كتاب "الخلاص العظيم: أساسيات التعليم المسيحي" من الكتب الهامة والنافعة لكل أولاد الله. فالكاتب يلمس حقائق إلهية مباركة نتجت عن موت المسيح وقيامته وارتفاعه للمجد. هذه الحقائق وإن كانت جزئية- بين بقية الحقائق الكتابية الأخرى، غير أنها تأتي كأولويات في الاختبار الفردي. وفي الواقع أنه بدون التمتع بهذه الحقائق الخلاصية، فإنه يصعب إدراك غيرها من الحقائق الكتابية.
والكاتب يتناول- في هذا الكتاب- موضوعات الخلاص العظيم (الغفران- التبرير- الفداء- المصالحة- الخلاص- التقديس- الولادة الجديدة- الإحياء- عطية الروح القدس). ويقدمها كخُلاصة كتابية شارحاً معانيها بالشواهد الكتابية وبأسلوب سهل. وقد يتعرض أحياناً لبعض الآراء الطائفية بالتحليل ويجيب عليها في ضوء المكتوب. وبصفة عامة فإن الكاتب يلتزم في شرحه بالنص الكتابي.
ومن الملاحظ أن كثيراً من أولاد الله وأحياناً بعض المبشرين، ربما لا يميزون بين المعاني الصحيحة لبعض هذه الحقائق- التي تناولها المؤلف- فيخلطونها معاً، وقد يعتبرونها أحياناً مترادفات لمعني واحد. فمثلاً من يظن أن الغفران هو التبرير، والكفاءة هي الفداء والولادة الجديدة والخلاص والحياة الأبدية والإحياء بمعنى واحد. والواقع أن هذه الحقائق جميعها وإن كانت من نتائج موت المسيح وقيامته، إلا أن كلا منها يعالج جانباً من النتائج التي تسببت عن دخول الخطية، سواء كانت هذه الجوانب تمس أعواز الإنسان أو تمس مجد الله واسترضاء عدالته ومطاليب قداسته.
ونترك القارئ العزيز لهذه السطور، والتي نصلي أن يستخدمها الرب لتنشيط النفوس وتمتعها بهذه البركات المجيدة. ونشتاق أيضاً أن يزداد المبشرون والخدام وعياً وعمقاً بهذه الإمتيازات، ليكونوا أكثر نفعاً في خدمة النفوس والقطيع المشتت في الطوائف المسيحية.
وإنني أعتقد أن هذا الكتاب يصلح أن يكون مفتاحاً لمعرفة بعض الحقائق الخلاصية، وهو أمر في غاية الأهمية، حتى يُقدم للنفوس إنجيلاً واضحاً يُنادى به في كل مكان، ونحن نشكر الله الذي يُرسل خدامه وعبيده في كل مكان في أرجاء المسكونة، يحملون بشائر الخلاص وكلمة المصالحة، ولا تزال يد الله الممدودة تطلب المصالحة لجميع الناس، لكي يرجعوا إليه بالتوبة والإيمان بربنا يسوع المسيح، قبل فوات زمان النعمة.
والله الذي قاد الكاتب ليقوم بهذا الجهد العظيم، قاد الشيخ الموهوب فارس فهمي، ليُعرِّب هذا الكتاب بأسلوبه المميز الذي يجمع بين الجمال والسلاسة ليُظهر قوة تعبير الكاتب، ويصل الحق إلى كافة أولاد الله.
مارس 1985
لما بدأ يدب عمل روح الله في دواخلنا، كانت النتيجة في معظم الحالات أننا بدأنا نحس بخطايانا والمذنوبية التي تلازم هذه الخطايا، وبالتبعية بدأنا نبحث ونطلب الغفران، بدأنا نشعر بالحاجة إلى الصفح عن خطايانا وإلى معرفة هذا الصفح.
ونحن نعتقد أن قارئ هذه السطور له معرفة بالغفران ومع ذلك يحسن أن نتناول بالتعليق تعليم الكتاب عن هذا الموضوع بهدف الوصول إلى إدراك مرتب ومنظم لهذه البركة العظيمة والأساسية من بركات الإنجيل.
ولنلاحظ قبل كل شيء أنه لما دخلت الخطية بمعصية آدم وتردي الجنس البشري كله في السقوط كانت النتائج كثيرة جداً ومتنوعة ومتشعبة وأول وأكبر أثر للسقوط أن أصبح آدم مذنباً. يستشعر الذنب في ضميره جميع الناس تحت قصاص من الله- أخطأ الجميع.
لكن الكتاب يتكلم عن أناس يسميهم "أهل التحزب" ولا يطاوعون الحق (رو2: 8) تبلّد الضمير في هؤلاء وهم كثيرون لا يقرون بالذنب وينكرون حقيقة السقوط ويتحدّون كلمة الله إذ يرفضون ما تقرره الكلمة من أنهم خطاة. بل ويدافعون عن مبدأ وجود الخير في الإنسان وأن الإنسان بطبعه يتّطلع إلى ما هو أفضل ويرفضون حتى وجود حدود للخير وللشر ويقولون أن الخير والشر كلمتان لهما معاني نسبية. فالخير هو ما يقبله الإنسان المتعلم المتقدم والشر هو ما يرفضه هذا النوع من البشر. وإذن فالصواب والخطأ هما قيمتان تتفاوت مناسيبهما حسب مفهوم العصر للأدبيات والأخلاقيات. والحكم في ذلك هو العقل البشري. والشر أو الذنب هو الخروج على مبادئ وأوضاع ما ارتضاه المجتمع الراقي المتعلم. فالمذنب هو المذنب أمام الناس من حوله.
أما كلمة الله فترينا أن القضية مع الله وليست مع الناس، والمذنب هو المذنب ليس أمام الناس بل أمام الله. ورسالة رومية تضع أمامنا من أولها هذه الأشياء:
(1) إنجيل الله (2) ابن الله
(3)قوة الله (4)بر الله
(5) غضب الله (6) مجد الله
(7) دينونة الله.
والله القوي البار الديّان هو نفسه الخالق، إذن مستويات الإدراك والفهم والاستنارة في الناس وهي أمور غير ثابتة أو راسخة لا تصلح قياساً وإنما نجد أنفسنا أمام قياس الله الخالق ذي البر الذي لا يتذبذب ولا يتأرجح ولا يتغير.
قد يحتاج الأمر إلى بعض الجهد لإقناع الضمير بأنه مذنب لدى الله، لكن هذا الإقناع ليس على هذه الدرجة من الصعوبة مع الناس البرابرة والوثنيين ويكفي أن تُتلى عليهم قائمة الخطايا والرذائل المذكورة في (رو1: 18- 32) لإقناعهم بأن لا عذر لهم في هذا الإسفاف نتيجة تحوّلهم عن الله.
لكن غير البرابرة ممن وصلوا إلى مستويات من الحكمة البشرية والحضارة- هؤلاء عندهم الشر نفسه والخطايا نفسها التي عند البرابرة لكنها فقط مُقَنّعة مهذبة وهؤلاء أيضاً بلا عذر. هؤلاء وأولئك ينتهي النقاش معهم بأن يُذَكِرهم بولس بأن:
(1)-أن دينونة الله على هذه الشرور هي حسب الحق.
(2)-أن هناك يوم سوف تستعلن فيه دينونة الله العادلة.
(3)-أن ليس عند الله محاباة.
وإذن فلا مفر من دينونة الله التي حسب الحق بلا أقل انحراف وحسب العدل بلا أقل تساهل ولا تدخل فيها أية محاباة. لذلك ليس هناك أمل في تفادي هذه الدينونة إنها دينونة يستَد أمامها كل فم. فم البربري وفم اليوناني- المتحضر وغير المتحضر، المتخلف والعصري ثم هناك قطاع آخر من البشر هم اليهود- الذين نشأوا في ظل ثقافة ليست مجرد ثقافة طبيعية بل هي ديانة بترتيب إلهي. هؤلاء بالدليل الكتابي من واقع المكتوب الذي بين أيديهم وُجدوا مديونين لأنهم بالطبيعة يعملون ما يعمله الخطاة من غير اليهود وبكسر الناموس يهينون الله، واستحقوا دينونة الناموس "لأن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس "أي اليهود لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله.
إذن وقد ثبت الذنب ووجب الحكم، صار الغفران ضرورة عاجلة وحاجة أمام النفس ماسة. لذلك يضع الرب غفران الخطايا في مقدمة تعليماته لتلاميذه قبيل الصعود حين قال "كان ينبغي أن المسيح يتألم...... وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم" (لو24: 46، 47).
وهناك أمثلة عملية- فإن الرسول بولس في (أع26: 16- 18) يذكر قصته وكيف تجدد على طريق دمشق وكيف أرسله الرب" قم وقف.. لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً... لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور وسلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين".
وبطرس يتكلم إلى الجموع التي نُخست في قلوبها يوم الخمسين عن التوبة "وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا" (أع2: 38) وأمام المجمع شهد بطرس عن "غفران الخطايا" "هذا رفّعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (أع5: 31) وكذلك أمام كرنيليوس قال "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (أع10: 43) وفي أنطاكية قال بولس "فليكن معلوماً... أنه بهذا (بهذا الإنسان) يُنادى لكم بغفران الخطايا" (أع13: 38).
إذن بولس يثبت الاتهام ضد جميع الجنس البشري بأنهم مذنبون أمام الله وذلك في رسالة رومية- فلماذا لا يعلن مباشرة بعد الاتهام خبر الإعفاء من الحكم (غفران الخطايا) بل الواقع أن الغفران لا يُذكر في كل رسالة رومية إلا مرة واحدة عند ذكر ما قاله داود في مز32 "طوبى لمن غفر إثمه وسترت خطيته" هذا الكلام قاله بولس عند توضيح حقيقة التبرير. والحق أن حسبان البر للخاطئ الذي يؤمن هو عينُه غفران خطاياه- أي أن التبرير هو في معناه الغفران. إن تطويب إنسان يَحسِب الله له براً بدون أعمال الناموس (ص4: 7) هو عينُه تطويب الإنسان الذي يُغفر إثمه. (ص4: 6، 7) وهل تُغفَر آثام شخص دون أن يتَبرر هذا الشخص؟ أو هل يتبرر إنسان دون أن تُغفَر آثامه؟ إن كنا نُعفى من خطايانا أو تُطرَد عنا خطايانا (الغفران) فهذا هو الوجه السلبي وإن كنا نأخذ التبرير أو ننال التبرير فهذا هو الوجه الإيجابي والتعبيران يتضمنان الجوهر الواحد.
س: إذا كان الله في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (2كو5: 19) فهل معنى هذا أن كل واحد قد غُفِرَت خطاياه؟
ج: كلا. حقيقة إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وحقيقة قال الرب للمرأة الخاطئة "ولا أنا أدينك" يو8: 11- إن الله جاء بالرحمة في المسيح لكن الناس رفضوا رحمة الله. لكن بدلاً من أن يرد الله على الإنسان الرافض الجاحد ويُصب جامات غضبه عليه توَسطت طول أناته وأُعطي مهلة خلاص للإنسان أو هدنة سلام للإنسان هي زمان النعمة الذي ينادى فيه بغفران الخطايا- فيه يعلن العفو عن العصاة المتمردين. فإذا تواضع واحد منهم وجاء تائباً تُغفَر آثامه هناك فرصة غفران للجميع لكن ليس الجميع يؤمنون.
س: في مثل لو7 الذي قاله الرب في بيت سمعان الفريسي عن المديونين- قال الرب إن صاحب الدين سامحهما جميعاً إذ لم يكن لهما ما يوفيان أفلم يُسامح سمعان كما سومحت المرأة؟
ج: كلمة سامحهما هي في الأصل اليوناني تعني "أظهر عطفه أو نعمته لهما" وعلى ذلك فالرب يُعلن في المثل الله كالمُنعِم العطوف مع الناس بغض النظر عن درجة تورطهم في الخطايا. وهذا هو بالضبط موقف الله الآن بالنسبة للناس. لكن المرأة هي التي نالت غفران خطاياها لأنها هي التي جاءت نادمة تائبة إلى من يخلصها والنعمة كانت مقدمة بالسوية لسمعان لكنه من أجل كبريائه لم يستفد منها. هي سومحت وهو لم يُسامَح.
س: هل حقيقة ينال الخاطئ التائب غفراناً لخطاياه في الحال بمجرد إيمانه وتوبته؟
ج: نعم بكل تأكيد ونلاحظ أن الإصحاح التاسع من رسالة العبرانيين (من ص9: 1 إلى ص10: 18) وهو يتناول موضوع ذبيحة المسيح، تبرز فيه هذه الحقيقة بكل جلاء فالرسول يؤكد ست مرات أن ذبيحة المسيح هي ذبيحة واحدة وقُدمت مرة واحدة وفي نفس الإصحاح يؤكد الرسول أيضاً أن الذين يقدمون السجود على أساس ذبيحة المسيح يطهرون مرة واحدة ولذلك يقتربون بضمائرهم مُكملَّة (ص10: 1- 2). إن الغفران يتم مرة واحدة وإلى الأبد.
س: يقول البعض إن كنا نُعلِّم بأن المؤمن ينال غفراناً كاملاً فهذا مما يشجعه والتراخي. أليس من الأفضل أن نقول له أنه يحصل على غفران لغاية يوم تجديده؟
ج: إن الذين يقولون هكذا هم غير المؤمنين الذين ينكرون أو يتناسون أن الذي يتجدد بعمل الروح القدس يأخذ طبيعة جديدة تكره الشر. ولو أُعطيت هذه الحقيقة وزنها الصحيح لأخذ الموضوع كله شكلاً جديداً. فإن الذي يؤمن تُغفر له الخطايا ويأخذ طبيعة جديدة ويسكن فيه الروح القدس ويتعلم من النعمة (تي2: 11- 14). وليكن معلوماً أننا أخذنا الغفران عند الإيمان لكننا أخذناه على أساس ذبيحة المسيح- وكل خطايانا (في كل حياتنا وليس لغاية يوم تجديدنا فقط) كانت يوم صليب المسيح كلها مُستقبلة. ولنعلم أيضاً أن الله يتعامل معنا للغفران- يتعامل معنا كالأب مع أولاده، عندما نخطئ- عندما نعترف بخطايانا ننال الغفران والتطهير من كل إثم "لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار" (1يو1: 9و 2: 1) هذا هو غفران الله كأبينا لرد الشركة وليس الغفران الأبدي الذي نناله منه بمجرد الإيمان- منه لأنه "دَيَّان الجميع بيسوع المسيح".
س: وما معنى الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله؟ رومية 3: 25.
ج: الخطايا السالفة على أي شيء؟ ينبغي تحديد نقطة تكون الخطايا سالفة لها أو لاحقة لها. يقول الرسول "لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. لإظهار بره في الزمان الحاضر" (رومية2: 25، 26). إذن السالفة هي السالفة على موت المسيح- أي خطايا المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم وليس السالفة على يوم تجديد المؤمن. فلما مات المسيح وتم صنع الكفارة تبين أن الله كان متمهلاً في العهد القديم لأنه كان واثقاً من جهة عمل المسيح أنه يوفي كل مطاليب عدله ضد هذه الخطايا. تماماً كما يصفح من أجل دم المسيح عن خطايا المؤمن في عهد النعمة.
"بهذا "الإنسان" يتبرر كل من يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبروا منه بناموس موسى" (أع13: 39).
وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من (كتب) الناموس و(كتب) الأنبياء. بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون". (رو3: 21، 22).
معنى التبرير: هو التبرئة من كل تهمة يمكن أن تقوم ضد المبرر. وكلمات بولس تؤيد هذا المعنى في مجمع أنطاكية بيسيدية "بهذا ينادى لكم بغفران الخطايا وبهذا يتبرر كل من يؤمن من كل مالم تقدروا أن تتبروا منه بناموس موسى" (أع12: 39) (بهذا أي بهذا الشخص).
فناموس موسى أقام الاتهام ضدنا. اتهمنا بأننا خطاة وأعلن ضدنا دينونة عادلة. لكن بالمسيح فقط يمكن لكل من يؤمن به أن يُبّرأ بالعدل من كل اتهام ويمكن بناءً على ذلك سقوط حكم الدينونة ضده (حكم الإدانة). إذن الدينونة (الإدانة) هي حالة ومركز نخرج منهما عندما نتبرر. وواضح أن الإدانة هي عكس التبرير تماماً كما أن المذنوبية هي عكس الغفران.
على أن التبرير كما هو أمامنا في الكتاب يتضمن ما هو أكثر من مجرد البركة السلبية وهي إعفاؤنا بالتمام وبالعدل من الإدانة (الدينونة) التي كنا نرزح تحتها بل يَشمل أيضاً مركزنا أمام الله في المسيح في بر إيجابي وإلهي. لنرجع أيضاً إلى رسالة رومية. في ص3: 19 نجد أنه بسبب الخطية استد كل فم وصار "كل العالم تحت قصاص من الله" وفي العدد التالي نجد أن الناموس يتهم ويثبت الاتهام لأن "بالناموس معرفة الخطية". وليس لنا أي تبرير في الناموس. لكن في العدد 21 يبدأ الرسول في توضيح طريق الله لتبرير الفاجر. فإنه نظراً لأن "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" فليس نظراً بمستغرب إذا كان الله "يُظهر بره". إذا كان الإنسان أظهر كل شره ونقصه في كل سواده، تعيَّن أن يُظهر الله كل بره بكل لمعانه بإدانة الخاطئ وبعدم التغاضي عن أقل شبه شر فيه. لكن الغريب أن الله الآن يُظهر بره بطريقة تجعل هذا البر "مُقدماً إلي" ويستقر "على كل" من يؤمن بعمل المسيح.
إن "بر الله" يبدو كما لو كان يبسط يديه نحو كل الناس مرحباً بدلاً من أن يزمجر غاضباً ضدهم وكل من يؤمن منهم يستقر عليه هذا البر كثوب يكتس به ويظهر فيه في حضرة الله. وكل ذلك يتم دون أن يفقد هذا البر ذرة من خصائصه، ولأول وهلة عندما نسمع هذا الخبر نندهش قائلين "هذا غير ممكن"- بل "وغير المستحيل أن يحصل شيء من ذلك" ربما نقول أننا قد نفهم أن الرحمة تفعل هذا وتفعله على حساب العدل (أو البر) أما أن يفعل العدل الإلهي هذا فشيء غير ممكن على الإطلاق.
ومع هذا فإن البر يفعل هذا ما دام قد أُظهر الآن في المسيح الذي قدمه الله كفارة (أو غطاء) إنه عندما سُفِكَ دم المسيح على الصليب، تم المرموز إليه برش الدم قديماً على غطاء التابوت الذي كان في خيمة الاجتماع وتم صنع الفداء "في المسيح يسوع" كما استُعلن البر الإلهي الذي سوف يشهد له العالم كله، فإنه في زمان مستقبل سوف يظهر بر الله في سحق الخطاة والفجار وإدانتهم دينونة أبدية. في ذلك اليوم سوف يشهد العالم استعلاناً عظيماً لبر الله لكنه ليس أكثر عظمة وليس أكثر عجباً من ذلك اليوم الذي فيه أوقع الله الدينونة وسحق بالحزن ابنه الكامل الصفات لأجلنا. نعم فإن صليب المسيح سوف يظل أبداً الاستعلان الأعظم لبر الله. وبالطبع أعلن على نفس القياس محبة الله كما نقرأ في (رو5: 8) ولو لم يظهر صليب المسيح بر الله ما أظهر قط محبة الله.
لقد بيّن صليب المسيح بر الله بطريقة مزدوجة أولاً- بالنظر لمعاملات الله في خصوص خطايا المؤمنين في التدبير السالف (عدد25) (تدبير الناموس وما قبله). وثانياً- في خصوص خطايا المؤمنين في التدبير الحاضر (العدد26) فإنه قبل مجيء المسيح تغاضى الله عن خطايا شعبه مع أنه لم تكن قد قُدِمَت له بعد ترضية كاملة عنها. وفي هذا الزمان الحاضر هو يبرر الخاطئ الذي يؤمن بالمسيح. فهل كل معاملات الله هذه كانت تجري من جانب الله بمنتهى البر؟ نعم وموت المسيح يعلن ذلك مبيناً أنه لما صفح الله عن الخطايا السالفة في التدبير السابق كان باراً بالتمام في ذلك كما هو الآن بار عندما يُبَرر المؤمن في التدبير الحاضر.
كان موت المسيح أولاً هو تقديم نفسه لله ذبيحة ذات قيمة وذات رائحة طيبة غير محدودة بهذه الذبيحة صُنعت الكفارة وتمت الترضية حتى أن كل مطاليب البر (العدل) الإلهي قوبلت وعوَّضت من جهة قضية سقوط الإنسان بالخطية.
وثانياً كانت ذبيحة المسيح لأجلنا أي لأجل جميع المؤمنين. هؤلاء المؤمنون لهم كل الحق لأن يعتبروا المسيح المخلص بديلهم، ولكل منهم أن يقول ما جاء في (رو4: 25) لصيغة المفرد "الذي أسلم من أجل خطاياي وأقيم لأجل تبريري". إنه أُسلم للموت والدينونة بالنظر إلى خطايانا وأُقيم ثانية من الأموات بالنظر إلى تبريرنا.
وكثيرون عند هذه النقطة يبترون الإنجيل ويتجاهلون الشق الثاني من هذه البشارة لخسارة نفوسهم. لأنه لا يمكن التمتع باليقين الكامل من الخلاص إذا نسينا أو تجاهلنا معنى قيامة المسيح. صحيح وبكل تأكيد قد تم حمل خطايانا وتحمل عقوبتها في موت المسيح لكن الدليل على إعفائنا والصفح عنا والتصريح العلني عن ذلك كان في القيامة. وبدون هذا الشق الأخير لا يمكن التمتع بسلام ثابت وراسخ.
نُصور ذلك بمثال: لنفرض أن شخصاً حُكم عليه بالحبس ستة شهور لجريمة ما وسُمح لشخص آخر أن يكون بديله في قضاء العقوبة، فعندما تنفتح أبواب السجن ليدخل إليه ذلك البديل وليخرج منه ذلك المجرم، فإن هذا الأخير يمكنه أن يشير إلى بديله قائلاً "هذا أُسلم للسجن من أجل جريمتي" لكنه لا يستطيع أن يستمر في كلامه قائلاً "ولذلك لا يمكن أن أرى أبداً جدران السجن من الداخل كعقوبة على ما فعلته "كلا. لأن هناك احتمال عدم وفاء العقوبة وإلا فماذا يكون الحال إذا لفظ هذا البديل أنفاسه الأخيرة بعد قضاء شهرين فقط من مدة العقوبة؟ تاركاً أربعة أشهر لم تستوفها العدالة؟ إن من حق السلطة في هذه الحالة إعادة القبض على المجرم الأصيل ليستوفي بنفسه مدة العقوبة. لكن لنفترض أنه قبل انقضاء الستة شهور بأسبوعين أو ثلاثة وجد بديله يمشي في الشارع حراً وعلم أنه بسبب حسن سيره وسلوكه حصل على عفو وأُسقطت عنه المدة الباقية من العقوبة وخرج حراً. فحينئذ يكون من حقه أن يقول في الحال: إنك أُطلقت من السجن لأجل تبرئتي "نعم له أن يُحَدَّث نفسه قائلاً "إن كان بديلي قد سقطت عنه قوة الحكم وأخلي سبيله فيما يختص بجريمتي فأنا فعلاً قد بُرئت وأنا فعلاً حر وقد أُخليَّ سبيلي".
وعلى ضوء هذا المثل تعتبر قيامة المسيح بمثابة الإعلان الإلهي للعفو الشامل عن كل من يؤمن بموت المسيح.
ثم لنلاحظ أن الله نفسه هو الذي يبررنا وليس فقط هو مصدر تبريرنا. "الله هو الذي يبرر" (رو8: 33). هو الذي نطق بالحكم علينا كخطاة وبالمثل هو الذي ينطق بتبريرنا كمؤمنين بالمسيح. وإذن تبريرنا كامل وموثوق به. لا يستطيع أحد أن يلصق بنا إدانة بالمرة. (لا يستطيع أحد أن يديننا) لكن من جانبنا نحن يلزم أن نؤمن. لأن المؤمنين فقط هم الذين يتبرون. بهذا المعنى نحن نقول أننا "تبررنا بالإيمان" (رو5: 1). إننا فقط عندما نخضع "طاعة الإيمان" لربنا يسوع المسيح، ندخل دائرة الانتفاع بعمله. إنه سبب خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه (عب5: 9). والإيمان هو الحلقة التي تربطنا به وباستحقاقات دمه للتبرير.
بقيت كلمة أخيرة عن التبرير نجدها في (رو5: 18) "فإذا كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة" ففي كل المواضع التي يذكر فيها التبرير نجده يُذكر مقترناً بالخطايا (أي من جهة صلته بالخطايا) لكن في هذا العدد نجد الصلة تغيرت فليست هي صلة التبرير من الخطايا بل ذكرت "الخطية" التي هي "الأصل" وليست "الخطايا" التي هي الثمر. فالبر الواحد بالصليب (بموت المسيح) صار هبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة.
ولكي نفهم مضمون العبارة يجب أن نقرأ كل الجزء من العدد الثاني عشر إلى نهاية الإصحاح. فإن الناس- جميع الناس- ينتسبون بالطبيعة إلى آدم كرأس وأصل جنسهم، لكن بالنعمة وبواسطة موت وقيامة المسيح ينتسب جميع المؤمنين إلى المسيح كرأس وأصل جنسهم الروحي الجديد. وإن جاز التعبير نقول أنهم طُعموا في المسيح وتشاركوا في حياته وطبيعته وبما أنهم أخذوا حياة المسيح فقد عُفي عنهم أو تبرروا قضائياً من كل ما لصق بهم قبل الإيمان من حياة آدم. وهذا هو العجيب في الأمر وكثيراً ما يغفل عن إدراكه الكثيرون.
إذن التبرير كما توضحه رسالة رومية ليس هو فقط العفو الشامل والإبراء التام من كل الآثام وكل الدينونة التي لصقت بطبيعتنا الآدمية الساقطة بل الآن بعمل الله نحن نقف في المسيح المقام من الأموات. وتبارك اسم الله من أجل هذا التبرير.
س: هل بر المسيح يحسب لنا ولماذا لا يحسب؟
ج: لم يذكر الكتاب شيئاً من هذا. وحياة المسيح قطعاً حياة بارة وكاملة كمالاً مطلقاً ولأنه "بلا عيب" تعين بهذه الأهلية لأن يكون "الحمل" الذي يقدم ذبيحة لأجلنا لكننا نتبرر بالإيمان بدمه (بموته) وليس بحياته الكاملة، لقد مات لأجلنا، لكن لا نقرأ في أي موضع أنه حفظ الناموس لأجلنا ولو أنه فعل ذلك لكنا أمام الله في بر ناموسي ومعنى هذا أن برنا لا يتعدى إلى أكثر من حفظ ناموس موسى ويكون برنا قدام الله هو "البر الذي بالناموس" الذي يتكلم عنه موسى (رو10: 5) ولو أننا نحن لم نعمله وإنما عمله المسيح لحسابنا.
س: لكن الواقع أن البر "يحسب" لأننا نقرأ أن الله يحسب للإنسان البر بدون أعمال الناموس وحسب لإبراهيم الإيمان براً "فما معنى هذه العبارات في (رو4: 3، 5، 6، 8، 11)؟
ج: هذه العبارات الواردة في الإصحاح الرابع تعني أن الإيمان "يعتبر" براً أو أن المؤمن "يعتبر" باراً بسبب إيمانه. فسواء كان إبراهيم في العهد القديم أو المؤمنون بالمسيح في الزمان الحاضر لا توجد سوى طريقة واحدة بها "يعتبرون" قدام الله (أي) "يحسبون" أبراراً وهذه الطريقة هي الإيمان بدون أعمال ولاحظوا القول "بدون أعمال"- حتى أعمال المسيح التي عُملت في بر كامل لا علاقة لها بتبرير من يؤمن وهذا أيضاً دليل آخر إذا كانت هناك حاجة إلى دليل على أننا لا نصير أبراراً بمقدار معين من حفظ الناموس يُحسب لنا. لكن النقطة الجوهرية في هذا الإصحاح هي موت المسيح وقيامته- "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" (العدد 25).
س: لكن هذه العبارة التي وردت في ختام الإصحاح الرابع من رومية كثيراً ما تُفسر هكذا: بما أن المسيح مات لأننا كنا خطاة هكذا هو أقيم لأننا "تبررنا بموته" فهل هذا صحيح؟
ج: لا. هذا غير صحيح. وما عليك إلا أن نتتابع قراءة الإصحاح الرابع حتى ختام العدد الأول من الإصحاح الخامس "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله". إن التفسير الذي يرد في نص السؤال يعني أن تبريرنا شيء تم وكمل لما مات المسيح ونتيجة للتبرير تكون قيامة المسيح لكنه تفسير يلغي مبدأ الإيمان بالكلية وطبعاً لا يمكن إلغاء الإيمان هكذا لأن العدد الأول من الإصحاح الخامس يثبت ويؤكد أن تبريرنا بالإيمان لكن التفسير الصحيح أن موت المسيح كان بسبب أو بالنظر إلى خطايانا وموته هو أساس تبريرنا. وهذا شيء آخر بالمرة.
لقد كانت قيامة المسيح في المقام الأول إعلاناً للحقيقة المباركة وهي أن ذاك الذي انحنى تحت ثقل دينونة الله ضد الخطية قد أنهاها تماماً وأطلق من حكمها. وفي المقام الثاني لأجل (أو بالنظر إلى) تبرير كل من يؤمن به.
ولقد شرحنا هذا الفكر فالمسيح مات لأجل النظر إلى خطايانا وأُقيم ثانية لأجل النظر إلى تبريرنا. لكن تبرير أي إنسان إنما يصبح واقعاً فعلاً عندما يؤمن.
"ترشد برأفتك الشعب الذي فديته" (خر15: 13)
"متبررين مجاناً بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رو3: 24)
"نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رو8: 23)
"إذا آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى" (أفسس1: 14)
"الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا" (أف1: 7و 1تس1).
الإنسان بالخطية صار مديوناً ومستعبداً والفداء سداد الدين هو تحرير من مطاليب عادلة لا يستطيع الإنسان أن يوفيها.
والفداء بالتعويض مقصود به عمل انتقامي يوقعه الله على عدو اغتصب السيادة على الإنسان.
الخطية لم تورطنا فقط في المذنوبية أمام الله ثم أتت بنا وجهاً لوجه أمام الدينونة بل أيضاً قيدتنا في عبودية نعجز تمام العجز عن فكاك أنفسنا منها.
ومن جهة الإنجيل فإنه ليس فقط ينادي لنا بالغفران بالنسبة لمذنوبيتنا وبالتبرير بدلاً من الدينونة بل أيضاً يعلن لنا الله كالفادي، مخلصاً شعبه من العبودية ومحرراً ميراثه من كل ما تثقل به قبلاً.
وكثيرة هي الكلمات التي استعملت في العهد القديم وتعني الفداء. وإحدى الكلمات لها معنى التحرير أو "التخليص" سواء بالتعويض أو بالسداد.
في سفر الخروج نجد الرمز العظيم للفداء. قال الرب لشعبه الذين كانوا عبيداً مدوسين "أنا الرب أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم وأخلصكم بذراع ممدودة وبإحكام عظيمة" (خر6: 6). هذا كان فداء بتعويضهم عن الضرر الذي ألحقه بهم المصريون ولو أننا نرى أيضاً سداد ما كانوا مدينين به لله كخطاة في دم الخروف المسفوك. ولما تم كل شيء إلى التمام نجد الشعب على الشاطئ الآخر للبحر الأحمر يرنمون "ترشد برأفتك الشعب الذي فديته" (خر15: 13).
وهناك تصوير عظيم للفداء نجده في سفر راعوث حيث فدى بوعز ميراث اليمالك بسداد الدين أو الرهن. وهذا الفداء تضمن إقامة اسم الميت بزواج بوعز من راعوث وصار لبوعز امتلاك الميراث وأيضاً راعوث بحق الفداء. وفي كلا التصويرين الرمزيين (تحرير الشعب من أثقال فرعون وتحرير ميراث اليمالك من يد الدائن المرتهن) نرى نوعاً من العبودية في صورة أو في أخرى هي التي يعالجها الفداء.
كان إسرائيل في مصر يرزح تحت عبودية ثقيلة ومراراً كثيرة يتكرر وصف مصر بأنها "بيت العبودية" وفي سفر راعوث كان ميراث اليمالك مرهوناً وفي خطر أن يتحول إلى يد غريب ومع الميراث تقع نعمى وراعوث تحت نوع من العبودية.
هذا الشر الوبيل أمكن تجنبه بتصرف من جانب بوعز كالولي الفادي (أي ذي القرابة الذي يفدي).
وبرجوعنا إلى العهد الجديد، نجد أن الفداء وأيضاً التبرير يذكران في رو3 فيقال عنا "متبررين مجاناً بالفداء الذي بيسوع المسيح " وفي هذا ما يؤكد أن هذه الوجه المختلفة لعمل المسيح ونتائجه، مترابطة أشد الارتباط حتى أننا لا نستطيع أن نحصل على إحداها بدون الحصول على الأخرى. ومع أن هذه النتائج لا يمكن فصلها عن بعضها إلا أنه من السهل تمييز الواحدة عن الأخرى. ففي الجزء الأول من (رو3) كما رأينا نجد المذنوبية (التي يقابلها الغفران) والدينونة (التي يقابلها الفداء). وكلمة العبودية لا تذكر إلا في الإصحاح الثامن. لكن فكرة الاستعباد تحت الخطية واضحة في ص3 لأن الرسول يقول "لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية" (وكلمة شكونا هنا تعني أقمنا الحجة). ومعنى أن تكون "تحت الخطية" هو أن تكون تحت سلطانها أي تحت عبودية لها والمسيح أنجز العمل العظيم الذي بمقتضاه سَدّد ووفى كل المطالب التي نحن مطالبون بها (أي سوى حساب كل الديون التي علينا) ومن هنا صار لنا فيه الفداء.
وإذا واصلنا القراءة حتى الإصحاح السادس ثم السابع والجزء المتقدم من الثامن سوف نعرف من هذه الفصول كيف تحررنا فعلاً من سيادة الخطية (بل بتعبير أدق من استبداد الخطية بنا واستعبادها لنا) ومن نير الناموس. وسيادة الخطية ونير الناموس يوصفان بالقول "من عبودية الفساد" (رو8: 21) التي ترزح تحتها كل الخليقة الأرضية، والتي ستعتق منها كل الخليقة إلى حرية مجد أولاد الله عندما يجيء الرب ويظهر أولاد الله في مجده المنعكس عليهم. حينذاك سوف ينادي بيوبيل حرية لكل الخليقة.
ونحن نتوقع هذه اللحظة. وفي العدد الثالث والعشرين يقال "نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني (أي) فداء أجسادنا" وهنا أيضاً تظهر كلمة "فداء" لأننا في مقام الكلام عن خلاص من عبودية وفداء أجسادنا نراه هنا كفكاك أو حرية نحصل عليها بالتعويض كما هو مكتوب "من يد الهاوية أفديهم من الموت أخلصهم أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية" (هو13: 13). وهذه العبارة يشار إليها بالتطبيق على قيامة الأجساد في (1كو15: 55). في ذلك اليوم البهيج سوف تخلص أجساد جميع قديسي الله من قبضة الموت الذي هو آخر عدو يبطل كذلك يبرز أمامنا عمل المسيح كالفادي بقوة في رسالة غلاطية في القول "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (ص3: 13) وذلك بسداد الثمين على الصليب نيابة عنا لأنه مكتوب "إذ صار لعنة لأجلنا".
ولنلاحظ أننا لم نكن فقط تحت لعنة الناموس بل أيضاً الناموس نفسه كان يستعبدنا. وفي الإصحاح الرابع (غل4: 3) مكتوب "كنا مستعبدين تحت أركان العالم" ثم في أواخر الإصحاح مكتوب "إذ عرفتم من الله فكيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تستعبدوا لها من جديد" (ص4: 9)- وكلمة "أركان" لها نفس قوة معنى "مبادئ" وهي نفس الكلمة المستعملة في (عب5: 12) – "أركان بداءة أقوال الله" وقد نستغرب أن تستعمل هذه العبارات (والتي فيهما معنى التحقير والتقليل) في وصف الناموس الذي أُعطي من الله لكن لنلاحظ أن الذين يقال عنهم (في غل4: 3) "كنا مستعبدين" واضح أنهم اليهود الذين عندهم الناموس وأن الذين يقال عنهم" أنتم" "إذ عرفتم الله بل بالحري عُرفتم من الله" (ص4: 9) يراد بهم الغلاطيون الأمم وكلا الاثنين (يهود وأمم) كانوا تحت مبادئ العالم وناموس موسى لم يغير شيئاً من هذه الحالة. لأن الناموس جاء بمطاليب الله ولكن هذه المطاليب كان يقين أن تقابل بحسب مبادئ العالم. لقد كان المبدأ الأصلي للناموس هو أن رضى الله الذي يتمتع به الناس إنما يتوقف بالتمام على ما يظهره الناس من طاعة لله. هذا المبدأ هو أولاً وآخراً من مبادئ العالم بينما مبدأ النعمة غير ذلك. لم يكن هناك إتيان بمبادئ هي أصلاً خارج دائرة هذا العالم. ومن مبادئ العالم هذه سواء وجدت في الديانة اليهودية أو في غيرها، وهي الضعيفة والفقيرة، قد افتدانا المسيح لكي ننال التبني وهذه هي نعمة الله القادرة. وكما ذكرنا يمتد الفداء إلى قيامة الأجساد. وهذا الوجه من موضوعنا نجده في رسالة أفسس، إذ بينما نقرأ في (ص1: 7) القول "الذي فيه لنا الفداء بدمه- غفران الخطايا"- فإننا نقرأ أيضاً (عدد14) من إنجيل الخلاص "الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء (حتى يوم الفداء) المقتنى وأيضاً بالروح القدس ختمنا ليوم الفداء (حتى يوم الفداء) (ص4: 30) فالقول الأول (في العدد السابع) هو نصيبنا في الوقت الحاضر ومن نصيبنا على طول الخط أما القولان الثاني والثالث (في عدد4) (من الإصحاح الأول وعدد 30 من الإصحاح الرابع) فيختصان بالفداء في صورة عتيدة نتوقعها. فإن كل ما حصّله (اشتراه) موت المسيح سوف يسحب من حوذة المغتصب ومن تحت يد كل سلطة مقاومة. ومن جهة أجسادنا فإن اللحظة لا بد آتية عند مجيء الرب يسوع لأجل قديسيه وبمجرد أن تدق تلك اللحظة تبدأ يد الرب عملية حيازة كل شعبه "المقتنى" الذي اشتراه بدمه- تعمل هذا بالقوة ضاربة بشدة على يد العدة. والافتداء العتيد باستخدام القوة هو غاية كبرى لنبوة العهد القديم. وهذه النبوة واضحة جداً في الجزء الأخير من سفر إشعياء لأن الشعب القديم كان مدوساً بالأمم ولذلك يخاطب بالقول "يا دودة يعقوب" ويتكلم الرب عن نفسه بأنه فاديك قدوس إسرائيل (أش41: 14) وعلى هذا الوصف يستمر في الكلام عن نفسه كالفادي حتى الإصحاح الثالث والستين حيث يراه النبي في رؤيا آتياً من آدوم ومن بصرة قائلاً "لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت". لأن يوم فداء خاصة الرب الحقيقيين هو يوم نقمة على الأعداء.
ومن خلال هذه الإصحاحات العجيبة بمواعيدها الكثيرة عن فداء عتيد بالتعويض الانتقامي بقوة الله نجد نبوة عظيمة خاصة بالفداء الأعمق في مضمونه بموت المسيح. فإننا نقرأ هذا القول "هكذا قال الرب مجاناً بُعتُم (أو بعتم أنفسكم) وبلا فضة تُفكون (أي تفدون)" (ص52: 3) ويعقب هذا الإصحاح الثالث والخمسون الذي يصور لنا عبد يهوه المبارك متألماً ومائتاً الذي جعل نفسه ذبيحة إثم. إن الفادي مزمع أن "يأتي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب" (ص59: 20). لكن هذا الفداء المؤسس على حقيقة أنه فداهم بلا فضة كثيرة لتعب نفسه.
س: أحياناً نسمع البعض يتكلمون عن "عمل الفداء الذي أكمل" فهل هذا صحيح في ضوء حقيقة أننا ما زلنا نتوقع فداء أجسادنا؟
ج: هذا الفداء الذي أُكمل ربما يكون هو الذي إليه أشار بطرس في قوله "أفتُديتُم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب... بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس" (1بط1: 18و 19) وإشعياء (ص52) يتكلم عن فدائنا بلا فضة. وإشعياء (ص52) يتكلم عن ذلك الشخص الذي "لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش" ومع ذلك سيق كشاة إلى الذبح لأجل فدائنا. لذلك هذا القول "عمل الفداء الذي أُكمل" ليس تعبيراً دقيقاً بدون شَك. لكن عندما ينطبق واحد بهذا التعبير إنما يقصد قطعاً عمل الفداء بالدم الذي سُفك. وطبعاً بالدم المسفوك صنع الجزء الأكبر من الفداء وهذا لن يتكرر أبداً لأن الدم كفر مرة واحدة وإلى الأبد. فإذا ما كان المقصود بهذا القول التكفير أو الغفران أو "التبرير" فهو صحيح لأن ليس هناك وجه آخر باق نتوقعه مستقبلاً. ويجب أن ندرك هذا كله وأن نحترص في الكلام لئلا نشوش اللمسات الأخيرة التي سوف تعطى لعمل الفداء في مستقبل الأيام.
س: من ناحية أخرى وما زال أمامنا هذا الوجه المستقبل من عمل الفداء، هل من الصواب أن نتكلم عن أنفسنا كمن قد (على وجه التحقيق) صار لنا الفداء؟ وأما يجدر بالحري بنا أن نتكلم عن أنفسنا كمن فدينا فقط؟
ج: يقول بولس مرتين (في أف1) و(في 1تس1) إنه "فيه لنا الفداء بدمه" لذلك لا يمكن أن نكون على خطأ إن قلنا بكل جراءة أن "لنا الفداء" لكن لنلاحظ أن هذا "بدمه" ومن هذا الوجه يكون الفداء قد حصل في الزمان الماضي. بينما فداء الأجساد مازال كله في الزمن المستقبل. لكن الفداء لا يقال عنه أبداً أنه عملية مستمرة، ولا يقال أبداً في المكتوب أننا نفتدي يوماً بعد يوم رغم أن هناك خلاصاً يوماً بعد يوم.
س: لكن أليس هناك شيء من عدم الارتياح للتعليم بأن الفداء (على الأقل جزء منه) لا يزال مستقبلاً؟ أما يفتح هذا ثغرة يزحف منها بعض الشك؟
ج: لو أن الفداء كان من صنعة الناس أو حتى كان في الأمر عنصر ضئيل بشري، لكان هناك مجال للشك- ولا نقول لبعض الشك بل لطوفان من الشكوك تكتسح أمامها كل شيء. ونحن نشكر الله كثيراً أن العمل إلهي وليس بشري. والله لا يترك عمله ناقصاً. وهذا ما نراه في عمل الفداء الرمزي الذي عمله في مصر. فهو لم يفد الشعب القديم بدم خروف الفصح ويتركهم ناسياً إياهم تحت المسخرين في مصر. كلا فإن جميع الذين فداهم بالدم فهؤلاء أيضاً فداهم بذراع قدرته الجبارة من أرض مصر. الكل حتى أصغر طفل كان لابد أن يخرج، ولا حتى ظلف بهيمة يُترك خلفهم. والله لابد يتمم عمله من جهتنا وكل مفدي بدم المسيح الثمين سوف يكون هناك عندما يأتي الرب لفداء أجساد القديسين.
س: وهل الفداء هو منتهى لما قصده الله لشعبه؟
ج: لا. ليس الفداء هو منتهى القصد بل هو بالحري الواسطة الأعظم أهمية لبلوغ هذا القصد بل في التدبير السابق كان القصد الإلهي أن يكون الشعب القديم أمة خاصة له تعبده في الأرض التي أعطاهم إياها. فتعين لذلك أن يفديهم من مصر لكي يتحقق هذا القصد. لأنه لا يمكن لهم أن يعبدوه طالما كانوا تحت عبودية فرعون. وفي خصوصنا نحن فإن القصد المنشود هو على مستوى أعلى بكثير.
إن قصد الله أن يكون له أبناء قدامه في المحبة كما نقرأ عن ذلك في (أف1: 4- 7) ومن ثم نرى أن الفداء بالضرورة هو الواسطة لتحقيق تلك الغاية. وفي رسالة كولوسي (ص10) نرى أننا قد أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور ولذلك يذكر الفداء كضرورة للوصول إلى هذا المركز. وبطرس في رسالته الأولى يقول لنا أن الله يريدنا أن نكون له كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة (عنده) بيسوع المسيح. لكنه كتمهيد لهذا المركز يقول أننا افتدينا بدم كريم هو دم المسيح ويمكننا أن نورد عدة فصول كتابية لبيان ذات الحقيقة. والله عنده من نحونا أفكار كثيرة صالحة لكن تحقيقها يمكن فقط على أساس الفداء. يجب أولاً أن نفك من سلطان مضاد لله وبعد ذلك يُنفذ الله كل تخطيطه المبارك لصالحنا.
س: يرينا راعوث أن هناك في التدبير السابق كان البعض فقط من ذوي القربى (البعض فقط من الأولياء) هم الذين لهم حق الفكاك (حق الفداء) فهل لهذا أي معنى يخصنا؟؟
ج: طبعاً هذا له معنى يخصنا نحن. فالشراء شيء وكل واحد له هذا الحق. أما الفكاك (أو الفداء) فشيء آخر وهو من حق الولي الأقرب بالدرجة الأولى ويليه من هو أقرب بالدرجة الثانية. لكن يجب أولاً أن يكون من له حق الفكاك قريباً. ومن ثم لا يمكن للملاك أن يملك حق فداء الإنسان لأنه لا توجد قرابة بين الملائكة والناس. لا يمكن للملاك أن يفدي بشراً حتى ولو كانت له القدرة على ذلك والرب يسوع لم يصر ملاكاً بل صار جسداً (إنساناً) فأنشأ بذلك تلك القرابة التي تؤهله لأن يصبح "القريب الفادي". فما أهم وألزم تجسد ربنا يسوع في ناسوت إنساني. وفي (عب2) لا تذكر كلمة "يفدي" لكن الفصل يرينا أن الرب يسوع لم يمسك الملائكة (لم يأخذ صورة الملاك) بل أمسك نسل إبراهيم، عندما تعين أن يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت وينقذنا أي يصنع فداءنا.
س: في (أف1: 14) نقرأ عن "فداء المقتنى" أي فداء ما اقتنى بالشراء. فهل يمكننا على ذلك أن نفرق بين الشراء والفداء؟
ج: أعتقد أنه يمكننا هذا التفريق. يمكننا أن نوضح الأمر بالصيغة الآتية- إن الفداء يتضمن الشراء لكن الشراء ليس هو الفداء. فالمؤمنون يقال عنهم اشتريتم بثمن (1كو6: 20). لكن المعلمون الكذبة يقال عنهم ينكرون الرب الذي اشتراهم ويجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً (2بط2: 1) فشراء المؤمنين يتضمن فداءهم لكن شراء المعلمين الكذبة الذين مصيرهم الهلاك لا يتضمن فداءهم لأنه لو أن شراءهم تضمن فداءهم لما كان الهلاك مصيرهم. والرب يسوع بموته امتلك حق شراء كل شيء حتى الذين لم يفدهم.
وفي (أف1: 14) لا تتضح هذه النقطة تماماً لكن الواضح هناك أن ما اشتراه الرب بموته سوف يفديه (يفكه) تماماً بقوته القادرة من قبضة كل سلطان مضاد، وهذا تمييز بين الفداء بالدم والفداء بالقوة والسلطان
"لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو5: 10).
"ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح ... أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة" (2كو5: 18)
"لأنه فيه سُرَّ أن يحل كل الملء. وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه... وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن" (كو1: 19و 21).
كلمات مختلفة اللفظ مثل الغفران والتبرير والفداء استعملها روح الله ليوصل إلينا بها الآثار والنتائج البعيدة المدى لعمل المسيح على الصليب. والمصالحة واحدة من هذه الكلمات والتي تحمل معنى أكثر تحديداً من غيرها إذ تأتي بنا إلى بركة الإنجيل بصفة إيجابية أكثر من غيرها. هذا المعنى نجده في رسائل العهد الجديد بصفة خاصة.
ثلاثة فصول من العهد الجديد تتكلم عن المصالحة هي (رو5و 2كو5 وكو1) كما ترد عنها إشارة في رسالة أفسس (ص2).
نحن نحتاج إلى التبرير بسبب ما كنا عليه من مذنوبية ترتبت عليها دينونة. ونحتاج إلى الفداء بسبب العبودية التي جلبتها الخطية علينا. ونحتاج إلى المصالحة مع الله لأن من أسوأ نتائج الخطية علينا هي أنها جعلتنا متجنبين عن حياة الله. الخطية أنتجت في قلوبنا فُرقة كاملة أو غربة تامة عن الله. "والمصالحة" يرد مفهومها في العدد الحادي والعشرين من (كو1) بالمباينة مع مفهوم التجنب عن الله "وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه". ولسوف ندرك المعنى الكامل "للمصالحة" إذا نحن أدركنا المعنى الكامل لمأساة "التجنب" عن الله.
في (أف4: 18) نقرأ عن حالة التجنب التي سقط فيها الإنسان: "لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببطل ذهنهم. إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم". وإذا نحن أردنا أن نصل إلى أعماق الأمر علينا أن نكتشف إلى أي مدى "تجنبنا" عن حياة الله. مع هذا التجنب عن الله يقترن "البُطل"- بُطل الذهن. وظلمة الفكر والجهل. وعمى البصيرة والشهوة الردية والنجاسة و...الخ وليس هذا بمستغرب لأن حياة الله هي ضد كل هذه على خط مستقيم. إن الخطية إذ فصلتنا عن الله وجعلتنا في غربة تامة عنه إنما فصلتنا تماماً عن كل ما يجعل حياتنا متفقة مع حياة الله.
وإذ قد تجنبنا عن الله فبالطبيعة نحن لا نريده ولا نريد الحياة ولا النور الذي يصاحب محضره. هذه نتيجة مباشرة لدخول الخطية. نتيجة فورية وعلى التو بمجرد السقوط. والإصحاح الثالث من سفر التكوين يشهد لهذا. فإن تصرف آدم وامرأته يدل على ذلك بكل وضوح لأنه بمجرد أن سمع صوت الرب الإله في الجنة نجدهما يختبئان. لكن الله لم يقض عليهما في الحال بل تعامل معهما بالرحمة. لقد أقاما حاجزاً بينهما وبينه. هذا كان من جانبهما ولم يكن في مقدورهما أن يعبراه. والرب صادق على هذا الوضع بأن أقام من جانبه حاجزاً في صورة كروبيم وسيف لهيب متقلب ليمنعهما من الدنو إليه.
فالخطية إذن قد أفسدت مسرة الله بالإنسان. وهذا التعبير هو أخف وصف لما حدث. وما علينا إلا الرجوع إلى الإصحاح السادس من سفر التكوين لنرى الجنس البشري بعد أن أعطي وقتاً كافياً تمادى فيه وازداد انغماساً في شهواته الدنسة، وصل إلى درجة لا تُحتمل حتى إن الله حزن لأنه عمل الإنسان في الأرض (تك6: 6). عندما خلق الله الإنسان في ختام (تك1) "رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً". وهذا الذي كان مرة حسناً جداً في نظر الله صار الآن سبب حزن له. لقد وقعت فرقة بين الإنسان وبين الله وكان تجنب الإنسان عن حياة الله بعيداً وعميقاً إلى أبعد مدى.
وكان التجنب من جانب الله بعيداً أيضاً. صار الله عند الإنسان أجنبياً غير مرغوب فيه وكذلك بالمثل صار الإنسان عند الله. والجزء الأخير من الإصحاح الأول من رسالة رومية يكشف عن تلك القصة الرهيبة. قصة تجنب الإنسان عن حياة الله. وحالة انحطاط الجنس البشري مرجعها إنهم "لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم" (رو1: 28). والإصحاح الثالث من الرسالة يؤيد هذا بقوله"... ليس من يطلب الله..." (رو3: 10و 11). وعندما نصل إلى الإصحاح الخامس نقرأ بصراحة ووضوح أنه لما مات المسيح لأجل مصالحتنا مع الله، كنا في ذلك الوقت "أعداء" (رو5: 10). وهنا ينبغي أن نعمل خطاً مميزاً فإن "التجنب" من جانبنا كان في الحياة (العيشة) وفي القلب معاً، لكن من جانب الله كان التجنب على أشده وفي أبعد صورة في الحياة (أي في المسلك والاتجاه) أما في قلبه فلم يكن هناك جفاء بالمرة. وبعبارة أخرى لما كنا خطاة كنا أعداء نكره الله لكن الله لم تتطرق الكراهية إلى قلبه. ولو أنه كرهنا لصب علينا اللعنة وانتهى الأمر. لكنه بدلاً من هذا نراه يعرض بنفسه مصالحتنا. وهي مصالحة تكلفت أبهظ الثمن- لقد كلفته "موت ابنه".
لقد جاء الرب يسوع إلى العالم بروح المصالحة.. "الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم" (2كو5: 19). وبهذه الروح تميزت حياته وخدمته وكان عمله ليس للدينونة بل للغفران حتى عندما أظهرنا علانية عداوتنا الصارخة وكان ذنبنا مفضوحاً جهاراً. كان هذا تصرفه مع التي أُمسكت في ذات الفعل (يو8: 11) ومع الذين سمروه على الخشبة (لو23: 34). إن كل ما يستطيع الله أن يعمله قد عمله يسوع المسيح لكن الناس رفضوا يده الممدودة إليهم- وصلبوه. غير أنه في ذلك الوقت عينه سجَّلت رحمة الله أعظم علامات انتصارها. في ذلك الوقت، الله "جعل الذي لم يعرف خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو 5: 21).
والآن واضح أنه إن كنا قد صرنا في المسيح- في المسيح الذي مات وقام أيضاً- بر الله ذاته، لم يعد هناك بعد شيء بغيض لديه ولم يعد هناك بعد ما يمنعه من النظر إلينا بعين الرضى بل بالحري هناك ما هو عكس ذلك تماماً. لقد اتحد المسيح بنا وبخطيتنا تحت دينونة الله والآن نحن متحدون معه في قبوله أمام الله كالمُقام من الأموات.
هذا الحق نراه مقرراً في (كولوسي1: 21و 22) ولكن في صيغة أخرى. هناك يقال إننا صولحنا "في جسم بشريته بالموت" لأن المسيح صار بشراً وبذلك صار له جسم بشريته لكي يستطيع أن يموت وكنتيجة للمصالحة نستطيع الآن أن نظهر أمام الله "قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه (أي في عينيه)" وعبارة "في جسم بشريته" قد تبدو تعبيراً غريباً لكن هذا التعبير استعمل بصور أخرى في الرسائل مثل قوله "أنتم مُتم للناموس بجسد المسيح" (رو7: 4) وأيضاً "مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض" (أف2: 15) وكذلك قوله "نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" وأيضاً "طريقاً كرسه لنا حديثاً بالحجاب أي جسده" (عب10: 10و 20). فإذا فهمنا الأمر على وجهه الصحيح فإن المعنى المقصود هو أن الرب يسوع في نعمته اتحد نفسه بمركزنا وبحالتنا لما أخذ جسداً إنسانياً خالياً من الخطية لكي يضع حياته مقدماً جسده المقدس كذبيحة خطية ثم يأخذ حياته أيضاً بالقيامة- الحياة التي فيها يتحد المؤمنون الآن معه. وعلى ذلك فموته كان دينونة وخاتمة قضائية للترتيب الأول (الإنسان في كيانه الموروث من آدم) وقيامته كانت البداية الحقيقية للترتيب الجديد (الخليقة الجديدة في المسيح).
هذا التغيير الكبير قد تم لحسابنا أو لأجلنا "في جسم بشريته بالموت" وبالتبعية تغيّر تماماً كل مركزنا وكل اعتبارنا أمام الله. كنا مرة في مركز آدم الساقط بالتمام، وليس هناك ما هو أردأ من ذلك المركز وليس هناك ما هو أبشع منه عند الله. لكن الآن وقد صرنا في المسيح لنا مركز المسيح المُقام من الأموات وليس هناك ما هو أفضل من هذا المركز وليس هناك ما هو أكثر قبولاً منه عند الله. وهذا هو ما يمكن أن نسميه جانب الله في المصالحة- إنه العمل الذي أنجزه وعمله في موت المسيح. عمل كامل كمالاً مطلقاً صُنع لأجلنا وصُنع إلى الأبد. إنه عمل الخليقة الجديدة في مستواها الرفيع، كما تُكلمنا عنه رسالة كورنثوس الثانية (ص5: 17). لكن هناك الجانب الإنساني- جانبنا نحن والذي ينبغي أن تتناوله المصالحة. فنحن كنا "أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة" ولذلك بالتبعية كان ينبغي أن يكون هناك تغيير جوهري وكامل عند كل واحد منا في الذهن وفي الموقف إزاء الله. لم تكن هناك حاجة أن يتحول قلب الله نحونا لكن الحاجة كل الحاجة هي أن تتحول قلوبنا لترجع إلى الله ومن أجل ذلك أُعطيت كلمة الإنجيل للرسل "ككلمة المصالحة" (2كو5: 19)ليقوموا بها كسفراء عن المسيح يطلبون إلى الناس أن يتصالحوا مع الله. ونحن عندما قبلنا الإنجيل أصبحت خدمة المصالحة فعّالة فينا وأمكن أن يقال عنا إننا "نلنا به (بربنا يسوع) الآن المصالحة" (رو5: 11) وكثمرة لنوال المصالحة صرنا "نفتخر بالله" أي نفرح ونُسر بالله في حين كنا قبلاً نخاف منه بل وفي عداوة معه.
إذن يمكننا الآن أن نُخلص- هذا الحق المبارك في القول بأن كل شيء مضاد لقداسة الله ولا يتفق مع طبيعته الأدبية ويستحق الدينونة، قد حُكم عليه ووقعت عليه الدينونة في صليب المسيح. ونحن، كثمرة للمصالحة (عملية التوافق مع طبيعة الله القدوسة بلا أقل نشاذ) نقوم الآن في كمال القبول عند الله. وقبول المسيح عند الله هو قياس قبولنا. أما قياس قبول المسيح يمكن إدراكه من اللقب الذي خُلع عليه وهو "المحبوب". بل هناك شيء آخر وهو إن كنا لا نستطيع قبول الإنجيل بدون عمل الروح القدس في داخلنا أي بدون ولادتنا ثانية من الروح القدس فمعنى هذا أننا ننال المصالحة بالإيمان. وبالإيمان تتغير أفكارنا تماماً تجاه الله. والعداوة التي ملأت مرة قلوبنا انتهت تماماً وأصبحنا نفرح في الله. وعلى حياتنا أشرق يوم جديد بالرضا الإلهي. ونحن نرد الصدى بمحبة قلبية من نحوه.
والآن نستطيع أن نرى بوضوح أكبر كيف أن المصالحة تأتي بنا إلى ملء بركة الإنجيل بصفة إيجابية إننا كمُسامَحِين نَعلم أن خطايانا انمحت وكمُبرَرين أُسقطت عنا التهم التي هي علة دينونتنا وكمفديين عبرت عنا أيام عبوديتنا ولكن كمُصالَحين لنا كامل القبول وثقة الدخول إلى رحاب محبة الله ورضاه. إننا بالمصالحة مع الله دخلنا إلى قمة البركات على أعلى مستوى.
س: هناك ترنيمة شائعة تقول:
لأنه هو سلامنا... مصالح لنا إلهنا
فهل من صحيح القول أن الصليب صالح الله لنا؟
ج: لا. ليس مما يتفق مع التعليم الصحيح أن نقول أن المسيح بموته صالح الله لنا. لأننا نحن الذين كنا نحتاج إلى المصالحة والله هو الذي صنع الصلح بدم المسيح. هو الذي صالحنا لنفسه. ومع أن هذا هو الواقع غير أننا لا نغفل حقيقة أن الله كان ينبغي أن يُكفر عن الخطية أمام نظره. وفي المثل الذي قاله الرب في (لو18) نرى العشار يدرك هذه الحقيقة إذ يقول "اللهم ارحمني أنا الخاطئ". بقدر ما أن الخطية هي التحدي الصارخ لبر الله وقداسته بهذا القدر عينه كان ينبغي أن يُكفر عنها أمام الله لكن الله لم يكرهنا على الإطلاق وقلبه لم يتجنب عنا ولم يعادينا، ولو عادانا لما أرسل ابنه كفارة نحتاج إليها نحن لنواجه مطاليب بره وقداسته.
س: هل نفهم من ذلك أن المصالحة تعالج حالتنا الساقطة أمام الله أكثر مما تعالج المذنوبية.
ج: نعم. هو كذلك. وجدير بالملاحظة أن حقيقة عداوتنا لله تبرز في معرض الكلام عن المصالحة. والعبارة الواردة في (2كو5) الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً وإن كانت لا تُذكر فيها عداوتنا لكنها متضمنة في قوله "الأشياء العتيقة" هذه الأشياء قد مضت حيثما ذُكرت الخليقة الجديدة رغم أن الأشياء العتيقة قائمة وملموسة في العالم في الوقت الحاضر. لكن حيثما تبدأ الحياة الجديدة تدب، فحينئذ توجد المصالحة مع الله. والدم دائماً هو أساس المصالحة لأنه في الصليب دينت الخطية وكل ما يتعارض مع طبيعة الله القدوسة. وطبعاً لا نستطيع أن نفصل المذنوبية عن حالتنا الخاطئة لكن الحكم على الحالة الساقطة يمثل أمام الذهن في مجال الكلام عن المصالحة دون الكلام عن ستر كثرة من الخطايا.
س: حتى الآن عرفنا مضمون مصالحة المؤمنين (عمل التوفيق بين حالة المؤمنين وبين قداسة الله المطلقة) فما هو مضمون مصالحة "الكل" التي نقرأ عنها في (كو1: 20).
ج: تلك المصالحة الشاملة سوف تتم في وقتها ونلاحظ أن العبارة تقول "يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السموات" هنا المصالحة مقصورة على "ما على الأرض وما في السموات" أما "من تحت الأرض" (في2: 10) الذين تعيَّن أن يجثوا باسم يسوع فلم يُذكروا هنا. إن دنس الخطية بالسقوط قد تأثرت به أجزاء معينة من السماء إذ سقط ملائكه. وحيثما وصلت الخطية لزمت الحاجة إلى المصالحة. لكن هناك وقت عتيد سوف تكتسح فيه الدينونة كل شر ليستقر عليه الازدراء الأبدي وسوف يتطهر بالدينونة ويتصالح كل شيء على الأرض وفي السموات وستكون كل الكائنات مقبولة لدى الله وتفرح كلها في الله.
إن "دم صليبه" الذي أتى بنا إلى المصالحة له من القيمة ومن الكفاية لأن يعمل هذا.
س: نقرأ في (رو11: 15) "لأنه إن كان رفضهم (اليهود كأمة) هو مصالحة العالم فكم بالحري ملؤهم؟ فهل يبدو من هذه العبارة أن العالم قد صولح الآن؟
ج: ينبغي قراءة الفصل كله بتدقيق لكي ندرك فكر الرسول. لأن بولس هناك يناقش طرق الله مع الشعب القديم كأمة مبيناً كيف أن الله نحَّاهم جانباً في الوقت الحاضر لكي يُنجز قصده بتوصيل الرحمة إلى الأمم. فإنه طوال فترة تدبير الناموس ركز الله معاملاته وميز بالبركة الشعب القديم. كانوا أمامه في نور وجهه بينما ترك الأمم في ظلمتهم الظلمة التي اختاروها لأنفسهم كما هو واضح من (رو1: 21)- لكن لما جاء المسيح ورفضته الأمة حدث تغيير كبير في معاملات الله وطرقه بالنسبة لتلك الأمة القديمة وبالنسبة للشعوب الأممية. فالشعب القديم كأمة فقد امتيازاته واختصاصاته بالبركة وانتهى هذا بما يسمى "غنى للعالم" (عدد12) و "المصالحة للعالم" (عدد15). وكلمة العالم هنا واضح أن لها قوة معنى "الأمم" بالمباينة مع إسرائيل. هذه المصالحة صارت بسبب التغيير في معاملات الله التي جعلته يُنحي إسرائيل من مكانهم الخصوصي كأمة والإتيان بالأمم إليه للبركة. كان الموقف قبل ذلك هو أن الأمم حولوا وجوههم عن الله والله حوّل وجهه عنهم. أما الآن فالله حوَّل وجهه نحوهم. "وخلاص الله" كما يقول بولس في (أع28: 28)" قد أُرسل إلى الأمم وهم سيسمعون " هذه المصالحة تدبيرياً حصلت فعلاً وكان بولس هو الخادم المختار المُرسَل لتقديم بشارة الخلاص للعالم الأممي.
س: وهل المصالحة التي نحصل عليها نحن المؤمنين تعني أكثر من هذه المصالحة التدبيرية؟
ج: طبعاً بدون شك. لأننا إذ نتصالح مع الله نفرح أو "نفتخر في الله" كما قرأنا في (رو5: 11). هذا أمر لا يفعله العالم رغم حقيقة أن رحمة الله مُتجهة إلى هذا العالم بالإنجيل. إن الله لما بذل ابنه الوحيد كان العالم له مكان في قصده ومن وراء بذل الابن كانت محبة الله من وراء هذا الفعل. هذه المصالحة التدبيرية تُقدِم للجميع خدمة المصالحة التي يتكلم عنها الإصحاح الخامس من رسالة كورنثوس الثانية. وهذه الأخيرة ليست مصالحة تدبيرية بل حيوية إلى أقضى درجة. إن المؤمنين بالحقيقة قد صُولحوا مع الله في البر وفي المحبة بزوال كل عيبة وكل نشاز وقد طُرح الخوف من الدينونة تماماً وإلى الأبد
"إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة وكل تعدٍّ ومعصية نال مجازاة عادلة، فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به ثم تثبت لنا من الذين سمعوا " (عب2: 3).
"أيها الرجال الأخوة بني جنس إبراهيم.... إليكم أُرسلت كلمة هذا الخلاص" (أع13: 26)
"الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم" (أف1: 13)
"فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21)
"لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون" (2كو2: 15)
"لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10)
"لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن". (رو1: 16)
"بالأَولَي كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب" (رو5: 9)
"لأن الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح" (1تي5: 9)
"لأننا كنا... قبلاً أغبياء... ضالين... عَائشين في الخبث... ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله.... لا بأعمال في بر عملنا نحن بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تي3: 3- 5)
"الخلاص" كلمة لها معنى واسع جداً ومعناها هذا من الاتساع لدرجة أنه يمكن إطلاقه على ما تعنيه سائر الكلمات الأخرى مثل التبرير والفداء والمصالحة. ولنا مثال على اتساع معنى هذه الكلمة موجود في (عب2: 3) حيث يوصف تدخل الله بالقوة لصالح الإنسان والذي ابتدأ الرب بالتكلم به- نقول إنه يوصف بأنه "خلاص هذا مقداره". أو بعبارة أخرى خلاص عظيم القدر جداً وفي (أع13: 26) يستعمل الرسول بولس قوله "كلمة هذا الخلاص" بنفس هذا المعنى الواسع. كذلك في (أف1: 13) يتلخص الخلاص الذي صار لنا بكل أجزائه في كلمة واحدة هي أن الإنجيل الذي يعلن هذا الإنقاذ الجبار هو إنجيل خلاصنا. هذا هو المعنى المقصود بالقول "الخلاص العظيم".
يُذكر الخلاص كثيراً في كلا العهدين القديم والجديد. أما في العهد القديم فالمقصود بالخلاص هو الخلاص من الأعداء. هكذا تكلَّم زكريا أبو يوحنا المعمدان" مبارك الرب... لأنه... أقام لنا قرن خلاص... كما تكلَّم بفم أنبيائه القديسين الذين منذ الدهر. خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا" (لو1: 68- 71). وإنجيل متى في أول إصحاحاته يتكلم عن الرب يسوع كمن "يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21) وهذا المعنى يصعد بموضوعنا إلى مستوى أعلى من مجرد الخلاص من الأعداء ومن المبغضين.
لكن، سواء في العهد القديم أو في الجديد، فحقيقة إن هناك "خلاصاً" يُصنع أو يُقدم- هذه الحقيقة تتضمن أن من يصنع لهم الخلاص أو يقدم لهم إنما هو في "خطر" من أي نوع كان. إنهم في خطر من الهلاك. وفي (1كو1: 18) نجد المباينة معقودة بين أولئك "الهالكين" وبيننا نحن المخلصين. ونفس المباينة تقابلنا في (2كو2: 15)" لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين "يخلصون" وفي الذين "يهلكون كذلك في (لو19: 10) نقرأ أن ابن الإنسان "قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك". وصرخة التلاميذ وهم في العاصفة على بحر الجليل كانت "يا معلم يا معلم (خلص) فإننا نهلك" (لو8: 23)- هذا كان خلاصاً زمنياً وفي مواجهة خطر زمني. واضح إذن أن الخلاص والهلاك في معنيهما على طرفي نقيض.
سبق القول بأننا كمذنبين كنا نحتاج إلى الغفران وكمديونين كنا نحتاج إلى التبرير وكمن وقعنا تحت العبودية نحتاج إلى الفداء. وكأعداء في الأفكار وفي الأعمال الشريرة ومتجنبين عن حياة الله كنا نحتاج إلى المصالحة. وكهالكين نحتاج إلى الخلاص.
عندما اعتبرنا أنفسنا مذنبين أو مديونين كان عندنا فكرة محددة عن موقفنا. لقد رأينا أنفسنا متهمين في محكمة الله كما لو كنا في محكمة جنايات متهمين بخطايانا. ونفس الفكرة تكونت عندنا لما رأينا أنفسنا في عبودية للخطية والشيطان أو عندما رأينا أننا متجنبون عن حياة الله. إن الخطية ظهرت أمامنا كمسخر يلهب ظهورنا من جهة وكسحابة سوداء تفصلنا عن الله من الجهة الأخرى. لكن الآن علينا أن نعتبر أنفسنا كهالكين، تتهددنا أخطار كثيرة حاضراً ومستقبلاً تنتهي بنا إلى الهلاك. لكن ماذا من جانب الله؟ لقد أعد خلاصاً أو بالحري إنقاذاً من كل خطر تهددنا أو يتهددنا حاضراً أو مستقبلاً. هذا هو الخلاص والعهد الجديد في أول صفحاته يكلمنا عن خلاص من الخطايا. خلاص ليس من عقوبة الخطايا بل من سلطان الخطايا بل من حب الميل إلى الخطايا. إن الإنجيل لا يقدم لنا إعفاء من عقوبة الخطايا ويتركنا لهوانا نمارس الخطايا تحت سلطانها أو نغترف من ملذاتها. ولو فعل الإنجيل هكذا لما كان إنجيلاً بمعنى الكلمة لأنه بذلك يشجعنا على الاستمرار في الخطية وحاشا لله أن يكون كذلك.
أيضاً نجد في المكتوب أن الخلاص يعني إعفاءنا أو الإفراج عنا من تحت غضب الله. لأن الإنجيل هو قوة الله للخلاص لكل من يؤمن... لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم" (رو1: 16- 18) وإذا تقدمنا أيضاً في الرسالة نقرأ "ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب" (رو5: 9) ومرة أخرى نقرأ "لأن الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح" (1تس5: 9) وأيضاً في (2تس2: 12و 13) نجد أن الخلاص في مواجهة مباشرة مع الدينونة والغضب.
والحقيقة أن معاملات الله مع إسرائيل وموقفهم من المسيا هي موضوع وغرض العهد القديم. ومن هنا تبرز نتائج الخطية بالنظر إلى الإجراءات التأديبية التي يتخذها الله مع هذا الشعب. فلما كان إسرائيل يخطئ كان الله يُسلمهم ليد الأعداء، فإذا ما تابوا ورجعوا إليه كان الله يُخلصهم. أما العهد الجديد فيضع أمامنا النتائج الأبدية للخطية والمسئولية الفردية لكل نفس أمام الله كالديان المُعلَن غضبه من السماء. من هذه الدينونة ومن هذا الغضب نحن نخلص بالإيمان.
في هذا الخصوص يمكن أن نتكلم عن الخلاص كأنه شيء تم وأكمل فيما مضى (على الصليب) حتى أن المؤمنين يمكنهم أن يتكلموا عن أنفسهم بوصفهم "نحن المخلصين" إن الرب يسوع هو مخلصنا من الغضب الآتي. وضمانة سلامتنا هي أكيدة الآن بقدر ما كانت أكيدة يوم آمنا. نحن في أمان تام الآن من قبل أن ينصب الغضب فعلاً ومع ذلك عندما نتكلم عن أنفسنا كمخلصين فإن معنى الخلاص يبدو أنه يتركز في حقيقته أنه إن كنا قد انغمسنا في كل نوع من الشر والدنس فالآن قد أنقذنا من هذه جميعها..."لأننا كنا نحن أيضاً قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضُنا بعضاً ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تي3: 3- 5).
غير أنه من الواضح جداً أنه إن كنا نتكلم عن الله أنه "خلصنا" (2تي1: 9)، إلا أننا لم نزل في عالم مليء من الفخاخ وفي داخلنا جسد خائن ومن الخارج إبليس العدو الشرس، ومن أجل ذلك نحتاج كل يوم إلى خلاص. فالخلاص من الناحية العملية هو خلاص حاضر. والرب يسوع حي في السماء كرئيس الكهنة الذي يخدمنا في الأعالي. هو "يقدر أن يُخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب7: 25).
هذا الخلاص الحاضر الذي نحتاج إليه ونحصل عليه كمؤمنين قد تأسس بالطبع على موت المسيح لكنه يصل إلينا نتيجة عمله الكهنوتي لأجلنا إذ هو حي في السماء ليشفع فينا. فإذ نحن "نخلص بحياته" كما نقرأ في (رو5: 10) وطالما هو حي فلسوف نخلص إلى التمام. إننا سنخلص حتى أقصى حدود الزمان- حتى اللحظة التي فيها يُقهر آخر عدو ونكون نحن حيث لا حاجة لنا إلى خلاص بعد.
ولكي نستمع بهذا الخلاص اليومي عملياً، أعطيت لنا الإرشادات والتعليمات التي تزودنا بها كلمة الله- الكتب المقدسة "القادرة أن تُحكِّمنا للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (2تي3: 15) والعبارة التي تأتي بعد ذلك مباشرة ترينا أن كل الكتاب "نافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر". هذا هو معنى الخلاص في ذهن بولس وهو يكتب هذا الكلام ويؤكد أن للمكتوب ضلعاً كبيراً في صنع هذا الخلاص اليومي الحاضر. وطبعاً عندما كتب بولس هذا الكلام كان يشير إلى ما جاء في كتب العهد القديم التي يعرفها تيموثاوس منذ طفوليته. هذه الكتب مليئة بالتحذيرات النافعة لنا. وإذا نحن انتبهنا إليها، نخلص من ألوف المخاطر والفخاخ. ولسنا في حاجة إلى القول بأن ما يقال عن كتب العهد القديم ينسحب أيضاً على كتب العهد الجديد التي من امتياز البعض منا إنهم يعرفونها منذ الطفولية أيضاً.
والآن يمكننا أن نُجمل القول في أن الخلاص اليومي الحاضر هو أنه من نصيبنا نتيجة شفاعة المسيح كاهننا العظيم ونتيجة امتلاكنا كلمة الله المقترنة بسكنى الروح القدس الذي به نفهم الكلمة ونتقبل تعليمها وتحذيرها. بقيت هناك عدة فصول كتابية تتكلم في وضوح عن الخلاص كشيء مستقبل. فالخلاص رجاء مستقبل أمامنا وهو "خوذة" تلبس (1تس5: 8). هذا الخلاص الذي نرجوه سوف يتحقق عند مجيء المسيح الثاني. صحيح أن المسيح سوف يأتي كديان لكننا نحن لا ننتظره في هذه الصفة بل مكتوب عنا أننا "ننتظر مُخلصاً"... الذي سيُغير شكل جسده تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده (في3: 20) هذا ما ننتظره الآن إلى أن يظهر ثانية بلا خطية للخلاص" (عب9: 28).
هذا الخلاص المستقبل يتوقف على الرحمة التي سيؤتى بها إلينا كآخر صور الخلاص التي يعملها الرب يسوع لأجلنا. وهذا يتضمن إقامة القديسين الراقدين واختطاف القديسين الأحياء قبل هبوب عاصفة غضب الله العادل على الأرض. حينئذ سنكون كلنا- راقدين مقامون وأحياء مختطفون- مع الرب كل حين في أجساد ممجدة مثل جسد قيامته. هذا هو آخر شيء. والخلاص بالنسبة لنا يكون قد تم على الوجه الأكمل.
س: كيف نوفق بين هذا الذي قرأناه وبين تحريض بولس للفيلبيين: "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة؟" (في2: 12)
ج: الفصل الذي ينتهي بهذا التحريض فصل طويل ولكي نحصل على فكرة واضحة لهذا الفصل نرجع إلى العدد السابع والعشرين من الإصحاح الأول من رسالة فيلبي حيث يقول الرسول "فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح" فإن الفيلبيين كانوا مهددين من المقاومين من الخارج وبالخلافات في الرأي من الداخل وخاتمة الإصحاح الأول تشير إلى تهديد المقاومين كما أن بداية الإصحاح الثاني تشير إلى الانقسام في الرأي. والأمر الأول تسهل مواجهته لكن الأمر الثاني يلزم لمعالجته أن يوضع أمامهم المثال الأكمل. ونعلم أن الرسول لم يكن حاضراً عندهم لمساعدتهم لأنه كان وقتذاك في سجن رومية، وتحت مثل هذه الظروف كان عليهم أن يجتهدوا أن يتمموا أي يستثمروا أو يجنوا ثمرة خلاصهم وسط هذه المقاومات ليس كما من قوتهم الذاتية "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (عدد13). ولو أنهم فعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة وتمسَّكوا بكلمة الحياة (مضمون الأعداد الثلاثة التالية) فإن هذا معناه أنهم تمموا خلاصهم.
هذا يرتبط بالخلاص اليومي ومسئوليتنا. أما الجانب الإلهي المختص بهذا الخلاص فيأتي في المقام الأول أعني كهنوت المسيح وعمل الله فينا بروحه وتقويم وتأديب الكلمة. أما الجانب الإنساني فله قيمته وعلينا أن نجتهد لننتفع بالنعمة التي يمدنا بها الله.
س: في يوم الخمسين يُحرِّض الرسول بطرس سامعيه بالقول "اخلصوا من هذا الجيل الملتوي" والذين قبلوا كلامه بفرح اعتمدوا. وفي رسالته الأولى تكلم أيضاً عن المعمودية كمخلصة "الذي مثاله يخلصنا نحن الآن أي المعمودية" (ص3: 21) فما هو هذا الخلاص الذي يُحدثه المعمودية؟
ج: أما قول بطرس للسامعين "اخلصوا" في يوم الخمسين فهو الخلاص من هذا الجيل الملتوي وهذا واضح. والمعمودية فيها معنى قطع الربط وفك العلاقة. هي مجرد طقس خارجي لكن لها معناها الذي يُعبِّر عن قطع العلاقات. إنها مؤسسة على موت المسيح وقيامته (رو6: 3) "إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته" وأيضاً "مدفونين معه في المعمودية" (كو2: 12) وليس هناك أقوى وأفعل في قطع علاقاتنا مع هذا الجيل الشرير ومع العالم أكثر من الموت والدفن. إن النقطة المركزية التي يُنبِّر عليها بطرس في كلامه في يوم الخمسين وفي رسالته أيضاً هي أن المعمودية تقطع الصلة بين المؤمنين الراجعين إلى الله من اليهود وبين غير المؤمنين من سائر الأمة، لأن رسالته موجهة إلى اليهود المؤمنين ويقول لهم إن المعمودية هي مثال لمياه الطوفان التي قطعت قديماً الصلة بين نوح المؤمن مع بيته وبين عالم الفجار. ونوح مع بيته خلصوا بالماء أو عن طريق الماء. من الموت والهلاك الذي جاء على الفجار. والذين كتب لهم بطرس خلصوا بالمعمودية من بقية الشعب غير المؤمن. لقد تألموا كثيراً من جماعة الفجار (غير المؤمنين) لكنهم خلصوا من مصيرهم سواء في هذه الحياة عند خراب أورشليم أو في الدهر الآتي. خذوا هذا المثل إذا كانت باخرة كبيرة تُشرف على الغرق فلا يكفي إنزال قوارب النجاة بالحبال والانتقال إليها. فإنه لم تقطع الحبال فلن تكون هناك نجاة أو خلاص. والمعمودية تقطع هذه الحبال وبهذا المعنى هي تخلص.
س: يقول الرب في مسامع التلاميذ "ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" فعلى ضوء هذه العبارة أليس من السابق لأوانه أن نتكلم عن أنفسنا كمخلصين ما دمنا لم نصل بعد إلى المنتهى؟
ج: لو أن كلمات الرب هذه كانت تشير إلى الطريقة التي بها يمكن أن يخلص الخطاة لكان من السابق للأوان الكلام عن خلاصهم. لكن هذه الكلمات التي ترد في سياق حديث الرب النبوي المذكور في (مت24 ومر13) لا تشير إلى كيف يخلص الخطاة. والرب لم يكن يخاطب خطاة بل رجالاً قد دخلوا فعلاً في علاقة مع شخصه- كان يخاطب تلاميذه. في ذلك الوقت كان التلاميذ يمثلون البقية المختارة من الشعب الأرضي الذين سوف يكونون على الأرض في وقت النهاية. وكلمة "المنتهى" في هذين الفصلين لا تعني نهاية حياة هذا أو ذاك من الناس بل تعني نهاية زمان الاضطهاد والضيق والحزن- النهاية التي ستكون قد بدأت بمجيء المسيح الثاني والصبر هو أعظم فضيلة سيتجمل بها هؤلاء القديسون لأن خلاصهم أكيد عند ظهور المسيح.
هذا هو المعنى الأولي لهذه العبارة. لكن هناك بالطبع تطبيقات أخرى لها نافعة يمكن أن نستخلصها لأنفسنا. لكن القول بأن الإنسان لا يمكن أن يكون على يقين حقاً من خلاصة إلا عند الموت فهذا بعيد عن المعنى الصحيح.
س: لماذا يقترن الاعتراف بالفم بصورة مباشرة مع الخلاص في (رو10: 10) في القول "إن اعترفت بفمك... خلصت لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص".
ج: الخلاص كلمة لها معنى واسع جداً يتضمن معنى الخلاص أو الإنقاذ من هذا العالم ومن أمور أخرى فنحن نؤمن بالمسيح بالقلب كالمقام من الأموات وبهذا نتبرر أمام الله لكن كلا الأمرين- الإيمان والتبرير- غير منظور ونحن بالحقيقة خلصنا أو أُنقذنا من سلطان العالم والجسد والشيطان، لكن أول خطوة نحو خلاص مثل هذا هي خطوة الاعتراف بالمسيح كسيد ورب اعترافاً علنياً مسموعاً في آذان الناس. أما الاعتراف الصامت بالمسيح في الفكر أو بالذهن فهذا لا يسمعه الناس.
واضح جداً أن الرسول في هذا الفصل يميز بين إيمان القلب الذي به يصل إلى التبرير وبين الاعتراف بالفم الذي به نصل إلى الخلاص.
س: هل هذا هو ما يفسر لنا لماذا احتاج كرنيليوس إلى مجيء بطرس إليه ليقول له كلاماً به يخلص مع أن كرنيليوس كان تقياً يخاف الله.
ج: هذا صحيح. وكرنيليوس، حتى مجيء بطرس إليه ببشارة الإنجيل عن قيامة المسيح، لم يكن قد آمن بقلبه أن الله قد أقامه من الأموات. وإذا كان كرنيليوس قد فكّر في المسيح كسيد وكرب على نوع ما فإنما كان تفكيره ينصب على أنه سيد ورب لبني إسرائيل. لكن بطرس في بيت كرنيليوس بشر بالمسيح "كرب الكل" (أع10: 36).
فكرنيليوس رجع من الوثنية إلى خوف الله بكل إخلاص لكنه خلص لما آمن واعترف بالمسيح المقام من الأموات رباً وسيداً.
س: هل يفهم من هذا الخلاص في درجة عالية من درجات البركات المسيحية لا نرقى إليها كنتيجة للرجوع إلى الله. بمعنى أن الإنسان قد تغفر خطاياه ومع ذلك لا يكون خالصاً؟
ج: لو أن استنتاجاً مثل هذا خرجنا به من مثل حالة كرنيليوس لكان استنتاجاً بلا أساس. ومع ذلك ينبغي أن لا نغفل ما نتعلَّمه من حقيقة أن كرنيليوس رغم أنه كان يخاف الله ويؤمن به وأنه كان يعرف شيئاً عن خدمة المسيح على الأرض، فإنه لم يكن يفهم أنه خالص إلى أن سمع وآمن بالمسيح المُقام- وبغفران الخطايا باسمه. عند ذلك انفصل تماماً عن مبادئ الله ونظامه الذي كان يمسكه ورجع إلى الله.
س: كل هذا الذي تكلمنا فيه يتعلق بما خلصنا "منه فما هو الذي خلصنا "لأجله"؟
ج: نحن خلصنا لأجل امتلاك كل بركة لنا في المسيح. ولو أننا دققنا في استقصاء الألفاظ الكتابية لوجدنا أن كلمة الخلاص تتصل دائماً بما خلصنا منه. أما ما خلصنا لأجله، فإن الكلمة المستعملة هي "الدعوة" فالله خلصنا "ودعانا دعوة مقدسة" (2تي1: 9).
والشعب القديم خلص من مصر لكي يمتلكوا الأرض التي إليها دعاهم الله. ونحن قد خلصنا من العالم والجسد والشيطان ومن غضب الله الآتي لكي نتمتع بدعوة الله لأن نأخذ مركز البنين ونشارك المسيح مجده العتيد. إن الخلاص الذي لنا في المسيح هو خلاص عظيم وعجيب حقاً، وبه تحررنا لكي نستمع بدعوتنا. ومع ذلك فإن كل ما دعينا إليه بحسب قصد الله السامي فائق العجب ولا يستقصى
"الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم" (يو10: 36) انظر (تك2: 3)، (لا21: 4)، (حز44: 23).
"ولأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو17: 19)
"قدسوا الرب الإله في قلوبكم" (1بط3: 15)
"كنيسة الله... المقدسين في المسيح يسوع" (1كو1: 1)
"لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب" (عب13: 12)
"الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق" (2تس2: 13)
"المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح" (1بط1: 2)
"نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عب10: 10)
"لأن هذه هي إرادة الله قداستكم" (1تس4: 3)
"وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام" (1تس5: 23)
"كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة" (أف5: 25)
في الكتاب المقدس نقرأ الكثير جداً عن التقديس سواء في العهد القديم أو العهد الجديد. وحيثما تُذكر كلمة التقديس أو مشتقاتها فإنها تعني الإفتراز أو الانفصال أو التخصيص. وفي العهد القديم نستعمل الكلمة في وصف الأشياء أو الأشخاص. وفي العهد الجديد تطلق بصفة أساسية وإن لم تكن بصفة مطلقة على الأشخاص وعند إطلاقها على مؤمنين فهي تحمل معنى مزدوجاً- المعنى الأولي والمعنى الثانوي. والصعوبة عند كثيرين هي أن المعنى الثانوي طغا ومحا من أذهانهم المعنى الأولي. ومن هنا نشأت الصعوبات التي يحسونها بالنسبة لهذا الموضوع الهام.
التقديس يعني عند كثيرين بل عند غالبية الناس عملية بها يصبحون أكثر فأكثر مقدسين ومرضيين عند الله. بينما المعنى الأولي للكلمة هو أنه بعمل من جانب الله، أُفرزوا له ومن ثم يصبح نموهم في القداسة ضرورة محتومة، وإذن فالمعنى الأصلي للكلمة، سواء في استعمالها في العهد القديم أو في العهد الجديد هو "التخصيص لله". فالشخص المقدس والشيء المقدس هو شخص أو شيء أفرز عن الاستعمال العادي ليكون مكرساً أو ملكاً خالصاً لله يستعمله ويستمتع به كيفما شاء. وعلى العكس من هذه الكلمة على خط مستقيم نجد كلمة "التنجيس" أو "التدنيس" والكاهن في أيام هرون كان "لا يتنجس... لتدنيس نفسه" (لا21: 4). والكهنة في الملك الألفي...يُعلِّمون الشعب "التمييز بين المقدس والمحلل... بين النجس والطاهر" (حز44: 23) فالمُحلل هو المباح للاستعمال العادي فهو غير المقدس. وقطعة الأرض التي لا يحدها سور يخصصها ويميزها سرعان ما تصبح أرضاً مباحة لكل ألوان النفايات.
بهذا المعنى الأولي لكلمة "مقدس" يعتبر كل مؤمن قد تقدس أي فصل جانباً أو أُفرز لله. هذه الحقيقة لها طبيعتها المطلقة ويمكن أن نقول عنها إنها تقديس بمقتضى المركز "أو التقديس الشرعي".
وأما بالمعنى الثانوي فإن كل مؤمن يتحتم أن يُفرز لله فهو تقديس أو افتراز ليس بمقتضى المركز بل تقديس مرحلي.
إذن فالتقديس بمعناه الأولي هو حقيقة موضوعية بينما بمعناه الثانوي هو اختبار عملي يأتي تابعاً وبالحري نابعاً من الحقيقة الموضوعية. لكن الأوضاع تختلط ويتشكل مفهوم الكلمة في أذهاننا عندما ندع الاختبار العملي يطغي ويكسف الحقيقة الموضوعية كما هو الحال عند كثيرين.
فإن وجد بين قراء هذه الصفحات من يتشككون فيما قلناه بخصوص هذا المعنى الأولي للكلمة فليُمعنوا النظر في هذه الحقائق الثلاث الآتية:
الحقيقة الأولى: إن الأشياء العادمة النفوس أي الجمادات في خيمة الاجتماع مثل المذبح والمرحضة والآنية كانت تحت الناموس تتقدس. مثل هذه ليس لها أي اختبار تقديسي عملي. فلا ازدياد في القداسة عندها. بل هي تخصص وتفرز في مركز خاص بها بحيث تكرس بالتمام لخدمة الله.
الحقيقة الثانية: إن الرب يسوع نفسه "قُدِّس وأُرسِل إلى العالم" (يو10: 36) وعند تركه هذا العالم قال "لأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو17: 19) وواضح أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون له اختبار تقديسي مرحلي أي ليس لتقديسه ذاته معنى الزيادة المضطرة في التقديس. فهو مقدس تقديساً على أعلى مستوى_ تقديساً إلهياً مطلقاً. وإنما قُدِسَ بالله الآب لأجل إرساليته إلى العالم كالمُعلن للآب وكالفادي. كذلك وهو يغادر هذا العالم ذاهباً إلى الآب قَدَّس ذاته أي أفرزها في مركز جديد مثلاً ومصدر قوة لتقديس من يؤمنون به.
الحقيقة الثالثة: يحرضنا الرسول بطرس بالقول "قَدِّسوا الرب الإله في قلوبكم" (1بط3: 15) وهنا أيضاً نجد معنى التقديس الشرعي بمقتضى "المركز". ففي قلوبنا نجعل للرب الإله مركزه الخاص به الفريد الذي لا يشاركه فيه أحد ونُعلِّي شخصه فوق كل عالي. والآن نبدأ بمفهوم التقديس المطلق أي التقديس بمقتضى المركز، التقديس الذي لنا شرعاً بمقتضى عمل الله. وإذا لم نفعل ذلك فمن المؤكد تتكون عندنا فكرة معينة إن لم تكن معكوسة عن التقديس العملي المرحلي حيث أن أحدهما ينبع من الآخر، فإن التقديس العملي الذي نتوقعه إنما هو حسب صفة التقديس الشرعي الذي مُنح لنا.
إن أول مرة ذُكر فيها "التقديس" في الكتاب المقدس كان بالارتباط بالخليقة لما بارك الله اليوم السابع "وقدسه" (تك2: 3). والمرة الثانية كانت بالارتباط بالفداء لما أخرج الله بني إسرائيل من مصر. والتقديس هنا تقديس أشخاص لأنه قال "قَدّس لي كل بكر (خر13: 2) فجميع الذين فُدوا بالدم قد قُدِّسوا الله أي أخذوا مركز المقدسين المفترزين لله، ولأجل هذا التقديس لاق بهم أن يعيشوا حياة لها صفتها الخصوصية إلى أبعد حد أو بالحري لاقت هذه الحياة الخصوصية باللاويين الذين استُبدلوا بهم كما نقرأ في سفر العدد (ص3: 45 وص8: 5- 19).
والرمز الذي يقدمه لنا سفر الخروج فيه تعليم كثير. ففي الإصحاح الثاني عشر احتمى بنو إسرائيل في دم خروف الفصح من الدينونة. هذه الحماية تمثل لنا الغفران والتبرير اللذين وصلا إلينا بالإنجيل. وفي الإصحاح الخامس عشر نراهم قد أُخرجوا تماماً من عبودية مصر ومن تحت سلطان فرعون الذي انتهى بالنسبة لهم، وهذا الخروج من عبودية وسلطة فرعون تمثل لنا الخلاص. هذان الإصحاحان الثالث عشر نجد التقديس، فالناس الذين تبرروا بالدم أُفرزوا أو قُدِّسوا لله ولأنهم صاروا له، لن يُسمح بأن يكون عليهم سلطان غير سلطانه. لقد كسر قوة العدو وأنقذ شعبه ليكونوا له. وكل تاريخ المستقبل وجب أن تحكمه هذه الحقيقة.
في هذا كله يرينا الله أنه إذا هو أراد أن يبارك شعباً فإنه يفرزهم لنفسه ويخصصهم لذاته بدلاً من أن يكونوا عامة كسائر الشعوب، منجسين مدنسين. إنهم خاصة له.
لقد شوهت الخطية الإنسان إلى أقصى حد. لقد تدنس فكراً وقلباً. وكل كيانه أصبح مباحاً لكل أنواع الرذائل. فإذا قصدت النعمة أن تربحه وجب أن يتقدس لله.
إذاً لنمسك بهذه الحقيقة الكبرى وهي أننا تقدسنا لله، والكتاب المقدس واضح ومحدد بالنسبة لهذه النقطة ولعل المثال الرائع الذي يقدمه لنا الكتاب هو حالة الكورنثيين. فمن بين جميع المسيحيين في أيام الرسل ومن بين جميع الكنائس الذين نعرف شيئاً عن تاريخهم يبرز هؤلاء الكورنثيين، أقلهم تمييزاً بالتقديس العملي كان سلوكهم رخوياً إلى حد بعيد. والرسول بولس وبخ هذا السلوك في أوضح عبارة ومع ذلك في رسالته الأولى إليهم يصفهم بالقول أنهم مقدسون "كنيسة الله التي في كورنثوس المُقدسين في المسيح يسوع". ثم بعد ذلك في نفس الرسالة الأولى وبعد أن يسرد الكثير من المفاسد التي تملأ العالم الوثني قال لهم "وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كو6: 11). وليس هناك ما هو أوضح من هذا. لأننا لا نصير شعب الله المخصص له بالوصول إلى مستوى معين من القداسة العملية. بل نحن قديسوا الله (المقدسون لله) ومن أجل ذلك فإن القداسة أو التقديس العملي ضرورة موضوعة علينا. ولو كان تخصيصاً لله يأتي بالوصول إلى مستوى معين من القداسة العملية لكان هذا حسب مبادئ الناموس لكن طريق الله الذي يتضمن إننا مقدسون لله شرعاً ومفترزون له، ولأجل هذا يتحتم أن نسلك بالقداسة، هو طريق النعمة.
هذا التقديس المطلق يأتينا بطريقين. فأولاً هو بعمل المسيح "نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عب19: 10) و "لذلك يسوع أيضاً لكي يُقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب" (عب13: 12) وبالإيمان به نقوم في قيمة ذبيحته وبذلك نُفرز أو نتقدس لله تماماً بمقدار ما نتبرر أمامه. ونتقدس ثانياً بالروح القدس، كتب بولس في رسالته الثانية إلى التسالونيكيين يقول "أما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الأخوة المحبوبون من الرب أن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح (القدس) وتصديق الحق" (ص2: 13) كما يكتب بطرس قائلاً "المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح" (1بط1: 2). فهناك عمل الروح القدس في قلوبنا الذي يبلغ ذروته في الولادة الجديدة التي نقرأ عنها في (يو3) حيث يقال "المولود من الروح هو روح" فإذا ما قُبل الإنجيل في القلب بالإيمان يسكن الروح القدس في المؤمن ويختمه إلى يوم الفداء وبهذا الختم يتميز المؤمن كمملوك مخصص لله إنه تقدس كمفترز لله.
كتب بولس إلى الكورنثيين يقول "..أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء (ص1: 3). فنحن في المسيح قد خُصصنا بمقدار ما إن الدم الذي سُفك لأجلنا هو دمه وقد أخذنا الروح القدس كثمرة هذا العمل. نحن مثل الكورنثيين" قد تقدسنا ... باسم الرب يسوع وبرح إلهنا" (ص6: 11).
وإذا نحن أدركنا هذه الحقيقة وهي أننا قد تقدسنا بهذا المعنى المطلق فإن الإدراك يجهزنا لكي نواجه مسئولياتنا في خصوص القداسة العملية. وهي مسئوليات تترتب على هذا الإدراك. ومن بين الطلبات التي طلبها الرب في يو17 من أجل خاصته كانت هذه الطلبة وهي "قدسهم في حقك كلامك هو حق" ومن هنا كانت ضرورة الاهتمام كل الاهتمام بدراسة كلمة الله لأننا كلما ازددنا معرفة بها كلما ازدادت قوتها المقدسة فعلاً في حياة كل منا. وإلى التسالونيكيين كتب بولس يقول "لأن هذه هي إرادة الله قداستكم" (1تس4: 3) فقداسة العيشة ليست أمراً اختيارياً بالنسبة للمؤمن، يمكن أن يلتزم به أو يتخلى عنه كما يريد. وأكثر من ذلك أن الله نفسه هو الذي يعمل في تقديس المؤمن، من كل وجه لأن بولس استمر يصلي من أجلهم طالباً أن "إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام" (ص5: 23) فكل شيء فينا يجب أن تمر عليه لمسات الله المقدسة.
لكن من ناحية أخرى علينا نحن نصيب من المسئولية علينا أن نمتنع عن أمور معينة- علينا أن نتجنب الإثم وعلينا أن نُطَهِّر ذواتنا من أواني الهوان لكي نكون أواني للكرامة مقدسين ونافعين للسيد مستعدين لكل عمل صالح (2تي2: 21).
بهذه الوسائل جميعها ينشط ويمتد عمل التقديس وبكل تأكيد هذا هو العمل العظيم الذي يجريه الرب مع كنيسته لأجل أن يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة (أف5: 26) هذا العمل التقديسي يجري الآن فردياً في المؤمنين الذين منهم تتكون الكنيسة.
س: هل هناك فرق بين كلمة "قديسين" و "مقدسين" اللتين نقابلهما كثيراً في الرسائل؟
ج: ليس هناك أي فرق لأن نفس الكلمة اليونانية تُرجمت إلى هذين اللفظين. فالقديس هو المقدس ولعل فرق اللفظ في اللغة الإنجليزية ظاهر بوضوح بين كلمتي Holy, Sanctified, Holiness, "sanctification"- لكن لا فرق في المضمون على الإطلاق.
س: هل "التبرير" و "التقديس" يرتبطان معاً جنباً إلى جنب؟
ج: نعم يرتبطان بالمعنى الشرعي أي أن التقديس بحسب المركز في المسيح مرتبط تماماً بالتبرير في المسيح والعبارة التي اقتبسناها من (1كو6: 11) ترينا ذلك لكن... تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا". فالكورنثيون قد غسلوا وأفرزوا لله على نفس الأساس وينفس القوة التي بررتهم وكذلك نحن مثلهم.
س: مادام التبرير بالتقديس (الشرعي) فهل صحيح أن نقول أن التقديس بالإيمان كما أن التبرير هو بالإيمان؟
ج: صحيح أننا نقرأ في الكتاب صراحة أننا قد "تبررنا بالإيمان" (رو5: 1) ولا نقرأ في أي مكان من الكتاب أننا تقدسنا بالإيمان. لكن كما أننا نعرف أننا تبررنا وذلك بالإيمان وليس بالإحساس هكذا نحن نعرف أننا أُفرزنا لله بالإيمان وليس بالإحساس الشعوري. والله يصرح أننا مُبررون بالإيمان بيسوع المسيح ونحن نصدق ونؤمن بهذا التصريح وبالمثل هو يصرح أننا مقدسون له كمؤمنين بيسوع المسيح ونحن نصدق أيضاً ونؤمن بهذا التصريح أما إذا كان الكلام عن القداسة العملية فهذه مسألة أخرى. القداسة العملية هي قداسة مرحلية وينبغي أن تحصل الزيادة أي النمو في القداسة العملية- كما يقول الرسول "مكملين القداسة في خوف الله" (2كو7: 1). وبولس كان يطلب من أجل القديسين في تسالونيكي أن تثبت قلوبهم بلا لوم في القداسة.... أمام الله في مجيء ربنا يسوع المسيح. فالقداسة بالطبع لا تنفصل عن الإيمان لكن أن نقول عن القداسة أنها ينشئها فمعنى هذا استبعاد عناصر للعيشة المسيحية لا يجب أبداً أن تستبعد.
س: وما هي العناصر وكيف تنشأ هذه القداسة العملية؟
ج: في الجزء الأخير من (رومية6) تقدم لنا القداسة على إنها ثمرة عتقنا من عبودية الخطية والآن ناموس (قانون) روح الحياة في المسيح يسوع هو الذي يعتقنا من قانون (ناموس) الخطية والموت (رو8: 2) فطالما كنا تحت قانون (ناموس) روح الحياة- سلطان الروح القدس- فإننا نمارس ونستمتع بالحرية من سلطة الخطية. وواضح إذن أن سيادة وقيادة الروح القدس هي عنصر أساسي وعملي وهام جداً في القداسة العملية.
كذلك عندما كان الرب يسوع يصلي من أجل خاصته كما هو مذكور في (يو17) قال "قِّسهم" في حقك كلامك هو حق" (يو17: 17) فروح الله القدوس وكلمة الله المقدسة مرتبطان كل الارتباط الوثيق. كانا هكذا في الخليقة كما نرى ذلك في الأعداد الثلاثة الأولى من (تك1) وكذلك هما مرتبطان في الخليقة الجديدة. وكذلك أيضاً في موضوع القداسة العملية. فهناك تقديس بكلمة الحق أيضاً بالروح القدس، وهناك أيضاً القداسة بالمحبة (1تس3: 12، 13) فكلما ازدادت المحبة نَمَونا في القداسة. ونلاحظ أيضاً أن هناك قداسة بالإنفصال عن كل شبه شر- عن كل ما هو نجس- أي أن نُطَهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح. كما تُعلِّمنا الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (2كو6: 14- 17) وكذلك (2تي2: 16- 22).
وهذه هي العناصر التي تنشئ القداسة فينا.
س: أحياناً نقابل البعض ممن يتكلمون عن القداسة الكاملة بصيغة تشعرك بإمكانية الوصول إلى حرية كاملة أو تقديس إلى التمام من وجود الخطية فهل يؤيد الكتاب مثل هذه الأفكار؟
ج: جاءت في رسالة تسالونيكي الأولى (ص5: 23) هذه العبارة "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح". وكلمة "بالتمام" تشير إلى الإنسان كله بكل ثالوث طبيعته البشرية "الروح والنفس والجسد". فعمل الله لا يعمل جزئياً. وتأثيره التقديسي يصل إلى كل جزء فينا ويستمر عاملاً إلى مجيء ربنا يسوع المسيح. وعندما يجيء يبلغ تقديس الإنسان كله تمامه وكماله وليس قبل ذلك. فطالما نحن نسكن هذه الأجساد المتوارثة (المستمدة) من آدم فإن الخطية تبقى فينا. لكن كلما زاد اختبارنا لعمل الله التقديسي، كلما قل تأثير سلطان الخطية علينا. ولا عذر للمؤمن عندما يخطئ بقدر ما إن الموارد متاحة أمامه لأجل القوة التي تحفظه. غير أننا جميعنا كثيراً ما نعثر كما يخبرنا يعقوب في رسالته (ص3: 2) وجميعنا يجب أن نعترف بالأخطاء إلا إذا تبلدت فينا الحواس أو إذا كنا نخدع أنفسنا.
إن حياة القداسة العملية هي الحياة العادية المسيحية لكن المؤمن الذي يحيا هذه الحياة تراه دائماً قليل الإشارة إلى نفسه لأن هدف حياته، والغرض الذي يصبو إليه لسانه هو المسيح
"وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يو1: 13).
"أجاب يسوع وقال له الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح" (يو3: 3- 6).
"وأرش عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم... وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز36: 21- 27)
"مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد" (1بط1: 22- 25)
"كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله" (1يو3: 9).
يطالعنا الرب نفسه بهذا الموضوع الهام الذي جعله في مقدمة حديثه مع نيقوديموس. ويوحنا يشير إلى موضوع الولادة الجديدة في بداية إنجيله (ص1: 13) لكنه لا يشرحه بتوسع إلا في الإصحاح الثالث حيث يسرد ما سمعه عن هذا الموضوع بصورة موسعة من فم الرب. ونقرأ تفصيلات أخرى عن هذا الموضوع في رسالتي بطرس الأولى ويوحنا الأولى. ومن كلام الرب مع نيقوديموس ندرك أن ما جاء في الإصحاح السادس والثلاثين من نبوة حزقيال يشير أيضاً إلى موضوع الولادة الجديدة ولو أن عبارة "الولادة الجديدة" أو "الولادة ثانية" لا ترد بنصها في تلك النبوة.
كان نيقوديموس واحداً من الذين اقتنعوا أن يسوع المسيح قد "أتى من الله معلماً لكنه زاد عن هؤلاء بأن جاء يطلب ويسأل. ونيقوديموس نفسه كان "معلم إسرائيل" أي بين المعلمين في إسرائيل وكان شيئاً له أهميته أن يعرف في يسوع المسيح المُعلِّم الذي كان يتكلم ويُعلِّم بسلطان أعظم بكثير مما له هو، وإذ عرف فيه ذلك جاءه يزداد منه علماً إذ هو شخص مرموق المكانة وواحد من تلك الأمة المحظوظة. لكن لهذا الإنسان قيلت تلك العبارة "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله". وكلمة "من فوق" تعني أيضاً "ثانية" (يو3: 31) وواضح أن نيقوديموس لم يفهمها بهذا المعنى وإلا لما سأل السؤال "كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟" (هذه الكلمة ترجمت في لو1: 3) من الأول" ولعل قوة هذا المعنى هي المقصودة هنا. إن نيقوديموس كان يحتاج إلى ميلاد جديد بالكلية أي يبدأ من جديد وليس أقل من هذا ينفع.
نيقوديموس ولد من نسل إبراهيم فهو من السلالة الأفضل وهو عينة نقية على أعلى مستوى بين اليهود ومع ذلك لا نفع له عند الله. بل إن كلمات الرب، بكل وضوح طبعت حُكم الإدانة على نيقوديموس كواحد من نسل إبراهيم. لأنه إذا كان هذا الميلاد الأول (من سلالة إبراهيم) له نفع ويكفي عند الله لما احتاج الأمر إلى ميلاد جديد. ونحن الأمم لا نستطيع أن نفتخر بأننا من نسل إبراهيم خليل الله. إننا مجرد نسل آدم الإنسان الذي عصى الله وسقط. لكن الميلاد الجديد ليس أقل لزوماً لنا مما لنيقوديموس لأن نيقوديموس أيضاً كان ابناً لآدم كما كان إبراهيم.
لقد أفسدت خطية آدم طبيعته وأفسدت كل جنسه فلقد توارثت الأجيال بعد الأجيال الاشتراك في هذه الطبيعة الفاسدة. والعمى الروحي هو صورة من صور هذا السقوط. ومن أجل ذلك نحن بحسب طبيعتنا لا نقدر أن نرى ملكوت الله. ولما كان الرب يسوع على الأرض كان الملكوت حاضراً بين ذلك الشعب الأرضي لأنه هو الملك لكن الناس- لم يقدروا أن يروا ملكوت الله بدون الولادة الجديدة من فوق. ونيقوديموس لم يرَ في النور الحقيقي. وذات الأمر لم يزل حتى يومنا الحاضر رغم أن الرب يسوع ليس بعد على الأرض. فالناس يرون فيه معلماً دينياً أو مصلحاً. لكنهم لا يرون فيه الله نفسه ولا يرون الله إلا إذا أُجريت فيهم تلك العملية الإلهية- عملية التطهير التي تتضمنها الولادة الجديدة من فوق.
في (يو3: 5) يتقدم الرب خطوة إلى الأمام لأن الحاجة ليست في أن نرى ملكوت الله بل أن ندخل هذا الملكوت ولأجل هذا "ينبغي أن نولد من الماء والروح"، والماء هو الواسطة التي تستخدم أما الروح فهو العامل الذي يستخدم هذا العنصر. وهذه العبارة الأخيرة حيَّرت نيقوديموس أكثر فتساءل متعجباً كيف يمكن أن يكون هذا؟" فكان جواب الرب أيضاً في صيغة السؤال: "أنت معلم إسرائيل- ولست تَعلَم هذا؟" لأن تعليم الرب في هذه النقطة شيئاً جديداً بالكلية على نيقوديموس أو أن نيقوديموس- لم يسمع به قبل ذلك الوقت بل إنه شيء قديم ترجع أصوله إلى ما تكلم به الأنبياء خاصة النبي حزقيال في الإصحاح السادس والثلاثين من نبوته حيث يذكر الروح وأيضاً الماء. والعجيب أن نيقوديموس ظل يجهل معنى كلام النبي.
ومعنى كلمة الماء في (يو3) كان موضوع جدل كثير ولا شك أن معناها هو الذي أشار إليه الرب في نبوة حزقيال وكان يقصد أنها تضع المفتاح في يد نيقوديموس حتى يعرف المعنى المقصود. إذن لنقرأ هذا الإصحاح السادس والثلاثين من نبوة حزقيال (الأعداد21- 33)[1]- إن هذا الفصل يتكلم عما سيفعله الرب عندما يجمع في النهاية شعبه الأرضي من جميع أراضي شتاتهم ويأتي بهم إلى أرضهم. حينئذ سوف يرش ماء طاهراً عليهم فيطهرون. ومن كل نجاستهم ومن كل أصنامهم يطهرون لأنه بهذا سيضع فيهم قلباً جديداً ويجعل روحاً جديدة في داخلهم. هذا التطهير بالماء سوف يكون ذو طبيعة جذرية وجوهرية فيتغير فيهم القلب وعندما يحدث هذا الفعل العظيم سوف ينظرون إلى ماضي حياتهم ويذكرون طرقهم الرديئة وأعمالهم غير الصالحة ويمقتون أنفسهم أمام وجوههم من أجل آثامهم وعلى رجاساتهم. أي أن تغييراً جديداً (تجديداً) أدبياً سوف يحدث. والناس عندما يلفظون عادات رديئة ويمارسون عادات طيبة يفعلون الشيء الكثير من الصلاح الأدبي ظاهرياً. لكن التجديد الأدبي الذي قصده حزقيال في نبوته يمتد عميقاً إلى أساسات الكيان الإنساني وبه يمتلك الإنسان قلباً جديداً وروحاً جديدة حتى إنه بطبيعته الجديدة يريد الصلاح ويسلك في الطاعة... "أجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز36: 27) ومن ثم ليس عجيباً أن يتكلم الرب عن هذا التغيير إنه "ولادة جديدة" إذ ليس هو تحسين طبيعة غير طاهرة ونجسة موجودة فيهم بل إعطاء طبيعة "قلب" جديد بالتمام وجعل روح جديد في الداخل. إن الولادة الجديدة لأي إنسان هي أن يبدأ هذا الإنسان من جديد حياة جديدة.
والكلام في العدد السابع والعشرين الذي اقتبسناه من نبوة حزقيال يذكر كلمة "روحي" الذي يجعله الله في داخل المولودين من جديد من الشعب الأرضي في ذلك اليوم، ويقصد به الروح القدس الذي يتميز عن الروح الجديدة التي يجعلها الرب في داخلكم المذكورة عنها في العبارة السابقة مباشرة وبذلك يرينا النبي أنه فقط عندما يولد إسرائيل ولادة جديدة وبأخذ روح الله- عندئذ فقط- سوف يرون ويدخلون ملكوت الله. هذا كله كان ينبغي أن يعرفه نيقوديموس ولو أن كلمات الرب وضحت له الحق الخاص بهذه الأمور بصورة أكثر تفصيلاً. والآن نحن نرى أن الولادة الجديدة تحصل فعلاً بعمل الروح القدس. والمولود ثانية يولد من الروح القدس والمولود من الروح هو روح بالنسبة لطبيعته وصفاته. وبصيغة أخرى إن القلب الجديد والروح الجديدة التي يكلمنا عنها حزقيال إنما من عمل الروح القدس وتشترك في طبيعته القدوسة. والمولود من الجسد جسد هو بالرغم من كل ما يمكن أن يفعل لأجل تهذيبه وتعليمه وترقيته، يظل هو هو جسداً بعد كل ما يُعمل معه من هذا القبيل ولا يمكن تحويله إلى روح إنما روح هو المولود من الروح القدس ولا يمكن أن يوجد بغير الولادة الجديدة- الولادة من فوق.
لما تنبأ حزقيال عن كيف يُرش ماء طاهراً على شعبه الأرضي في يوم قادم لكي يطهروا فإن الذين يقرأون هذه الكلمات لا بد أن ترجع أفكارهم إلى سفر العدد حيث نقرأ مرتين عن رش الماء. ففي الإصحاح الثامن من سفر العدد نقرأ عن كيف يطهر الكهنة لكي يمارسوا خدمتهم: "هكذا تفعل لهم لتطهيرهم. أنضح عليهم ماء الخطية وليُمروا موسى على كل بشرهم ويغسلوا ثيابهم فيتطهروا". وماء الخطية أي ماء التطهير من الخطية. ثم في الإصحاح التاسع عشر نقرأ عن كيفية تطهير أي واحد من الشعب من أية نجاسة تنجس بها كان يُجهز ماء التطهير من النجاسة من رماد بقرة حمراء يجعل عليه ماء حي ويُحفظ في إناء يرش منه على المتنجس- إنساناً كان أو متاعاً- والبقرة الحمراء التي تُحرق هي رمز للمسيح في موته والماء الحي رمز للروح القدس.
فإذا مررنا في سفر العدد وأتينا إلى النبوة في سفر حزقيال ومنها إلى إعلان الرب في (يو3) وقرأنا هذه النصوص مرة واحدة مع بعضها ينجلي أمامنا معنى "الماء". إنه كلمة الله، تُسلط معنى موت المسيح في كل قوته المطهرة والمخصصة على النفس. من هذه الكلمة ومن الروح القدس، ينبغي أن نولد إن كان يجب أن ندخل ملكوت الله. وفي إصحاحات أخرى قادمة في الإنجيل نجد الرب يقرن الماء بالكلمة بطريقة تؤكد أن الماء هو كلمة الله. هذا واضح في الإصحاح الثالث عشر (من عدد5 إلى 11) إذا قورن بالإصحاح الخامس عشر (عدد3). ثم أيضاً في رسالة أفسس الإصحاح الخامس (عدد3). ثم أيضاً في رسالة أفسس الإصحاح الخامس (عدد26) "أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" وأيضاً "كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة".
فالإنسان يحتاج إلى الولادة الجديدة قبل كل شيء والعنصر الذي يستخدم في هذا الغرض هو كلمة الله التي تُطَبِق علينا الفعل المُطهر الذي لموت المسيح، والعامل في هذا كله هو الروح القدس- روح الله. ونلاحظ إنه في (يو3) يذكر الماء مرة واحدة فقط وباقي الكلام عن عمل الروح القدس.
لكن عندما نأتي إلى (1بط1: 22- 25) نجد أنه بالرغم من أن الروح القدس يُذكر هناك، إلا أن التنبير ينصَّب على ما يشير إليه الماء- أي كلمة الله. فإطاعة الحق هي بالروح القدس وبهذا يتطهر القلب- والكلام هنا عن التطهير من وجهة النظر إلى مسئوليتنا "طَهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية" (عدد22)، أما من وجهة النظر إلى العمل الإلهي فإن التطهير يحصل بعمله فينا بالكلمة التي يعمل فيها الروح القدس "مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد" (عدد23) "وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد وهذه هي الكلمة التي بُشرتم بها" (عدد 25) ونلاحظ التعبير أننا نولد "بكلمة الله" وأيضاً نولد "من زرع لا يفنى" ولا ينبغي أن نخلط بين هذين المرين فإن "الباء" في قوله "بكلمة الله" تعني بواسطة الكلمة أما "من قوله "بكلمة الله" تعني بواسطة الكلمة أما من قوله "من زرع" فتعني المصدر الأصلي. ونحن كأولاد آدم ولدنا من زرع ليس فقط يفنى (مصيره الفناء) وبالفعل فسد تماماً وتعفن أدبياً، وبكلمة الله والروح القدس ولدنا ثانية من زرع لا يفنى (لا يتطرق إليه الفساد) لأنه زرع إلهي. وإشعياء النبي أعطى لمحة عن عبد يهوه- عن موته وعن قيامته فتنبأ قائلاً "إن جعل نفسه ذبيحة إثم (إن تجعل نفسه ذبيحة إثم) يرى نسلاً" (أش53: 10) أي يرى أولئك الذين يرجع أصلهم إليه هو، أي يأخذون حياتهم الروحية منه. وبمثل هذا الكلام تكلم بطرس "مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى" والكلمة التي بها ولدنا ثانية "حية وتبقى إلى الأبد". هذا هو ما يحصل نتيجة للولادة من فوق. إن المولود ثانية له هذه الصفات المميزة العجيبة: الحياة، والأبدية، وعدم الفساد أو الفناء.
ومن كل ما سبق، واضح، أن الولادة الجديدة هي عمل روح الله فينا حتمته حالة الفساد التي صارت عليها طبيعتنا بالخطية. فلم يكن يكفي أن عملاٍ يُعمل لأجلنا يأتي إلينا بتبرير ومصالحة مع الله، بل كان يتحتم أن يُعمل أيضاً فينا عمل تقديسي وتطهيري ينقلنا أدبياً خارج دائرة فساد الطبيعة البشرية. لم يكن الأمر ينفع فيه عمل تطهيري خارجي. لم يكن ينفع فيه أقل من امتلاكنا طبيعة جديدة مولودة من مصدر حي لا يتطرق إليه فساد الخطية ولا يوجد تطهير جوهري أساسي أعظم وأعمق من هذا يمكن تصوره.
وإذا أدركنا ما يقرره بطرس في خصوص ولادتنا من زرع لا يفنى نأتي إلى ما يقرره يوحنا في رسالته الأولى في قوله "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه (زرع الله) يثبت فيه (في المؤمن) ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله" (1يو3: 9). وهذه العبارة تبسط أمامنا الموضوع كله فلا ذكر فيها للعنصر المستخدم الذي هو كلمة الله ولا للروح القدس العامل، بل المعول كله على الله نفسه كالمصدر لكل العمل فنحن كمولودين من الله يثبت فينا زرع الله. هذه حقيقة لا تقبل جدلاً. ونحن شركاء طبيعته الخالية من الخطية- والمولود من الله لا يقدر أن يخطئ والسبب المجرد هو لأنه مولود من الله. ويوحنا حين يقول ذلك يرانا من وجهة النظر المطلقة المجردة بمقتضى حتمية صفات الطبيعة الجديدة التي لنا كل من ولد من الله تحتم عليه أن يكون هكذا بمقدار ما سنكون عليه بصفة مطلقة عندما يكون الله قد تمم كل قصده من نحونا. وآخر أثر من هذه الطبيعة الآدمية الترابية سيكون قد انتهى تماماً عندما تتجمد أجسادنا.
في موضع آخر يرانا من وجهة النظر الفعلية العملية فيقرر مؤكداً أن لنا خطية أي فينا الخطية وأننا نخطئ (1يو1: 8 و1يو2: 2). وهذه النظرة الفعلية لازمة بكل تأكيد وأيضاً لازمة بالمثل النظرة الاعتبارية المطلقة التي نتأملها لأنه ينبغي أن نعرف عدم قابلية الطبيعة الجديدة للخطأ.
وهي ليست فقط غير قابلة للخطأ وخالية من الخطية بل هي أيضاً بارة (1يو2: 29)أي تفعل البر ومُحِبة (1يو 3: 10 و11) أي تحب. وتتميز بالإيمان (1يو5: 1) وتغلب العالم (1يو5: 4) وهذه كلها صفات إيجابية ثمينة القيمة. وإذا ما وضحت هذه الصفات المميزة في المؤمن، يصبح واضحاً أمام جميع الناس أن عملاً عظيماً وتجديداً أدبياً هائلاً قد حصل في قلبه- عملاً تطهيرياً وتغسيلاً شاملاً قد أجري فعلاً.
س: في (1يو1: 7) نقرأ تطهيرنا من كل خطية بالدم في القول "إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يُطهرنا من كل خطية"- فهل هناك مفاضلة بين هذا التطهير وبين التطهير الاعتباري المطلق الذي كنا نتأمله؟
ج: إن دم المسيح يعني حياته المقدسة التي وضعها بالموت لأجل أن يحمل الدينونة التي نستحقها بهذا الدم أي بهذا الموت على الصليب نحن طهُرنا قضائياً أو اعتبارياً. أما التطهير الذي يعمل بالولادة الجديدة ومصور كأنه يتم بالماء، إنما يختص بصفاتنا وبحصولنا على طبيعة جديدة، لقد طهرنا أدبياً. وكلاهما (التطهير الاعتباري المطلق والتطهير الأدبي) لا زمان لنا. وكلاهما لنا أي من حقنا امتلاكهما لأننا قبلنا نعمة الله.
س: إذن فالماء في يو3 لا علاقة له بالمعمودية فهل هذا الرأي سليم؟
ج: إننا على يقين من أن الرب لم يقصد ماء المعمودية عندما استخدم كلمة من "الماء" في كلامه مع نيقوديموس ولو أن الرب قصد الماء الحرفي لما كان هناك وجه للغرابة في نيقوديموس عندما لم يفطن إلى معناها. بل إن الرب قصد الإشارة إلى (حز36) الذي كان ينبغي على نيقوديموس أن يكون على علم به. وهذا الفصل لا علاقة له بالمعمودية و (يو3: 5) مثل (يو6: 53) الأول لا علاقة له بالمعمودية كما أن الثاني لا علاقة له بعشاء الرب، رغم أننا نلمح حسب الظاهر في الممارستين ظلا للحق المقرر في هذين القولين. في كليهما لسنا نجد الطقس بل الحقيقة التي يشير إليها الطقس.
س: مرت بنا حتى الآن تعبيرات مختلفة مثل "نولد ثانية"، "نولد من الماء والروح"، "نولد من الله" فهل كل هذه تعني شيئاً واحداً؟
ج: إن جميع هذه التعبيرات تشير إلى عمل الله العظيم الذي يجري فينا بالروح القدس. ولا يوجد في الكتاب المقدس أي فكر عن وجود نوعين مثلاً من الولادة الجديدة كأن يكون الإنسان مولوداً من الماء والروح كما نقرأ في (يو3: 5) وأن يكون "مولوداً من الله" كما نقرأ في (1يو3: 9). هذا وإن كل من هذه التعبيرات المختلفة له معناه الخاص وقوته الخاصة، فإن القول "مولودين ثانية" يؤكد الصفة الأصلية والجديدة لهذه الولادة. والقول "مولودين من الماء والروح" يوضح لنا العامل الذي يُجري هذه الولادة والعنصر المستخدم فيها. والقول "مولودين من الله" يرينا المنبع الذي ينبع منه الكل. وبدون شك هناك تسلسل متدرج في التعليم ابتداء بالعبارة الواردة في حزقيال (ص36).
س: الولادة الجديدة هي من أعمال الله فهل هي تجري بعمل الروح القدس فقط بدون الكرازة بالإنجيل؟
ج: هناك إجابة واضحة على هذا السؤال فيما قاله بطرس "مولودين ثانية... بكلمة الله الحية الباقية... وهذه هي الكلمة التي بشرتم بها" (1بط1: 22- 25). فمهما كانت الكلمة التي استخدمها الروح القدس في التدبير السابق، فإن الكلمة التي بها نولد ثانية في هذه الأيام هي تلك التي تصلنا بالإنجيل.
س: هل معنى هذا أننا نولد ثانية بمجرد الإيمان بالإنجيل؟ إن البعض يقول "نحن نؤمن لكي نولد ثانية" والبعض يقولون "يجب أن نولد ثانية لكي نؤمن".
ج: هو ما قاله الرب في (يو3: 8) "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح". هذه هي الحقيقة وينبغي أن نوليها اهتماماً بالغاً فإن عمل الروح القدس في الولادة الجديدة شيء فوق إدراكنا إننا لا نستطيع أن نلم بهذا العمل بأذهاننا بقدر ما إننا لا نستطيع أن نجمع الريح في قبضتنا. إن عبارة الرسول بطرس (1بط1: 22و 23) تعطينا وجهة النظر الإنسانية- وجهة نظر الذين يقولون "نحن نؤمن لكي نولد ثانية"، أما عبارة يوحنا (1يو3: 9) تتكلم عن وجهة النظر الإلهية ويتمسك بها الذين يقولون "يجب أن نولد ثانية لكي نؤمن". أما رأينا الخاص فهو إننا نميل إلى الأخذ بالرأيين معاً ولسنا نخشى من كوننا لا نستطيع التوفيق بصورة كاملة بين ما هو إلهي وما هو إنساني في الرب يسوع المسيح أو في كلمة الحق.
س: لكن أليست الولادة الجديدة هو أول بادرة لعمل الله في النفس؟ ألسنا أمواتاً بالتمام بلا أقل حراك من نحو الله إلى أن نولد ثانية؟
ج: كلنا بدأنا من حالة موت روحي مطلق ولم يكن لنا أقل رجاء إلا أن يبدأ الله عمله. وقصة عمل الله لمباركة الناس تبدأ بالله وليس بالإنسان ونحن متأكدون من هذه الحقيقة بقدر ما نحن متأكدون من أن قصة الخليقة الأولى بدأت بالله وليس بالإنسان، كان الله هو البادئ مع كل واحد منا. وروحه القدوس بدأ يرف على قلوبنا كما كان يرف على وجه الغمر. ولكن في ضوء الحقائق التي سردناها آنفاً يتعذر أن نسمي هذه البادرات الأولى من جانب الروح القدس ولادة جديدة كما هي لنا في المكتوب. وأيضاً الولادة الجديدة ليست هي الضد المقابل لحالة الموت بل هي المقابل لحالة الفساد لأن الكلمة التي تقابل الموت هي "الإحياء". فبالولادة الجديدة نمتلك طبيعة جديدة لا تقدر أن تخطئ ومن ثم نحن بها نهرب من الفساد الذي في العالم بالشهوة- (2بط1: 4).
س: هل الولادة الجديدة هي التجديد كما نقرأ في (تي3: 5)؟
ج: لا. إن الكلمة التي تترجم "تجديد" جاءت مرتين في الكتاب المقدس ومقصود بها في الموضعين نظام جديد يأتي به الله في الملك الألفي. وفي (تي3: 5) يقال "غسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" ورغم أن "التجديد" ليس هو الميلاد الثاني إلا أن الغسل هو الميلاد الثاني وهذه العبارة هي نفسها عبارة (حز36: 25) "أرش عليكم ماءً طاهراً... وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم" ولكنها مصوغة في لغة العهد الجديد. فالشعب الأرضي سوف يطهرون من نجاساتهم في الزمن الألفي. ونحن لا يتعين علينا أن ننتظر حتى يأتي ذلك الوقت أو ذلك الدهر. هذا التطهير الذي سوف يكون للشعب الأرضي في الزمن الألفي قد وصل إلى المؤمنين الكريتيين الأمم. فلم يعودوا بعد، "كذابون وحوش ردية بطون بطالة" وعلى ذلك ينبغي أن يعيشوا "بالتعقل والبر والتقوى"
هذا الغسل نفسه قد وصل إلينا فلسنا بعد "عبيد الفساد" ذلك لأننا "ولدنا من زرع لا يفنى (أو يفسد).
[1] -وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم. وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون. من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أُطهركم. وأُعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم "أُعطيكم فقلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم..." الخ.
"وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا... الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا أحياناً مع المسيح" (أف2: 1و 2- 5)
عندما تكون لنا نظرة شاملة وعريضة عن حالتنا الساقطة حينئذ فقط يمكننا أن ندرك بطريقة مناسبة وصحيحة حقيقة الخراب الشامل الذي أحدثته الخطية، كما ندرك أيضاً رد الفعل الإلهي كجواب شامل أعلنه الله لنا في الإنجيل ليقترب مِنا.
لقد دخلت الخطية إلى العالم وجلبت علينا:
(1)-المذنوبية- صرنا مذنبين أمام الله ومن ثم يلزم لنا الغفران.
(2)-الدينونة- صرنا مدانين قدام الله ومن ثم يلزم لنا التبرير.
(3)-العبودية- صرنا عبيداً للخطية والفساد ومن ثم يلزم لنا الفداء.
(4)-التغرب- صرنا غرباء عن الله ومن ثم يلزم لنا المصالحة معه.
(5)-الضياع تحت كل خطر ومن ثم يلزم لنا الخلاص.
(6)-الدنس والنجاسة- صرنا دنسين ونجسين ومن ثم يلزم التقديس.
(7)-الفساد- صرنا في أعمق ينابيع طبيعتنا فاسدين ومن ثم يلزم لنا أن نولد من جديد من فوق.
(8)-الموت الروحي والموت الأبدي ومن ثم يلزم لنا الإحياء حتى نعيش لله.
إن حالتنا كأموات روحياً مبينة في (أفسس2: 1) كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا وسالكين فيها. هذا الموت هو موت روحي لأنه موت بالنسبة لله. والأموات بالنسبة لله هم أحياء بالنسبة "لدهر هذا العالم" وبالنسبة "للروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". إن الموت بالنسبة لله يتفق تمام الموافقة مع العيشة للعالم والشيطان وأحدهما نتيجة وسبب للآخر.
هذه هي الحقيقة الكامنة وراء التقرير الإلهي الوارد في (رو3: 11) "ليس من يفهم. ليس من يطلب الله" إنه لأمر رديء أن يوصف الناس بهذا الوصف "ليس بار ولا واحد" (رو2: 10) لكن أردأ وأسوأ أن "ليس من يفهم" لأن هذا معناه حالة أشر من الجهل- حالة عدم الإحساس. والأردأ والأسوأ من الكل أن "ليس من يطلب الله" الذي عنده البر والفهم والحياة. وليس للإنسان الطبيعي ما يشتهيه في الله لأن الإنسان بالخطية أصبح غير سليم وغير مستقيم وليس عنده أية رغبة لطلب الله الحي الكامل الصفات. وبكل اختصار هو ميت بالنسبة لله.
وإذا استقرت في أعماقنا هذه الحقائق الخطيرة يصبح رجاؤنا في الله وحده الذي في رحمته يأخذ المبادرة بخطوة نحونا. بالنسبة لنا فنحن أكفاء لأن نأخذ المبادرة بالخطأ والشر أما بالنسبة لله فنحن أموات تماماً ومن ثم فكل تحرك يجب أن يأتي من جانب الله.
إذن ينبغي أن يعمل الله. لكن كيف يعمل؟ هل بالإصلاح أو التعليم أو بالتربية؟ هل هذه الوسائل هي التي تتطلبها حالتنا؟ أبداً. أبداً. ليس بشيء إلا أن يبدأ بإحيائنا. وإحياؤنا معناه بكل بساطة إعطاؤنا حياة. الإحياء هو عملية إعطاء حياة.
لو قرأت كتابك المقدس لوجدت في سفر حزقيال (ص36) صورة الفساد الأدبي ودوائر الدنس التي انحط إليها الشعب القديم. ولوجدت أيضاً نبوات عن ميلادهم الجديد الذي لابد أن يكون من نصيبهم، لكن الحقيقة العجيبة إن هذا كله تعقبه رؤيا عن وادي العظام اليابسة (ص37). هذه العظام اليابسة تمثل حالة الموت الروحي التي تردى فيها الشعب القديم كأمة، وتقارب هذه العظام ودبيب الحياة فيها وربطها بعصب إنما كل هذا نبوة عن عمل الله لإحياء هذا الرميم، الأمر الذي لابد أن يحصل قبل دخولهم إلى البركة الألفية. سوف يقيم الله ويحضرهم من شتاتهم بين الأمم، ستكون هناك قيامة وطنية "وأجعل روحي فيكم فتحيون وأجعلكم في أرضكم فتعلمون إني أنا الرب تكلمت وأفعل" (عدد14) ومتى قاموا سوف يفهمون وسوف يطلبون على الفور الرب. هذا الإحياء الروحي هو الولادة الجديدة ومرتبط بها ارتباطاً وثيقاً ولا انفصال بينهما وإن كانا متميزين.
فإذا كان (يو3) يتطابق مع (حز36) فإن (يو5) يتطابق مع (حز37).
هذا الإصحاح (يو5) يُفتتح بشفاء الإنسان المريض منذ ثمان وثلاثين سنة. وكأن نهراً دافقاً بالحياة جرى في أطرافه الميتة فحمل سريره ومشى. ولما قاوم اليهود الرب يسوع لأنه صنع تلك المعجزة في سبت أخبرهم الرب عن أعمال أخرى أعظم من هذه سوف يعملها وكان يقصد عمله في "إحياء من يشاء" (ص5: 21) وفي إقامة الأموات وإحياءه من يشاء هو عمل محدود فإن الذين هم بين الأموات روحياً الذين يسمعون صوت ابن الله، فهؤلاء فقط سوف يحيون روحياً. أما إقامة الأموات فهي عامة. وجميع الذين في القبور سوف يسمعون صوته ويخرجون على دفعتين فريق يخرج لقيامة الحياة وفريق يخرج لقيامة الدينونة. كل دفعة على حدة- قيامة أولى ثم قيامة ثانية. وهذا سوف يحدث في أوقات مختلفة كما نتعلم من فصول كتابية أخرى.
في العدد (21) من هذا الإصحاح نجد أن "الإحياء" يُنسب إلى الله الآب والله الابن. بينما في العدد (22) نجد أن "الدينونة" قد وضعت كلها في يدي الابن. لأن الابن وحده هو الذي جاء إلى هذا العالم ليتألم ويُرفض بل تُقطع حياته من الأرض لذلك له وحده أُعطي أن يدين. أما في الإحياء فالابن يعمل وفق مشيئة مع الآب- ولا حاجة بنا إلى القول- بأنه يعمل في اتفاق مطلق وكامل مع مسيئة الآب. لأنه هو مصدر حياة، كما أن الآب- مصدر حياة على السواء لأن العدد (26) واضح أنه يتوازى مع العدد (21) في معناه. وكما نقرأ في (1كو15: 45) إن آدم الأخير روح محيي".
يقول الرب "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة... الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون" (يو5: 24و 25). وفي هذه العبارات نرى الطريقة التي بها يعطى الابن الحياة الآن. إنه يُحي بواسطة كلمته بمعنى أن الناس يسمعون فيها "صوت ابن الله" وبالتالي يُصدقون أن الله أرسله إلى العالم – أي يؤمنون بالآب الذي أرسله ويحيون. ولنلاحظ أن عملية الإحياء هنا لا تُرسم أمامنا كعمل منسوب للابن، منفصل عن الواسطة المستخدمة. ولو كانت كذلك لجاءت العبارة هكذا "والأحياء يسمعون". لكن العبارة ترد هكذا "والسامعون يحيون". بكل تأكيد الحياة هي عطية من الآب ومن الابن لكنها تصل إلينا عن طريق سماع صوته في الكلمة وفي نور هذا الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا نعتقد أننا نستطيع أن نقول عن "الإحياء" بأنه وجه عميق وهام جداً من أوجه عمل الله فينا. وتبدو أهميته في أن الآب والابن يعملان فيه بصورة خاصة. ولقد تعثر البعض في فهم عبارات الرب يسوع في الأعداد (19و 30) من هذا الإصحاح. إنهم أساءوا تفسير قول الرب "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل... أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً". هذه العبارات لا تعني إنه تجرد من كل قوة على العمل كما يمكن أن يقال عن أي نبي. بل إنها تعني في المقام الأول حقيقة أن ابن الله إذ جاء في الجسد، إنساناً تام الإنسانية أخذ مركز الخدمة التي تستند كل الاستناد على الله عاملاً بنشاط الروح القدس كلياً وجزئياً في خضوع لله الآب. هذا يبدو بارزاً في العدد (30). وفي المقام الثاني هي تعني أن مركز الابن الجوهري في وحدة اللاهوت يحتم أنه يستحيل عليه أن يعمل بالاستقلال عن الآب وهذا يبدو بارزاً في العدد (19).
من وجهة النظر الداخلية العميقة هذه كأن الابن يقول أنا بصفة حتمية واحد مع الآب حتى إنه- من طبيعة الأشياء- يستحيل أن أعمل بالاستقلال عنه". حقاً هذه العبارة هي أقوى تأكيد للاهوت الابن. والآب والابن يتحتم دائماً أن يعملا معاً كما تؤكد العبارة الأخيرة في (عدد19) "لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك". من أجل ذلك رضي الرب يسوع بما قاله عنه اليهود إنه "قال أيضاً إن الله أبوه". وليس فقط رضي بل زاد في تعميق هذا المعنى أكثر. ومن ثم فإن الآب والابن يعملان معاً في القوة المحيية (أي القوة التي تعطي حياة).
وفي يو6: 63 نجد أن الروح القدس يحيي أيضاً وعلى ذلك يمكننا أن نقول أن كل ملء اللاهوت- الآب والابن والروح القدس- يعمل في إحياء النفوس.
هناك شيء آخر جدير بالملاحظة. هذا الشيء نجده في (أف2: 5 وفي كو2: 13) وهذا هو نص المكتوب في هذين الموضعين "ونحن أموات بالخطايا أحياناً مع المسيح بالنعمة أنتم مخلصون" و "إذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا". إننا قد أحيينا مع المسيح وليس أقل من عملية الإحياء لمواجهة حالتنا التي كنا فيها وعلى ذلك فالإحياء هو ضرورة محتومة لكن لم تكن الضرورة إننا نحيا مع المسيح لولا أن هذه هي الثمرة التي قصدتها مشورات الله بالنعمة.
إن "الحياة مع المسيح" أي في اتحاد بالمسيح كانت هي القصد الإلهي من جهتنا. هذا القصد أبعد بكثير من مجرد الحاجة إلى الإنقاذ من البلاء الذي كنا فيه. إن حياة من أي نوع كانت تلزم لنا لكي نشعر شعوراً واعياً بالبركة، لكن "الحياة مع المسيح" أي حياة هي نفسها حياة المسيح- هي الحياة الأسمى والأرقى التي يمكن أن يعرفها الإنسان المفدى. من أجل ذلك نقرأ عن هذا الإحياء إنه ثمرة غنى رحمة الله وأنه حصل بسبب محبته الكثيرة التي أحبنا بها رحمة غنية ومحبة كثيرة هذه هي أوصاف رحمته ومحبته لنا. وعلى هذه الصورة أُعلنت الرحمة والمحبة.
لقد أُحيينا مع المسيح على قدر ما إن حياتنا التي أخذناها من صميم ترتيبه وقصده هي حياته هو، وحياته هي حياتنا. وإذا كان ذلك فمن الممكن إذن لنا أن نُقام وأن "نُجلّس معاً في السماويات فيه" لأنه إذ لنا حياة على نفس هذا المستوى فنحن مؤهلون لهذه المجالس الرفيعة. إن قصة إحيائنا- تلك القصة العجيبة إنما تنتهي بجلوسنا في السماويات بحياة من أحياناً.
والآن نأتي إلى بعض التساؤلات حول هذا الموضوع:
أولاً: نقرأ عن الإحياء في العهد القديم حيث يذكر المرنم في مزمور 119 هذا الموضوع أكثر من عشر مرات فهل نفرق أو نفاضل بين معنى الإحياء في العهد القديم وبين مفهومه في العهد الجديد؟
ج: أعتقد إننا ينبغي أن نفرق بين المفهومين لأن المرنم في (مز119: 50) يقول أن كلمة الله أحيته "لأن قولك أحياني" ثم نراه المرة بعد الأخرى يطلب أن يحيا: "أحيني حسب كلمتك".. "لأن قولك أحياني".. "أحيني حسب كلامك" "حسب أحكامك أحيني" "حسب رحمتك أحيني".
وكلمة الإحياء هناك مقصود بها معنى الإنهاض أو الإيقاظ أو استعادة نشاط الحياة. ونحن نعرف أن الإنسان في العهد القديم كان لم يزل تحت الاختبار والناموس أُعطي له ليمتحنه وكانت الحياة على الأرض هي الجزاء نتيجة الطاعة الكاملة للناموس لكن عندما جاء زمان النعمة بالإنجيل انتهت مدة اختبار الإنسان وأعلن صراحة إن الإنسان ميت بالذنوب والخطايا. لذلك في العهد الجديد فقط يظهر المعنى الشامل الكامل لحقيقة الإحياء.
ثانياً: يفتكر البعض إن الإحياء حق يُرجى الوصول إليه بمعنى أن الإنسان قد يولد من الله ويظل الإحياء هدفاً أمامه عليه أن يصل إليه في وقت متأخر كأنه ختام عمل الله فيه. فهل يقول الكتاب ذلك؟
ج: لا. الكتاب لا يُعلّم هكذا مفهوم. الإحياء هو إعطاؤنا حياة أي إلى أن يتم إحياؤنا فنحن قبل الإحياء أموات. والإحياء هو بداية عمل الله في الإنسان وليس خاتمة عمله فيه. ربما يكون صحيحاً إذا قلنا أن الحق المتعلق بمفهوم الإحياء في نطاقه الواسع أكبر من أن ندركه بسرعة. إننا دائماً نبدأ فهم الحق باعتباره غفران الخطايا والخلاص أما مسألة نوال الحياة وبصفة خاصة نوالها في المسيح أو بالحري الموت مع المسيح والقيامة معه فهذه حقائق تستقر فينا شيئاً فشيئاً كحلقات في تاريخنا الروحي وإذن لا ينبغي أن ننسب الشيء إلى الشيء نفسه بينما في الحقيقة يُنسب إلى إدراكه أو تفهمه. أما الشيء نفسه فهو ثمرة عمل إلهي وأما إدراكه فهو ثمرة تعليم إلهي.
ثالثاً: في (يوحنا5: 21) نقرأ أن الآب "يُقيم الأموات ويُحيي" فهل هو يقيمهم أولاً ثم يحييهم؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما الفرق بين إقامتهم وإحيائهم؟
ج: إذا رجعنا إلى (يو11: 25) نجد الرب يسوع يقول "أنا هو القيامة والحياة" فالقيامة شيء والحياة شيء آخر متميز، لكن من الصعب أن نفرق بينهما بالنسبة لنا نحن المؤمنين. لكن بالنسبة لغير المؤمنين الذين يموتون هما أمران منفصلان لأن غير المؤمنين سيُقامون ثم تدب الحركة في أجسادهم الميتة ولا يقال "تُحيا أجسادكم" لأن قيامتهم هي قيامة الدينونة وليست قيامة الحياة (ص5: 29). كذلك القيامة والإحياء أمران متميزان كما هو واضح في (كو2: 12و 13) المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه... وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه..." نحن قد أحيينا فعلاً لكن قيامة الأجساد في ملء كمالها لم تزل مستقبلة وعندما تأتي تلك اللحظة فإن أجسادنا يملأها دبيب الحياة أو تسري فيها الحياة.
(our bodies will be instinct with life)
تمشياً مع ما تم فعلاً بالنسبة لأرواحنا.
رابعاً: في (رو8: 11) نقرأ "الذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم". فهل هذا يحدث حالياً أو في المستقبل؟
ج: المقصود هنا سوف يتم في المستقبل. الله سوف يحيي أجسادنا المائتة. ونجد في العدد السابق (عدد10) إن الجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر ففي هذا العدد والعدد الذي يليه تأتي الإشارة إلى الروح القدس الساكن فينا. فالروح حياة لنا من الناحية العملية والاختبارية في الوقت الحاضر وسوف يُحيي أجسادنا المائتة (القابلة للموت) حالياً في الوقت الحاضر سواء تم هذا الإحياء في القيامة بالنسبة للقديسين الذين ماتوا أو بتغيير الأجساد الذي تكلم عنه الفصل الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى بالنسبة للقديسين الأحياء عند مجيء الرب يسوع.
خامساً: يقول البعض إن هذا الإحياء لأجسادنا المائتة مقصود به الشفاء من الأمراض وأن هذا الإحياء (الشفاء) يتحقق لنا في الزمان الحاضر إذا كان لنا ملء الروح القدس.
ج: أين نقرأ عن الشفاء أو عن الأمراض في هذه العبارات؟ والكتاب لا يقول "سيحيي أجسادكم المريضة" بل "أجسادكم الميتة". ففي الوقت الحاضر، أجسادنا عرضة للموت (قابلة للموت) ولكن عندما يتم إحياؤها لن يكون قابلة للموت أو خاضعة له. ولو أن جسد المؤمن تم إحياؤه الآن لأصبح غير خاضع للموت أي يصبح مخلداً وبالتالي لا يمرض بالأولى وإذن جوابنا هو جواب مزدوج فمن ناحية إن كان روح الله ساكناً فينا، وهو بالفعل ساكن في كل مؤمن. وهذا هو الشرط لعملية الإحياء ومن ناحية أخرى ليس في العبارة أية إشارة إلى الشفاء من المرض بل ينصب الكلام على إعطاء حياة من مصدر إلهي. وعندما يتم الإحياء فلن يكون الجسد بعد جسداً مائتاً. وواضح أن هذا (أقصد إحياء الجسد المائت) لم يحصل بعد لأي قديس عائش على الأرض. ولو كان جسد بولس المائت قد أُحيي لما أُلقي أرضاً بسيف السياف ولكان لم يزل حياً يسعى بيننا.
سادساً: نحن على حق عندما نقول إن الرب يسوع كآدم الأخير يُحيي حسب ما جاء في (1كو15: 45) "صار آدم الأخير روحاً محيياً" فهل نحن على حق إن ربطنا هذا الحق بالوقت الحاضر؟
ج: طبعاً بكل تأكيد. إن آدم الأخير في هذه الآية يقوم بالمباينة مع آدم الإنسان الأول وذلك ليس فقط في كونه "روحاً" بالمباينة مع "النفس" بل أيضاً في أنه ليس فقط "حي" بل "روح محي" والعدد 36 في هذا الإصحاح يقول "الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت". في هذا القول نجد أن الإحياء ينطبق على ما يموت. والآن نحن كنا أمواتاً روحياً وقد تم فينا إحياء روحي فعلاً من آدم الأخير وهو كرأس جنس جديد أعطانا حياة هي حياته- أعطانا لنا نحن جنسه الجديد. لكن بقية الإصحاح يتناول حالة أجسادنا التي لا تزال مائتة فنحن لابد أن نلبس صورة آدم السماوي فيما يتعلق بأجسادنا وهذا التغيير العظيم سوف يحصل لنا عند مجيء الرب. حينئذ هذا المائت سيلبس عدم فساد وهذا هو إحياء أجسادنا المائتة الذي يتكلم عنه (رو8: 11) حين يقول "إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم". عندما يتم ذلك والموت "يُبتلع إلى غلبة" (1كو15: 54) يكون عمل الإحياء بالنسبة لنا قد بلغ آخر مراحله وحينئذ تتم الكلمة القائلة بأننا "نملك في الحياة بالواحد يسوع المسيح" (رو5: 17). ليس فقط إننا نكون في الحياة بل نملك فيها- ونملك إلى أبد الآبدين
استعرضنا فيما سبق كثرة من النتائج الرهيبة للخطية، لكن بقي أثر آخر لها ننبر عليه هنا. فإن الخطية أوصلت الإنسان إلى حالة من القصور (العجز الكامل). فليس فقط وصلنا إلى حالة العبودية للخطية كما رأينا ونحن نتأمل موضوع الفداء، بل صرنا بلا قدرة تماماً على تمجيد الله أو إرضائه أو خدمته. وإنما الشيء الحتمي هو أن المخلوق ينبغي في حدود طاقاته أن يتعبَّد تعبُّداً كاملاً لخالقه.
يلزمنا إذن القدرة التي تُخلصنا من هذا الشلل الداخلي فينا، الذي أنتجته الخطية، والقدرة التي تساعدنا وتُمكننا من شق طريقنا صحيحاً، وسط ظروفنا التي تُحيط بنا من الخارج، كأناس يخدمون مشيئة الله. هذه القدرة (القوة) جاهزة لتُعطى لنا، والشيء العجيب هو أنها يجب أن تكون بواسطة سكنى روح الله القدوس. ربما نظن أن شيئاً أقل بكثير من هذا يكفينا، لكن شيئاً أقل من هذا لم يُعط لنا من الله. فالمسيح المقام (من الأموات) وهو مزمع أن يصعد إلى الأعالي قال لتلاميذه... "ستنالون قوة مني بحلول الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع8).
وقد تحقق هذا الوعد بعد عشرة أيام، في يوم الخمسين كما يسجل ذلك الإصحاح الثاني من سفر الأعمال.
في سفر حزقيال (ص36، 37) كما قد رأينا، توجد نبوات عن عملية الولادة الجديدة وعملية الإحياء، اللتين ستجريان في البقية الإسرائيلية في يوم عتيد. واللتين ستعدّان البقية للبركة الألفية. وفي هذين الإصحاحين يوجد أيضاً ذكر لعطية الروح القدس. يقول الرب... "وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (36: 27) و "أجعل روحي فيكم فتحيون" (37: 14). ونتيجة لهذا سوف تكون لإسرائيل حياة روحية وهذه الحياة تُعبِّر عن نفسها بالطاعة الفعلية لإرادة الله. إنهم سيفعلون كما يقودهم الله وهناك نبوات أخرى في العهد القديم مماثلة منها القسم الأخير من نبوة يوئيل الإصحاح الثاني التي اقتبسها بطرس في خطابه يوم الخمسين إذ قال إن هذا الذي حصل في وسطهم كان عينة مما تنبأ به يوئيل. ولسوف نرى أن عطية الروح القدس في يوم الخمسين تتضمن ملئاً ودواماً لم يُعرفا في أزمنة العهد القديم.
إن الولادة الجديدة تكون بواسطة الروح القدس وكنتيجة، كما يوضح يوحنا في إنجيله (ص3: 6) تكون لنا طبيعة جديدة التي هي "روح" في صفتها الجوهرية وكل ما ينتج من الروح القدس يشترك في طبيعته. وهذا بالطبع ينبغي أن يتميز عن الروح القدس نفسه الساكن في الناس المولودين ثانية، الأمر الذي حدث في يوم الخمسين ومن اللازم أن نلاحظ أن القوة ترتبط ليس بالطبيعة الجديدة التي يُنشئها الروح القدس بل بالروح القدس نفسه كأقنوم ساكن بالفعل في جسد المؤمن. هذا واضح جداً من عبارة (رو7: 8إلى 8: 4) "لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته... لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمت أنا... لأن الخطية وهي مُتخذة فرصة بالوصية خدعتني وقتلتني... إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية... ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت... الخ".
في هذا الإصحاح (رو7) نجد اختبار شخص مولود ثانية لأن عنده فعلاً "الإنسان الباطن" (الطبيعة الجديدة) الذي يُسر بناموس الله (عدد22) وبالتبعية يعرف ويُقدِّر ما هو صالح ويجتهد أن يفعله، لكنه لا يستطيع ذلك، ويستمر هذا حاله إلى أن يَصل إلى "المُنقذ" في المسيح يسوع ربنا (العدد25) ونستمر نقرأ عن "ناموس روح الحياة" أي "قاعدة عمل" روح الله لكي نجد فيه القوة للغلبة على ناموس الخطية والموت "لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (ص8: 4) فالقوة المُنقذة هي في المسيح وفي روحه الذي أعطي لنا. هذه العبارة الواردة في رومية8 "لكي يتم حكم الناموس[1]فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح "تُرينا القوة المُخَلِّصة لنا من ذلك الشلل (العجز) الذي يدفعنا ويغرينا لعمل الخطية. هذا بالطبع أول ما يلزمنا إذا كنا نهتم بقوة الشهادة لربنا المقام من الأموات الأمر الذي نلاحظه في سفر الأعمال (ص1: 8) وفي إنجيل لوقا (ص24: 49) "ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً.." وأيضاً "ها أنا أرسل لكم موعد أبي. فأقيموا في أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي".
إنه مما يُحسب ضرباً من الاعتدال والتعقل عندنا أنه حتى كمؤمنين، لا نظن في أنفسنا أننا نملك أية قوة، فإن كل القوة هي للروح القدس الذي فينا الذي أُعطي لنا.
والأحد عشر رجلاً الذين تكلم إليهم الرب كانوا رسلاً وعليهم (على تعليمهم) قد بُنيت الكنيسة. وكان للروح القدس عمل عظيم فيهم وقد ظلوا مدة ثلاث سنوات أو أكثر يتلقنون ويتعلمون تعليماً خصوصياً لم يتعلّمه أحد قبلهم، ولكن لا شيء من هذه التعليمات والدروس استطاعت أن تزوِّدهم بالقوة اللازمة، مهما كانت رغائبهم، لكي يبدأوا عملهم العظيم- عمل الشهادة، بل لبثوا ساكتين مُنتظرين حتى حل فيهم الروح القدس. وقبل حلوله لم ينطق واحد منهم بكلمة فيها شهادة، ولكن لما حل فيهم الروح القدس، في الحال انفتحت أفواههم ونطقوا بعظائم الله، وكانت النتائج مدهشة.
ولا نغفل عن هذه الحقيقة وهي أن التلاميذ في يوم الخمسين لم يقبلوا فقط الروح القدس ليسكن فيهم بل قد امتلأوا جميعهم بالروح القدس (أع2: 4) والمؤمن إذا امتلأ بالروح القدس لا تكون هناك قوة داخلية تعوق قوة الروح القدس. وهذا الامتلاء بالروح القدس ليس ثابتاً على الدوام مثل سكنى الروح القدس في المؤمن. الامتلاء مُتغير أما السكنى فدائمة، لأن بطرس امتلأ بالروح القدس مرة أخرى في (أع 4: 8) "حينئذ امتلأ من الروح القدس". ثم مرة أخرى في نفس الإصحاح امتلأ مع الباقين: "وامتلأ الجميع من الروح القدس" (عدد31). هكذا إذا ملأ الروح القدس مؤمناً، يُحكم على الجسد فيه ويُخمد. وقوة الروح القدس في المؤمن لا تُقاوم. واستفانوس يصور لنا ذلك، لأنه وهو ممتلئ من الروح القدس كان "مملوءاً من الإيمان والروح القدس" والمقاومون "لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي يتكلم به" (أع6: 8و 10) فلجأوا إلى العنف فأخذوه ورجموه حتى الموت وبذلك نقضوا هيكلاً للروح القدس هو جسد استفانوس.
ورغم أن التاريخ المُسجل في سفر الأعمال يرينا أنه من الناحية العملية كان الامتلاء بالروح القدس متعلقاً بظروف الشهادة حتى مع الرسل، لكننا لا ننسى أن جميع المؤمنين يُحرِّضهم الرب أن يمتلئوا من الروح القدس (أف5: 18) "ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح". وقد نستغرب أن يُورَد الامتلاء بالروح بالمفارقة مع "السكر بالخمر الذي فيه الخلاعة"، والحقيقة أن الخمر إذا تعاطاها إنسان حتى "سكر بها" فإنها تسيطر عليه وتحمله خارج نفسه. وهذا كله "من أسفل" وشر. أما الروح القدس فيستطيع أن يضبط ويسيطر على المؤمن ويحمله خارج نفسه في اتجاه آخر- نحو الصالح والإلهي. فهنا المفارقة بين الأصلح جداً والأردأ جداً فإذا امتلأ مؤمن بالروح القدس فكل ما هو ليس المسيح أو من المسيح، ينبغي أن يُستبعد.
والآن، في كل ما هو غير المسيح- في كل شيء آخر يملأ أفكارنا وأوقاتنا وطاقاتنا، تكمن المعوقات التي تقف في طريق عمل القوة الإلهية. سواء كانت هذه المعوقات شراً إيجابياً أو كانت من الأمور الكثيرة التافهة وغير النافعة. "ولا تُحزنوا روح الله القدوس" (أف4: 30). فإذا نحن أحزناه، فإننا لا نفقد سكناه لأن الكلمة تستمر قائلة "الذي به خُتمتم ليوم الفداء". لكننا نفقد الشيء الكثير من فوائد حضوره، أعني الفرح الروحي والقوة الروحية إلى أن يُرفع أو يُترك ذلك الشيء المحزن. وبعض من الأمور التي تُحزن نجدها مذكورة في الأعداد السابقة واللاحقة لهذا العدد. وكم من مرة أُحزن روح الله بكلام الكذب وبالغضب وبالكلمة الرديئة وبالمرارة والسخط والصياح والتجديف وبالخبث؟ وكل هذا من القديسين. والعجيب أن قوة الله كانت تحتمل كل هذه.
في (1تي1: 16) يُخبرنا الرسول بولس أنه دُعي وخَلُص لكي يكون مثالاً، "لكنني لهذا رُحمت ليُظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية"، وهكذا في حياته- في خدمته وشهادته، نستطيع أن نرى كيف كانت تعمل قوة الروح القدس. وفي (رو15: 19) نرى مدى خدمته الغير عادية "بقوة آيات وعجائب بقوة روح الله. حتى إني من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملتُ التبشير بإنجيل المسيح" ففي مدة 25 سنة بشر جميع الشعوب التي تقطن بلاداً مساحتها تبلغ مئات الآلاف من الأميال المربعة سائراً على قدميه وأحياناً بمساعدة قارب في البحر أو دابة في البر. وحقاً إنه عمل معجزي يستحق الإعجاب، لا ينجزه إلا من أنهضه روح الله القدوس.
وفي (1كو2: 1- 5) نرى البساطة التي كان يكرز بها..."وأنا لما أتيت إليكم أيها الإخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة مُنادياُ لكم بشهادة الله. لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً. وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة. وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله". وكل زُخرف في القول قد استُبعد تماماً لكي تبقى الحقيقة الجوهرية- حقيقة صليب المسيح- لامعة واضحة. إن خدمته تميزت "ببرهان الروح والقوة". حتى أنه من جهة أولئك الذين قبلوا كرازته، قد ثبت إيمانهم ليس على حكمة إنسانية بل على قوة الله.
وفي (2كو3: 1- 6) و (2كو4: 1- 7) نرى القوة التي نُعطى حياة في خدمة بولس. والذين خلصوا بكرازته كانوا رسالة المسيح المكتوبة لا بحبر بل روح الله الحي وهو القائل "أن الروح يُحيي" وفي هذين الفصلين نجد كلا الحياة والنور لأنه يقول "إنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" وهذه تضيء من خلال "آنية خزفية" لكي يكون فضل القوة لله لا مِنا.
وفي (2كو10: 1- 6) نرى قوة الأسلحة الروحية في حروب الإنجيل. إن القوى الشيطانية قد خندقت نفسها في أذهان الناس وملكت على تفكيرهم ومنطقهم. وهذه تنهدم وتنهزم فقط بهذه الأسلحة الروحية كما يستخدمها روح الله القدوس.
وفي (1تس1و 2) نجد صورة جميلة للثمار الروحية النامية في صفات وحياة المؤمنين عندما يُقدم لهم الإنجيل ليس بالكلام فقط بل بقوة الله وبالروح القدس وفي يقين شديد لقد صار المؤمنون التسالونيكيون قدوة لجميع الذين يؤمنون، وبهم قد أُذيعت كلمة الرب التي خَلَّصتهم وجعلتهم يعبدون الله الحي الحقيقي وينتظرون ابنه من السماء.
وفي (2تي1) يُرينا الروح القدس بوصفه روح القوة والمحبة والنصح، لكي يقدر المؤمن أن يشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل بحسب قوة الله، وأن يحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس. فإن الروح القدس هو قوة الاحتمال وقوة العيشة بالأمانة، إننا نستطيع أن نقول إن عطية الروح القدس من جانب الله، كما وعطية ابنه يسوع المسيح- نستطيع أن نقول- إنهما العطايا التي لا يُعبَّر عنها (2كو9- 15).
والآن، من خلال كل ما تعلَّمناه، تُطل علينا عدة أسئلة:
س: إذا كان الله بقوة الروح القدس صنع آيات وعجائب، والله ليس عنده تغيير فلماذا لا نلاحظ هذه القوة بآياتها وعجائبها في يومنا الحاضر؟
ج: إن الله غير مُتغير فعلاً وهذا الأمر لا شك فيه. لكن هذا لا يعني أنه لا يقدر أن يُغير من أساليب معاملاته بما يتفق مع حكمته في معالجة أمور تنشأ من ظروف متغيرة ومختلفة بين المؤمنين. لقد فعل ذلك في عهود سابقة. ولا نظن أن الله يستخدم أسلوباً واحداً في ظروف متغيرة مع شعبه. فمثلاً قبل إعطاء الناموس تداخل الله بأسلوب خاص في ظروف شعبه لإخراجهم من مصر وإدخالهم أرض كنعان، وذلك في أيام موسى. ثم بأسلوب آخر لإرجاع شعبه من تحت ناموس مكسور في أيام إيليا وأليشع مُظهراً رحمته وصلاحه. وثالثاً عمل بأسلوب في أيام الرسل لتأسيس الكنيسة.
وكل مظاهر القوة المعجزية التي ذكرها الكتاب حصلت في هذه العهود الثلاثة. وعن يوحنا المعمدان نقرأ أنه "لم يفعل آية واحدة" (يو10: 40) فإن قرعة يوحنا وقعت في أيام المسيح قبل عهد معجزات تأسيس المسيحية.
س: أيضاً كانت كرازة بولس برهاناً على عمل الروح القدس والقوة. فهل نستطيع أن نقول هذا عن الكرازة في الأيام الحاضرة؟
ج: نعم نستطيع، ولكن بدرجة صغيرة جداً. والحقيقة إن كرازة هذه الأيام تُدمغها أشياء كثيرة مما تجنبها بولس في كرازته، لكي تكون كرازته بقوة الروح القدس يقول بولس قد "رفضنا خفايا الخزي غير سالكين في مكر ولا غاشين كلمة الله" (2كو4: 2) بل أيضاً تُستعمل فيها أمور براقة يمدحها الناس مثل قوة اللغة والحكمة الإنسانية وبريق الذكاء الإنساني.
س: أيضاً حتى مع الأمانة في الكرازة وعدم اللجوء إلى هذه الأمور الجسدية، لسنا نجد القوة المُقنعة والمؤثرة فكيف نفسر هذا؟
ج: إننا نقرأ في موضعين من الكتاب ما يساعدنا على تفسير هذا الأمر: يقول الوحي في (أف4: 30) "ولا تُحزنوا روح الله القدوس" وفي (1تس5: 19) "لا تُطفئوا الروح" وكثيراً ما يُحزن الروح القدس في خادم الرب ومن ثم يقل ثمر خدمته. وحتى إذا لم يكن هذا حال الخادم فإن الروح القدس أحياناً يحزن بسبب الحالة العامة السائدة في المسيحية بصفة عامة. وأيضاً كثيراً ما يُطفأ الروح بسبب إدخال عناصر تنظيمية بشرية تحجب عمل الروح القدس بحرية، ثم بعد كل ذلك هناك ميول عدم الإيمان وأيضاً عدم الأمانة وسط العُباد وبين الخدام وعدم تمسكهم بما يجب أن يتمسكوا به من مبادئ الله. فمن وسط المؤمنين ومن داخل الكنيسة يظهر ما يُحزن وما يُطفئ روح الله ويُفسد شهادة المؤمنين. لكن مما يُخجلنا أن يظل الرب يعمل ويُخلص نفوساً ويباركها بطرق خفية غير ملحوظة.
س: أيضاً رغم أن القوة للخدمة، وإن كانت هامة جداً لكنها ليست هي كل شيء، لكن ما نسأل عنه هو كيف نعرف قوة الروح القدس للنصرة في حياتنا؟
ج: "بالسلوك في الروح" (غلاطية5: 16) أو بالروح في (أف1: 13) نقرأ أننا نأخذ الروح القدس عندما نؤمن "بإنجيل خلاصنا". والروح يفرزنا أو يخصصنا لله كشعب خاص، لكن أيضاً لكي نسلك بالروح. وبمعنى عملي يكون الروح منبع وقوة حياتنا ونشاطاتها. إن السلوك بمعنى السير هو أول مظهر مبكر للنشاط بين البشر وبمعنى رمزي هو المُعبر عن الحركة والتصرف. وكل فكر أو قول أو عمل ينبغي أن يكون تحت إشراف الروح القدس. وبذلك لا نكمل شهوات الجسد. إن الروح القدس يُنشئ قوة غالبة ضد ميول الجسد الأرضية. هذا ما نختبره إذا نحن سلكنا بالروح.
س: يقول البعض منا إنه وإن كنا نرغب في "السلوك بالروح" لكننا بالكاد نعرف كيف نبدأ هذا. فكيف يبدأ الروح القدس عمله بصورة عملية؟
ج: نجد الجواب على هذا التساؤل في (غلا 6: 7- 9) لا تضلوا. الله لا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكِلُّ. وحياة المؤمن، بصفة عملية هي زرع وحصاد، كمن يخرج كل يوم صباحاً وبيده مبذر الزرع. وقد نَمِدُ يداً إلى مبذر الجسد ونزرع لجسدنا أو إلى مبذر الروح ونزرع للروح. تلك تُزيد من غلات الجسد وهذه تُزيد من غلات الروح. هذه الغلات لا يصنعها لنا الله بل هي من صنعنا نحن. وطول النهار نحن نزرع من هذا المِبذر أو ذاك. والسر في النهاية في رفض بذور الجسد أو زرع بذور الروح. وهذه هي الطريقة التي بها نعرف كيف يعمل الروح القدس عمله.
س: أخيراً هناك مؤمنون ليس في حياتهم شيء من السلوك الأدبي الظاهر المعوج لكنهم ليسوا مشهورين بقوة أو حرية عمل الروح القدس، فكيف نفسر ذلك...؟
ج: إن هؤلاء يُحتمل أن تَغلُب عليهم صفة عدم التركيز أو عدم الاهتمام بأمور الله. أي تغلب عليهم صفة التكاسل وبكل سهولة يهتمون بأمور أرضية تافهة. في هذه الحالة تكون مشغولية الروح القدس أنه يأخذ مما للمسيح ويخبرهم. وقد يحزن فيهم لعدم الانتباه والتراخي وعدم الحماس. لأن الروح القدس حساس جداً من جهة الأمور التي تمس مجد المسيح. والسهو من جانبنا يُحزنه كما يُحزنه تماماً الخطأ العمدي والعلني.
وليت الرب ينهضنا لكي نسأله حتى يرينا كم فينا من الفقر الروحي ومن الضعف وما نعانيه في هذا الخصوص.
[1] -"يتم حكم الناموس" بمعنى أنه بالروح القدس تتحقق تلك الأمور التي بالبر يطلبها الناموس منا (8: 4).