«الإنجيل» كلمة معرَّبة عن اليونانية «إفانجليون» ومعناها الخبر المفرح. وقد جاءت في العهد الجديد (كتاب المسيحيين المقدس) دائماً في صيغة المفرد. فالخبر المفرح هو واحد، أن الله افتقد أرضنا عندما جاء المسيح إلينا ليعلن لنا محبة الله، وأنه يرغب في خلاص البشر، لأنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١ تيموثاوس ٢: ٤).
ولكن رواة هذا الخبر المفرح كثيرون. ومن المعروف أن الأخبار التي كتبها الرسل في سجلاتهم المقدسة هي تعليمٌ عن حوادث قد جرَت، وعن شخص يسوع المسيح الذي تجسَّد في ملء الزمان وظهر للناس. فقد قال يوحنا الإنجيلي ورسول المسيح: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ. فَإِنَّ ٱلْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ ٱلآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا... لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا» (١ يوحنا ١: ١-٣).
هذه العبارات المجيدة التي كتبها يوحنا الرسول مسوقاً من الروح القدس، تشير إلى حوادث وإلى شخص. وهذا الشخص هو يسوع المسيح الذي هو روح الإنجيل، وأقواله تعاليم الإنجيل.
ونحن نثق بالأخبار التي نقلها إلينا كَتَبة الإنجيل لأنها تتضمن حوادث العهد الجديد التاريخية، بهدف إظهار وإدخال ملكوت السموات إلى العالم، حسب المواعيد والنبوات.
أما الأناجيل الأربعة التي كتبها البشيرون بإلهام الروح القدس، فهي تكوِّن معاً إنجيلاً واحداً. أما ما درج الناس على قوله، مثلاً: إنجيل متى، أو إنجيل مرقس إلخ... فهو من باب التوسُّع في الكلام. وكان الأَوْلى أن يُقال «الإنجيل بحسب متى» أو «الإنجيل كما كتبه متى» وهكذا مع بقية الأناجيل لأن كل بشير يذكر في سجلاته ما اختاره عن حياة أو أعمال وأقوال المسيح، وفقاً لحاجة الذين كتب إليهم.
كتب متى لليهود، وإنجيله بغاية المناسبة لإقناعهم أن إتمام نبوات العهد القديم عن المسيا المخلّص الآتي قد تحققت في يسوع الناصري. وهو أيضاً بغاية المناسبة ليُفتتح به العهد الجديد، لأنه يظهر العلاقة بين العهد الجديد والعهد القديم، وكيفية طلوعه منه. ويشرح ظهور ابن الله، ليس كحَدَث مستقل بذاته، على سبيل تاريخ، بل كإتمام سلسلة نظام تاريخي ونبوي، مرتَّبة من الله. وقد ابتُدئ بها من قديم الزمان.
فهذا الإنجيل هو كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن إبراهيم جد اليهود. وقد اقتبس البشير نحو أربعين آية من العهد القديم ليُثبت بها حجّته، ويُظهِر كيفية إتمام ما قيل بالأنبياء عن المسيا.
فهو تاريخ إكمال وعود الله بالمخلص، لأنه يصف الرب يسوع كمكمّل كل بر، أي مكمل الناموس والأنبياء، وفقاً لقوله: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متى ٥: ١٧).
وسلسلة أنساب يسوع التي افتتح بها متى بشارته هي ذات أهمية كبرى، لأنها ترينا أن العلاقة بين العهد القديم والجديد قائمة وغير قابلة للانفصام، وهي توصّل بين العهدين بذكر سلسلة أسلاف المسيح حسب الجسد الذين كانوا في أثناء المدة القائمة بين يوحنا المعمدان وملاخي النبي، ومن ثمَّ تمتد إلى داود وإبراهيم.
وقد أجمع رأي كثيرين أن متى كتب إنجيله أولاً باللغة الأرامية التي كانت لغة اليهود العامية ليفيد المؤمنين الذين جاءوا من أصل يهودي. ويُرجَّح أنه كتبه بين سنة ٤٠-٥٠ ميلادية. ثم كتبه ثانية باللغة اليونانية بين سنة ٦٠ و٦٥ ميلادية. وهذا الرأي ينال تأييد الباحثين الذين يعتقدون أن متّى البشير فعل ذلك بإلهام من الله لفائدة المؤمنين في المستقبل. لأن اليهود تبددوا بعد خراب أورشليم وتركوا لغتهم الأرامية بالتدريج. وصارت اللغة اليونانية هي الغالبة. أما النسخة الأرامية فقد تلاشت بمرور الوقت لقلة استعمالها.
يحتوي «الإنجيل بحسب متى» على مختارات من أقوال يسوع العديدة وأعماله المجيدة. ويظهر الترتيب فيه بسبب التشابه بين الموضوعات، أكثر منه إيرادها بترتيب تاريخي، فقد رتّب متى الموضوعات بحسب صلتها الموضوعية، بصرف النظر عن وقت إلقائها، والأماكن التي حدثت فيها.
كتب مرقس إنجيله إلى الرومان. وهو مثل متى يخبرنا عن وظيفة المسيح الملوكية. إلا أنه حرص على أن يُري الذين كتب إليهم المسيح باعتباره ملكاً قادراً مستقلاً بذاته بدون اعتبار علاقة بينه وبين الأمة اليهودية. وإنما ظهر على الأرض ليُقيم ملكوتاً جديداً عمومياً.
ولم يشأ مرقس أن يذكر سلسلة أنساب المسيح، بل استهلَّ كلامه بالخبر عن ظهوره في سن البلوغ وبأعمال سلطانه الفائق. فإنجيل مرقس هو إنجيل عملٍ وسرعة ونشاط ومروءة وحماس، كما أنه لا يتضمن شيئاً من خطابات مخلّصنا المستطيلة. إلا أنه يتضمن سجلاً حافلاً بالمعجزات التي صنعها، والتي تُظهر قوته الفائقة وسلطانه على العالم المنظور وغير المنظور.
إن وجود تفاصيل جلية كلية الوضوح في هذا الإنجيل يجعلنا نسلّم أنه صدر عن شاهد عيان. مثلاً يتذكر الكاتب اخضرار العشب (٦: ٣٩) والوسادة التي كان يسوع نائماً عليها (٤: ٣٨). والمتأمل بعمق في هذا الإنجيل يلاحظ أنه كُتب بصورة تناسب طبيعة وآراء الرومان أصحاب المملكة التي كانت يومئذ في أوج عظمتها، وكان مُلكهم قوياً، وإمبراطوريتهم واسعة جداً. لذلك حرص مرقس على أن يُريهم في إنجيله المسيح ملكاً أقوى، وصاحب ملكوت أوسع.
وكل ما كتبه مرقس من افتتاحية إنجيله برسالة يوحنا المعمدان، إلى ختام الإنجيل بارتفاع يسوع إلى عرش الله، مرتَّب بأسلوب يدهش القارئ جداً، من قدرة المسيح على كل شيء، وسلطانه على الكون كله. فملكوت المسيح حسب مرقس هو ملكوت القوة أكثر مما هو ملكوت النبوّة. وبقدر ما نظر متّى إلى يسوع كملك معيَّن من قديم الزمان وقد أخبر عنه بالأنبياء، يترك مرقس ذكر النبوات ولا يشير إليها.
المتأمل في كتابات البشيرَيْن متى ومرقس يلاحظ فرقاً في أسلوب كلٍ منهما في كلامه عن الملكوت الذي كان يسوع عتيداً أن يقيمه، فمتى يدعوه غالباً «ملكوت السموات» بينما مرقس يدعوه«ملكوت الله» لأن متى كتب لليهود الذين كانوا يريدون أن يُقيم يسوع عرشه في أورشليم، فصحَّح لهم خطأهم بإشارته إلى السماء حيث مقر عرش المسيح.
أما مرقس فقد كتب للرومان الذين لم يُؤخذوا بعواطف اليهود العنصرية، وكانوا متورطين في عبادة الأوثان، ومن بينها عبادة القياصرة، فوضع تنبيره على اتساع ملكوت الله القادر على كل شيء، الذي ظهر في شخص يسوع المسيح.
أما غاية كتابة إنجيل مرقس فهي شرح قصة يسوع المسيح الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. وقد حرص مرقس على أن يحتل المسيح خادم الإنسانية مكاناً بارزاً من إنجيله، فكتب بأحرف من نور تلك الآية الفريدة القائلة: «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقس ١٠: ٤٥).
هذا هو الغرض البسيط الواضح لمرقس. وهكذا كتب بشارته بكيفية يستطيع معها قراؤه من الرومان أن يفهموا ويدركوا رسالة يسوع المسيح صاحب السلطان.
اتجه لوقا بكتابته نحو العموم، فقدَّم الإنجيل كدستور صالح لكل الجنس البشري، لا فرق بين جنس أو لون أو شعب أو أمة أو لسان. وهو الإنجيل الذي ذُكر فيه الاقتباس من إشعياء النبي: «كل جسد يرى خلاص الرب».
ويتتبع لوقا نسب المسيح ليس إلى إبراهيم فقط كما فعل متى، بل إلى آدم أب البشر جميعاً. ويكشف عن محبة المسيح للإنسان بنوع أجلى وأسمى مما نرى في بقية البشائر. ويصوّر لنا ببراعته الباهرة يسوع الإنسان بأسلوب جذاب، يجعله محبوباً من جميع البشر.
والمتأمل في شخص يسوع من خلال كتابات لوقا يرى الكثير من اللمسات الإنسانية التي انفرد لوقا بذكرها، كجهاد يسوع في بستان جثسيماني. فبينما يقول البشيرون الآخرون إنه اكتأب وحزن، يتفرّد لوقا بالكلام عن اندهاشه وعَرَقه الذي تصبَّب كقطرات دم نازلة إلى الأرض. وكلهم تكلموا عن توبة بطرس، ولكن لوقا وحده ذكر التفات يسوع إليه عند صياح الديك.
وإنجيل لوقا هو الإنجيل الاجتماعي، إنجيل الفقراء والمعوَزين والمرضى والبائسين. ففيه ذكر زيارة ملاك الله لعذراء الناصرة الفقيرة، وظهور الملائكة للرعاة المساكين في برية بيت لحم، ولعازر المصاب بالقروح والذي كان يتناول الفتات الساقط الذي تبقّى من طعام كلاب الغني! وهو الذي تفرَّد بذكر مثَل السامري الصالح. ناسياً ما كان بين اليهود والسامريين من خلاف. وفيه مَثَل الفريسي والعشار، وقصة الابن الضال، وقصة مريم المجدلية، وتوبة اللص التائب بكل ما فيها من اللمسات الإنسانية.
ويظهر لوقا لنا الجانب الاجتماعي من حياة المسيح نفسه، إذ يُرينا إياه في صلاته العائلية، وصداقته للناس. منها تناول العشاء في بيت سمعان الفريسي، وبيت زكا العشار.
وفي كتابات لوقا نلتقي بيسوع الصديق والأخ، الذي يقف إلى جانبنا مبيّناً لنا شعوره معنا في كل تجاربنا وأحزاننا. ففيه نرى المحب المهتم باليتامى والأرامل والمنبوذين والمطرودين من أجل البر، والمعذَّبين في الأرض.
ويُظهر لوقا إنسانية المسيح في صلواته الانفرادية وهو يقيم الشركة مع أبيه. وذكر أنه حينما مارس المعمودية في نهر الأردن كان يصلي، فانفتحت السموات وحلّ عليه الروح القدس. وأنه بعدما شفى أمراض الجموع الذين تبعوه إلى البرية وأشبعهم من سمكتين وخمسة أرغفة، ذهب إلى مكان خلاء ليصلي. وحين أراد أن يختار الاثني عشر رسولاً خرج إلى الجبل وقضى الليل كله في الصلاة. ومرة بعد أن صلى علَّم تلاميذه كيف يصلّون، وقدم لهم نموذجاً حياً للصلاة الواجب أن تُقال أمام الله.
كتب يوحنا إنجيله للمؤمنين بالمسيح من كل أمة، ليثبّتهم في إيمانهم بيسوع ابن الله ونور العالم وحياته. وهذا يظهر في قوله: «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ٢٠: ٣١).
ومن مزايا الإنجيل بحسب يوحنا أنه إنجيل الحق، فقد وردت فيه كلمة «الحق» اثنتان وستون مرة. وتكررت «الحق الحق» أربع وعشرون مرة في هذا الإنجيل، على لسان المسيح وحده. فالمسيح هو الحق الذي يقول الحق، كل الحق.
ويمتاز إنجيل يوحنا بأنه يناسب كل قارئ مهما كانت لغته وجنسيته، ففي صفحاته كلمات جامعة تناسب جميع البشر في كل جيل وعصر، وكأنها تقوم أمامه واثبةً لتحيّيه بلغته الخاصة، لأنها تلامس القلب «المحبة، الحياة، النور، الحق، الخبز، الماء».
كل هذا يؤكد لنا أن إنجيل يوحنا هو كتاب العالم أجمع، وأنه قُدس أقداس الآداب المسيحية، وفيه نسمع أقدس وأعمق الإعلانات السماوية. فلا عجب إذا جادت قرائح المؤمنين بأمجد الألقاب على هذا السفر الإلهي، كقولهم: «بشارة الأبدية. تعبير قلب الله. إنجيل الحب الخالص».
وقال القديس أوريجانس إن إنجيل يوحنا تاج الأناجيل، كما أن الأناجيل هي ختم الكتب المقدسة. وقال رجل الإصلاح العظيم مارتن لوثر إن إنجيل يوحنا كتاب رقيق الحواشي.
حين نطالع الإنجيل بحسب يوحنا، نرى أنه يتكلم مطوَّلاً عن أمجاد المسيح، فاستهل سفره بالقول: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ، وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا. اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١-١٨).
صحيح أن الإنجيليين الآخرين رأوا وأعلنوا مجد المسيح، ولكن يوحنا الملقَّب بالحبيب، واللاهوتي، كان يتمتع بروحٍ تأمُّلي مدهش وبمحبة فائقة لسيده، لأنه تأهَّل من الله ليرى من خلال إعلانات يسوع عظمة الله الذي ظهر في الجسد. فلم يبدأ إنجيله من حادثة زمنية كميلاد يسوع بن داود بن إبراهيم، ولا من خلق آدم، ولا من شروع المسيح في خدمته بين الشعب، بل بدأ من أعماق الأزل، إلى أن أُعلن ظهوره كوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمة وحقاً.
ثم يحشد في إنجيله طائفةً من إعلانات المسيح عن علاقته بالآب، كقوله: «أنا والآب واحد». «أنا في الآب والآب فيَّ». «من رآني فقد رأى الآب». «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي». «أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا...».
وحين نقارن بين الإنجيل بحسب يوحنا والأناجيل الأخرى، نرى أنه يمتاز عنها في أمور أخرى كثيرة، منها أن متى ومرقس ولوقا يخبروننا خصوصاً عن تاريخ حياة المسيح على الأرض وسيرته بين الناس، وعن الأمور التي حدثت له في مدة ثلاث سنين ونصف قضاها في خدمته الجهارية. أما يوحنا فيحدثنا عن أسرار شخصه ولاهوتيّة تعاليمه. والحوادث التي ذكرها يوحنا عن سيرة المسيح هي في الأغلب التي لم يذكرها البشيرون الآخرون، والسبب أن يوحنا كتب إنجيله بعد زملائه بعدة سنين. وكان قد رأى ما كتبوه وفحصه وسلّم بصحته. ولا ريب في أنه لو رأى فيها خطأً لكان قد أصلحه، بصفته رسولاً ملهَماً أُوحي إليه.
هذا الإنجيلي الملهم من الله، كتب إنجيله ملحقاً بالأناجيل الثلاثة الأولى لتتضمَّن الأناجيل الأربعة معاً خبراً مستوفياً عن كل ما تجب معرفته عن الرب يسوع.
فأنت ترى معي أن لكلٍ من الأناجيل الأربعة ميزاته الخاصة التي ينفرد بها، ولكنها كلها مجتمعة معاً لها قصد واحد هو أن تصف لنا يسوع الناصري المنقذ المنتظَر ومشتهَى كل الأمم.
وخلاصة البحث هو أن متى كتب لليهود الذين بين أيديهم كتب الأنبياء القدماء، ومرقس كتب للرومان الذين كانوا أصحاب مملكة قوية ذات سلطة عظيمة، ولوقا كتب لكل الأمم بدون تمييز، ويوحنا كتب للمؤمنين بالحق.
في الإنجيل الأول يظهر يسوع كمسيح الأنبياء، وفي الثاني يبدو كالقادر على كل شيء والغالب الأعلى لكل ملوك الأرض، وفي الثالث يتراءى كحبيب الجنس البشري، وفي الرابع كابن الله ونور العالم وحياة العالم.
كتب متى ومرقس ولوقا الإنجيل للعالم غير المؤمن، يهوداً ورومان وأمماً، أما يوحنا فكتب الإنجيل بنوع خاص لكنيسة المسيح المؤلَّفة من الذين دُعوا من هذه الأمم وصاروا بالنعمة من أهل بيت الله.
ومع ذلك فمن أول كلمة في متى إلى آخر كلمة في يوحنا لا نرى إلا رباً واحداً، هو يسوع المسيح الذي تجسّد وصار إنساناً ليفدينا من لعنة الناموس، يتلألأ في جميعها بمجده الوحيد من الآب. إلا أنه بدافع حبه الفدائي أخلى نفسه آخذاً صورة عبد وصائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه، أي تسربل بمسكنة الإنسان، وتجرّب بتجاربه واختبر كل آلامه. وإذ تألَّم مجرباً يقدر أن يُعين المجرَّبين، فحرَّك في قلوبنا عواطف المحبة نحو شخصه، وصار موضوع عبادتنا. وحين ارتفع من دنيانا جذب أنظارنا نحو السماء، من حيث ننتظر عودته ثانية ليغيّر « شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ» (فيلبي ٣: ٢١).
فنحن إذن، كما قال الرسول بطرس، لم نتبع خرافات مُصنعة، بل آمنا بإنجيلٍ كتبه لنا جماعة أمناء، عن شهود العيان الذين عاينوا عظمة يسوع. وحين كتبوا أسفارهم كانوا مسوقين من الروح القدس.
وقد شهد الرسول بولس مؤكداً هذه الحقيقة، إذ قال: «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ»(٢ تيموثاوس ٣: ١٦ و١٧).
أيها القارئ العزيز،
إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.
للاتصال بنا