. ثم كبحت الصراعات الجدلية الخلاقة التى كانت ستؤدي إلى حصول
التمايزات الاجتماعية الضرورية بين الزمني / والروحي، أو الدنيوي / والديني. وكان
أول ضحايا هؤلاء السلفيين الماضويين على مستوى الأفكار هو قاسم أمين. فقد قام هو الآخر أيضًا بدراسات في فرنسا واطلع على الفكر
الحديث. ولكنه كان حذرًا جدًا، فلم يهاجم في كتاباته مباديء الدين ولم يتعرض أبدًا
لشخص نبي الإسلام. وإنّما اكتفى بصبّ جام غضبه على " رجال الدين "
واعتبرهم مسؤولين عن الظلامية والانحطاط. وقد ردّ عليه
هؤلاء الصاع صاعين.
وهكذا شقت أعماله الطريق نحو المستقبل، ولا
تزال كتبه تقرأ حتى الآن على الرغم من أنّها تتعرّض باستمرار للهجوم الشديد من قبل
الأصوليين المتشدّدين. والحقيقة إنّ حركة الواقع قد تجاوزت بعدئذ الأفكار التي كان
يدافع عنها. فقد حصلت أشياء كثيرة منذ العشرينات وحتى اليوم.
ثم جاء منصور فهمي لكي يخطو خطوة أخرى
إضافيّة في اتجاه التحرر عن طريق معالجته لوضع المرأة في تاريخ الإسلام من وجهة نظر
سوسيولوجية محضة. كان منصور فهمي متبنيًا كليًا لمنهجية علم الاجتماع ويعتقد أنّها
تؤدي إلى الحقيقة. ولذا فإنّ هذا الباحث الإجتماعي المصري، تلميذ دوركهايم، لم يخش
السلطات الراسخة، ولم يتراجع عن إعلان النتائج الجريئة التي قادته إليها بحوثه
بطبيعة الحال. فبما أنّه كان مغمومًا بالروح النقدية
للنهضة، فإنّه امتلك الجرأة على الكشف عن الحقيقة وعدم احترام أي شيء آخر سواها. ولهذا فإنّ أفكاره بدت شاذة، غريبة صادمة للحساسية ومعادية
للتقاليد. في الواقع إننا إذا ما تأمّلنا في كتابه عن
كثب وجدنا أنّه ناتج عن روح حرة، لا عن إنسان مستهتر، وملحد أو فاسق. ولكن
السلفيين من اتباع التقليد التراثي لا يفرقون بين هاتين الحالتين. وذلك لأنّه ليس عديم التديّن هو الذي يخيفهم، وإنّما عدم احترام المناخ
العام الذي يحيط بالتدين. ويبدو منصور فهمي في ظرهم وقحًا لأنّه يتحدث عن المناخ
الديني بطريقة علمية، مباشرة،بسيطة. فهو لا يكتفي فقط بالتحدث عن النبي كرجل شبه
الرجال الآخرين، وإنّما يسمح لفسه بأنْ يحكم عليه وينتقده ! فهو يكتب مثلاً:
" كان مشروع محمد يشرع للجميع ويستشي نفسه ". وهذه الجملة وحدها تحتوي
على " هرطقة" مزدوجة. وذلك لأنّه بالنسبة
للأرثوذكسية الإسلامية، فإنّ الله وحده هو الذي شرع، وليس محمدًا. وإذا كانت لمحمد
بعض الامتيازات الشخصية فإنّ الله هو الذي منحه إيّاها. وبالتالي
فلا داعي للاستغراب ولا حتى لمجرد التساؤل. ولكن حرّاس الإيمان الأشداء وحراس
الشريعة لهم ذاكرة قصيرة. فهم يعلمون حق العلم بأنّ عاثشة الزوجة الشابة والمفضلة
للنبي والتي ينبغي عليهم أنْ " يأخذوا عنها نصف دينهم " قد تجرأت مرة
وتهكمت بزوجها عندما بنى مرة أخرى بزوجة جديدة وبارك له القرآن ذلك. قالت له:
" يارسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك! إنّ
الله يسارع لك فيما تريده" … ولم يتوقف النبي عند هذا الكلام، ولا كذلك أحد
بعده.
إن دراسة النبي بصفته شخصية خاضعة للتحليل
التاريخي، يعني نقض كل البناء الذي قام عليه التشريع ال‘سلامي: أي نقض الهيبة
الدينية نفسها، وكذلك السلطات الدينية من شيوخ وأئمة، إلخ…. ولكنهم سوف يردون عليك
قائلين هذا الكلام الببغائي المشهور: لا كهنوت في الإسلام! الإسلام ليس كالمسيحية.
في الإسلام لا توجد طبقة رجال دين ذات مراتبية هرمية كما نلاحظه في الكنيسة
الكاثوليكية وبابا روما…. إنّ القول بأنّه لا توجد سلطات دينية في الإسلام لأنّه
لا توجد كنيسة هو عبارة عن سفسفطة فارغة من المعنى. إنّها
سفسطة يكذبها كل تاريخ الإسلام، وكذلك تاريخ الأحداث الجارية حاليًا ( أنظر
الحركات الأصولية المعاصرة ). فطبقة رجال الدين المدعوة
بـ " العلماء " كانت موجودة في الإسلام منذ العصر الأموي، أي منذ القرن
الثاني الهجري - الثامن الميلادي. ثم تدعمت أهميتها وقويت في العصر العباسي لكي
تصبح مؤسسة رسمية في ظل المماليك والعثمانيين. وهذا الأمر ينطبق على الجهة
السنّية. ويمكننا أنْ نضيف قائلين لمن يرفض وجهة النظر هذه بأنّ السلطة غير
المشكلة رسميّا وبشكل واضح هي أكثر خطورة وقمعّا من السلطة المتشكلة بشكل واضح
والتي تخضع لقواعد معروفة ومحددة تمامًا (كسلطة الكنيسة االكاثوليكية ). وأما فيما يخص الشيعة فحدث ولا حرج. فلا أحد يشك في وجود طبقة
دينية ذات مراتبية هرمية عل غرار الكنيسة الكاثوليكية تقريبًا. وإذن فعن أي انعدام
للكهنوت في الإسلام يتحدثون؟ لقد مارس رجال الدين نفس
الضغط عل الحريات في الجهة الإسلامية كما في الجهة المسيحية. والتاريخ
القريب والبعيد أكبر شاهد على ما نقول.
ربما كان منصور فهمي
يعيد الصلة، دون أن يشعر، مع التراث العقلاني لأوائل المعتزلة والكتاب. نقول ذلك
ونحن نعلم أنّ المعتزلة لم يتردّدوا، لأسباب دينية ، في
محاكمة بعض الصحابة بشدة، بل والقول في حقهم كلامًا تصفر له وجوه المسلمين اليوم
إذا ما سمعوه. يقول الشهرستاي بأنّ زعيم المعتزلة واصل بن عطاء كان يرفض شهادة علي
والزبير وطلحة في أيّة قضية مهما كانت صفيرة حتى لو كانت الخصومة على حزمة من
خضار! … لماذا؟ لأنّهم يتحملون مسؤولية كبيرة في أول حرب أهلية جرت بين المسلمين.
وأمّا الكتّاب - أي كتّاب الدولة. الموظفين رسميًا - فقلما أولوا للدين الأهمية
التي كان يتخذها الحياة الإجتماعية. وقد تصرفوا عموما كأشخاص متحررين إنْ لم نقل
متتحلّلين أخلاقيًا على الرغم تبحّرهم في العلم. ولم تحترموا فرائض الدين ولم
يلزموا أنفسهم بمحظوراته. وإنّما كانوا يشربون الخمرة ويستمتعون بالملذات كما
يشاؤون ويشتهون. وكتب التاريخ والأدب العربي الكلاسيكي أكبر شاهد على ذلك. فهي
مليئة بأخبار القضاة والوزراء والموظفين ومختلف أنواع
الكتاب، وجلسات المنادمة والسهر والحب الشراب…. إنّ النزعة الماضوية والمحافظة
جدًا للطبقات العربية المهيمنة قد انتقلت إلى طبقات الشعبية الفقيرة والبانسة.
وراحت هذه الأخيرة تشعر بالفخر بالماضي المجيد الذى لم يكن ماضيها في أي يوم من
الأ يام. وإنّما تمّ كل ذلك عن طريق العدوى. وهذه الطبقات المسحوقة التي تفتخر
بماض ليس ماضيها تئن الآن تحت ضغط حاضر يُنتج ضدها. إنّ هذه النزعة الماضوية
المحافظة جدّا هي التي تمنع كلتي الطبقتين، المهيمنة والمهيمن عليها، من أنْ تريا
" العلاقات بين الجنسين " بعيون جديدة، أي بعيون تتلاءم مع عصرنا الحاضر
لا مع العصور الغابرة. ولكن الاستلاب في الماضي يظل يقف حجر عثرة أمام هذه الرؤيا
الجديدة. لنضرب على ذلك مثلاً الجزائر.
فمن المعلوم أنّها البلد الذى شهد الثورة
العربية الأكثر تقدّمًا والأكثر ضخامة واتساعا. ولكنها
للأسف قدّمت مثلاً سيئًا ومتخلفًا فيما يخص تحرير المرأة. فالنساء الجزائريات انخرطن في معركة التحرير مثل الرجال. وكان
من المتوقع أنْ يكون التحرير السياسي للوطن مقدمة للتحرير الاجتماعي للمرأة ولكل
الأفراد الجزائريين. ولكن النزعة الذكورية المهيمنة لدى قادة التحرير الوطي لجمت
تحرير النساء وسجنتهن في قطاعات محصورة، ضيقة، لا يستطعن بعدها التوصل إلى
المساواة، ولا إلى ممارسة السياسة، ولا إلى المناصب السلطوية. وإذا ما قرأنا ميثاق
الجزاثر لعام ( 1964 ) وجدنا أنّه يحتوي على شييئن متناقضين تمامًا: فهو من جهة
ينص على ضرورة تطبيق أحدث النظريات في مجال التطوير الاقتصادي الاشتراكي (نظرية
التسيير الذاتي)، وهو من جهة ثانية يحدد للمرأة " دورًا " هامشيأ يليق
بأكثر التشريعات الفقهية تخلفًا وماضوية….
ينبغي أنء نعترف هنا بأن أكثر القادة العرب
جرأة وتقدمًا فيما يخص تحرير المرأة كان الحبيب بورقيبة. ولكن تحرّره كله لا يصل إلا بالكاد إلى مستوى تحرر مثقف ينتمي إلى
العشرينات أو الثلاثينات من هذا القرن: الطاهر الحداد . فعلى الرغم من أنّه درس في
الجامعة التقليدية الشهيرة " الزيتونة " إلا أنّه كان ثوريًا انقلابيًا.
وإذا ما نظرنا إلى ناحية المشرق وجدنا أنّه لا عبدالناصر ولا البعث تجرءا على
القيام بأي عمل لصالح المرأة. الجميع اتفقوا على تشغيلهن، على إرسالهن إلى الحقول
والمكاتب والمعامل. ولكن من فكر في إحداث القطيعة مع
الماضي والاعتراف لهن بحقوقهن؟.
إنذ الآيات القرآنية القليلة التي تنص
صراحة على تفوق الرجال على النساء لا تزال تحول دون تحقيق المساواة بين الرجل و المرأة. ولا أحد يجرؤ على إعادة تأويلها أو تخفيف حدتها عن طريق ربطها
بالظروف الاجتماعية - التاريخية التي كانت سائدة في زمن النبي والتي لم تعد سائدة
في وقتنا الراهن. وعندما أقول " لا أحد" فإنّي
أقصد " أهل الحل والربط " بالدرجة الأولى. فلو تمت إعادة تأويل هذه
الآيات بشكل مرن وناجح لخففنا من اطلاقيتها وجعلناها نسبية: أي تتناسب مع الظروف
التاريخية والاجتماعية التي نزلت فيها لأول مرة. وإعادة
التأويل، أو فتح باب الاجتهاد، شيء مستحب ومسموح في الدين، اللهم إلا عند
المحافظين المتحجرين…. وهكذا تتمكن قوى الهيمنة التاريخية من المحافظة على استمرار
العبودية حتى داخل أكثر حركات التحرر الوطني راديكالية :
الحركة الوطنية الجزائرية. هكذا تعكس الموازين لصالحها وتؤبد التخلف مرة أخرى.
نلاحظ في المجتمعات العربية الحالية أنّ
النساء اللواتى يشتغلن يدفعن بواسطة وضعهن الصعب إلى أنْ يكنّ أكثر تقدمًا من
الرجال. كما أنهن مدفوعات لأن ينتهكن الحدود التى فرضت عليهن من قبل السلطة
الأبوية (أو البطريركية ). مثلاً نلاحظ في حالات عديدة
أن بعض النساء قد ضحين بحياتهن الشخصية لكيلا تعيق حياتهن السياسية أو انخراطهن في
خدمة الوطن. وبالتاي فإنه يحق لهن المطالبة بأشياء أكثر من كل الفئات الاجتماعية
المقموعة الأخرى. وهذا يخيف الرجال الذين هم مستعدون
لقمع المجتمع بأسره ووضعه في حالة العبودية من أجل عدم إعطائهن حق المساواة. وربما
لجأوا إاىل فرض قمع جديد كما هو حاصل في أيامنا هذه: قصدت القمع الأصولي. فأخطر
شيء يخيف الرجل العربي أو المسلم هو أن تتحرر امرأته.
فالمرأة قنبلة موقوتة في نظره….
عندما نلقي نظرة تاريخية على المجتمعات الإسلامية نلاحظ أنّ
المرأة كانت أكثر تعرضّا للقمع والعبودية في المدن. فقد كان الوفود الغزير للنساء
السبايا ( أى الأمات ) على هذه المدن بعد الفتوح قد قلب بنية المجتمع العربي رأسًا
على عقب بعد ظهور الإسلام . لماذا؟ لأن وجود المرأة
" الحرة " سوف ينظم على أساس أنّه مضاد لوجود المرأة " العبدة
" ( أو الجارية كما كانوا يدعونها في اللغة العربية الكلاسيكية ). وهكذا راح
الرجال يشبعون كل رغباتهم ونزواتهم مع الجارية، وأما
نساؤهم الحرائر فتنحصر وظيفتهن في إنجاب الأطفال. ونلاحظ في المجتمع العباسي أنّ
الجواري كن أكثر ثقافة وحرية من النساء المدعوات حرائر! وكان الرجال يطلبون
الجواري، بل ويتهافتون عليهن. هذا فيما يتعلق بالماضي.
ولكن نلاحظ الآن، فيما يخص الحاضر، أنّ حركة تحرير النساء
قد أصبحت تنطلق من المدن. لقد انعكست الآية.
ومن الوهم أن نعتقد بأنّ عدم مصارحة
التاريخ أو التحايل عليه سوف يؤدى إلى تقدّم قضية المرأة. فمنصور فهمي يبين بكل
وضوح أنّ " التاريخ وتدهور الديانة الإسلامية " هما اللذان أديّا إلى
خضوع المرأة لعبودية جديدة. ثم يضيف المؤلف قائلاً: " ولكن على الرغم من
وضعها الأدنى من الناحية النظرية، فإنّه كان للمرأة وجودها الخاص بها، وكانت
تتكلم، وتفكر، وتتحرك…. وإذا ما قارنا بين وضع المرأة في
المجتمع الإسلامي الأولي وبين وضعها في المجتمع الإسلامي المعاصر أدركنا الفرق
الشاسع وأصابتنا الدهشة حقّا. ويحق لنا أن نردد هنا جملة الفيلسوف الفرنسي إرنست
رينان التي يقول فيها: " إنّ المرأة العربية في عهد محمد لا تشبه إطلاقًا هذا
الكائن الغبي الذي يملأ حجرات الحريم لدى العثمانيين! ". فشتان
ما بين البارحة واليوم.
ثم في موازاة كل ذلك يلقي منصور فهمي
الأضواء على الدور الهام الذي لعبته التركيبة النفسية الشخصية لمحمد في حسم المصير
اللاحق للنساء. يقول: " ساهمت غيرة النبي الزائدة عن الحد في تدهور وضع
المرأة المسلمة فيما بعدد ". فقد كان يغار على
نسائه جدًا.وبخاصة إذا أحب…
كانت الباحثة الإجتماعية المغربية فاطمة
المرنيسي قد أصدرت كتابًا بالفرنسية بعنوان: " الحريم السياسي "، مشورات
البان ميشال، 1987. بعد أنْ نقرأ هذا الكتاب نلاحظ أنّ البعد التاريخي ينقصه على
الرغم من جرأة مؤلفته. فهي إحدى النساء العرييات أو المسلمات المدافعات عن التحرر
والانطلاق. ولكنها لا تأخذ بعين الاعتبار بما فيه
الكفاية مسألة المنشأ التاريخي للظاهرة الإسلامية. فتحليلاتها تظل على المستوى
التجريدي اللازمني، لكأنها تقف فو5قالزمن أو خارج الزمن. كما
أنّها تهمل دراسة البيئة الاجتماعية التي ظهر فيها الدين الإسلامي لأول مرة ونما
وترعرع. وتهمل كذلك تأثير الطموحات الفردية والموقع الاجتماعي للزعماء والصراعات
الدائرة بين مختلف المذاهب الإسلامية. وكل ذلك كان له
تأثير على مصير الإسلام، وعلى مصير المرأة المسلمة بالتالي. فالتحليل إذا ما بقي
عل مستوى النصّ، أي تنظيريًا خالصًا،فإنذه يفقد الفكر
النقدي قيمته، بل ويصبح معديًا من قبل وجهة النظر الماضوية أو المحافظة التي
ينتقدها. فقد انهمكت المؤلفة في البحث عن حديث تحررى لكي تعارض به الأحاديث غير
المؤيدة لتحرر المرأة. واضطرت بالتالى إلى تقديس النصّ وجعله المرجعية العليا
المطلقة. وهكذا انتهت إلى عكس النتيجة التي تتوخاها. وكل
ذلك بسبب النقص المنهجي الذي يعتري كتابها، وبسبب عدم اهتمامها بتطبيق المنهجية
التاريخية والمنهجية الاجتماعية على موضوع البحث. فظلت دراستها نظرية تجريدية
محضة.
وأما منصور فهمي فيتبع مسارًا معاكسًا تمامًا. فهو يبحث عن أصل الأحاديث النبوية (المتعلقة
بالمرأة ) في المجتمع الإسلامي في القرن الأول للهجرة، وليس في التركيبة النفسية
أو الأخلاقيّة لهذا الفرد أو ذاك. فالمجتمع هو الأساس
وليس الفرد. وهو الذي يولد الأحاديث التي تناسبه ويحارب تلك التي لا تناسبه، أو
يخفيها ويخجبها، أو لا يعمل بها بكل بساطة. ونفس الشيء يمكن أنْ يقال عن المؤلّفات
المغاربية، وبخاصة الأصولية، التي تتحدث عن وضع المرأة انطلاقًا من محاربة الغرب
فقط أو كرهًا به. فإذا كان الغرب يعمل كذا فينبغي أن نفعل عكسه ….. وهذا الموقف لا
ينبغي أن نصدقه بكل حرفيته أو على علاته. فهناك آلاف النساء الشابات اللواتي يخرجن
من الأوساط الشعبية واللواتى تلقين تربية عربية أكثر مما هي أوروبية، ومع ذلك فهن يناضلن من أجل التحرر دون أن يكون النموذج
الغربي : أو الأوروبي " نصب أعينهن. فهن يثرن ضد سلطة الأب أو الأ خ أو الزوج
أو بكل بساطة على ذلك البوليس الأيديولوجي الذي يشكله مفتي التلفزيون أو الراديو،
وهو متلصص من نوع جديد.
إن مأساة النساء العربيات لاتزال تملأ
نشرات الأخبار. نحن إذ نضطر للرد على أعدائهن ومؤيدي استمرارية عبوديتهن حتى في
نهاية هذا القرن العشرين، فإنّ ذلك يدلّ إلى أى مدى تتخبط فيه المجتمعات العربية
المعاصرة وأيديولوجيوها العتاة. إنّ مجرد اضطرارنا للرد على مواقع القرون الوسطى
في أواخر هذا القرن العشرين يشكل بحد ذاته أكبر برهان على مدى التأخر المريع الذي
تعاني منه مجتمعاتنا الإسلامية والعربية. فهذه أشياء كان ينبغي أن تكون قد حسمت منذ زمن بعيد. وبالتالي فليسمح لنا القاريء إذا
كنا قد استعرضنا هنا، بنوع من النرفزة والغضب، بعض الأفكار التى أصبحت شائعة فيما
يخص تحرر المرأة. وليسمح لنا أيضًا أن نستشهد بكلمة لأدورنو: " إنّ الفكر ليس
وحيدًا مع نفسه، خاصة الفكر العملي المرتبط جدًا بلحظة انبثاقه التاريخية. إنه
مرتبط بها إلى درجة أنّه يبدو، في فترات التراجع والتقهقهر، تجريديًا وخاطئًا إذا
ما أراد أن يتطور طبقا لديناميكيته الخاصة ". أما
نحن من جهتنا فسوف نستمر في محاربة التقهقر والتراجع بحجب معروفة ومستهلكة. فنحن
نعيش في هذا الزمن العربي الباثس الذى تترك فيه الأنظمة للأصوليين حرية تشكيل
الأدمغة والعقول، أقصد الشبيبة. إنّهم يتصرفون بها كما يشاؤون عن طريق اساليبهم
الإقناعية أو الردعية. ثم يطالبون المثقفين بعدم المسّ بالمسألة الدينية، بل
ويمارسون عليهم التخويف والإرهاب لكيلا يتعرضوا لها. في
هذا الزمن البائس والصعب لم يبق للفكر إلا المهمة الكنود التالية
: تذكير الناس بما يخفونه عنهم أو بما كانوا قد نسوه. فمهمة الفكر هي التعرية والكشف قبل أي شيء آخر.
باربس 22بولبو / نموز 1990
( ترجمة : هاشم
صالح )
* أقتطفت هذه الخاتمة من الطبعة الجديدة
لكتاب منصور فهمي (باريس 1990 ) والتي كانت بمثابة مقدمة لها.
أعلى