هل رحب الأقــباط بالفتح العربى

الفهرس 

مقدمة

 

الفصل_الأول

هل حقا رحب الأقباط بالفتح العربى؟ .............

الإدعاء الأول

لتخليصهم من ظلم الرومان ..............

الإدعاء الثانى

ما سمعوه عن العرب من العدل والرحمة ...........

الإدعاء الثالث

قصة السبعون ألف راهب.............

الإدعاء الرابع

ظهور البابا بنيامين بعد نداء عمرو بن العاص .....

الإدعاء الخامس

دين الإسلام قريب من عقيدة الأقباط .............

الإدعاء السادس

العهود والشروط التى فرضها الفاتحين العرب ......

الإدعاء السابع

إكرام العرب لأرمانوسة ابنة المقوقس ..............

الفصل الثانى

ملخص وقائع الفتح العربى ..........................

 

المقدمة

            هذا البحث ليس تأليفاً بل هو تجميع وتلخيص وربط لأهم ما كُتب حول هذا الموضوع من كتابات ودراسات، قام بها ثلاثة أطراف:

1 ـ أقباط (مصريون).  

2 ـ عرب غزاه فاتحون.  

3 ـ أجانب بالنسبة للطرفين.

            وأود أن أذكر بوضوح، منذ البداية، أن كلمة أقباط أو قبطي، أعني بها هنا كل مصري يشعر بانتمائه الحقيقي لمصر، القبطي المسلم، والقبطي المسيحي، فالدين أو العقيدة لا يمكن ولا ينبغي أن تغير الانتماء الحضاري للإنسان، فكلمة قبطي تعني مصري، فجميع المصريون أقباط، جزء أعتنق المسيحية وجزء أعتنق الإسلام، كما أوضح ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، أحد كبار قادة المسلمين في مصر، خلال الخمسينات والستينات، وهو فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف الأسبق.

            لقد تعرض الشعب القبطي خلال تاريخه الطويل إلى أقصى ما يمكن أن يتعرض له أو أن يمر به شعب من شعوب الدنيا كلها، من المرارة والمعاناة والألم، تعرض الأقباط إلى عاملين مؤثرين خطيرين هما :

1 ـ مسخ الشخصية القبطية وفقدان الهوية والانتماء الحقيقي.

2 ـ تزييف التاريخ القبطي وتزويره أو إهماله وتجاهله.

            لقد فرض على الأقباط التنكر لشخصيتهم الحضارية، ألبسوهم ثوبا غير ثوبهم، فرضوا بالإكراه على ألسنتهم لغة ليست لغتهم، جعلوهم يمارسون عادات ذميمة ليست عاداتهم، ينسبونهم إلى آباء الجاهلية والجهل الذين ليسوا هم في الحقيقة آبائهم، جعلوا كثيرين منهم، بالإظلام الفكري أعداء أنفسهم، لأنهم أصبحوا يجهلون قيمة   تراثهم، وعظمة حضارتهم، والإنسان أحياناً يكون عدو ما يجهل.

            وقع الأقباط بعد ذلك في مشكلة تحديد هويتهم، وكما يذكر الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، في أحد مقالاته الأسبوعية، بصراحة، في جريدة الأهرام سنة 68  وتحت عنوان: "عن التجربة الديموقراطية في زماننا" كتب يقول:

"إن النظام المصري وقع في مشكلة تحديد الهوية المصرية ولم يستطع لفترة طويلة أن يصل فيها إلى جواب، والهوية الوطنية بالنسبة للشعوب هي بطاقة تحقيق الشخصية بالنسبة للأفراد،  وكانت النتيجة أن وقعت اهتزازات حضارية خلقت مواقف من الحيرة والتردد الطويل أمامها. وعلى سبيل المثال، فإنه في وقت من الأوقات، وخصوصاً أيام الوحدة مع سوريا، كانت أي إشارة إلى تاريخ مصر الفرعوني القديم، تعتبر إساءة لا تغتفر أو هي سقطة تستوجب الاعتذار عنها".

            والمؤثر الثاني الخطير الذي تعرض له الأقباط، وهو محاولة تزييف تاريخهم وقلب حقائقه، أو تعمد إهماله وتجاهله، وأحد أمثلة هذا التزييف وقلب الحقائق، هو موضوع الفتح العربي لمصر، كما يحلو للكتّاب العرب دائماً أن يعرضوه، أما موضوع التجاهل والإهمال للتاريخ القبطي، والحضارة القبطية، عن عمد، وبقصد وإصرار، فإنه لا يزال يتضح من مواقف كثيرة متكررة، فمثلا، أليس من الغريب أن تضم  جميع جامعات العالم المتحضرتقريباً أقساما في كلياتها لدراسة مواد علم القبطيات، ما عدا مصر!

     حتى لقد  أصبح هناك شبه تقليد روتيني لمؤتمر القبطيات العالمي والذي ينعقد مرة كل أربع سنوات في إحدى الدول المتقدمة، ويحضره مئات العلماء والدارسين  والباحثين حول هذا الموضوع من جميع أنحاء العالم، بأن يوصي بمناشدة المسئولين في مصر، السماح بإنشاء قسم لدراسة مادة القبطيات في إحدى الجامعات أو المعاهد المصرية، مهد علم القبطيات، أسوة بجامعات و معاهد العالم المختلفة.

            الهدف من هذا البحث هو محاولة إظهار الحقيقة مهما كانت مؤلمة، فهذا خير من تقديم الصور المزيفة مهما كانت جميلة. ربما يعطي التزييف تأثير المخدر في بعض الحالات، ولكن الخطورة أن يتحول تكرار تعاطي هذا المخدر إلى إدمان، وتصبح طريقة التعامل مع المشاكل هي الهروب من المواجهة الصريحة إلى هذا التزييف وتقديم الصور الجميلة المخادعة، غير الحقيقية، تماما كما يفعل مدمن المخدرات عندما تواجهه مشكلة، تجده يهرب منها إلى المخدر الذي يعطيه الشعور بالسعادة والسعادة الوقتية المزيفة، والتي سرعان ما تزول بزوال تأثير المخدر، ليواجه نفس المشكلة وقد أصبحت أكثر تعقيدا من المرة السابقة وهكذا.

     أتمنى أن نقلع تماما عن عادة تعاطي الأكاذيب وتزييف الحقائق لنصبح قادرين على مواجهة مشاكلنا بوعي وإيجاد الحلول الحقيقية والواقعية لها ، لنثبت أننا أبناء مصر العريقة ، مصر التي تعيش فينا حتى وإن كنا لا نعيش فيها.

 

فرانكفورت                                                                    الأب بيجول باسيلي

قام بالتدقيق اللغوى : المحامى عبد الكريم بشير ـ  المانيا.

قام بالجمع التصويرى على الكمبيوتر :  هانى حنا 
 

الفصل الأول

هل رحب المصريون (الأقباط) بالفتح العربي لمصر ؟

لكي تكون الإجابة على هذا السؤال وغيره من الأسئلة المتصلة بهذا الموضوع إجابة كافية واضحة،  أرى أنه لابد أن يتناول البحث والدراسة ثلاثة جوانب أساسية متصلة به وهي :‎ ـ‎

1ـ الجانب التاريخي.

2ـ الجانب التحليلي والمنطقي.

3ـ الجانب الإيماني والعقائدي لدى الأقباط.

            وربط هذه الجوانب الثلاثة ببعضها يمكن أن يفيد كثيرا في إجلاء الحقائق. ولكي تتكامل الصورة التاريخية الحقيقية وتتضح معالمها دون تزييف أو تمويه وبلا أقنعة أو حجاب لإخفائها، فأنه من الأهمية بمكان أن نستند إلى ثلاثة أنواع من المصادر التاريخية التى تناولت هذا الموضوع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وهذه المصادر التاريخية الثلاثة هي :-

1ـ مصادر إسلامية عربيه  [ شهد شاهد من أهلهم ]

2ـ مصادر قبطية            [ شهادة المجني عليهم ]

3ـ مصادر أجنبية           [ شهادة طرف محايد ]

            فالمصادر العربية الإسلامية  في هذا الموضوع من أهمها:

      كتابات المقريزى الملقب بشيخ مؤرخي مصر الإسلامية وعميد المؤرخين السالفين جميعا، من ابن الحكم إلى الجبرتي، كما يصفه الأستاذ الدكتور محمد مصطفى زياده وآخرون في مجموعة أبحاث ودراسات عن المقريزي أصدرتها وزارة الثقافة ـ الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ـ القاهرة ـ 1973

     وكذلك مجموعة كتب أخرى هامة مثل كتاب  تاريخ أديرة وادي النطرون  للأمير عمر طوسون ـ طبع في القاهرة سنة 1935

     وكتب الأستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ـ أستاذة التاريخ بكلية البنات ـ جامعة عين شمس ـ  وكتب الدكتور ضياء الدين الريس، وغيرهم .

            والمصادر القبطية لهذا الموضوع أهمها على الإطلاق، هو كتاب تاريخ يوحنا النقيوسى أسقف نقيوس ـ أبشاتي ـ بالمنوفية الآن، والذي عاصر مأساة الفتح العربي لمصر في القرن السابع الميلادي، وسجل مشاهداته لأحداثها الدامية. وقد كتب كتابه بلغته القبطية ثم ترجم فيما بعد إلى اللغة الحبشية والعربية، ولكن فُقدت النسخ القبطية والعربية وعثرت البعثة البريطانية إلى بلاد الحبشة على النسخة الحبشية، وتوجد الآن في المتحف البريطاني بلندن، ونسخه في المكتبة الأهلية بباريس، وقام المستشرق زوتنبرج بالترجمة من الحبشية إلى الفرنسية، ثم قام المؤرخ كامل صالح نخله بالترجمة من الفرنسية إلى العربية سنة 1948.

ويقول الدكتور الفريد بتلر: "أنه لم يكن في الإمكان أن يكتب تاريخ الفتح العربي لمصر لولا العثور على هذه النسخة"  ـ بتلر صفحه 30

كذلك كتاب تاريخ البطاركة للأنبا ساويرس أسقف الأشمونين، وكتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف ايسوذورس، وكتاب البابا بنيامين الأول والفتح العربي لمصر، للمؤرخ كامل صالح نخله وغيرهم.

            والمصادر الأجنبية التي تناولت هذا الموضوع أهمها كتاب فتح العرب لمصر تأليف الدكتور ألفريد بتلر، وتعريب محمد فريد أبو حديد بك، والناشر مكتبة مدبولى ـ القاهرة 1990 ضمن سلسلة كتب صفحة من تاريخ مصر. وقد وصف المعرب في مقدمة الكتاب بأن المؤلف ألفريد بتلر رجل باحث لم يقصد من تأليفه كتابه إلا بيان الحقيقة ناصعة وأنه كان نزيها في بحثه، وأن المؤلف فضل التعرض لبعض مفتريات التاريخ كانت شائعة بين الناس يأخذونها تلقفا بغير تمحيص ـ وأنه تناول في بحثه مسألة طالما رددها المؤرخون وهي اتهام المصريين القبط بأنهم كانوا دائما يرحبون بالغزاة الأجانب وأظهر كذب ما ادعاه المغرضون من المؤرخين. ـ صفحة 20 ـ           

ويقول المؤلف نفسه في مقدمته : " قد حاولنا كذلك أن نكتب بغير تحيز إلى جانب القبط أو العرب، كنا ممن يحملون لكلا الشعبين العربي والقبطي أكبر الإعجاب ، على أننا لا يحملنا ذلك على الانحياز لأحدهم فما كان لنا إلا قصد واحد وهو أن نصل إلى الحق". ـ ص 43،42

ويمكننا تلخيص أهم الحجج والأدلة التي يرددها الكُتاب العرب لتبرير ادعائهم بموضوع ترحيب الأقباط بالفتح العربي فيما يلي :

1 ـ لتخليصهم من ظلم الرومان.

2ـ لما سمعوه ولمسوه في العرب من العدل والرحمة والسماحة وحسن المعاملة .   

3ـ قصة السبعون ألف ـ 70000 ـ راهب.

4ـ ظهور البابا بنيامين.

5 ـ  دين الإسلام قريب من عقيدة الأقباط.

6ـ العهود والشروط بين العرب والأقباط .    

7ـ إكرام العرب للأرمانوسه ابنة المقوقس.

     هذه هي أهم الادعاءات والحجج التي يطلقها الكُتاب والمؤرخون العرب كدليل منهم على أن الأقباط قد رحبوا بالفتح العربي لمصر، وكما يقول بتلر : " إنها مسألة يحب المؤرخون العرب الخوض فيها رغم ما يقعون فيه من الخلط والاختلاف،  ...وذلك لأن عهدنا بكُتاب العرب لا يحسنون تفهم التاريخ ولا يدركون نظامه ولا يعبأون بأحكام الصلة بين حوادثه، وأن أول من كتب تاريخ الفتح العربي من مؤرخي العرب كتبه بعد نحو مائتي عام منه، لذلك لم يكن عجبا ذلك الخلط الذي وقع في الرواية والتشويه الذي أصابها". ـ صفحة 345 ـ

ولنناقش باختصار هذه النقاط من مختلف الجوانب التاريخية والمنطقية والعقائدية.

 

الادعاء الأول

رحب الأقباط بالعرب لتخليصهم من ظلم الرومان

     لقد كان الفاتحون العرب واضحين كل الوضوح، في هدفهم المعلن الصريح من مجيئهم إلى مصر فاتحين، ولم يذكر أحداً منهم موضوع أو قصة الإنقاذ هذه ، لم يذكر هذا الادعاء الا بعض الكتاب المحدثين، وكما تقول الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، في كتابها (عبد العزيز بن مروان)،سلسلة كتب أعلام العرب، تقول في صفحة 132 : "أننا لانجد في المراجع القديمة ما يشير اليه بعض المحدثين من أن الأقباط استنجدوا بعمر بن الخطاب لينقذهم من ظلم الروم".

لم يكن هدفهم إنقاذ أحد أو مساعدة أحد

     الذي يدعي هذا الادعاء بلا شك لا يعلم أن الجانب الإيماني والعقائدي لدى الأقباط كمسيحيين يرفض تماما فكرة أو مبدأ اللجوء إلى إنسان ليخلصهم من إنسان آخر، ففي صلوات الأجبيه التي يصليها الأقباط كل يوم، يقول مزمور 145 من مزامير صلاة الساعة الثانية عشر:

"لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم في ذلك اليوم تهلك كافة أفكارهم  طوبى لمن اله يعقوب معينه واتكاله على الرب إلهه الذي صنع السماء والأرض .."

وفي سفر أرميا 17 :5  "هكذا قال الرب ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبه".

وفي المزمور 118 : 9,8  "الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء".

وفي المزمور 103 : 15 ـ 18  "الإنسان مثل العشب أيامه كزهر الحقل كذلك يزهر. لأن ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد. أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه وعدله على بني البنين، لحافظي عهده وذاكري وصاياه ليعملوها ".

     وهكذا عشرات الآيات المقدسة التي توجه وتعلم وتحذر من الاتكال أو اللجوء إلى إنسان لينقذنا أو يخلصنا من إنسان آخر، فالاتكال على إنسان مهما كان وضعه أو مكانته أمر مرفوض تماما من جهة العقيدة لدى الأقباط بغض النظر عن الأوضاع مهما كانت سيئة أو قاسية. وإذا كان الأقباط قد رحبوا بالعرب ليخلصوهم من ظلم الرومان، فلماذا لم يرحبوا بالمستعمرين الآخرين الذين جاؤا بعد العرب ليخلصوهم من ظلم العرب؟

     الحقيقة أن الأقباط حرصوا بكل دقة وعناية على تنفيذ مبادئ وتعاليم كتابهم المقدس التي ترفض وتحذر وتحرم الالتجاء أو الاستعانة بإنسان مهما كانت مكانته ليخلصهم من إنسان آخر مهما كان ظلمه أو جبروته.

     والتاريخ أصدق شاهد على ذلك، والمؤرخ بتلر وغيره يؤكدون أنه لم يرحب القبط بالفرس ليخلصوهم من الرومان، كما لم يرحبوا بالرومان ليخلصوهم من الفرس بعد ذلك ، كما لم يرحبوا بالعرب ليخلصوهم من الرومان، كما لم يرحبوا بأى فاتح أو مستعمر بعد ذلك ليخلصهم من العرب.

     والسلوك العملي والمواقف الكثيرة المتكررة تؤكد هذا المفهوم الراسخ لدى الأقباط وتثبته بكل وضوح وجلاء. فمثلا يذكر كتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف ايسيذوروس ـ الجزء الثاني صفحة 126 ـ  موقف البابا خائيل الأول البابا (46) (728 ـ 752م) من كرياكوس ملك النوبة المسيحي أيام عبد الملك بن مروان (741 م) عندما جاء كرياكوس لإنقاذ البابا من يد عبد الملك بن مروان الذي كان قد فرض إتاوة كبيرة من المال على البابا وسجنه لمدة 17 يوما ثم أطلقه ليجمع قيمة الإتاوة المفروضة عليه من أبنائه الأقباط، ولكن البابا لم يستطع أن يجمع أكثر من نصف الإتاوة فقط، فغضب عبد الملك بن مروان وألقاه مرة أخرى في السجن، ولما سمع بذلك ملك النوبة كرياكوس، جهز جيشا كبيرا سار به حتى وصل إلى مشارف الفسطاط، ولكن عبد الملك بن مروان أسرع وأخرج البابا من السجن، وكان أول ما فعله البابا خائيل بعد خروجه من السجن أنه طلب من الملك كرياكوس العودة من حيث أتى رافضا تدخله لفرض حمايته على الأقباط. 

     ومن الأحداث الشهيرة الأخرى التى تدل على هذا الفكر وهذه العقيدة الرافضة لطلب الحماية من إنسان، كعقيدة راسخة لدى الأقباط، ما حدث مع البابا بطرس الجاولى [البابا109] (1809 ـ1852 م) أيام محمد علي باشا (1809 ـ1848م) والى مصر، عندما جاءه سفير دولة روسيا، والتي كانت تعد أكبر دولة مسيحية أرثوذكسية ويحكمها قيصر، جاء هذا السفير ليعرض  على البابا بطرس موضوع حماية قيصر روسيا للأقباط، ولكن البابا بطرس رفض هذا العرض، ورد على السفير بهذه الجملة الذهبية ( نحن في حمى من لا يموت ).[أنظر سيرة البابا بطرس الجاولي، سنكسار7 طوبه]. 

     وتقرر الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ، أستاذة التاريخ الإسلامي، كلية البنات جامعة عين شمس ، في كتاب عبد العزيز بن مروان، سلسلة أعلام العرب رقم 70 إصدار وزارة الثقافة ،ص132، حقيقة هامة إذ تقول: " على أننا لا نجد في المراجع القديمة ما يشير إليه بعض المحدثين من أن الأقباط استنجدوا بعمر بن الخطاب لينقذهم من ظلم الروم ".

     كذلك فقد رفض الأقباط بشدة جميع أنواع وطرق فرض الحماية عليهم أو إنقاذهم  من ناحية جميع المستعمرين والغزاه الذين جاؤا يتذرعون بمقولة حماية الأقباط ، رغم ما كان يعانيه الأقباط من الظلم والاضطهاد والقسوة.

     والحقيقة أن أكذوبة الترحيب هذه، هي الأكذوبة الشهيرة التي يتذرع بها ويطلقها دائما كل مستعمر أو فاتح أو محتل، يكاد لا يشذ عنها أحدا منهم على مدى التاريخ وفي كل مكان، هي ستار شفاف يحاول الفاتح أو الغازي أو المحتل أن يغطي به دوافعه الحقيقية، متوهما أنه قد استطاع أن يخفي الحقيقة، وأن يضفي على وجوده صفة الشرعية بأن الأهالي هم الذين استنجدوا ورحبوا به، ولا مانع عنده من أن يلصق بالمواطنين تهمه الخيانة ليسقط عن نفسه جريمة الاغتصاب.

     حدث هذا ويحدث  ليس فقط مع من فتحوا أو احتلوا أو استعمروا مصر، بل مع غالبية الشعوب التي نكبت بالفتح أو تعرضت للغزو أو الاستعمار، هي نفس الحجة والأكذوبة وهو هو نفس الأسلوب الملتوي والمخادع لتبرير الأحداث.

 
الادعاء الثاني

 رحب الأقباط بالفتح العربي لما سمعوه ولمسوه في العرب من العدل والرحمه والسماحة وحسن المعاملة.

ولنعود هنا إلى التاريخ لنستعرض بعض الأحداث المؤلمة والأعمال الوحشية التي صاحبت الفتح العربي لمصر، والتي تنفي هذا الادعاء تماما.

ا ـ تخريب القرى وسبي أهلها وقتلهم.

     وقد كانت قرى من قرى مصر قاتلت، فسبوا منها قرية يقال لها بلهيب، وقرية يقال لها الخيس، وقرية يقال لها سلطيس... فوقع سباياهم بالمدينة، فردهم عمر بن الخطاب إلى قراهم، وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمة.

     وعن يزيد بن أبي حبيب أن عمرا سبى أهل بلهيب وسلطيس وقرطيا وسخا، فتفرقوا وبلغ أولهم المدينة حين نقضوا  ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردهم، فرد من وجد منهم.

     وفي رواية أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب في أهل سلطيس خاصة: "من كان منهم في أيديكم فخيروه بين الإسلام، فأن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وان اختار دينه، فخلوا بينه وبين قريته". 

     وفي رواية أن أهل سلطيس وقرطيا وبلهيب ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم فلما ظهر عليهم المسلمون،  استحلوهم وقالوا : هؤلاء لنا فئ مع الإسكندرية، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر، أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ذمة للمسلمين، وتضرب عليهم الخراج، ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط قوة للمسلمين على عدوهم، ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا ففعل ذلك  ويقال إنما ردهم عمر رضى الله عنه لعهد كان تقدم لهم.

كتاب الخطط للمقريزي الجزء الأول(8) صفحة 309 و 310

     وكان عمرو حين توجه إلى الإسكندرية، خرب القرية التي تعرف اليوم بخربة وردان.  واختلف علينا السبب الذي خربت له، فحدثنا سعيد بن عفير أن عمرو لما توجه إلى نقيوس لقتال الروم، عدل وردان لقضاء حاجته عند الصبح، فاختطفه أهل الخربة فغيبوه، ففقده عمر وسأل عنه وقفا أثره، فوجدوه في بعض دورهم فأمر باخرابها وإخراجهم منها.

     وقيل كان أهل الخربة رهبانا كلهم، فغدروا بقوم من ساقة عمرو، فقتلوهم بعد أن بلغ عمرو الكريون، فأقام عمرو ووجه إليهم وردان فقتلهم وخربها، فهي خراب إلى اليوم.

     وقيل كان أهل الخربة أهل تويت وخبث، فأرسل عمرو إلى أرضهم فأخذ له منها جراب فيه تراب من ترابها، فكلمهم فلم يجيبوه إلى شئ، فأمر بإخراجهم، ثم أمر بالتراب ففرش تحت مصلاه، ثم قعد عليه، ثم دعاهم فكلمهم، فأجابوه إلى ما أحب ثم أمر بالتراب فرفع، ثم دعاهم فلم يجيبوه إلى شئ ... فعل ذلك مرارا. فلما رأى عمرو ذلك قال : هذه بلدة لا يصلح أن توطأ، فأمر باخرابها.

كتاب الخطط للمقريزي ـ الجزء الأول(8) صفحة 313 و 314 

ويذكر يوحنا النقيوسي في الفصل ( 112 ) الثاني عشر بعد المائة استيلاء العرب على إقليم الفيوم وبويط فيقول :

" أن العرب استولوا على إقليم الفيوم وبويط وأحدثوا فيهما مذبحة هائلة".

وفي الفصل (115 ) يذكر فتح أنصنا وبلاد الريف ونقيوس فيقول: " في زمن الصيف سار عمرو إلى سخا وطوخ دمسيس أملا في إخضاع المصريين قبل الفيضان ولكنه فشل، وكذا صدته دمياط حيث أراد أن يحرق ثمار المزارع وأخيرا عاد إلى جيوشه المقيمة في بابيلون مصر وأعطاهم الغنيمة التي أخذها من الأهالي الذين هاجروا إلى الإسكندرية بعد أن هدم منازلهم وبنى من الحديد والأخشاب التي جمعها من الهدم قنطرة توصل بين قلعة بابيلون ومدينة البحرين ثم أمر بحرق المدينة، وقد تنبه السكان إلى هذا الخطر فخلصوا أموالهم وتركوا مدينتهم، وقام المسلمون بحرقها، ولكن السكان عادوا إلى المدينة وأطفأوا الحريق، ووجه المسلمون حملتهم على مدن أخرى ونهبوا أموال سكانها وارتكبوا ضدهم أعمالا عنيفة .."

     ويذكر يوحنا النقيوسي في الفصل (118) الاستيلاء على نقيوس (بعد هروب الجيش الروماني من المدينة) فيقول: " أتى المسلمون بعد ذلك إلى نيقيوس واستولوا على المدينة ولم يجدوا فيها جنديا واحدا يقاومهم، فقتلوا كل من صادفهم في الشوارع وفي الكنائس، ثم توجهوا بعد ذلك إلى بلدان أخرى وأغاروا عليها وقتلوا كل من وجدوه فيها، وتقابلوا في مدينة صا باسكوتارس ورجاله الذين كانوا من عائلة القائد تيودور داخل سياج كرم فقتلوهم، وهنا فلنصمت لأنه يصعب علينا ذكر الفظائع التي ارتكبها الغزاة عندما احتلوا جزيرة نيقوس في يوم الأحد 25 مايو سنة 642 في السنة الخامسة من الدورة".

ويذكر الدكتور الفريد بتلر في كتابه [فتح العرب لمصر] ص 323 : "ويرد مع هذه الأخبار ذكر غزوة للقرى التي على فرع النيل الشرقي، قيل ان العرب قد بلغوا فيها مدينة دمياط، ولعل تلك الغزوة كانت على يدي سرية عمرو في هذا الوقت نفسه. ولم يكن من أمرها غير إحراق المزارع، وقد أوشكت أن ينضج ثمرها، فلم تفتح شيئا من المدائن في مصر السفلى. ولنذكر أن العرب قضوا في عملهم في هذا الإقليم اثني عشر شهرا إلى ذلك الوقت. وبعد ذلك الغزاة التي أوقع فيها عمرو بالبلاد وغنم منها عاد إلى حصن بابليون ومن معه دون أن يجني كبير فائدة، وان لنا لدلالة في غزاته تلك في مصر السفلى، وما لاقاه فيها من القتال في مواضع كثيرة، وعجزه في جل ما حاوله من الفتح في بلاد الشمال القصوى.  فان ذلك يزيدنا برهانا على ما تحت أيدينا من البراهين على فساد رأيين يذهب إليهما الناس:

أولهما أن مصر أذعنت للعرب بغير أن تقاتل أو أن تدافع.

وثانيهما أن المصريين رحبوا بالفاتحين ورأوا فيهم الخلاص والنجاة مما هم فيه".

أليس ادعاء غريب أن التخريب يقابل بالترحيب والقتل والسبي والتدمير يقابل بالسرور والتقدير

2ــ نهب الكنوز والأموال ومصادرة الأملاك وفرض الإتاوات.

كان العرب ينظرون إلى مصر من الناحية المالية على أنها بقرة حلوب وقعت تحت أيديهم، ويختلفون فيما بينهم حول من الذي يمسك بقرون هذه البقرة ومن الذي يحلبها ويأخذ لبنها، وأن خراجها فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم. فلما هزم الله الروم أراد عثمان رضى الله عنه أن يكون عمرو ابن العاص على الحرب وعبد الله بن سعد على الخراج، فقال عمرو: أنا إذا كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها .. فأبى عمر.                                                                                                        المقريزي الجزء الأول(8) صفحة (309 و 314 )

     وكانوا أيضا ينظرون إلى مصر وأهلها على أنهم خزانة لهم. فقد قال هشام بن أبي رقية اللخمي: قدم صاحب اخنا على عمرو بن العاص رضى الله عنه، فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها. فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك، إنما أنتم خزانة لنا، ان كثر علينا كثرنا عليكم، وان خفف عنا خففنا عنكم، ومن ذهب إلى هذا الحديث، ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة.

     وقد كرر المقريزي هذه القصة مرتين في الجزء الأول (4و8) صفحة 141 و313 وتحت عنوان ( ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط )  يذكر لنا المقريزي القصة التالية: "وعن هشام بن أبي رقية اللخمي أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر : ان من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. وان قبطيا من أرض الصعيد يقال له بطرس ذُكر لعمرو أن عنده كنزا، فأرسل إليه فسأله فأنكر وجحد، فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: لا  إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور. فأرسل عمرو إلى بطرس فنزع خاتمه، ثم كتب إلى ذلك الراهب أن ابعث إلى بما عندك، وختمه بخاتمه. فجاء الرسول بقلة شامية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها ( ما لكم تحت الفسقية الكبيرة ). فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء، ثم قلع البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين إردبا ذهبا مصريا مضروبة. فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم شفقا أن يبغى على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس.

وعن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر، لأنه استقر عنده أنه يظهر الروم على عورات المسلمين، ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعا وخمسين إردبا دنانير".                                المقريزي الجزء الأول(4) صفحة ( 140 ).

ويذكر يوحنا النقيوسي في الفصل (113) احتلال العرب لأتريب ومنوف: " أن عمر قبض على القضاة الرومانيين وقيد أيديهم وأرجلهم بالسلاسل والأطواق الخشبية، ونهب أموالا كثيرة وضاعف ضريبة المال على الفلاحين وأجبرهم على تقديم علف الخيول، وقام بأعمال فظيعة عديدة...

     وحدث الرعب في كل المدن المصرية وأخذ الأهالي في الهرب إلى مدينة الإسكندرية تاركين أملاكهم وأموالهم وحيواناتهم. وانضم إلى الغزاة الكثيرون من سكان مصر الأجانب الذين أتوا من الأقطار المجاورة واعتنقوا دينهم، ودخل الغزاة المدن واستولوا على أموال كل المصريين الذين هربوا".

     وفي الفصل (121) يقول يوحنا النقيوسي: "ويستحيل على الإنسان أن يصف حزن وأوجاع المدينة بأكملها فكان الأهالي يقدمون أولادهم بدلا من المبالغ الضخمة المطلوب منهم دفعها شهرياً، ولم يوجد من يقوم بمساعدتهم، وقد تركهم الله ودفعهم إلى أيدي أعدائهم".               

      وتحت عنوان ( ذكر خليج مصر ) يقول المقريزي: " قال ابن عبد الحكم، ذكر حفر خليج أمير المؤمنين رضي الله عنه: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: ان الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو بمصر: ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى العاصي بن العاص ... سلام. أما بعد، فلعمري يا عمر ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك، أن أهلك أنا ومن معي، فياغوثاه، ثم ياغوثاه  ....) فكتب إليه عمرو: ( من عبد الله عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين. أما بعد، فيالبيك ثم يالبيك، قد بعثت إليك بعيرا أولها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته). فبعث إليه بعير عظيمة. فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر رضي الله عنه، وسع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص يقسمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام ليأكلوا الطعام، ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره... فوسع الله بذلك على الناس".      

 المقريزي الجزء الثالث (30) صفحة (543 و 544)

3ـ مرارة الإذلال وقسوة الإهانات التي تعرض لها الأقباط             

     تناول هذا الموضوع الدكتور ا.س.ترتون الأستاذ بجامعة لندن، في كتابه [أهل الذمة في الإسلام] وذكر العديد من الحوادث والمواقف، فمثلا في صفحة 138 ونقلا عن كتاب فتوح البلدان للبلاذي ص 151: أنه قد أمر عمر  عمرو بن العاص بختم رقاب أهل مصر في وقت جباية جزية الرؤوس.

    ويذكر المقريزي في الجزء الأول (4) صفحة 140: "ثم كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا، ... ولا تدعهم يتشبهون بالمسلمين في ملبوسهم. وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان من حنطة وثلاثة أقساط من زيت في كل شهر لكل إنسان من أهل الشام والجزيرة، وودك، وعسل لا أدري كم  هو. ومن كان من أهل مصر فإردب في كل شهر لكل إنسان، ولا أدري كم الودك والعسل، وعليهم من البز الكسوة التي يكسوها أمير المؤمنين الناس، ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام" .                           

     وفي صفحة 158 يتحدث ترتون نقلا عن كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر ج1 ص178، عن التعليمات التي أصدرها الخليفة عمر بن الخطاب ـ ويقال أيضا أنه أصدر هذه التعليمات بشأن أتباع الملل المعاهدةـ فقال:  ( من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فانا لا نريدهم لعام أو لعامين، سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، وإذا جمعتكم وإياهم طريق فالجئوهم إلى أضيقها).

     يذكر ترتون هذه الأمور رغم تحيزه إلى الجانب العربي الإسلامي، هذا التحيز الذي يبدو واضحا عندما يحاول أن يبرر ما فعله العرب بطريقة غريبة، فمثلا عندما يحاول تبرير قتل المسلمين للنصارى ص147و148 يقول: " على أن الدافع لهذا الاضطهاد هو تعنت النصارى ورغبتهم الخاصة في الاستشهاد ولذلك فمن الصعب أن يلام المسلمون فيما فعلوه إزاءهم".

     وفي تبريره لهدم الكنائس، يقول في ص62: "وشهدت سنة 721 هجرية هجوما عاما على الكنائس المصرية، ورواية المقريزي مسهبة في الطول حتى اننا لنؤثر إيرادها مستقلة، ونكتفي بأن نشير إلى السبب في ذلك هو تعاظم النصارى على المسلمين، فعم الاضطهاد، وامتدت يد التخريب إلى عدة كنائس بالقاهرة وما حولها ، كما امتد السلب والنهب إلى ما فيها ، وأخذ منها جميع ما بها من الخشب".

ولكن على أية حال، فأننا نشكر للدكتور ترتون أمانته في ذكر الحقائق التاريخية الهامة المجردة، بغض النظر عن تحامله أو تحيزه عندما يعبر عن رأيه الشخصي الخاص به.               

     والجدير بالملاحظة هنا وبالنسبة لموضوع الإذلال (أذلوهم ولا تظلموهم ) هو الدافع والموجه لما وراء هذه الأحداث من فكر أو توجيه، أكثر من مجرد سرد وقائع تلك الأحداث المؤلمة.

الحقيقة أن الخلفية الفكرية والعقائدية وراء هذا الموضوع هو نص الآية 29 من سورة التوبة 9: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

وكلمة صاغرون، نجدها في قواميس ومعاجم اللغة العربية بمعنى أذلاء.

     فغير المسلم فى ظل الإسلام لابد أن يذل، وهذا ما فرضه عمرو بن العاص على المصريين، وأمرهم أن يختاروا واحدة من ثلاثة خصال، أعلنها لهم وكررها وشدد عليها وهي: إما الإسلام أو دفع الجزية عن يد وهم صاغرون وإما السيف.

كرر المقريزي ذكر هذه الخصال في الجزء الأول (14) ثلاث مرات صفحات 544 و 545 و 547. ويؤكدها د.ألفريد بتلر ص 284 .

     ولقد وصف أحدهم بعد ذلك أهل مصر وصفا قاسيا، وصفهم بأنهم لا ناس، فقد قال معاوية بن أبي سفيان: وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم الناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين لا ناس المسالمة، يعني القبط. المقريزي الجزء الأول (3) ص 91 وعندما أرسل عمرو بن العاص، وصفا لمصر حسب طلب الخليفة عمر بن الخطاب ذلك منه، يقول عمرو ضمن وصفه:".. يخرج أهل ملة محقورة وذمة مخفورة، يحرثون بطن الأرض و.."       الفريد بتلر ص 449 .

 
الادعاء الثالث

قصة السبعون ألف راهب (70000)

      قصة السبعون ألف راهب الذين خرجوا من وادي النطرون، وبيد كل واحد منهم عكاز، وتلقوا عمرو بن العاص بالطرانة مرجعه من الإسكندرية يطلبون أمانة لهم على أنفسهم وأديارهم.

     هذه القصة الوهمية، لابد أن مؤلفها كان يتمتع بخيال خصب، ولكن فاته أو غاب عن خياله أشياء أساسية كثيرة تنفي هذه القصة تماما وتهدمها من أساسها، منها:

1 ـ عدد الرهبان في وادي النطرون في ذلك الوقت لم يكن يصل ولا حتى إلى واحد إلى عشرون (20/1) من رقم السبعون ألفا المذكورة .

ولنقرأ في كتاب وادي النطرون ورهبانه وأديرته ومختصر تاريخ البطاركة، للأمير عمر طوسون، صفحة 40 ما يلي:

     "وعدد السبعين ألف راهب الذي ذكره المقريزي في عبارته الآنفة لا ريب في أن فيه مبالغة كبيرة، فقد روى المعاصرون كما سبق ذكر ذلك أنه لم يكن يوجد في هذه المنطقة أكثر 3500 راهب في أواسط القرن السادس الميلادي. وأنه لما كان دميانوس بطريركا أغار البربر على وادى النطرون ففر منه رهبانه، وأنه لما زاره بعد ذلك البطريرك بنيامين حوالى سنة 630م، أى قبل الفتح العربي بعشرة أعوام، وجد به عددا قليلا من الرهبان بسبب العوائق التي كانوا يلاقونها من البربر في سبيل تجمعهم من جديد، بل يؤخذ من هذه الرواية أن عدد الثلاثة آلاف والخمسمائة راهب الذين وجدوا في أواسط القرن السادس الميلادي كان قد نقص كثيرا قبيل الفتح العربي".

     ونضيف إلى ما قاله الأمير عمر طوسون، أن منطقة وادي النطرون أو برية شيهيت أو برية الاسقيط، كانت قد تعرضت لعدة عمليات سطو ونهب وتخريب من جانب قبائل الصحراء (العربان) أو من جانب الفرس الذين احتلوا مصر من سنة 617 م إلى سنة 628 م.

      فيذكر كتاب البابا بنيامين الأول، للمؤرخ كامل صلح نخلة، ص 17: "لقد كانت حالة البلاد في اضطراب، ففي سنة 583م قام في الغرب قبائل الصحراء الذين اغتصبوا مركز الأقاليم الليبية وغزوا مصر وتقدموا فيها حتى بلغوا شواطئ النيل بعد أن خربوا أديرة برية شيهيت ووادي النطرون، ولكنهم اضطروا إلى الارتداد بعد الموقعة التي شهرها عليهم القائد أرستوماك.

     ثم أغار الفرس على مصر سنة 627م دون أن يتمكن الإمبراطور من صدهم.. وكان الفرس أثناء الحصار (حصار الإسكندرية) يوقعون بما حول المدينة من الريف ولا سيما ما فيه من الأديرة. وقد كان بأرض الإسكندرية نحو الستماية من الأديرة لها حصون وأبراج، وقعت في أيدي الفرس وقتلوا من فيها من الرجال ونهبوا ما فيها من الأموال والذخائر وهدموا الكنائس والأبنية واستولوا على الكنوز العلمية التي كانت تملأ خزائنها".                                                            كتاب كامل صالح نخله ص20  و ابن المقفع كتاب 63 تاريخ ص 86

لذلك اضطر الرهبان الأقباط في وادي النطرون إلى اللجوء إلى الصعيد والاختفاء في الجبال، ولم يكن موجودا بأديرة وادي النطرون وقت الفتح العربي إلا أعدادا قليلة جدا من الرهبان. بل لقد كان البابا بنيامين الأول، هو نفسه  أيضا متخفيا يتنقل سرا من مكان إلى آخر.  وبعد أن تمكن الرومان من طرد الفرس من مصر سنة 628م، وعودة الاحتلال الروماني لمصر مرة أخرى، تجددت الخلافات القديمة بينهم وبين الأقباط أصحاب البلاد الشرعيين، ولم يكن الخلاف في حقيقته خلافا مذهبيا كما يتوهم أو يزعم البعض، بل كان خلافا وطنيا سياسيا بالدرجة الأولى، ألبسوه ثوب الخلاف المذهبي شكليا ومظهريا. وأى باحث مدقق لما حدث في مجمع خلقيدونية سنة451م، لابد أن يصل إلى هذه النتيجة الهامة وهي أن ما حدث في هذا المجمع، لم يكن سوى خلافا في الألفاظ والتعبيرات، ولم يكن أبدا خلافا في جوهر الأمور العقائدية أو اللاهوتية.

راجع تقارير لجنة اللقاء  بين الكنائس الخلقيدونية واللاخلقيدونية الذي عقد في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، في المدة من 20 إلى24 يونيو 1989م، ثم في جنيف (شامبيزيه) في المدة من 23 إلى 28  سبتمبر سنة1990م.

2ــ لم يكن من الممكن أن ينتظم سبعون ألف راهب  في مسيرة هائلة وبهذا الشكل الذي تصوره لنا هذه القصة الخيالية، دون أن يحصلوا على موافقة رئيسهم للقيام بهذه المسيرة، فكيف حصلوا على هذه الموافقة ؟ بينما  تؤكد جميع المصادر أن البابا بنيامين لم يكن موجودا، لا في الإسكندرية ولا في وادي النطرون ولا في أي مكان آخر معروف، يمكّنه من سهولة الاتصال وسرعته، بهذا الحشد الهائل من الرهبان. 

وتذكر الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، أستاذة التاريخ الإسلامي ـ كلية البنات جامعة عين شمس، في كتابها عن عبد العزيز بن مروان، سلسلة كتب أعلام العرب ـ رقم 70 إصدار وزارة الثقافة  ص 133: "أنه وان كنا لا نستطيع أن نأخذ بكل ما جاء فيها ( الروايات التي تدل على أن القبط ساعدوا العرب منذ دخولهم الأراضي المصرية حتى أتموا فتح مصر)، إذ أن بطرك القبط بنيامين كان في ذلك الوقت مختفيا في الصعيد وليس في الإسكندرية. على أننا لا نستبعد أن يكون هناك فريق من المصريين قد وقف موقف الحياد لأنهم يعرفون أن ترحيبهم بالعرب معناه انتقالهم من تبعية إلى تبعية أخرى ولم يكونوا في موقف يستطيعون معه طرد البيزنطيين والعرب في وقت واحد".

3ـ تذكر لنا هذه القصة الوهمية أن السبعون ألف راهب كان بيد كل واحد منهم عكاز، ومن الواضح هنا أن مؤلف هذه القصة لا يعرف أن موضوع  حمل العكاز بيد كل راهب، أمر  يتنافى مع التقاليد الرهبانية المعروفة والمستقرة في الكنيسة القبطية، والتي لا تجيز حمل العكاز إلا للآباء الشيوخ فقط.

     ...لا شك أن هذه القصة هي إحدى القصص الخيالية الكثيرة التي ذكرها مؤرخو العرب. ويعطي الفريد بتلر، في هامش صفحة 357 مثلا لمثل هذه القصص الخيالية التي اعتاد المؤرخون العرب تكرارها.

يقول بتلر:" إنه لمما يؤسف له أن يزيل الإنسان كل هذا النسيج من القصص الذي نسجه خيال العرب في أخبار حصار الإسكندرية، ولكننا لا نرى مفرا من ذلك".

     والقصة المعروفة عن عمرو ومولاه وردان، ووقوعهما أسيرين في أثناء حملة حملها العرب على المدينة وارتدوا عنها، ما هي إلا خرافة،  فقد ذكرت هذه القصة عينها عن هذين الرجلين في دمشق، وقد ذكرهما ابن بطريق كليهما وجعل ختام حصار الإسكندرية، أن العرب طردوا الروم منها، فهربوا في البحر والبر، وجاء في رواية أخرى مثل وصف هذه القصة، وأنها وقعت في حصار غزة بفلسطين، والظاهر أن منشأ هذه القصة ما ذكره ابن عبد الحكم من الأقاصيص الخيالية.

 
الادعاء الرابع 

 ظهور البابا بنيامين بعد نداء عمرو بن العاص.

     يذكرنا هذا الموقف بموقف سابق مشابه له تماما، بين البابا أندرونيكوس [البابا 37 ] والملك خسرو ملك الفرس سنة 617م. وقد تساعدنا المقارنة الموضوعية بين الموقفين المتشابهين والمتقاربين زمنيا، على إجلاء وإظهار الحقيقة. فظهور البابا بنيامين بعد الفتح العربي بثلاث سنوات، يشابه موقف سلفه البابا أندرونيكوس بعد الغزو الفارسي لمصر سنة 617م. وتشابه الأحداث والمواقف، يقول كتاب البابا بنيامين ـ كامل صالح نخله ـ ص 21:  "وبعد فتح الإسكندرية قتل الفرس من أهلها الكثيرون وأخذ بعضهم سبيا وأرسل إلى بلاد فارس، ولكنهم أباحوا للبطريرك البابا أندرونيكوس (616ـ623 ) الإقامة بها لسمو مركزه وبعد صيته... ولما استقر بهم الحال في البلاد استخدموا كبار رجال الدولة، ولا نزاع في أن المصريين الأقباط قد اشتركوا في إدارة البلاد، وما كان لهم أن يرفضوا ذلك الاشتراك لأنه كان يعد حماقة لا مبرر لها، ولكن هذا الاشتراك ليس معناه الترحيب بالفرس لأن الأقباط لم يعتبروهم رسل خلاص على ما ذهب إليه بعض الكُتاب الحديثين، لأن الفرس جاؤا إلى مصر وأيديهم ملطخة بما اقترفوه من النهب والقتل والسبي زمنا طويلا في الشام وفلسطين، وكان أكثر ضحاياهم من المسيحيين.

     ويفند بتلر التهمة التي أراد بعض الكتاب إلصاقها بالأقباط فيقول: "نستبعد أن يكون القبط قد اظهروا شيئا من المودة للكفار الذين كانت أيديهم ملطخة بدماء إخوانهم في الدين في إنطاكية وبيت المقدس .."                                               بتلر ص 122

...ولكننا لسنا في حاجة إلى القياس والتخمين لكي تظهر براءة الأقباط مما عزى إليهم، فانه لا شك في أن أكثر من هلك من الرهبان فيما حول الإسكندرية كانوا من القبط، ولو لم يكن لدينا من الأدلة إلا هذه الحقيقة لكانت كافية لدحض افتراء المفترين على القبط بأنهم رحبوا بالفرس، ولكن ليست هذه الحقيقة هي كل ما لدينا، فانا نعلم أنه بعد فتح الإسكندرية سار قائد جيوش كسرى بجنده وصعد إلى الجنوب محاذيا النيل لكي يفتح الصعيد، وكانت معاملته للقبط في كل مكان واحدة، يحل الموت والخراب حيث حل.                    

   بتلر ص 123 و كامل صالح ـ البابا بنيامين ـ ص 22

      أبقى الفرس البطريرك الأرثوذكسي البابا أندرونيكوس على كرسيه، ولقي منهم الرفق في المعاملة ولم ينازعه منازع في رياسة الدين، ولكن أثر المصائب التي شهدها تحل بقومه والخراب الذي نزل بهم في جميع أنحاء أرض مصر في ابتداء الحملة لم يزل في قلبه يملؤه حزنا وأسى حتى قضى على حياته، وكذا تم انتخاب خليفته البابا بنيامين في 4 يناير 623م. في سلام وطمأنينة، واستظل بحكم الفرس في أول سني رياسته في هدوء وسكينة إذا قيست بساير مدة ولايته الطويلة المملؤة بالشدايد والعواصف والكروب.                          

        كتاب البابا بنيامين ـ كامل صالح نخلة ـ ص 25

     ويذكر بتلر في كتابه فتح العرب لمصر ـ الفصل السابع والعشرون ـ ص 456:"وكان بنيامين في كل هذه المدة يتنقل خفية بين أصحاب مذهبه، أو يقيم مختبئا في أديرة الصحراء. وانه لمن الجدير بالالتفات أن هذا البطريق الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه فتح المسلمين لمصر واستقرار أمرهم في البلاد، ولا خروج جيوش الروم عنها. وليس أدل على افتراء التاريخ على القبط واتهامهم كذبا بأنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم ورأوا فيهم الخلاص، مع أنهم أعداء بلادهم. ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب لكان ذلك بناء على أمر بطركهم. ولو رضي بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرها لما بقي في منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب، ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئه إلا بعهد وأمان لا شرط فيه. ولو لم يكن في الحوادث دليل على كذب هذه الفرية غير هذا الحادث لكان برهانا قويا، وان لم يكن برهانا قاطعا فهو حلقة نضمه إلى سلسلة ما لدينا من الأدلة، وقد أصبحت سلسلة لا يقوى على نقضها شئ.

     ويؤكد المؤرخ كامل صالح نخله في كتابه ـ البابا بنيامين 38 ـ رأى بتلر، فيقول: "كان البابا بنيامين في هذه المدة يختفي في صعيد مصر متنقلا بين أديرة الصحراء  وفي اختفائه مدة ثلاث سنوات بعد الفتح العربي، الدليل على براءة قبط مصر مما افترى عليهم بأنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم ورأوا منهم الخلاص إذ لو كان هذا الاتهام صحيحا لكان ظهور البابا بنيامين من مخبئه عقب الفتح مباشرة، ولكن بقاءه مختفيا بعد تمام النصر للعرب بثلاث سنوات وعدم ظهوره إلا بعهد وأمان لا شرط فيه ولا قيد، لبرهان قاطع على كذب هذه الفرية". ص 108      

     وثمة ملاحظة يمكننا إضافتها هنا وهي أن عمرو قام بعمل نداء إلى البابا بنيامين، وهذا يؤكد أن عمرو بن العاص لم يكن يعرف مكان اختفاء البابا بنيامين وأن جميع من كانوا مع عمرو أو على صلة به، لم يكونوا يعرفون ذلك أيضا، وإلا لكان يكفي أن يرسل عمرو مع أحدهم رسالة شخصية إلى البابا، وهذا واضح أيضا من صيغة أمر الأمان هذا، كما يوردها بتلر في الفصل 27 ص455:

"أينما كان بطريق القبط بنيامين نعده الحماية والأمان وعهد الله، فليأت البطريق إلى هاهنا في أمان واطمئنان ليلي أمر ديانته ويرعى أهل ملته". وكان البابا بنيامين ذا هيئة جميلة تلوح عليه سيما الوقار والجلال، وكان عذب المنطق في تؤدة ورزانة، فكان لذلك أثر عظيم في نفس عمرو، حتى قال لأصحابه: انني لم أر يوما في بلد من البلاد التي فتحها الله علينا رجلا مثل هذا بين رجال الدين.

     وكان البابا بنيامين قد ترهب في أحد الأديرة بجوار الإسكندرية، ويسمى دير قنوبوس وهو من الأديرة القليلة التي نجت من تخريب الفرس، ولكنه لم يسلم من نهبهم. وذات مرة اصطحبه رئيس الدير واسمه ثاؤنا إلى البابا أندرونيكوس البطريرك 37  فاستبقاه البابا عنده وجعله تلميذا له وأمين أسراره ومساعده في تدبير شئون الكنيسة، إلى أن تنيح البابا أندرونيكوس في3يناير سنة 623م. فاختير بنيامين للبطريركية في 4 يناير سنة 623م. 

عاصر البابا بنيامين ثلاثة حلقات متوالية من الغزو والاحتلال والفتح، ثلاث حلقات متوالية من الحكم الأجنبي المستبد لمصر. فقد تولى البطريركية في ظل الاحتلال الفارسي ثم البيزنطي ثم العربي، وهؤلاء الدخلاء الثلاثة، الفرس والبيزنطيين والعرب، يتشابهون في أمور كثيرة كما يختلفون في أمور أخرى . فقد جاء كلا منهم طمعا في خيرات مصر وثروتها، والسيطرة على موقع جغرافي واستراتيجي هام، واستخدم كلا منهم أساليب القمع والقهر للسيطرة على  زمام الأمور، وقام كلا منهم بأعمال النهب والقتل والتخريب، لإرهاب الآهلين.

التشابه في طريق الغزو ـ مذابح في الشام قبل مصر ـ التخريب والنهب والسلب والسبي ـ ظهور البطريرك في حالتي الفرس والعرب ـ الادعاء الكاذب بترحيب المصريين (الأقباط ) بهم ..

     وبالنسبة لأمور الدين أو العقيدة، لم يهتم الفرس بنشر ديانتهم، واتبع الرومان أسلوبا خاطئا بهدف إخضاع القبط لمذهبهم الخلقيدوني، ولو أنه في الحقيقة لا يوجد أى خلاف أو فروق في العقيدة بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين،

وانما ألبسوا السياسة ثوب العقيدة زورا. أما العرب فقد كان هدفهم الأول المعلن، هو نشر الإسلام وبأية وسيلة. 

 

الادعاء الخامس

 دين الإسلام قريب من عقيدة الأقباط

     يقول الدكتور حسين مؤنس في موسوعة تاريخ الحضارة المصرية ـ العصر اليوناني والروماني والعصر الإسلامي ـ إصدار وزارة الثقافة ـ ص368: "لم تكن العقيدة المسيحية إذ ذاك محددة المعالم أو مستقرة القواعد.. وكان الرأي السائد عند زعماء الأقباط قريبا جدا من الإسلام ورأيه في السيد المسيح..ولم يكن من العسير لهذا أن يتحول الكثيرون منهم إلى الإسلام دون جهد كبير.."

     وقد نقل هذه الفقرات عن حسين مؤنس، كاتب آخر يسمى حامد سليمان، نقل دون تفكير أو بحث أو دراسة أو أي دليل، وحتى دون أن يذكر صراحة و بوضوح المصدر الذي نقل عنه كل هذه المغالطات الساذجة المكشوفة، نقلها إلى كتابه الذي يسميه [من القبطية إلى الإسلام ـ قصة فتح مصر] ـ الناشر المكتب العربي للمعارف ـ

     يقول حامد سليمان، ص 76: "وكان الرأي السائد عند عامة الأقباط المصريين ورهبانهم الأطهار في ذلك الوقت، قريبا جدا من رأى الإسلام في السيد المسيح عليه السلام، ولم يكن من العسير لهذا أن يتحول الكثيرون من المصريين إلى الإسلام دون جدل أو جهد كبير".

     إلى هذا الحد يمكن أن يصل التضليل والتزييف والاستخفاف دون حياء بعقلية القراء، مسيحيين كانوا أو مسلمين، فالجميع يعلمون تمام العلم ويعرفون تمام المعرفة، أنه ليس شئ أبعد عن الحقيقة من هذا العبث بالقول، وبهذه المغالطات المكشوفة يوقع الدكتور حسين مؤنس نفسه وأتباعه في مأزق قد لا يرضاه لا هو ولا أتباعه، وفي متاهات لا حدود لها، فحسب قوله: إذا كانت العقيدة المسيحية لم تكن محددة أو مستقرة، وفي نفس الوقت، العقيدة المسيحية، قريبة جدا من الإسلام ورأيه في السيد المسيح فهل نخلص من هذا إلى أن رأى الإسلام في السيد المسيح، لم يكن محددا أو مستقرا؟.

     موضوع عقيدة الأقباط ورأي الإسلام في السيد المسيح، وهل هو قريب جدا أم بعيد جدا، أرى أن هذا الموضوع، أوضح من أن يحتاج إلى شرح هنا أو تفصيل، هذا الادعاء بعيد تماما عن الحقيقة كما هو مجاف تماما لأي منطق سليم.        

     كذلك لا يمكن أن يكون الأقباط وقت الفتح العربي لمصر،  قد عرفوا رأي الإسلام بوضوح ودقة، في السيد المسيح، للأسباب الآتية:                                   

أولا: لم تكن هناك نسخة واحدة من المصحف متفق عليها بين جميع المسلمين .

ثانيا: كانت الكتابة العربية ذاتها، كتابة قاصرة جدا، ومعقدة، تختلط فيها الحروف بلا تمييز، وتتعدد احتمالات قراءة الكلمات.

ثالثا: أن اللغة العربية لم يكن لها وجود ملموس يذكر، بين المصريين، فلغتهم  جميعا، هي اللغة المصرية (القبطية) لغتهم القومية التي كتبوا وتكلموا بها، وترجموا جميع كتبهم المقدسة إليها.

رابعا: القرآن هو الكتاب الوحيد في العالم، الذي رفض ويرفض أصحابه، وحتى اليوم، ترجمته إلى أية لغة أخرى من لغات البشر. وجميع الترجمات الموجودة الآن غير معترف بها رسميا.

فكيف إذن أمكنهم قراءة المصحف؟، وأي مصحف ؟. ومعرفة رأي الإسلام بوضوح في السيد المسيح.

فمن المعروف أنه  أيام الخليفة عمر بن الخطاب، أيام الفتح العربي لمصر، لم يكن هناك مصحف واحد متفق عليه، وانما كان يوجد عشرات المصاحف، تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، وكان صاحب كل مصحف يرى أن مصحفه

هو وحده المصحف الصحيح، وأن بقية المصاحف خطأ، وكان بعضهم يكفر البعض الآخر، وكاد أن يكون بينهم فتنة.                              السجستاني ص28.

     ويحدثنا كتاب المصاحف، لأبي بكر عبد الله أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله ـ الناشرـ دار الكتب العلميه ـ بيروت.

باب اختلاف مصاحف الصحابة، صفحة 60 إلى 98 عن الخلاف بين مصاحف عشرة من مصاحف الصحابة، ثم يحدثنا من صفحة 98 إلى 101 عن الخلاف بين إحدى عشر مصحفا أخرى من مصاحف التابعين،

وأهم هذه المصاحف كما يذكرها السجستاني هي:

1ـ مصحف عمر بن الخطاب           

 2 ـ مصحف علي بن أبي طالب

3ـ مصحف أبي بن كعب                 

 4 ـ مصحف عبد الله بن مسعود

5ـ مصحف عبد الله بن عباس          

6 ـ مصحف عبد الله بن الزبير

7ـ مصحف عبدالله بن عمر               

8 ـ مصحف عائشة زوج النبي

9ـ مصحف حفصة زوج النبي          

 10ـ مصحف أم سلمة زوج النبي

            ومصاحف التابعين:

1ـ مصحف عبيد بن عمير الليثي    

2 ـ مصحف عطاء بن أبي رباح

3ـ مصحف عكرمة                            

4 ـ مصحف مجاهد

5ـ مصحف سعيد بن جبير   

6ـ مصحف الأسد بن يزيد وعقلمة بن قيس

7ـ مصحف محمد بن أبي موسى شامي

8ـ مصحف حطان بن عبد الله الرقاشي بصري

9ـ مصحف صالح بن كيسان مديني   

10ـ مصحف طلحة بن مصرف الايامي

11ـ مصحف سليمان بن مهران الأعشمي

ويذكر إبراهيم الابياري في كتابه [تأريخ القرآن] ـ الناشر دار القلم ص91

أسماء بعض المصاحف الأخرى، كمصحف موسى الأشعري، ومصحف المقداد بن الأسود، ومصحف لسالم مولى أبي حذيقة، وغيرهم.

وقد كتب الخليفة الثالث عثمان بن عفان (644ـ 655م)  مصحفه المعروف باسم المصحف الأمام ،وقام بإحراق جميع المصاحف الأخرى، ماعدا المصحف الذي كان عند حفصة بنت عمر، فقد رفضت أن تسلمه لعثمان ليحرقه كبقية المصاحف الأخرى، وبقي عندها إلى أن توفيت، ولكنه أحرق بعد ذلك، على يد مروان أمير المدينة.  

يقول السجستاني في كتاب المصاحف، صفحة 28:

"فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليحرقها وخشي أن يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها. قال ابن شهاب: فحدثني

سالم بن عبد الله قال:  فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبدالله بن عمر إلى مروان ففشاها وحرقها مخافة أن يكون في شئ من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان رحمة الله عليه".

وبالنسبة لموضوع  الكتابة العربية والخط العربي وقت الفتح العربي لمصر،

يقول إبراهيم الابياري في كتابه ـ [تأريخ القرآن] ـ ص 137:

"وما كانت الأمة العربية عهد كتابة الوحي أمة عريقة في الكتابة، وما كان كتاب النبي إلا صورة من العصر البادئ في الكتابة، ولم تكن الكتابة العربية على حالها اليوم من التجويد والكمال إملاء ورسما. ونظرة في المصحف، وما يحمل من صور إملائية تخالف ما استقر عليه الوضع الإملائي أخيرا، تكشف لك عما كان العرب علية إملاء، وعما أصبحنا عليه نحن إملاء. وحين أطل عهد عثمان كاد اختلاف الناس في قراءة المرسوم يجر إلى خروجهم على المحفوظ، من أجل هذا فزع عثمان إلى نفر من الصحابة كتبوا للرسول وحيه، ليدركوا هذا المرسوم، كي يخرجوا منه بصورة خطية تصور ما أجمع عليه الحفاظ".

     وقد لا يفوتك أن الخط العربي من عصر كتابة الوحي إلى أيام عبد الملك بن مروان لم يكن يعرف النقط المميزة للحروف في صورته الأخيرة، كما لم يكن عرف شكل الكلمات، وبقي المصحف المرسوم ينقصه النقط في صورته الأخيرة وينقصه الشكل ...

     ولقد كانت هذه المراحل التي مر بها جمع القرآن وكتابته ونقطه وشكله نتيجة لقصور الكتابة العربية والخط العربي. إذ لو كانا في كمالهما اليوم لما احتاج القرآن في رسمه إلى مرحلة بعد مرحلة، ولكتب يوم أن كتب للمرة الأولى في صورة أخيرة. 

     ويقول إبراهيم الابياري أيضا ص 132: "ما يتصل برسم المصحف وبقائه فترة غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك حين قام الحجاج بإسناد هذا العمل إلى رجلين، هما: يحيى بن يعمر والحسن البصري، فنقطاه وشكلاه. وما نرى صحيحا هذا الذي ذهب إليه القراء من تأويلات كثيرة تكاد تحمل الكلمة عشرين وجها أو ثلاثين أو أكثر من ذلك.  حتى لقد بلغت طرق هذه القراءات للقراءات العشر فقط تسعمائة وثمانين طريقة".

     وبالنسبة لموضوع لغة المصريين وقت الفتح العربي لمصر:

يذكر الدكتور أحمد مختار عمر، في كتابه[ تاريخ اللغة العربية في مصر] الهيئة المصرية للتأليف والنشر سنة 1970م، صفحة 55:

"ولكن لا تعني هزائم اللغة القبطية المتتالية أمام هجمات العربية أنها لم تثبت وجودها في أي فترة من فترات الصراع، فقد فرضت نفسها لفترة ماكلغة حديث حتى على الفاتحين العرب أنفسهم، وتعلمها الكثيرون منهم. وممن عرفوا بإجادتهم اللغة القبطية، القاضي خير بن نعيم، الذي كان يتكلم للخصوم الأقباط ويستمع لشهادة شهودهم باللغة القبطية".

     وفي صفحة 52 من نفس الكتاب يقول: "ليس معنى تعريب الدواوين أن اللغة العربية أصبحت لغة الثقافة أو لغة التخاطب، فكما أن اتخاذ اليونانية لغة الدواوين لم يجعلها لغة عامة قبل الفتح الإسلامي، كذلك اتخاذ العربية في الدواوين لم يجعلها لغة عامة".

     وتقول الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، أستاذة التاريخ الإسلامي، كلية البنات، جامعة عين شمس، في كتابها [عبد العزيز بن مروان] ص136: "ونلاحظ أن الفتح العربي ساعد أولا على إحياء اللغة القبطية على حساب اللغة اليونانية، التي كانت اللغة الرسمية منذ عهد البطالمة، فالدروس الدينية التي كانت تقرأ باليونانية وتشرح باللغة القبطية، صارت لا تقرأ إلا باللغة القبطية، كذلك نجد أن البلاد والأقاليم التي كانت تسمى بالأسماء اليونانية، أصبحت تعرف بأسمائها القبطية التي ترجع إلى الأسماء المصرية القديمة. فمثلا نجد اسم أخميم بدلا من بانوبوليس، وأهناسيا بدلا من هيراكليوبوليس، والأشمونين بدلا من هرموبوليس، على أن هذا كله كان بعثا لقديم لم يندثر تماما. فان اللغة القبطية أو الأسماء المصرية، كانت قد غلبت على أمرها حينا من الدهر ثم استعادت مكانتها بعد الفتح العربي".

     ويذكر المقريزي في الجزء الأول(4) ص149: أن المأمون كان لا يمشي أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس.

وفي الجزء الثالث (47) ص561، عند الحديث عن أديرة درنكة، ودير السبعة جبال، ودير المطل، ودير موشة، ودير...

"أن الأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطي الصعيدي، وهو أصل اللغة القبطية، وبعدها اللغة القبطية البحيرية. ونساء نصارى الصعيد وأولادهم لا يكادون يتكلمون إلا بالقبطية الصعيدية، ولهم أيضا معرفة تامة باللغة الرومية".

وفي صفحة 581: "ودرنكة أهلها من النصارى يعرفون اللغة القبطية، فيتحدث صغيرهم وكبيرهم بها، ويفسرونها بالعربية".

 
الادعاء السادس

العهود والشروط التي فرضها الفاتحون العرب على المصريين          

     يقول الدكتور ا.س.ترتون في كتابه، أهل الذمة في الإسلام، ترجمة الدكتور حسن حبشي، دار المعارف ـ 1967م ـ ص1، تحت عنوان، عهد عمر: "جرت العادة أيام الخلفاء على فرض قيود معينة يلتزمها غير المسلمين في حياتهم العامة والخاصة، وتعتبر هذه القيود ثمنا يدفعونه لقاء تمتعهم بالعيش في دار الإسلام، ولم يكن يتمتع بهذا الامتياز سوى أتباع الملل المعترف بها، وهي المسيحية واليهودية والمجوسية والسامرية والصائبة، ويعرف أتباع هذه النحل بأهل الذمة، والمعتقد أنه ورد في القرآن ما يؤيد هذه القيود في قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

     وقد اشتمل العهد المعروف بعهد عمر بن الخطاب، على تلك الامتيازات المختلفة، ولهذا العهد صور متباينة.

وبعد أن يستعرض ترتون صور بعض هذه العهود المنسوبة إلى عمر، أو إلى قادة جيوش الفتح العربي في أيامه، يقول في صفحة 7:

"بذلك ننتهي إلى خاتمة لا نستطيع منها فكاكا، هي أننا لا نعرف كيف كان عهد عمر، ولا نعرف أية مجموعة من معاهدات الصلح يمكن أن توسم باسمه، والظاهر أنه كان من التقاليد المرعية في مدارس الفقه وضع نماذج للعهود والمعاهدات، ومن أمثلتها العهد الوارد في كتاب [الأم ] للشافعي، والذي ننقله كحقيقة بينة عن الحدود المفروضة على أهل الكتاب، إذ يرد فيه ـ بعد ما هو مألوف من ذكر اسم البلد المعاهد وأميره ـ قوله: لك ولهم وعلى جميع المسلمين الأمان ما استقمت واستقاموا بجميع ما أخذنا عليكم، وذلك أن يجري عليكم حكم الإسلام، ولا حكم خلافه بحال يلزمكم، ولا يكون لكم أن تمتنعوا منه في شئ رأيناه نلزمكم به،  وعلى أن أحدا منكم ان ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله عز وجل أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة أمير المؤمنين وذمة جميع المسلمين، ونقض ما أعطي عليه الأمان، وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم، وعلى أن أحدا من رجالهم أن أصاب مسلمة بزنا، أو قطع الطريق على مسلم، أو فتن مسلما عن دينه، أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال، أو بدلالة على عورة المسلمين وإيواء لعيونهم فقد نقض عهده، و أحل دمه وماله، وان نال مسلما بما دون هنا في ماله أو عرضه، أو نال به من مسلم فمنعه من كافر له عهد أو أمان لزمه فيه الحكم، وعلى أن نتتبع أفعالكم في كل ما جرى بينكم وبين المسلم، فما كان لا يحل لمسلم لكم فيه فعل رددناه وعاقبناكم عليه، وذلك أن تبيعوا مسلما بيعا حرا،  ما عندكم من خمر أو لحم خنزير أو دم ميتة أو غيره، ونبطل البيع بينكم فيه، ونأخذ ثمنه منكم ان أعطاكموه، ولا نرده عليكم ان كان قائما، ونريقه ان كان خمرا أو دما، ونحرقه ان كان ميتة،  وان استهلكه لم نجعل عليه فيه شيئا ونعاقبكم عليه، وعلى ألا تسقوه أو تطعموه محرما، أو تزوجوه بشهود منكم أو بنكاح فاسد عندنا، وما بايعتم به كافرا منكم أو من غيركم لم نتتبعكم فيه ولم نسألكم عنه ما تراضيتم به، وإذا أراد البائع منكم أو المبتاع نقض البيع وأتانا طالبا له فان كان منتقضا عندنا نقضناه، وان كان جائزا أجزناه، إلا أنه إذا قبض المبيع لم يرده لأنه بيع بين مشركين، ومن جاءنا منكم أو من غيركم من أهل الكفر يحاكمكم أجريناكم على حكم الإسلام، ومن لم يأتنا لم نعرض لكم فيما بينكم وبينه. وإذا قتلتم مسلما أو معاهدا منكم أو من غيركم خطأ فالدية على عواتقكم كما تكون على عواتق المسلمين، وان قتل منكم رجل بلا قرابة فالدية عليه من ماله وإذا قتله عمدا فعليه القصاص، إلا أن تشاء ورثته دية فيأخذونها، ومن سرق منكم فرفعه المسروق إلى الحاكم قطعه، إذا سرق ما يجب فيه القطع  وغرم، ومن قذف وكان للمقذوف حد، حد له، وان لم يكن له حد عزر،  حتى تكون أحكام الإسلام جارية عليكم بهذه المعاني فيما سمينا وما لم نسم .

     وعلى أن ليس لكم أن تظهروا الصليب في شئ من أمصار المسلمين، وألا تعلنوا بالشرك، ولا تبنوا كنيسة ولا موضع مجتمع لصلاتكم، ولا تضربوا بناقوس، ولا تظهروا لأحد من المسلمين قولكم بالشرك في عيسى بن مريم ولا في غيره.

     وعليكم أن تلبسوا الزنانير من فوق جميع الثياب والأردية وغيرها حتى لا تخفي الزنانير، وتخالفوا المسلمين بسروجكم وركوبكم، وتباينوا قل أنسكم وقلانسهم بعلم تجعلونه بقلانسكم، وألا تأخذوا على المسلمين سروات الطريق ولا المجالس في الأسواق، وان يؤدي كل بالغ من أحرار رجالكم غير مغلوب على عقله جزية رأسه، دينارا مثقالا جيدا في رأس كل سنة، ولا يكون له أن يغيب عن بلده حتى يؤديه أو يقيم به من يؤديه عنه، ومن افتقر منكم فجزيته عليه حتى تؤدى، وليس الفقر بدافع عنكم شيئا، ولا ناقض لذمتكم عما بها، فمتى وجدنا عندكم شيئا أخذتم به، ولا شئ عليكم  في أموالكم سوى جزيتكم ما أقمتم في بلادكم واختلفتم بلاد المسلمين غير تجار، وليس لكم دخول مكة بحال ما، وان اختلفتم بتجارة ـ على أن تؤدوا من جميع تجارتكم العشر للمسلمين ـ فلكم دخول جميع بلاد المسلمين إلا مكة، والمقام بجميع بلاد المسلمين كما شئتم إلا الحجاز، فليس لكم المقام ببلد منها إلا ثلاث ليال حتى تظعنوا منه، ومن نبت الشعر منكم تحت ثيابه أو احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة قبل ذلك فهذه الشروط لازمة ان رضيها، وان لم يرضها فلا عقد له، ولا جزية على أبنائكم الصغار ولا على صبي غير بالغ ولا على مغلوب على عقله ولا مملوك، فإذا أفاق المغلوب على عقله، وبلغ الصبي، وعتق المملوك منكم فدان دينكم فعليه مثل جزيتكم، والشرط عليكم وعلى من رضيه، ومن سخطه منكم نبذنا إليه، ولكم أن نمنعكم ـ وما يحل ملكه عندنا لكم ـ  ممن أرادكم من مسلم أو غيره بظلم بما نمنع به أنفسنا وأموالنا ونحكم لكم فيه على ما جرى حكمنا عليه بما نحكم به في أموالنا، وما يلزم المحكوم في أنفسكم فليس علينا أن نمنع لكم شيئا ملكتموه محرما من دم ولا ميتة ولا خمر ولا خنزير، كما نمنع ما يحل ملكه، ولا نعرض لكم فيه إلا أنا لا ندعكم تظهرونه في أمصار المسلمين، فما ناله مسلم أو غيره لم نغرمه ثمنه لأنه محرم ولا ثمن لمحرم، ونزجره عن العرض لكم فيه، فان عاد أدب بغير غرامة في شئ منه، وعليكم الوفاء بجميع ما أخذناه عليكم، وإلا تغشوا مسلما، ولا تظاهروا عدوهم عليهم بقول ولا فعل، ولكم عهد الله وميثاقه وذمة فلان أمير المؤمنين وذمة المسلمين بالوفاء لكم، وعلى من بلغ من أبنائكم، ما عليكم بما أعطيناكم ما وفيتم بجميع ما شرطنا عليكم، فان غيرتم أو بدلتم فذمة الله ثم ذمة فلان أمير المؤمنين والمسلمين بريئة منكم، ومن غاب عن كتابنا ممن أعطيناه ما فيه فرضية إذا بلغه فهذه الشروط لازمة له ولنا فيه، ومن لم يرض نبذنا إليه.      

     ويعود ـ ترتون ـ إلى الحديث عن عهد عمر، مرة أخرى في الفصل الثالث من كتابه ـ أهل الذمة في الإسلام ـ ص 35 ـ عند تناوله موضوع الكنائس والأديرة، فيقول:  "اشترط عهد عمر على النصارى ألا يستحدثوا من الكنائس شيئا، وألا يجددوا ما خرب منها وما تهدم، أو أن يعيدوا بناء البيع القائمة في نواح من المدن آهلة بالمسلمين...."

     ويرجح أن عهد عمر المشار إليه ليس هو العهد الذي بين أيدينا حاليا، وهناك فكرة قد تكون قديمة نظرا لنسبتها لابن عباس وهي القائلة، ان كل مصر مصرته العرب فليس للذميين أن يحدثوا فيه بناء بيعة ولا كنيسة، ولا يضربوا  فيه بناقوس، وكل مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا على حكمهم فللعجم ما في عهدهم، وللعرب أن يوفوا لهم بذلك.

(كتاب الخراج ـ أبو يوسف ـ ص88 )

     أما بالنسبة إلى الشروط أو الخصال التى فرضها عمر، فيوضحها لنا الشيخ المقريزى في كتاب الخطط الجزء الأول (14) ص544 ـ 547: "فرد عليهم عمرو مع رسله: أنه ليس بيني وبينكم إلا احدى ثلاث خصال:

أما ان دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وان أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأما ان جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين. .. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيبهم إلى شئ دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث خصال، فان أمير المؤمنين قد تقدم إلى في ذلك، وأمرني ألا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال. وكان عبادة أسود، ... واقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فقال له: ...ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.

     فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك ... فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها، إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل .. بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا:   أما ان أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فان فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا

في دين الله، فان قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم.

     وان أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شئ نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شئ من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا. وان أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم ... هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.

     فقال المقوقس هذا مالا يكون أبدا، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.  فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر لنفسك ما شئت.

فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال ؟ فرفع عبادة يديه إلى السماء فقال: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شئ، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.

     هذه هي نماذج العهود أو القيود، إذا توخينا الدقة في التعبير، وتلك هي الخصال والشروط، فهل لأي قارئ للتاريخ أو دارس لتلك الوثائق، غير منحاز، أن يصفها بغير أنها عهود وشروط بين غالب متشامخ ومغلوب لا حول له ولا قوة،  بين جبار يحمل السيف ومقهور لا يملك إلا أن يقبل صاغرا.

     وأن أبعد شئ عن الحقيقة والمنطق، أن توصف بأنها بين منقذين متطوعين من جهة، ومستغيثين مرحبين من الجهة الأخرى، أو أنها عهود وشروط بين مجموعتين من الأصدقاء المتعاونين المتحابين.

     إنها في الحقيقة عهود إذلال وشروط مهانة، إنها تعبير عن وضع شاذ بين طرفين، أحدهما يحمل السيف في يده، والطرف الآخر، وجد ذلك السيف ينهال بقسوة وعنف فوق رقبته، إنها كما يسميها البعض، حكم القوي على الضعيف.

 
الادعاء السابع

إكرام العرب لأرمانوسة ابنة المقوقس.

يقول كتاب [من القبطية إلى الإسلام] لمؤلفه حامد سليمان، ص44: أن عمرو بن العاص، كان قد عثر على أرمانوسه ابنة المقوقس في مدينة بلبيس، فأكرمها وبعث بها إلى أبيها معززة مكرمة، ... وأن عمرو أحب أن يجامل زعيم القبط (المقوقس)، بإكرام ابنته (أرمانوسه)، على ما أظهره القبط من الميل إلى الغزو العربي لإنقاذهم.

     وفي صفحة رقم 25، من نفس الكتاب، يقول المؤلف: "كان المقوقس هو الحاكم الملكي من قبل روما الذي يجمع بين السلطة المدنية كحاكم مصر والسلطة الدينية كبطريرك للكنيسة القبطية في مصر.."

     وهذا هو سر أن بعض الكتب كانت تطلق عليه حاكم مصر، والبعض الآخر كان يطلق عليه كبير أقباط مصر، وفي الواقع أنه كان حاكما مدنيا لمصر.

  أما بالنسبة للكنيسة القبطية فقد كان أحد الدخلاء على بطاركة هذه الكنيسة العتيدة والمفروض دينيا على أقباط مصر.. أما البطريرك الحقيقي في ذلك الوقت فكان الأنبا بنيامين وهو البطريرك رقم(38) في تاريخ هذه الكنيسة القبطية.                  

وفي صفحة 26 يقول: "كان المقوقس، مجرد حاكم لمصر، ولكنه كان البطريرك غير الشرعي لأقباط مصر ... أما الذي فرضه على شعب مصر فهو هرقل أحد أباطرة الرومان".                     

ولكن وفي نفس الصفحة يقول المؤلف، أن المقوقس هو جرجس بن مينا.

وأنه مصري من أصل يوناني، من الذين استقر أجدادهم في الإسكندرية...

ورغم يونانيته فقد كان الرجل يميل لأقباط مصر، ويرثي لحالهم.

     وعاد هرقل بعد توطيد ملكه على المملكة الرومانية في الشام، حيث لاحظ أن القابض على أمور أقباط مصر هو المقوقس، فتركه يحكم واهتم بالسيطرة العسكرية على مدن مصر، ولكي يتقرب هرقل من المصريين كلف كيروس أحد أساقفة الرومان، بأن يقرب بين مذهب الكنيسة الرومانية والكنيسة المصرية. ولكن كيروس أساء إلى المصريين وفشل في مهمته، فهرب كثير من الأقباط من الإسكندرية بعد أن عاد الاضطهاد لرجال الكنيسة القبطية وعلى رأسهم البطريرك بنيامين. ولذلك انضم المقوقس الذي كان يميل للأقباط إلى قضية المصريين والكنيسة القبطية، وأصبح لديه استعداد للتفاهم مع أية قوة يمكن أن يخلص بها الأقباط من اضطهاد البيزنطيين.   

     ويعطينا مؤلف هذا الكلام، نموذجا لما يصف به الدكتور بتلر المؤرخون العرب، بأنهم لا يحسنون تفهم التاريخ، ولا يدركون نظامه، ولا يعبأون بأحكام الصلة بين حوادثه.  

فمن هو المقوقس؟    حسب روايات السيد المؤلف حامد سليمان.

هل هو الحاكم الذي فرضه هرقل على الأقباط ؟  أم هو المخلص الذي يريد أن يخلص الأقباط من اضطهاد البيزنطيين ؟.

هل هو البطريرك غير الشرعي المفروض على الأقباط ؟  أم هو ذلك الرجل الذي يميل لقضية الأقباط ويرثي لحالهم ؟.

هل كان أحد الدخلاء على بطاركة الكنيسة القبطية العتيدة، والمفروض دينيا على أقباط مصر ؟ أم كان ذلك الذي تأثر بالمذهب الذي كان يؤمن به الأقباط ؟.

هل هرقل هو الذي عينه وفرضه ؟  أم أن هرقل جاء فلاحظ أنه هو القابض على أمر الأقباط فتركه يحكم ؟.                                                  

وهل إكرام العرب لابنة هذا الرجل يمكن أن يعد مجاملة من العرب للأقباط؟

كلام عجيب متضارب لا أساس له ولا منطق.

والآن من هو هذا المقوقس إذن ؟ 

     يقدم لنا، كامل صالح نخلة، عضو لجنة التاريخ القبطي، في كتابه عن، البابا بنيامين الأول، البطريرك الثامن والثلاثون، دراسة مستفيضة وشاملة حول هذا الموضوع، ص142 تحت عنوان، بحث تاريخي عن المقوقس. يقول:

"أطلق مؤرخو العرب والقبط أسم المقوقس على الوالي الذي كان له أعظم نصيب في حوادث الفتح العربي وكان العامل القوي على تسليم مصر إليهم".

            واختلف العرب على حقيقة شخص المقوقس واسمه وجنسه، وخلطوا في ذلك بأن لقبوه بعظيم القبط، ودعوه باسم المقوقس جرجس بن مينا. ولم يكن المقوقس قبطيا كما توهم مؤرخو العرب ومن جاراهم من الغربيين، بل انه رومي الجنس وهو قيرش أسقف فاسيس بأرمينيا من بلاد القوقاس بآسيا. وقع اختيار الإمبراطور هرقل عليه لمهمة توحيد المذاهب الدينية المسيحية في مملكته وعلى الأخص في مصر وسائر المشرق، فعينه بطريركا ملكيا للكرسي السكندري بدل البطريرك جورج الملكي وولاه جباية الخراج في الوقت ذاته، وأصبح يجمع بين يديه السلطتين الدينية والمدنية في مصر. ...

ولم يحصل قط في عهد حكم الرومان والروم البيزنطيين أن تقلد ولاية الحكم في مصر منذ أغسطس قيصر إلى وقت هرقل، والى قبطي أي مصري الأصل.

ولبثت حقيقة مسألة واسم المقوقس ومنصبه وجنسيته، زمنا طويلا غامضة ومعضلة عسرة الحل، إلا أنه أمكن الوصول إلى حلها، بالرجوع إلى كتّاب التاريخ المحققين، المعاصرين لهذا المقوقس والذين دونوا حوادث الفتح العربي وأظهروا شخصية المقوقس وجنسيته بكل وضوح في كتبهم، سواء كانت بالقبطية الصعيدية أو البحيرية أو العربية، وأيدهم علماء التاريخ الأوربيين وغيرهم.

ويبدأ البحث بذكر المصادر، وأهمها:

1 ـ المصادر القبطية

2 ـ المصادر الإسلامية

3 ـ مصادر العرب المسيحيين

4 ـ مصادر اليونانيين

5 ـ المصادر الإفرنجية

     ويذكر لنا كامل صالح نخلة، أكثر من عشرة مراجع قبطية، تعتبر من أهم المراجع حول هذا الموضوع، بعضها مخطوطات باللغة القبطية، ترجع إلى القرن السابع الميلادي، مثل تاريخ حياة الأنبا شنوده رئيس المتوحدين، وتاريخ الأنبا صموئيل القلموني رئيس دير القلمون، والذي كان قد تعرض للإهانات والتعذيب، بيد المقوقس نفسه، وكتاب البابا أغاثون البطريرك (39)،  يصف ما جرى للبابا بنيامين البطريرك (38) سلفه. كذلك كتاب تاريخ يوحنا النقيوسي، ومجموعة أخرى من الكتب والوثائق الهامة.

     وقد أجمعت هذه المصادر القبطية على أن المقوقس كان بطريركا وواليا في آن واحد، جامعا بين يديه السلطتين الدينية والمدنية، وأنه لم يكن قبطيا بل كان روميا وأن الفتح العربي تم على يديه.

            أما المصادر الإسلامية فيشير إليها كامل صالح نخلة، نقلا عن كتاب [الفتح العربي] لبتلرص523 فيذكر البلاذي  والطبري  وسعيد بن بطريق  وابن الأثير  وأبو صالح  وياقوت ومكين  وابن خلدون  وابن دقماق  والمقريزي  والواقدي  وأبو المحاسن  والسيوطي.

ويقول كامل نخلة: "انه يظهر جليا من أقوال كبار مؤرخي العرب المسلمين،            أنهم كانوا في حيرة عظيمة وأن اختلافاتهم كثيرة، إذ ليس لديهم عن هذا الحادث سوى معلومات غير دقيقة، ولكنهم ذكروا المقوقس ولقبوه بعظيم القبط أو أمير القبط، ولم يذكروا أنه كان قبطيا، وأنه لم يكن من القبط، إلا أن البعض منهم ذكر أنه كان يونانيا وكان واليا من قبل هرقل".

            أما مصادر العرب المسيحيين فهم سعيد بن بطريق، سوري الأصل ويعرف باسم البطريرك أفتيخوس الملكي السكندري، المولود سنة 876م.  وأبو الفرج بن العبري، وهو سرياني الأصل من رجال القرن الثالث عشر.

يذكر ابن بطريق، أن المقوقس كان عاملا لهرقل على الأموال في مصر، وأن هرقل صّير قيرش بطريركا على الإسكندرية، وأنه كان مارونيا، وذكر أن البطريرك فاوض عمرو أثناء الاقتتال في الإسكندرية.

            أما مصادر اليونانيين فهى :  1ـ نيقوفورس      2 ـ تيوفانس

ويتضح من أقوال هذين المؤرخين، أن قيرش بطريرك الإسكندرية الملكي، كانت له الكلمة في الأمور المدنية والمالية والحربية.

            وبالنسبة للمصادر الإفرنجية فهى :

1 ـ فون رنك       2 ـ دو جوج       3 ـ كرابيسك     4 ـ ملْن 

5 ـ استانلي بول    6 ـ بوري           7 ـ أميلينو        8 ـ بريره  

9 ـ بتلر                  10 ـ جان ماسبيرو

            أثبت بتلر إثباتا علميا أن المقوقس لم يكن سوى قيرش البطريرك الملكي بالإسكندرية، الذي جمع له هرقل ولاية الدين وجباية الخراج بأرض مصر، وأنه كان يونانيا، ولم يكن قبطيا، وأنه هو المقصود بالمقوقس في وقت غزو العرب لمصر، وقد طابقت أبحاث العلامة بتلر ما وصل إليه العلامة بريرا، والعلامة جان ماسبيرو، ( كتاب تاريخ بطاركة الكرسي السكندري ـ تأليف جان ماسبيرو طبعة باريس سنة 1923 ص 353 ) 

     ويصل المؤرخ كامل صالح نخله في نهاية بحثه إلى الاستنتاج العام الآتي:

1 ـ ان المقوقس لم يكن قبطيا بل إنه رومي الجنس.

2 ـ ان المقوقس هو نفس قيرش البطريرك الملكي السكندري.

3 ـ ان قيرش جمع بين يديه السلطتين الدينية والمدنية في عهد الإمبراطور هرقل .

4 ـ ان المقوقس قيرش أغتال خراج مصر ولم يقدمه لمولاه الإمبراطور هرقل .

5 ـ أنه هو الذي قاد جيوش الروم وفاوض العرب في الصلح وسلم البلاد إليهم.

      أما معنى كلمة المقوقس، فيقول الدكتور الفريد بتلر : كتبت هذه الكلمة في النصوص القبطية [ إبقفقيوس ] وفي النصوص اليونانية        [ قفقاسيوس ] أي القوقازي، لأن موطن قيرش وأصله، كان من أهم مواضيع التساؤل بين آل الإسكندرية...

وذلك لأن هرقل نقل قيرش من مركز الرئاسة الدينية في فاسيس ببلاد القوقاز. ونشأ من هذه الكلمة الاسم العربي [ المقوقس ].

[كامل صالح نخلة ـ البابا بنيامين ـ ص 158، وبتلر ص 539]

     والظاهر أن قصة بعث المقوقس باثنين من الأساقفة وهما أبو مريام (أو أبو مرتام) وأبو مريم لمفاوضة العرب لم تكن سوى قصة بعث بها الوهم. فلم يكن بين الأساقفة أحد بتلك الأسماء، ولعل تلك القصة لم تنشأ إلا من الخطأ العظيم الذي وقع فيه مؤرخو العرب عندما قرأوا أخبار هذه الحوادث، وقد اختلطت فيها حوادث التاريخ بالخرافات اختلاطا فاحشا، ومسخها النساخون عند نقلهم منها لم يتحروا فيها الدقة. ولكننا مع ذلك نستطيع أن نقول إنه قد جاءت جماعة عليها أحد الأساقفة، وإنهم فاوضوا عمراً في ذلك الوقت. ويقول الطبري فوق هذا إن عمراً طلب إلى القبط أن يساعدوا المسلمين لما كان بينهم وبين العرب من قرابة في النسب إذ تجمعهم (هاجر). ولكن القبط قالوا إن هذه قرابة ما أبعدها، فأمهلهم عمرو أربعة أيام ليأتوا بما استقروا عليه، ولكن ما كان قائد الروم لينظر في مثل هذا القول.          بتلر ص 247 .                                 

 

الفصل الثانى

ملخص وقائع الفتح العربي لمصر

سنة 638م

     بعد تسليم بيت المقدس للخليفة عمر بن الخطاب، قابله عمرو بن العاص وأعاد عليه الإلحاح في طلب فتح مصر، وجعل يبين للخليفة ما كانت عليه مصر من الغنى وما كان عليه فتحها من السهولة، وقال له إنه ليس في البلاد ما هو أقل منها قوة ولا أعظم منها غنى وثروة،... وأن مصر تكون قوة للمسلمين إذ هم ملكوها، وكان اجتماع القائد بالخليفة في(الجابية) قرب دمشق .                                                                                               بتلر ص226

ديسمبر639م

    وافق الخليفة وهو متردد على سير عمرو بن العاص لمصر، سار عمرو في جيش صغير من أربعة آلاف جندي (4000) أكثرهم من قبيلة عك وإن كان الكندي يقول أن الثلث كانوا من قبيلة غامق، ويروي ابن دقماق أنه كان مع جيش العرب جماعة ممن أسلم من الروم وممن أسلم من الفرس، وقد سماهم في كتابه، سار بهم من عند الحدود بين مصر وفلسطين حتى صار عند رفح وهي على مرحلة واحدة من العريش بأرض مصر، فأتت عند ذلك رسل (تحت المطي) تحمل رسالة من الخليفة، ففطن عمرو إلى ما فيها، وظن أن الخليفة لابد قد عاد إلى شكه في الأمر، خاشيا من الإقدام والمضي فيما عزم عليه.  فلم يأخذ الرسالة من الرسول حتى عبر مهبط السيل الذى ربما كان الحد الفاصل بين أرض مصر وفلسطين، وبلغ بسيره الوادي الصغير الذي عند العريش، وهناك أتى له بالكتاب فقرأه ثم سأل من حوله أنحن في مصر أم في الشام ؟ فقيل له نحن في مصر. فقرأ على الناس كتاب الخليفة ثم قال: إذن نسير في سبيلنا كما يأمرنا أمير المؤمنين، وكان الخليفة يأمره بالرجوع إذا كان بعد في فلسطين، فإذا كان قد دخل أرض مصر فليسر على بركة الله ووعده أن يدعوا الله له بالنصر وان يرسل له الإمداد.         بتلر ص 228 ـ 230

يناير 640م  الاستيلاء على بلوز (الفرما)

      وصل العرب إلى مدينة بلوز، واسمها بالقبطية (برمون)، ويسميها العرب (الفرما)، في نهاية سنة 639م وكانت مدينة قوية بها حصون وبها كثير من الآثار المصرية والكنائس والأديرة. وكان لها مرفأ متصلا بالمدينة بخليج يجري من البحر، وكان فرع من النيل اسمه الفرع البلوزي يصل إلى البحر بقربها، وكان لها شأن كبير إذ كانت مفتاح مصر من الشرق.             

استمرت الحرب متقطعة بين العرب وبين حامية المدينة مدة شهر أو شهرين. واستولى العرب عليها بعد قتال عنيف، وهدموا الحصن، وأحرقوا السفن وخربوا الكنائس الباقية بها.                          بتلرـ ص234 وكامل صالح ص65

أوائل مايو 640م   غارة عمرو الأولى على الفيوم

            وكانت ثغور الفيوم ومداخلها قد حرست حراسة حسنة وأقام الروم ربيئة لهم في حجر اللاهون،.. فعدل العرب إلى جانب الصحراء وجعلوا يستاقون ما لاقوا من النعم، فأخذوا منها عددا عظيما، وما زالوا كذلك حتى بلغوا مدينة اسمها البهنسا ففتحوها عنوة وقتلوا من وجدوا بها من رجال ونسوة وأطفال، ولم يستطيعوا فتح مدينة الفيوم، وعادوا أدراجهم منحدرين مع النهر .                                                                               بتلر ص254 و  255

6 يونيو 640م  وصول الإمداد للعرب

وصل الإمداد بقيادة الزبير بن العوام ابن عم النبي وصاحبه وأحد رجال الشورى الستة، وكان معه أربعة آلاف رجل، ثم جاء في عقبه كتيبتان كل منهما أربعة آلاف رجل، فكان جميع ما جاء من الإمداد أثنى عشر ألفا.                                               بتلر ص 256

منتصف يوليو 640      عين شمس وموقعة أم دنين

            تجمعت جيوش العرب عند هليوبوليس، وكانوا يسمونها عين شمس واسمها بالقبطية (أون)، وكانت معروفة بعظمة آثارها، ومركزها العلمي، ومما يذكر أن أفلاطون كان يتلقى فيها العلم.                                                                                      بتلر ص258           

     وأعد العرب كمينين لجيش الروم، وأمرهما عمرو أن يهبطا على جانب جيش الروم ومؤخرته إذا ما سنحت لهما الفرصة،  وحدثت المعركة في الموضع الذي يسمى اليوم (العباسية). واستولى العرب بعد انتصارهم هذا على حصن أم دنين (بين عابدين والأزبكية الآن)، وهرب من كان فيه من الروم إلى حصن بابليون أو   إلى حصن نقيوس .                                            بتلر ص263

أواخر يوليو 640م   الاستيلاء على الفيوم

            لما بلغت أنباء نصر العرب إلى الفيوم غادرها من بها من المسالح، فخرج (دومنتيانوس) من المدينة، في الليل وسار إلى (أبويط) ثم هرب إلى نقيوس، ولما بلغ نبأ هروبه إلى عمرو بن العاص، بعث كتيبة من جنده عبروا النهر وفتحوا مدينتي الفيوم وأبويط وأحدثوا في أهلها مقتلة عظيمة.                                                                                                                              بتلر ص264

أوائل سبتمبر 640م  

بدء حصار حصن بابليون (مدة الحصار كانت 7 أشهر)

            وكان حصنا عظيما، أسواره بارتفاع نحو ستين قدما وسمكها ثمانية عشر قدما، وبه أربعة أبراج بارزة بينها مسافات غير متساوية، وكان ماء النيل يجري تحت أسواره والسفن ترسوا تحتها، وكان به صرحان عظيمان، وكل صرح من هذين الصرحين، دائريا يبلغ قطره نحو مائة قدم، وكان الصاعد إلى أعلى الصروح يشرف على منظر عظيم يبلغ مداه المقطم من الشرق وإلى الجيزة والأهرام وصحراء لوبيا من الغرب، وإلى قطع كبيرة من نهر النيل من الشمال والجنوب، وكان الناظر من هناك لا يقف شئ دون بصره حتى يبلغ مدينة عين شمس.                                                                             بتلر ص 270

     وكانت جزيرة الروضة كذلك ذات حصون ومنعة في ذلك الوقت، وكانت تزيد من قوة حصن بابليون وخطره الحربي، بأنها في وسط النهر تملك زمامه.

ويظهر من قول بن دقماق أن العرب غزوا تلك الجزيرة في أثناء حصارهم لحصن بابليون، فلما خرج الروم من هناك هدم عمرو بعض أسوارها وحصونها.                                                                                            بتلر ص272

أكتوبر 640م   معاهدة بابليون الأولى لتسليم الحصن.

            خرج قيرس المقوقس سرا من حصن بابليون وذهب إلى جزيرة الروضة لمفاوضة العرب، وأرسل من هناك رسلا إلى عمرو بن العاص، ورد عمرو على المقوقس بقوله: ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال:ـ

          1ـ إما ان دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا.

2ـ وإن أبيتم، فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون.

3ـ وإما ان جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين.                                      بتلر ص 284

وقد كرر عبادة بن الصامت، المتكلم باسم العرب، كرر هذه الشروط للمقوقس عدة مرات . وانتهت هذه المقابلة باختلاف الآراء وعاد العرب إلى الحرب، ولكن الدائرة كانت على الروم، فجعلتهم يفكرون في العودة إلى المفاوضة.

عادت المفاوضات مرة أخرى، وكانت الخصلة التي أختارها الروم، هي الجزية والإذعان، فعقد الصلح على أن يبعث به إلى الإمبراطور، فإذا أقره نفذ. وعندما وصلت أخبار هذه المعاهدة إلى هرقل أرسل إلى المقوقس يأمره أن يأتي إليه على عجل.

منتصف نوفمبر 640م  هرقل يستدعي المقوقس إلى القسطنطينية.

            وصل المقوقس إلى القسطنطينية، بعد أن استدعاه الإمبراطور هرقل، وحاول أن يدافع عن نفسه أمام الإمبراطور بكلام لم يقتنع به هرقل، وغضب عليه واتهمه بأنه خان الدولة وتخلى عنها للعرب، ونعته بالجبن والكفر وأسلمه إلى حاكم المدينة، فشهر به وأوقع به المهانة ثم نفاه من بلاده طريدا. وكان المقوقس يرى أن العرب هم قوم الموت.                                       بتلر ص291

وأن الله أخرجهم لخراب الأرض.                                                                                بتلر ص286 

قرب نهاية عام 640

            بعد رفض هرقل لمعاهدة المقوقس، عاد القتال بين العرب والروم حول الحصن (حصن بابليون)، إلى أن وصلت الأخبار بموت هرقل.

11 فبراير 641م  موت هرقل

            توفى هرقل بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة، وكان عمره 66 عاما، وكانت وفاته قبل فتح حصن بابليون بشهرين تقريبا، وبعد وفاته، تولى الأمر بعده، بعهد منه، ولداه قسطنطين ابن زوجته أدوقيه، وهرقل (هرقلوناس) ابن زوجته الأخرى مرتينه.

 إبريل 641م  تسليم حصن بابليون للعرب.

            كان لموت هرقل أثره السئ على جنود الحصن، وبعد محاولة العرب تسلق أسوار الحصن، عرض قائده (جورج) أن يسلم الحصن للعرب على أن يأمن كل من كان هناك من الجنود على أنفسهم، فقبل عمرو منهم الصلح، وكتب عهد الصلح (بين جورج وعمرو) على أن يخرج الجند من الحصن في ثلاثة أيام، فينزلوا بالنهر ويحملوا ما يلزم لهم من القوت لبضعة أيام، أما الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فيأخذها العرب، ويدفع أهل المدينة للمسلمين الجزاء، وكانت مدة الحصار سبعة أشهر. بتلرص299

13 مايو 641م  استيلاء العرب على نقيوس وما حولها

            مدينة نقيوس، كائنة على فرع رشيد في الشمال الغربي من منوف (قرية ابشادي وزاوية رزين الآن)، وكانت مدينة عظيمة حصينة حافلة بالآثار المصرية، وكانت مركزا لأسقفية كبيرة، وأشهر أساقفتها يوحنا النقيوسي، الذى عاصر الفتح العربي وكتب تاريخه المشهور.

                          كامل صالح ص87

     استطاع العرب أن يقتحموا الحصن والمدينة، بعد هروب قائد حاميتها الروماني (دومنتيانوس)، الذي لاذ بالفرار إلى الإسكندرية، ودخلوا المدينة وأوقعوا بأهلها وقعة عظيمة، قال يوحنا النيقوسي: "فقتلوا كل من وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينج من دخل الكنائس لائذا، ولم يدعوا رجلا ولا امرأة ولا طفلا،  ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها، فلما دخلوا مدينة (صوونا)، وجدوا بها (اسكوتاوس) وعيلته وكان يمت بالقرابة إلى القائد (تيودور) وكان مختبئا في حائط كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على أحد منهم".

     ولكن يجدر بنا أن نسدل الستار على ما كان، فإنه لا يتيسر لنا أن نسرد كل ما كان من المسلمين من المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس في يوم الأحد وهو الثامن عشر من شهر (جنبوت) في السنة الخامسة عشرة من سني الدورة .ويقع ذلك التاريخ في اليوم الثالث عشر من شهر مايو 641م.

     ويقول بتلر ص311 و 312 : "وقد أثبتنا هنا نص قول الأسقف القبطي لأنه يدل على ما كان عليه القبط من قلة حب للعرب الفاتحين، ولكي نظهر أنهم ما كان لهم أن يحبوهم، وقد كان منهم ما كان.  وقد كانت نقيوس معقلا من معاقل الدين القبطي، ولا شك أن الناس كانوا مع ما نزل بهم من الاضطهاد لا يزالون على عقيدتهم يضمرونها في قلوبهم، ولو أظهروا الخروج منها تقية لما نالهم من عسف قيرس، وكان العرب في وقعتهم لم يفرقوا بين قبطي ورومي. وليس فيما وصلنا من أخبار ذلك لفظ واحد يدل على أن القبط كان لهم شأن آخر في معاملة العرب. . . وكان العرب ينظرون إلى كلا الحزبين نظرة الازدراء، ولا يأمنون لأيهما ولا يتعاهدون مع أحد منهما.  وفي طريقهم إلى نقيوس، مر العرب بمدينة قديمة معروفة باسم طرنوتي، أو كما يسميها العرب الطرانة، وحدثت هناك موقعة انهزم فيها الروم، وواصل عمرو سيره إلى نقيوس.                                                                                                                   بتلر ص 310    

            وفي مواصلة طريقهم إلى نقيوس، مر العرب بقرية صغيرة على الجانب الغربي للنيل تعرف اليوم بخربة وردان، ويذكر بتلر فى هامش ص309 نقلا عن المقريزي قصة هذه القرية فيقول: وكان عمرو حين توجه إلى الإسكندرية خرب القرية التي تعرف اليوم بخربة وردان، واختلف علينا السبب الذي خربت لأجله. فحدثنا سعيد بن عفير أن عمر لما توجه إلى نقيوس عدل وردان لقضاء حاجته عند الصبح فأختطفه أهل الخربة فغيبوه، ففقده عمرو وسأل عنه وقفا أثره فوجدوه فى بعض دورهم فأمر بإخرابها وإخراجهم منها، وقيل كان أهل الخربة رهبانا كلهم فغدروا بقوم من صحابة عمرو، ووجه إليهم وردان فقتلهم وخربها، فهي خراب إلى اليوم. 

            وبعد مذبحة نقيوس والاستيلاء عليها، واصل العرب سيرهم إلى مدينة كريون وهي آخر سلسلة من الحصون بين حصن بابليون والإسكندرية، وكان لها شأن عظيم في تجارة القمح، سوى ما كان لها من خطر عظيم في الحرب، إذ كانت تشرف على الترعة التي عليها جل اعتماد الإسكندرية في طعامها وشرابها،  ولكن حصونها لم تكن في المنعة على مثل ما كان عليه حصن بابليون ولا حصن نقيوس.  وحدث هناك قتال عنيف، ولم تكن تلك الوقعة قتال يوم انجلى عن مصير كريون، بل كان قتالا شديدا استمر بضعة عشر يوما.

     ويلوح لنا أن تلك الوقعة لم تكن نصرا لإحدى الطائفتين، بل تساوت فيها الكفتان، ولكن مؤرخي العرب يقولون إنها كانت نصرا عظيما للمسلمين.

     وبفتح العرب لكريون، خلا أمامهم الطريق إلى الإسكندرية، وكان عدد جيش عمرو عشرين ألفا غير الحاميات التي تركها في بابليون ونقيوس وغيرها.                                                 بتلر ص 316 و317 

25 مايو 641م  موت قسطنطين ابن هرقل

     بعد موت هرقل في 11 فبراير 641م ، كان قد تولى الملك بعده ولداه، وهما: قسطنطين، ابنه من زوجته أدوقية، وهرقلوناس (هرقل) إبنه من زوجته الثانية مرتينة.                        

     وكان قسطنطين قد قام  بإعداد العدة وتجهيز الجيش والسفن اللازمة لإرسالها إلى مصر، وما كاد كل ذلك يعد، حتى مرض ومات في 25 مايو 641م، بعد أن حكم مائة يوم فقط. وبموته ، آل الحكم كله إلى أخيه هرقلوناس، الذى سار على عكس نهج أخوه قسطنطين، وأعد العدة لإرجاع المقوقس إلى مصر، وأباح له أن يصالح العرب . 

آخر يونيو 641م   الهجوم على الإسكندرية

            سار عمرو بن العاص بجيشه متجها إلى الإسكندرية من ناحية الجنوب الشرقي للمدينة، وكانت الإسكندرية، كما يصفها بتلر ص317 ، ذات عظمة بارعة نادرة تتجلى لمن يسيرون بين الحدائق وحوائط الكروم والأديرة الكثيرة بأرباضها. فقد كانت الإسكندرية حتى القرن السابع أجمل مدائن العالم وأبهاها، فلم تبدع يد البناء قبلها ولا بعدها شيئا يعدلها، اللهم إلا روما وقرطاجنة القديمتين.

     وكانت الأسوار منيعة تحميها آلات المجانيق القوية، ولم تكن للعرب خبرة في فنون الحصار وحربه، وعندما حمل عمرو بن العاص بجيشه أول مقدمه على أسوار المدينة، كانت حملة طائشة غير موفقة، فرمت مجانيق الروم من فوق الأسوار على جنده وابلا من الحجارة العظيمة، فارتدوا باعدين عن مدى رميها، ولم يجرؤا بعد ذلك على أن يتعرضوا لقذائفها، وقنع المسلمون أن يجعلوا عسكرهم بعيدا عن منالها، وانتظروا أن يتجرأ عدوهم ويحمله التهور على الخروج إليهم.

     ولم يكن ثمة حصار للإسكندرية بالمعنى الصحيح، فقد كان البحر يحمي المدينة من جهة الشمال، وكانت الترعة وبحيرة مريوط تحميانها من الجنوب، وكان إلى الغرب ترعة (الثعبان)، فلم يبق من فرج إلا شرقها وجنوبها الشرقي، ولم يستطع المحاصرون أن يقتربوا من الأسوار من ذلك الفرج، وقد تأكد عمرو أنه لن يستطيع أخذها بالهجوم. 

     وكان الروم قد هاجروا من حول الإسكندرية، فصارت قصورهم البديعة ومنازلهم الجليلة فيما وراء الأسوار فيئا للعرب، فغنموا منها غنيمة عظيمة، وهدموا كثيرا منها ليأخذوا خشبها وما فيها من حديد، وأرسلوا ذلك في سفن بالنيل إلى حصن بابليون كي يقيموا به جسرا ليعبروا عليه إلى مدينة لم يستطيعوا من قبل أن يعبروا إليها.                                                      بتلر ص321

            مضى عند ذلك أكثر شهر يونيو،  ولم يكن عمرو بالرجل الذي يخادع نفسه عن المدينة ويعلل نفسه باستطاعته فتحها عنوة، فقد علم حق العلم أنه لن يستطيع أخذها بالهجوم،  وإنما كان واثقا من شئ واحد، وهو أن أصحابه إذا خرج لهم العدو وناجزهم القتال، صبروا وثبتوا وغلبوه. وعلى ذلك عول على أن يخلف في معسكره جيشا كافيا للرباط، وأن يسير هو مع من بقي من الجنود، فيضرب بهم في بلاد مصر السفلى (مدن الدلتا).                                                                                                                           بتلر ص 320

            سار عمرو بن العاص بمجموعة من جنوده  إلى( كريون) ومن ثم إلى (دمنهور) ثم سار إلى الشرق يجوس خلال الإقليم الذي يعرف اليوم باسم الغربية، حتى بلغ (سخا) وكان ذلك الموضع إلى شمال المدينة الحديثة (طنطا) على نحو أثنى عشر ميلا منها، وهو قصبة الإقليم، وكان موضعا حصينا، ولم يفلح عمرو في تحقيق ما كان يريده من النزول على تلك المدينة بغتة وأخذها على غرة، ورأى العرب أنفسهم مرة أخرى وقد عجزوا عن أخذ مدينة تحيط بها الأسوار وتكتنفها المياه.

     فساروا نحو الجنوب ولعلهم اتبعوا (بحر النظام) حتى بلغوا (طوخ) وهي على نحو ستة أميال في الشمال الغربي من موضع (طنطا).

ومن (طوخ) ساروا إلى (دمسيس)، وقد ارتدوا كذلك عن هاتين القريتين ولم يستطيعوا فتحهما، ولم يجد أهلهما مشقة في صد العرب.

     ويرد مع هذه الأخبار ذكر غزوة للقرى التي على فرع النيل الشرقي، قيل إن العرب قد بلغوا فيها مدينة (دمياط)، ولعل تلك الغزوة كانت على يد سرية عمرو في هذا الوقت نفسه.  ولم يكن من أمرها غير إحراق المزارع، وقد أوشكت أن ينضج ثمرها، فلم تفتح شيئا من المدائن في مصر السفلى.

     ولنذكر أن العرب قضوا في عملهم في هذا الإقليم أثنى عشر شهرا إلى ذلك الوقت.

     وبعد ذلك الغزاة التي أوقع فيها عمرو بالبلاد وغنم منها عاد إلى حصن بابليون ومن معه دون أن يجني كبير فائدة.

     وإن لنا لدلالة في غزاته تلك في مصر السفلى، وما لاقاه فيها من القتال في مواضع كثيرة، وعجزه في جل ما حاوله من الفتح في بلاد الشمال القصوى، فإن ذلك يزيدنا برهانا على ما تحت أيدينا من البراهين على فساد رأيين  يذهب إليهما الناس : أولهما أن مصر أذعنت للعرب بغير أن تقاتل أو تدافع ، وثانيهما أن المصريين رحبوا بالفاتحين ورأوا فيهم الخلاص والنجاة مما هم فيه.

                                                                                        بتلر ص 322 و323

14 سبتمبر 641م  عودة قيرس المقوقس إلى مصر

             أعاد الإمبراطور الجديد هرقلوناس، أعاد المقوقس من منفاه إلى الإسكندرية، وأباح له أن يصالح العرب.

 8 نوفمبر 641م   كتابة عقد  تسليم الإسكندرية

            كان كبار الروم في الإسكندرية أحزابا وشيعا، تباعد بينهم الإحن ويغري بينهم التحاسد، وكان حرص كل من الحزبين، الأخضر والأزرق، على القتال فيما بينهم، أعظم من حرصهم على حرب العدو الرابض عند أبواب مدينتهم.                                    بتلر ص 334

     وأما ما كان يجول في قرارة نفس المقوقس من مختلف النزعات، فأمر لا يصل إليه الحدس ولا يبلغه التصور، فقد طمع في أن يثيبه المسلمون على مساعدته لهم بأن يبسطوا يده على الكنيسة القبطية في مصر، ويكون عند ذلك مالكا لأمر ليس أحد في القسطنطينية سلطان عليه،  إذ كان قيرس المقوقس يريد أن يزيد في سلطانه الديني بالإسكندرية ويقيمه على أطلال الدولة بعد خرابها، ولسنا نجد رأيا آخر أكثر ملاءمة لما بدا منه، فهو خير رأي نستطيع به أن ندرك ما كان بينه وبين عمرو من صلات خفية، وما قارفه من خيانة دولته الرومانية، فلنصفه بأنه خائنا للدولة في ما توهمه صلاحا للكنيسة.                                                                                           بتلر ص 331

     وكان عمرو قد عاد إلى بابليون بعد أن فتح بلاد الصعيد، أو على الأقل بلاد مصر الوسطى، كيما يستريح بأصحابه في أوان فيضان النيل، وفيما كان هناك في الحصن، وافاه المقوقس وقد جاءه يحمل عقد الإذعان والتسليم، فرحب به عمرو وأكرم وفادته. وكتب عقد الصلح (صلح تسليم الإسكندرية)، يوم 8 نوفمبر 641م وأهم شروطه:

1 ـ أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد.

2 ـ أن تعقد هدنة لنحو أحد عشر شهرا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق الثامن والعشرين من شهر سبتمبر من سنة 642م.

3 ـ أن يبقى العرب في مواضعهم في مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا    وحدهم ولا يسعوا أى سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال.

4 ـ أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر ويحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعها، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزاء معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.

5 ـ أن لا يعود جيش من الروم إلى مصر أو يسعى لردها.

6 ـ أن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أمورهم أى تدخل.

7 ـ أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.

8 ـ أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مائة وخمسين من جنودهم وخمسين من غير الجند ضمانا لإنفاذ العقد.                                            بتلر ص 343

            أمضي عهد الصلح في بابليون في يوم الخميس 8 نوفمبر 641م وكان لا بد من إقراره من إمبراطور الروم، كما كان لا بد له من إقرار خليفة المسلمين، عمر بن الخطاب، فأوفد عمرو بن العاص، معاوية بن حذيج الكندي، وأمره أن يحمل أنباء ما حدث إلى عمر بن الخطاب الخليفة في مكة، وكان في مدة الهدنة وهي إحدى عشر شهرا، متسع من الوقت يكفي لذلك وما يلزم من الرسوم ، ثم عاد قيرس المقوقس مسرعا إلى الإسكندرية يحمل معه كتاب الصلح.

     أرسلت الرسائل إلى الإمبراطور هرقلوناس تفضي إليه بشروط الصلح، وطلب منه المقوقس أن يقرها. ثم دعا المقوقس كبار قواد الجيش وعظماء رجال الدولة، وأخذ يسهب في ذكر الضرورة التي استوجبت عقده، وما فيه من مزايا، فما زال حتى فاز بما أراد من حمل سامعيه على الإيمان بقوله، ولكن كان فوزا ما أشأمه .                                                                            بتلر ص 353

     ويقول بتلر، ص 358 :" فمن ذلك نرى أن ذلك الصلح الذي عقده قيرس لم تكن ثمة ضرورة في الحرب تدعوا إليه، ما دامت أساطيل الروم تسيطر على البحر، والعرب بعد أبعد الناس عنه، لا يمر بخاطرهم أن يتخذوا فيه قوة وكانت الإسكندرية تطيق الصبر على الحصار مدة سنتين أو ثلاثة، ريثما يلي الأمر حاكم صلب القناة، فإذا ما كان ذلك، لم يكن من المستبعد أن تعود مصر إلى الروم، ... ولكن قيرس المقوقس أسلمها للعدو خفية وعفوا بغير أن تدعوه إلى ذلك ضرورة. وإنا لا نكاد نعرف في تاريخ الإسكندرية أنها أخذت مرة عنوة بغير أن يكون أخذها بخيانة من داخلها". وقد خابت آمال أهل الإسكندرية، بعد ذلك، بهذا الفتح خيبة ما كان أمرها.

10 ديسمبر 641م   أداء القسط الأول من جزية الإسكندرية للعرب

            ما كان المقوقس يستطيع أن يبقي خطته في ستر الخفاء بعد ذلك طويلا، فقد علم أهل الإسكندرية بالأمر بغتة، وقد فاجأهم طلوع فئة من العرب على المدينة، وما كان أشد عجبهم ودهشتهم مما علموا، إذ عرفوا عند ذلك أن العدو لم يأت ليقاتلهم، بل أتى ليحمل الجزية التي اتفق عليها قيرس المقوقس في عقد الصلح الذي طلبه وكتبه معهم على تسليم المدينة،   فهاج الناس وثار ثائرهم لما سمعوا، وذهبوا غير مصدقين  حتى أتوا قصر البطريق، وكان الخطر في تلك اللحظة محدقا بحياته، إذ تهافت الناس يريدون أن يحصبوه.

ولكنه استطاع بما أوتي من بلاغة وفصاحة على تخفيف جنايته، وتهوين خيانته، في مقالته التي قالها بين الناس، وجعل يبرر ما كان منه قائلا: إنه إنما اضطر إلى ركوب الصعب اضطرارا إذ لم يكن بد منه، وما قصد غلا مصلحة قومه وفائدة أبنائهم،  وأن الصلح حقن دمائهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وديانتهم، ومن أراد أن يعيش في ارض مسيحية كان له الخيار في ترك الإسكندرية‎، وما كان أمر الخيار بين الهجرة من الإسكندرية وبين الإذعان للمسلمين بالأمر الهين، فلم يتمالك البطريرك معه، بل بكى، وهو يطلب من الناس أن يصدقوا أنه إنما بذل جهده في أمرهم، وأن عليهم أن يرضوا بالصلح.

بهذا استطاع قيرس المقوقس مرة أخرى أن يفوز برأيه المشؤم، وأخذ الناس يجمعون قسط الجزية التي فرضت عليهم، ووضعوا المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب به المقوقس بنفسه، ليحمله إلى قائد المسلمين.

                                                             بتلر ص 354

21 مارس 642م  موت قيرس المقوقس

            في أواخر أيامه استولى عليه الهم وغرق في الحزن، واجتمعت عليه المخاوف،  ففي القسطنطينية بويع لقسطانز وحده بالملك في آخر نوفمبر 641م ، وأبعد جميع أصدقاء المقوقس، وأعيد إلى السلطة من كان عدوا شديد العداوة له. وخشي أن يأمر الإمبراطور الجديد بنفيه أو بقتله.

     ورأى أن الناس قد أنكروا سياسته للدين إنكارا لا أمل معه في عودة الرضى عنه، ورأى سياسته في أمور الدنيا وقد أصابها العار.

وكان أكثر ما أصابه من الحزن كان لرفض العرب شفاعته في أمر عودة الأقباط الذين كانوا قد لجأو إلى الإسكندرية، عودتهم إلى قراهم وإلى منازلهم. وذكر ما قارف من الذنوب وما أصابه من الفشل والخذلان، وكان قلبه يؤنبه، وندم على تفريطه في أمر مصر، وبكى على تضيعه لها.

     وظلت الأقدار تغمره والهموم تحيط به حتى أصابه داء (الدوسنطاريا) في يوم أحد السعف، ومات منه في يوم الخميس الذي بعده في 21 مارس 642م.                                                                                    بتلر ص 380 و 381

يوليو 642م  القتال للاستيلاء على مدن شمال الدلتا

            قاومت مدن شمال الدلتا، مثل: إخنا ، رشيد ، البرلس ، دمياط ، خيس ، بلهيب ، سخا ، سلطيس ، فرطسا ، تنيس ، شطا ، وغيرها. قاومت الفتح العربي مقاومة شديدة.

ويذكر بتلر ص 377 ، أن مقاومة المصريين للعرب استطال أمرها في بلاد مصر السفلى، وظلت إلى ما بعد فتح الإسكندرية، وإذا ذكر أن أهل تنيس وما يليها من البلاد الواقعة في إقليم تلك البحيرة، كانوا من القبط الخلص، تنبض قلوبهم بما تنبض به قلوب القبط،  عرفنا أن وقوع تلك الوقعة في ذلك الوقت، دليل جديد على فساد رأيين طالما خدعا الناس وتقادم عليهما الدهر وهما يكفران الحقيقة، وهذان الرأيان هما : أن مصر سلمت للعرب بغير قتال، وأن القبط رحبوا بالعرب ورأوا فيهم الخلاص مما كانوا فيه .

لقد كانت خيانة قيرس المقوقس للإسكندرية، سببا في القضاء على آخر آمال المسيحيين بالفوز في مصر، ولكن من العجب مع ذلك أن تدافع هذه البلاد المتفرقة في مصر السفلى، جيوش الغزاة العرب وتقاومهم نحو عام آخر. ففي هذه آية على أن أهلها كانوا قوما من أولى النخوة والحفاظ، بقوا على عهد دينهم وثبتوا عليه، ولكن التاريخ لم يجزهم بذلك ما يستحقونه من حسن الأحدوثة، بل لبث ينكر عليهم زمنا طويلا.   

     وكانت الإسكندرية قد ازدحمت بمن لجأ إليها من جميع أنحاء مصر، خوفا على أنفسهم من مداهمة العرب لمدنهم وقراهم، التي لم تكن بمثل حصانة الإسكندرية ومنعتها.

     ولما عقدت معاهدة تسليم الإسكندرية بين المقوقس والعرب، كان من شروطها أن جنود الروم ومن حل بالإسكندرية من الرومان لهم الخيار إذا شاءوا جلوا عنها بحرا وبرا،  وأما القبط فلم يذكروا فيه بشيء، فلما رأى اللاجئون بالإسكندرية أن السفن تحمل كل يوم طوائف من الناس إلى قبرص ورودس وبيزنطة، قلقوا وحنوا إلى الرجوع إلى قراهم، فذهبوا إلى المقوقس وطلبوا إليه أن يكلم لهم عمراً في ذلك، وكانوا يعرفون صلته الوثيقة بقائد العرب،  ولكن الظاهر أن عمراً لم يبيح لهم الجلاء، ولا عجب في أن يخيب سعي البطريرك في هذا الأمر، إذا عرفنا أن طلبه هذا كان قبل شهر مارس، إذ كانت الحرب لا تزال ثائرة في بعض قرى مصر السفلى، وكان أكثر اللائذين من مصر السفلى،  فلو أبيح لهم الرجوع إلى قراهم لما أمن أن يقاتلوا جنود المسلمين بأنفسهم، أو أن يمدوا المدائن التي كانت لا تزال مصرة على القتال ولم يفتحها المسلمون بعد.

غير أن قيرس آلمه ألا يجيبه عمرو إلى طلبه، وكان ألمه من ذلك شديداً، فقد

كان يطمع أن يستميل إليه بعض القبط، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أن ينسيهم شيئا من حقدهم عليه، فكان هذا الرفض الذي رفضه عمرو لطلبه،  ضربة شديدة أصابت سياسته في هذا الشأن.                                 بتلر ص 379

            وأضيف هنا إلى كلام بتلر، بأن موقف عمرو بن العاص من الأقباط اللاجئين إلى الإسكندرية، ورفضه عودتهم إلى مدنهم وقراهم، خوفا من انضمامهم إلى محاربة العرب وقتال جنود المسلمين بأنفسهم، يؤكد لنا بوضوح، كذب وبطلان ادعاء ترحيب الأقباط بالعرب الفاتحين، لأنه لو كان هناك أدنى نوع من هذا الترحيب المزعوم من جهة الأقباط، لما رفض عمرو السماح لهم بالعودة إلى ديارهم.

17 سبتمبر 642م   جلاء الروم الأول عن الإسكندرية

            كان يقوم على ترحيل جنود الروم من الإسكندرية ومن بلاد مصر السفلى، اثنان من القادة، هما (تيودور) الذي أصبح حاكم مصر بعد موت المقوقس و(قسطنطين) الذي أصبح القائد الأعلى لجيش الروم بعد (تيودور).

     وفي 17 سبتمبر 642م ، كانت حوالى مائة (100) سفينة من أسطول الروم تحل قلاعها وترفع مراسيها وتسير إلى قبرص بمن كان عليها من فلول الروم الذين كان يقدر عددهم بنحو ثلاثين ألف (30 ألف ) جندي، يحملون معهم متاعهم،  ويرفف عليهم الأسى.

29 سبتمبر 642م   العرب يدخلون الإسكندرية لأول مرة

     بعد رحيل جنود الرومان، وانتهاء مدة الهدنة (أحد عشر شهرا)، التي حددتها معاهدة تسليم المدينة بين المقوقس وعمرو، فتحت أبواب الإسكندرية  ليدخلها العرب لأول مرة.  

شتاء 642 ـ643  غزوة عمرو الأولى (لبنتابوليس)

            سار عمرو حتى بلغ (برقة)، والظاهر أنها سلمت للعرب صلحاً،

على أن تدفع 13 ألف دينار جزية كل عام، وجاء في شروط الصلح شرطان عجيبان :

           1ـ أبيح لأهل برقة أن يبيعوا أبناءهم ليأتوا بالجزية المفروضة.

          2ـ كان عليهم أن يحملوا الجزية إلى مصر، حتى لا يدخل جباة الجزية إلى بلادهم .                               بتلر ص445

            ثم سار عمرو إلى (طرابلس) وكانت أمنع حصوناً وأعز جيشاً، وكانت بها مسلحة كبيرة من الروم، صبرت على الحصار بضعة أسابيع، ولكن لما لم يأتها أى إمداد من جهة البحر، وكاد جيشها يهلك من شدّة الجوع، وجهد القتال، وقعت المدينة في أيدي العرب، فأسرع الجنود الرومان إلى سفنهم، وهربوا منها عن طريق البحر. وسار عمرو بعد ذلك مسرعا إلى (سبرة)، وطلع على المدينة بغتة، وهاجمها في أول الصباح، وأخذ الناس على غرة، وأخذ المدينة عنوة، وأعمل فيها النهب. ثم عاد بجيشه، ومعه عدد عظيم من الأسرى ومقدار كبير من الغنائم، إلى مصر، وعاد عمرو إلى حصن بابليون.                                                                            بتلر ص 446

خريف سنة 644م  عودة (ظهور) البابا بنيامين

            كتب عمرو بن العاص (وعد، أو عهد أمان) للبابا بنيامين، وكان البابا مختفياً في مكان مجهول لا يعلم به أحد، وكانت صورة هذا الوعد كما يلي: أينما كان بطريق القبط بنيامين، نعده الحماية والأمان، وعهد الله، فليأت البطريرك إلى ها هنا في أمان واطمئنان ليلي أمر ديانته ويرعى أهل ملته.                                                     

                                                                                                                           بتلر ص 455

وكانت مدة غياب البابا عن كرسيه 13 سنة، عشر سنين في عهد الرومان وحكم المقوقس، وثلاث سنوات في مدة حكم العرب.

     ويذكر هنا بتلر ملاحظة هامة، ويقول في ص457 : "وإنه لمن الجدير بالالتفات أن هذا البطريق الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه فتح المسلمين لمصر واستقرار أمرهم في البلاد، ولا خروج جيوش الروم عنها، وليس أدل من هذا على افتراء التاريخ على القبط، واتهامهم كذباً بأنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم ورأوا فيهم الخلاص، مع أنهم أعداء بلادهم. ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب لكان ذلك عن أمر بطريقهم أو رضائه، ولو رضي بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرها لما بقي في منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب، ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئه إلا بعهد وأمان لا شرط فيه.

     ولو لم يكن في الحوادث دليل على كذب هذه الفرية غير هذا الحادث، لكان برهانا قوياً، وإن لم يكن برهاناً قاطعاً فهو حلقة نضمه إلى سلسلة ما لدينا من الأدلة، وقد أصبحت سلسلة لا يقوى على نقضها شئ.

أكتوبر 644م 

عمرو بن الخطاب يولي عبد الله سعد بن أبي سرح جباية الخراج

            كانت العلاقة بين الخليفة عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، علاقة متوترة وغير طيبة، وقد كرر ابن الخطاب إرسال خطابات شديدة اللهجة وغير ودية إلى ابن العاص، يؤنبه فيها بشدة، على تأخيره في إرسال الخراج، من الأموال والخيرات إلى دار الخلافة بمكة. ويقول ابن الخطاب في أحد خطاباته: "أما بعد فإني عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج ....

     ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج ومن حسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فئ المسلمين وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام".                                              بتلر ص473

     وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسل محمد بن سلمة إلى مصر و أمره أن يجبي ما استطاع من المال فوق الجزية التي أرسلها عمرو بن العاص من قبل. ثم أرسل بعد ذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وولاه حكم الصعيد والفيوم، وجباية الخراج.

7 نوفمبر 644م  مقتل الخليفة عمر بن الخطاب ودفنه

            كان من آخر ما أتاه عمر بن الخطاب في حياته، أن قلل من سلطان عمرو بن العاص، وذلك بأن ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، حكم الصعيد والفيوم، وجعل إليه جباية الخراج.

10 نوفمبر 644م   عثمان بن عفان يتولى الخلافة في مكة

بويع عثمان بالخلافة في مكة بعد دفن عمر بثلاث ليال (كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، صفحة 103 ).   

ويذكر بتلر ص 481 ، أنه عندما تولى عثمان الخلافة ، عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر تماما، وجمع ولايتها جميعها لعبد الله بن أبي سرح، وكان يقيم  في مدينة (شطنوه) في إقليم الفيوم. وقد اختلفت الآراء في هذا الوالي الجديد لمصر، فيصفه الطبري بأنه لم يكن في وكلاء عثمان أسوأ من عبد الله والى مصر.  وقد ولاه الخليفة عثمان قصدا، لكي يزيد في جباية الجزية، وقد جعل عبد الله بن أبي سرح، أول همه زيادة الضرائب على أهل الإسكندرية.   

 

وخرج عمرو بن العاص من مصر بعد عزله، وسار إلى المدينة ناقما على عثمان.                                          (تاريخ الخلفاء للسيوطي).

نهاية سنة 645م  ثورة الإسكندرية بقيادة (منويل)

            بعث الإمبراطور قسطانز في القسطنطينية، بأسطول عظيم يتكون من حوالي 300 سفينة محملة بالجنود بقيادة منويل للاستيلاء على الإسكندرية، وكان بالمدينة حوالي ألف جندي من العرب للدفاع عنها، فغلبهم الروم وقتلوهم جميعا إلا نفراً قليلا منهم استطاعوا النجاة، وعادت بذلك الإسكندرية إلى ملك الروم، وكان عمرو عند ذلك في مكة معزولا، وقد أضاع الجنود الروم  الوقت والفرص كعادتهم، فساروا في بلاد مصر السفلى، يغصبون الأموال والأطعمة  من الناس.

آخر فصل الربيع 644م 

عودة عمرو بن العاص، وموقعة نقيوس الثانية

            لما وصلت أنباء ثورة الإسكندرية، إلى مكة، أمر الخليفة عثمان بأن يعود عمرو بن العاص إلى قيادة جيش العرب في مصر، وكانت نقيوس وحصن بابليون، وغيرها، لا تزال في يد العرب .

     ولم يكن من رأي عمرو أن يسرع في أمره، وهذا غير ما كان يراه خارجة بن حذاقة، الذي كان عند ذلك قائد مسلحة حصن بابليون، إذ كان يرى أن التأخير ضار بالمسلمين، مصلح لأمر الروم،  وأشار على عمرو أن يبادر إلى العدو قبل أن يأتيه المدد،  أو يثب أهل مصر جميعا وينقضوا على العرب. ولكن عمرو، كان يرى خلاف ذلك، فقال: ولا ولكن أدعهم حتى يسيروا إلىّ فإنهم يصيبون من مروا به، فيخزي الله بعضهم ببعض. وإنه لمن الجدير بالذكر أن قواد العرب في هذا الوقت لم يميزوا بين قبطي ورومي، بل ظنوا أن الفئتين معاً إلب على قتالهم.

     وهذا يدل على أنه لم يكن ثمت ما يدعوهم إلى توقع محبة القبط لهم، ولا حيادهم في قتال الروم. ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب عند أول مجيئهم إلى مصر ورأوا فيهم الخلاص، لركن قوّاد العرب في هذا الوقت إلى ولاء القبط ومحبتهم، ولتوقعوا منهم الود والمساعدة.                      

      بتلر ص 486 

 وسار الروم على مهل حتى استدرجوا إلى نقيوس، وهناك لقيهم طلائع العرب، ولعل جيشهم كان إذ ذاك خمسة عشر ألفا،  ودارت معركة حامية بين الطرفين، انتهت بهزيمة جيش الروم، الذي انسحب إلى الإسكندرية، وأقفل الروم أبواب المدينة واستعدوا للحصار.

صيف سنة 646م   إعادة فتح العرب للإسكندرية

            كما يقول بتلر في ص 357 ، : إنا لا نكاد نعرف في تاريخ الإسكندرية، أنها أخذت مرة عنوة، بغير أن يكون أخذها بخيانة من داخلها. فقد قيل إنه كان في الإسكندرية، بواب اسمه (ابن بسامه)، سأل عمراً أن يؤمنه على نفسه وأهله وأرضه ويفتح له الباب، فأجابه عمرو على ذلك.ومهما يكن من الأمر، فقد أخذ العرب المدينة عنوة، ودخلوها يقتلون، ويغنمون، ويحرقون، حتى ذهب في الحريق كل ما كان باقياً على مقربة من الباب في الحي الشرقي، ومن ذلك كنيسة القديس مرقس، واستمر القتل حتى بلغ وسط المدينة، فأمرهم عمرو برفع أيديهم، وبنى مسجداً في الموضع الذى أمر فيه عمرو برفع السيف، وهو مسجد الرحمة. وقد لاذت طائفة من جند الروم بسفنهم، فهربوا في البحر، ولكن كثيرا منهم قتل في المدينة، وكان منويل من بين من قتل، وأخذ العرب النساء والذراري فجعلوهم فيئاً.                   بتلر ص 488

وهدم عمرو الأسوار الشرقية حتى سواها بالأرض.                                                                               بتلر ص 497

     وأخذ أسرى من الإسكندرية ومن البلاد المجاورة مثل بلهيب وخيس وسلطيس وقرطسا وسخا ، وبعث بهم إلى المدينة، ولكن الخليفة عثمان أعادهم إلى ذمة المسلمين على شرط الجزية.

     وكان عمرو يريد أن يتخذ الإسكندرية مقراً له، ولكن الخليفة عثمان لم يرض بذلك، كما أباها عليه الخليفة الذي قبله(عمر).

     ولم يبق عمرو في مصر بعد استقرار الأمر إلا شهراً واحداً، ثم خرج عنها لعبد الله بن سعد .

خريف سنة 646م  استدعاء عمرو بن العاص إلى مكة

            عرض الخليفة عثمان بن عفان على عمرو ابن العاص أن يجعله قائد جند مصر، على أن يكون عبد الله بن سعد بن أبى سرح، حاكمها وعاملا على ولاية خراجها، ولكن عمرو بن العاص رفض، ورد قائلا: إناّ إذن كماسك البقرة بقرينيها، وآخر يحلبها .

ولكن الخليفة لم يبق عليه إذ قد فرغ من غرضه منه، وقضى به على ثورة مصر، وكان في حاجة عند ذلك إلى من يستخرج له الأموال من أهلها، فوجد طلبته في عبد الله بن أبي سرح، وخرج عمرو على ذلك من البلاد.                                                      بتلر ص 500   

أغسطس سنة 658م  تولية عمرو حاكما لمصر

            بعد مقتل عثمان، تولى الخلافة، علي بن أبي طالب، ولكن مبايعته للخلافة لم تكن بالإجماع، فثار نزاع دموي طويل، بين علي ومعاوية، انتهى بمقتل علي، وتنازل إبنه الحسن عن الخلافة لمعاوية.

وكان عمرو بن العاص موالياً لمعاوية في نزاعه مع علي، وجاء إلى مصر مناصراً له، فعينه معاوية بعد ذلك، واليا على مصر مكافأة له على مساعدته، ودفاعه عنه، ضد على بن أبي طالب.                                                                           بتلر ص 503

3 يناير 662م  وفاة البابا بنيامين

6 يناير 664م موت عمرو ودفنه في سفح المقطم، ولكن قبره نسى مكانه.                                                   بتلر ص 505  

الصفحة الرئيسية