كـــوكب البريــــــــة

الأنبـــا أنطونيــــــــــــــــوس

" مؤســس الرهبــنـة فى مصر والعـــــــالم "

 تذكـــار نياحتــــــــه : 22 طـــــــــــــــوبة

بركـــة صلواتـــــــه ، وشفاعتـــــــه تكون معنا

آمين

المـــراجــــع :

+ كوكب البرية ...  ...........           ( القمص كيرلس الأنطونى )

+ رسائل القديس أنطونيوس ..    ( اصدار دير القديس أنبا مقار )

+ حياة القديس انطونيوس .......     ( رسائل القديس أثناسيوس )

+ قصــــة الكنيسة القبطية .........      ( ايريس حبيب المصرى )

+ الأنبا أنطونـيـــوس ، حتمية روحيــة وكنسية .......

                                                     ( د . راغب عبد النور )

+ الرهبنـــــــــة ............................   ( للقس يوسف أسعد )

+ تاريخ الرهبنة الديرية فى مصر .. ،

                          وآثارهما الأنسانية على العالم ، ...

                        ( د . رءوف حبيب : مدير المتحف القبطى سابقا )

+ شخصية القديس أثناسيوس الرسولى والجو الكنسى ،

.........    ........ .......... ....     ( القمص تادرس يعقوب ملطى ) .

+ عصر البابا أثناسيوس الرسولى .... ، ( اعداد أمير نصر )

مقدمة

يمثل تاريخ المسيحية حقبة هامة من حلقات التاريخ القومى المجيد لمصر ، إلا أن عناية قدامى الكتاب والمؤرخين وحتى الحديثين منهم كانت هزيلة ، والأقباط أنفسهم قصروا فى تدوين تاريخهم ، فكان لهذا التهاون المعيب أثره الضار بفقدان العديد من جلائل الأعمال التى امتاز بها تاريخ مصر القبطى .

وعندما شرع الغرب فى دراسة التاريخ المصرى القديم ، وقد بهرتهم آثار الفراعنة وحضارتهم العظيمة التى خلبت عقولهم ، فكان اهتمامهم بها بالغا  حتى حجب بريقها عن أبصارهم الحضارات الأخرى التى ترعرعت على ضفاف وادى النيل مثل مظاهر الحضارة القبطية ...

ومن أروع مظاهر الحضارة القبطية مثلا : تاريخ الرهبنة المصرية ! وأديرتها وزعمائها وآباء الكنيسة المصرية وكل ما يتعلق بهذا التراث الهائل الخالد ، والذى يجب أن يأخذ حقه من العناية والبحث الدقيق .

ينبغى أن نلفت أنظار الجميع بأن دراسة تاريخ العصر القبطى لا يعتبر مسألة طائفية بحتة ،  بل هى دراسة قومية بكل معانيها ، وعلى الأخص فيما يتعلق بموضوع " إحياء تراثنا القومى " فى شتى مراحله ، ومما لا ريب فيه أن أعمال الرهبنة المصرية وزعمائها وتعاليم الآباء المصريين فى هذا المضمار من تاريخنا القومى هى من أعظم المخلفات التى جادت بها القرائح المصرية على العالم المتمدين أجمع .

كان للرهبنة المصرية دور بالغ الأهمية فى التأثير على المجتمع المصرى ، فى مجالات استراتيجية تهم الوطن المصرى ككل :

+ كان لزعماء الرهبنة وآباء الكنيسة دور كبير فى مناهضة الأستعمار وتحملوا أبشع صنوف العذاب والتنكيل بهم برباطة جأش ، كان للرهبنة دور كبير فى إيقاظ الروح القومية بين جموع الشعب ومناهضة الأستعمار البغيض ، كان لآباء الكنيسة نظرة ثاقبة حتى فى الأمور السياسية التى يغفل عنها القادة السياسيون ، ومازال هذا الدور قائما فى عهد قداسة الباب شنودة الثالث .

+ كان للرهبنة القبطية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية دورها الحاسم فى اقتلاع جذور الوثنية من مصر ! التى استمر تاريخها لقرون طويلة سبقت دخول المسيحية إلى أرض مصر .

+ كان للرهبنة القبطية دورها الأجتماعى والروحى فى اقتلاع الخرافات وأعمال السحر من عقول أبناء الوطن ، كانت الأديرة بمثابة المنائر المضيئة فى وسط جو عام يموج بالغموض والظلام ، كما قدمت الأديرة كل ما يحتاجه المواطن المصرى من علاج وطعام ، كانت الأديرة هى الملاذ الآمن لكل نفس تبحث عمن يهدىء من روعها ...

+ لا ننسى دور المكتبات ( بالأديرة)  التى امتلأت بكتب وكتابات آباء الكنيسة ، فى شتى المجالات الدينية والروحية والفلسفية والعلمية ، .... والتى كان لها دور كبير كمرجع خاصة بعد احتراق مكتبة الأسكندرية فى القرن السادس الميلادى .

+ الثابت أن تلك الحقبة من التاريخ القومى متشعبة الأبواب ، متعددة الفروع والأدوار ، حافلة بكثير من عجائب الأخبار ونوادر المثل العليا وبدائع الكنوز العلمية والأدبية ، وتحتاج فى بحثها واستجلاء غموضها إلى جماعة وفيرة من الدارسين والباحثين والمؤرخين ، على أن يتضافروا جميعهم تحدوهم الغيرة والأخلاص والحماس ليظهروا تلك الحقبة فى الصور المشرفة الناصعة اللائقة بعظمتها ومجدها .

وقد يكون من بواعث نجاح تلك الدراسة وأبحاثها أن يتفرغ كل فريق من الباحثين والكتاب إلى فرع خاص منها فمنهم من يتولى اتمام دراسة تاريخ زعماء الرهبنة باستفاضة ، وعلى سبيل المثال :  كالأنبا بولا ، والقديس أنطونيوس ، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، والقديس باخوميوس ، والقديس مكاريوس الكبير ، ..... الخ ، على أن تصدر هذه الأبحاث فى سلسلة.كتب ومراجع مترابطة يسهل على أبناء الكنيسة دراستها بسهولة ويسر .

+  +  +     

مهيــــــد :

من هو الراهب المسيحى ؟

هو انسان يثقل قلبه بمحبة المسيح ..

فيغوص فى أعماقه الجوانية ، ويكتشف داخله عريسه وعرسه ويجد لقاءه مع محبوبه مستحيل وسط الناس وصخب المسئوليات المتلاحقة

فيختار البعد عن الكل  ليرتبط بضابط الكل .

لذا يختار السكنى فى الهدوء .. فى الجبال والصحارى والمغاير ،

من هنا نجده فى الموضع الجديد ،

يعطى أسم جديد ،

وثياب جديدة ،

فى بكر يوم جديد ، وبعد رقوده أمام باب هيكل الله يقوم آخذا بركة وأذن الجماعة التى يسكن بينها ... ليجد نفسه فى مواجهة باب الهيكل .... فمع أنه محب للاله إلا أنه يرتعد ويرهب الوقوف قدامه ... فيخرج بعد تناول القربان فى الصباح يحمل رهبة لله كل أيام حياته .

لذا يسمونه راهب لأنه يرهب الله :  فى نومه ويقظته ، فى مشيه ورقوده ، فى صمته وحديثه ، فى خموله ونشاطه ، فى أكله وصومه ، فى ضعفه وفى نصرته

 وما هى الرهبنـــة فى المسيحية

هى ليست رتبة فوق الأيمان المسيحى ...

إنما هى تطبيق للأيمان المسيحى ، وسلوك نحو الملكوت الأبدى ، وهى بذلك عشرة مع يسوع ، فتصبح ملامحها خاشعة لسمات العشرة الصادقة ليسوع .

الراهب يعيش الأعتزال ، وينكر الأنعزال ، ويقدس الجمال

فالرهبنة فى الراهب محب المسيح تضيف إلى روحه المجاهدة جمال

وتعطى لجسده الممات جمال

وتكسو مسكنه البسيط بالجمال ...

  القديس انطونيوس

مقدمة

من واجبنا أن نتساءل عن الثمار التى جناها الفكر الإنسانى من حياة الصحراء ، وهذه الثمار تبدو لأول وهلة قليلة إذا قيست بالعدد غير المحصى من الذين عاشوا فى البرارى القاحلة ، ومما يزيد فى ندرتها الظاهرية أن فطاحل المسيحية أمثال أثناسيوس الرسولى وباسيليوس وذهبى الفم لم يقضوا بها إلا فترة من الزمن ثم تركوا سكينتها وعاشوا فى صخب هذا العالم .

غير أن من يدقق النظر فى حياة النساك يجد أن الثمار التى جنتها الأنسانية من حياة الصحراء لا تقع تحت حصر . لأن أولئك النساك وإن لم يقدموا لنا كتبا مستفيضة تضارع ما كتبه فلاسفة المسيحية إلا أنهم قدموا لنا حياتهم مثلا حيا لإيمان راسخ وعقيدة ثابتة ويكفى للتدليل على صحة هذه الحقيقة التاريخية أن أحد هؤلاء النساك كان يملك نسخة واحدة من الكتاب المقدس ؛ فباعها ليوزع ثمنها على الفقراء ، ولما سئل عما فعل قال : " لقد نفذت الأمر الإلهى القائل ( بع كل ما لك وأعطه للفقراء ) " ...  ولو أن العالم سار على منوالهم وأبدل القول بالعمل لتحول بين عشية أو ضحاها إلى جنة النعيم من جديد ، وهذه الحقيقة دليل ساطع على أن الذين اعتزلوا العالم وسكنوا الصحارى قد بلغ السلام أعماق نفوسهم فتذوقوا متعة الخلوة مع الله – وبالتالى كانت حياتهم المثل الفعلى لهذا السلام الذى ينبع من الداخل .

وهذه الصفة هى التى حببت الجماهير فيهم فتقاطروا عليهم ، ولم تلبث الصحارى أن تحولت إلى جنات من الخير والبركات تقدست بأنفاس لباس الصليب ،

 وهكذا وجد الأنبا أنطونى أبو الرهبان نفسه محاطا بجمع غفير قطع عليه الخلوة التى كان ينشدها .

وأن البار الأنبا بولا – مع أنه يعد أول النساك – إلا أن الذى أنار السبيل أمام البشرية لحياة النسك فى عزلة الصحراء هو العظيم الأنبا أنطونى . 

تمتاز كنيستنا القبطية الأرثوذكسية عن بقية كنائس العالم بالآتى :

(1) الفلاسفة العالميين الذين عملوا على دفع كل فرية توجه صوب عبادتهم المقدسة دفعا علميا قويا لا يوجد معه أى ثغرة للخصم يستند عليها .

(2) شهدائها الأبطال : الذين استعذبوا الموت حبا فى فاديهم ومخلصهم رب المجد يسوع ، عالمين  أن : " الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا " رو 8 : 18

(3) نشأة " الدعوة الرهبانية " فيها ، فما أن بزغ فجر القرن الرابع الميلادى حتى لمع فى سماء البرية ذلك الكوكب الوضاء : " الأنبا أنطونيوس " الذى اعتزل العالم مؤثرا الوحدة والأنفراد عاكفا على تقديم العبادة خالصة لله ، مجاهدا ضد العالم والجسد والشيطان ، وبقدر تجاربه وآلامه خرج منتصرا وظافرا !

لقد رأينا حياة النصرة الحقيقية من خلال جهاده الروحى .. رأينا أساليب محاربة العدو وحيله ..

لهذا نجد أن كل الكنائس شرقا وغربا تتخذ من القديس أنطونيوس أبا ومعلما ومرشدا .. يقول القديس أثناسيوس : " إننى أعد مجرد التذكر بأنطنيوس من جليل المنافع لنفسى ! . والوقوف على صفات أنطونيوس لمن اكمل السبل التى ترشد إلى الفضيلة " .

كم كان تأثير حياة القديس أنطونيوس عظيما فى النفوس ! لقد وصل القليل منها لمسامع القديس أغسطينوس فكان كافيا لأنتشاله من سقطته وانتقاله من حياة الشر إلى حظيرة المسيح القدوس !

قال القديس ايرونيموس : " انه لما ذهب أثناسيوس الرسول إلى رومية أخذ معه موجز سيرة القديس أنطونيوس الذى كان قد ألفه ، وأن أناسا كثيرين بعد أن قرأوا الخبر هجروا العالم وترهبنوا " .

 حيـــــــاة كـــوكب البريـــــــــة

النشأة الصالحـــــة :

ولد الأنبا أنطونيوس حوالى عام 251 م ،  فى بلدة تسمى قمن العروس ( إحدى قرى بنى سويف ) .. من أبوين تقيين مسيحيين فى عهد داريوس الملك ، وقد اعتنيا والداه كل الأعتناء بتربيته وتهذيبه ، حسبما تقتضى الوصايا الألهية واضعين نصب أعينهما قول الحكيم : " رب الولد فى طريقه فمتى شاخ أيضا لا يحيد عنه ، أبو الصديق يبتهج ابتهاجا ومن ولد حكيما يسر به " ( أم 23 : 24 ) .

حقا ، ما أحلى التربية وقت الصغر ، وما أعظم التهذيب فى الحداثة ، إن البيت هو المدرسة الأولى التى يتلقن فيها الطفل ما يكفى لصقل شخصيته واظهارها إما فى صورة ملك جليل ، أو فى هيئة شيطان رذيل !! ..

ما الطفل .. إلا وديعة طاهرة نتسلمها من الرب فإذا بواجبات تفرض على أبويه إزائه .. هو عجينة لينة تصاغ كيفما نريد .. منها نصنع تمثالا عجيبا جميلا .. ومنها نصنع شكلا مخيفا قبيحا .. ، فاذا فلتت الفرصة من والديه فعليهم أن يقدموا حساب وكالتهم .. ! .

من أمثلة العهد القديم أم موسى النبى ، التى سقت أبنها فى سنى حياته الأولى لبن الأيمان مع لبن ثدييها ، وهذبته حسب مخافة اللــــه ، ومع أنه لم يبق مع أمه سوى سنى الطفولة الا أن أربعين سنة كاملة سلخها فى قصر فرعون لم تكن لتغير من خلقه أو تحولـه ولو قيد أنملة عما تشبع به وقت الصغر !! .. وليس أدل على ذلك من أنه  لما كبر " أبى أن يدعى أبن أبنة فرعون مفضلا بالحرى أن يذل مع شعب الله من أن يكون له تمتع وقتى بالخطية " ... وما الخطية هذه فى نظر موسى النبى ؛ هى شعوره بتميزه فى معيشته عن بقية أخوته العبرانيين ... الذين نظر إليهم فى أثقالهم وذلهم على يد المصريين .. ثم نراه يدافع عن العبرانى الذى من جنسه ويقتل المصرى ويطمره فى التراب .

عرف بولس الرسول قيمة التربية والتهذيب فى الصغر فقال يمتدح تلميذه تيموثاوس : " إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالأيمان الذى فى المسيح يسوع " ( 2 تى 3 : 15 ) .

وكم يدرك الآباء والأمهات عاقبة الأهمال وسوء التربية فى وقت الصغر عندما يعرضون لحياة عالى الكاهن الذى قضى لأسرائيل أربعين سنة ( 1 صم 4 : 18 ) .. لقد أهمل تربية ولديه حفنى وفنحاس اللذين سارا على حسب أهوائهما وعبثا ببيت الله ، واذ أراد عالى ردعهما فى وقت الكبر لم يستطع الى ذلك سبيلا وعندئذ جاءه رجل الله وقال له : " هكذا يقول الرب لما تدوسون ذبيحتى وتقدمتى التى أمرت بها فى المسكن وتكرم بنيك على لكى تسمنوا أنفسكم بأوائل كل تقدمات إسرائيل شعبى ، لذلك يقول الرب إله إسرائيل إنى قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامى إلى الأبد والآن يقول الرب حاشا لى ، فإنى اكرم الذين يكرموننى والذين يحتقروننى يصغرون هوذا تأتى أيام اقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ فى بيتك وترى ضيق المسكن فى كل ما يحسن به الى اسرائيل ......... وهذه لك علامة تأتى على ابنيك حفنى وفنحاس فى يوم واحد يموتان كلاهما وأقيم لنفسى كاهنا أمينا يعمل حسب ما بقلبى ونفسى وابنى له بيتا أمينا فيسير أمام مسيحى كل الأيام ويكون ان كل من يبقى فى بيتك يأتى ليسجد له لأجل قطعة فضة ورغيف خبز ! . " ( 1 صم 2 : 27 – 36 ) .

++ كبر أنطونيوس قليلا وما كاد يتم دور الطفولة حتى كان قد تعود على الذهاب الى بيت الله للصلاة فى كل أوقات العبادة ، دخل الكنيسة فطبعت محبتها فى قلبه وقال حقا : " ان الوقوف على عتبة بيتك خير من الجلوس فى خيام الأشرار " ( مز 84 : 10 ) . سمع كلام الحياة فقال ما أحلاه .. نظر إلى الصبية أترابه ورأى طريقهم المعوج فابتعد عنهم مؤثرا العزلة عالما أن : " المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1 كو 15 : 33 ) .

وقد وهبه الله حكمة وفهما عظيمين حتى أنه كان يحفظ كلام الله بمجرد سماعه ! .

يقول عنه القديس أوغسطينوس : " إن انطونيوس الراهب المصرى الذى كان رجلا قديسا قد تعلم عن ظهر القلب كل الكتب المقدسة لمجرد سماعه الآخرين يقرأون وقد فهم كنة معانيها بالتأمل والأفتكار فيها مليا " .

وهكذا كان أنطونيوس :

" ينمـــــو فى النعمـــــــــة وفى معــــــرفــة ربــنـــــــا ومخلصنـــــــا يســـــوع المسيــــح "                                                                   ( 2 بط 3 : 18 ) .

 قســـــــوة الحـــيـــــــــاة  ! ! :

 " إن فرح العالم ليس فيه شىء يعتبر راهنا ثابتا ولكنه زائل جميعه ، وهو يشبه النهر الذى يجرى عند انسكاب الأمطار على الأودية فيظن من يراه أنه ثابت يدوم وهو بالحقيقة نهر مستعارة مياهه وتنتهى بغتة مع أنتهاء المطر ! . " ( يوحنا ذهبى الفم ) .

ما أن وصل الفتى أنطونيوس إلى الثامنة عشر من عمره حتى تعرض لتجربة وفاة والده ! وهنا كانت الصدمة ! بل هنا كانت التجربة ... انه يافع صغير وله أخت أصغر منه ، .. ولم يعتد مثل هذه الآلام ، كما أنه لا يقوى على تحمل أعباء العائلات بعد ، فماذا يفعل أنطونيوس ؟ .. لم تزده التجربة إلا إيمانا وثباتا ورسوخا

ولم يكد يفيق من تجربة رحيل والده حتى انتقلت والدته أيضا ، فحرم من الأثنين .. وعندئذ ازدوجت التجربة ! نظر فإذا به وحيدا ليس له فى البيت سوى أختا صغيرة ...

حرم من والده ؛ فحرم من التربية الأسرية والنصائح والأرشادات ، ووجد هذه الجوانب فى عطف والدته ومحبتها ورعايتها له ولأخته ، ثم شاءت الأقدار أن يحرم من والدته أيضا .. فأصبحا وحيدين ، إلا أن احساسهم بأبوهم السماوى لم يفتر ... وكذلك عوضتهم الكنيسة وارتباطهما بها عن حنان الأم وعطفها .. بل زادت عن الأم الجسدية بالبركات الروحية ، وكأنى بأنطونيوس وأخته يناجيان أباهما السماوى

"  إننا نعلم أن اسمك برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع " ( أم 18 : 10 ) .

إن القديس أنطونيوس فى صدمته هذه يرينا كيف يجب على المؤمن الحقيقى أن يقبل التجربة بشكر دون أن تفل من عزمه أو أن تؤثر فى إيمانه إذ " كثيرة هى بلايا الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب " ( مز 34 : 19 ) . ..... "... لأننى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى " ( 2 كو 12 : 9 ، 10 ) .

فى صفحات التاريخ نجد أن أعظم الرجال قد اجتازوا بين الضيق والألم

فايديسون مخترع الكهرباء باع الجرائد والمجلات فى الشوارع والطرقات !!

وملتون الشاعر العظيم كتب أبلغ قصائده بعد أن فقد بصره !

وبيتهوفن وضع أعظم مقطوعة موسيقية وهو أصم !!

 ومن شخصيات الكتاب المقدس :

أبونا يعقوب .. رأى باب السماء عندما كان هاربا وبلا مأوى من وجه أخيه عيسو .... وتحمل مشقة العمل مع خاله لابان لمدة أربعة عشر عاما من أجل راحيل المحبوبة .

ويوسف الصديق ... قبل أن يكون الرجل الثانى فى بلاط فرعون ... الذى أدار منطقة الشرق الأوسط فى سنوات القحط والجوع ... واجه اكثر من تجربة .... من تجربة إلقاءه فى بئر مهجور بيد أخوته ، إلى بيعه للأسماعيليين كعبد ... إلى رميه فى السجن بسبب ظلم زوجة فوطيفار له ...

لقد غرس الله بذور الدموع فى الأرض ليخصب بها مادة حياتنا ، إنه يحق بنا أن نشبه الألم واللوعة والحرمان والأضطهاد بجواهر ثمينة مختلفة يزدان بها تاج حياتنا ... إن التجربة هى للأنسان كالبوتقة للذهب تمحصه وتنقيه وتقوى الرابطة بينه وبين إلهه ، وحينئذ يناديه الرب من وسط التجربة قائلا : " لا تخف لأنى افتديتك ، دعوتك بإسمك أنت لى ، إذا اجتزت فى المياة فأنا معك ، وفى الأنهار فلا تغمرك ، إذا مشيت فى النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك لأنى أنا الرب إلهك قدوس اسرائيل مخلصك " ( أش 43 : 1 – 3 ) .

ويسوع الذى تألم مجربا يقدر أن يعين  المجربين فى تجاربهم

وكما أن الزيتون لا يخرج زيته اللذيذ الطعم الذكى النكهة إلا بعد عصره ، هكذا المؤمن لن يصل إلى الكمال إلا بعد أن يعصر تحت الآلام ... هذه هى فوائد الألم ، والمسيحيون الذين جازوا فى التجارب وخرجوا منها بروح شكر ، يشهدون لهذه النتائج المباركة يقولون لنا إنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا بعد التذلل ، والآلام لها الفضل فى تحريرهم من خداع العالم وفك طلاسمه عن قلوبهم ، لها وحدها الفضل فى تجديد الأمور الروحية إلى نفوسهم ، وبطبيعة الحال مثل هذه الأختبارات لا يمكن أن تكون نتيجة غضب الله بل محبته ، ومهما يكن من حدة اللهجة التى يخاطبنا بها الله فإن صوته صوت أب ووراءه قلب أب ، وكل القصد منه أن يدفعنا للأحتماء به والألتجاء إلى شخصه ، والله الذى يعد الدودة وهو يستعمل كليهما فى بناء الأيمان فى القلب البشرى .

+  +  + 

نظر الفتى أنطونيوس إلى الحياة ومباهجها بعد فقد والديه فإذا بها سراب وخيال ... ولم ينفع الغنى والثروة التى يمتلكها والده فى أن تمنع الموت ، أو تعطى السعادة للأنسان ... ونظر وتأمل فى كل شىء حولـه فلم يرى من الحياة سوى :

" شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته " ......

برغم أن والده ترك له ثروة كبيرة إلا أنه :

+ كان ذا قلب مفتوح ، ذو بصيرة روحية ، حتى أنه لما شهد جثمان أبوه ، ناداه " أنت خرجت من العالم مرغما ، أما أنا فسأخرج منه بارادتى ! " .

 أنطونيوس والمال :   

" ما أعسر دخول ذوى الأموال المتكلين على أموالهم إلى ملكوت الله ! " ( مر 10 : 24 )

 " لأنه لا يمكن للأنسان أن يخدم سيدين الله والمال !! . " ( مت 6 : 25 ) .

انتقل والدا أنطونيوس وتركا لـه ثروة طائلة إذ كانا من أغنياء عصرهما ، ترى هل ينمى هذه الثروة وهو يدرك " أن المال أصل لكل الشرور الذى اذا ابتغاه قوم ضلوا عن الأيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة ؟ ! " ( 1 تى 6 : 10 ) ... كم كان يخشى الفتى أنطونيوس أن تكون هذه الأموال سببا لفقد حياته الروحية الهادئة والنامية ... هل احتفاظه بالمال يتفق مع رغبته فى الوحدة والأنفراد والعبادة ؟

أليس الأحتفاظ بالمال دليل على أنه مازال ينظر إلى الحياة وملذاتها ومباهجها !

كان اتجاهه للوحدة والعبادة أقوى من كل إغراء ...

ان أشد ما كان يقلقه هو مصير ومستقبل أخته فى هذه الفترة من حياته ... ولكنها هى الأخرى توافقه على رغبته وتود أن تنذر نفسها للرب ! ... بقى بعد ذلك كيفية التصرف فى ماله ، لقد كان يدرك تماما قول السيد المسيح : " .... لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون ، بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضا " ( مت 6 : 19 – 21 ) . .....

وأيضا وضع أمام عينيه قول السيد المسيح له المجد : " .... لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون ... لكن أطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تزاد لكم " ( مت 6 : 25 – 33 ) . ....

كان متأثرا بتلك الروح الواحدة أيام الرسل عندما كان الناس يبيعون حقولهم وبيوتهم ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أقدام الرسل ، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له إحتياج ،

تلك التعليمات الثمينة التى لمخلصنا الصالح .... وأعمال الرسل ... وتعاون المسيحيين الأوائل فى أمورهم المادية .. كانت نصب عينى الشاب أنطونيوس .

اضافة لذلك قول السيد المسيح : " ماذا ينتفع الأنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ، أو ماذا يعطى الأنسان فداء عن نفسه ؟ ! " ( مت 16 : 26 ) .

كم كان المال سببا فى هلاك كثيرين وفقدهم لحياتهم الأبدية ! يفقد الأنسان أقرب الناس لـه بسبب الطمع ومحبة المال ... خاصة ما يتعلق بالأعمال التجارية أو بالميراث ... ، وفى العهد القديم نجد أمثلة كثيرة لهلاك أناس أحبوا المال ... مثل :

عخان بن كرمى .... الذى أخذ لنفسه رداء شنعاريا نفيسا ومئتى شاقل فضة ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلا ، وطمرها فى خيمته ...... ، والنيجة لم يتمكن بنو اسرائيل من الثبوت أمام أعدائهم " ( يش 7 : 11 ، 12 ) . وكانت نهايته أن رجمه جميع الأسرائيليين مع ماله وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته .... وأحرقوهم بالنار وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة !!

وجيحزى تلميذ أليشع النبى : اذ ركض وراء نعمان السريانى مسرعا وأخذ منه وزنتى فضة فى كيسين وحلتى الثياب ثم أودعهما فى بيته دون علم سيده ...... كان حكم أليشع النبى أن يلصق به برص نعمان السريانى هو ونسله إلى الأبد ( 2 مل 5 : 25 – 27 ) .

وفى العهد الجديد مثل الغنى الغبى : الذى شعر بوفرة محصوله وكثرة خيراته ، فأراد أن يبنى ويوسع من مخازنه .... ( ليس لغرض معاونة الفقراء والمحتاجين .. أو لخدمة الكنيسة ) ... إنما ليستريح ويأكل ويشرب ويلهو .... ظانا أن عمره طويل ، فسمع ذلك القضاء المحتوم : " يا غبى فى هذه الليلة تطلب نفسك منك .. فهذه التى أعددتها لمن تكون ؟ ! " . 

وحنانيا وسفيرة : إذ أرادا أن يوفقا بين السير حسب قانون التلاميذ الأولين وبين حبهما للمال ، باعا ملكا وأختلسا من الثمن وأتيا بجزء ووضعاه عند أرجل الرسل ، ... فكانت النتيجة موتهما عند أرجل الرسل وأمام الجميع . ( أع 5 : 1 – 12 ) .

صلى الشاب أنطونيوس إلى اللـــه أن يرشده ، وفى يوم الأحد ذهب إلى الكنيسة وهو واثق بأن الله سوف يرشده إلى الطريق الصحيح .... لقد كان الأنجيل فى ذلك اليوم عن الشاب الغنى الذى ذهب إلى رب المجد مستفسرا عما يوصله إلى الحياة الأبدية ، ... قال لـه السيد المسيح :

" إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى "

أدرك انطونيوس أن ذلك الشاب أصبح ضحية للمال الذى أستهوته محبته ... ، كما سمع أيضا – عن أوجه البر التى يجب أن تصرف الأموال فيها – وأهمها قول السيد المسيح لتلميذه القديس بطرس :

" كل من ترك بيوتا أو أخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل اسمى يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية " ( مت 19 : 29 ) .

إذ اعتبر انطونيوس من هذه الرسالة جوابا من الله لطلبته وكشفا منه تعالى عن الطريق المستقيم ، خرج من البيعة وقد وطد العزم على السير حسبما سمع حرفيا حتى لا يحرم من الكنز السماوى !

ما أعظمك يا أنطونيوس فى ثقتك بإلهك ! وما أحوجنا إليك الآن لتلقى على أغنيائنا عظة صامتة ، علهم يستطيعون تحديد موقفهم بإزاء المال حاسبين – مع الرسول – كل شىء نفاية ، ليربحوا المسيح !! . ( فى 3 : 8 ) .

لا يجب أن نستصعب موقف هذا القديس ، لأن محبة الله ملأت قلبه .... لننظر إلى الأرملة الفقيرة ، التى انتظرت حتى ألقى الجميع عطاياهم ... ثم تقدمت هذه المسكينة ماديا – الغنية روحيا – وألقت " فلسين " فى الخزانة ؟ هوذا الرب يكشف الستار عما فعلته ويقول : " الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة ! لأن الجميع من فضلتهم ألقوا وأما هذه فمن أعوازها ألقت ما عندها ، كل معيشتها !! " . ( مر 12 : 43 ، 44 ) . وزكا العشار حصل على الخلاص هو وأهل بيته عندما أعطى نصف أمواله للمساكين ، ورد أربعة أضعاف للذين أوشى بهم .... وربما يكون قد استدان لسداد هذا التعهد !

أجل ... إن الذى لا يقو على العطاء فى وقت الفقر لايمكن أن يعطى فى حالة الغنى ، والذى لا يقدم للـــه اليوم من ثروته الصغيرة ، يزداد بخلا وجشعا ومحبة للمال غدا إذا نمت ثروته وأصبحت كبيرة !! .

+ + +