علم الأعلام في حقيقة الإسلام
حمداً لله فاطر الإنسان على الميل و الرغبة لمعرفة باريه المنان علة وجوده و كيانه. أما بعد لما كانت الحقيقة أعظم ما يصبو إليه ا ل عقل و ترتاح إليه النفس لا ترى لها سعادة من دونها و لا هناء إلا بها كانت أبداً و دائماً ضالتها المنشودة و غرضها التي ترمي إليه. على أنه لمزيد الأسف يغلب في أولي العقول الجبن الذي كثيراً ما يوقفهم عن الجري وراءها. و يصدهم عن السير الحثيث في سبيل البحث عنها رهبة و رغبة و إذا هم توقفوا إلى إدراكها و شغفوا بجميل محياها. أوصدوا عليها خزائن صدورهم فلا يبرزونها إلا حيث يؤمنون غائلة الجهر بها. على أن المرء بثلاث العقل و الشهامة و الشجاعة و البطل هو من خاض غير هياب و لا وجل ميادين الحرب الأدبية ذاباً عن غادة الحقيقة ربيع القلوب و حياة العقول غير خاش بالله لومة لائم و لا ضر ضار ما أقل أنصار الحق و ما أمجد فوزه القلب أبداً له و إن قل أنصاره ما خاض معمعة إلا خرج منها ظافراً منصوراً. فلكم فاز بقهر الخصوم و كيد العدى بنفر من خاملي الذكر و ضعاف الناس فجندي الحق ما فل حسامه و لا نكست رايته و لا ولي قفاه لعدوه و شاهد ذلك التاريخ و الحال الحاضر و ذلك ما جرأني و دفع بي إلى الإقدام على الكتابة الآتية رسالة إلى صديق لي صدوق من خيار المسلمين و نخبة الأدباء المهذبين لا يعرف للمتعصب الطائفي معنى و لا للغرض المذهبي وجهاً بادلاً جهد المستطاع في سبيل نسقها و سبكها على التي هي أحسن بحيث لا يأباها أولو الذوق و لا ينفر منها الدين المخلص و لله في ذلك مقصدي و عمدتي
إلى حضرة الفاضل الأديب و الصديق الودود المحترم
بعد سؤل كريم خاطركم و بث لواعج الشوق لرؤية أنسكم أقول أن من فضل الله و الله ذو الفضل العظيم أنه أتاح لي صداقة نبيل فاضل نظيركم جامعاً ما بيننا من دقة الحسن و حسن الولاء إلى درجة غدا بها كل منا يؤثر الآخر على نفسه في أكثر الأمور. و لما كان أيها الحبيب من حق الصداقة و الأخاء أن لا يكتم أحد الصديقين عن صديقه العزيز ما يراه خيراً له و لا يضن عليه بشيء مما يتيقنه من بواعث السلام و ذرائع السعادة أتقدم الآن إليكم باسم الله ربنا بهذه الرسالة التي أرجو أنكم حين تقرأونها إن شاء الله تقرأون فيها أيضاً صورة الحب النقي و الإخلاص اللذين بعثا بي إلى كتابتها و تقديمها إلى كريم نظيركم أعلم بعده القاصي عن روح التعصب و المكابرة و أنك لتعلمني أيها العزيز أني من الذين ينشدون الحقيقة لا يرضون عنها بديلاً فذهني و روحي حاضران أبداً و دائماً لقبول مسألة يشع لي من خلالها نور الحقيقة و لا يخفى عليكم أني منذ سنين عديدة أولعت ولعاً شديداً بدرس دين الإسلام فدرسته جهد المستطاع أصوله و فروعه و أركانه و شعائره لاعتباري المسلمين أخوتي و أقرب الأمم إلى ديني فطالعت بوفر تدقيق السيرة النبوية مرتين و ثلاثاً و درست القرآن مراراً بترو و تدبير و انتقيت منه نصوصاً عديدة جامعاً إياها على حدة لزيادة التأمل بها و تحري غايتها و لقصر باعي في اللغة لم أعتمد على نفسي في تفهم أكثر تلك النصوص و سبر غور تلك الأقوال لا سيما لجهلي البواعث إليها و طبيعة العرب و عوائدهم في تلك الأيام رمت الوقوف على شرحها و تأويلها من أساطين علماء الإسلام المعول عليهم في تفسير القرآن فطالعت بكل ترو و دقة شروحاتها المطولة و الموجزة للإمام الفخر الرازي و البيضاوي و الجلالين و أوغلت في دراسة الصحيحين لمسلم و البخاري ثم كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي و غير ذلك مما وصلت إليه يدي كعقد الفريد و ابن لوردي و شيء من تاريخ بن الأثير و ما غايتي في ذلك سوى الحقيقة و بعبارة أخرى لأرى مكان الإسلام من الدين المسيحي و موضع الدين المسيحي في الإسلام و حالتي التقارب و التباعد بينهما و لم أمل إلى الخوض في هذا المبحث الجلل مع بعض الأدباء من المسلمين و علمائهم خشية من أن يؤدي ذلك إلى ما لا تحمد مغبته و لم آمن من نفسي التخطي في أثناء المحادثة حد اللياقة بالكلام و اللهجة. فرأيت الأفضل و الأسلم أن أقف من هذا القبيل على أفكار كبار علماء الإسلام و أئمته الماضين المدونة في تأليفهم و مصنفاتهم كالمتقدم ذكرها كأني بأولئك الأعلام لحياء أحدثهم و يحدثوني و يجيبونني من دون أقل استياء و احتداد و إذا بعض الأحيان ساقتني التقادير إلى الدخول مع بعض أدباء المسلمين في بحث ديني كنت ثم على غاية من الاحتراس حتى لا يبدو مني كلمة تحرك منه ساكن الغبط مع الإسراع إلى قفل باب المحادثة إما بتغيير الموضوع أو بالإستئذان في الانصراف ذلك لمعرفتي موضع الإنسان من الضعف و عدم الاستخفاف بسطوة الوراثة و التريبة على الذهن و العاطفة أياماً طوالاً و أنه ليس بالأمر السهل نشطهما من مثل هذا العقال المتين الضاغط عليهما ضغط الكابوس الثقيل على النائم و بعده لا يخفى على الجناب أن العلم الذي قد ازداد في هذا العصر تعاظماً و اتساعاً واقف و اتساعاً واقف بازاء الأديان لا كند للدين يبغي صرعه كلا بل كقريب له عضود يبغي محصه و تجريده مما قد طرأ عليه من شؤم الطوارىء التي قد شوهت جماله و فرقت الناس و أثارت عليه حرب المارقين الملحدين و لما كان أيها العزيز من شأن اللبيب الحر اعتبار الدين الحق كسبيل لسعادته و إجلال العلم الصحيح كغذاء العقل كان لابد له من السعي الحثيث في سبيل بيان وفاقهما و ما بينهما من شأن النسب و الإخاء لأن كليهما من ربك العليم القدير . و عليه أما حان لنا معاشر العقلاء محض الدين الذي فيه ولدنا و عليه نشأنا مسيحيين كنا أو مسلمين أو اسرائيليين أو بوذيين محضاً أصوليا ًلنرى أعلى ضلال نحن أم على هدى لأننا نعلم و كل ذي بصيرة يعلم أنه من أمحل المحال كان كل فريق على الحق الصراح و الهدى القويم كما يدعي كل ذي دين و مذهب و الادعاء لا يقوم مقام البرهان ألا يهمنا ذلك؟ ألا يهمني و يهمك و يهم كل ذي دين و مذهب؟ بلى بلى و أي شيء يضاهيه في الأهمية أواه يا صديقي كثيرون يخطر لهم هذا الخاطر و يعرضون عنه لدواع و أسباب لا أراكم تجهلونها و هذا ما يغلبني و يدفع بي إلى الاحتكاك بفاضل نظيركم بمثل هذه الرسالة غير مبال أرضاكم ذلك مني أو أغاظكم لأني على يقين أن رجلاً مثلكم و لو نفر باديء بدء من كتابة كهذه باغتته و ألقاها عنه جانباً بنوع من الازدراء و الامتهان لا يلبث أن يروق خاطره و يلوم نفسه على تسرعه هذا و يعود إلى النظر فيها بهدو و ترو علماً منه أن ليس كل ما لا يطيب الذوق مباشرة هو رديء ضار فلكم من عليل سقيم نبذ عنه للحال خير علاج لعلة سقمه لأنه غير صالح لحاسة ذوقه أو شمه ثم لم يلبث أن عاد لحكم العقل و تناول ذلك العلاج فانتفع به و شكر واصفه له و بعد فإن لدي سبع مسائل في الإسلام يهم كل مسلم يروم الحقيقة أن ينظر فيها نظر المدقق المتدبر و اعتقادي بسمو تعقلكم و نبالتكم يجرئني على بسطها لديكم لإبداء رأيكم فيها و بث حكمكم من جهتها حكماً غير مشوب برائحة الغرض المذهبي كما هو المتوقع منكم و الله القدير يرشدنا و إياكم و جميع عباده محجة الصواب و يسدد خطواتنا في سبيل الهدى و السلام له الحمد في البداءة و الختام.
المسألة الأولى: الإسلام و مصادره
المسألة الثانية: دعوى أن الله بعث في كل أمة رسولاً منها إليها
المسألة الثالثة: الجن
المسألة الرابعة: الزعم بأن الله عز و جل رجع عن بعض شرعه و وعده
المسألة الخامسة: الزعم بأن أهل القبور يعذبون في قبورهم
المسألة السادسة: الأمر بالفسق لتحق العقوبة على الفاسقين
المسألة السابعة: ما جاز على نبي الإسلام ما لم يجز على سواه من أنبياء الله و رسله
الإسلام و مصادره
الأمر بين أنه قبل محمد بن عبد الله لم يعرف بهذا الإسم دين من أديان العالم فيا مولاي إنبئني ماذا يراد بكلمة إسلام لابد لك أن تقول يراد بالإسلام ديناً إسلام الإنسان وجهه و قلبه لله طائعاً مختاراً للإيمان به و طاعته و عبادته بالخشية و الاحترام عن طيبة خاطر و رغبة قلب حسبما جاء في كتابه تعالى. مصدر فعل أسلم و يسلم كأعلام مصدر أعلم و يعلم، و المراد به التسليم و الإقرار بصحة النبأ و تصديق الخبر أو تسليم المغلوب في الحرب الغالبة سلاحه و نفسه، فمن حيث الأول أقول حين أ علن الرسول محمد لقومه قريش أنه رسول الله إليهم و نادى لهم بوحدانية الله و دعاهم إلى الإيمان به كالواحد الأحد، و إلى عبادته تعالى دون إشراك به و بنفسه كنبي الله و رسوله و بشرهم عن لسانه تعالى بجنات تجري من تحتها الأنهار إلى غير ذلك من المواعيد السماوية الخطيرة، فالذين سلموا منهم بصحة دعواه و بكل ما قال لهم عن لسان الله و انحازوا إليه دعاهم مسلمين و دعي مذهبهم هذا إسلاماً تمييزاً عن أسماء الأديان المشهورة في أيامه كاليهودية و النصرانية و الصابئية. على أن هذه الأسماء يا مولاي نسبية فقط كقولك دين اليهود أو دين موسى و دين المسيح أو المسيحيين. و عليه كان الأنسب و الأقوم لو سمى محمد الدين الذي نادى به بدين محمد و أتباعه محمديين كما قال "أمة محمد"، و كما يقول محمد "أمتي"، و كما يقول عن المسيحيين "أمة عيسى" لأن لفظة إسلام بحد ذاتها كما ترى لا تدل على دين لأنها ليست أكثر من مصدر فعل من مصادر الأفعال و قط لم يجىء في التوراة و الإنجيل أن الدين عند الله الموسوي و المسيحي كما جاء في القرآن "أن الدين عند الله الإسلام" (سورة آل عمران آية 16) ألا ترى أنه لو قال أن الدين عند الله هو توحيد الله و الإيمان به و بما أنزل على أنبيائه و رسله هو أبين و أشرب للعقل و القلب من القول "أن الدين عند الله الإسلام" و ليس في كلمة إسلام شيء من البيان عن ماهية الدين و نوعه، ألا ترى أن الدين شيء و الإسلام و التسليم به شيء آخر: الأول إعتقاد و يقين باللهو بأمور لم تر و الآخر مصدر فعل ليس إلا. هذا و كثيراً ما يكون إسلام زيد مجرد تسليم أي هو عار من صيغة الإيمان بالله و بكتابه فكيف جاز أن يسمى ديناً و يقال "أن الدين عند الله الإسلام" فالإسلام غير دين و الدين هو غير الإسلام. تأمل
إن لكل صادر مصدراً صدر عنه و الدين صادر فلا بد له من مصدر أو مصادر صدر عنها، و قد يكون الله مصدر دين قوم و قد تكون عقول أناس ابتدعته ابتداعاً و قد يكون مجموعاً و مؤلفاً من هنا و من هناك و من هذا و ذاك و مسلم أن الدين الحق دين الإسلام و النعمة هو دين إبراهيم و موسى و المسيح قد صدر عن الله مصدر المحبة و الرحمة مؤيداً من الله بالدليل الراهن و البرهان الناصع برهان للآيات الخارقة و المعجزات الفائقة كآيات موسى و المسيح و هو لم يزل معلناً بيناً في كتاب الله التوراة و الإنجيل بأيدي أهله. لمن المعلوم أن عامة المسلمين يعتقدون أن الإسلام بكله و جزئه بأنبائه و شرائعه بمراسيمه و فرائضه و وعده و وعيده أنزل رأساً من الله على نبيه محمد الهاشمي بلسان جبرائيل و بالوحي السري و بعضهم أو كلهم أن القرآن بأجمعه كان مكتوباً من الله في السماء في اللوح المحفوظ عند الله و أنه سبحانه أنزله على نبيه محمد أنجماً تترى أي قطعاً متوالية حسب مقتضى الحال. و إني أفتكر أن الألباء منهم أولي الأفكار الحرة و صحة الوجد أن يمنع على أذهانهم و ضمائرهم التسليم بصحة أمر كذا من دون امتحانه و دقة البحث عن أصله و مصدره لأن العقل
الراقي يأبى التسخر لاعتبار ما يعتبره العامة من دون فحص و استقصاء و كأني بأمثال هؤلاء العقلاء يقولون أنى لنا إرغام العقل على التسليم بصحة هذا الاعتقاد بناء على كونه إرثاً لنا من الآباء و الجدود أو لأن المسلمين به ألوف و ملايين و هو يضطرنا إلى فحصه و البحث عنه قانونياً لكي لا يكون اعتقادنا مبني على غير أساس فلننظر أحقيقي أن الإسلام دين محمد أنزل بكله و جزئه رأساً من الله على النبي و إلا فنعلم.
و بعد يا صديقي العزيز فليس بخاف على ذكائكم أن الأبحاث العصرية في أحوال العرب الجاهلية و الأقوام الصابئية من حيث معتقداتهم و شرائعهم و عوائدهم الدينية و المدنية أظهرت إلى الوجود أن معظم شرع الإسلام أركانه و مراسيمه و شعائره و فرائضه كانت معروفة عندهم و معمولاً بها منهم قبل أن يولد محمد بأزمنة كثيرة و حقب طويلة. ذلك فضلاً عن كثير من القصص و الحكايات و العادات اليهودية و النصرانية المرصع بها القرآن بتكرار زائد على صور و أشكال شتى ما لا سبيل إلى إنكاره بوجه من الوجوه كما سترى و كما ترى ذلك إن شئت في مؤلف لرجل انكليزي يدعى "سنت كلاير تسدل" المسمى "مصادر الإسلام"، أما أنا يا مولاي لم أعتمد في كتابتي هذه الرسالة إليكم على تأليف مؤلف أجنبي عن المسلمين لن خطتي التي قد جريت عليها من البداية في كتابتي لفائدة أخواننا و أحبائنا المسلمين هي أن أعتمد فيها على كتب دينهم و تأليف أئمتهم و علمائهم ليس إلا حتى لا يكون لهم وجه لإنكار ما آتى به منها.
لا يخفى على حضراتكم أني منذ سنين عديدة رأيت من كتاب السيرة النبوية الملكية أن الحج إلى الكعبة بكل رسومه و مناسكه و قربانه داخل في دين محمد من العرب الجاهلية صدق عليه القرآن و جرى عليه المسلمين و مؤخراً أتيح لي الوقوف على مؤلف تاريخي لأحد أفاضل المسلمين المدعو محمد أفندي شكري الألوسي البغدادي المطبوع بالرخصة الرسمية في مدينة بغداد المسمى "بلوغ الإرب في أحوال العرب" ، الذي و الحمد لله قد أبلغني منتهى إربي في هذا الموضوع جزى الله المؤلف خيراً و أني لقد استغربت غاية الاستغراب أن عالماً مسلماً كهذا يرصع تأليفه هذا بكذا قضايا تاريخية تنكد على العقيدة الإسلامية بانزال كل كلمة في القرآن رأساً من الله على محمد نبي الإسلام و الذي يظهر من ذلك أن بعض علماء الإسلام المتأخرين و كثير منهم لا يأبون ظهور مثل هذه الحقائق التاريخية و ربما كان ذلك منهم لغاية بيان أن الأقوام الجاهلية في كل أزمنة التاريخ لم تحرم بتة من معرفة الله الحي الحقيقي و مبادىء دينه الأولية
لا أعلم كيف أسرار مصادر الإسلام الآتي شرحها و أبدى عليها الملاحظات الواجبة على أسلوب مقبول من أولي العقول فليرشدني الله في ذلك و هو حسبي و نعم المعين فأتقدم باسم الله إلى هذا العمل الخطير مبتدئاً فيه من الصائبين.
المصدر الأول
الصائبون
يقول في هذا المؤلف و للصائبة خمس صلوات في اليوم و الليلة نحو صلوات المسلمين الخمس. و قيل سبع صلوات خمس صلوات توافق صلوات المسلمين من حيث الوقت (أي الصبح و الظهر و العصر و المساء و العشاء) و السادسة في نصف الليل و السابعة صلاة الضحى. و لهم الصلاة على الميت بلا ركوع و لا سجود و يصومون ثلاثين يوماً شهراً هلالياً و ابتداء صومهم من ربع الليل الأخير إلى غروب قرص الشمس و طوائف منهم يصومون شهر رمضان و يستقبلون في صلواتهم الكعبة و يعظمون مكة و يرون الحج إليها و يحرمون الميتة و لحم الخنزير و يحرمون من القرابات الزواج ما يحرم المسلمون – كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب جزء ثاني وجه 244 و 246
ملاحظة
الصائبون أمة عريقة في القدم قيل أنها كانت من عبدة الأجرام السماوية و قيل من عبدة الملائكة و يظهر لك مما تقدم أنها كانت أمة راقية و على ذلك أدلة كثيرة نكتفي هنا بما جاء في كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر لابن خلدون قال في الفصل السادس من الجزء الأول من ذلك الكتاب : " أما بيت المقدس و هو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصائبة موضع الزهرة و كانوا يقربون إليه الزيت في ما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك . و اتخذها بنو اسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم" فدل بذلك على أن الصائبين كانوا أمة مشهورة قبل أن استولى بنو إسرائيل على أورشليم ثم أن الصائبين بقوا بعد الإسلام قروناً و قد رثى الشريف الرضي واحداً منهم و هو الصابيء الكاتب المشهور و قد ذكرهم الشهرستاني في كتابه الملل و النحل و فصل بعض عقائدهم و ذكرهم الزمخشري و غيره من المفسرين في الكلام على ما ذكروا فيه من الآيات
فيا رعاك الله أنظر إذا كان للأقوام الصائبين و هم قبل أن وجد محمد بكثير أو بقليل مثل هذه الشرائع و العوائد أيستبعد أن نبي الإسلام إتخذها عنهم و أثبتها في قرآنه ألا يكون وجودها في القرآن باعث للمظنة أنه فعل ذلك و هل من وسيلة لدرء هذا الظن العادل من قلب المسلم النبيه المطلع على حقيقة ما ذكر لا أرى . لا مراء أن المسلم النبيل لدى تأكده وجود هذه الشرائع و العادات عند الصائبية يداخله و لابد الريب في دعوى إنزال هذه الشرائع على محمد من لدن الله و أنى له التنصل من هذا الريب المتأتي إلى قلبه مما قد علم اكيداً
و بعد ألا يلوح للقارىء الفطن من نفس القرآن أنه كان لمحمد شيء من الاتصال و الصداقة مع بعض صائبي زمانه و أنه قد استحسن ما هم عليه من الشرائع و العادات الدينية و عدة صلواتهم و أوقاتها و أوقاتها فضمها إلى مذهبه. لاحظ ما جاء في صورة البقرة: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصائبين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم و هم لا يحزنون" (آية 61) الذين آمنوا أي أسلموا و الذين هادوا أي تهودوا من العرب. أنظر ذكر في هذا النص بعد الذين أسلموا الثلاث الفرق الدينية المشهورة مجاوريه و لم يفند شيئاً من عقائدهم و عاداتهم الدينية لا تصريحاً و لا تلميحاً إنما عرض بحميد عاقبة الثقاة منهم المؤمنين بالله و اليوم الآخر مؤكداً لهم حسن الأجر عند ربهم بغض النظر عن قبولهم الإسلام أو عدم قبوله. تأمل إذا كان القرآن ينص عن الصائبين مثل هذا النص الحسن و كان لب شرع محمد فيه شرعهم السابق له حرفاً و معناً ألا يعقل أن محمد نقل ذلك عنهم أيستبعد ذلك كلا لا يستبعد بل هو معقول و لا محيد عما هو معقول. كيف ترى
المصدر الثاني
العرب الجاهلية
جاء في كتاب الملل و النحل للشهرستاني: "و كانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت الشريعة الإسلامية بها منها أنهم كانوا لا يتزوجون الام و بنتها و كان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين. و كانوا يعيبون المتزوج بإمرأة أبيه و كانوا يحجون البيت و يعتمرون و يطوفون و يسعون و يقفون المواقف كلها و يرمون الجمار و يغتسلون من الجنابة و كانوا يداومون على المضمضة و الاستنشاق و تقليم الأظافر و نتف الإبط و حلق العانة و الختان و كانوا يقطعون يد السارق اليمنى"
و في كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب يقول في ذكره الموحدين من العرب قبل الإسلام ما ملخصه "كان العرب يتعبدون بشريعة خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد تلقوها من ولده إسماعيل فكانوا يعتقدون أن الله واحد لا شريك له و لا وزير و هو السميع البصير و كانوا يصلون و يصومون و يحجون و يزكون ثم على تمادي الأيام زاغوا و افترقت كلمتهم و انقسموا في التعبد إلى أقسام و منهم بقية لم تتغير و لم تبدل من شريعة إسماعيل بن إبراهيم ملتزمين ما كانوا عليه من تعظيم البيت و الطواف به و الحج و العمرة و غير ذلك و هؤلاء إفترقوا فمنهم من بقى على التوحيد و ما استفاض من إفراد لله في عبادته ... و قد كان العرب في الجاهلية لا يقربون النساء في حال حيضهن و يحكمون بإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثة و جواز الرجعة في الواحدة و الإثنتين و أنهم كانوا يطوفون بالبيت سبعاً (جزء أول 209-212-319-322-325)؛ و من كتاب السيرة النبوية الملكية "فكانت قريش في الجاهلية إذا صلوا قالوا لبيك اللهم لبيك لا شريك لك ألا شريك هو لك و ما لك فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه آلهتهم و يجعلون ملكها بيده"
ملاحظة
ألا يخلق بكل مسلم حر إعمال عقله بملاحظة هذه الأمور التي كان عليها العرب قبل محمد بأزمنة طوال حتى إلى يومه و يحكم حكم ذي وجدان هل ليست هذه الأمور مدخلة منهم على الإسلام. تأمل قول الشهرستاني: "و كانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها" . فمن أين أيها الفاضل جاءت شريعة الإسلام بهذه الأمور؟ أمن تلك الأقوام الجاهلية أم من سواهم؟ من مبتكر هذه الأشياء من السابق إليها؟ أليس الجاهلية، فإذا كان عرب الجاهلية هم السابقون إليها، فما المتأخر في ذلك إلا مقتبس مقلد هذا. أولا ترى أن ذلك من شأنه اقتياد عقل المسلم الفطن إلى القول إذ قد اتضح جلياً أن هذه الشرائع و العادات المسطرو في القرآن كان العرب يدينون بها قبل محمد أما كان الأحرى بالقرآن إلى الإشارة إلى مصدرها في أثناء ذكره إياها قائلاً: إنما هذه شريعة ابراهيم خليل الله و ابنه اسمعيل كانت العرب تعمل بها و مصدرها هو الله، و لكن القرآن أغفل ذلك لماذا يا ترى؟ ها قد رأينا أن شرع القرآن في أمر الصلاة و الصيام و الحج و الزكاة مع كل ما يختص بذلك من المناسك و الرسوم و استقبال الكعبة و محرمات الزواج من القرابة و تجنب النساء في حال حيضهن و تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و الاغتسال من الجنابة و توحيد الله و نفي الإشراك المطلق به هي شرائع و عادات سابقة محمد و القرآن بكثير كان العرب و الصائبون يعملون بها. ألا ترى ذلك على الأقل مدعاة إلى الريب بأن هذه الأشياء أنزلت من الله على قلب محمد لو لم تعرف هذه الأشياء عند تلك الأقوام إلا بعد محمد و الإسلام، كان بالحق يقال أنهم انتحلوها لأنفسهم من شريعة الإسلام و لكن لما كان الأمر بالعكس فماذا ترى و كيف تحكم أن هذه الملاحظات خليقة بالمسلم البصير دون سواه و ليس الإغضاء عنها من شأن المتعقل الحكيم. و على كل أن أحوال الزمان تضطر المسلم اللبيب إلى إعطاء الجواب الشافي عن هذه الأمور و لنتقدم بعد إلى النظر في غير ما تقدم من العادات و الشرائع المدخلة على الإسلام من الجاهلية
_____________
الجمعة
جاء ايضاً في بلوغ الارب "و كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية عروبة فسماه كعب بن لؤي بن غالب يوم الجمعة و كان يخطب فيه على قريش و كانت قريش تجتمع إليه في كل جمعة ليسمعوا خطب كعب، (اليوم السادس من الأسبوع) جزء أول وجه 250
ملاحظة
لا يشار قط إلى هذه الرواية فيما قرأت من كتب المسلمين الدينية و التاريخية و كل ما أعلمه من أمر الجمعة هو ما ورد في كتاب السيرة النبوية الملكية أنه بعد أن هاجر أصحاب النبي إلى يثرب (المدينة) و كانت يثرب محاطة بقبائل اليهود و بعض النصارى أرسل إليه أصحابه يقولون: "يا رسول الله إن لليهود يوماً من كل أسبوع يدعى السبت فيه ينقطعون إلى عبادة الله تعالى و يجتمعون جماعة في مساجد خاصة لهم لقراءة التوراة و الصلاة و الوعظ و كذلك النصارى يوم الأحد يجتمعون فيه للعبادة و الصلاة في محلات خاصة و نحن المسلمون لا يوم لنا خصوصي نجتمع فيه لعبادة الله تعالى أسوة بأهل الكتاب اليهود و النصارى فأجابهم متى كان اليوم الذي يليه السبت اجتمعوا جماعة في مكان مخصوص للصلاة و إلقاء الخطب الوعظية فيكون لكم هذا اليوم يوم جمعة." و من ثم كنت أفتكر أن الجمعة وضع محمد حتى رأيت في "بلوغ الارب" أنه وضع كعب بن لؤي الجاهلي و أن قريشاً كانت تجتمع في هذا اليوم لتسمع خطب كعب و من ذلك يظهر أن كعباً هذا كان رجلاً فاضلاً و خطيباً مصقعاً جذب إليه القرشيين ليسمعوا خطبه البليغة المفيدة في كل يوم جمعة و لابد لنا من نظرة دقيقة في جمعة كعب هذه أو جمعة الجاهلية في مكة، هل هم في ذلك مولدون أو مقلدون فإن كان الأول فذلك دليل على سمو نباهتهم و وفرة ذكائهم إذ رأوا حاجتهم إلى تخصيص يوم من كل سبعة أيام لاجتماعهم فيه لأجل سماعهم الخطب النفيسة و المواعظ المؤثرة لأجل تهذيب النفس و تريض العقل و تمكين علائق الألفة و الوحدة القلبية بين الأفراد و الجماعات و هجر الضغائن و الأحقاد، و نبذ ذرائع الشقاق و النفرة و الاحتفاظ بالخلال الشريفة و العادات الحسنة كالعفاف و صيانة العروض و الأمانة و الوفاء و الكرم و حسن الضيافة و تأمين الخائف و إجارة المستجير و إن كان الثاني أي أنهم هم مقلدون عادة قديمة في قبائل الشرق أو جيرانهم اليهود و النصارى بافرازهم يوماً لله من كل سبعة أيام للراحة من عناء العمل و المهام الدنيوية و الانقطاع لعبادة الله و قراءة كتابه و الاجتماع فيه لسماع الخطب و المواعظ لتقويم أود النفس فذلك دليل على سمو المبدأ العربي و اقتدار العرب على انتقاء الأحسن و تقليد الأفضل من عادات الأمم. و لنا أيضاً هذه الملاحظة و هي كما أن العرب لم يفقدوا بتة معرفة الله إله الآلهة و رب الرباب و لا روح شرائعه المقدسة الناهية عن المنكر و الآمرة بالإحسان و المعروف. لم يفقدوا إلى التمام شريعة السبت المرعية من أعرف الأمم في المدنية و القدم كمابدا مؤخراً من الآثار الخطيرة التي أخرجت من خرابات أعظم مدائن الشرق كبابل و نينوى و مما ورد في مجلة "المقتطف" جزء سابع من سنة 1903 وجه 566 "هذا و لا غرو أن قريشاً رأت لها مصلحة كبيرة و فائدة عظيمة من الجمعة و لا يبعد أن محمداً و هو فتى حديث السن كان يجتمع مع قومه هذه الجمعة و إذ كانت تلوح عليه مخايل النجابة و النباهة وقع ذلك منه موقع الاستحسان و الظاهر أنه رغب في هذه الجمعة لتكون جمعة في الإسلام و لكن أحواله في مكة لم تمكنه من ذلك فيها فأرجأها إلى أن أمر أصحابه بها في المدينة أسوة باليهود و النصارى جيرانهم، إذاً محمد أثبت في دينه جمعة قومه قريش كما أثبت عمرتهم و حجهم. تأمل
عاشوراء
جاء في بلوغ الارب أن قريشاً في الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء و كانوا يعظمون ذلك اليوم بكسوة الكعبة و يقال أن قريشاً أذنبت ذنباً في الجاهلية فعظم ذلك في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك عنكم – جزء ثاني وجه 318
و روي أن محمداً قدم يوماً إلى المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك فقالوا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى و بني إسرائيل على فرعون، فقال محمد نحن أولى منكم بموسى- حديث صحيح لمسلم مجلد ثالث وجه 101
ملاحظة
للقارىء العزيز في مسألة يوم عاشوراء ثلاثة أمور جديرة بالإلتفات و الاعتبار
الأمر الأول: أن قريشاً اتخذت هذا اليوم عن اليهود جيرانهم
الأمر الثاني: أن نبي الإسلام اتخذ يوم عاشوراء هذا من قومه في مكة و من يهود المدينة
الأمر الثالث: أن نبي الإسلام اتخذ هذا اليوم من اليهود مزيفاً
فأقول في الأمر الأول أنه لدي مقابلة ما جاء في كتاب بلوغ الارب و هو أن قريشاً أذنبت ذنباً في الجاهلية فعظط ذلك في صدورهم فقيل لهم صوموا يوم عاشوراء يكفر ذلك عنكم، مع ما جاء في التوراة بخصوص هذا اليوم المدعو من الله يوم الكفارة أو التكفير عن خطايا بني اسرائيل ، أنظر سفر اللاويين إص 16 لا يبقى محلاً للريب أن اليهود هم الذين أشاروا على القرشيين بصوم هذا اليوم "عاشوراء" للتكفير عن ذنبهم الذي أحرج صدورهم إذ ليس من أمة سوى أمة اليهود لها في شرع الله في كتابه يوم الكفارة في السنة عن الذنوب و الخطايا، و ليس لهذا اليوم إسم عاشوراء في التوراة، بل عاشر يوم من الشهر، و لعله أطلق عليه إسم عاشوراء من يهود العرب.
و أقول في الأمر الثاني أن نبي الاسلام اتخذ يوم عاشوراء هذا عن قومه في مكة و عن يهود المدينة و ليس في ذلك نص قرآني فهو إذاً بمعزل عما يقال أنه وحي الله . و عليه ألا يدل هذا على أن نبي الإسلام ضم لإلى مذهبه شيئاً كثيراً من العقائد و العادات الجاهلية و اليهودية لأنه إن جاز أن يتخذ هذا اليوم عن قومه قريش و يهود المدينة جاز أن يتخذ عنهم و عن غيرهم كثيراً من الشرائع و العادات
و أقول في الأمر الثالث أن نبي الاسلام اتخذ هذا اليوم عن اليهود مزيفاً اي على غير وضعه من الله و على غير وقته و على خلاف وضعه الله فيه: إذ لما سألهم عن سبب صومهم هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى و بني اسرائيل على فرعون. و قد كذبوا في ذلك عمداً و جهلاً: لأن اليوم الذي رسمه الله لبني اسرائيل تذكاراً لتحريره إياهم من عبودية فرعون و اخراجه إياهم من أرض مصر إنما هو يوم الفصح المقدس في اليوم الخامس عشر من شهر ابيب أي نيسان كما ترى في التوراة (أنظر سفر الخروج اص 12 ليوم الكفارة الذي لا علاقة له البتة بغظهار الله موسى و بني اسرائيل على فرعون بل هو يوم من الله للتكفير عن خطايا الشعب بنظام خصوصي في اليوم العاشر من الشهر السابع الموافق لشهر تشرين الأول كما يقول الله: "و يكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تذللون نفوسكم ... لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم أمام الرب تطهرون." سفر اللاويين إص 16 عدد 29، 30، و هو سبب ما قيل أنه قيل لقريش صوموا عاشوراء يكفر عنكم ذلك. أنظر يا اخي كيف ان نبي الإسلام اعتبر هذه الرواية باطلة من يهود المدينة متخذاً إياها على محمل الصدق و هكذا أدخل يوم عاشوراء في مذهبه مزيفاً، فهل ذلك شأن أنبياء الله و كيف و هو نبي لم ينتبه لهذا الخطأ فيما بعد و لم ينبهه الله عليه إما بوحي أو بلسان جبريل كما قيل أن جبريل أرجعه عن خطأه في مديحه اللات و العزى و مناة آل قريش في درج قرآته سورة و النجم إذا هوى، و بناء عليه أيبعد عن العقل أنه قبل ايضاً منهم أشياء أخرى كثيرة من قصص و روايات لا تنطبق البتة على نصوص التوراة و سطرها في قرآنه كحقائق لا مراء فيها كما سترى فيما يأتي أولا ترى أن هذه المسالة هي من القوادح في نبوة نبي الإسلام و أتى للمسلم المغرم في الإسلام المخرج من دائرة هذه الوصية.
ثم إني ألفت نظركم إلى قول محمد لليهود الذين أخبروه زوراً عن يوم عاشوراء، إذ قالوا له اليوم الذي أظهر الله فيه موسى و بني اسرائيل على فرعون (نحن أولى منكم بموسى) ألا ترى أن هذا القول في غير محله من وجهين: الأول أن مراد أولئك اليهود بتعليلهم عن يوم عاشوراء أنه هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى و بني اسرائيل على فرعون بأن اعتبارهم هذا اليوم بصومه كعيد تذكاري لحادث تاريخي عجيب أحدثه الله لآبائهم فهو إذاً يوم تذكاري خاص باليهود لا سواهم فلا علاقة لمحمد و أتباعه به، فأي باعث إذاً لقوله لهم (نحن أولى منكم بموسى)
الوجه الثاني هو أن موسى من بني إسرائيل : فهو محررهم و قائدهم و مشترعهم فلا أحد أولى به منهم ، و بعد أي فائدة اليوم لليهودي أو المحمدي من شخص موسى و هو قد مات و مضى إلى الله ربه، إنما الفائدة هي من استماع كلام الله بفم موسى و الأنبياء و العمل به، فلو قال محمد لأولئك اليهود: (نحن أولى منكم بموسى) أو نحن نظيركم ندين بشرع الله على يد موسى و الأنبياء كان ذلك أقوم و أحكم فالفائدة للإنسان إذا رامها إنما هي استماع كلام الله عن يد أنبيائه و رسله الباقي لنا نور و هدى في كتابه للقيام به ، فتأمل
الطبيب الميت و الصلاة عليه و حظ الذكر مثل الأنثيين
قيل أن أول من طيب الميت بالحنوط مقسم بن بهر القضاعي و أول من صلى على الميت عطبرة بن صعب الكسكي و أول من قسم للذكر مثل حظ الأنثيين عامر بن جهم الجهمي (بلوغ الارب جزء أول وجه 184)
ملاحظة
إن تطييب الميت بالحنوط ليس قضية شرعية من قضايا شرع الله في كتابه بل هي عادة مدنية إستحسنت من أولى التمدن عند اشهر الأمم المدنية و لا بأس بها و هي عادة شعب الله القديم بني اسرائيل و ربما أخذوها من المصريين أيام إقامتهم في أرض مصر أو ربما كانت معروفة عندهم من أيام أبيهم ابراهيم و يرى بالبصيرة أنه كان لذلك عندهم باعثان إكرامي و طبي: الأول إكرام للميت العزيز مثل رشه في أيامنا بالروائح و العطور الذكية و وضع أكاليل الأزهار على تابوته و ضريحه، و طبي و هو دواء للمضرة من رائحة مرض الميت و فساد بعض جثمانه و فساد الهواء من أنفاس المزدحمين عليه (حسب العادة الشرقية المستهجنة)، و قد غالى المصريون في ذلك لحفظ جسد الميت من الانحلال دهوراً عديدة و إلى يوم النشور. أما الصلاة على الميت فهي أيضاً لا رسم لها و لا إشارة لها في كتاب أنبياء الرحمن، و لا يرى أن أحداً من أنبياء الله و رجاله الأقدمين مارسها.
و قسمة عامر الجهمي للذكر مثل حظ الأنثيين هو رأي معقول و مستحسن في المشرق فاسأل النبيل الحر إذا وجدت هذه القضايا في القرآن بعد وجودها في الجاهلية قبل محمد و القرآن، فماذا يرىالعقل من هذه الجهة و كيف يحكم. و لنضرب لذلك مثلاً: غذا عثر زيد على كتاب فلسفي نفيس في بابه غير معروف في بلاده و لا بين قومه فخطه بقلمه مع شيء من التصرففي بعض جمله و ادعاه لنفسه و صدقه في ذلك قومه لأنه من أولي العلم و المعارف و الوجاهة ثم بعد حين ظهر أن هذا الكتاب هو تأليف فلان الفيلسوف بلغة بلاده و ترجم إلى لغات عديدة، فهل يبقى في قلوب الناس اعتبار لذلك المنتحل المدعي. فهذه العادات كانت معروفة عند الجاهلية و معمول بها قبل أن يولد محمد ، و لا مهرب من ذلك.
التكبير (أي الله أكبر)
قد اتضح أن العرب كبروا لله في بعض الأحوال قائلين "الله أكبر" بناء على اعتقادهم وجود له في السماء، أو الله أكبر من كل الآلهة: هو إلهها و ربها، و هم أعوانه و عماله في أرضه، من ذلك ما جاء في كتاب بلوغ الارب في أحوال العرب " قيل في اقتراح عبد المطلب الهاشمي على إبنه عبد الله و الإبل الذي كان قد نذر أن يقربه ضحية لله ثم أشار قوم عليه بافتداء إبنه بمئة من الإبل و نجا عبد الله ، صاح الله أكبر و كبرت قريش مع عبد الله – جزء ثاني وجه 244، 246)
ملاحظة
ما تكبير الله هكذا "الله أكبر" من العرب الجاهلية إلا إفراده في العظمة و القدرة و السلطة على ما سواه من الآلهة و الذي يعقل أنه لو لم يكن من عادة القرشيين أن يكبروا الله هكذا في بعض الأحوال ما كبره عبد الله حين أفرج عنه بالاقتراع و لا تبعه قومه في ذلك قائلين بصوت واحد "الله أكبر"، إذاً تكبير الله هكذا ليس من الإسلام، إنما زيد عليه كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، و لدى تدبر المسلم في هذا الأمر يرى أن تكبير الله بكلمة "الله أكبر" جدير بالعرب المشركين لا بالمسلمين الموحدين لما أن لأولئك آلهة عديدة كاللات و العزى و مناة و سواها و عندهم الله أعظمها و أكبرها. و لما كان للمسلمين كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كانوا في غنى عن كلمة الشهادة الأولى "الله أكبر" ؛ لأن الإجهار بها يتضمن بالطبع كما لا يخفي الفكر وجود آلهة أصغر، و إن لم يكن ذلك اعتقاد المسلمين. لأن قولنا مثلاً في شيء هو أكبر يدل على وجود أصغر: فقولك مثلاً في إبنك هو أكبر أو الأكبر دل ذلك على وجود لك إبن أصغر أو أبناء، مثال ذلك قولك البيت الأكبر دليل على وجود بيت أو بيوت أصغر هو أكبرها. و معلوم أن الأمم الوثنية كالمصريين و اليونان و الرومان و الكلدان و العرب اتخذوا لهم آلهة عديدة اختلقتها لهم مخيلتهم و أوهامهم و إنما اعتقدوا باستدلال العقل وجود ذات إلهية هي أكبر و أعظم من كل الآلهة سماها اليونان جوبيتر و العرب الله و الكلدان بعل هو سلطان كل الآلهة و هم أعوانه و عملته في كونه و سياسة خلقه قياساً على نظام السلطة في العالم كما رأيت في أمرالتلبية في الجاهلية بقولهم: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك ألا شريك هو لك و ما لك"، فقد كانوا موحدين و مشركين في آن واحد، شركة حسب فكرهم لا تنفي وحدانية الله و كماله و لا تحط من قدره لأن هذا الشريك أو الشركاء و ما يملكون ملك يمينه له أن يفعل بهم ما شاء و هو الذي قد أشركهم معه في إدارة كونه و سياسة خلقه و مما يزيدك بياناً لاعتقادهم بالله الأعظم كعلة العلل استهلالهم صكوكهم و عقود عهودهم "باسمك اللهم" كما كان أمر القرشيين مع محمد استهلال صك عهده صلح الحديبية ظاهر مكة بينهم و بينه و ذلك أنه لما أمر محمد علياً بكتابة تلك العهدة و استهلها علي بالبسملة الإسلامية "بسم الله الرحمن الرحيم" أنكر القرشيون ذلك و قالوا لعلي: لا نعرف هذا، أكتب "باسمك اللهم" فتطلع علي بمحمد فأمره أن يفعل لهم ما طلبوا، و أيضاً من تسمية بعضهم بعبد الله كعبد الله أبي محمد و الخلاصة أن إسم الله كأعظم و أكبر الآلهة كان معروفاً عند العرب قبل محمد، و أن تكبير الله بفم نبي الإسلام و أصحابه و أتباعه حتى اليوم هو من أصل جاهلي و لا أرى هذه الشهادة التكبيرية حرية بالمسلم وحده لأنها فضلاً عن كونها تحصيل حاصل هي كما نوهنا تتضمن وجود اله أو آلهة أصغر فهي تحسن بالجاهلية لا بالمسلمين ، و مهما أجهد الشراح أنفسهم لا يقدرون أن يبرهنوا لزوم ذلك و مناسبته في الإسلام و لعل محمد في بدء الإجهار بدينه رأى أن ل بأس من استعمال كلمة "الله أكبر" في الشهادة لله كعادة قومه و هي كلمة حق و إن ذلك يقربه من قلوبهم إذ يتبينوا منها أن روح الإسلام ليس ببعيد عن روح دينهم و أن ذلك من الوسائل الحسنى لاستمالة قومه قريش إليه و إلى مذهبه.
الأشهر الحرم
فب دين الإسلام محرم القتال و القتل و الثأر تحريماً مطلقاً في الأشهر الحرم و هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و محرم، مهما كانت الدواعي إلى ذلك فهل ذلك من الإسلام أو من عرب الجاهلية قبل الإسلام، إنه لواضح من كتاب السيرة النبويةأن الأشهر الحرم المذكورة كانت مشروعة عند الغرب قبل محمد و معمول بها منهم بدليل ما ورد فيه أن النبي أرسل يوماً سرية بأمرة عبد الله بن جحش الأسدي إلى مكان يدعى نخلة ليرصد عيراً لقريش قادمة من الشام، و لما وصلت العير إلى هذا المكان و رأى عبد الله المذكور أن لا قبل له برجل العير عمد إلى الحيلة و أمر رجاله أن يحلقوا رؤوسهم و هو من الاعتمار، فلما رآهم رجال العير حالقين رؤوسهم إطمأنوا من نحوهم و قالوا لبعضهم لا تخافوا هم معتمرون. و لما حلوا و هم مطمئنون هجم عليهم عبد الله برجاله على غرة منهم فقتلوا ما قتلوا و أسروا ما أسروا و غنموا محمول العير و أتوا بذلك محمداً و كان ذلك في آخر رجب الحرام. فأرسل قريش من مكة يعيرون محمداً بأنه ارتكب رجاله القتال في الشهر الحرام و وقع ذلك في نفوس أصحاب محمد ألخ ( و القصة معلومة) و أيضاً من النص في القرآن " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" سورة محمد آية 4
و قد جاء في بلوغ الارب في أحوال العرب ما نصه: أن الأربعة الأشهر الحرم رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و محرم كانت محرمة عند الجاهلية حرموا فيها الغارات و الثأر و الحرب و القتال و الشجار فكان الرجل منهم في أيام الأشهر الحرم يلتقي بعدوه قاتل أبيه أو أخيه فلا يتحرج له بشر... كانوا يتحرجون في هذه الأشهر الحرم من القتال و كانوا لا يغيرون فيها و لا ينصلون فيها الأسنة أي ينزعون الرماح منها علامة تجنب القتال لأي سبب كان. جزء ثاني وجه 319 و جزء 3 وجه 76"
ملاحظة
يا ترى من لا يستحسن هذه الشريعة و العادة الحميدة التي جرى عليها العرب النبهاء و صدق عليها الإسلام و ياليت عرب البوادي و مسلموا هذه الأيام محتفظون بها. أرى أنه يسوغ للمسلمين أن يجردوا السيف في أمر الدفاع عن حوذتهم لصد عدو مهاجم في أيام الأشهر الحرم، لكن لا يجوز لهم قط إشهار الحرب على غيرهم و الغارة على عدو لهم و الفتك بعدو لهم لقوه في الأشهر الحرم فضلاً عن أنه لا يجوز لهم الإيقاع بعضهم ببعض في هذه الأشهرفهل هم فاعلون ذلك؟ أو لا يكون مارقاً من الذين لم يتعمد القتال و القتل منهم في هذه الأشهر الحرم. بلا، لا يعلم متى كان هذا الشرع في الجاهلية و لا من شرعه. لعل مشترعه رؤساء قبائل العرب بالإجماع الذين سئمت أنفسهم من كثرة الحروب و الغارات لما رأوا في ذلك من مصلحة الأمة و البلاد و تعاهدوا و تحالفوا على القيام به ما دام للعرب وجود، و قد يكون عندهم لذلك ثلاثة بواعث:
الباعث الأول : الحج إلى الكعبة و حرمة البيت في مكة الذي اعتبروه بيت الله ليكون السلام و الأمان العام تمهيداً إلى حج البيت من العموم في كل أنحاء بلاد العرب و ليكون السلام التام بين الجماهير المحتشدة في مكة و ضواحيها ليأتونها بسلام و يحجون و يتاجرون بسلام و طمأنينة و يعودون إلى أماكنهم بخير و سلام
الباعث الثاني : هو لأنه في كذا هدنة طويلة بين المتعاديين قد يحصل تسوية و مصالحة بينهم إذ يكونوا في أثنائها قد ذاقوا السلام و اختبروا فوائده العمرانية فلا يعودون إلى العدوان و الحرب المشؤمين بعد انقضاء الأشهر الحرم، و لتكون مثل هذه الهدنة فرصة سانحة لعقلاء العرب و أدبائهم محبي السلام على توسط الصلح و جمع القلوب بين المعتدين بخطبهم البليغة و مواعظهم الفصيحة المؤثرة
الباعث الثالث : هو أن الضعيف الخائف من بطش و فتك غريمة القوي قد يتلافى أمره في أثناء هذه المدة إما بالتسوية و المصالحة بينهما إن أمكن أو بالمهاجرة حيث يأمن غائلة عدوه ذلك فضلاً عن أنه بطول هذه المدة ثلث السنة قد تكسر سورة الغضب و تخمد نوعاً جمرة الأحقاد و الضغائن من نفوس المعتدين، فيسهل على محبي السلام و الخير العام عقد صلح بينهم. فيا لنعم الشرع و العادة، و هي تعد محمدة للعرب امتازوا بها، يحفظها لهم التاريخ. فنرى أن الأشهر الحرم ليست من الإسلام بل ضمت إليه كما ضم غيرها. و أول من بدأ يخرق هذا النظام نبي الإسلام و أصحابه. و عليه ترى أن عرب الجاهلية كانوا أحرص منه و من المسلمين على اعتبار حرمة الأشهر الحرم مع عدم إدعائهم أن شرع الأشهر الحرم أنزل عليهم من الله.
المصدر الثالث
اليهود
أمر غني عن البيان أن من مصادر الإسلام الأولية هو اليهود، و الدليل على ذلك، النص: "يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم و إياي فارهبون و آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ... و لما جاءكم رسول من عند الله مصدقاً لما معهم" (سورة البقرة آية 95،99) من المعلوم الأكيد ان عدة قبائل يهودية متعربة أو عرب متهودة كيهود خيبر و بني النضير و بني قريظة و بني قعيقعان كانوا متوطنين بجوار يثرب المدينة التي هاجر إليها محمد و أصحابه، و قد كانوا أصحاب منعة و وجاهة و غنى و كان لبعضهم كبني قريظة حلف مع الأوس و الخزرج سكان المدينة قبل أن صاروا أنصار محمد و بعد أن قدم محمد المدينة مهاجراً عقد عهداً مع هذه القبائل أو بعضها على أن لا يكون بينهم و بينه عدوان أو قتال بل سلام و وئام دائمان، و طبيعي كان بينهم و بينه مصادقة و معاشرة كما يلوح من كتاب "سيرة محمد" و من عدة نصوص قرآنية و من انحياز بعضهم إليه و الدخول في دينه و لأن كلا من الفريقين كان يطمع في اجتذاب الفريق الآخر إلى مذهبه و بالضرورة كان يجري بين الفريقين محادثات دينية و شرعية و تاريخية و نبوية، و لإن محمداً كان أمياً كما يزعمون كان ولابد يسالهم مسائل كثيرة من هذا القبيل و هم بسرور يجيبونه عليها حيبما يعلمون و يقصون عليه كثيراً من سير الآباء و الأنبياء و ملوك بني إسرائيل، و لأن يهود الحجاز متعربون منذ أجيال عديدة و ربما أكثرهم من العرب متهودون. كما جاء في القرآن "و الذين هادوا" يعني تهودوا كان معظمهم أميون يجهلون حقائق التوراة و ليس لهم من ذلك إلا ما أتصل إليهم من السلف باللسان و السمع كانت ولابد تلك السير و القصص الكتابية التي كانوا يقصونها عليه مختبطة و مشوبة بتحشيات غريبة و قضايا خرافية و تباين و اختلاف بحسب تباين و اختلاف عقول أولئك اليهود و درجة أفهامهم، فقد كانوا يقصون على نبي الإسلام ما في حافظتهم من تلك القصص و السير فاتت كما ترى في القرآن و سترى فيما يأتي في هذه الرسالة تباين و اختلاف و زيادة و نقصان بين سيرة و سيرة و قصة و قصة مما كثير منه مناف كل المنافاة للنقل و العقل ولا غرو أن المسلم النبيه لدى تدبره هذه الأمور في القرآن أو مقابلتها على الأصل في التوراة سواء كان ذلك في العربية أم العبرانية يحار فيما يرى من وجوه الاختلاف اللفظي و المعنوي و الزيادة و النقصان بين هذا و ذاك و يظهر لك من نفس القرآن أن محمداً كثيراً ما ارتاب بكون هذه القصص التي تلقي إليه سواء كان ذلك من أهل الكتاب أو من جبريل أنها إنزال الله عليه لما قد رأى فيها من التضارب و التدافع و الخلاف فكان إليه النص "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك" (سورة يونس آية 92) يعني يهود و نصارى أيامه مجاوريه. أنظر، لا يقول فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فانظر في كتابنا الذي أنزلناه من قبلك على عيسى و موسى و ما بينهما من أنبيائنا لا بل اسأل الذين يقرأونه. ألا يتأنى للعقل أن هذا النص كان بفم المدعو جبريل الذي سبق فقص عليه أكثر تلك القصص المختبئة ثم أرسله إلى أشخاص خصوصيين من اليهود أو اليهود و النصارى و يصدقوها له و يقولون له هي كذا في التوراة و الإنجيل. فيا أيها القارىء العزيزأنه لأمر جلي أن في القرآن كثير من أخبار وسير الآباء و الأنبياء الأولين و بني اسرائيل ممزوجاً من صحيح و فاسد أصلي و دخيل فضلاً عما ترى بينهما من الاختلاف و التضارب المنزه عنه كتاب الله؛ و سنذكر بعض الأمثلة:
الأولى
قصة يوسف
من الاختلافات في صورة يوسف عن قصته في التوراة:
الاختلاف الأول : جاء في هذه السورة أن أخوة يوسف طلبوا من أبيهم إسرائيل أن يرسل معهمأخاهم يوسف فأجابهم إلى طلبهم و هاك النص "قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون فلما ذهبوا به" (آية 10-14)
وفي التوراة بعد أن ارتحل أخوة يوسف بغنمهم من حبرون حيث كان أبوهم ساكناً إلى شكيم التي تبعد عن حبرون مسافة يومين شمالاً ربما بعد ذلك بعدة أيام بحيث أن قلب أبيهم اضطرب عليهم أرسل إبنه يوسف ليتفقدهم، يرد عليه الخبر كما نقرأ في التوراة "فقال إسرائيل ليوسف. أليس أخوتك يرعون عند شكيم تعال فارسلك إليهم فقال له هاأنذا...الخ" (تكوين27: 13-17)
الاختلاف الثاني : في السورة أن يوسف هم بامرأة سيده كما همت هي به. النص "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي أنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه..ألخ" (آية 22-23)
و في التوراة ما مؤداه أنها راودته كثيراً عن نفسه فأبى وقال لها أنك امرأة سيدي. فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله وبعد حين وهو في البيت بشغله أمسكته بثوبه قائلة اضطجع معي فترك ثوبه في يدها و خرج إلى خارج" (تكوين39: 7-14)
الاختلاف الثالث : أن تلك المرأة قدت قميص يوسف من دبر (أي قفاه) سورة يوسف آية 24؛ وفي التوراة حسبما تقدم أعلاه " أمسكته بثوبه قائلة اضطجع معي فترك ثوبه في يدها و خرج إلى خارج" فلا قدته ولا مزقته والذي يرى أن ثوب يوسف هذا ليس هو قميصه الملامس بدنه بل رداءه أو جبته.
الاختلاف الرابع: الزعم بأن يوسف عرف أخاه بنيامين بنفسه على حدة قبل بقية أخوته "ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه فقال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون" (آية 69-86).
هذه الرواية بخلاف ما جاء في التوراة أن القصة في التوراة هي خلاف رواية القرآن على خط مستقيم كما ترى أن يوسف أبقى عنده شمعون في المرة الأولى لنزول اخوته إلى مصر كرهن حتى يأتوا إليه بأخيهم الأصغر فلما نزلوا المرة الثانية ومعهم بنيامين اكرمهم يوسف ولم يذكروا أنه أسر إلى بنيامين أنه هو أخوه بل عرف يوسف كل أخوته بنفسه بعد وجود الطاس في عدل بنيامين وارجاعهم إلى يوسف. وهاك ملخص القصة "حين كانوا خارج المدينة راحلين أدركهم رسول يوسف وقال لهم لماذا جازيتم شراً عوض خير (سرقتم طاس سيدي) أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه. فقالوا حاشا لعبيدك أن يفعلوا مثل هذا الأمر... ففتش في عدالهم فوجد الطاس في عدل بنيامين فرجعوا إلى يوسف صاغرين مذلين مستغفرين وبعد أن استرحم أحدهم (يهوذا) يوسف بخطاب بليغ مؤثر طالباً منه إخلاء سبيل الولد رأفة بأبيه الشيخ و ضناً بحياته وأنه هو عوضاً عنه يبقى عند السيد عبداً له. حينئذ لم يستطع يوسف أن يضبط نفسه فصرخ أخرجوا كل إنسان عني ولما خلا بأخوته أطلق صوته بالبكاء وقال لأخوته أنا يوسف. أحي أبي بعد فلم يستطع أخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه، فقال يوسف لأخوته تقدموا إلي فتقدموا، فقال أنا يوسف الذي بعتموه إلى مصر والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا... (تكوين إص 44 إلى عدد 15 من إص 45). فكل هذا كان في المرة الثانية لنزول أخوة يوسف إلى مصر لا في الثانية والثالثة كما جاء في القرآن وليس للآية 88 و 89 من السورة أصل ولا فصل في التوراة وهو قول يوسف لأخوته كما يزعم القرآن "قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أانك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا..."
أما الأشياء التي في سورة يوسف لا إشارة لها في التوراة نأتي بأشهرها وهي ثلاثة:
أمر النساء اللايمات إمرأة العزيز على شغفها بيوسف ومراودتها إياه عن نفسه ودعوتها إياهن إلى منزلها واتكاءهن على المائدة وإتيانها كلا منهن بسكين وإدخالها يوسف إليهن، ولإندهاشهن من جماله وحسنه الباهر قطعن أيديهن بتلك السكاكين وقلن حاشا لله ما هذا بشراً أن هذا إلا ملك كريم" (السورة أية 29 و 30)
سؤال ملك مصر يوسف عن حادثة تلك النساء ثم توجيه السؤال إليهن وغب الجواب الحق منهن اعتراف إمرأة العزيز بذنبها. والنص "فاسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه. قلن حاشا لله ما علمن عليه من سوء. قالت إمرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وأنه لمن الصادقين ذلك ليعلم إني لم أخنه بالغيب وإن الله لا يهدي كيد الخائنين و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" (السورة آية 49، 50، 51، 52)
إرسال يوسف قميصه مع إخوته ليلقوه على وجه أبيه فيبصر، وفعلهم ذلك فعاد اسرائيل بصيراً ... قال ابوهم أني لأجد ريح سيف لولا أن تفندون. قالوا تالله أنك لفي ضلالك القديم فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيراً قال ألم أقل لكم أني أعلم من الله ما لا تعلمون" (السورة آية 92، 93، 94، 95)
ألا ترى أيها القارىء العزيز أن هذه الأشياء وأمثالها في القرآن لا أصل لها في الكتاب المقدس، إنما هي من وضع الواضعين من الناس وهي مثل التحشيات لمؤلفي الروايات لأجل زيادة تأثير السامعين ودهشتهم. رغم أن كل من يقرأ قصة يوسف في التوراة يشعر بتأثير قلبي عميق لا يكاد يمسك عينيه عن ذرف الدموع.
في قصة يوسف في القرآن النصين الآتيين: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله انه ربي أحسن مثواي أنه لا يفلح الظالمون" ثم النص التالي: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء أنه من عبادنا المخلصين" (آية 23 و 24)
ملاحظة
ألا ترى أن هذين النصين السابقين بعيدين عن الموافقة إذ أن النص الأول يبين تقوى يوسف وبعد نفسه عن إتيان الفاحشة، والنص التالي يعلن انصياعه إلى تلك العاهرة حتى هم على الاضطجاع معها. فما أبعد هذا النص عن مجرى قصة يوسف في التوراة وهاك نصها بهذا الشأن " وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت اضطجع معي فأبى وقال لامرأة سيده هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدي ولم يمسك عني شيئاً غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله ... ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت فأمسكته من ثوبه قائلة اضطجع معي. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج" (سفر التكوين 39: 7-12) ثم إن عزم الإنسان على إتيان الفاحشة هو أمام الله خطية كخطية إتيانها، لأن الأول خطية النية والقلب، والثاني خطية الفعل الناشئة عن خطية النية والقصد. وإذا كان يوسف قد هم بارتكاب الفاحشة مع تلك المرأة وردع عن ذلك بواسطة ما من ربه فأي بر له وأين هو من العفة والتقوى. والخلاصة أن هذه الرواية في القرآن متضاربة لا وفاق في الروح بينها ولا هي منطبقة على أصل القصة في كتاب الله المعلنة براءة يوسف وكمال عفته سيرة وسريرة حتى ضرب بها المثل. لذلك فرواية القرآن موضوعة.
الثانية
الزعم بإنجاء الله فرعون بيديه من الغرق في البحر
وإهلاكه إياه مع قومه غرقاً في البحر
لقد جاء في سورة يونس "وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل و انا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون" (آية 89-90-91)
وفي سورة القصص "وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ... واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين" (آية 37-38-39)
ملاحظة
أنظر نظر المتدبر الحر ألا ترى أن التناقض البين بين النصين لا يدع محلاً لتأويل المأولين ولكن أبى شراح القرآن كالبيضاوي والجلالين إلا التعرض لتأويلهما بغية التوفيق بينهما ولو بأسقم تأويل كما هو دأب شراح القرآن في مضايق كهذه اختلاق أفكار صبيانية واهية وبعيدة جداً عن مفاد النصوص الصريحة. وإليك شرحهم. النص الأول:
قال البيضاوي "ننجيك ببدنك" ننجيك جسداً بلا روح أي نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً أو نلقيك على نجوة من البر ليراك بنو إسرائيل "لتكون لمن خلفك آية" أي لمن وراءك علامة وهم بني إسرائيل. جزء أول وجه 320. وشرح الجلالين على هامش الورقة كشرح البيضاوي إلا بكلمة لمن خلفك: أي من فراعنة مصر وهو أقرب إلى الصحة من شرح البيضاوي
فانظر يا رعاك الله هل ترى طفو جثة فرعون على وجه الماء أو ألقاها على نجوة من البر ينطبق على القول " فاليوم ننجيك ببدنك" أفي ذلك شيء من النجاة أطفو جثة الغريق المائت على وجه الماء هو نجاة الغريق في أي لغة من لغات البشر وجد مثل هذا التعبير أوليس كل غريق ميت إن لم يبتلع من حيتان البحر أو يمسك بصخر ما أو عشب يطفو طبعاص على وجه الماء ويقذف بتيار الأمواج إلى البر فهل يعتبر ذلك نجاة له أو لم يرى بنو إسرائيل بعد عبورهم البحر المصريين أمواتاً على شاطىء البحر. فهل ذلك في عرف الإمام البيضاوي نجاة بلى في عرفه نجاة ولكن من يصدق له ذلك. أنك لتعلم أيها المسلم النبيه أن كلمة " ننجيك ببدنك" تختص بشخصية المخاطب روحاً وجسداً فهي قط لا تقبل التأويل، وهل سمع عن جثة زيد الغريق الملقاة على شاطىء البحر هامدة لا روح فيها. إن هذا المائت غرقاً نجا أو أن الله أنجاه كلا إنما إذا غرقت سفينة في قلب البحر وهلك من فيها من الركاب سوى واحد، إما بالسباحة وعلى خشبة يقال أن الله نجا هذا الإنسان من غرق البحر من دون رفاقه المسافرين معه. فمن لا يضحك من هذا التأويل السخيف غير المعقول ولا مقبول ممن له شيء من البصيرة. يا ترى ما الذي ألجأهم إلى مثل هذا التأويل. مع أن النص لا يقطع بهلاك فرعون في البحر مع جنوده إذ هو من المحتمل وهو من وراء جيشه على رقراق من البحر حين رأى البحر أطبق على جنده خاف وأدار جواده أو مركبته وهرب إذ شاء الله نجاته حسب النص الأول " فاليوم ننجيك ببدنك"، لكن يظهر أن عموم المسلمين يرون من سياق النص ولا سيما من شطره الأخير " فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين" أن فرعون الطاغية هلك لا محالة مع قومهفي البحر، ومن ذلك ما ترى في تاريخ ابن الأثير قال: "ودنا فرعون وأصحابه من البحر فرأى الماء على هيئته والطرق فيه فقال لأصحابه ألا ترون إلى البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي فلما وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق فشمت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر الله البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم وبنو لإسرائيل ينظرون إليهم وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأ البحر فيجعلها في فيه وقال حين أدركه الغرق " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" وغرق فبعث الله إليه ميكائيل يعيره فقال له "الآن قد عصيت قبل وكنت من المفسدين". وقال جبرائيل للنبي: "لو رأيتني وأنا أدس من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها(1) فلما نجا بنو إسرائيل قالوا أن فرعون لم يغرق، فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقاً فأخذه بنو إسرائيل يتمثلون به (جزء أول وجه 81)، فيظهر للبصير النبيه أن مثل هؤلاء الشراح لما رأوا من خلال النص الثاني في هلاك فرعون غرقاً في البحرمع جنوده خلافاً لمفاد النص الأول لم يسعهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك التأويل الساقط للقول " فاليوم ننجيك ببدنك" محاولة التوفيق بين النصين والجمع بين الروايتين، فساء فألهم وخاب سعيهم. فيا صاحبي مهما أجهدت نفسك في البحث والتنقيب عن علة هذا التناقض والخلاف بين النصين لا تجد سبباً لذلك إلا هذا الآتي ذكره وهو "أنه روي على مسمع النبي من يهود مكة أو مجاوريها الرواية الأولى أن الله أنجا فرعون من غرق البحر مع جنوده لأنه حين رأى الخطر مقبلاً آمن بإله بني إسرائيل..." فاتخذ محمد هذه الرواية منهم على محمل الصدق وأمر بكتابتها في القرآن ثم بعد ذلك بمدة ما ربما بضع سنين قص عليه الرواية الأخرى يهود آخرون أوفر علماً، فرآها أحق من تلك فأمر أيضاً بإثباتها في القرآن، وربما سها عنه أنه أمر بكتابة الرواية الأولى.
_________________________________
ألا ترى أن هذه الرواية عن جبرائيل ملاك الله هي من الخرافة بمكان لا لا يخلق بكاتب متعقل كتابتها أو التحدث بها. أجبرائيل أتى راكباً فرساً أنثى كخيل أهل الدنيا ليغري بها خيل جنود أهل فرعون على اتباعها في طريق البحر اليابسة السائر بها بنو إسرائيل لغاية إهلاكهم ولم ونحن نرى الخيل تقتحم الغمر طوعاً لإرادة راكبيها فما قولك إذا كانت الطريق ناشفة يابسة واسعة كتلك الطريق وما أسخف القول المزعوم أن جبرائيل قاله لمحمد: "لو رأيتني أدس من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه بها الله". أملائكة الله تمنع الخاطىء من التفوه بكلمات التوبة والاسترحام من الله الرحمن؟ أذلك يعقل وإن قيل أن جبرائيل أرسل من الله إلى ذلك قلنا وهذا أيضاً غير معقول لأنه إذا كان فات وقت توبة فرعون وقد قضى عليه بالهلاك غرقاً في البحر والله قادر أن يخطف روحه في لحظة فلا داعي لإرسال جبرائيل ليفعل به ذلك الفعل الأمر الذي لا يرى مثله في التوراة، ويا ترى من يكون هذا الذي حدث محمد بهذا الحديث السخيف، وما فكركم به تأملوا.
الثالثة
العجل ذو الخوار والسامري صانعه
يراد بهذا العجل ذلك العجل الذهبي الذي صنعه قوم موسى بنو إسرائيل في سفح جبل سيناء وعبدوه أثناء غيبة موسى عنهم في الجبل أربعين يوماً لمناجاة ربه كما تقرأ في القرآن، فقد ورد في القرآن في أمر هذا العجل عدة روايات في بعضها أن صانع هذا العجل لبني إسرائيل هو سامري وأنه كان لهذا العجل خوار أي هو يخور كالعجل الطبيعي الحي ففي سورة الأعراف هذا النص: "واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً" (آية 148)
وفي سورة طه : "قال (الله) فأنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ... فرجع موسى إلى قومه غضبان آسفاً. قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فاخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ... قال (موسى) فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي" (آية 82-86 و92-93)
التفسير لنص صورة الأعراف
قال في البيضاوي "خوار" صوت البقر، وإن علة خواره أن السامري كما روى لما صاغ العجل ألقى في فمه من الرب أثر فرس جبرائيل فصار حياً يخور، وقيل صاغه بنوع الحيل فتدخل الريح في جوفه فتصوت (جزء أول وجه 260) وفي الجلالين "له خوار" ذلك بوضع صانعه السامري في فم هذا العجل الذهبي التراب الذي أخذه من حافر فرس جبرائيل (حاشية وجه 260)
تفسير نص سورة طه
البيضاوي: "قال (الله لموسى) فأنا قد فتنا قومك من بعدك" : ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف وما نجا من عباد العجل إلا اثنى عشر ألفاً "وأضلهم السامري" باتخاذ العجل والدعوة إلى عبادته، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني لإسرائيل يقال لها السامرة. "ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم" خلاصة تفسير هذه الجملة أن هذه الحلة المستعارة من المصريين قبل خروج بني إسرائيل من مصر، وقيل هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراق المصريين فأخذوه ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام لأن الغنائم لم تكن تحل بعد "فقذفناها" أي في النار، " فكذلك ألقى السامري"، أي ما كان معه منها، "فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى"، "قال (موسى) فما خطبك يا سامري" أي ما طلبك له وما الذي حملك عليه، "قال بصرت بما لم يبصروا به" وهو أن الرسول الذي جاءك روحاني محض لا يمس أثره شيئاً إلا أحياه وهو جبرائيل "فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها" في الحلي المذاب أو في جوف العجل حتى حيا، "وكذلك سولت لي نفسي": زينته وحسنته لي (وجه 39-40)
الجلالين (على حاشية وجه 40): " فما خطبك يا سامري": ما شأنك الداعي إلى ما صنعت، "قال بصرت بما لم يبصروا به" أي علمت ما لم يعلموه"فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي" من تراب أثر حافر فرس الرسول جبرائيل ألقينها في صورة العجل المصاغ زينت لي نفسي أن آخذ قبضة من تراب حافر فرس جبرائيل وألقيها على ما لا روح له ليصير له روح.
ملاحظة
يظهر للقارىء النبيه عن هؤلاء الشراح للقرآن أنهم كمحمد نبيهم لم يطلعوا على تاريخ بني إسرائيل في التوراة، ولما كان اعتقادهم بمحمد بن عبد الله الهاشمي كنبي الله ورسوله، وأن القرآن بكليته منزل عليه من الله أغضوا الطرف بالكلية عن كتاب الله التوراة والإنجيل كأنه غير موجود مكتفين بالقرآن عنه، وكأني بهؤلاء لما رأوا نبهاء المسلمين باضطراب وحيرة من نحو القرآن لما يرون فيه من الاختلاف والتضاد والمزاعم الغريبة غير المهضومة والخلاف الكلي للكتاب الذي أنزله الله على موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، فتلافياً لهذه الأمور المخطرة وتركيناً لأفكار نبهاء المسلمين الأحرار عمد هذا وذاك من علماء المسلمين وأئمتهم إلى وضع شروحات وتآويل لنصوص القرآن باذلين غاية مجهودهم في سبيل التوفيق بين نصوصه وإيجاد مخرج لما يرى فيه ما ينكد على نبوة محمد وإرساله من الله لا في سبيل التوفيق بينه وبين الكتاب الذي بأيدي أهله اليهود والنصارى لأن ذلك خارج عن حد استطاعتهم، ومع كل ما بذلوه ن الجهد للتوفيق بين نصوص القرآن لإيجاد مخرج ترى عجزهم البين، وسترى فيما يأتي:
أولاً: أن هذه الرواية في القرآن هي موضوع الريب بكونها إنزال الله من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: لما فيها من لزعم بأن الله مفتن عباده بالقول المزعوم بأن الله قال لموسى "فأنا قد فتنا قومك ... وأضلهم السامري" فترى أن الشطر الأول من النص كمقدمة والشطر الآخر كنتيجة، فيخرج من ذلك أنه لو لم يفتن الله بني إسرائيل ما استطاع أن يضلهم السامري، وعليه فقد كانت فتنة الله إياهم تمهيداً لإضلالهم من ذلك السامري، إذاً هم لمعذورون (على نوع) باتخاذهم العجل معبوداً. فما أعظم الفرق بين هذا القول "فأنا قد فتنا قومك" و بين قول الله لموسى في التوراة : " فقال الرب لموسى اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر زاغوا سريعاً عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا لهم عجلاً مسبوكاً وسجدوا له وذبحوا له وقالوا هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (سفر الخروج إص 32: 7-8)، وبناء على النص "فأنا قد فتنا قومك" جاء في سورة الأعراف أن موسى ذكر الله بذلك كما بنوع من المعاتبة، وهاك النص: "ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون واختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ربي لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أن هي إلا فتنتك التي تضل بها من تشاء" (آية 154-155)، كأن موسى يقول بذلك رب إن شئت اضلالهم ففتنتهم فالعلة أنت. فانظر يا أخي هل ترى من سجية القدوس الرحمن أن يفتن العباد لإضلالهم عنه ثم يهلكهم بضلالهم؟ أيوافق هذا جانب القداسة والعدالة؟ ألا تنزه ربك العزيز عن مثل ذلك؟ أنك كوالد أتلقي معثرة في طريق ولدك الصغير ليعثر بها ويسقط ويهشم بدنه ويوسخ ثيابه، ثم إذا عثر بها وسقط تعنفه وتقاصصه على عثرته وسقوطه. كلا إنما تلوم نفسك على وضعك تلك المعثرة في طريقه، فإذا كنت وأنت إنسان لا يخلق بك مثل ذلك كعاقل وأب حنون، فكم بالأولى لا يخلق مثل ذلك بالله. وإذا كان ربك الله قد فتنك لإضلالك عنه فهل لك من محيد عن ذلك الضلال. كلا إذاً فأي حرج عليك إن ضللت. تأمل وقل حاشا لله القدوس مما إليه من ذلك يعزون.
الوجه الثاني السامري
لم يتعرض القرآن لنسبة هذا السامري المزعوم أنه هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل، فقط يقول " وأضلهم السامري ... فكذلك ألقى السامري .... فما خطبك يا سامري"، ولكن البيضاوي ما وقف على حد النص بل كمفسر القرآن رأى لزوم معرفة نسب هذا الرجل لأن نبهاء المسلمين يطالبون بمعرفة نسبه لأن لقبه بالسامري نسبي. فقال: والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة، كقولك إفرايمي نسبة إلى افرايم. فلنسأل الإمام الفاضل: يا أيها الإمام المعول عليه في شرح القرآن من أين عرفت أن من بني إسرائيل قبيلة تدعى السامرة، أنك لا تقول قيل أو حكي أن السامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة بل تجزم بذلك كمن هو واقف حق الوقوف على أنساب بني إسرائيل ورأى فيأنسانهم قبيلة بهذا الاسم، ألك من دليل على صحة زعمك هذا وإلا أي عار على إمام مثلك أن يفوه بكذا زعم لا أساس يرتكن عليه ولا دليل يدعمه، وهل يرضى منك المسلم النبيه بذلك كلا لا يرضى. أراك أيها الإمام تجهل تاريخ بني إسرائيل وأنسابهم في التوراة كل الجهل فقط لا يوجد بينهم من حين كانوا شعباً وأمة مذ كانوا في مصر حتى اليوم قبيلة تعرف بهذا الاسم. إذا قرأت تاريخهم في التوراة بلغتهم العبرانية أو اليونانية أو العربية لا تجد فيها ما تزعم وإذا سألت علماء يهود هذه الأيام عن هذه القبيلة الموهومة ضحكوا جداً من سؤالك هذا وأجابوك بتعجب: لا يوجد يا صاحب ولم يوجد في بني إسرائيل قبيلة أو عشيرة تعرف بهذا الاسم، وما من سامري أو سامريون إلا نسبة إلى مدينة من مدن أحد أسباط إسرائيل تدعى السامرة بناها عمري أحد ملوك الأسباط العشرة من بني إسرائيل وسماها السامرة وذلك بعد خروج بني إسرائيل من مصربخمس مئة وست وستين سنة. والقصة كما تقرأ –إن أردت- في سفر الملوك الأول من 16: 24، ومع ذلك لم يلقب سكان السامرة من بني إسرائيل بالسامريين إنما لما سبى شلمناصر ملك أشور العشرة أسباط إسرائيل بسبب تركهم الرب إله آبائهم وعبادتهم الأصنام وإسكانهم في أرض المشرق في خابور نهر جوزان وفي مدن مادي أتى هذا الملك بأقوام شرقية من بابل وكوث وعواء وحماه وسفراويم، وأسكنهم في مدن السامرة وكان الذين سباهم من بني إسرائيل. فدعوا من ذلك الحين بالسامريين. وكان بينهم وبين بقية بني إسرائيل في اليهودية على مر الأجيال عداوة ومناصبة حتى أيام السيد المسيح. (أنظر سفر الملوك إص 17: 1-6 ، 24-30) وذلك بعد خروج بني إسرائيل من مصر وصنعهم العجل بثماني مئة سنة و 13 سنة، كما تجد في الإنجيل أنه بينما كان يسوع جائلاً في أرض إسرائيل أتاه عشرة رجال برص وسألوه الشفاء قائلين يا يسوع يا معلم ارحمنا. فقال لهم اذهبوا ... وفيما هم ذاهبون طهروا من برصهم. فواحد منهم لما رأى أنه شفي رخع وخر على وجهه عند رجلي المسيح شاكراً وكان سامرياً، فأجاب المسيح وقال أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟ ألم يوجد من يرجع ليعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس (بشارة لوقا إص 17: 11-19). إذاً السامري والسامريون غرباء عن بني إسرائيل وعليه فإن كل مسلم عالم بتاريخ بني إسرائيل والسامريين ينكر القول أن السامري قد أضل بني إسرائيل وصنع لهم ذلك العجل في سفح جبل سيناء بعد خروجهم من أرض مصر بقليل من الأيام إذ لا وجود لإنسان بهذه التسمية في تلك الأيام، وإذا قال المسلم المدقق إذاً من أين هذا القول في القرآن " وأضلهم السامري ... فكذلك ألقى السامري .... فما خطبك يا سامري" أهو مدخل في القرآن أم خطأ من الكاتب، ولكن كيف يتكرر هذا الخطأ في كتاب معتبر كتاب الله، وكيف لم يصلح هذا الخطأ من الرسول وأبي بكر أو عمر أو عثمان بل ترك على علاته حتى اليوم قلنا الحكم في ذلك لك. ولا ترى مثل ذلك في القرآن كما في مسألة نجاة فرعون وإهلاكه غرقاً في البحر هي بالطبع من المنكدات على الثقة به كتنزيل الله.
الوجه الثالث: مسألة جبرائيل وفرسه وقبض السامري قبضة من تراب حافر فرسه ووضعها في جوف العجل الذي صنعه لبني إسرائيل
رأينا فيما سبق بطلان الزعم أن السامري هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل، إذ لا سامري في تلك الأيام. وما صانع العجل بغريب عن بني إسرائيل بل هو هارون أخو موسى كما تقرأ في التوراة: "ولما رأى الشعب أم موسى قد أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا له قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم واتوا بها هرون فأخذ ذلك من أيديهم ... وصنعه عجلاً مسبوكاً فقالوا هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (سفر الخروج إص 32: 1-5) ولما نزل موسى من الجبل ورأى الشعب في شر عظيم بعبادة ذلك العجل وغضب من ذلك وباد العجل والتفت إلى أخيه هرون لائماً وقال له "ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة. فقال هرون: لا يحمى غضب سيدي أنت تعرف الشعب أنه في شر فقالوا لي اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه فقلت لهم من له ذهب فلينزعه ويعطيني فطرحته في النار فخرج هذا العجل" (سفر الخروج إص 32: 2-25) يعني أن هرون خاف من الشعب ومن شره فأجابهم إلى طلبهم، وهذه يوافقه نص القرآن في سورة الأعراف: " والقى الألواح واخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم أن القوم قد استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت ني أعدائي ولا تجعلني مع القوم الظالمين". قال موسى رب اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وانت أرحم الراحمين" (آية 150-153) أي أني فعلت ما فعلت رهبة من شر القوم الذين اجتمعوا علي وكادوا يقتلوني. ولم يقل أن السامري صنع هذا العجل. ألا نتأمل ولا ذكر للسامري في سورة الأعراف، إنما ذلك فقط في سورة طه. الأولى توافق التوراة من هذه الحيثية والأخرى تنافيها. فأية السورتين أحق وأيهما أصح. وهل هذا لا ينكد على الثقة بالقرآن.
ولننظر الآن في الزعم أن السامري قبض قبضة من تراب حافر فرس جبرائيل وأدخلها في جوف العجل الذي صنعه لبني إسرائيل حتى صار حياً يخور. إن قول هذه الرواية لا إشارة لها في كتاب الله ولا محل لها في ذهن عاقل متدبر. إنها خارجة عن حد المعقول لوجهين:
الوجه الأول : هو أن الله لا يرسل ملائكته الصالحين عوناً على إضلال العباد في عبادة الأصنام، وهو الذي أرسل أنبياءه لمحو عبادة الأوثان. حاشا لله أن يجعل تراب موطىء فرس ملاكه (إذا صح أن للملائكة أفراس حيوانية) علة إنطاق الجماد من الأصنام إغراء على عبادتها
الوجه الثاني : إذا كان جبرائيل حسب رواية ابن الأثير في أمر إغراق فرعون في البحر انفرد بفرعون يدس في فمه من حمأ قعر البحر لإهلاكه روحاً وجسداً لأنه كان من الطغاة المفسدين، أيعقل أنه يسمح لذلك السامري المضل أن يقبض قبضة من أثره (حسب القرآن) ومن تران حافر فرسه حسب قول البيضاوي (على فرض المحال أن بذلك حياة الجماد) ليضع ذلك في جوف العجل مصنوعة ليخور كالثور الحي إغراء لبني إسرائيل على عبادته من دون الله. أيقبل عقلك ذلك وجبرائيل قادر أن يخمد أنفاسه برفسة واحدة صغيرة بحافر فرسه، وإذا لم يفعل بل سمح لذلك المضل أن يتم إضلالة شعب الله بأخذه قبضة من أثره أو من تراب حافر فرسه فعلى ماذا يشف ذلك! أليس يشف عن مواطئة واتفاق سابقين بينه وبين ذلك الرجل على عمل الضلال. إن هذه الرواية خارجة عن حد المعقول وبعيدة جداً عن كتب الأنبياء
لعل نبي الإسلام لما روي على مسمعه الرواية الأولى المذكورة في سورة الأعراف التي مفداها أن هرون أخو موسى هو صانع ذلك العجل استكبر الأمر أن هرون الصالح أخو موسى يأتي مثل هذا الأمر المنكر، فسأل بعد ذلك بمدة يهوداً آخرين رآهم أعلم وأفهم عن هذا الأمر، فقالوا له لا تصدق على هرون ذلك الأمر المنكر؛ ولأن العداوة بين اليهود والسامريين راسخة ومشهورة منذ عهد قديم قالوا لمحمد أن السامري أضل بني إسرائيل في غياب موسى. ولأن نبي الإسلام لا يعرف شيئاً عن السامريين اتخذ ذلك منهم على محمل الصدق وأثبته في قرآنه. وإن لم يكن ذلك فما سبب اختلاف السورتين. ولا يخفى أن عبادة العجول لم تكن معروفة أو مألوفة عند السامريين (انظر الإصحاح الأول من سفر الملوك الثاني عدد 30، 31
القضية الرابعة
تعذيب أهل القبور في قبورهم
الأمر بين أن اعتقاد المسلمين بتعذيب الموتى الأشرار والمنافقين في قبورهم من الملاكين منكر ونكير دخل في الإسلام من بعض عجائز يهود المدينة كما جاء في حديث البخاري قال "روي عن عائشة زوج النبي ص أنها قالت دخل علي عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما فخرجتا ودخل النبي ص فقلت يا رسول الله إن عجوزين من عجز اليهود دخلتا إلي وذكرت له ما قالتا ولم أصدقهما في ذلك فقال صدقتا أنهم يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم كلها فما رأيته بعد ذلك في صلاة إلاتعوذ من عذاب القبر. وروي عن ملك أن الرسول ص كان يقول أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر جزء 4 وجه 89، وروي أن الرسول ص قال: "إذا وضع العبد في قبره وتولى أصحابه حتى ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد فيقول أشهد أنه عبده ورسوله فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال النبي ص فيراهما معاً وأما الكافر والمنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له لا دريت ولا تليت ثم يضربانه بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين" بخاري جزء أول وجه 173
ملاحظة
إذا كان مصدر عقيدة عذاب أهل القبور في قبورهم يهوديتان من عجائز اليهود، وعقول العجائز في الغالب مخازن الأوهام والخرافات، أتستبعد كثيراً أنه أخذ عن جهلاء اليهود ودهاتهم تلك الروايات المتناقضة وغير المعقولة. أنظر إلى عدم تصديق عائشة حديث العجوزين لأنها لم تسمع بذلك من قبل لامن الناس ولا من زوجها ولا من أبيها، ولأنها رأته غير معقول وقط ما سمعت النبي مرة يقول في دعائه "اللهم أعوذ بك من عذاب القبر"، فلو كانت قد سمعت منه ذلك لكانت قالت للعجوزين نعم النبي أخبرني ذلك. فهذا يدل على أن هذا الاعتقاد لم يكن في قلب الإسلام من قبل.
ثم أن هذا الحديث والاعتقاد الغريب فضلاً عن أن لا إشارة إليه ولا لمحة في التوراة والإنجيل هو مناف كل المنافاة للعلم والخبرة، فإن العلم يبينأن الموت هو فقدان الجسد الحياة بكل معنى بحيث ينجم عنه وقوف الحركة الدموية وقوفاً تاماً وبذلك تتعطل كل وظيفة من وظائف أعضاء الجسد فيعدم الميت في دقيقة موته كل مشاعره كالحس والسمع والبصر وغيرها وعليه غب حدوث الموت يأخذ في الجسد الميت الدثور والانحلال التدريجي، فهو والحالة هذه في حالة الخراب التام. ومنافاته لخبرة هو من وجهين: (الوجه الأول) هو أن الإنسان بعد موته حقيقة إذا قطعت جسده عضواً عضواً أو حرقته بالنار لا تبدو منه أقل حركة تدل على شعوره بألم ما. (الوجه الثاني) إذا أبقينا الميت حقيقة من دون دفن ثلاثة أو أربعة أيام حتى أنتن وأخذ في الهراء لا نرى أنه يطرأ عليه شيء من علائم الحياة ولا من بوادر الألم والانزعاج أي لا تبدر منه كلمة ولا يجلس أو يميل إلى أحد جانبيه ولا يئن أنة تدل على كونه يتألم من شيء. فماذا ولماذا معذبوا الأموات أفلا يقدرون على تعذيبهم إلا في ظلمة القبر حيث لا من يرى ولا من يسمع، وإذا كانت البهائم كلها تسمع صراخ عذابهم ألا تسمعه الناس! ولماذا؟ وإذا كان الملاكان يعذبان كذا الكافر والمنافق في قبره بأن يرجعا إليه روحه ويجلساه ويستنطقاه حتى إذا لم يحسن الجواب لأنه كافر أو منافق ضرباه بالمطرقة الحديدية بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين (الإنس والجن) أفلا يقدران على ذلك إذا لم يقبر، فإذا كانا لا يقدران على تعذيب الميت إلا في القبر فخير له ألا يدفن بل يطرح على وجه الصحراء مأكلاً للوحش والطير لأنه لا يتألم من ذلك ولا يحس فيكون ذووه فعلوا بذلك معروفاً كبيراً، والحاصل من هذه القضية ثلاثة أمور غريبة:
(الأمر الأول) أن هذه العقيدة في الإسلام مصدرها يهوديتان
(الأمر الثاني) الزعم بأن الميت حقيقة يسمع ولا يقدر أن يتكلم حتى أنه ليسمع قرع نعال أصحابه المتولين عنه (غب دفنه في قبره) كميت وحي في آن واحد وهو من محل المحال لم يسمع بمثله في سوى الإسلام فكيف ترى؟ ويظهر لك أن هذه العقيدة قد تمكنت في ذهن نبي الإسلام وتعاظمت إلى درجة اعتقد فيها أن الميت يسمع خطاب مخاطبه حتى ولو جيفت جثته كما يسمع الحي لا فرق وشاهد ذلك ما كان منه غب واقعة بدر الشهيرة مع قومه قريش إذ وقف على أشلاء القتلى منهم بعد موتهم بثلاثة أيام وأخذ يناديهم كأحياء يسمعون وهناك الرواية بحروفها: جاء في الصحيح لحديث مسلم "روي عن أنس ابن مالك أن الرسول ص ترك قتلى بدر ثلاثاً (ثلاثة أيام) ثم أتاهم فقام عليهم وناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة ن ربيعة يا شيبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فسمع عمر ابن الخطاب قول النبي ص فقال يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا فقال والذي نفسي بيده ما أنتم أسمع منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قيب بدر" (مجلد 4 وجه 384). أنظر إذا كان هؤلاء القتلى الذين عراهم الاندثار يسمعون مناديهم كذا فلماذا لا يقدرون أن يجيبوا وما الدليل والبرهان على أنهم يسمعون. لا شيء من ذلك. عمر قد أنكر على النبي مناداتهم بعد أن أنتنوا.
(الأمر الثالث) خوف نبي الإسلام ورهبته من عذاب القبر حتى أمسى يكثر الاستعاذة بالله، أمر لابد للمسلم النبيه الانتباه له. فيما تقدم من الروايات والأحاديث عن لسان محمد ولاسيما عن إتيان الملك الميت المدفون حديثاً وإجلاسهما إياه واستجوابه عما كان يقول في محمد إلى آخره. فهي باب واسع للشك في دعوى محمد بن عبد الله أنه نبي الله ورسوله. أرسول الله وحبيبه يرهب هكذا من عذاب القبرالموهوم. هب أنه لحديث عذاب أهل القبور في قبورهم صحة، أيمس ذلك العذاب أنبياء الله ورسله الأحياء، هل من ذي بصيرة يقول في ذلك؟ أي موافقة ومناسبة بين جزع محمد من عذاب القبر جزعاً ألجأه إلى كثرة الاستعاذة بالله وبين دعواه أنه رسول الله الأعظم وحبيبه الأكرم شفيع المسلمين في يوم الدين وأيضاً هل من مناسبة ومؤالفة بين خوفه من عذاب القبر وبين هذا الحديث. تأمل ... إذا كان الميت المشاهد في قبره (جواباً للملكين سائليه) لمحمد أنه عبد الله ورسوله لا يمساه بأذى بل يرياه مقعده الناعم الباهي في الجنة لاطمئنانه ومسرته، فكم بالأولى يكون محمداً بمعزل عن أقل مس في القبر. إذا كان الشاهد له في قبره كعبد الله ورسوله له مثل هذه الحظوة والكرامة فكم بالأولى المشهود له منه. فأي باعث إذن على خوفه الذي لم يروى عن نبي مثله، ألم يكن على ثقة بدعواه.
وفي الختام أقول أنه لا شيء من العقائد من دون أصل تعود إليه إما حقيقي وإما وهمي، ورب سائل ما أصل وسبب هذه العقيدة في يهود العرب. فأقول الراجح أن سببه الإسراع في دفن الميت وقد اعتاد اليهود منذ أزمنة قديمة العجلة بدفن موتاهم وقد يحدث كما لا يخفى عن هذا الإسراع بدفن الموتى دفن من ليس هو بميت حقيقة بل قد طرأعليه ما جعله في نظر الجهلاء ميتاً وجرياً على العادة المتبعة عندهم حملوه حالاً وواروه في حفرته وبعد حين من ذلك استفاق ذلك الدفين المنكود الحظ فرأى نفسه في حرج قبره المخيف فأن وصاح وبكى واستغاث ولا من مجير ولا مغيث حتى مات كمداً لمداً وإذا سمع بعضهم هذا الصراخ والأنين من داخل قبر من دفن حديثاً ظنوه لجهلهم يعذب في قبره من معذبين إما لكفره بالله أو لذنوب وجرائم أتاها في دنياه ولم يتب عنها وعلى تمادي الأيام والأجيال أمسى هذا الأمر كحقيقة لا مراء فيها عند الأكثرين . أجل ذلك الدفين المسكين يعذب في قبره وقتاً لجهل أولئك الذين عجلوا بدفنه من دون ترو وفحص طبي. وللأسف نبي الإسلام صدق حديث عجوزي يهود المدينة، وأمسى ذلك عند عموم المسلمين حقيقة مسلمة لا مراء فيها، وبناء على ذلك فإن شيخ الجنازة عندهم في ختام الصلاة على الميت يلقنه كحي يسمع هذا التلقين وهو: " وإذا جاآك الملاكان النيران وسألاك ما ربك ودينك ومن هو نبيك فقل لهم الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي والمسلمون أخواني والمسلمات أخواتي وأنا على دين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فيا أخي المسلم أسألك على فرض المسلم بحاجة في قبره إلى هذه الأجوبة إلى الملاكين سائليه بناء على الأحاديث المتقدمة أما كان من الأوفق أن يدرس هذا الدرس وهو حي يسمع ويجاوب، لكن يظهر أنهم يفعلون ذلك للميت استناداً على قول نبيهم أن الميت يسمع كالحي ولكنه لا يقدر أن يجاوب، على أني لا أقدر أن أصدق أن مسلم عصرنا يعير هذا التلقين للميت شيئاً من الاعتبار.
ومن مصادر الإسلام
النصارى
الأمر بين أن نصارى بلاد العرب لم يكونوا أقل جهلاً بحقائق الكتاب من يهود تلك البلاد للأسباب التي سنأتي بها على بيانها إن شاء الله.
لا ينبغي لنا في هذا البحث إغفال أمرين هامين توصلاً للمسألة التي نحن في صددها.
(الأمر الأول) أن عدة قبائل من العرب الشهيرة كبني كندة وبني غسان ملوك الشام وعرب نجران وغيرهم من عشائر العرب كانوا نصارى يدينون بدين المسيح قبل محمد، وفي أيامه ولك الدليل من بعض نصوص القرآن ومن كتاب سيرة نبي الإسلام أنه كان لمحمد تعارف ببعضهم وبكثير منهم قبل اشتهاره كنبي ورسول من الله، وربما كانت الذريعة إلى ذلك كثرة تردده إلى الشام بداعي التجارة مع عمه أبي طالب كمساعد له في ذلك ثم بتجارته لخديجة بنت خويلد القنية التي صارت فيما بعد زوجته وكان يومئذ كافة أهل الشام مسيحيين وقليل منهم من اليهود، وغير منكر تعارف محمد برهبان دير البصرة الكائن على طريق الشام من مكة إذ كان يعرج إليه في ذهابه إلى الشام وإيابه منها كمحطة للقوافل الذاهبة والآيبة.
(الأمر الثاني) لك من تاريخ الديانة المسيحية أنه بعد موت رسل المسيح ناشروها في العالم ومؤسسوها وموت الجيل الرسولي من المسيحيين لم تلبث طويلاً أن صارت إلى شعب عديدة ومذاهب مختلفة بعض الاختلاف في الرأي ونوع العبادة وعلى ممر الأيام والأجيال ولا سيما بعد أن صار صولجان الملك إلى الأمة المسيحية منذ قسطنطين الكبير أول سلطان مسيحي ودخل في الدين المسيحي منافقون ومن أمراء وأعيان وحكماء الأمم لا عن إيمان قلبي ولا حباً بالدين بل إما رهبة أو رغبة في عظم الجاه والسؤدد، شيبت الديانة المسيحية النقية شيئاً فشيئاً شوائب الخرافات الوثنية وبدع غريبة عن إنجيل الله الذي بعنايته حفظ سالماً من كل شائبة شاهداً على تلك الأباطيل، وذلك لسببين:
(السبب الأول) جهل الجانب الأعظم من الأمة حقائق الكتاب المقدس بل أكثرهم لم يحرزوه ولم يروه، والعديد منهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون فكان أمثال هؤلاء يرتضعون لبن الدين المسيحي مغشوشاً بسوائل الخرافات والأوهام والأحاديث الفارغة لأنهم يتلقون تعاليم الدين بالتدريس والسمع والتحديث من السلف إلى الخلف، وطبيعي أنها على توالي الأيام والأجيال وتباين المدرسين والمحدثين عقلاً وقلباً
(السبب الثاني) أن صناعة الطبع لم تكن معروفة في تلك الأيام، والكتبة الماهرون الأمناء قليلون جداً، فلذلك كان كتاب الله التوراة والإنجيل الذي يخط بالقلم عزيز الوجود لغلاء ثمنه. قيل كان ثمن النسخة منه نحو عشرة آلاف درهماً أو أحد عشر ألف. وكانت أجرة العامل درهماً في اليوم. لذلك لم يوجد الكتاب جملة إلا في بعض المعابد المشهورة وعند أفراد العظماء والأغنياء وهم شديدو الحرص عليه حتى لا يعار ولا يستعار، وربما أكثر هؤلاء أحرزوه في مكاتبهم ومنازلهم للتبرك به والتفاخر بوجوده عندهم أكثر مما لأجل دراسته والتفقه بأقواله لإفادة نفوسهم. ولهذين السببين، وميل الإنسان إلى غرائب الأحاديث والمبالغات مزجت هكذا الحقائق بالقصص.
وهاك بعض القضايا ذات الشأن التي ترى منها أن نبي الإسلام أخذ كثيراً من الأمور عن النصارى كما أخذ من اليهود ودونها في قرآنه.
القضية الأولى
امرأة عمران وابنتها مريم
ورد في القرآن أن امرأة عمران قالت "رب اني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني أنك السميع العليم فلما وضعتها قالت رب اني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى واني سميتها مريم واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتاً حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم انى لك هذا قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب" (سورة آل عمران آية 32،33،34)
ملخص شرحه في البيضاوي والجلالين
(البيضاوي) أن اسم امرأة عمران حنة بنت فاقوزا وأن زوجها عمران هو غير عمران أبي موسى وهرون ومريم ومات عمران وامرأته حنة حبلى فنذرت لله حملها، ولما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت ابنة إمامهم وصاحب قربانهم فاقترعوا بينهم من يكون وليها بالكفالة فأصابت القرعة زكريا فأخذها في أول أمرها حين ولدت ووضعت في المحراب في أشرف موضع من بيت المقدس (جزء أول وجه 113 و114)
(الجلالين) باختصار " فتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتاً حسنا" فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام. "المحراب" الغرفة وهي أشرف المجالس
ملاحظة
للقارىء العزيز في هذه القضية ثلاثة أمور تدعو إلى التحري والتدبر
(الأمر الأول) "امرأة عمران": إذا قرأت تاريخ بني إسرائيل في التوراة منذ رجوعهم من سبي بابل إلى بلادهم عن يد كورش الفارسي حتى ولادة المسيح لا تجد فيه ذكر امرأة تنسب إلى امرأة اسمه عمران وأنها ولدت ابنة اسمها مريم وأن لمريم هذه أخاً اسمه هرون ولا شيء في الإنجيل من ذلك. فكيف إذاً جاء في القرآن عن مريم بعد أن ولدت المسيح النص: "فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً. يا أخت هرون ما كان أبوك أمراً سوء وما كانت أمك بغياً" (سورة مريم آية 27 و28). أنظر كيف القرآن في موقف سوء ظن قومها بها قال أنهم قالوا لها " يا أخت هرون" أليس يعنى بذلك أن يا مريم أنت من أسرة طاهرة من أبوين تقيين فاضلين وأخت أخ مشهور بالفضل هرون الصالح فكيف جئت هذا الأمر الفري. ألا يرى القارىء النبيه من هذا النص عن هذه الأسرة الدليل والإشارة (ولو خلاف المقصود فيه) إلى أسرة عمرام بن لاوي أبي مريم وهرون وموسى العائلة المذكورة في سفر أخبار الأيام الأول من التوراة أصحاح 6 عدد 3، وعليه فإن بين مريم بنت عمرام أخت هرون ومريم والدة المسيح 1571 تأمل. وإن قيل كما يذهب البيضاوي أن عمران أبي مريم أم المسيح هو غير عمرام أبي موسى وأن هذا الأخير سمى ابنه هرون على اسم هرون النبي بن عمرام بن لاوي، قلنا جائز توارد الأسماء بين الناس غير أن الكتاب المقدس لا يصدق البتة نسب مريم أم المسيح هذا، فلا أحد من أنبياء الله العديدين من موسى إلى ملاخي أنبأ أن المسيح سيولد من مريم بنت عمران أخت هرون، فالمسألة يا أخي تاريخية وتاريخ ولادة المسيح من أمه مريم مسطراً في الإنجيل ببساطة ووضوح كلي ولا ذكر البتة لأبيها ولا لأمها، وكانت ساكنة في الناصرة مدينة من مدن كورة الجليل ومخطوبة لرجل من عشيرتها اسمه يوسف (إنجيل متى أصحاح 1: 18- 23 و إنجيل لوقا أصحاح 1: 26- 34) وقد مضى على الإنجيل مذ ولادة المسيح إلى ظهور محمد نحو ستمائة سنة وهو يكرز به هكذا في العالم، فمن أين إذاً هذه الرواية القرآنية الغريبة في بابها وأسلوبها، فإن قيل هي وحي الله على عبده محمد قلنا هل يوحي الله وحياً ينافي نص إنجيله بعد انتشاره في العالم مدة نحو ستة قرون. أليس ذلك من المحال صيرورته من الله، وهل يعقل أن ذلك من مسلم نبيه ويقبل وهو يقرأ في القرآن أنه أنزل مصدقاً لما مع أهل الكتاب مصدقاً للتوراة والإنجيل.
الأرجح أن محمد اتخذ هذه الرواية عن نصارى جهلاء نصارى الحجاز الذين لجهلهم الكتاب أو لغاية في النفس خلطوا نسب مريم أم المسيح بنسب مريم بنت عمرام أخت موسى وهرون، فأخذ ذلك منهم ماخذ الصدق وأدرجها في قرآنه كحقيقة لا مراء فيها
(الأمر الثاني) نذر امرأة عمران لله ما في بطنها حسبما جاء في القرآن " أن امرأة عمران قالت رب اني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني أنك السميع العليم " فهذا ايضاً لا نص عنه ولا إشارة إليه ولا جاء في التوراة أن امرأة إسرائيلية حبلى نذرت لله حملها. امرأة واحدة من بني إسرائيل اسمها حنة زوجة ألقانة الثانية من بلد تدعى رامتايم صوفيم من جبل افرايم كانت عاقراً وضرتها ولودة
) شرح النص "أن الدين عند الله الإسلام" أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام و هو التوحيد و التدرع بالشرع الذي جاء به محمد (بيضاوي جزء أول وجه 110)