Copyright © 2008 All rights reserved Good Way
اخترنا أن نصدر هذه الطبعة الثانية من كتاب «هل المسيح هو الله؟!» تلبية لطلب الكثيرين، وإيماناً منا بقيمة هذا الكتاب وأهميته، والجهد الضخم الذي بذله المؤلف في كتابته، وحاجة الجيل الجديد من المسيحيين إليه.
وكتاب «هل المسيح هو الله؟!» يتميز بأنه دراسة تحليلية لأخطر قضية من قضايا المسيحية «قضية لاهوت المسيح»، وفيه يخاطب المؤلف القلب والعقل معاً، ويقدم إجابة واضحة مدعمة بمواقع الآيات في الكتاب المقدس عن السؤال الخالد الذي ستردده الأجيال جيلاً بعد جيل «هل المسيح هو الله؟!».
ومؤلف هذا الكتاب «القس لبيب ميخائيل» رئيس المجمع المعمداني الكتابي العام بجمهورية مصر العربية، هو كاتب ألمعي وخطيب قدير، حباه الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة، وقد درس اللاهوت والصحافة، ومؤلفاته التي بلغت الأربعين تتجه دائماً إلى ناحية بحث القضايا الهامة والعويصة في المسيحية وفي الحياة.
ومن أشهر مؤلفاته التي لاقت رواجاً كبيراً كتاب «مشكلة الألم» وقد طُبع هذا الكتاب مرتين، واستقبلته الصحف اليومية المصرية وعلى رأسها صحيفة «الأهرام» عند ظهور طبعته الأولى سنة 1949 استقبالاً حاراً وكتبت عنه الكثير.
وإلى جوار «مشكلة الألم» كتب المؤلف كتبه العديدة التي سدت فراغاً كبيراً في المكتبة المسيحية، منها: «قضية الصليب» و «صوت الاختبار» و «المجيء الثاني للمسيح والاحداث العالمية القادمة» و «المسيحية والسعادة النفسية» و «الكتاب المقدس والإنسان المعاصر» و «يقين الخلاص» و «طريقك إلى السلام» وغيرها من الكتابات والمؤلفات.
وقد اشتغل «القس لبيب ميخائيل» أستاذا لعلم الوعظ، وعلم الرعاية، وتاريخ الكنيسة، بمعهد اللاهوت الخاص بالقاهرة لمدة ثلاث سنوات.
وقام بالوعظ في اجتماعات كثيرة في أنحاء جمهورية مصر استمع إليه فيها المئات والألوف، واستخدمه الرب بقوة فتجدد بواسطة خدمته المباركة الكثيرين، منهم من يعملون الآن في خدمة الإنجيل.
وقد سافر القس لبيب ميخائيل إلى عدة دول أوروبية وعربية وقام بالوعظ في الكثير من اجتماعاتها، فوعظ في بعض كنائس انجلترا، والعراق، ولبنان، كما زار سوريا، والأردن، وألمانيا، وإيطاليا، وقبرص، ورودس، وقد أعطته رحلاته نظرة شاملة للحياة ولمشاكل الناس، وأكسبت كتبه ومقالاته حيوية وواقعية.
ومع المؤلفات الكثيرة والكتابات التي ظهرت للقس لبيب ميخائيل في كثير من الصحف والمجلات، فإنه يصدر مجلة «الأخبار السارة» منذ أكثر من عشرين سنة، وهو صاحبها ورئيس تحريرها وهي تلاقي إقبالاً ورواجاً، ولها في أنحاء العالم العديد من المشتركين، وتعتبر مشعلاً مضيئاً بالحق والنور في العالم المسيحي المتكلم بالعربية.
ولما نفدت نسخ الطبعة الأولى من كتاب «هل المسيح هو الله؟!» ونظراً للإلحاح المتزايد في طلب إعداة طبعه، رأينا أن نقدمه في هذه الطبعة الثانية لقرائنا، وكلنا أمل في أن تسد حاجة القراء، ونقدمه كذلك وكلنا ثقة ويقين في إلهنا المبارك أنه سيجعله بنعمته وعمل روحه سبب إنارة وبركة للكثيرين.
القاهرة في 15 أكتوبر 1972
الناشر
مكتبة النيل المسيحية
هذا كتاب عن المسيح..
وما أكثر ما كُتب عن المسيح وما سوف يُكتب عنه حتى يجيء.
وأعترف أنني لم أكتب كلمة واحدة من هذا الكتاب، إلا بعد أن قرأت الكثير من الكتب المنتشرة في المكتبات الإنجليزية والعربية والتي تتحدث عن المسيح.
قرأت ما كتبه عنه الذين حاربوه، ووقفوا منه موقف العداء.
وقرأت ما كتبه عنه الذين أحبوه، وشهدوا من واقع اختبارهم بأن المسيح حقيقة حية، وبأنه ما زال يغير الذين يقبلونه ويؤمنون به.
وقرأت كذلك حجج الذين أرادوا أن يتجاهلوه، فادعوا أن يسوع المسيح أسطورة، وأنه لم يظهر قط في دنيا الواقع على مسرح التاريخ.
وأعجبي ما كتبه جبران خليل جبران الشاعر اللبناني في كتابه «يسوع ابن الإنسان» ووضعه على لسان مريم المجدلية حين أنطقها بالحديث عن المسيح في هذه العبارات: «لقد كنت امرأة طلقت نفسها... كنت ملكاً مشاعاً لجميع الرجال، وفي ذات الوقت لم يمتلكني رجل... وأطلقوا عليّ اسم «الزانية» و «المرأة المسكونة بسبعة شياطين»...ولكن عندما التقت عينا يسوع المسيح في فجر نورهما بعيني تلاشت كل نجوم ليلي، وصرت «مريم» و «مريم» فقط، المرأة التي تدهورت إلى الحضيض، ثم عادت في نور عيني المسيح لترى نفسها من جديد» .
«لقد نظر إليّ المسيح وقال: الرجال الآخرون يحبون ذواتهم في القرب منك، ولكنني أحبك لذاتك... الرجال الآخرون يرون فيك جمالاً سوف يذبل بأسرع مما يذبل شبابهم، ولكنني أرى فيك الجمال الذي لا يذبل، ولا يخجل من أن ينظر إلى نفسه في المرآة.. إنني أحب فيك روحك التي لا يراها الآخرون.. وعرفت في ذلك اليوم أن نظرات عينيه الطاهرتين قد ذبحت الحية الرقطاء الساكنة في قلبي، وصرت من لحظة ذلك اللقاء امرأة جديدة.. صرت مريم المجدلية».
وأعجبني ما كتبه عنه عباس محمود العقاد في كتابه «الله» إذ قال: «لم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولاً رفع الضمير الإنساني كما رفعه، ورد إليه العقيدة كما ردها إليه. فقد جعله كفؤاً للعالم بأسره بل يزيد عليه، لأن من ربح العالم وفقد ضميره فهو مغبون في هذه الصفقة الخاسرة «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟... والطهر كل الطهر في نقاء الضمير، فمناط الخير كله فيه، ومرجع اليقين كله إليه «فليس شيء من خارج الإنسان يدنسه. بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يدنس الإنسان».
وأعجبني كذلك ما كتبه في كتابه «حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث» إذ قال «كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلموه كلما غرقوا في لجة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المتحجرة، تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال... وهذه رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء، لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء».
وهزني ما قاله نابليون لطبيبه وهو في منفاه ونقله أحد خدام الإنجيل بالكلمات: لقد أسس الاسكندر وقيصر وشرلمان وأنا أمبراطوريات عظمى ولكن بمحض القوة العسكرية. أما يسوع المسيح فهو وحده الذي أسس دولة من طراز جديد على المحبة الخالصة.. وإلى يومنا هذا نجد الملايين مستعدين لأن يجودوا بحياتهم جود السماح من أجله.. لقد خبرت البشر وعرفتهم وأشهد أن كلا منا إنسان، لكن يسوع المسيح أعظم من إنسان.. كان في مقدوري وأنا في أبان سطوتي أن ألهب نار الحماسة في قلوب الكثيرين ليضحوا بحياتهم في سبيلي، وذلك بقوة شخصيتي وتأثير كلامي وأنا أتقدم صفوفهم... أما يسوع المسيح فقد استطاع بعد مبارحته الأرض بألف وثمانمائة عام أن يطالب الملايين بأن يقدموا له قلوبهم بغير قيد ولا شرط ففاز منهم بكل ما طلب. ولم تقو يد الزمن الجامدة على أن تطفئ جذوة النار المتقدة في قلوبهم بعد أن باعدت الأجيال الطويلة بينه وبينهم. هذا هو لغز الناصري الذي يحيرني، وسوف أظل حائراً حتى أسلم بأنه شخص إلهي بل هو «الله بالذات».
كل هذا الكلام أعجبني وأثار تفكيري، ومعه قرأت الكلام المسموم الذي يحاول كاتبوه عبثاً تشويه شخصية المسيح الكريم.
ولهذا قررت بعد أن سكبت قلبي أمام الله، وانفردت بكتابي المقدس وبالكتب الأخرى لوقت طويل، أن أكتب هذا الكتاب لأجيب على صفحاته عن السؤال الذي طالما تردد عبر السنين: هل كان المسيح حقاً هو «الله»؟ وقد قصدت بهذا الكتاب أن أساعد الإنسان المعاصر لمعرفة المسيح بأسلوب العصر، فخاطبت عقله وقلبه معاً، وحاولت أن أوقفه مواجهة مع ذلك الشخص المجيد المبارك الفريد.
ويتميز هذا الكتاب أنه جمع بين دفتيه تفسيراً واضحاً للآيات التي تبدو مناقضة في ظاهر كلماتها للإيمان بأن المسيح هو الله... وأنه تحاشى في ذات الوقت التعقيد السفسطي الذي يصعب فهمه على الإنسان العادي، وأنه أعطى جواباً كافياً لصاحب العقل العلمي.
وإنني أضع هذا الكتاب بين يدي الرب، أضعه بكل خشوع وتهيب، مؤكداً لقارئي الكريم أنه إن وجد في الكتاب ما يفيد فالفضل يرجع إولاً وأخيراً لربي، وأنه إن اكتشف فيه أي قصور أو تقصير فإن هذا يرجع إلى ضغفي وإنسانيتي.
وكل رجائي أن أكون قد تمكنت بنعمة إلهي من أن أقود النفوس المخلصة الباحثة عن الحق بخصوص المسيح، أن تتأكد حقيقة شخصيته وتتيقن لاهوته ومحبته.
«مصر الجديدة»
19 نوفمبر 1968
القس لبيب ميخائيل
يجد الباحث في المسيحية عدداً من القضايا الخطيرة وأخطر قضية في المسيحية هي «قضية لاهوت المسيح» ، ونعنى بقولنا «لاهوت المسيح» إيماننا بأن المسيح الذي وُلد من مريم العذارء في بيت لحم اليهودية، وعاش على أرض فلسطين وصُلب فوق موضع الجمجمة الذي يُسمى بالعبرانية جلجثة هو «الله الابن» وهو «ابن الله».
فإذا كان المسيح هو «الله الابن» حقاً، وهو «ابن الله» الذي تجسد في ملء الزمان في صورة إنسان، إذاً فالمسيحية ديانة إلهية صحيحة في مفاهيمها ومبادئها وادعاءاتها وقضاياها، أما إذا كان المسيح مجرد إنسان، أو نبي كسائر الأنبياء، فهذا يعني أن المسيحية ديانة منهارة من أساسها، وبالتالي أنها غير ذات موضوع.
فمع أن المسيحية تختلف عن غيرها من الديانات، بمبادئها، ومثلها، وتعاليمها، وروح الحب والتسامح الذي يتمثل فيها، إلى أنها تنفرد بقولها بأن المسيح مؤسسها هو الإعلان الكامل والكافي للسؤال القديم: من هو الله؟ وما هي سجاياه؟ فالمسيحية تؤكد في وضوح لا غموض فيه أن «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2 كو 5: 19).
ويقيناً أننا إذا قلبنا صفحات التاريخ، وأوقفنا أمامنا جميع عمالقة العالم العظام، فإننا لن نجد شخصاً أثار اهتمام الناس، وأزعج ضمائرهم، وألهب تفكيرهم، وهز عقولهم هزاً عنيفاً كشخص المسيح الكريم.
ومنذ فجر المسيحية انقسم البشر في موقفهم تجاه المسيح إلى ثلاثة أفرقة. فريق الذين أحبوه، وفريق الذين حاربوه، وفريق الذين تجاهلوه.
أما الذين أحبوه فهؤلاء هم الذين اقتربوا إليه، ووثقوا تماماً أن آثامهم قد وضعت عليه، فقبلوه مخلصاً شخصياً لهم، فسرت في حياتهم قوته التي غيرتهم، فأفرغوا عند قدميه أحلى ترنيماتهم، وأعذب موسيقاهم، وأجمل أفكارهم فأناروا العالم بالنور الذي استمدوه من شخصه المبارك الكريم.
وأما الذين حاربوه، فلم يستطيعوا أن يواجهوا نوره، فداروا حوله، وافتروا عليه بشتى الأقاويل.
قالوا عنه: إنه ليس ابناً شرعياً لأمه مريم، وأنها قد حملت به سفاحاً من جندي من الجنود الألمان الذين كانوا يحتلون الناصرة إبان حكم الرومان.
وقالوا عنه: إنه في سني اختفائه، وهي السنين التي لم يشأ الوحي أن يكشف له الستار عنها ذهب إلى الهند، وتعلم حكمة الهنود، وأتقن قدرات مهنتهم ومشعوذيهم، ثم عاد إلى فلسطين ليمارس بين بني وطنه ما تعلمه منهم، وصنع معجزاته بقوة هذا السحر الهندي القديم.
وقالوا عنه: إنه مجرد إنسان عبقري عظيم سبق عصره بمثله وتفكيره، وجاء إلى هذا العالم الفسيح كما جاء سائر العباقرة الأفذاذ مثله كمثل سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وكونفوشيوس، على السواء.
وقالوا عنه: إنه تميز بشخصية مغناطسية جبارة، هي سر تأثيره القوي على الذين اتصلوا به، وتحدثوا إليه.
وقالوا عنه: إنه كان يشفي المرضى الذين أتوا إليه بقوة الإيحاء مستخدماً نظرات عينيه، والتأثير السحري لكلماته.
وقالوا عنه: إنه لم يكن إنساناً حقيقياً، وأن جسده البشري لم يكن مثل أجسادنا بل كان مجرد ظهور. والقائلون بهذا الرأي جماعة ظهرت في فجر التاريخ باسم «جماعة دوكيون». (وكلمة «دوكيون» من كملة «دوكي» اليونانية ومعناها «يظهر أو ظهور»). ومثل هذا الاعتقاد ينفي عن المسيح تحمله لآلام الصلب، ويجعل منه مجرد شبح وهمي ظهر على الأرض ثم عاد إلى السماء.
وقالوا عنه: إنه أكثر من إنسان وأقل من إله، وهذا هو قول «آريوس» الذي أنكر في القرون الأولى للمسيحية لاهوت المسيح وأشاع ضلالته الكبرى قائلاً: إن المسيح هو أول شخص خلقه الله.
وقالوا عنه: إنه نبي عظيم، ورسول كريم، جاء في الناس مبشراً ونذيراً ولكنه لم يوجد قط قبل ميلاده، وأن مثله كمثل آدم خلقه الله وقال له كن فكان، وأنه ورث الخطية من امه العذراء.
وأما الذين تجاهلوه فقالوا عنه: «إن العلم قرر منذ عهد طويل أن يسوع المسيح لم يوجد على الإطلاق، وأن الصورة التي رُسمت لمؤسس المسيحية المزعوم ليست سوى أسطورة خرافية، وانعدام شخصية المسيح التاريخية تؤكده حقيقة أولية، وهي أن المؤرخين والكتاب الذين عاشوا في الوقت الذي قيل إن المسيح قد عاش فيه ودعا لشريعته، لم يذكروا أي شيء عنه بالمرة. إن يسوع المسيح لم يكن له وجود إطلاقاً وأنه ليس سوى شخصية خرافية، وأن ما كتبه الرسل في الأناجيل مليء بالأقوال المتعارضة وليس جديراً بأي اعتبار».
وفي وسط ضوضاء هذه الافتراءات والادعاءات، والأقاويل يرتفع صوت المسيحيين الحقيقيين قائلاً: إن المسيح هو «الله الابن» وهو «ابن الله» الكائن منذ الأزل مع الآب والروح القدس، وأنه في ملء الزمان أخذ صورة عبد وصار في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصيب ليقوم بعمل الفداء العظيم.
والآن ما هو القول الحق في شخص المسيح الكريم؟
هل هو أسطورة خرافية لم يكن لها وجود في التاريخ؟
هل هو مجرد إنسان عبقري، ومعلم عظيم، ونبي مقتدر ظهر على أرضنا. مثله مثل سائر العباقرة والأنبياء على السوء؟
أم أن «يسوع المسيح» هو «الله» الذي تجسد في صورة إنسان؟
إن غرضنا هو فحص هذه القضية الخطيرة بدقة وإخلاص، لنتيقن على أساس سليم حقيقة شخص المسيح، حتى نجيب كل من يسألنا عن سبب رجائنا فيه، وإيماننا به كما قال بطرس الرسول: «بَلْ قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ ٱلرَّجَاءِ ٱلَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ» (1 بط 3: 15).
ولكي يكون فحصنا أميناً، لا بد لنا أن نوقف «مسيح الكتاب المقدس» أمامنا وندرس شخصيته في أقواله، وأعماله وسجاياه.
فإذا تبين لنا أن المسيح مجرد إنسان قبلناه كإنسان.
وإذا تبين لنا أن المسيح معلم عبقري عظيم قبلناه كمعلم عبقري عظيم.
وإذا تبين لنا أن المسيح مجرد نبي مقتدر قبلناه كنبي.
أما إذا تحدانا المسيح بأقواله، وسجاياه، ومعجزاته، فلمسنا لاهوته من خلال إنسانيته، وتأكدنا يقيناً أنه «الله» الذي تجسد في صورة الإنسان، عندئذ ليسجد كل واحد منا في حضرته القدسية قائلاً له مع توما الرسول «رَبِّي وَإِلٰهِي» (يو 20: 28).
وقبل أن نتعمق في دراسة قضية لاهوت المسيح، نرى لزاماً علينا أن نفند ادعاء القائلين بأن شخصية المسيح شخصية خرافية، والواقع أن ادعاء من هذا الطراز يعلن عن جهالة قائلة. ليس فقط من الناحية الدينية، بل من الناحية العلمية التاريخية كذلك.
ونقول أولاً إن المسيح الذي وُلد في بيت لحم من مريم العذراء، لم يظهر هناك بغير مقدمات، وإنما سبق ظهوره الكثير من النبوات التي ملأت صفحات العهد القديم من سفر التكوين إلى سفر ملاخي، وقد أشاعت هذه النبوات بصراحة ألفاظها، والتحديد الكامل لمعالم الشخصية التي تحدثت عنها روح انتظار هذه الشخصية الفريدة التي حددت النبوات أنها ستولد من عذراء، وستولد في «بيت لحم» بالذات .
والمسيح حين وُلد في العالم وُلد في «ملء الزمان» كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية: «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا 4: 4 و5).
وتعني الكلمة «ملء الزمان» الوقت الذي تهيأ فيه العالم لاستقبال المسيح، ويؤيد التاريخ أنه في وقت ولادة المسيح كان في العالم شعوب ثلاثة هي صاحبة النفوذ في ذلك العصر: الرومان، واليونان، واليهود. وقبيل ميلاد المسيح هيأ الرومان عالماً مشتبكاً، فبدلاً من وجود شعوب منفصلة متباعدة تتبادل الريب والشكوك ألفى المسيح عالماً ممهداً خلواً من الحواجز والعقبات، إذ كانت روما قد أدمجت الدول المتنافسة في أمبراطورية واحدة، وشقت الطرق الرومانية كل رقاع العالم المتمدن، وصانت قوة القياصرة السلام العالمي، وهكذا تهيأت الطريق لمجيء الملك السماوي، وتهيأت الطرق لرسله ليحملوا رسالة حبه للعالم الفسيح.
أما اليونان فعند اقتراب اليوم الذي جاء فيه المسيح فقد قاموا وهم لا يدرون بنصيبهم في إعداد الطريق أمام الملك الآتي، وذلك لأن اللغة اليونانية الجميلة اللينة كانت قد أصبحت اللغة الرئيسية في الأمبراطورية فتعلمت كل الشعوب المحيطة بحوض البحر الأبيض اللغة اليونانية، وصارت اليونانية هي اللغة الرسمية في كل العالم المتمدن فتهيأت الأداة لنقل إنجيل المسيح الجليل.
أما اليهود فقد كان عملهم هو الاحتفاظ بأقوال الله والنبوات التي تتحدث عن مجيء المخلص الموعود كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «إِذاً مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ؟ كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَّوَلاً فَلأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (رو 3: 1 و2)، ولقد كان سبي اليهود إلى بلاد العالم هو الطريق لنقل هذه النبوات إلى سائر الشعوب، وهكذا تهيأ العالم لمجيء المسيح الكريم.
وإنه لمما يدعو إلى التفكير أن نرى هذه الشعوب الثلاثة وقد اتحدت وهي لا تدري لإعداد الطريق قبيل مجيء المسيح، وفي هذا أقوى دليل على وجود يد إلهية تسيطر على أحداث التاريخ لتصيغ منها ما يتفق مع البرنامج الإلهي للعالم.
وهناك أكثر من دليل يرضى عنه العقل، ويصادق عليه المنطق السليم، لتأكيد أن المسيح شخصية حقيقية عاشت على مسرح التاريخ.
فالمسيح شخصية تاريخية حقيقية لأن كتاب العهد القديم وهو الكتاب المقدس عند اليهود الذين رفضوا المسيح في مجيئه الأول، يعلن بوضوح عن ميلاده ويرسم معالم شخصيته التي نراها في جلالها في كتابات العهد الجديد: عشرات النبوات جاءت عن المسيح في العهد القديم متحدثة بدقة متناهية عن ميلاده، ورسالته، وطريقة موته، وقيامته، وصعوده إلى السماء، ومجيئه الثاني ليملك على هذه الأرض. وكانت معاني هذه النبوات واضحة تماماً في صيغتها ومفهومها للدارسين لها، لنأخذ على سبيل المثال نبوة منها وهي الخاصة بمكان ميلاد المسيح.. فتعال معي لنقرأ ما ذكره إنجيل متى: «َلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟ فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بِٱلنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ ٱلصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (مت 2: 1 - 6).
والنبي الذي ذكر اسم المدينة التي سيولد فيها المسيح هو ميخا النبي الذي عاش قبل ميلاد المسيح بسبعمائة سنة، وهذه بالحرف كلمات نبوته: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2).
هذه واحدة من النبوات التي تمت بحرفيتها في المسيح، وليس يعقل كما أنه ليس من المستطاع أن يرسم كُتّاب العهد الجديد، وهم في غالبيتهم شرذمة من غير العلماء أو المثقفين، وصورة تنطبق كل الانطباق على الصورة التي تنبأ بها العهد القديم، لو لم يكن المسيح شخصية حقيقية رأوها، وعاشروها ولمسوها، ولهذا تحدثوا عنها بيقين كما قال يوحنا الرسول تلميذ المسيح الحبيب: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ... ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ» (1 يو 1: 1 و3).
ومع هذا كله فإننا نجد ظاهرة جديرة بالعناية والتفكير في الكتاب المقدس هي ظاهرة الكلمات الصريحة التي تتحدث عن اختيار الله لإسرائيل وتفضيلهم على الشعوب الأخرى التي عاصرتهم، ثم الحديث عن اللعنات والغضب الإلهي الذي أدركهم، فلماذا اهتم الكتاب المقدس بالتاريخ اليهودي، والديانة اليهودية، والشعب اليهودي. وما علة اختيار الله لهم، ثم تشتيتهم وصب اللعنات عليهم بسبب عصيانهم؟ (تثنية 28: 15 - 68) والجواب الوحيد الذي نجده في الكتاب المقدس ويرضى عنه العقل بارتياح: هو أن الله قد اختار هذا الشعب في القديم، وكرمهم هذا التكريم، لأن المسيح مخلص العالم كان مزمعاً أن يأتي منهم كما كتب بولس الرسول قائلاً: «إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ! فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُوماً مِنَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلاشْتِرَاعُ وَٱلْعِبَادَةُ وَٱلْمَوَاعِيدُ، وَلَهُمُ ٱلآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ» (رو 9: 2 - 5).
فلكي يتمم الله ما قاله بخصوص المسيح، اختار هذا الشعب، وتحفظ عليه، وأحاطه بالعناية حتى جاء منه المسيح مخلص العالم، وفي هذا أصدق دليل على أن المسيح شخصية حقيقية.
والمسيح شخصية تاريخية حقيقية بدليل وجود المسيحية:
لا جدال في أن المسيحية ديانة شائعة بين أكثر من ثلث سكان الكرة الأرضية. فمن ذا الذي أوجد هذا الدين المؤثر المنتشر العجيب؟
لقد أوجد «بوذا» البوذية، وأوجد «كنفوشيوس» الكنفوشية، وأوجد «زرادشت Zoroaster» الزرادشتية. وإذا تابعنا التفكير المنطقي السليم الذي يحتم أن يكون لكل دين مؤسس أو نبي أو زعيم، وجب أن نؤمن بوجود مؤسس للمسيحية هو بلا شك شخص المسيح الكريم.
وقد قال «العقاد» في هذا الصدد ما يلي: «متى حدث في تاريخ الأديان أن أشتاتاً مبعثرة من الشعائر والمراسم تلفق نفسها وتخرج في صورة مذهب مستقل دون أن يعرف أحد كيف تلفقت، وكيف انفصلت كل منها عن عبادتها الأولى، ومن هو صاحب الرغبة وصاحب المصلحة في هذه الدعوة، وكيف برز هذا العامل التاريخي الديني على حين فجأة قبل أن ينقضي جيل واحد، ولماذا كان يخفى مصادر الشعائر والمراسم الأولى ولا يعلنها إلا منسوبة إلى شخص المسيح؟.. إن الدعوة المسيحية فيها وجهة نظر متناسقة وقوام شخصي مرسوم.. وقد جاءت في أوانها وفاقاً لمطالب زمانها بحيث تكون الغرابة أن يخلو الزمن من رسول يقوم بالدعوة ويصلح لأمانتها، لا أن يوجد الرسول ونستغرب أن يكون، ولو أن مؤلفاً بعد ذلك العصر أراد أن يخلق رسولاً يوافق رسالته المنشودة لوقف به الخيال دون ذلك التوفيق المطبوع».
فالمسيحية بوجودها القوي، وكيانها الرائع، وتأثيرها البالغ الذي أحدثته في العالم إذ أخرجته من بربريته وحبه للدماء، وأشرقت عليه بأنوار المحبة النازلة من السماء دليل عملي على حقيقة شخصية المسيح.
أجل لقد صار العالم بعد المسيحية غير العالم الذي كان قبلها، فقد رفعت المسيحية قدر المرأة، بعد أن كانت سلعة من سقط المتاع تُشترى وتُباع، صار لها اعتبارها وكرامتها.. وألغت المسيحية تعدد الزوجات. فأعطت بذلك للأسرة استقراراً وأمناً، كذلك جعلت الفرد يشعر بقيمته فلم يعد وجهاً ضائعاً بين الوجوه في زحام الحياة، بل عرف أنه كيان مستقل يهتم به الله ويرعاه «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16).
ووجود المسيحية بهذا التأثير الفعال دليل واضح على حقيقة وجود المسيح، أما إذا أردنا أن ننكر شخصية المسيح التاريخية فهذا يوجب علينا أن ننكر كذلك بوذا، وكنفوشيوس، وزرادشت، وغيرهم من مؤسسي الديانات الموجودة في أرضنا، بل يوجب علينا أن نجد علة ترضى عنها عقولنا لوجود المسيحية، وأن نفسر كيف انتصرت المسيحية، وقد لاقى أتباعها الكثير من صنوف الاضطهاد والعذاب والاستشهاد، وكانوا في غالبيتهم شرذمة من الجهلاء والضعفاء، وعلى الوثنية التي كانت تحميها الدولة الرومانية بقوتها العسكرية، مع أن المسيحية في انتصارها وانتشارها لم يقم أتباعها بغزوة من الغزوات، ولم يشهروا سيفاً، ولم يستخدموا ضغطاً مادياً لإرغام الناس على اعتناقها والإيمان بمسيحها.
ويقيناً أننا لن نستطيع أن نجد تعليلاً لكل ما احدثته المسيحية من تغيير في عالمنا إلا باعترافنا أنه حدث بتأثير شخص حقيقي عاش فعلاً على هذه الأرض، وأن هذا الشخص هو المسيح الكريم.
وهناك دليل آخر يؤكد أن المسيح شخصية تاريخية هو دليل المبادئ السامية التي نطق بها: ولقد تعلمنا من نظرية «الأواني المستطرقة» أن السائل لا يرتفع إلى أعلى من المستوى الذي انحدر منه.. وعلى هذا القياس نسأل: أين هو الإنسان البشري الذي يقدر أن يقول ما قاله المسيح في كلماته «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (مت 5: 27 و28) أو أن يقول «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَّوِلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً» (مت 5: 38 و39) أو أن يرفع من قدر الفقير حتى وأنت تتصدق عليه فيقول: «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَّوِتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (مت 6: 1 - 4). أو أن يجعل الصلاة صلة خفية بين الإنسان وخالقه، ليست لمجرد التظاهر، بل للتعبد بنقاء وطهر فيقول «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (مت 6: 5 - 8).
إن المبادئ السامية التي نطق بها المسيح، وسجلتها الأناجيل هي أصدق دليل على أن شخصية المسيح شخصية تاريخية حقيقية، إذ ليس في وسع إنسان بشري مهما كانت عبقريته، أو سمت أخلاقياته أن ينطق بمثل هذه المبادئ، وأن يسلط علينا نوره الفاحص ليرينا شر قلوبنا، ونجاسة تصرفاتنا.
بقي علينا أن نرد على الذين يقولون بأن المؤرخين والكتاب الذين عاشوا في الوقت الذي عاش فيه المسيح ودعا لشريعته لم يذكروا أي شيء عنه بالمرة، فنقول أن أصحاب هذا الادعاء ينسون أو يتناسون أن المسيحية عاشت في القرون الثلاثة الأولى للميلاد في وسط اضطهاد لا مثيل له، وكان المسيحيون يعتبرون طائفة مغضوباً عليها من حكام الدولة الرومانية، ومن كهنة الديانة اليهودية.. فأي مؤرخ كان يجرؤ في مثل هذه الظروف أن يكتب بإفاضة عن المسيحية سيما وأن أتباعها كانوا في غالبيتهم من الفقراء المشردين الذين عاشوا في سراديب القبور Catacombs ولم يكن لهم تأثيراً يُذكر في أمور هذا العالم الشرير.
ومع ذلك فإننا نجد لمحات في كتب التاريخ القديم، جاءت في صيغ لا تعرض أصحابها للاضطهاد والتعذيب، نذكرها للشكاك لا لاعتقادنا بأهميتها، فإن عندنا العهد الجديد من الكتاب المقدس وفيه كل الصدق وكل اليقين بخصوص حقيقة المسيح، وإنما نذكرها لنسكت بها اعتراض المعترضين.
فقد جاء في تاريخ «فلافيوس يوسيفوس» المؤرخ اليهودي الذي عاش بين سنة 37 - 70 ميلادية هذا الكلمات: «إنه في ذلك العهد عاش يسوع، وهو إنسان قديس حكيم - إن جاز أن نسميه إنساناً، لأنه كان يصنع معجزات كثيرة، وكان معلماً لأناس يقبلون الحق بسرور، كان هو المسيح. ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب، بناء على طلب الرؤساء بيننا. لم يتركه الذين أحبوه أولاً، لأنه ظهر لهم حياً بعد ثلاثة أيام، كما سبق الأنبياء فأنبأوا عنه. وجماعة المسيحيين الذين سموا باسمه ما زالت باقية حتى هذا اليوم».
وقد ذكر الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه «محاضرات في النصرانية (الطبعة الثانية 1949) ما يلي: «جاء في كتاب تاريخ الحضارة. قد كتب بلين، وكان والياً في آسيا إلى الأمبراطور تراجان (الذي دام حكمه من سنة 98 - 117 ميلادية) كتاباً يدل على الطريقة التي كان يعامل بها المسيحيون قال: «جريت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية، وهو أني أسألهم إذا كانو مسيحيون فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهدداً بالقتل، فإن أصروا أنفذ عقوبة الإعدام فيهم مقتنعاً بأن غلطهم الشنيع، وعنادهم الشديد، يستحقان هذه العقوبة، وقد وجهت التهمة إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها فأنكروا أنهم مسيحيين، وكرروا الصلاة للأرباب الذين ذكرت أسماءهم أمامهم، وقدموا الخمور والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تمائيل الأرباب، بل أنهم شتموا المسيح، ويُقال أن من الصعب إكراه المسيحيين الحقيقيين، ومنهم من اعترفوا بمسيحيتهم، ولكنهم كانوا يثبتون بأن جريمتهم في أنهم اجتمعوا في بعض الأيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على أنه رب، وعلى إنشاد الترانيم إكراماً له، وتعاهدوا فيما بينهم لا على ارتكاب جرم، بل على ألا يسرقوا، ولا يقتلوا، ولا يزنوا وأن يوفوا بعهودهم».
وذكر أيضاً «ديل وإيلين روتين» في كتابهما «هل نستطيع أن نعرف؟» المطبوع سنة 1968 ما سجله المؤرخ «تاسيتوس Tacitus» وهو أعظم المؤرخين اللاتينيين وقد عاش في النصف الأول من القرن الثاني، وكتب عن الشائعات التي حامت من ان نيرون نفسه كان المسؤول عن الحريق الهائل الذي التهم روما سنة 64 ميلادية فقال:
«لكن لم يكن باستطاعة كل العزاء الذي يمكن أن يأتي من إنسان، ولا كل الهدايا التي يمكن أن يمنحها الأمير، ولا كل التكفير الذي يمكن أن يقدم للآلهة، أن يساعد نيرون على نفي الاعتقاد الشائع بأنه هو الذي أمر بهذا الحريق. لذلك رغبة منه في طمس الإشاعة، اتهم كذباً وعاقب بأقسى أنواع العذاب أولئك الأشخاص الذين كانوا يدعون مسيحيين، والذين أبغضوا بسبب تكاثرهم الهائل، وقد حكم بالموت على المسيح مؤسس هذا الاسم، ومات كمجرم بيد بيلاطس البنطي والي اليهودية، فانتشرت مرة أخرى البدعة الوبيلة، ليس في اليهودية وحدها حيث بدأت، بل في مدينة رومية كلها أيضاً».
ومع كل ما تقدم من وثائق تاريخية صحيحة المصادر، فإنه يمكن لمن يريد الرجوع إلى كتب التاريخ أن يقرأ ما سجله «ثالوس» حوالي سنة 52 ميلادية، وسيتونيوس، ولوسيان، فكلهم أكدوا حقيقة وجود المسيح والمسيحية.
وكل شهادات التاريخ تؤكد أن المسيح شخصية حقيقية، وأن المسيحيين الذين عاشوا في القرن الأول للميلاد كانوا يجتمعون لعبادته على أنه رب، وعلى إنشاد الترانيم لحمده، مما يؤكد أن المسيحيين في القرن الأول للميلاد آمنوا بالمسيح على أنه «الله الابن» الذي تجسد لفدائهم، وفي هذا ما يهدم ادعاء المدعين بأن عقيدة ألوهية المسيح دخيلة على المسيحية، وقد لاقى المسيحيون في القرون الثلاثة الأولى للميلاد بسبب عبادتهم للمسيح، واعترافهم به إلهاً مباركاً كائناً على الكل أفظع أنواع العذاب، حتى لقد كانوا يضعون بعضهم في جلود الحيوانات ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم، وصلبوا بعضهم، وألبسوا بعضهم ثياباً مطلية بالقار، وجعلوهم مشاعل يُستضاء بها. وكان الأمبراطور نيرون نفسه يسير في ضوء تلك المشاعل الإنسانية.
لقد كان المسيح شخصية حقيقية فرض نفسه على الزمن، وانتشر تأثيره إلى ما وراء حدود فلسطين، فوصل إلى أوروبا وآسيا، وبعض أجزاء أفريقيا، ووصلت أخباره إلى بلاد العرب وذاعت في القرن السادس للميلاد، واحتلت جزءاً غير قليل من القرآن الذي يؤمن به المسلمون، نكتفي هنا بذكر ما جاء منها في سورة مريم بهذه الكلمات: «وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَٱتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُّزِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلّزَكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (سورة مريم 19: 16 - 34).
والآن لنعد إلى الكتاب المقدس ونقلب صفحاته في تدقيق، لنواجه بأنفسنا شخص المسيح الجليل.
ذات مرة كان المسيح مع تلاميذه في سفينة، وذهب إلى مؤخر السفينة ونام على وسادة، وحدث نوء ريح عظيم فكانت الأمواج تضرب إلى السفينة حتى صارت تمتلئ... وهنا أسرع التلاميذ إليه وقد ملأهم الخوف والفزع وأيقظوه قائلين: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟ فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ. فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟ فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضاً وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!» (مرقس 4: 38 - 41).
تظهر على صفحات الأناجيل حقيقة جديرة بالانتباه هي أن المسيح كان يدفع المحيطين به للتفكير الجاد في حقيقة شخصه، وأنه بدلاً من أن يكشف لهم النقاب عن شخصيته بكلمات مباشرة تنساب من بين شفتيه، كان يسألهم عن اعتقادهم فيه ليدفعهم لاكتشاف حقيقته بأنفسهم، والاعتراف بما آمنوا به بخصوصه بشفاههم، بعد أن يلاحظوا بدقة قدسية حياته، وصلاح تصرفاته، وانطباق نبوات العهد القديم على شخصيته، وبعد أن يتفكروا بتأمل عميق في كلماته وخارق معجزاته.
ذات مرة جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس وهناك «سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (مت 16: 13 - 18).
ونرى في هذه الكلمات أولاً أن بطرس قد اعترف ليسوع «ابن الإنسان» - و «يسوع» هو الاسم الإنساني للمسيح - بأنه وهو «ابن الإنسان» في تجسده هو أيضاً «المسيح ابن الله الحي» في حقيقة شخصه، وكلمة «المسيح» تعني الممسوح أو المقام من الله بالمسحة، وكأن بطرس يعلن صراحة بأن «يسوع ابن الإنسان» هو في ذات الوقت«المسيح ابن الله الحي» الذي تنبأ عنه المزمور الثاني بالكلمات: «لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ فِي ٱلْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَتَآمَرَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، قَائِلِينَ: لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَ» (مز 2: 1 - 3) وتنبأ عنه دانيال بالكلمات: «َبَعْدَ ٱثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً يُقْطَعُ ٱلْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ» (دا 9: 26) ونرى في ذات الوقت بأن المسيح لم يكتف بأن يسمع ما يقوله البعيدون عنه بخصوص شخصه، بل سأل تلاميذه المقربين إليه، ليعطيهم فرصة للإفصاح العلني عن ما يعتقدونه فيه، فلما أجابه بطرس قائلاً: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» باركه على هذا الإعلان العظيم، وأكد له أن هذا الإعلان لم يأته من مصدر بشري بل من الآب الذي في السموات، وهو بهذا قد صادق على اعتراف بطرس مؤكداً لتلاميذه أنه حقاً ويقيناً «المسيح ابن الله الحي».
وذات مرة اجتمع الفريسيون حوله فسألهم قائلاً: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ؟ ٱبْنُ مَنْ هُوَ؟ قَالُوا لَهُ: ٱبْنُ دَاوُدَ. قَالَ لَهُمْ: فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِٱلرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ» (مت 22: 42 - 46).
ومن هذا النص الصريح نرى أن المسيح سأل الفريسيين عن اعتقادهم فيه، ليدفعهم بالتفكير والبحث في نبوات العهد القديم بأن يعرفوا حقيقة شخصه الكريم. سألهم: كيف يكون المسيح رب داود وابن داود في ذات الوقت؟ ولو فحص الفريسيون العهد القديم بتدقيق، لرأوا أن المسيح هو «رب داود» باعتباره «الله الابن» الذي خلق داود، وأنه«ابن داود» من جهة الجسد كما قرر بولس الرسول ذلك فيما بعد بالكلمات: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» (رومية 1: 1 و3).
وهنا يجدر بنا أن نقف قليلاً لدراسة سلسلة نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا، لكي نشرح ما قد يبدو من تناقض في السلسلتين لغير العلماء وغير الدارسين. ففي إنجيل «متى» نجد أن «متى» قد عاد بالمسيح إلى إبراهيم الذي يُعتبر أبا للشعب اليهودي، وهو نفسه الذي أعطاه الرب مواعيده قائلاً: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» (تك 22: 18) وعاد به في ذات الوقت إلى «داود الملك» ليعلن لنا أنه الوارث الشرعي لعرشه كما قال الملاك جبرائيل للعذارء مريم وهو يبشرها بأنها ستلد المسيح قائلاً: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ» (لو 1: 31 و32).
أما في إنجيل لوقا فقد عاد البشير هناك بالمسيح إلى آدم متخذاً سلسلة نسبه من «مريم أمه» ليرينا أن «ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ. وأن المسيح هو ٱلإِنْسَانُ ٱلثَّانِي ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (1 كو 15: 47).
وهاك عدة ملاحظات جديرة بالعناية في دراسة سلسلة نسب المسيح في بشارتي متى ولوقا نذكرهما فيما يلي مستعينين بما كتبه في ذلك بنيامين بنكرتن، وهـ. س. هفرن.
(1) إنه بينما يذكر متى أن إبراهيم ولد إسحق وإسحق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا... حتى يصل إلى يوسف رجل مريم بأنه هناك يقول: «وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ ٱلَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ» (مت 1: 16) وهنا نلاحظ أن متى لم يقل: «ويوسف ولد يسوع» على غرار ما سبق من نسب، بل قال: «ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع» مؤكداً بهذا بأن يسوع ليس ابناً طبيعياً ليوسف بل أنه وليد مريم العذراء التي ولدته بالروح القدس.
(2) لم يذكر متى من أولاد يعقوب الاثني عشر إلا يهوذا لأن منه جاء المسيح (تك 49: 10).
(3) لم يذكر متى أسماء النساء اللواتي افتخر بهن اليهود كسارة ورفقة، ولكنه ذكر أسماء نساء لم يقدر اليهود أن يفتخروا بهن، الأولى «ثامار» التي ذكرت لترينا أن خلاص الله هو للخطاة (متى 9: 13) والثانية «راحاب» التي ترينا أن الخلاص بالإيمان (عب 11: 31) والثالثة «راعوث» وهي ترينا أن الخلاص لكل من ياتي للاحتماء بالرب (را 1: 12) والرابعة «بثشبع» التي ترينا أن الخلاص هو بالنعمة وأبدي (2 صم 11 و12، مز 23: 3، عب 10: 38 و39).
(4) نجد في سلسلة نسب المسيح في إنجيل متى أشخاصاً من مختلف الطبقات الاجتماعية، ففيها نجد راحاب الزانية. وإسحق الشاب الطاهر محب السلام، وقد رتب الله ذلك حتى يكون المسيح بحق «ابن الإنسان» أي «ابن الإنسانية» سواء أكانت الإنسانية الرفيعة، أو الإنسانية الوضيعة لأن المسيح جاء مشاركاً البشرية بكافة طبقاتها«كابن الإنسان» ومخلصاً وفادياً لها باعتباره «ابن الله».
(5) في متى 1: 8 نقرأ «يورام ولد عزيا» ولا يقصد بذلك ان يورام هو أبو عزيا، ولكن المقصود أن عزيا سليل يورام، لأن ما بين يورام وعزيا لا يذكر ثلاثة ملوك وردت أسماؤهم في السلسلة الواردة في (1 أخبار 3: 11 و12) وهم أخزيا ويوآش وأمصيا، وحذف أسماء هؤلاء الملوك كان قضاء إلهياً عليهم حسب الوعيد الإلهي القائل «وَيَمْحُو ٱلرَّبُّ ٱسْمَهُ مِنْ تَحْتِ ٱلسَّمَاءِ» (تث 29: 20). «َمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا» (مز 69: 28) من ثم لم يعترف الشعب بملكهم عليه إذ ثار وقتلهم (2 أخبار 22: 8 و9 و24: 25، 25: 27 و28) وأسقطهم من جدول النسب الملكي. وقد قاد الروح القدس متى إلى هذا الأمر حين كتب إنجيله. لأنه كان يكتب هذا الإنجيل لليهود، وحذف بعض الأسماء من جداول الأنساب لبعض الأسباب كان أمراً مألوفاً لدى اليهود كما هو واضح من مقابلة ما جاء في سفر عزرا 7: 1 - 5 وأخبار الأيام الأول 6: 3 - 15).
ونلاحظ كذلك أن «عزيا» هو نفسه الملك «عزريا» وهذا واضح من مقارنة 2 ملوك 15: 1 و2 «فِي ٱلسَّنَةِ ٱلسَّابِعَةِ وَٱلْعِشْرِينَ لِيَرُبْعَامَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، مَلَكَ عَزَرْيَا بْنُ أَمَصْيَا مَلِكِ يَهُوذَا. كَانَ ٱبْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ٱثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ، وَٱسْمُ أُمِّهِ يَكُلْيَا مِنْ أُورُشَلِيمَ» مع ما جاء في 2 أخبار 26: 1 - 3 «وَأَخَذَ كُلُّ شَعْبِ يَهُوذَا عُزِّيَّا وَهُوَ ٱبْنُ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً وَمَلَّكُوهُ عِوَضاً عَنْ أَبِيهِ أَمَصْيَا... كَانَ عُزِّيَّا ٱبْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ٱثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ. وَٱسْمُ أُمِّهِ يَكُلْيَا مِنْ أُورُشَلِيمَ» ومن المألوف في الكتاب المقدس أن يكون للشخص اسمان كما كان اسم ابن داود الثاني وهو ابن أبجيايل امراة نابال الكرملي «كيلآب» (2صم 3: 3) و«دانيئيل» 1 أخبار 3: 1 في ذات الوقت وكما كان لدانيال اسم آخر وهو «بلطشاصر» (دا 1: 6).
(6) في متى 1: 11 نقرأ «يكنيا وإخوته» والمقصود بإخوته هنا أعمامه الذين منهم «متنيا» أو «صدقيا» الذي جلس على العرش بعده، ويُدعى في (2 أخبار 36: 10) أخاه.
(7) في متى 1: 12 نقرأ: «يكنيا ولد شألتئيل» وهذا لا يتعارض مع ما قيل في إر 22: 30: «ٱكْتُبُوا هٰذَا ٱلرَّجُلَ عَقِيماً» لأن هذا العقم هو من جهة الجلوس على العرش لا من جهة النسل كما قيل في الآية «اكتبوا هذا الرجل عقيماً رجلاً لا ينجح في أيامه لأنه لا ينجح من نسله أحد جالساً على كرسي داود وحاكماً بعد في يهوذا» ولم يأخذ شألتئيل ولا أحد من نسله العرش إلى أن جاء المسيح.
(8) في متى 1: 12 نقرأ «شألتئيل ولد زربابل» والواضح من 1 أخبار 3: 19 أن زربابل هو بن فدايا بن شألتئيل وقد حُذف اسم «فدايا» من الجدول بحسب عادة اليهود لسبب ما كما ذكرنا آنفاً.
(9) في متى 1: 13 نقرأ «زربابل ولد أبيهود» وفي لوقا 3: 27 «يوحنا بن ريسا بن زربابل» وبالرجوع إلى (1 أخبار 3: 19) نجد أن زربابل كان له ابنان «مشلام وحنانيا» وعلى ذلك يكون «مشلام» هو الاسم الثاني لأبيهود جد يوسف أو لعله حُذف لقصد إلهي من سفر أخبار الأيام كما يقول «قاموس وستمنستر Westmimister Dictionary» و«حنانيا» هو الاسم الثاني «ليوحنا» جد مريم العذارء ومعنى الاسمين واحد وهو «الرب رؤوف».
أما ريسا فمحذوف حسب عادة اليهود في جداولهم، ومن هنا يتبين لنا أن زربابل هو الجد المتوسط لعائلتي يوسف ومريم، كما أن داود هو الجد الأول لهما.
(10) الأسماء المذكورة في متى 1: 13 - 15 غير موجودة في أسفار العهد القديم، لأن أصحابها وجدوا بعد اختتام أسفار العهد القديم في فترة توقف الوحي بين ملاخي ويوحنا المعمدان، ومما لا شك فيه أن هذه الأسماء تطابق ما جاء في السجلات العائلية التي كان اليهود يعنون عناية تامة بها لحفظ أنسابهم وكان الذين يهملون هذه السجلات يرذلون كما نقرأ في سفر عزرا «هٰؤُلاَءِ فَتَّشُوا عَلَى كِتَابَةِ أَنْسَابِهِمْ فَلَمْ تُوجَدْ، فَرُذِلُوا مِنَ ٱلْكَهَنُوتِ» (عزرا 2: 62). وبغير شك أن الله قد رتب أن تحفظ سلسلة أنساب المسيح سليمة من آدم إلى أن وصلت إليه، وكان الأشخاص الذين تتكون منهم هذه السلسلة يمتازون بصفة واحدة لجميعهم هي صفة «الإيمان» سواء كان الشخص هو «راحاب الزانية» التي قبلت الجاسوسين بسلام، أو «داود» مرنم إسرائيل الحلو، وهذا السجل المتقن الذي يحوي أنساب هذه الأجيال ويربطها معاً يؤكد لنا وحي الكتاب المقدس.
(11) أعيد اسم داود الملك في فاتحة المجموعة الثانية من مجموعة الأسماء لأنه المورث الأصلي والأول للعرش، ورأس العائلة المالكة، وبذلك تكون هذه المجموعة أربعة عشر اسماً كسابقتها، وأصبحت المجموعة الثالثة أيضاً كسابقتيها بإضافة اسم ربنا يسوع المسيح في ختامها كالوارث الحقيقي والأخير للعرش، كما نقرأ: «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ دَاوُدَ» (مت 1: 1) وكما قيل أيضاً «وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ» (لو 1: 32).
(12) كلمة جيل التي وردا مراراً في الأصحاح الأول من إنجيل متى معناها دور من حياة العائلة بمعدل حياة الشخص أو مدة حكم الملك، وتأتي بمعان أخرى منها: جملة الناس العائشين معاً في وقت واحد (تك 7: 1) أو مدة من الزمن تساوي مائة سنة (تك 15: 13 - 16)، أو صنف من الناس (تث 32: 5) أو وقت من الأوقات (لو 1: 50).
(13) لا يجب أن يفوتنا الفرق بين سلسلة نسب المسيح الواردة في (مت 1: 1 - 17) وتلك الواردة في (لوقا 3: 23 - 38).
(أ) فالأولى هي سلسلة نسب يوسف بن سليمان بن داود، والثانية سلسلة نسب مريم العذراء بنت ناثان بن داود، وقد ذكر متى سلسلة النسب متصلة بيوسف رجل مريم، لا على اعتبار أنه والده الجسدي بل على اعتبار أنه رجل مريم التي وُلد منها يسوع، وبالتالي على اعتبار أن يسوع منتسب إليه قانوناً ولذا يصبح الوارث الشرعي لعرش داود أبيه وهذا يوضحه ما جاء في إنجيل لوقا بالكلمات «وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ» (لو 3: 23) وما قالته مريم أمه له حين ذهبت مع زوجها يوسف تفتش عنه في الكلمات: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» (لو 2: 48).
(ب) متى كتب إنجيله لليهود عن «مسيا» الذي ينتظرونه ابن داود فبدأ بإبراهيم أبي اليهود، أما لوقا فكتب إنجيله لليونان عن المسيح «ابن الإنسان» فوصل به إلى آدم أبي الجنس البشري كله.
(ج) في إنجيل متى نقرأ أن «يعقوب ولد يوسف رجل مريم» ولكننا نقرأ في إنجيل لوقا أن «يوسف بن هالي». فكيف نوفق بين هذين النصين؟ وكيف يكون يوسف بن يعقوب وبن هالي في آن واحد؟! والحل البسيط هو أن يوسف كان بن يعقوب بالتناسل الطبيعي، لكنه كان ابن هالي شرعاً لأنه تزوج ابنته مريم العذراء ولذا وضع اسمه بدلاً عن اسمها كعادة اليهود، ومن هنا نتبين أن «يوسف ومريم» كانا من سبط يهوذا ومن العائلة المالكة.
(د) جاء في متى 1: 12 أن «يكنيا ولد شألتئيل» بينما نقرأ في لوقا 3: 27 أن «شألتئيل بن نيري» ولا تعارض في القولين فإن شألتئيل هو ابن يكنيا فعلاً، وابن نيري شرعاً لأنه أخذ ابنته زوجة فوضع اسمه مكان اسمها كعادة اليهود.
وهكذا يظهر لنا أن المسيح قد جاء من نسل «داود» وتمت في شخصه المبارك النبوات الواردة بهذا الخصوص.
والأن لنعد من جديد إلى أسئلة التلاميذ والمسيح.. فالتلاميذ يتساءلون وهم يرون سلطان المسيح الفائق على الطبيعة قائلين: «من هو هذا؟» والمسيح يسألهم: «من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟» «وأنتم من تقولون إني أنا؟» ويسأل الفريسين قائلاً: «ماذا تظنون في المسيح؟» وكل هذا ليثير تفكير تلاميذه والمحيطين به ليتأكدوا بأنفسهم من حقيقة شخصه.
فمن واجبنا إذاً أن نلم بكل المعلومات عن شخصية المسيح الفريدة، لنعرف حقيقتها الأكيدة.
ويستطيع المرء إذا تجرد عن الهوى، وبذل الجهد الضروري، وطرح جانباً التعصب الأعمى، وما توراثه من آراء خاطئة، ودرس الكتاب المقدس بذهن مفتوح ، أن يتبين في وضوح حقيقة شخص المسيح.
ونؤكد من البداية حتمية العودة إلى الكتاب المقدس، ذلك لأننا بعيداً عن الكتاب المقدس لا نستطيع بحال من أن نعرف حقيقة المسيح، فالعقل وحده لا يستطيع أن يدرك حقيقته إذ لا بد من إعلان سماوي يعين العقل على الوصول إلى الحق الصراح، لأنه «أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 1: 20 - 24).
ولقد ظهر في ألمانيا فيما بين سنة (1743 - 1819) فيلسوف اسمه «جاكوبي» وكانت كتاباته رداً على فلسفة «اسبينوزا» الذي نادى بأن العقل وحده هو باب المعرفة الوحيد، وقد قال «جاكوبي»: «إن العقل غير المعان بالوحي الإلهي لا بد أن يقود الإنسان إلى الإلحاد، وذلك لأنه بطبيعته الخاصة، لا يستطيع أن يعالج سوى الأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، وهو يضع هذه الأجزاء معاً ليكشف ما بينها من روابط، ولكنه يعجز عن الحصول على مادة الحقيقة الخام، لا سيما الحقيقة التي تشمل الأشياء جميعاً مضموناً بعضها إلى بعض في وحدة كاملة متكاملة».
وعند «جاكوبي» أن الله الذي يمكن إثباته بالمنطق وحده لا يمكن أن يكون الله، لأن الحصول عليه بالمعرفة عن طريق العقل يتضمن معنى سيطرة العقل. والخالق الأعظم لا يمكن أن يسيطر عليه أو يحتويه عقل. إن حقيقة الله ليس سبيلها الفكرة المنطقية تتلوها أخرى، إن الله قد تنازل سبحانه وتعالى فأعلن عن ذاته بالوحي الذي سجله الكتاب المقدس.
ونقول بيقين أنه بدون الرجوع إلى الكتاب المقدس بأسفاره الستة والستين من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا، يصبح الحديث عن المسيح مجرد لغو وهراء.
ولا عبرة بأن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا قد أصابه التحريف.. إذ أننا نسأل أمام هذا الادعاء قائلين:
لمصلحة من حدث هذا التحريف؟ ومن الذي قام به وأحدثه في الكتاب الكريم؟ وفي أي تاريخ حرّفه المحرفون؟
فإذا قلنا إن اليهود هم الذين حرفوه... رد علينا العقل المتزن والمنطق السليم قائلاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس. ويبقوا فيه اللعنات الرهيبة التي تنصب على رؤوسهم كشعب متمرد ضال؟ أفما كان بالأولى جداً أن يحذف المحرفون من الكتاب المقدس هذه اللعنات، وأن يحولوها بتحريفهم إلى بركات؟! إن المرء يكفيه أن يقرأ ما جاء في الأصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين ليرى بنفسه فظاعة اللعنات التي يصبها الله على هذا الشعب حين يسلك معه بالخلاف.
تعال معي لنقرأ بعض ما جاء في هذا الأصحاح: «وَإِنْ كُنْتُمْ بِذٰلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ لِي بَلْ سَلَكْتُمْ مَعِي بِٱلْخِلاَفِ فَأَنَا أَسْلُكُ مَعَكُمْ بِٱلْخِلاَفِ سَاخِطاً، وَأُؤَدِّبُكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ، فَتَأْكُلُونَ لَحْمَ بَنِيكُمْ، وَلَحْمَ بَنَاتِكُمْ تَأْكُلُونَ. وَأُخْرِبُ مُرْتَفَعَاتِكُمْ وَأَقْطَعُ شَمْسَاتِكُمْ وَأُلْقِي جُثَثَكُمْ عَلَى جُثَثِ أَصْنَامِكُمْ، وَتَرْذُلُكُمْ نَفْسِي. وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سُرُورِكُمْ» (لاويين 26: 27 - 31).
ويسأل العقل المتزن أيضاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس ولا ينزعوا من صفحاته كذب إبراهيم أبيهم، وزنى داود ملكهم وقتله لأحد قادتهم، وتدهور سليمان حكيمهم؟
إن وجود الحوادث التي تؤكد كذب إبراهيم، وزني داود، وإنحراف سليمان، أصدق دليل على أن الكتاب المقدس هو كتاب الله الذي لا يخشى وجه إنسان مهما عظم مركز ذلك الإنسان.
وإذا قلنا: إن المسيحيين حرّفوا الكتاب المقدس؟ سأل العقل المفكر: أي جزء من الكتاب حرفه المسيحيون؟
يقيناً إنه لم يكن في وسعهم أن يحرفوا العهد القديم، لوجود هذا الكتاب أصلاً بين أيدي اليهود، فهو كتابهم قبل أن يكون كتاب المسيحيين، وثابت من التاريخ أن العهد القديم قد تُرجم إلى اللغة اليونانية نحو سنة 285 قبل الميلاد بواسطة سبعين عالماً من علماء اليهود بأمر من «بطليموس فيلادلفوس» وصارت هذه الترجمة معروفة باسم«الترجمة السبعينية». وقد انتشرت هذه الترجمة قبل ميلاد المسيح، فمن المستحيل إذا أن يحرف المسيحيون كتب العهد القديم. كذلك من المستحيل الاعتقاد بأن اليهود قد حرفوا العهد الجديد. ذلك لأن العهد الجديد يؤكد أنهم هم الذين صلبوا المسيح ويصب الويلات على الكتبة والفريسين منهم، فلو أن اليهود حرفوه لحذفوا منه كل هذه الأجزاء.
أما إذا ادعى مدعي بأن المسيحيين قد حرفوا العهد الجديد فإن هذا الادعاء ينهار أمام عدة حقائق.
الحقيقة الأولى: هي بقاء التوافق العجيب بين العهد القديم والعهد الجديد، وفي هذا أقوى الدليل على أن يداً بشرية لم تمتد بالتحريف لكتاب الله الكريم، فمن المعروف أن العهد الجديد مستتر في نبوات العهد القديم، وإلا فضح العهد القديم أي تحريف في العهد الجديد.
والحقيقة الثانية: هي أن المسيحيين قد لاقوا بسبب إيمانهم بحقائق العهد الجديد أفظع أنواع العذاب، فقد جرّ عليهم إيمانهم بالمسيح وفدائه، وسلطانه على القلب والفكر... الألم، والتشريد، والاضطهاد، والموت. ومن الممكن للإنسان البشري أن يكذب لمصلحة خاصة أو للنجاة من مأزق خطير، لكن ليس من الممكن أو القبول أن يستمر الإنسان في كذبه حتى يقوده الكذب إلى الموت، ولقد مات الملايين من المسيحيين بسبب إيمانهم بما جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.. فهل يعقل أن يقوم المسيحيون الذين اشتهروا في القرون الأولى للمسيحية بأخلاقهم الفاضلة، وقداسة حياتهم، ورضاهم بالتضحية بحياتهم من أجل المسيح بسرور ورضى، بتحريف الكتاب المقدس وهو الكتاب الذي ينتهي آخر أسفاره بالكلمات «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُّوَةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُّوَةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ»(رؤيا يوحنا 22: 18 - 19).
والحقيقة الثالثة: إنه رغم الاختلافات العقائدية التي انتشرت في الكنائس المسيحية منذ عصر الرسل، إلا أنها اتفقت جميعاً في مجمع قرطاجنة الذي عُقد سنة 397 على قانونية أسفار العهد الجديد كما هي بين أيدينا.
والحقيقة الرابعة: أنه لا يعقل أن يعطي الله الناس كتاباً من وحيه ثم لا يحفظ هذا الكتاب بقدرته من التحريف على طول الزمان..
نقرأ في سفر إشعياء الكلمات «صَوْتُ قَائِلٍ: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 40: 6 - 8). كذلك نقرأ في إنجيل متى الكلمات: «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متى 24: 35) ونقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يو 17: 17).
فالله إذاً قد ضمن بقاء كلمته بلا تحريف إلى مدى الأدهار، وأوصى شعبه القديم قائلاً: «كُلُّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ٱحْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ» (تث 12: 32).
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن نسخ الكتاب المقدس اليونانية الموجودة بين أيدينا حتى اليوم هي:
(1) النسخة الفاتيكانية: خطت في أوائل القرن الرابع وهي الآن في مكتبة الفاتيكان في رومية.
(2) النسخة السينائية: خطت في أواخر القرن الرابع للمسيح على رقوق مرهفة في أربعة أعمدة على الصفحة، وقد وجدها العالِم الألماني «تشندروف» في دير سانت كاترين عند سفح جبل سيناء، وأُهديت هذه النسخة إلى القيصر نيقولا الثاني أمبراطور روسيا فأمر بطبعها ونشرها، وظلت النسخة الأصلية في ليننجراد إلى أن بيعت مؤخراً للمتحف البريطاني بمئة ألف جنيه استرليني.
(3) النسخة الاسكندرية: خطت في القرن الخامس للميلاد وبقيت في حوزة بطاركة الاسكندرية حتى سنة 1628 حين أُهديت إلى «شارلس الأول» ملك بريطانيا، وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني.
وفي مطلع عام 1947 عثر العلماء في وادي القمران من شرق الأردن على مخطوطات من العهد القديم على جانب عظيم من الأهمية، فقد عثروا على سفر إشعياء بكامله باللغة العبرية، ويرجع هذا المخطوط في تقدير العلماء إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد وقد ظهر أن هذا السفر يتفق تماماً مع سفر إشعياء الذي بين أيدينا، ومنذ ذلك التاريخ والباحثون يعثرون على الكثير من أسفار الكتاب المقدس مما يعود إلى سنة 110 و170 بعد الميلاد وكل اكتشافاتهم تؤكد صدق الكتاب الكريم وخلوه من التحريف.
فإذا تأكد وجود نسخ قديمة للكتاب المقدس كله تعود إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد وما زالت بين أيدينا إلى اليوم، وعرفنا أن الإسلام ظهر في القرن السادس للميلاد، ورأينا بوضوح أن القرآن يؤكد سلامة الكتب المقدسة التي بين يدي اليهود والمسيحيين، أو بمعنى أدق سلامة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، كان في وسعنا أن نقول بيقين إنه حتى القرن السادس للميلاد لم يحرف الكتاب المقدس ولم يأته الشك من بين يديه ولا من خلفه إذ لا يقبل إنسان عاقل القول بأن نبي الإسلام يحض المسلمين على قبول كتاب امتدت إليه يد التحريف.
فتعال معي لنقرأ ما جاء في القرآن:
ففي سورة المائدة نقرأ:
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة 5: 68).
«وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ» (سورة المائدة 5: 43).
«إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ» (سورة المائدة 5: 44).
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاءهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة 5: 46).
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة 5: 47).
وفي سورة الجاثية نقرأ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» (سورة الجاثية 45: 16).
وفي سورة الأسراء نقرأ: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة الأسراء 17: 55).
وفي سورة النساء نقرأ: «وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة النساء 4: 163).
هذا كله يؤكد لنا أن الكتاب المقدس بكلا عهديه لم يحرف حتى ظهور الإسلام وإلا ما حث الإسلام المسلمين أن يقيموا التوراة والإنجيل قائلاً لهم: « لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة 5: 68).
متى إذاً حدث التحريف في الكتاب المقدس؟
بغير شك أن العقل والمنطق السليم يدعوان إلى نبذ دعوى التحريف، إذ لا يعقل أن يُحرف كتاب قد تداولته الأيدي، وانتشرت نسخه في أرجاء الأرض، وصار العهد القديم كتاباً مقدساً عند اليهود، والعهدان معاً كتاباً مقدساً لدى جميع المسيحيين، أقول لا يعقل أن يُحرف الكتاب المقدس بعد هذه القرون، لأنه لو حدث التحريف لظهرت النسخ المتضاربة بين أيدي اليهود والمسيحيين، لكن ما نراه هو أنه رغم اختلاف المسيحيين في اعتقاداتهم فإنهم جميعاً يدينون بكتاب واحد لا تختلف نسخه باختلاف طوائف المسيحيين.. كما أنه لو حدث التحريف في العهد القديم لدافع عنه المؤمنون به من المسيحيين وأوضحوا الفرق بين النسخة السليمة والنسخة المحرفة، وعلى هذا يمكننا أن نقول بيقين إن الكتاب المقدس لم تمتد إليه يد التحريف، وأنه في اللغات الأصلية التي كتب بها كلمة الله المعصومة تماماً من كل خطأ.
وهنا قد ينبري أحدهم قائلاً: وما قولك في الإنجيل المسمى «إنجيل برنابا»؟ ونترك الإجابة على هذا السؤال للأستاذ عباس محمود العقاد، وننقلها بأمانة علمية كما نشرها في صحيفة الأخبار بعددها الصادر في 26 أكتوبر 1959 وقال فيها بالحرف الواحد ما يلي:
«حقيقة واحدة يمكن الجزم بها وهي أن «إنجيل برنابا» لم يكن موافقاً كل الموافقة للأناجيل الأخرى في جوهره وأصوله، لأنه لم يعتمد مع تلك الأناجيل عند إفرارها. أما فيما عدا هذه الحقيقة فالواضح لدينا أن الإنجيل المترجم إلى اللغة الانجليزية قد أضيفت إليه زيادات غير قليلة، وقد لوحظ في كثير من عباراته أنها كُتبت بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم فيه يستند إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في عصر الميلاد، ولسنا نعني بذلك ما قيل من أن وصف الجحيم في إنجيل برنابا منقول من قصة دانتي الشاعر الإيطالي عن الكوميديا الإلهية، فإن الوصفين لا يتفقان عند المقابلة بينهما، وأن اشعار دانتي نفسه قد نقل صورة الجحيم في قصته من مصادر معروفة له ولغيره، ومنها ما يرجع إلى أشعار هوميروس وقصائد شعراء الرومان وأساطير التلمود.
فليست المشابهة بين وصف برنابا ووصف دانتي هي على الشك في بعض عبارات الإنجيل المختلف عليه، وإنما نشك في كتابة برنابا لتلك العبارات لأنها من المعلومات التي تسربت إلى القارة الأوروبية نقلاً عن المصادر العربية، وليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الالوف باسم«محمد رسول الله» ولا يسجل هذا الإعلان في صفحات هذا الإنجيل .
كذلك تتكرر في الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
ولهذا يخطر لنا أن الزيادات قد أُضيفت بقلم كاتب لم يقصد ترويج هذا الإنجيل بين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكنها زيدت لإلقاء الشبهة عليه ووقف سريانه بين طائفة فيها فيسهل قبولها والاستناد إليها.
ولا نقول إن هذا الظن هو الظن الوحيد الذي يخطر على البال، فإن الزيادة قد تكون بقلم يهودي أو مسيحي أسلم فأحب أن يعدل الكتاب بما يوافق معتقده، ولم يشمله كله بالتعديل لصعوبة تعديل كتاب كامل على نسق واحد، فبقيت فيه مواضع التناقض والاختلاف أ. هـ».
فإنجيل برنابا إذاً إنجيل دخيل لا يتفق مع سائر الأناجيل، ولم يقبله المسيحيون، كما أنه يناقض كما يقول الأستاذ العقاد قرآن المسلمين، ولذا فنحن نستبعده على أساس من العقل والمنطق والقانون.
أما إذا أصر مكابر على ادعائه بتحريف الكتاب المقدس، فإننا نرد عليه ببساطة قائلين: هات لنا نسخة الكتاب المقدس غير المحرفة، ونحن نلقى بالنسخة المحرفة بعيداً، فالبينة على من ادعى كما يقول رجال القانون.
لا بد إذاً من اعتمادنا الكلي على الكتاب المقدس، ويقيناً التام بأنه موحى به من الله، لنعرف في كلماته الوضاءة حقيقة المسيح.
إن السؤال الذي طالما ردده الكثيرون عبر السنين هو: هل كان المسيح حقاً هو «الله» ظاهراً في صورة إنسان؟
ولو أن إجابة هذا السؤال اتصلت بمجرد المعرفة العقلية فقط، ولم يكن لها علاقة بالمصير الابدي للإنسان، إذاً لما كان هناك داع للكتابة عن حقيقة المسيح.. أما وأن علاقة الفرد بالمسيح ومعرفته بحقيقته، وقبوله لشخصه، هي في مفهوم الكتاب المقدس الطريق الوحيد لتحديد المصير الأبدي للإنسان، وتغيير اتجاهه الطبيعي، ومنحه الاتزان النفسي، فهذا كله يعطي أهمية كبرى لا تعلوها أهمية أخرى في الحياة البشرية لمعرفة حقيقة المسيح.
ذلك لأن الكتاب المقدس يؤكد بوضوح لا إبهام فيه، أن الذي لا يؤمن بالمسيح باعتباره «ابن الله» والله الظاهر في الجسد لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله.
فتعال معي لنقرأ كلمات الكتاب المقدس الكريم:
«اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 36).
«وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يو 20: 30 و31).
«يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 10 و12).
«إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ٱبْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللّٰهُ عَنِ ٱبْنِهِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ: أَنَّ ٱللّٰهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ. مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ»(1 يو 5: 9 - 12).
من كل هذه الكلمات الإلهية الواضحة يتبين لنا خطورة القضية التي نحن بصددها.. فهي ليست قضية عقائدية، أو عقلية، ولكنها قضية مصيرية، فالإنسان يستطيع أن يحيا حياته كلها دون أن يعرف شيئاً عن بوذا، أو كنفوشيوس، أو زرادشت، أو غيرهم من زعماء الأديان، ولا يؤثر جهله هذا في مصيره بعد الموت، أما إذا تجاهل المسيح، ولم يتعرف به. ويقبله مخلصاً شخصياً لنفسه فإنه سوف يهلك إلى الأبد في الجحيم كما يؤكد ذلك يوحنا الرسول في إنجيله بالكلمات «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يوحنا 3: 17 و18).
وبغير شك إن شخصاً يقرر قبوله أو رفضه المصير الأبدي للإنسان يتحتم أن يكون هو الله، لأن الله وحده هو الذي في يده تقرير مصير الإنسان.
والآن ما هي الأسباب التي تقودنا في يقين إلى «حتمية الإيمان بأن المسيح هو الله؟».
(1) السبب الأول هو الإيمان بالله كما أعلن ذاته في الكتاب المقدس: من الأمور التي يؤكدها الكتاب المقدس أن «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يو 1: 18)، وأنه «ٱلَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ ٱلْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، ٱلَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْقُدْرَةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (1 تي 6: 16) وفي القديم تاق موسى أن يرى الله فقالَ «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر 33: 18) وأجابه الله وقال «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خر 33: 20).
وعلى هذا فليس بين البشر من نقبل ادعاءه لو قال إنه رأى الله، وبالتالي ليس في مقدور أحد أن يخبرنا عن : من هو الله؟ وماذا يشبه الله؟ وما هي سجاياه؟ إلا الله ذاته.
وقد تنازل جلّ شأنه فأعلن ذاته على صفحات الكتاب المقدس وأرانا أنه «إله واحد» في «ثالوث عظيم» وأن وحدانيته ليست وحدانية مجردة، أي لا تتصف بصفة من الصفات، بل هي «وحدانية جامعة» فيها كل ما يلزم لكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود.
ووحدانية الله ظاهرة في الكتاب المقدس في وضوح لا غموض فيه، فتعال معي لنقرأ كلمات الكتاب الكريم.
«إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تث 6: 4).
«هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ.. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي» (إش 44: 6).
«أَنَا ٱلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ» (إش 45: 5).
«لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (مت 4: 10).
«أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ» (يعقوب 2: 19).
كل هذه الآيات تؤكد «وحدانية الله» أما الإعلان عن «وحدانية الله في ثالوث عظيم» فقد جاء تدريجياً في ثنايا العهد القديم، وجاء بألفاظ صريحة لا إبهام فيها على صفحات العهد الجديد.
وهنا قد يخطر ببالنا هذا السؤال: لماذا لم يعلن الله بألفاظ صريحة في العهد القديم عن وحدانيته في ثالوث عظيم؟
ونجيب: إن الله لم يعلن صراحة عن وحدانيته في ثالوث عظيم في العهد القديم لأن الشعب الإسرائيلي الذي أعطاه الله العهد القديم كان قد خرج من مصر الوثنية. وكان في مصر الوثنية أكثر من ثالوث.. كانت هناك مجموعات من الآلهة تتكون كل مجموعة منها من ثلاثة آلهة.. المجموعة الأولى كانت مكونة من: آمون، وخنسو، وموت. والمجموعة الثانية كانت مكونة من: إيزيس، وأوزوريس، وهورس. والمجموعة الثالثة كانت مكونة من: خنوم، وساتيت، وعنقت، فلو أن الله الحكيم أعلن للإسرائيلين الخارجين من مصر عن ذاته في ثالوثه العظيم، لغلبت الأفكار المتوارثة والمنقولة من مصر الوثنية حقيقة الإعلانات الإلهية، ولاعتقد الإسرائيليون بوجود ثلاثة آلهة، ولهذا اقتضت حكمة الله أن يعلن عن وحدانيته في ثالوثه العظيم تدريجياً بقدر ما رأى في حكمته من استعداد الشعب القديم لتقبل الإعلان الكامل عن شخصه الكريم.
ورغم ما عمله الله لإبعاد كل صور التعدد من أذهان الشعب القديم، فإن الشعب الإسرائيلي الخارج من مصر صنعوا عجلاً مسبوكاً وسجدوا له.. وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، كما نقرأ في سفر الخروج «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: ٱذْهَبِ ٱنْزِلْ! لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ ٱلَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. زَاغُوا سَرِيعاً عَنِ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكاً وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هٰذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ ٱلَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (خر 32: 7 و8).
وبغير شك أن وجود عقيدة «الثالوث» في ديانات الهنود، والمصريين والفينيقيين، والصينيين، يؤكد أن مصدر الاعتقاد واحد هو إعلان الله ذاته منذ البدء للإنسان، لكن البشر شوهوا ما وصل إليهم من حق عن الله، واستبدلوه بثالوث من ابتكار عقولهم التي انحرفت عن إعلانات الله، وهذا ما يؤكده بولس الرسول في كلماته: «لأَنَّ غَضَبَ ٱللّٰهِ مُعْلَنٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ ٱلنَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَفْنَى، وَٱلطُّيُورِ، وَٱلدَّوَابِّ، وَٱلّزَحَّافَاتِ. لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. ٱلَّذِينَ ٱسْتَبْدَلُوا حَقَّ ٱللّٰهِ بِٱلْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا ٱلْمَخْلُوقَ دُونَ ٱلْخَالِقِ، ٱلَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ» (رومية 1: 18 - 25).
ومن هذه الكلمات المنيرة نرى أن الناس قد عرفوا الله في ثالوثه العظيم، ولكنهم في ظلام عقولهم الغبية الحمقاء أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بثالوث من ابتكار مخيلاتهم المريضة، وهكذا حل التقليد الزائف الرذيل مكان الجوهر الأزلي الأصيل في عقول البشر الذين طمس قلوبهم الظلام.
لكن حقيقة وحدانية الله الجامعة تبقى واضحة لكل ذي عينين، وها هو الله جل شأنه يعلن على صفحات الكتاب المقدس عن وحدانيته في ثالوث عظيم، متدرجاً في إعلانه بحسب ما رأى من استعداد في البشر لتقبل هذا الحق الثمين.
- وأول إعلان عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في غرة سفر التكوين: فهناك نقرأ الكلمات: «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تك 1: 1) وفي الأصل العبري جاءت كلمة «خلق» بالمفرد، بينما ورد اسم «الله» بالجمع، إذ تقول الآية في الأصل العبري «في البدء خلق إلوهيم السموات والأرض وكلمة «إلوهيم» هي جمع للاسم العبري «إلوه» أي إله. وتؤكد الصيغة اللفظية للآية «وحدانية الله في ثالوث عظيم» هذا واضح من كلمة «خلق» التي تؤكد «الوحدانية» و «إلوهيم» التي تؤكد وجود الثالوث في هذه الوحدانية.
- الإعلان الثاني عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم خلق الله الإنسان: بعد أن أعد الله الأرض للسكنى. فأنبت فيها النبات وخلق الحيوان، حان وقت خلقه للإنسان فقال جل شأنه: «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك 1: 26) وأمام ألفاظ هذه الصيغة يدور في الذهن أكثر من سؤال:
مع من كان الله يتحدث حين قال «نعمل»؟
وهل هناك من يعادله حتى يستشيره فيم يعمل، وهو المكتوب عنه: «مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟» (رو 11: 34)؟!.
وكيف يمكن أن يكون الإنسان على صورة الله وشبهه. والله لا شبيه له كما قال إشعياء النبي: «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللّٰهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟» (إش 40: 18).
وما دلالة «النون» في «نعمل» و «النا» في «صورتنا» وفي «كشبهنا»؟
وكيف يمكن أن يكون الإنسان جسداً، ويكون في ذات الوقت على صورة الله مع أننا نقرأ أن: «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو 4: 24).
ولا يمكننا أن نجد إجابة شافية عن هذه الأسئلة إلا إذا وضحت أمامنا حقيقة «وحدانية الله الجامعة» ففيها نرى الآب والابن والروح القدس في حديث واحد يبدو في كلمة«نعمل» ونرى الثالوث العظيم يقرر الصورة التي سيخلق عليها الإنسان، وهي ذات الصورة التي كان المسيح سيأتي بها متجسداً، ولقد قيل عن المسيح «الذي هو صورة الله غير المنظور، وهو في ذات الوقت «الله الابن» الذي تجسد في ملء الزمان.
وقد يقول قائل: إن ألفاظ هذه الصيغة لا تعني أكثر من أن الله استخدم «لغة التعظيم» فتكلم كما يتكلم الملك فيقول «نحن.. ملك» لكن القائل بهذا القول يعلن عن جهله بالتاريخ القديم، فالتاريخ القديم يؤكد لنا أنه لم يكن للملوك عادة أن يتكلموا بلغة الجمع أي بلغة التعظيم. ففرعون ملك مصر إذ تحدث إلى يوسف قال له «قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (تك 41: 41) ولم يقل «قد جعلناك على كل أرض مصر»، وفي سفر دانيال نقرأ حديث الملك نبوخذ نصر، وقد كان ملكاً جباراً يتمتع بكل جبروت الحكم الأوتوقراطي، ومع ذلك فهو لم يستعمل لغة التعظيم عندما تكلم عن نفسه بل تحدث إلى الكلدانيين قائلاً: «قَدْ خَرَجَ مِنِّي ٱلْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِٱلْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ تُصَيَّرُونَ إِرْباً إِرْباً» (دا 2: 5) ولم يقل الملك العظيم «قد خرج منا القول» فلغة التعظيم ليست هي لغة الكتاب المقدس، ولا كانت لغة تعظيم الملوك في القديم، فالقول بأن الله استخدم في هذه الآية أو غيرها لغة التعظيم مردود من واقع الكتاب المقدس والتاريخ القديم.
- الإعلان الثالث عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم سقوط الإنسان: بعد أن سقط آدم وحواء بعصيانهما الله بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر نقرأ الكلمات: «وَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ: هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ» (تك 3: 22). وهنا تظهر الوحدانية في ثالوث إذ تؤكد الكلمات: «وقال الرب الإله» وحدانية الله، وتعلن الكلمات: «قد صار كواحد منا» «الثالوث في الوحدانية» وإلا فما معنى قول الله «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا»؟ ومع من كان الله يتحدث بهذا الحديث؟
- الإعلان الرابع عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم بدأ الناس في بناء برج بابل: يرينا سفر التكوين صورة للبشرية بعد الطوفان تتحدث بلسان واحد ولغة واحدة، وتفكر في الاستقلال عن إله السماء، وعن هذا نقرأ الكلمات: «وَقَالُوا: هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجاً رَأْسُهُ بِٱلسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا ٱسْماً لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ. فَنَزَلَ ٱلرَّبُّ لِيَنْظُرَ ٱلْمَدِينَةَ وَٱلْبُرْجَ ٱللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ ٱلرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهٰذَا ٱبْتِدَاؤُهُمْ بِٱلْعَمَلِ. وَٱلآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ» (تك 11: 4 - 7).
هنا أيضاً نجد «الوحدانية في ثالوث» والثالوث يظهر في الكلمات «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» إذاً مع من كان الله يتكلم بهذا الكلام؟
- الإعلان الخامس عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في قصة بلعام وبالاق: فبعد أن بنى «بالاق» «لبلعام» سبعة مذابح وهيأ له سبعة ثيران وسبعة كباش نقرأ الكلمات «فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: قِفْ عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ، فَأَنْطَلِقَ أَنَا لَعَلَّ ٱلرَّبَّ يُوافِي لِلِقَائِي، فَمَهْمَا أَرَانِي أُخْبِرْكَ بِهِ. ثُمَّ ٱنْطَلَقَ إِلَى رَابِيَةٍ. فَوَافَى ٱللّٰهُ بَلْعَامَ» (عد 23: 3 و4).
ولم يلعن بلعام شعب الله القديم كما أراد بالاق بل باركه، وهنا نقرأ الكلمات: «فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: مَاذَا فَعَلْتَ بِي؟ لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي أَخَذْتُكَ، وَهُوَذَا أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمْ. فَأَجَابَ: أَمَا ٱلَّذِي يَضَعُهُ ٱلرَّبُّ فِي فَمِي أَحْتَرِصُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ: هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ، وَكُلَّهُ لاَ تَرَى. فَٱلْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ. فَأَخَذَهُ إِلَى حَقْلِ صُوفِيمَ إِلَى رَأْسِ ٱلْفِسْجَةِ، وَبَنَى سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. فَقَالَ لِبَالاَقَ: قِفْ هُنَا عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ وَأَنَا أُوافِي هُنَاكَ فَوَافَى ٱلرَّبُّ بَلْعَامَ وَوَضَعَ كَلاَماً فِي فَمِهِ وَقَالَ: ٱرْجِعْ إِلَى بَالاَقَ وَتَكَلَّمْ هٰكَذَا» (عدد 23: 11 - 16).
وفي هذه المرة الثانية لم يلعن بلعام الشعب وتضايق بالاق «َفقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: لاَ تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلاَ تُبَارِكْهُ بَرَكَةً... ٱبْنِ لِي هٰهُنَا سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَهَيِّئْ لِي هٰهُنَا سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ. فَفَعَلَ بَالاَقُ كَمَا قَالَ َلْعَامُ، وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ... وَرَفَعَ بَلْعَامُ عَيْنَيْهِ... فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱللّٰهِ» (عدد 23: 25 - 30 و24: 1 و2).
ويثبت النص الإلهي ثلاث تسميات للإله الواحد جاءت في هذه العبارات:
«فَوَافَى ٱللّٰهُ بَلْعَامَ» (عدد 23: 4).
«فَوَافَى ٱلرَّبُّ بَلْعَامَ» (عدد 23: 16).
«فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱللّٰهِ» (عدد 24: 2).
ويسأل المرء أمام هذه الوضوح: ما معنى هذه التسميات الثلاث للإله الواحد؟ أليس الله هو الرب وهو روح الله؟
ونجيب أن النص يظهر الثالوث بصورة أكيدة، ونحن نرى فيه - في نور العهد الجديد - أن «الله» هو «الآب» وأن «الرب» هو «المسيح» وأن «روح الله» هو «الروح القدس»، وهكذا يظهر الله في وحدانيته الجامعة في هذه القصة من سفر العدد.
- الإعلان السادس عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في سفر إشعياء: وأول إعلان جاء في هذا السفر نراه في رؤيا إشعياء المجيدة، التي رأى فيها السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع واعترف أمام قداسة الله بنجاسة شفتيه، ونرى واحداً من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، قد جاء ومس بها فم إشعياء وقال «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَٱنْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (إشعياء 6: 7)، وبعد أن تطهر إشعياء من خطيته، وأصبح إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد سجل هذه الكلمات المنيرة:
«ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ ٱلسَّيِّدِ: مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إش 6: 8).
ويرى القارئ أن «وحدانية الله» تظهر في كلماته التي جاءت بصيغة المفرد «من أرسل» وأن ثالوثه العظيم يظهر في صيغة الجمع «من يذهب من أجلنا»؟
ونأتي إلى إعلان آخر في سفر إشعياء جاء فيه هذه العبارات:
«اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ... أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً. اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَٱسْمَعُوا. مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ؟ قَدْ أَحَبَّهُ ٱلرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ، وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى ٱلْكِلْدَانِيِّينَ. أَنَا أَنَا تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ. تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. ٱسْمَعُوا هَذَا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ فِي ٱلْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ، وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ» (إشعياء 48: 12 - 16).
عجيب هذا الإعلان الإلهي عن «وحدانية الثالوث العظيم» ففيه نجد الخالق يتكلم قائلاً:
«أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر. ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات».
وهذه الكلمات تنطبق تماماً على الرب يسوع المسيح الذي قال عنه يوحنا الرسول: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو 1: 3) وقال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (عب 1: 10).
فالمسيح هو الخالق الذي يده أسست الأرض ويمينه نشرت السموات.
ثم يقول هذا الخالق: «أنا هو» وهي ذات الكلمة التي قالها المسيح لليهود: «لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ... مَتَى رَفَعْتُمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهٰذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ»(يو 8: 24 و28 و29).
ويتابع هذا الخالق العظيم حديثه قائلاً: «أنا الأول وأنا الآخر» وهي ذات الكلمات التي قالها الرب ليوحنا الرسول في جزيرة بطمس: «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ 1: 11).
ثم يقول منذ وجوده: «أنا هناك» وهذا دليل ساطع على أزلية المسيح، الذي عندما سأله اليهود: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» أجابهم قائلاً: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 8: 57 و58) وعبارة «أنا كائن» تؤكد أزليته.
وأخيراً يتكلم هذا الخالق الأزلي قائلاً: «والآن السيد الرب أرسلني وروحه» ومن يكون السيد الرب الذي أرسله؟
إنه يتحدث عن الله الآب كما قال في إنجيل يوحنا: «لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَٱلآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 16).
وعن من يقول: «وروحه» إنه يقيناً يتحدث عن الروح القدس الذي اشترك في إرسالية المسيح كما نقرأ في سفر إشعياء: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ... لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» (إش 61: 1 و2) وقد أكد الرب أن هذه الكلمات تمت في شخصه حين جاء إلى العالم ولذا نقرأ في إنجيل لوقا: «وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ...فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لو 4: 16 - 21).
في هذا النص يظهر الثالوث العظيم في وضوح وجلاء فنرى:
- الآب مرسلاً للابن لإتمام مقاصده.
- الابن متكلماً عن إرسال الآب والروح القدس له.
- الروح القدس مشتركاً في هذه الإرسالية العظمى.
- الإعلان السابع عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء على صفحات العهد الجديد: فتعال معي لنقرأ هذه الكلمات: «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ » (مت 3: 16 و17).
والكلمات ترينا الآب متكلماً من السماء، متحدثاً عن الابن الصاعد من الماء والروح القدس في هيئة جسمية مثل حمامة.
ونأتي الآن إلى إعلان ثان جاء في أمر المسيح الكريم بالكلمات: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (مت 28: 19).
وفي هذا الأمر ملاحظة جديرة بالاعتبار هي أن المسيح لم يقل في أمره «وعمدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس» بل «باسم»، فالله واحد، لكننا نجد في وحدانيته الجامعة الثالوث العظيم.
وأخيراً نكتفي بإعلان ثالث جاء في كلمات بولس الرسول في ختام رسالته الثانية إلى القديسين في كورنثوس إذ قال: «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ» (2 كو 13: 14).
وهكذا نرى الله في «وحدانيته الجامعة» معلناً عن ذاته في ثنايا كتابه الكريم.
وإذا وضعنا في أذهاننا أن «الله روح» (يو 4: 24) وأنه لا شبيه له كما قال إشعياء النبي في سفره: «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللّٰهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ» (إش 40: 18) وكما قال داود النبي في المزمور: «لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلآلِهَةِ يَا رَبُّ» (مز 86: 8) استطعنا أن نقبل كيف أن «الآب» هو «الله» وأن «الابن» هو «الله» وأن «الروح القدس» هو «الله» وأن الثالوث إله واحد.
فنحن نقرأ في الكتاب المقدس عن «الآب» أنه الله «وَٱللّٰهُ نَفْسُهُ أَبُونَا» (1 تسا 3: 11)، ونقرأ عن «الابن»، أنه الله «وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ» (عب 1: 8) ونقرأ عن «الروح القدس» أنه الله «فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ» (أع 5: 3 و4).
والكتاب المقدس يؤكد لنا أن كل واحد في الثالوث متميز عن الآخر، دون انفصال لأحدهم عن الآخر، وهو أمر يتميز به الله الواحد الذي لا مثيل ولا شبيه له.
وهنا قد يسأل أحدهم قائلاً: هل يوافق العقل البشري على هذه الوحدانية الجامعة في الله الواحد؟
ونجيب أن وحدانية الله في ثالوث ليست شيئاً ضد العقل، فإن العقل يسلم بالوحدانية الجامعة في كثير من الأشياء المحيطة به دون أن يبدي على ذلك احتجاجاً أو تمرداً.
- فاليوم المكون من 24 ساعة هو يوم واحد، لكن هذا اليوم الواحد يجمع بين المساء والصباح «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً» (تك 1: 5). والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة للمساء والصباح بلا اعتراض.
- ولكي يستطيع الإنسان أن يحصل على حجم مكعب واحد، فلا بد أن يعرف طوله وعرضه وارتفاعه، ومع أن الطول قياس قائم بذاته، والعرض قياس قائم بذاته، والارتفاع قياس قائم بذاته لكن هذه الأبعاد تكون الحجم الكلي للمكعب الواحد، ولا يمكن معرفة حجم المكعب بغير معرفتها، والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة في المكعب الواحد بلا اعتراض.
ويدهش المرء إذ يجد أن الرقم (1) وهو الرقم الذي يرمز إلى الله في الكتاب المقدس «اٰلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تث 6: 4) يتميز بخاصية لا يتميز بها غيره من الأرقام، فبينما نجد أن حاصل ضرب 10x10x10=1000 نجد أن حاصل ضرب 1x1x1= 1، فأي رقم غير الواحد يُضرب في رقم آخر يتزايد بكيفية واضحة إلا رقم (1) فإنه يستمر واحداً مهما ضربته في نفسه، مع أنه يتزايد بالجمع بصورة أكيدة، والعقل يقبل هذه العملية الحسابية بلا اعتراض.
- والزمن كما يقول «دكتور ناثان وود» في كتابه «أسرار العالم الطبيعي»، هو واحد في ثالوث، لأنه يتكون من «الماضي والحاضر والمستقبل»، والمستقبل هو شيء مجهول لا يقدر البشر على رسم صورة حقيقة له، فكيف يعلن المستقبل عن ذاته، إنه يعلن عن ذاته بالحاضر، والحاضر يمر، فيصبح في التاريح ماضياً، وهكذا ندرك الحاضر بالماضي، وندرك المستقبل بالحاضر، ومع ذلك فقد كانت هناك لحظة كان فيها الماضي والحاضر والمستقبل في قياس واحد بالنسبة للزمن.. فالثلاثة الأيام القادمة هي الآن في قياس واحد بالنسبة للوقت، وغداً يصبح «الغد» حاضراً، وبعد غد يصبح «أمساً» ويصبح اليوم الذي يليه «حاضراً» واليوم الذي يليه «مستقبلاً» والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة في الزمن بغير اعتراض.
- وفي عالم المحسوسات يقبل العقل دون اعتراض أن يفهم أن هناك ثلاثة مصابيح كهربائية في قوة وتحدٍ، وتشع نوراً واحداً، وتضيء حجرة واحدة، وتستمد قوى إشعاعها من «مصدر» واحد.
يقول «دافيد كوبر» إن نظرة مدققة للخليقة التي تحيط بنا، تؤكد لنا أن الله الواحد في ثالوثه العظيم، قد ترك طابعه على كل أجزاء هذا الكون الفسيح.
- ففي علم الحساب نجد أن المقاييس تتم بثلاثة أبعاد: الطول، والعرض والارتفاع.
- وفي علم الكلام نجد أن أقسام الكلم ثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. وأنه يلزمنا لتكوين جملة مفيدة ثلاثة: الفعل، والفاعل والمفعول به.
- ويتألف الزمن من ثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
- وفي الطبيعة نجد هذه الممالك الثلاث: المملكة الحيوانية، والمملكة النباتية، والمملكة المعدنية.
- وتتميز المادة بخواصها الثلاث: الصلب، والسائل، والغازي. وإذا كان لنا إلمام بعلم تكوين الجنين Embryology لعرفنا أن الجنين يتكون من ثلاث طبقات الإكتودرم Ectoderm أي الطبقة الخارجية، والميزودرم Mesoderm أي الطبقة الوسطى، والإندودرم Endoderm أي الطبقة الداخلية.
- والعقل البشري واحد لكنه مثلث التركيب، فهو يتألف من الفهم، والشعور، والإرادة. فالفهم هو القوة المفكرة، والشعور هو القوة المتأثرة، والإرادة هي القوة المقررة، والقوى الثلاث في العقل الواحد.
- والكون المحيط بنا يتكون من ثلاثة: السماء والأرض والبحر (رؤيا 10: 6).
إن العقل يقبل الوحدانية الجامعة في كل هذه الأشياء بلا اعتراض، ويسلم بها كل التسليم، ومع ذلك يجب أن نقرر في وضوح أن اللاهوت ليس شيئاً مادياً يقع تحت حسنا، فنضعه في المخابير المدرجة لنعرف كميته، ونوعيته، وكيفيته، بل هو فوق متناول مقاييسنا المادية، وهذه حقيقة قررها بولس الرسول وهو يخاطب الأثينيين في أريوس باغوس فقال: «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي، وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ. فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ» (أع 17: 24 - 29).
إذاً فاللاهوت لا يمكن أن يكون شيئاً مادياً مما يقع تحت حسنا، وما ينطبق على الماديات من التغير لا ينطبق عليه، فقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومع أنه من المستحيل علينا إدراك كنه اللاهوت بعقولنا، فقد رأى الله في حكمته أن يعلن لنا عن شخصه في تشبيهات تتفق مع قصور أذهاننا، فشبه نفسه بالشمس، والنور، والنار.
ففي مزمور 84: 11 نقرأ: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱللّٰهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ».
وفي رسالة يوحنا الأولى 1: 5 نقرأ: «إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ».
وفي الرسالة إلى العبرانيين 12: 29 نقرأ: «لأَنَّ إِلٰهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ».
وفي هذه التشبيهات الثلاثة نرى وحدانية الثالوث بصورة واضحة.
وسنكتفي هنا بالحديث عن الشمس كتشبيه يقرب للعقل البشري الله المتعالي عن كل تشبيه.
يقول القس «كلارنس لاركن» في كتابه «عالم الروح»: «إننا إذا تأملنا الشمس وجدناها تظهر في ثلاثة أشياء «الحرارة» و «النور» و «التأثير الكيميائي»، وهذه الثلاثة تكون الشمس، فالحرارة وحدها ليست الشمس، ولا النور وحده هو الشمس، ولا التأثير الكيميائي وحده هو الشمس، لكن الشمس هي الثلاثة معاً.
ونحن لا نرى حرارة الشمس لكننا نشعر بها، ونحن نستطيع رؤية نور الشمس. وهذا النور هو الذي يجعل الشمس ظاهرة للعيان، ونحن لا نستطيع أن نرى التأثير الكيميائي للشمس، ولكن قوة هذا التأثير تظهر في نمو النباتات. وتحويل بعض المواد في جسم الإنسان إلى فيتامين «D» الضروري لنمو العظام كما تظهر على اللوحة الفوتوغرافية التي تنطبع عليها صور الأشخاص والأشياء.
ولكي يبدو التشبيه واضحاً بالنسبة لانطباعه على الثالوث العظيم، يمكننا القول إن «الحرارة » تشير إلى «الله الآب» فنحن لا نقدر أن نراه ولكننا نشعر به «لأن الله محبة»(1 يو 4: 16، ويوحنا 3: 16) والمحبة يمكننا أن نشعر بها لكننا لا نراها.
و «النور» يشير إلى «الله الابن» فابن الله هو الذي أظهر لنا من هو الله «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2 كو 4: 6). «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18) «َبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1 تي 3: 16) فبدون الابن ما كان في مقدورنا معرفة من هو الله وما هي سجاياه، لكن ابن الله جاء ليعلن لنا من هو الله «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 9).
و «التأثير الكيميائي» للشمس يشير إلى «الله الروح القدس» فالروح القدس هو الذي يعطي الحياة والقوة، ويطبع صورة الله على اللوحة الحساسة لقلب الإنسان.
وكما أن حرارة الشمس وحدها ليست هي الشمس، ونور الشمس وحده ليس هو الشمس، والتأثير الكيميائي للشمس وحده ليس هو الشمس، ولكن لا بد من الثلاثة لوجود الشمس، مع أن كل واحد من هذه العوامل له عمله الخاص به، هكذا يمكننا تطبيق ذلك بخشوع على الآب والابن والروح القدس الإله الواحد في ثالوث عظيم، لكي ندرك كيف يقوم كل واحد في الثالوث الإلهي بعمله الخاص به في برنامج الخلق والفداء وسيادة هذا الكون العظيم.
وكما تظهر حرارة الشمس، أو نورها، أو تأثيرها الكيميائي بقوة خاصة بحسب فصول السنة، فحرارة الشمس تظهر في قوتها في الصيف أكثر منها في الشتاء. هكذا كل واحد في الثالوث الإلهي يظهر بقوة خاصة بالنسبة إلى كل تدبير من التدبيرات الإلهية.
- فالآب ظهر في تدبير العهد القديم.
- والابن ظهر إبان خدمته على الأرض بالجسد.
- والروح القدس يظهر في تأثيره المبارك في هذا التدبير.
وإذا عرفنا أن قرص الشمس يصدر منه النور والتأثير الكيميائي بلا تقدم أو تتابع في الوجود الزمني، بمعنى أنه حيثما يوجد قرص الشمس يوجد أيضاً نور الشمس، ويوجد تأثيرها الكيميائي، ولا يمكن أن توجد الشمس منفصلة عن نورها أو تأثيرها الكيميائي، لخرجنا بنتيجة واضحة، أن النور والتأثير الكيميائي صادران من الشمس، وموجودان فيها بلا تقدم أو تتابع في هذا الوجود.
وعلى هذا القياس نقول إن «الثالوث الإلهي» أزلي، كما قال موسى في صلاته «يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ» (مز 90: 1 و2).
ويقيناً أن الإيمان بالوحدانية الجامعة في الثالوث الإلهي الكريم، يحل كل الأسئلة العويصة التي تعترض العقل البشري عندما يفكر في الله.
فبغير شك أن الله يتصف بصفات تظهر في أسمائه الحسنى فهو:
«الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكيم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير.الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوراث. الرشيد. الصبور».
وهو الجامع في ذاته لكل ما هو لازم لكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود.
والإنسان المفكر يسأل: إن الله هو «السميع. البصير. الودود. المحب. المتميز بالعلم والكلام» لأنه ذات عاقلة لا بد أن يتميز بهذه الصفات، وقد علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وقد قال سبحانه «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك 1: 26).
والآن: من ذا الذي كان يسمعه الله ويبصره، ويحبه، ويتودد إليه، ويتكلم معه قبل أن يخلق الملائكة والناس؟
وكيف عمل الله الإنسان على صورته، وهو جل شأنه روح سرمدي، والإنسان قد خُلق على صورة جسدية.
وعقيدة الإله الواحد في ثالوث عظيم تعطينا الجواب الشافي على كل سؤال يخطر بأذهاننا من جهة الله، وترينا أن الله الآب كان يسمع ويبصر الله الابن والله الروح القدس، وأن كل واحد في الثالوث كان يتكلم مع الآخر فالثالوث أزلي، وهذا واضح من الكلمات: «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك 1: 26) ومن الكلمات: «هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا» (تك 3: 22) وأن الآب والابن والروح القدس كانوا يتشاورون معاً (اقرأ أع 2: 23 و4: 28) فليس بين مخلوقات الله من هو كفؤ لأن يستشيره الله «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رو 11: 34) كذلك ترينا أن الآب أحب الابن وكان موضوع «وده» قبل خلقه للملائكة والناس، كما قال المسيح بكلمات صريحة «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يو 17: 24) ثم تظهر لنا كما قلنا فيما سبق من حديث معنى خلقه الإنسان على صورة الله، فترينا أن الله الابن كان مزمعاً أن يأخذ صورة الإنسان، وعلى الصورة التي كان مزمعاً أن يأخذ صورة الإنسان، وعلى الصورة التي كان مزمعاً أن يأتي بها إلى العالم عمل الإنسان، وأصبحنا نستطيع فهم الكلمات القائلة: «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تك 1: 27) فالمسيح هو «الله الابن» الذي تجسد في هيئة الإنسان كما قال عنه يوحنا البشير: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يو 1: 1 و14) وكما قال عنه بولس الرسول: «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ» (كو 1: 15 و16).
وهكذا صار الله «الباطن» هو الله «الظاهر» عندما تجسد في المسيح كما قال بولس الرسول: «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1 تي 3: 16).
وهنا لا بد لنا أن نجيب على سؤال قد يخطر ببالنا هو: ألا يحمل اسم «الآب» في صيغته ما نفهم منه أنه كان موجوداً قبل الابن؟ وهذا يعني أن «الابن» ليس أزلياً كأبيه؟
ويمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً لو أن العلاقة بين الآب والابن في اللاهوت كانت علاقة جسدية، مرتبطة بالتوالد الجسدي، وحاشا لأذهاننا أن تصل إلى هذا الدرك من التفكير، فالله جل شأنه لم تكن له صاحبة، حتى ينجب منها ولداً، لكن اسم «الآب» يعني الأبوة الروحية التي تتفق مع ذات الله لأن «الله روح».
يعني المحبة الفائقة الأزلية التي تبادلها الآب والابن كما قال المسيح بفمه المبارك مخاطباً الآب «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 24).
ومن الواضح أن «الآب» أزلي، ولذا فلا بد أن يكون «الابن» أزلياً، وإلا كانت أبوة الله حادثة في الزمان، وصفة اكتسبها بعد ولادة الابن، تعالى الله عن كل نقص علواً كبيراً.
يقول الدكتور «M.R. De Haan» في قصة ذكرها في كتابه: «إن أحد خدام الإنجيل. حضر اجتماعه مرة رجل كان يقاطعه ويقول له بصوت عال «إنه لا يستطيع أن يثبت له أن المسيح هو ابن الله الأزلي». وقال ذلك الرجل أن يسوع هو بكر كل خليقة ولذا فلا يمكن أن يكون هو الله، لأن الآب الأزلي وهو أقدم في الوجود من ابنه، وعلى هذا لا يكون الابن أزلياً كأبيه، وإذ لم يكن المسيح أزلياً، فليس هو الله.
ولاحظ خادم الإنجيل كلمات الرجل «الآب الأزلي وهو أقدم في الوجود من ابنه» ثم أعطاه هذه الإجابة فقال: «هذا هو موضع خطئك يا صديقي، وسأثبت لك أن المسيح هو الله من كلماتك. لقد أسميت الله «الآب الأزلي»، وكيف يمكن أن يكون الله «الآب الأزلي» دون أن يكون معه «الابن الأزلي»؟ إن أزلية الأبوة في الآب تحتم أزلية البنوة في الابن. لقد قلت إن الابن لا يمكن أن يكون أزلياً كأبيه، لكن دعني أسألك متى أصبح والدك أباً لك.. في نفس اللحظة التي أصبحت فيها ابناً له، وليس قبل، إذاً فلا بد أن يكون للآب الأزلي، ابناً أزلياً وإلا ما كان الآب هو الآب الأزلي.. وسكت ذلك الرجل المعترض» .
لقد قال المسيح له المجد: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 30) وقال أيضاً: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 9).
هنا نجد أنفسنا ملزمين أن نجيب على سؤال آخر قد يخطر بأذهاننا وهو: ألا يمكن أن تكون بنوة المسيح لله كبنوة الملائكة والمؤمنين؟ ونقول إن الكتاب يذكر أن الملائكة هم بنو الله كما نقرأ في سفر أيوب: «عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعاً، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللّٰهِ» (أي 38: 7)، كذلك يذكر أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله (غلا 3: 26).
:وبنوة الملائكة لله جاءت على أساس أنه خالقهم «وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ» (عب 1: 7 ومز 104: 4).
وبنوة المؤمنين لله جاءت على أساس إيمانهم بالمسيح يسوع «لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلا 3: 26) فبنوة الملائكة والمؤمنين ليست بنوة أصلية بل مكتسبة، أما المسيح له المجد فقد سمي «ابن الله الوحيد» كما نقرأ عنه: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18). «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16). «بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ» (1 يو 4: 9).
وتسمية المسيح باسم «الابن الوحيد» تبعد أي وجه للمقارنة بين بنوته لله وبنوة الملائكة والناس.
وقد سمي المسيح «ابن الله» ليس على أساس تناسله من الله، فالتناسل عمل من أعمال الجسد، وحاشا لله أن يتناسل، فهو لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهو «روح» يملأ السموات والأرض ولا يُحد، لكن المسيح سمي «ابن الله» باعتبار أنه هو الذي أظهر لنا الله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18) وباعتبار أنه معادل لله، وهذا ما فهمه اليهود من كلمات المسيح التي قال فيها: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو 5: 17)، فقد فهموا أن أبوة الله له وبنوته لله تعني معادلته لله كما نقرأ «فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يو 5: 18)، وهذا يرينا أن بنوة المسيح فريدة لا يمكن أن يرقى إليها الملائكة أو البشر، الأمر الذي يؤكده كاتب الرسالة إلى العبرانيين وهو يقارن بين المسيح والملائكة في الكلمات:«لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟ وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً؟ وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ. وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (عب 1: 5 - 8).
والكلمات ترينا الحقائق التالية:
كتب بوردمان وهو يشرح تعليم الكتاب المقدس عن «الثالوث الإلهي العظيم» قال: إن «الأب» هو ملء اللاهوت غير المنظور «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يو 1: 18)، و «الابن» هو ملء اللاهوت متجسداً «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» (يو 1: 14) «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو 2: 9) و «الروح القدس» هو ملء اللاهوت عاملاً في حياة البشر «بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ» (1 كو 2: 9 و10).
إننا نعود مؤكدين أن الإيمان بالوحدانية الجامعة يتفق مع أصول المنطق السليم. فمن مباحث المنطق الرئيسية، دراسة مشكلة «التصورات، والاحكام» فهناك مثلاً تصورات«مشخصة» وأخرى «مجردة»، كما أن هناك أحكاماً «كلية» وأخرى «جزئية».
والتصورات «المشخصة» هي تصورات ترتبط بالواقع، مثل تصورنا مثلاً لأشياء مادية وواقعية، حين نتصور «تمثال رمسيس» في مدينة القاهرة، أو «تمثال الحرية» على شواطئ أمريكا. ولكن التصورات «المجردة» هي تصورات لا ترتبط بالواقع المحسوس، مثل تصورنا «للحرية» أو «الإنسانية» أو «المسئولية» وكلها تصورات مجردة عن الواقع.
ويقيناً أنه ليس في قدرة العقل البشري المحدود أن يتصور الله غير المحدود، ولذا رأى الله في حكمته أن يعلن عن ذاته العلية للإنسان في الكتاب المقدس، وقد أكد الكتاب المقدس وحدانية الله في ثالوث عظيم، فصار هذا الإعلان أصلاً موضوعاً يتقبله المؤمن بوحي الكتاب المقدس دون حاجة إلى برهان.
وإذ تبين لنا أن الإيمان بالله الواحد في «ثالوث عظيم» ينبع من الكتاب المقدس، نقول إذاً بأن الادعاء بأن هذه العقيدة ليست من المسيحية بل من الفلسفة الاغريقية، إنما هو ادعاء باطل، وأن القائلين بأن عقيدة «الثالوث» قد تأسست على الفلسفة الافلاطونية الحديثة قد ابتعدوا تماماً عن الصواب، ذلك لأن الأفلاطونية الحديثة لا تعلم بالمساواة بين الآب والابن والروح القدس في الجوهر والرتبة، بينما يعلم الكتاب المقدس بصورة أكيدة بهذه المساواة، وكذلك فإن الأفلاطونية الحديثة لم تظهر إلا في أواخر القرن الثالث، والتعليم بالله الواحد في ثالوث عظيم قد جاء على لسان المسيح قبل هذا التاريخ بوقت طويل حين قال لتلاميذه: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (مت 28: 19).
هذا كله يأتي بنا إلى نتيجة حتمية هي: أنه إذا كان الكتاب المقدس يؤكد أن الله واحد في ثالوث عظيم، وأن كل واحد في هذا الثالوث هو الله، وأن المسيح واحد في هذا الثالوث، فيتحتم علينا إذاً أن نؤمن بأن المسيح هو الله.
إننا نعتقد بحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله على أساس إيماننا بحتمية فداء الله للإنسان، ونؤمن بحتمية الفداء على أساس إيماننا بعدل الله ورحمة الله.
فالله إله عادل كما يقول داود النبي: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ ٱلْعَدْلَ» (مز 11: 7) وهو في ذات الوقت إله رحيم كما نقرأ: «ٱلرَّبُّ إِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلإِحْسَانِ وَٱلْوَفَاءِ. حَافِظُ ٱلإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ ٱلإِثْمِ وَٱلْمَعْصِيَةِ وَٱلْخَطِيَّةِ. وَلٰكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» (خر 34: 6 - 7).
ومع أنه جل شأنه قادر على كل شيء، إلا أنه ملتزم بالعمل في حدود صفاته، ولا يمكن أن يكون سبحانه غير هذا إلا إذا تصورنا إلهاً فوضوياً يتصرف بغير مبادئ أو قوانين، وهو تصور خاطئ تعالى الله عنه علواً كبيراً.
فالغفران الإلهي للإنسان الخاطئ يحتم أن يوفق الله بين عدله ورحمته، وهذا هو أساس إيماننا بحتمية الفداء.
ذلك لأنه إذا غفر الله خطية الإنسان على أساس رحمته وحدها، لاستهان الإنسان بعدالة الله ووصاياه، وأصبح فعل الخطية سهلاً لديه، إذ يرى أن الله لم يتكلف شيئاً لمنحه غفراناً لخطاياه.
وإذا نفذ الله في الإنسان حكمه ضد خطاياه على أساس عدله وحده، لرأى الإنسان «الله» إلهاً جباراً منتقماً، ولأصبح بتأثير إحساسه بقسوة الله عنيداً، قاسياً، بليد الشعور ولاستمر في عناده ومعاصيه حتى الهلاك.
وإذن فلا بد من الفادي ولا بد من الفداء.
واين يمكن أن يوجد الفادي الذي يرضى عدل الله، ويعلن رحمته؟
إنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان؟
لأن الإنسان خاطئ بطبيعته وتصرفاته كما يقرر ذلك داود في المزمور بالكلمات: «اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مز 14: 2 و3) وكما يقول في موضع آخر «إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو ٱلْبَشَرِ. فِي ٱلْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُون» (مزمور 62: 9) وكما يقول ميخا النبي عن شعب الله القديم: «أَحْسَنُهُمْ مِثْلُ ٱلْعَوْسَجِ وَأَعْدَلُهُمْ مِنْ سِيَاجِ ٱلشَّوْكِ» (ميخا 7: 4) وكما قال بولس الرسول: «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو 3: 22 و23)
ليس بين البشر إذاً من هو لفداء البشرية...
فلا إبراهيم الخليل، ولا موسى الكليم، ولا إشعياء النبي، ولا إيليا، ولا إرميا ولا أي واحد من الأنبياء كان باستطاعته فداء الإنسان، لأنهم جميعاً بشر، «في الموازين هم إلى فوق».
ولنبدأ قضية الفداء من أولها حتى نقف على كل دقائقها...
عندما خلق الله آدم وحواء ميزهما بميزة «حرية الإرادة» وأمرهما جل شأنه بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وكان هذا الأمر الإلهي لامتحان حرية إرادة الإنسان، وسقط الإنسان في الامتحان بإغراء الشيطان الذي تكلم في الحية وأغرى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة «َأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تك 3: 6).
ومع أننا لا نعلم شيئاً عن طبيعة ثمر شجرة «معرفة الخير والشر» إلا أننا نعلم أن تغييراً كيميائياً قد حدث في دم آدم وحواء نتيجة الأكل من هذا الثمر، فلوث هذا الدم بجراثيم الخطية والإثم «فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان» (تك 3: 7)، وبغير شك أن ما حدث في دم آدم وحواء من تغيير كان بمثابة تسمم لهذا الدم نتج عنه الموت كما قال الله لآدم «وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تك 2: 17)، وبالتناسل انتقل هذا الدم الملوث بالخطية إلى جميع ذرية آدم، وهذا هو التعليل الكتابي لوجود الميل الطبيعي لعمل الشر في كل إنسان، إذ قد لوث ثمر شجرة معرفة الخير والشر دم الإنسان بجراثيم الخطية وانتقلت هذه الجراثيم بالتناسل إلى ذرية آدم، فأصبح كل إنسان يولد بطبيعة ساقطة يسميها الكتاب المقدس «الإنسان العتيق» (أفسس 4: 22) نسبة إلى آدم «الإنسان القديم» و«الأب الاول» للبشرية ويسميها كذلك «الخطية الساكنة في الجسد» (رومية 7: 16 و17) باعتبار أن الخطية الموروثة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان وأخضعت جسده للموت.
وهذا ما قرره بولس الرسول في كلماته: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو 5: 12) وما أكده داود في كلماته: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مز 51: 5).
هكذا سقط الإنسان الذي خلقه الله على أحسن تقويم، لكن الخطية نزلت به إلى أسفل سافلين، فانحدرت البشرية إلى مهاوي الشر والرذيلة، التي نراها في الحروب، والخيانات والنجاسة، والتفرقة العنصرية والكراهية، إلى نهاية قائمة الخطايا السوداء.
والآن ماذا يفعل الله بذلك الإنسان الشرير الأثيم، الذي أصبحت نفسه أمارة بالسوء؟!
كيف يوفق جل شأنه بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص على الإنسان وهو قصاص رهيب أبدي عظيم، يتناسب مع عدله وقداسته، نراه في كلماته: «هَا كُلُّ ٱلنُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ ٱلأَبِ كَنَفْسِ ٱلاِبْنِ. كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 4) «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو 6: 23) والموت في مفهوم الكتاب المقدس لا يعني مجرد خروج الروح من الجسد، بل يعني الوجود الأبدي بعيداً عن الله، كما قيل عن المرأة المتنعمة: «وَأَمَّا ٱلْمُتَنَعِّمَةُ فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ» (1 تي 5: 6) وكما وصف بولس الرسول حالة الخطاة قائلاً: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أفسس 2: 1) وكذلك كما وصفهم بالكلمات: «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ» (أفسس 4: 18).
أجل كيف يوفق الله بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص وبين رحمته التي تطالبه بأن يصفح عن خطية الإنسان؟
وحين نسأل كيف يوفق الله بين عدله ورحمته، فيكون «باراً» و «يبرر» الإنسان الأثيم، نحن لا ننتقص من قدرته جل شأنه، ولا نضعه سبحانه وتعالى في موقف الإنسان الضعيف الذي وجد نفسه فجأة في مأزق دقيق، فأخذ يضرب يميناً وشمالاً لعله يجد مخرجاً، حاشا.
فالواقع أن الله لم يفاجأ بسقوط الإنسان في الخطية وعصيانه لأمره، لأنه كان يعلم مقدماً بهذا السقوط كما قال يعقوب: «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ» (أع 15: 18) وكان قد رتب مقدماً فداء الإنسان كما يقرر بطرس الرسول قائلاً: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (1 بطرس 1: 18 - 20).
والفداء ليس بدعاً في المسيحية، لكنه موجود بصور مختلفة في جميع الأديان، ووجوده في الديانات الوثنية والسماوية يدل على وحدة مصدره مع ما حدث في مفهومه من خلاف نتيجة ابتعاد الإنسان عن الحق الذي أعلنه له الله.
ففي الوثنية فداء انحرف به الإنسان حتى صار يقدم أولاده فداء عن نفسه، وقد حرم الله الذبائح البشرية إذ كلم شعبه القديم قائلاً: «مَتَى دَخَلْتَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولٰئِكَ ٱلأُمَمِ. لاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ٱبْنَهُ أَوِ ٱبْنَتَهُ فِي ٱلنَّارِ» (تث 18: 9 و10).
وفي اليهودية فداء يظهر في كلمات موسى للعبرانيين في القديم: «وَيَكُونُ مَتَى أَدْخَلَكَ ٱلرَّبُّ أَرْضَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا حَلَفَ لَكَ وَلآبَائِكَ وَأَعْطَاكَ إِيَّاهَا، أَنَّكَ تُقَدِّمُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ، وَكُلَّ بِكْرٍ مِنْ نِتَاجِ ٱلْبَهَائِمِ ٱلَّتِي تَكُونُ لَكَ. ٱلذُّكُورُ لِلرَّبِّ. وَلٰكِنَّ كُلَّ بِكْرِ حِمَارٍ تَفْدِيهِ بِشَاةٍ. وَإِنْ لَمْ تَفْدِهِ فَتَكْسِرُ عُنُقَهُ. وَكُلُّ بِكْرِ إِنْسَانٍ مِنْ أَوْلاَدِكَ تَفْدِيهِ» (خر 13: 11 - 13).
وفي الإسلام فداء كما يسجل الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه «الفداء في الإسلام» فيقول: «القرآن هو أساس الإسلام ودستوره.. يلفت أبصارنا وبصائرنا إلى وجود التضحية والفداء منذ مطلع الخليقة. فهو يحدثنا في سورة المائدة فيقول: «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ» (المائدة 5: 27). وفي القربان هنا معنى التضحية والفداء، لأن القربان هو ما يتقرب به الإنسان إلى الله، وصار في التعارف اسماً للنسيكة، أي الذبيحة وجمعه قرابين» .
- و «مادة» الفداء في لغة العرب تدل على جعل شيء مكان شيء حمي له، تقول: فديته أفديه كأنك تحميه بنفسك أو بشيء يعوض عنه، فيقال فديته بمالي، وفديته بأبي وأمي، كأنه اشتراه بما قدم، ومن هنا جاءت كلمة «الفدية» وهي ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادة قصر فيها، ككفارة اليمين، أو كفارة الصوم، أو غيرها.
- والفداء أيضاً فكاك الأسير، والمفاداة هي أن تفتك الأسير بأسير مثله.
- وهناك كلمات تُستعمل بمعنى كلمة الفداء، مثل كلمة «البذل» وإن كانت كلمة «البذل» تدل في أصلها على «ترك صيانة الشيء» ولعل السر في هذا الاستعمال أن الإنسان حين يفدي عقيدته أو أمته بنفسه، يكون كأنه قد ترك صيانة نفسه فقدمها رخيصة من أجل ما يؤمن به.
وكذلك تستعمل كلمة «التضحية» بمعنى الفداء، والضحية أو الأضحية في الشرع هي الذبيحة التي يقدمها الإنسان لمقصد ديني، ولعل استعمال كلمة «التضحية» بمعنى الفداء كان على تشبيه الإنسان الذي يقدم روحه فداء لعقيدته، بمن يذبح هذه الروح ويجعلها ضحية وفداء، وعلى هذا جاء في شأن الذبيح اسماعيل: «وفديناه بذبح عظيم» أي جعلنا هذا المذبوح فداء له، وخلصناه به من الذبح ا. ه.
فالفداء كما شرحه الدكتور الشرباصي يتمثل في تقديم القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله، ففي القربان معنى التضحية والفداء، وهو يعني «جعل شيء مكان شيء حمى له» وهو «شراء شيء بما تقدمه عوضاً عنه» وهو «فكاك الأسير بمثله» وهو «خلاص من كان سيذبح بواسطة ذبيح سواه».
ومن طبيعة الإنسان أن يعظم الفداء إذ تتجلى فيه أعلى مراتب التضحية.
منذ سنوات ذكرت صحيفة الأهرام خبراً تحت عنوان «الأم التي ماتت من البرد لتنقذ طفلها» فقالت: «ضحت الأم بحياتها لتنقذ طفلها البالغ من العمر عشرة أشهر من الموت برداً».
وقعت هذه القصة المؤثرة في مدينة «بوسنيا» التي تحيط بها الجبال. في يوجوسلافيا كانت «اليجابيسيك» في طريقها إلى زوجها ومعها طفلها الصغير وابنتها «إيفيتا»التي تبلغ من العمر الثالثة عشرة من عمرها، عندما هاجمتهم عاصفة ثلجية شديدة، فسارعت الأم بخلع ثوبها الوحيد ولفت الطفل به واحتضنته في صدرها العاري، بينما جرت «إيفيتا» تصرخ طالبة النجدة دون جدوى، وعندما عادت الفتاة وجدت أمها ميتة وقد تحجرت أصابعها فوق الطفل وهي تضمه في قوة إلى صدرها.
ويقف الإنسان معجباً بتضحية هذه الأم، مع أنها تضحية إنسان لأجل إنسان تتضاءل تماماً أمام «الذبح العظيم» الذي فدى به الله الإنسان، عندما سلم ابنه الوحيد للموت على الصليب.
ومنذ وقت ليس ببعيد كتب أحدهم كتاباً بعنوان «كيف.. ولماذا» ؟ ذكر فيه عدة أسئلة تتعلق بقضية الفداء فقال: «لنا أن نسأل كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟.. ثم إذا كان الصلب والقتل هو للتكفير عن خطيئة آدم وذريته.. فلنا أن نسأل ما موقف البشر منذ آدم إلى عهد المسيح؟.. هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ ثم يا ترى ما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى الآن.. وإلى أن تقوم الساعة؟ هل يشملهم فداءه أم يكون الفداء فقط لمن سبقوه؟ فإذا كان يشملهم فكل من أخطأ لن يحاسب، فيستوي القاتل والمقتول.. والسارق والمسروق.. وهذا أمر يتنافى مع ما جاء به الدين.. أي دين.. ويجافي ما في الأناجيل نفسها. وإذا كان لا يشملهم فهل يأتي فداء آخر؟ أم لا يأتي.. فإذا لم يأت.. لا تتحقق بذلك العدالة بين البشر قبل المسيح وبعده.. وإذا كان سيأتي فداء.. فلماذا يظل بعض الناس في ظل عذابهم مما فعلوا بعد الموت مدداً أطول من غيرهم تتناسب وبعد مدة موتهم عن قيام الفداء؟ ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة. أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر.. أرأيت إنساناً أخطأ ابنه أو تابعه.. فبدلاً من أن يعتذر المخطئ. أو يفرض صاحب الحق عليه الجزاء نجده يختار غيره من الصالحين الطاهرين المستقيمين فيوقع عليه أقسى العقاب.. الصلب والقتل جزاء جرم ارتكبه من لا يعرفه ولا دخل له في ذنبه. والقياس مع الفارق.. الفارق الكبير جداً ولهذا فإن عقيدة الكفارة والفداء أصبحت موضع بحث وجدل بين المسيحيين أنفسهم، وظهرت بعض الآراء التي تعارض هذه العقيدة منها ما يقوله «روي ديسكون سميث»في كتابه «ضوء جديد على البعث» ونصه: «لا يوجد متدين مهما كان مذهبه أو فرقته يعتقد أن الله العظيم قد أرسل ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا توازي في مجموعها منذ بدء الخلق إلى نهايته كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر لكي يعاني موتاً وحشياً فوق الصليب لترضيه النقمة الإلهية، ولكي يساعد جلالته على أن يغفر للبشرية على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي الذي لا يستسيغه عقل ألا وهو الداء» ا. ه.
ونجيب على أسئلة الكاتب فيما يلي من سطور فنقول:
كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟ فنقول لو كان المسيح مجرد إنسان بريء قد احتمل العقوبة عن الإنسان الأثيم لكانت قصة الصلب أفظع مأساة همجية سجلها التاريخ، ولما رأينا في صليب المسيح أية معاني تبين حب الله للإنسان، بل العكس لكان هذا الصلب إعلاناً عن ظلم الله الذي أراد أن يحل مشكلة الخطيئة ويوفق بين عدله ورحمته وإذ به بدل الإنسان لمذنب الأثيم.
لكننا نرى في الكتاب المقدس أن المسيح ليس مجرد إنسان بل أنه ابن الله الأزلي خالق الإنسان، ومع كونه «ابن الله» و «الله الابن» ارتضى طوعاً واختياراً أن يموت عوضاً عن الإنسان الذي هو خالقه لكي يفدي بموته الإنسان، وقد تمثلت في موته على الصليب كل معاني الفداء.
- فبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب استطاع الإنسان أن يتقرب إلى الله كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ» (أفسس 2: 13).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب وجد الإنسان الحمى الذي يحتمي به من عدل الله كما نقرأ في الكلمات: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رو 8: 1).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب اشترى المسيح الإنسان كما نقرأ في ترنيمة سفر رؤيا يوحنا الموجهة إلى شخص المسيح الكريم «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤ 5: 9).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب تحرر الأسير كما قال بفمه المبارك: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ» (لو 4: 18).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب نجا الإنسان من الموت الأبدي إذ حمل المسيح الموت عنه كما قال بولس الرسول «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو 5: 6).
وقد تمثل البذل في قمته الشامخة في فداء المسيح للبشر، فقد ترك المسيح صيانة نفسه فقدم ذاته فدية عن كثيرين كما قال بفمه المبارك: «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مر 10: 45)، وهو قد فعل ذلك ليس رغماً عنه بل طواعية واختياراً كما قال في كلماته الوضاءة: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 17 و18).
أما الشريعة التي رضيت بموت المسيح، فهي شريعة حب الله للناس الخطاة، وشريعة الحب فوق كل قانون بشري: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16). «فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو 5: 7 و8).
ونصل الآن إلى الجزء الثاني من أسئلة مؤلف كتاب «كيف ولماذا؟» وفيه يقول: ما موقف البشر منذ أيام آدم إلى عهد المسيح؟ هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ وما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى أن تقوم الساعة.. هل يشملهم فداءه؟
ونجيب قائلين: «إن جميع الذين غفر الله خطاياهم منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوا هذا الغفران بدم المسيح الكريم، تماماً كالذين نالوا الغفران بعد موت المسيح، والذين سوف ينالونه حتى تقوم الساعة. ذلك أنه من البديهيات الأولية أنه لا يوجد عند الله ماضي، وحاضر ومستقبل في حساب الزمن، فالمستقبل كاللوح المفتوح معروف ومكشوف لعيني الله العارف بكل شيء كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذٰلِكَ ٱلَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عب 4: 13) وكما قال داود النبي: «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ... لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي... لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» (مز 139: 1 و2 و4 و13 - 16) وتؤكد هذه الكلمات أن الله يعرف تفاصيل حياة كل إنسان قبل أن يولد ذلك الإنسان كما قال الله لإرميا النبي: «قَبْلَمَا صَّوَرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ» (إر 1: 5).
وبهذه المعرفة السابقة وضع الله خطايا البشر على يسوع المسيح لكي يتمتع بفدائه الذين يؤمنون بهذا الفداء كما قال إشعياء النبي: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش 53: 6).
ذكر الدكتور «توم مالون» راعي كنيسة عمانوئيل المعمدانية ببونتياك - بأمريكا هذه القصة قال: «حضرت سيدة إلى غرفة الصلاة ذات ليلة، وكانت مشكلتها بخصوص الغفران.. إنها لم تكن متيقنة من نوالها الخلاص. قالت: دكتور مالون.. هذا ما يزعجني.. إنني أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يغفر لي الرب خطاياي التي فعلتها في الماضي، وقد تقدمت الليلة لقبول المسيح ونوال الخلاص. ولكني أعلم أنني ما زلت أعيش في عالم الخطية، وأعيش مع زوج غير مخلّص، وأشتغل في عالم أناس غير مخلصين، فما الذي سأفعله بخطاياي التي سأعملها مستقبلاً»؟ هكذا عبرت عن المشكلة التي تقلق الكثيرين.. ماذا عن الخطايا التي أرتكبها بعد؟ كيف أحصل على غفران هذه الخطايا؟ قلت لها: «عندما مات المسيح منذ حوالي ألفي سنة كانت كل خطاياك مستقبلة، أعني خطاياك التي سقطت فيها في الماضي كانت مستقبلة، ولم تكوني قد سقطت فيها بعد لأنك لم تكوني قد أتيت إلى العالم بعد.. وعندما مات المسيح على صليب الجلجثة مات لأجل خطايا القائمتين «خطايا الماضي» و «خطايا المستقبل» وهكذا فإن غفران الله «كامل وتام».
إن المؤمن المتجدد الذي فعل خطية عليه أن يبادر بالاعتراف بها أمام الله وإلا فقد شركته معه «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1 يو 1: 9).
والآن لماذا تقول هذه الآية: إن الله «أمين وعادل» بدلاً من أن تقول «إن اعترفنا بخطايانا فهو رحيم ورؤوف حتى يغفر لنا خطايانا»؟ إن السبب هو أن المسيح عندما مات على الصليب، حمل كل خطاياي الحاضرة والمستقبلة ذلك لأن خطاياي كلها كانت مستقبلة حين مات المسيح... وعندما أعترف لله بخطاياي، فلكي يكون الآب أميناً مع ابنه الذي سدد مطاليب العدل الإلهي بموته على الصليب لا بد أن يغفر لي كل ما أعترف به من خطايا. إن هذه الآية خاصة بالمؤمن الذي أخطأ ضد الله بعد أن نال الخلاص.
الآن لكي نؤكد أن جميع الذين نالوا الغفران وخلصوا منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوه بدم المسيح الكريم، يجب أن نعود إلى القصة من البداية، فعندما سقط آدم وحواء كساهما الله بجلد حيوان بريء ذبحه ليأخذ جلده لسترهما كما تقول الكلمات «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تك 3: 21) وبهذه الكيفية أعلن الله للإنسان منذ سقوطه أن الوسيلة الوحيد لخلاصه وستر عريه هي «دم البديل» وبهذا عرف «آدم» أن الدم وحده هو الطريق الوحيد للستر، وأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عب 9: 22).
وقبل أن يطرد الله آدم وامرأته من جنة عدن أسمعهما حديثه إلى الحية وكان يحمل في كلماته الوعد بمجيء المخلص المجيد، فقال للحية: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك 3: 15). وهكذا خرج آدم وامرأته من الجنة بعد أن تأكدا أن الفداء والخلاص «بالدم» وأن ذلك الدم هو «دم المخلص الموعود» الذي سيولد بطريقة معجزية لا كما يولد سائر البشر بل يولد من عذراء لم يمسسها بشر، ولذا يُسمى نسل المرأة، وقد تم وعد الله في شخص المسيح كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا 4: 4 و5).
ويعلن لنا الكتاب المقدس أن «آدم» قد لقن مبدأ «الفداء بالدم» لذريته، وأكد لهم «مجيء الفادي الكريم» معلناً لهم أن «أجرة الخطية هي موت» وأنه لا يمكن لإنسان أن يخلص من هذا الموت بالصوم، أو الصلاة، أو تعذيب النفس بالحرمان، أو الإحسان إلى إنسان مسكين، لان طريق الخلاص الوحيد هو «الفداء بالدم» دم طاهر كريم يفدي دم الإنسان الملوث بجراثيم الخطية والإثم.
ويرينا العهد القديم أن مبدأ الفداء «بالبديل» هو مبدأ إلهي، فبعد أن وُلد اسحق لإبراهيم بطريقة معجزية، إذ ولدته أمه بعد أن انتهى كل رجاء بشري في أن تلد كما نقرأ في الكلمات: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عب 11: 11)، طلب الله من إبراهيم أن يقدم إسحق ابنه محرقة له، معتبراً إياه الابن الوحيد لإبراهيم باعتباره الابن الذي كان في قصد الله أن يعطيه له من سارة امرأته حسب إرادته الصالحة، فقال له «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تك 22: 2) وكان هذا الطلب الإلهي لامتحان إبراهيم.. وقد نجح إبراهيم في الامتحان عن طريق «الإيمان» كما نقرأ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (عب 11: 17 و18).
ولما وضع إبراهيم اسحق على المذبح، وأخذ السكين ليذبحه، ناداه ملاك الرب من السماء وقال «لا تمد يدك إلى الغلام.. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني».
وهنا تسترعي انتباهنا في المشهد هذه الكلمات: «فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تك 22: 13).
ونرى في هذه الكلمات أن «الكبش» جاء بتدبير إلهي، وأنه مات «عوضاً أو «بديلاً» عن «اسحق» ففداء المسيح للبشرية على الصليب هو تدبير الله العزيز الحكيم» إذ فوق الصليب مات المسيح بدافع حبه «عوضاً» عن الإنسان الخاطئ كما قال بولس الرسول: «ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا 2: 20)، وفي المسيح يمكننا أن نرى «الذبح العظيم» لأن أي حيوان يقدم فدية عن البشر لا يمكن أن يكون ذبحاً عظيماً.
لقد قدم الله مواعيده الصادقة بمجيء الفادي، وبالإيمان في مواعيد الله المؤكدة لمجيء الفادي خلص المؤمنون قبل عهد المسيح. أجل بهذا الإيمان خلص «هابيل» الابن الثاني لآدم، وتقبل الله قربانه الذي تقرب به إليه كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ» (عب 11: 4) وهكذا نقرأ في سفر التكوين «فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ» (تك 4: 4).
لكن منذ مطلع الخليقة وقد حاول الإنسان أن يبتدع لنفسه ديناً من قلبه الأثيم، ومن وحي غروره، فظن أنه يستطيع أن يخلص من خطاياه بحسناته وأعمال يديه، وكان الرائد الأول للديانة الإنسانية هو «قايين» الذي لم يتقبل الله قربانه، وذلك لثلاثة أسباب:
أولها: إن طريقه لم يكن طريق الإيمان، فهو لم يصدق الله ولم يؤمن بمواعيده بمجيء المخلص. ثانياً: أنه أراد أن يرضي الله ويخلص من خطاياه بأعمال يديه، فقدم «مِنْ أَثْمَارِ ٱلأَرْضِ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ» (تك 4: 3) ولكن الله رفض قربانه لأنه كان من عمل إنسان لوثته الخطية من باطن قدمه إلى هامته. وثالثها: أنه قدم قربانه من ثمار أرض لعنها الله بسبب خطية الإنسان (تك 3: 17).
ويسجل سفر التكوين هذا الرفض الإلهي لقربان قايين بالكلمات: «وَلٰكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تك 4: 5).
لقد كانت ديانة «قايين» ديانة شيطانية، ورغم غطاء الأعمال الصالحة الذي أراد «قايين» أن يستر به نفسه العارية، فقد انكشف الغطاء عن نفس مجرمة، إذ قام على أخيه هابيل وذبحه، وعن هذا يقول يوحنا الرسول «لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (1 يو 3: 12).
وهكذا يتبين لنا في وضوح وجلاء أنه منذ عهد آدم كان الخلاص بالدم، وإذ نسير مع تدرج التاريخ نرى الله يرسل أنبياءه لشعبه العظيم لكي يذكروا هذا الشعب بمجيء الفادي الكريم، بل نراه يأمر شعبه القديم بتقديم مختلف الذبائح والقرابين، وكل ذبيحة ترمز إلى ناحية من نواحي عمل المسيح الذي أتمه بموته على الصليب (إقرأ الأصحاحات الأولى من سفر اللاويين.
وقد كان مقدم «القربان» أو «الذبيحة» يضع يده على رأس المحرقة، كأنه يعلن أن خطاياه قد انتقلت إليها، وكان الكاهن يذبح الذبيحة ليؤكد لمقدمها أن «أجرة الخطية هي موت»، ثم يضع الذبيحة بعد ذبحها فوق الحطب الذي على نار المذبح ليؤكد لمقدمها أن الخطية أنتجت الموت الجسدي، والطرح في جهنم النار في ذات الوقت كما نقرأ في سفر رؤيا يوحنا: «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤ 20: 15) (اقرأ لاويين 1: 4 - 9).
وهكذا أعلن الله في كتابه الكريم أن المسيح سيولد من عذراء (إشعياء 7: 14)، وأنه سيولد في مدينة بيت لحم (ميخا 5: 2) وأنه سيموت مثقوب اليدين والرجلين على الصليب (مزمور 22: 16) وأنه سيُدفن في قبر رجل غني (إشعياء 53: 9)، وأن موته سيكون لحمل خطية كثيرين (إشعياء 53: 5 و6 و11 و12) وأنه سيقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (متى 12: 40 و16: 21).
وبهذه النبوات رسم الكتاب المقدس منذ القديم صورة مضيئة للمسيح صانع الفداء العظيم. هذا المسيح الذي به دخل المؤمنون إلى مكان راحتهم فلم يذهبوا إلى العذاب كما ظن مؤلف ذلك الكتاب. هذا المسيح الذي جعله الله «آية» إذ وُلد من عذراء لم يمسسها بشر، و «رحمة منه» إذ بموته رحم الله البشر الآثمين، وإلا فأي رحمة جاء بها المسيح لو لم يكن قد مات من أجل خطايانا على الصليب؟
هذا يأتي بنا إلى آخر أسئلة مؤلف كتاب: «كيف ولماذا؟» وهو يقول في هذا السؤال: ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة؟ أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر؟
ونجيب قائلين: إنه كان لا بد من الفداء للغفران، ليكون الله «باراً» و «يبرر» الذين يؤمنون! يقول دكتور توم مالون: «كيف يمكن لله أن يغفر خطايا الإنسان؟» لا بد أن يكون هناك أساساً للغفران.. إذا ارتكب صبي خطأ ما وأحضروه لأبيه، فإن الوالد الشرير الضعيف هو الذي يقول لابنه على غير أساس وبدون توقيع عقوبة عليه «حسناً يا ولدي، لا تفكر في هذا الأمر مرة ثانية، لقد سامحتك».
إن غفراناً من هذا الطراز لا بد أن يخرج للعالم جيلاً مستهتراً بكل مبادئ الأخلاق والقوانين.. لكننا الآن نقف أمام إله قدوس، قال عنه الكتاب المقدس: «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ» (حب 1: 13).
هنا الله القدوس... إله النور.. إله العدل.. الإله الكلي الطهارة وأمامه الإنسان الخاطئ، الفاسد، النجس، الضعيف. فكيف يمكن أن يتلاقى الله القدوس مع الإنسان النجس؟
أين الأساس الذي بموجبه يقول الله للإنسان: «مغفورة لك خطاياك»؟ كيف يكون الله «باراً» و «يبرر» في ذات الوقت الإنسان الشرير؟
دعني أصور لك الأمر، لنفرض أننا في قاعة المحكمة، وها هو مجرم جريمته القتل يقف في قفص الاتهام، وها هي هيئة المحكمة تدخل فيسود هدوء عجيب.. لكن أنظر ها هو القاضي يقول للمجرم الأثيم: «إننا نعلم أنك ارتكبت الجريمة، ولكننا سنغفر لك، هذه مشيئتنا ورغبتنا على غير أساس من القانون، فلا تعد تفكر في جريمتك على الإطلاق».
إن الحاضرين في المحكمة سيصرخون: أي قاضي مستهتر هذا القاضي الذي يغفر للقاتل على غير أساس للغفران؟ وأي مجتمع هذا الذي يفقد سطوة القانون؟
والآن ما هو الأساس الذي بموجبه يغفر الله خطايا الناس، وكلها أكبر من جريمة القتل لأنها موجهة ضد الله القدوس الخالق العظيم؟
هنا يشرح بولس الرسول بالروح القدس حكمة الله فيقول: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو 3: 21 - 26).
أجل لقد غفر الله للإنسان على أساس موت المسيح على الصليب حسب غنى نعمته «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7) وأمام عظمة هذا العمل الفدائي الإلهي هتف بولس الرسول قائلاً: «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ» (رو 11: 33).
«فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ ٱلْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ ٱلْفُهَمَاءِ. أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 1: 18 - 24).
أجل لقد ظهرت في فداء المسيح «قوة الله» المنتصرة على الشيطان (كولوسي 2: 14 و15). وكما ظهرت «حكمة الله» التي على أساسها أعطي للإنسان الغفران.
فالذبائح الدموية في العهد القديم لم تكن سوى رمز للذبيح الأعظم، لكنها في ذاتها لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هٰذَا (أي المسيح) فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (عب 10: 11 و12).
وقديماً قال داود وهو يترجى رحمة الله: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مز 51: 16) وكذلك قال المزمور التاسع والاربعون «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مز 49: 7 و8)، وقال ميخا النبي أيضاً: «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا 6: 6 و7).
ومن كل هذه الكلمات نرى أن الإنسان منذ القديم قد أدرك عجز الذبائح الحيوانية، وعجزه عن فداء نفسه إذ أن الحيوان مهما كانت فصيلته لا يمكن أن يعادل في قيمته الإنسان، كما أن الإنسان الخاطئ لا يقدر أن يفدي نفسه أو أن يفديه سواه من البشر الخطاة، ولذا تمنى الإنسان منذ القديم أن يجد المصالح الذي يصالحه مع الله، كما عبر أيوب وهو في عمق آلامه وبلواه قائلاً: «لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أي 9: 32 و33).
لقد تمنى أيوب أن يجد مصالحاً يضع يده على يده كإنسان، ويضع يده على يد الله كإله، أو في تعبير أدق تمنى أن يتجسد «الله» في صورة إنسان، لكي يصالحه مع نفسه.
وفي تجسد المسيح وموته على الصليب تمت المصالحة التي تمناها أيوب وهو يتكلم بلسان الإنسان الباحث عن الطريق إلى الله، كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ»(2 كو 5: 18 - 21). وكما قرر في رسالته إلى تيموثاوس قائلاً: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (1 تي 2: 5 و6).
ويقول دكتور كامبل مورجان أستاذ الكتاب المقدس: إن الكلمة اليونانية (Antiulutron) المترجمة إلى «فدية» لا توجد في كل العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفوق ذلك فإنها كلمة غير معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية، ويبدو لي أحياناً أن الروح القدس قد قاد بولس لصياغة كلمة جديدة باستخدامه لهذه الكلمة.
وعند فحص الكلمة «فدية» نرى أنها تشير إلى عمل بواسطته رفعت الخطية التي فصلت بين الله والإنسان بل إلى عمل رفع الإنسان من منطقة الوجود العقلي إلى منطقة الوجود الروحي، وهذا يعني أن المسيح قد أعاد بفدائه إمكانية الشركة المباشرة بين الله والناس، يجد أن الشر الذي أعمى عينيه، وأفقده الاحساس السليم بالله، قد أُزيل، وأن التعامل المباشر بينه وبين الله أصبح اختباراً عملياً في حياته، فنوال بركات الفداء مشروط بالتوبة الحقيقية عن الخطية، والإيمان القلبي الشخصي بيسوع المسيح «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أع 2: 38) وهذا الإيمان القلبي يحدث تغييراً حقيقياً في الحياة والاتجاهات كما قال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كو 5: 17).
ففداء المسيح لا يشجع الخاطئ على الاستمرار في خطاياه بل على العكس يغير حياته، ويعطيه قلباً جديداً يتجه إلى الله.
وإذا قال مؤلف كتاب كيف ولماذا؟ إن الصلب كان عملاً همجياً ووحشياً، أجبناه: أجل لقد كان كذلك من جانب الإنسان، الإنسان الذي ظهر في قمة شره يوم اختار باراباس اللص للحرية، وطلب من بيلاطس أن يصلب يسوع المسيح القدوس، ولقد كان المسيح له المجد قادراً على حماية نفسه والتنحي عن الصليب، لكنه ارتضى أن يموت طوعاً نيابة عن البشر، ولأنه خالق البشر بل خالق كل الأشياء ففي قدرته إذاً أن يفدي خليقته لأنه يزيد عنها قيمة لو وضعت أمامه في كفة الميزان، لذا كان في دمه الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال عنه يوحنا الرسول «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1يو 2: 2) أجل كان هو «الذبح العظيم» الذي فدى بدمه الإنسان.
وقد عرف الله مقدماً وحشية الإنسان وهمجيته، عرف «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك 6: 5) ولكنه حوّل بحكمته شر الإنسان وهمجيته لخير البشرية الرازحة تحت أثقال أوزارها كما قرر بطرس في كلماته القائلة: «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع 2: 23) وهذه هي الحكمة الإلهية التي أوضحها بولس بالكلمات: «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كو 1: 23 و24).
لقد سمح الله القادر على كل شيء للناس الضعفاء أن يكونوا المحكمة، والقاضي، والمحلفين، والنيابة، ومنفذي القانون، حتى ينفذوا في ابنه حكم الموت الذي كان لا بد أن ينفذ فيهم، وحتى يروا مدى فظاعة ما فعلته الخطية بهم إذ جعلتهم يصلبون ابن الله الذي أحسن إليهم، وذلك عندما يتأكدون من حقيقة الشخص الذي مات لأجلهم.
وفي القديم عامل أبناء يعقوب أخاهم يوسف بالشر فباعوه عبداً للتجار الاسماعيليين، الذين باعوه بدورهم إلى «فوطيفار» في مصر، ولكن الله حول شرهم لخير يوسف وخير الناس وخيرهم. ولما أتوا إليه بعد موت أبيه قائلين «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هٰكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! ٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلٰهِ أَبِيكَ... فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ ٱللّٰهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا ٱلْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تك 50: 16 - 20).
هكذا كان أيضاً في «صلب المسيح» قصد به صالبوه شراً، وقصد به الله فداء أبدياً، ولأن الفادي لا بد أن يكون إلهاً وإنساناً في وقت واحد لكي يتمم بحق عملية الفداء، إذ لا يعقل ولا يُستساغ أن يكون الحيوان أياً كان نوعه أو فصيلته فداء للإنسان، ولأن الفداء أمر حتمي لينال به الإنسان الغفران. فلهذا السبب يتحتم الإيمان بأن المسيح هو الله.
(3 ) السبب الثالث لحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله، هو حتمية إعلان الله عن ذاته للإنسان: من أول مبادئ علم اللاهوت، إن فكرة الإنسان عن الإله الذي يعبده تطبع أثرها العميق في حياته العملية، لأن الناس يتمثلون في حياتهم اليومية بالإله الذي يعبدونه كما قال كاتب المزمور في الكلمات: «لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟»إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا» (مز 115: 2 - 8).
لذا فمنذ البدء تاق الإنسان أن يرى الله وتجسد شوقه في كلمات قديسي القدم، فقال أيوب: «مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!» (أي 23: 3) وقال موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر 33: 18) وقال إشعياء: «لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ» (إش 64: 1) وقال فيلبس: «أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8).
وشوق الإنسان لرؤية الله ليس أمراً غريباً، فلقد خلق الله الإنسان على صورته، وقبل أن يسقط الإنسان في الخطية كانت له علاقة مباشرة مع الله، فلقد كان الله يأتي إليه في الجنة، ويبدو أن الإنسان في برارته قد رأى الله، فلما سقط أثرت الخطية في ذهنه، وتشوهت الصورة الحقيقية التي كانت في فكره عن الله، فكان لا بد أن يعمل الله شيئاً ليعيد صورته الصحيحة إلى ذهن الإنسان، وقديماً عبر المرنم العبري عن شوقه إلى الله بالكلمات: «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مز 42: 1).
وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ويقيناً أن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز 19: 1) لكن قدرة الله الظاهرة في الطبيعة تشعر الإنسان بتفاهته، بل تشعره ببعد الله عنه وعدم اهتمامه به كما عبر دواد عن ذلك بالكلمات «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مز 8: 3 و4).
إذاً فقد كان من المحتم أن يتجسد الله ليعلن للإنسان أنه قريب منه، ويظهر له عنايته به، ويؤكد له اهتمامه بدقائق حياته، ويشبع في ذات الوقت أشواق قلبه.
وتجسد الله كان دائماً هو رجاء الإنسان، فالوثنيون آمنوا بإمكان تجسد الله فقالوا عن بولس وبرنابا: «إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» (أع 14: 11).
واليهود آمنوا بإمكانية ظهور الله في الجسد فنحن نقرأ في سفر التكوين عن ظهور الرب لإبراهيم في الكلمات: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ» (تك 18: 1).
وكذلك نقرأ عن ظهور الله لمنوح وامرأته في صورة رجل في الكلمات: «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ» وبعد أن صعد الرجل في لهيب المذبح إلى السماء، أدرك منوح أن ذلك الرجل كان هو الله ظاهراً في صورة رجل فقال لامرأته «نمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قض 13: 10 و22).
وقد كتب الدكتور «أحمد زكي» في عدد ديسمبر سنة 1956 من مجلة الهلال في مقال بعنوان «الله والناس» هذه الكلمات:
«إن العامة تستجيب للأشياء بمقدار ما تحسها، وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة، ولو ملأ السماء والأرض.
وفي سبيل إيضاح المبهم، وتجسيد ما لا يتجسد، نسبت الأديان جميعاً إلى الله ما يأتلف والتجسيد، تقريباً لمعنى الله من أفهام العامة، والعامة بعد هم جمهور الناس في كل زمان، وإلى زماننا هذا.
وأعطى القرآن لله يداً:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (سورة الفتح 48: 10).
وأعطى القرآن لله وجهاً:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن 55: 26 و27).
وأعطى القرآن لله عيناً:
«قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (سورة طه 20: 36 - 39).
وما كان لله يد تأخذ وتعطي
وما كان لله وجه يبقى وقد فنيت الوجوه
وما كان لله عين ترى، ثم لا ترى
إنه التجسيد الذي لا بد منه» ا.ه
كانت الأم تعلم طفلها أن الله موجود في السماء، وذات يوم تطلع الصغير إلى السماء وبكى، فلما سألته أمه عن سر بكائه قال:
«أريد يا ماما أن يفتح الله السماء وينزل لكي أراه».
ولقد تجسد «الله» في المسيح لكي يعلن عن ذاته وصفاته للناس كما قال بولس «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1 تي 3: 16).
في كتاب ظهر سنة 1966 تهجم أحدهم على عقيدة التجسد فقال: «لو كان المسيح إلهاً حقاً لكان ظهور الله في تلك الصورة البشرية داعية إلى التشويش على التفكير الإنساني في سبيل التعرف على الله إذ أن الله بظهوره في تلك الصورة المجسدة قد أعلن ذاته، وكشف للناس عن وجهه، وصار قريباً مدانياً لهم، بعد أن ظل دهوراً طويلة، محجباً عنهم، في بهائه وجلاله، لا تناله الأبصار ولا تحتويه العقول!
فهذا الإعلان - في الواقع - فوق أنه داعية لشرود العقل، وتشتت الفكر في ذات الله - هو إعلان يقلل من شأن الله، وينقص قدره ويذهب بالكثير من جلاله وعظمته، وما تتلقى النفوس من مشاعر الولاء والخضوع لله الكبير المتعال. حين تنظر إليه من وراء حجاب!
فالنفس البشرية طلعة، تتوقد اشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لها المجهول، أو ظهر لها الغيب سكنت نزعاتها، وبردت أشواقها نحو هذا الشيء، الذي كانت تسعى إليه وتجد في البحث عنه!
«ولو ظهر الله للناس عياناً - على يقين استحالته - لسقطت هيبته من النفوس بعد حين، ولجاء اليوم الذي يصبح «الله» وهو يغدو ويروح بين الناس، كواحد من الناس!» ا.ه
وكلمات من هذا الطراز تصدق على البشر لكنها لا تصدق على الله، لان البشر تزداد هيبتهم حين يختفون وراء حجاب، وتسقط هيبتهم حين يندمجون بين الناس فتظهر عيوبهم وخطاياهم، أما الله جل وعلا فإن هيبته تزداد في أي صورة يظهر بها للناس ولذا فعندما جاء يهوذا التلميذ الخائن، والجند، والخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسين بمشاعل ومصابيح وسلاح للقبض على المسيح نقرأ حينئذ الكلمات «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى ٱلأَرْضِ» (يو 18: 4 - 6).
فهل رأيت متهماً يذهب الجنود للقبض عليه، فيتراجعون أمام بهاء مجده، ويسقطون أمام جلاله على الأرض؟
لقد حدثنا التاريخ عن القبض على نابليون، وعن موت الدكتاتور الإيطالي «موسوليني» الذي داسه شعبه بالأقدام... فلم نر جنوداً في مركز القوة يسقطون أمام واحد منهما على الأرض... لكن المسيح له المجد، أسقط ببهائه ومجد لاهوته الجنود الذين جاؤوا للقبض عليه، لكي يعلن لنا أنه سلم ذاته للموت ليس عجزاً منه بل طوعاً واختياراً لفدائنا.
وحجة القائل أن تجسد الله يسقط هيبته، حجة باطلة، فالناس سوف يقضون أبديتهم مع الله وفي رحابه، يرونه ويتحدثون إليه ويزدادون خشوعاً قدامه وإجلالاً لشخصه تبارك اسمه.
إن الطبيعة تعلمنا أنه من الممكن للأعلى أن ينزل إلى الأدنى، بينما يستحيل على الأدنى أن يرتقي من ذاته إلى الأعلى. يقول «م. ه. فنلي» في كتابه «منطق الإيمان» :«إننا نقسم العالم حولنا إلى ممالك ثلاث: المملكة المعدنية، والمملكة النباتية، والمملكة الحيوانية، والمعدني لن يرتقي ليدخل الممكلة النباتية، لكن النباتي ينحدر إلى المعدني ليستمد منه غذاءه كنبات.. والنباتي بدوره أيضاً لن يتعدى حدود مملكته إلى المملكة الحيوانية، ولكن الحيواني يتنازل فيجعل مما دونه طعاماً له فيصبح النباتي عندئذ جزءاً من نظام أعلى منه، هكذا الإنسان يقف متحيراً عاجزاً عن اكتشاف أسرار عالم الروح، إلا إذا نزل «الروحاني فأظهر نفسه للإنسان» وهذا تماماً ما فعله الله حينما تنازل وأظهر نفسه في شخص يسوع المسيح» .
وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس عن حقيقة تجسد الله في شخص المسيح الكريم.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 1 و14 و18).
وفي ذات الإنجيل يقول فيلبس للمسيح: «يا سيد أرنا الآب وكفانا» فيرد عليه قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو 14: 8 - 10).
ويكتب بولس الرسول إلى القديسين في كورنثوس قائلاً: «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ » (2 كو 4: 5 و6).
ومرة ثانية يكتب لهم: «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2 كو 5: 19).
إننا لا نستطيع أن نرى الله في وجه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، ولا نستطيع أن نرى الله في وجه موسى أو إشعياء.
لكننا نستطيع أن نرى الله في «وجه يسوع المسيح» كما قال بفمه المبارك «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 9).
منذ القديم سأل البشر: من هو الله؟
سألوا: هو هو إله قدوس؟
وجاء المسيح إلى أرضنا فرأينا في شخصه القدوس أن الله «قدوس» كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب 7: 26).
سألوا: هل الله قادر على كل شيء؟ هل يمكنه أن ينتصر على الطبيعة؟ والمرض؟ وأن يهزم الموت؟ وأن يحطم قوات الظلام؟
ورأينا المسيح يسكت البحر، ويشفي الأبرص، ويقيم لعازر من القبر، ويحرر الناس من سلطان الشيطان.
سألوا: هل يحب الله بني الإنسان؟
وجاء المسيح ليعلن لنا حب الله لبني الإنسان قائلاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو 3: 17 و18).
وهكذا رأينا الله في كل صفاته وسجاياه معلناً ذاته في شخص ابنه يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب 1: 1).
وهنا لا بد أن نقول أن هناك فرقاً كبيراً بين الإيمان بأن المسيح هو «الله» والإيمان بأن المسيح «شخص إلهي»، فالفرق بين «لاهوت المسيح Deity» وبين «إلهية المسيح Divinity» فرق كبير، فقد يكون المرء إلهياً دون أن يكون إلهاً. وسنوضح هذا حين نشرح الآيات الخاصة بلاهوت المسيح، لكننا هنا نكتفي بضرورة العناية باختيار ألفاظنا في الحديث عن المسيح في عالم امتلأ بالأفكار العصرية عن شخصه الكريم فالعصريون يؤمنون «بإلهية المسيح» بمعنى أنه «شخص إلهي» ولكنهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح بمعنى أنه «الابن» الذي ظهر في الجسد.
لقد سمى المسيح باسم «الكلمة Logos» والحديث عن هذا الاسم يحتاج إلى مجلدات لكننا نكتفي هنا بالقول بأن هذا الاسم «الكلمة» يعني:
(1) القوة الخالقة «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ» (مز 33: 6) «وَقَالَ ٱللّٰهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ» (تك 1: 3) ويعني (2) «الفكر أو العقل الإلهي» ويعني (3) القوة الحافظة والحاملة لهذا الوجود (عب 1: 3) ويعني (4) التعبير المفهوم عن الله لذهن الإنسان.
سأل شاب مستر جرينفيلد هذا السؤال: هل تقدر أن تفسر لي: لماذا سمي يسوع المسيح «الكلمة»؟
أجاب مستر جرينفيلد: «أعتقد أن الكلام واسطة التفاهم بين البشر، والمسيح هو «الكلمة» لأنه واسطة التفاهم بين الله والناس» (1 تي 2: 5).
هنا قد يعترض أحدهم بالقول: كيف تتصور أن يرضى الله بأن يتجسد في صورة الإنسان، وأن يسمح للناس أن يلطموه على وجهه، ويبصقوا عليه، ويجلدوه، ويصلبوه على صليب؟
وأقول: إن الله قد سمح للناس أن يفعلوا به كل هذا، ليظهر لهم مدى عمق الشر في قلوبهم.. هل يمكنك أن تتصور إنساناً يجول محسناً على الفقراء، شافياً المرضى، ماسحاً للدموع من عيون الحزانى، فاعلاً كل ما هو جليل وجميل. ثم يجتمع عليه الناس فيضربوه ويقتلونه.. بأي حكم تحكم على هؤلاء الناس، وأي تصور تراه للشر الأسود الجاثم في قلوبهم؟!!
هكذا جاء المسيح يطعم الجياع، ويشفي المرضى، ويقيم الموتى، فاختار الناس الحرية والحياة للص اسمه «باراباس» وقادوا المسيح إلى الموت على الصليب، وهكذا أظهر الله مدى ما فعلته الخطية بالناس إذ عضوا اليد التي أطعمتهم، وضربوا الفم الذي حدثهم بالخير والحق والجمال، وقتلوا ذاك الذي وهبهم الصحة والبركة والحياة.
لكن أحدهم قد يصيح قائلاً: كلا ما قتلوه! لقد قتلوا شخصاً شبيهاً به..: قتلوا يهوذا تلميذه الخائن الذي ألقى عليه الله شبه المسيح أما المسيح فقد نجا من موت الصليب.
ونرد على هذا الادعاء مستعينين بأفكار «م.ه. فنلي» مع ما كتبناه في مجلة الأخبار السارة سنة 1959 في هذا الموضوع فنقول:
(1) إنه من التجديف الصريح على الله أن نظن بأنه وهو الأمين المنزه عن الكذب قد خدع الناس، فغير شكل «يهوذا» إلى شكل المسيح، وبذلك غرر بملايين البشر على مدى القرون، الأمر الذي يقود الناس إلى الاعتقاد أن الله لن يعاقب الناس أيضاً على ما اقترفوه من خداع فقد سبقهم - حاشا جل شأنه - في عمل أكبر خدعة في التاريخ هي خدعة تغيير شكل يهوذا إلى شكل المسيح.
(2) لا يستسيغ العقل أن يقبل بأن أتباع المسيح وحوارييه قد رضوا بالموت في سبيله من أجل خدعة لا أصل لها في حقيقة الإيمان المسيحي، إذ أنهم كانون يموتون بالملايين ورجاءهم الوحيد هو إعلانهم الجهري بأن المسيح مات لأجلهم على الصليب.
(3) من المستحيل أن يكون الشخص الذي صُلب على الصليب شخصاً غير المسيح، فالأقوال السبعة التي نطق بها المصلوب تؤكد حقيقة شخصيته، ولا يعقل أن ينادي يهوذا الخائن الأثيم الله القدوس العظيم قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو 23: 34) فالتاريخ يسجل عن الذين ماتوا موت الصليب أنهم سمموا الهواء النقي بشتائمهم القذرة، وتجديفهم الشنيع، أما ذاك المصلوب فقد رددت الأرجاء صدى انتصاره الساحق في معركة الصليب حين قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو 19: 30)
وفي اللغة اليونانية الأصلية تتألف هذه العبارة من كلمة واحدة هي «تتلستي» وكانت كلمة شائعة الاستعمال في الحياة التجارية فعند تسديد «كمبيالة» لاستحقاق دفعها كان المستفيد يكتب على وجهها كلمة «تتلستي» التي تعني «سددت، انتهت، كملت، ألغيت» إذن فلم تكن صرخة المسيح وهو يصارع الموت اشتغاثة يائس تثير الشجن. استسلم بعدها إلى «إغماء» طويل كما يدعي العصريون بل بالحري كانت هتاف منتصر سدد مطاليب عدل الله ومحى صك الخطايا عن كل من يقبلوه، وإذن فلم يكن المصلوب يهوذا بل كان المسيح الفادي الكريم.
(4) إن العهد القديم سبق فأنبأ عن تسليم يهوذا للمسيح وعن مصيره الأبدي فقال: «فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ... َوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ... أَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ» (مز 109: 6 - 20 اقرأ أعمال 1: 16 - 20). وقال في موضع آخر، أيضاً: «رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ»(مز 41: 9) وقد تحدث المسيح عن يهوذا قبل أن يسلمه بقليل فقال: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت 26: 24).
(5) حضرت «مريم أم يسوع» ساعة الصلب وجاز في نفسها سيف الألم كما أنبأها «سمعان الشيخ» (لو 2: 25) فلو كان «يهوذا» هو الذي صُلب وشبه لليهود أنه المسيح إذن لأحس «قلب الأم» بهذه الحقيقة ولذهبت لتوها تخبر التلاميذ أن الذي على الصليب ليس هو ابنها يسوع المسيح.
(6) كان صلب المسيح موضوع النبوات، وقد تمت النبوات فيه فمن المستحيل أن يكون الذي صُلب هو يهوذا، فيهوذا لم يمت مصلوباً لكننا نقرأ عنه الكلمات: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ... ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ» (مت 27: 3 و5) فكيف يكون يهوذا قد مات مصلوباً، ومات مخنوقاً في ذات الوقت!؟
(7) تؤكد الظواهر التي حدثت في الطبيعة وقت صلب المسيح، بأن المصلوب لا يمكن أن يكون يهوذا، بل لم يكن مجرد إنسان لأنها ظواهر خارقة لم تحدث قط عند صلب إنسان، وقد سجلها متى بالكلمات: «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ ٱلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا. وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ. فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلّزَلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (مت 27: 45 - 54).
فهذه الظواهر الخارقة.. زلزلة الأرض.. تشقق الصخور.. شق حجاب الهيكل. لا يمكن أن تكون قد حدثت مصادفة، ولا يمكن أن تحدث عند موت إنسان مجرم أثيم كيهوذا.. وعلى هذا نؤكد بيقين بأن المصلوب كان المسيح «ابن الله».
(8) تؤكد ظهورات المسيح بعد القيامة أنه هو الذي صلب، إذ عندما شك توما في قيامته وقال للتلاميذ رفقائه: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو 20: 25)
جاء يسوع: «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو 20: 27 - 29).
ومع ظهور المسيح لتوما ولآخرين، ظهر كذلك «لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (1 كو 15: 6) مما يؤكد بما لا يعطي مجالاً للشك قيامته المجيدة.
هكذا يظهر لنا بيقين أن الذي صلب على الصليب لم يكن يهوذا الاسخريوطي التلميذ الخائن، الذي خنق نفسه على غصن شجرة فثقل جسمه عليه وسقط فانسكبت أحشاؤه كلها (أعمال 1: 18). ولم يكن أي شخص آخر ألقى الله عليه شبه المسيح بل أن الذي صلب حقاً ويقيناً كان هو المسيح، «ابن الله» الإعلان الكامل الذي أعلن فيه ذاته وحبه وقدرته للإنسان. وهكذا يتحتم علينا الإيمان بأن المسيح هو الله.
نرى لزاماً علينا بعد أن تحدثنا عن «حتمية الإيمان بأن المسيح هو الله» أن نفرد هذا الفصل للحديث عن الأسس التي بنينا عليها هذا الإيمان، والتي تضيف إلى ما تقدم أدلة جديدة لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها.
فنحن لا نؤمن بأن المسيح هو الله على أسس وراثية تناقلها الأبناء عن الآباء، لكننا نؤمن قلبياً بهذا الحق على أسس قوية مبنية أصلاً على إعلانات كلمة الله.
فإذا سألني واحد: لماذا نؤمن بأن المسيح هو الله؟ فإنني أجيبه على أسس من الحق الواضح المعلن في الكتاب المقدس.. وإليك هذه الأسس في وضوح صريح.
(1) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس ميلاده المعجزي من عذراء: لقد خلق الله آدم خلقاً مباشراً من تراب ونفخ فيه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية، تم أخذ ضلعاً من أضلاعه وبناها إمرأة وأحضرها إلى آدم، وكان السبب وراء خلقه المرأة من الرجل هو تأكيد «وحدة الجنس البشري» فالرجل والمرأة كلاهما من تراب لا فضل لأحدهما على الآخر من حيث المادة التي خلقها منها الله، فلم يكن خلق المرأة من الرجل لمجرد إثبات قدرة الله «فقد ثبتت هذه القدرة بخلق آدم من العدم والتراب» بل كان هذا الخلق لإثبات وحدة الإنسانية جمعاء.
أما ولادة «يسوع المسيح» من عذراء لم يمسسها بشر، فكانت معجزة فريدة قصد الله في حكمته أن تتم، لكي يولد المسيح إنساناً دون أن يرث خطية الإنسان.
وواضح أن كل البشر قد ورثوا الخطية لأنهم توارثوا دم آدم الذي أفسدته الخطية كما نقرأ في الكلمات «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو 5: 12). فالبشر جميعاً يحملون في عروقهم دم آدم الأثيم كما يقرر بولس الرسول في كلماته «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (أع 17: 26)، لقد كان آدم هو «نبع» النهر الذي جاء منه البشر. وما دام النبع قد تلوث بالخطية، فكل قطرة ماء تجري في النهر حملت جراثيم الخطية.
يقول «الدكتور M.R. Dehaan»: إن من الحقائق العلمية الثابتة أن الدم الذي ينتج في جسد الجنين ينتج عن طريق الأب، فالبويضة غير المخصبة لا يمكن أن تكون دماً لأن البويضة نفسها ليس بها من العناصر الضرورية ما يعدها لإنتاج الدم، بدليل أن بيضة الدجاجة غير المخصبة لا تخرج كتكوتاً. فالجنين لا يأخذ نقطة واحدة من دم الأم، فالأم تمد الجنين بالعناصر المغذية لبناء الجسم الصغير الذي تضمه أحشاؤها ولكن كل الدم الذي فيه قد نتج عن طريق الأب، فمنذ لحظة الحمل إلى لحظة الولادة لا تمر نقطة دم واحدة من الأم إلى الجنين، إذ أن كل عمل الأم هو إمداد الجنين بالمواد اللازمة لبناء جسمه مثل البروتينات، والكربوهيدرات، والأملاح، والمعادن، وهذه تمر بسهولة من الأم إلى الجنين، دون أن تعطي الأم للجنين نقطة دم واحدة. والدم موجود في الجنين ينتج داخله أصلاً من الأب كبذرة حياة، وكلما نما جسمه عن طريق الغذاء الذي تقدمه الأم ازداد الدم اللازم لذلك الجسم.
ولما كان المسيح له المجد قد تجسد في أحشاء عذراء لم تعرف رجلاً، فجسده البشري لم تجر في عروقه نقطة دم ملوثة بالاثم، لأنه لم يرث خطية آدم الساقط كما قرر يوحنا الرسول في الكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يو 3: 5) وكما قال بطرس الرسول وهو يؤكد نقاوة وطهارة دم المسيح في كلماته: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (1 بط 1: 18 - 20). ولهذا فإن دم المسيح الزكي الكريم يطهر الذين يؤمنون به من كل خطية. إن ولادة المسيح من عذراء كان غرضها الأساسي فداء الإنسان، ولأن الفداء لا يمكن أن يتممه سوى الله، فالمسيح إذاً هو «الله الابن» الذي أخذ صورة إنسان.
ولو كان المسيح مجرد إنسان فلماذا لم يولد كما يولد سائر البشر؟ لماذا لم يولد بالتناسل الطبيعي كما ولد إبراهيم وموسى وإيليا وإشعياء وسائر الرسل والأنبياء؟
لقد رنت أجراس النبوة منذ لحظة سقوط الإنسان مؤكدة ميلاد المسيح من عذراء، ففي سفر التكوين تحدث الله إلى الحية قائلاً: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك 3: 15) وفي سفر إشعياء أوضحت النبوة بما لا يعطي مجالاً للشك بأن المسيح سيولد من عذراء بالكلمات:«وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إش 7: 14).
والآن تعال معي لنقلب صفحات العهد الجديد ونقرأ القصة البسيطة الرائعة التي تحدثنا عن كيف تجسد «ابن الله» من فتاة عذراء. إن القصة مذكورة في إنجيل متى في هذه العبارات: «أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَكَانَتْ هٰكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً. وَلٰكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (مت 1: 18 - 23).
والقصة تحمل لنا أجمل الحقائق وأسماها، فملاك الرب قد أخبر يوسف أن الذي حُبل به في مريم العذارء هو من الروح القدس، فلم يمسسها بشر ولم تك بغياً، ويخبره بأن هذا الوليد سيدعى «يسوع» «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، ويسجل متى فكر الروح القدس عن ولادة المسيح المعجزية من مريم العذراء إنها إتماماً لنبوة سابقة هي نبوة إشعياء التي ذكرناها في بداية حديثنا، والتي سجلها إشعياء قبل ميلاد المسيح بحوالي سبعمئة سنة.. فالمسيح له المجد هو «عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا»ولذا قال عنه بولس الرسول: «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1 تي 3: 16). وقال مشيراً إلى عمله الفدائي وهو يخاطب قسوس كنيسة أفسس«احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28).
ويكشف «لوقا» النقاب عن بشارة جبرائيل الملاك لمريم العذارء بالكلمات: «وفي الشهر السادس (أي الشهر السادس لحمل أليصابات زوجة زكريا الكاهن بيوحنا المعمدان) «أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُّوَةِ عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ» (لوقا 1: 26 - 38).
هذه القصة الكاملة لولادة المسيح المعجزية، فلكي يحمي الله مريم العذراء من الموت رجماً كزانية حملت سفاحاً كما أمر الرب موسى بالكلمات: «إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَٱضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ وَٱرْجُمُوهُمَا بِٱلْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا» (تث 22: 23 و24). أعطى إعلاناً خاصاً في حلم لخطيبها يوسف ليأخذها زوجة، فتلد هذا الوليد العجيب في كنفه، وتحت اسمه، ولكنه من الجهة الأخرى أكد أن هذا الوليد ليس كسائر البشر، فهو «يسوع المخلص» وهو في ذات الوقت «ابن الله» وأكد الكتاب في كلمات صريحة بأن يوسف لم يمس مريم قبل أن تلد المسيح بالكلمات «فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع».
فأنا أومن بأن المسيح هو الله، على أساس ولادته المعجزية من عذراء، فهو لم يولد كما يولد سائر البشر بل هيأ الله له جسداً خاصاً كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين«لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عب 10: 5). ولم تكن ولادته بالجسد هي بداية حياته، فقد كان موجوداً منذ الأزل كما قال بفخه المبارك «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 8: 58) وكما تحدث عنه أجور ابن متقية في سفر أمثال قائلاً: «مَن صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ ٱلرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ ٱلْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟» (أم 30: 4) فهو «الله الابن» الأزلي الأبدي، الأول والآخر، البداية والنهاية.
(2) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس إعلانات الفلك والنجوم عن مجيئه: نقرأ في سفر التكوين الكلمات: «وَقَالَ ٱللّٰهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أَنْوَاراً فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ.فَعَمِلَ ٱللّٰهُ ٱلنُّورَيْنِ ٱلْعَظِيمَيْنِ: ٱلنُّورَ ٱلأَكْبَرَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، وَٱلنُّورَ ٱلأَصْغَرَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، وَٱلنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا ٱللّٰهُ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَلِتَحْكُمَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ» (تك 1: 14 - 18).
ويقول دكتور «Charles S. Bauer» إن الكلمة «آيات» المذكورة في النص جاءت في العبرية «othoth» التي معناها «الآتي» ولو أنك درست الأصل العبري للكلمة لرأيت أنها ترينا أن نجوم السماء عملت لكي تتحدث عن شخص آت. والكلمة «أوقات» تعني في العبرية «أوقات معينة» فهي تتحدث عن شخص سيأتي في وقت معين كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ» (غلا 4: 4) «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو 5: 6).
ولذا فليس بعجيب أن نقرأ عن مجيء المجوس من المشرق للسجود للمسيح الوليد كما سجل متى في إنجيله بالكلمات: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (مت 2: 1و2).
لقد رنم داود قديماً في مزموره قائلاً: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً» (مز 19: 1 و2) ومجد الله الذي تتحدث به السموات والفلك، ليس هو مجده في الخليقة فقط، بل مجده في الفداء أيضاً.
هناك اثنتي عشرة مجموعة من النجوم الثابتة في السماء تدور في منطقة البروج سأوردها بحسب ترتيبها الزمني:
إن هذه البروج تتحدث عن «قصة الفداء» فبرج العذراء يتحدث عن ميلاد المسيح من عذراء، وبرج الميزان يرينا أن البشر قد وزنوا بالموازين فوجدوا ناقصين، وبرج العقرب وقد ترجم في الإنجليزية Serpant أي الحية، يرينا الحية القديمة التي سممت حياة الإنسان بالخطية، وبرج القوس يرينا المسيح الظافر المنتصر الذي سحق رأس الحية بموته على الصليب، وبرج الجدي يتحدث عن ناحية من نواحي عمل المسيح على الصليب كما نقرأ في لاويين 9: 3، وبرج الدلو يتحدث عن المسيح ينبوع الماء الحي كما نقرأ في يوحنا 4: 14 و7: 37 - 39 ورؤ 22: 17، وبرج الحوت يرينا المسيح المدفون المقام من الأموات «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متى 12: 40) وبرج الحمل يرينا المسيح حمل الله الذي يرفع خطية العالم يو 1: 29، وبرج الثور يرينا المسيح ذبيحة الخطية كما نقرأ في لاويين 4: 13 - 15، وبرج الجوزاء أو التوأمان يرينا المسيح في يوم عرسه (رؤ 19: 7 - 9) كما يرينا إياه وقد صالح العبرانيين والأمم مع الله بالصليب (أفسس 2: 16)، وبرج السرطان يرينا الإنسان العتيق سرطان الجنس البشري الذي سيمحو الله ذكره من تحت السماء، وأخيراً برج الأسد الذي يرينا النصرة النهائية للمسيح كما نقرأ في الكلمات: «هُوَذَا قَدْ غَلَبَ ٱلأَسَدُ ٱلَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ ٱلسِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ ٱلسَّبْعَةَ» (رؤ 5: 5) وسيأتي اليوم القريب الذي نسمع فيه الهتاف الجميل«قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ ٱلْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 11: 15).
فإذا كانت النجوم في بروجها تتحدث عن المسيح، وداود يقول في المزمور: «السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» فالمسيح إذاً ليس مجرد إنسان، إنه الله الابن المسيطر على الكون «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب 1: 3) وعلى أساس إعلانات الفلك والنجوم عن المسيح فأنا أومن بأنه الله، فالفلك لم يتحدث قط بهذه الصورة الرائعة عن كائن من بني الإنسان.
(3) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حياته المنزهة عن الخطأ والمعصومة عن الزلل: يصف يوحنا الرسول المسيح بالكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يو 3: 5) ويصفه بطرس الرسول بالكلمات: «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1 بط 2: 21 و22) ويصفه بولس الرسول بالكلمات: «ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2 كو 5: 21).
فالمسيح ليس فيه خطية، ولم يفعل خطية. ولم يعرف خطية، لقد تسامى فوق البشر بخلو حياته من الخطأ - أي خطأ - واتصف بالصلاح المطلق، وليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله.
ذات يوم جاء شاب غني إليه وقال له: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ»(مت 19: 16 و17).
وكأن المسيح له المجد يقول لذلك الشاب: أتدعوني صالحاً بمقياس الصلاح البشري؟ أم تدعوني صالحاً بمقياس الصلاح الإلهي؟ وإذا كنت تقصد إنني صالح بمقياس الصلاح الإلهي فهذا يعني إنني الله، لأنه ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله، فإذا اعترفت بحق بصلاحي بالمقياس الإلهي وجب عليك أن تعترف بأنني الله.
أجل، كان المسيح صالحاً، منزهاً عن الخطأ، لأنه كان الله الابن المتجسد في صورة إنسان.
يقال إن الفضل ما شهدت به الأعداء، ولقد تحدى المسيح أعداءه علانية قائلاً: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو 8: 46) ولم يستطع أعداؤه أن يمسكوا عليه زلة، أو يجدوا في حياته شبه خطأ أو شر.
ودراسة دقيقة للأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ترينا القيمة العظمى لهذا التحدي من جانب المسيح، ففي بداية الأصحاح نقرأ: «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي ٱلصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱمْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي ٱلْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ ٱلْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هٰذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هٰذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (يو 8: 2 - 6).
كان المسيح مشغولاً بإشاعة النور، وكان الكتبة والفريسيون يقومون بتدبير المؤامرات في الظلام.
رجال دين.. ومتآمرون.. يا للتناقض.
أتوا إليه بامرأة أمسكوها وهي تزني في ذات الفعل، ومن عجب أنهم لم يحضروا شريكها في الجريمة مع أن الناموس يقول «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعاً مَعَ ٱمْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ ٱلاثْنَانِ: ٱلرَّجُلُ ٱلْمُضْطَجِعُ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ وَٱلْمَرْأَةُ» (تث 22: 22) ولكن هؤلاء الفريسيين لم يحضروا الرجل الشريك في الجريمة وهذا يؤكد أن قصدهم لم يكن الدفاع عن الناموس، بل الإيقاع بالمسيح «قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه» وكان الموقف دقيقاً فإذا قال المسيح ارجموها ظهر واضحاً أن لا فرق بينه وبين موسى... فبأي جديد أتى إليهم؟! وإذا قال لا ترجموها اتهموه بالحض على عصيان الناموس واشتكوا عليه... ولكن المسيح «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كو 2: 3) «وَأَمَّا يَسُوعُ فَٱنْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَلَمَّا ٱسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، ٱنْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ ٱنْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى ٱلأَرْضِ» .
هل انحنى في ذلك الوقت ليكتب خطاياهم ويصفها أمام عيونهم؟
ربما.. ولكن الأمر المؤكد نقرأه في الكلمات: «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ إِلَى ٱلآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَٱلْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي ٱلْوَسَطِ» (يو 8: 1 - 9).
لقد انسحب الكتبة والفريسيون الذين أحضروا المرأة الزانية، انسحبوا بعد أن أيقظ المسيح ضمائرهم بكلماته، وأظهر لهم خباياهم وخطاياهم، فهرب الفريسيون أمام نور عينيه - كدت أقول - أمام نار عينيه لأنهم كلهم في الموازيين إلى فوق.. لكنهم خطاة وأثمة.
«وبقي يسوع وحده مع المرأة».
أجل بقي وحده لأنه القدوس المنزه عن الخطأ.
بقي وحده لأنه وحده له حق الدينونة والقضاء.
وغفر للمرأة الساقطة، واهباً إياها قوة لحياة الطهر والنقاء.
هذه هي بداية الأصحاح، ونرى هناك كيف أعلن المسيح للكتبة والفريسيين شر قلوبهم، وإذ نستمر إلى قلب الأصحاح نسمع كلمات المسيح لليهود «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ ٱلْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو 8: 44 - 46). وكأن الروح القدس وهو يضع هذه الآية في هذا المكان أراد أن يقارن بين المخلوقات الساقطة والإله القدوس، بين الذين لوثتهم الخطية، وذاك الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين إنه «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب 7: 26) بين المسيح، وبين خلائقه.
وكأن المسيح يقول في هذه المقارنة: ها أنا قد كشفت لأفضل من فيكم من المتدينين، للكتبة والفريسين شر حياتهم فهربوا أمام نور عينيّ.. لكن «من منكم يبكتني على خطية؟».. من منكم يستطيع أن يذكر لي زلة؟ أو هفوة أو كلمة نابية؟ أو نظرة دنسة؟ أو موقفاً ضعيفاً؟ «من منكم يبكتني على خطية؟».
وأمام طهارة حياة المسيح جملتها وتفصيلها.. في ظاهرها وباطنها.. أمام عصمة المسيح عن الزلل.. أمام نقاوة المسيح في ذاته وتصرفاته، يرى أعظم الأنبياء والقديسين نفسه بأنه قزم أمام عملاق.. فليس بين الأنبياء من خلت حياته من الخطأ والزلل، وليس بين القديسين من لم تزل قدمه ذات يوم كما قرر إشعياء النبي بكلماته «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 6).
أما المسيح فهو يقف فريداً في نقاوة حياته ولذا فقد شهد عنه بيلاطس الوالي الروماني قائلاً: «لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يو 18: 38).
وقال عنه قائد المئة الذي أشرف على صلبه «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!» (لو 23: 47).
وعلى أساس حياته الخالية من الخطأ والمعصومة من الزلل نقرر في يقين أنه «ابن الله» أنه «الله أُظهر في الجسد».
(4) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس علمه بكل شيء: يتميز الله عن سائر مخلوقاته بثلاث صفات هي: «العلم بكل شيء»... «القدرة على كل شيء»...«الحضور في كل مكان».. ولذا فنحن نراه يتحدى الناس في سفر إشعياء بالكلمات: «مَا هِيَ ٱلأَوَّلِيَّاتُ؟ أَخْبِرُوا فَنَجْعَلَ عَلَيْهَا قُلُوبَنَا وَنَعْرِفَ آخِرَتَهَا، أَوْ أَعْلِمُونَا ٱلْمُسْتَقْبِلاَتِ. أَخْبِرُوا بِٱلآتِيَاتِ فِيمَا بَعْدُ فَنَعْرِفَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ» (إش 41: 22 و23).
وكأن الله جل شأنه يقول: إن دليل الألوهية هو العلم بكل شيء، بالأوليات والمستقبلات، والعهد الجديد يرينا أن المسيح له المجد عالم بكل شيء.
فقد علم كل شيء عن الإنسان: وهذا واضح في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يو 2: 23 - 25).
وقد علم كل شيء عن نثنائيل: والقصة مذكورة في إنجيل يوحنا الأصحاح الأول بالكلمات: «فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ. فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ. وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ. قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ. فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يو 1: 45 - 49).
هل كان نثنائيل تحت التينة يصلي بعيداً عن عيون الناس فأدهشه أن عرف المسيح سره؟ أو هل كانت هناك ذكريات خاصة بطفولة نثنائيل كان مكانها تحت التينة، فلما أعلن المسيح معرفته بها صاح نثنائيل «يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل».
إن ما يهمنا هو أن المسيح قد رأى نثنائيل تحت التينة، وأن هذه المعرفة العجيبة دفعت نثنائيل للاعتراف بأن المسيح هو «ابن الله».
وقد علم كل شيء عن المرأة السامرية: قابل المسيح هذه المرأة عند بئر يعقوب وبدأ معها الحديث قائلاً: «أعطيني لأشرب» (يو 4: 7) فقالت له المرأة السامرية «كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية لان اليهود لا يعاملون السامريين».
وفجأة أصبح طالب الماء هو نفسه معطي الماء الحي إذ قال المسيح للمرأة: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً. قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» (يو 4: 10 - 12).
أجل إنّ يسوع أعظم من يعقوب.. لأن يعقوب أعطاهم بئر ماء عادي ككل الآبار، لكن يسوع له المجد يعطي من يأتي إليه ماء حياً لا يستطيع نبع أرضي أن يخرج مثله، ولذا فقد أجابها قائلاً: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 13 و14).
ودفعت كلماته المرأة إلى طلب هذا الماء العجيب، ولكنها بعقلها المادي المغلف بضباب الجهل ظنت أنه مجرد نوع جديد من المياه فقالت: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا» (يو 4: 15 و16).
ورأت المرأة نفسها في موقف حرج، فهي امرأة ذات ماض، وهذا اليهودي الغريب الذي يتحدث إليها يقترب من كشف النقاب عن ماضيها الأسود الأثيم الأليم.. وأرادت أن تهرب من نظرات عينيه الفاحصتين، وأن تنهي حديثها معه فقالت له: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ» (يو 4: 17).
وعندئذ أعلن لها المسيح علمه بكل شيء، وفي أسلوب رقيق كشف لها عن ماضيها دون أن يجرحها فقال لها: «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ» (يو 4: 18).
وأحنت المرأة رأسها فلا سبيل للإنكار أمام عيني فاحص القلوب والكلى، وأجدى من الإنكار الاعتراف الصادق في هذا المقام ولذا قالت المرأة «يا سيد أرى أنك نبي»وكأنها تقول له: «أنت تعلم كل شيء عني.. أنت تعرف آثامي وآلامي.. أنت نبي» لقد ظنت في جهلها أنه مجرد نبي، ولكن المسيح أعلن لها أنه «مسيا» وهو الاسم اليوناني للمسيح الذي ينتظره العبرانيون لأن «المسيح» هو الاسم العبراني «للمسيا» ولقد ذهبت المرأة بعد هذه المقابلة تنادي لأهل مدينتها: «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟» (يو 4: 29). ولما أثارت فضولهم وأتوا إْيه واستمعوا إلى حديثه «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ... وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ» ( يو 4: 39 و42).
وقد علم المسيح بموت لعازر وهو بعيد عنه: أرسلت الأختان مرثا ومريم رسالة عاجلة إلى المسيح قالتا فيها: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو 11: 3). «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو 11: 4 - 6).
هل مررت في اختبار كهذا؟ هل وقعت في ضيقة أردت منها مخرجاً شريعاً فأرسلت إلى الرب صلاة تلغرافية تخبره فيها بمحنتك وحاجتك للمعونة، وإذ بالرب يتأنى عليك ويتأخر - في تقديرك - في المجيء لمعونتك؟ إن محنتك في هذه الحالة ليست الدمار إنها لمجد الله، ليتمجد ابن الله بها.. أجل فالمجد الذي يعود إلى الله يشاركه فيه ابنه الوحيد، فهو واحد مع الآب.
بعد ذلك قال المسيح لتلاميذه: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ» (يو 11: 11 - 14).
مات.. وكيف عرفت يا سيد؟
وكأنني أسمع الرب يجيب تلاميذه بالكلمات: أنا موجود هناك، كما أنا موجود معكم، أنا مع الأختين الحزينتين الباكيتين كما أنا معكم يا تلاميذي.. «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا» (يو 11: 14 و15). قال هذا لانه علم مسبقاً أنه سيقيم لعازر من قبره. لقد عرف المسيح بموت لعازر دون أن يخبره أحد، لأنه الله الموجود في كل مكان، العالم بكل شيء.
وقد علم المسيح بكل ما سيحدث له من آلام وأعلن كذلك قيامته نقرأ في إنجيل يوحنا هذه الكلمات: «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآبِ» (يو 13: 1) ونقرأ أيضاً: «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يو 18: 4).
لم يأخذه أحد على غرة.
- لقد عرف أن يهوذا التلميذ الخائن سيسلمه، لذلك قال لتلاميذه «أَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذٰلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو 13: 10 و11).
- وعرف أنه سيذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم، وقد جاء إعلانه عن علمه بما سيأتي عليه من آلام بعد أن اعترف بطرس بلاهوته بكلماته الصريحة «أنت هو المسيح ابن الله الحي» وهنا نقرأ الكلمات: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ (أي بعد أن أعلن الآب لاهوت ابنه لبطرس) ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى 16: 16 - 21). أجل علم المسيح بكل ما سيأتي عليه من آلام وأخبر تلاميذه بما سيحدث له قبل حدوثه، كما أعلن معرفته بقيامته.
وقد علم المسيح أن الحواري بطرس سينكره وهذا ما نقرأه في إنجيل متى بالكلمات «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» (مت 26: 31 - 35).
وقد صدقت النبوءة وأنكر بطرس المسيح، وها نحن نقرأ عن إنكاره هذه الكلمات: «وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ ٱلْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَٱبْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ ٱلدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً»(مت 26: 73 - 75).
وقد علم المسيح بكل حوادث الضيقة العظيمة التي تسبق مجيئه مع قديسيه إلى هذه الأرض: وقد شرحها في إنجيل متى الأصحاح الرابع والعشرين، كما تحدث عنها لعبده يوحنا في سفر الرؤيا بتفصيل يذهل العقل.
ويكفي هنا أن نذكر كلمات قليلة من حديثه تاركين لمن يريد التوسع العودة إلى الكتاب المقدس لدراسة هذه التفاصيل لنفسه فقد قال بفمه المبارك «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُّوَاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُّوَةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (مت 24: 29 و30).
أجل إن المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد لأنه عالم بكل شيء، وأمام علمه نقول مع داود: «عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا» (مز 139: 6). وقد اعترف بطرس بعلم المسيح بكل شيء في هذه الكلمات: «فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ خِرَافِي. قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ غَنَمِي. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱرْعَ غَنَمِي» (يو 21: 15 - 17). وكأننا نسمع بطرس يقول بهذا الاعتراف الواضح: أيمكن أن تُخفى عليك عواطف قلبي؟ أنت تعلم كل شيء.. أنت تعرف كل شيء.. أنت «الله» فاحص القلوب والكلى.
وهذا ما نقرأه في سفر رؤيا يوحنا في الكلمات: «فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ ٱلْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبَ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ» (رؤيا 2: 23).
وأمام علم المسيح بكل شيء أومن بأن المسيح هو «الله».
(5) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان: يترنم داود لله في المزمور قائلاً: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (مز 139: 7 - 10).
فمن صفات الله: الوجود في كل مكان، والمسيح قد أعلن بكلمات صريحة عن وجوده في كل مكان ولذا فأنا أومن أنه الله.
بعد أن خاطب بولس قسوس كنيسة أفسس قائلاً: «ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ. وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ... وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى. وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً» (أع 20: 23 - 38).
لقد عرف قسوس كنيسة أفسس أنهم لن يحظوا بحضور بولس معهم مرة أخرى.. لن يستمعوا إلى تعاليمه الثمينة.. لن يأخذوا منه هبة روحية لثباتهم.. فبكوا.. عرفوا أن الموت سينهي خدمة هذا الرسول العظيم.
وفي الرسالة إلى القديسين في فيلبي، وهي الرسالة التي كتبها بولس في أخريات أيامه نقرأ كلماته: «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ: لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في 1: 21 - 24).
وكأن بولس يقول بكلماته هذه: أنا لا يمكنني أن أكون في السماء وفي الأرض، لا أستطيع أن أخدمكم بعد أن أذهب لأكون مع الرب.. لن يكون في مقدوري أن أكون واسطة تقدمكم وفرحكم في الإيمان وأنا موجود مع المسيح في المجد «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في 1: 24).
وها هو بطرس الرسول يعلن ذات الموقف بكلماته: «وَلٰكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقّاً مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ، عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً. فَأَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ» (2 بط 1: 13 - 15).
فبطرس أعلن أنه طالما كان موجوداً في الجسد على الأرض فواجبه أن ينهض القديسين بالتذكرة.. وأعلن أن خلع جسده صار قريباً، وأوصاهم أن يتذكروا كلماته، فلن يكون في مقدوره الاتصال بهم بعد أن يخلع مسكنه.
فالأنبياء والرسل والقديسون كلهم مضوا.. وأنهى الموت خدمتهم وعلاقتهم بالأرض وسكانها.
أما الرب يسوع المسيح فهو الموجود في كل مكان.
- إنه قد وعد تلاميذه قائلاً: «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (مت 18: 20).
- وقال لتلاميذه القديسين: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (مت 28: 19 و20).
- وقال لنيقوديموس: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو 3: 13).
ولقد أكدت كل الحوادث أن مواعيد الرب يسوع المسيح أمينة وصادقة. ففي إنجيل يوحنا نرى الرب وهو يؤكد لتلاميذه حقيقة حضوره الدائم معهم في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَّوَلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ» (يو 20: 19).
لقد كان التلاميذ في خوف من اليهود ولذلك أغلقوا الأبواب والنوافذ.. فمن أين دخل المسيح؟
لقد دخل ورفع يديه وآثار الجروح فيهما وقال: «سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو 20: 19 - 23).
«أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱلآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ» (يو 20: 24 و25).
ويمكنني أن أتصور توما وهو يقول متعجباً: رأيتم الرب؟ وكيف دخل الرب إلى هنا؟.. الأبواب مغلقة.. ولا فتحة واحدة في المكان يمكنه الدخول منها؟!
ويرد التلاميذ قائلين: «دخل ورأيناه.. أرانا يديه وجنبه وسمعنا صوته.. قال لنا: سلام لكم.. وأرسلنا لتبشير العالم الهالك الأثيم.. توما ليتك كنت معنا».
ويرد توما وهو يهز رأسه قائلاً: كلا إن عقلي ليس على غرار عقولكم.. أنتم أصحاب عقليات تتأثر بسرعة.. أكاد أقول إنها عقليات ضعيفة.. أنتم غلبتكم العاطفة فتصورتم في أوهامكم أنكم رأيتم الرب.. أما أنا فإنني رجل واقعي مثقف «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو 20: 25).
وكان المسيح موجوداً عندما تحدث توما بكلماته إلى رفاقه، وسمع كل ما قاله توما، ولو أن توما لم يره بعينيه.
«وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يو 20: 26 و27).
وامتلأ توما وباقي التلاميذ عجباً. هل كان الرب معهم حين نطق توما بكلماته؟ كيف سمع كلماته بالحرف الواحد.. وكيف جاء ليلبي مطاليب عقله؟
:وأشرق النور على قلب توما وهتف قائلاً «ربي وإلهي».
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو 20: 29).
أجل إن الرب يسوع المسيح موجود في كل مكان. وهو رفيق رحلة الحياة لكل مؤمن، ولقد كان الإحساس بحضوره الدائم هو سر سلام القديسين ونصرتهم.. إصغ إلى كلمات بولس وهو يكتب لتلميذه الحبيب تيموثاوس قائلاً: «فِي ٱحْتِجَاجِي ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَّوَانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي ٱلْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ ٱلأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي ٱلرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ ٱلسَّمَاوِيِّ. ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ» (2 تيمو 4: 16 - 18).
أجل إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان، وهذه صفة لا تتوفر لأحد من البشر.. إنها صفة من صفات الله.
(6) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قدرته الشخصية لعمل المعجزات: المعجزة ضرورة لإثبات النبوة، وهذا واضح من الكلمات: «فَأَجَابَ مُوسَى: وَلٰكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ ٱلرَّبُّ. فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: مَا هٰذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصاً. فَقَالَ: ٱطْرَحْهَا إِلَى ٱلأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى ٱلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً، فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا (فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ، فَصَارَتْ عَصاً فِي يَدِهِ) لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ آبَائِهِمْ، إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ أَيْضاً: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ ٱلثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُدَّ يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ (فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ، وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) فَيَكُونُ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ ٱلآيَةِ ٱلأُولَى، أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ صَوْتَ ٱلآيَةِ ٱلأَخِيرَةِ» (خر 4: 1 - 8).
والكلمات ترينا أن موسى خشي أن لا يصدقه شعبه حين يدعي النبوة. فأيده الله بالمعجزات لتكون دليلاً حياً على صدق نبوته.
وكل نبي أرسله الله إلى هذه الأرض أجرى معجزات، لكنه لم يفعلها بقوته الشخصية بل بقوة الله، أما المسيح له المجد فقد أجرى المعجزات بقوة لاهوته لأنه ابن الله والله الابن.
لقد أظهر سلطانه الإلهي على الطبيعة: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن الملكة فيكتوريا التي اشتهرت بتقواها ومحبتها لكلمة الله، وكانت تلقب باسم «ملكة انكلترة وأمبراطورة ما وراء البحار» إنها كانت ذات يوم واقفة على شاطئ البحر وإذ بموجة شديدة تبلل ثيابها بالماء، وهنا نظرت الأمبراطورة إلى البحر الهائج وقالت: اسكت ابكم.. ولكن البحر زاد هياجاً وجاءت موجة شديدة أخرى وبللتها بكيفية أشد. وهنا ابتسمت الملكة وقالت: «يسمونني أمبراطورة ما وراء البحار وها أنذا آمر البحر فلا يطيعني... شخص واحد فقط هو ملك الملوك ورب الأرباب هو الرب يسوع المسيح الذي أمر البحر فأطاعه».
ذات يوم قال المسيح لتلاميذه «وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ». فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً» (مر 4: 35 - 38).
لماذا لم يوقظ التلاميذ المسيح قبل أن تمتلئ السفينة بالماء؟ لعلهم ظنوا أنهم يستطيعون بمجهودهم أن يقوموا بعمل يجعل السفينة في أمان، ويتركوه نائماً في هدوء! ولكن عبثاً تحاول أن تحل مشاكلك بدون المسيح. إنك حينئذ تزيدها تعقيداً.
وتحت ضغط الريح العاصفة، والأمواج التي تضرب إلى السفينة اضطر التلاميذ أن يلجأوا إلى المسيح فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك؟
فقام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت. ابكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم.
وفي عتاب لطيف قال المسيح لتلاميذه: «ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟ فخافوا خوفاً عظيماً وقال بعضهم لبعض من هو هذا؟ فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه».
إن ذاك الذي أسكت البحر، هو نفسه الرب الذي سأل أيوب قديماً قائلاً: «وَمَنْ حَجَزَ ٱلْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ ٱنْدَفَقَ فَخَرَجَ مِنَ ٱلرَّحِمِ. إِذْ جَعَلْتُ ٱلسَّحَابَ لِبَاسَهُ وَٱلضَّبَابَ قِمَاطَهُ وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ، وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟» (أي 38: 8 - 11).
ولما نتابع معجزات المسيح في إنجيل يوحنا، نجدها معجزات لا يرقى الشك إليها. لقد أزعجنا العصريون الذين يشكون في صدق الكتاب المقدس، بادعائهم القائل: إن المسيح كان شخصاً عبقرياً، وكان يتميز بشخصية مغناطسية، وأنه بالقوة المغناطسية التي امتلكها أثر في المفلوجين المرضى بالشلل النفسي، فأعاد إليهم الثقة بأنفسهم، وهكذا أعطاهم القدرة على العودة لممارسة حياتهم الطبيعية من جديد.
ولكن المعجزات التي سجلها إنجيل يوحنا كانت فوق العبقرية، كانت فوق القوى المغناطسية. كانت فوق القدرة العقلية. كانت فوق الإيحاء وكل أساليب علم النفس في العلاج. كانت معجزات إلهية في كل ما أحاط بها، وفي كل تفاصيلها.
فقد أظهر المسيح فيها قدرته على شفاء المرضى حتى دون أن يرى المريض: ذات يوم جاء يسوع إلى قانا الجليل «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» (يو 4: 46 - 48).
ويتوسل الرجل إلى المسيح قائلاً: «يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي» (يو 4: 49) وعندئذ ينطق المسيح بعبارة قصيرة تعلن عن الاهوته وقدرته فيقول لخادم الملك: «اذهب. ابنك حي».
«فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ» (يو 4: 50).
ويبدو أن إيمانه كان عظيماً لدرجة أنه لم يسرع إلى بيته في ذلك اليوم، إذ تيقن أن ابنه قد دبت فيه الصحة من جديد، وأنه لا داعي للإسراع لرؤيته، ولذا قضى يومه في قانا الجليل لعله قضاه في زيارة أصدقائه.
«وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى. فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ» (يو 4: 50 - 53).
لقد شفى المسيح ابن خادم الملك بكلمة من فمه، ودون أن يراه فلم يكن هناك أي مجال لممارسة قواه المغناطسية كما يدعي العصريون، بل كانت المعجزة دليلاً ناطقاً على قدرته الإلهية، ولذا آمن خادم الملك وبيته كله.
وأظهر قدرته على شفاء الأمراض المستعصية: فهناك «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ ٱلضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِٱلْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هٰذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ ٱلْمَاءِ. لأَنَّ مَلاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي ٱلْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ ٱلْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَّوَلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ ٱلْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ ٱعْتَرَاهُ. وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً» (يو 5: 2 - 5).
هذا عمر طويل قضاه الرجل في مرض استعصى على الطب أن يجد له علاج.
«هٰذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» وقد يبدو السؤال غريباً، لكن الغرابة تزول لو علمت أن هناك مرضى لا يريدون أن يبرأوا، لأنهم يجدون متعة في مرضهم.. متعة عطف الناس عليهم.. متعة عناية الناس بهم.. أو متعة لفت الأنظار إليهم.
لكن هذا الرجل كان يرغب في الشفاء. غير أنه لم يجد من يلقيه في البركة متى تحرك الماء ولذا قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي ٱلْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ ٱلْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».
وهنا قال له الرب القادر على كل شيء: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. ٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ فَحَالاً بَرِئَ ٱلإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى».
كان في قدرة المسيح أن يشفي رجلاً مصاباً بالشلل بعد ثمان وثلاثين سنة قضاها في العجز والمرض.
وأطعم الجماهير الغفيرة من خمسة أرغفة وسمكتين: «بَعْدَ هٰذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ ٱلَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي ٱلْمَرْضَى» (يو 6: 1 و2).
لقد خرجت الجماهير وراء المسيح وحيثما يوجد فهو يجذب الجماهير إليه.. إن في المسيح جاذبية عجيبة لا يستطيع إنسان أن يتجاهلها.. الملحدون يعرفون جاذبيته، والمؤمنون يختبرون هذه الجاذبية. إنه لا مفر لك من مواجهة المسيح.
«فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هٰؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هٰذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ» (يو 6: 5 و6).
وجلس فيلبس يعمل عملية حسابية ليقدر تكاليف إطعام هذا الجمع الغفير، ثم أجاب «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً» (يو 6: 7).
وهنا تقدم واحد من تلاميذه وهو اندراوس وقال: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلٰكِنْ مَا هٰذَا لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ؟» (يو 6: 9).
وقد كتب القس «هنري هوايتمان» الانجليزي تعليقاً على هذه المعجزة فقال: «إن رجل القرن العشرين يستطيع أن يطوف بالكرة الأرضية. ويقتل الناس الذين يعيشون على بعد أميال منه، ويزن الكواكب ويحدد أماكنها، ويخرج البترول من باطن الأرض، ويطبع ملاين النسخ من الصحف اليومية، ويجعل الدجاجة تبيض 365 بيضة في السنة، ويجعل الكلاب تدخن «البيبة» وكلب البحر يلعب بكرة الماء. وهذا الرجل العجيب إذا رأى خمسة أرغفة وسمكتين، وخمسة جياع وطفلين فقيرين فإنه يعقد مؤتمراً ويشكل لجنة كبرى وبعض اللجان الصغيرة، ويدعو إلى عملية انتخابات حرة. ثم يصرخ بأعلى صوته أن هناك أزمة شديدة تواجهه، وهو يضع تعليمات لا حصر لها ثم يبتعد تاركاً الأشخاص الخمسة والطفلين جياعاً كما كانوا قبل تأليف المؤتمر واللجان» .
هذا هو رجل القرن العشرين بكل قدراته، وعلمه واكتشافاته واختراعاته، أعجز من أن يقابل أزمة الجوع في عالم اليوم ويصرخ بأعلى صوته من مشكلة «الانفجار السكاني».
أما الرب يسوع فقد قال لتلاميذه «ٱجْعَلُوا ٱلنَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي ٱلْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَٱتَّكَأَ ٱلرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. وَأَخَذَ يَسُوعُ ٱلأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَّزَعَ عَلَى ٱلتَّلاَمِيذِ، وَٱلتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا ٱلْمُتَّكِئِينَ. وَكَذٰلِكَ مِنَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱجْمَعُوا ٱلْكِسَرَ ٱلْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ. فَجَمَعُوا وَمَلأُوا ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ ٱلْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ ٱلشَّعِيرِ ٱلَّتِي فَضَلَتْ عَنِ ٱلآكِلِينَ» (يو 6: 10 - 13).
لقد كانت القفف المملؤءة من الكسر الفاضلة، دليلاً ملموساً على شبع الجماهير، وعلى قدرة المسيح الإلهية لإشباعها.
فليقل لنا العصريون.. أي دخل للعبقرية في هذه المعجزة؟ وأي دخل للقوة المغناطسية؟ وأي دخل للقدرة الإيحائية؟ وليكفوا عن ترهاتهم، ويعترفوا أن المسيح هو الله القادر على كل شيء.
وفتح المسيح عيني إنسان مولود أعمى: وهذه المعجزة تتحدى العلم، وتخرس العصريين المتبجحين، فهي معجزة خلق ليس في مقدور إنسان بشري أن يأتي بمثلها يسجلها يوحنا بالكلمات: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يو 9: 1 و2).
ويمكننا القول بأن سؤال التلاميذ كان مبنياً على عدة أفكار:
أولاً: فكرة تناسخ الأرواح، ويبدو أنها وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت.
ثانياً: الفكرة القائلة بأن أرواح البشر كانت موجودة قبل حلولها في أجساد أصحابها، وأنها ارتكبت حينئذ بعض الأخطاء وهي فكرة تغلغلت في كتابات الرابيين.
ثالثاً: هي ما فهموه من أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء (خر 20: 5).
رابعاً: الاعتقاد السائد عند الكثيرين بأن المرض والخطية صنوان لا يفترقان.
لكن المسيح أجاب إجابة تنفي كل هذه الأفكار فقال: «لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (يو 9: 3). وتعني كلماته أن خطية هذا الإنسان أو أبويه لا تزيد عن خطايا الآخرين، وأنه وُلد أعمى لتظهر أعمال الله فيه.
نعم ففي أقسى التجارب نستطيع أن نرى يد الله العاملة لخير البشر وبركة نفوسهم.
وكلمات المسيح التي قال فيها: « لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» تؤكد لنا لاهوته إذ الواقع أنه قد أظهر «أعمال الله» في ذلك الأعمى بإعادة البصر إليه، بل بأن خلق له من الطين عينين جديدتين.
وتابع يوحنا سرد تفاصيل المعجزة بالكلمات: «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى» (يو 9: 6).
ولو أن هناك إنساناً بصيراً طليت عينيه بالطين لكان معرضاً أن يصاب بالعمى ولكن المسيح طلى عيني الأعمى، ومن ذلك الطين عمل للأعمى عينين جديدتين أليس هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفساً حية؟
«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو 1: 3).
ولقد أمر المسيح ذلك الأعمى قائلاً: «ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً» (يو 9: 7).
ولما حاول الفريسيون أن يسلبوا من هذا الرجل إيمانه بمن أعاد له نور بصره قالوا له: «أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ. فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ... فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (يو 9: 24 - 34).
ولما أخرجوه خارجاً.. لم يتركه يسوع وحده.
«فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ» (يو 9: 35 - 37).
وهكذا أعلن الرب حقيقة شخصه لذلك الرجل، الذي أعاد له بقدرة لاهوته نور عينيه.
وأقام المسيح ميتاً بعد أن أنتن: وهذه المعجزة تتحدى بصورة قاطعة كل منكر للاهوت المسيح، فالإنسان مع ما بلغه من تقدم في العلم في هذا القرن العشرين ما زال عاجزاً عن أن يقيم ميت بعد أربع ساعات من وفاته، فكم بالحري بعد أربعة أيام.. وبعد أن دبت في جسده عناصر العفونة والفناء!!
لكن المسيح أقام ميتأً بعد أن أنتن فهناك في قرية بيت عنيا عاشت أسرة أحبها المسيح «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ» (يو 11: 5). وكان بيت هذه الأسرة في تلك القرية الوادعة محطة الراحة التي يذهب إليها المسيح حين يتعب، وحين يريد أن يجلس جلسة هادئة مع أناس قريبين من قلبه.
ومع هذا الحب القوي من جانب المسيح لهذه الأسرة، فقد سمح في محبته أن تجتاز تجربة مريرة، هي تجربة مرض لعازر وموته. والواقع أن محبة الله لنا ليست ضماناً يبعد عنا آلام الحياة، وإلا صارت علاقتنا به على أساس المصالح المادية، والأمان في الحياة الدنيا، ومع ذلك فهناك حقيقة يجب أن لا تغرب عن بالنا وهي أن الآلام التي تمر بحياة من يحبهم الرب، تهدف إلى خيرهم وبركتهم وتنقية نفوسهم.
مرض لعازر.. ويبدو أن مرضه كان قاسياً وخطيراً. فأرسلت الأختان إلى المسيح رسالة برقية قائلتين: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو 11: 3).
«فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو 11: 6).
ما أغرب تصرفات المسيح المحب!!
أحياناً تكون في قلبك تجربة محرقة، وترسل رسالة برقية للسماء لتنقذك، وبدلاً من أن تأتيك الإجابة فوراً.. تجد نفسك وحيداً في دوامة.. السماء لا تسمع وكأنها خلت من الله.. وأنت ترفع صوتك في عتاب قائلاً: «حتى متى يا رب أصرخ ولا تستجيب»؟
وهنا ما أحوجنا أن نسمع كلمات النبي صفنيا: «ٱلرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ يُخَلِّصُ. يَبْتَهِجُ بِكِ فَرَحاً. يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ..» (صفنيا 3: 17) وكلمات صاحب المزمور القائل:«ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ وَٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ» (مز 27: 14).
إن الله يقصد من وراء صمته الجبار خيرك. يقصد بركة لنفسك. يقصد أن يعلن لك عن شخصه بكيفية أبهى وأكمل. فانتظر الرب.
ويستمر يوحنا في تسجيل تفاصيل المعجزة بالكلمات: «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ لَهُمْ: لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ. فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى. وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلٰكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ» (يو 11: 4 و11 - 15).
لعازر مات.. وأنا أفرح لأجلكم!!
كيف يفرح الرب لموت حبيب كلعازر؟ إن السبب هو أن هذا الموت سيعطي للتلاميذ فرصة يتحققون فيها صدق كلماته القائلة: «لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هٰذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يو 5: 28 و29).
وجاء المسيح وتلاميذه إلى بيت عنيا.
«فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ، وفَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي» (يو 11: 20 و21). ونحن نلمح عتاباً رقيقاً في كلمات مرثا، وكأنها تقول: أنت صديق أسرتنا. بيتنا مكان راحتك. تتركنا وحدنا في محنتنا وأحزاننا؟ ويجيب المسيح مرثا قائلاً: «سَيَقُومُ أَخُوكِ».
قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي ٱلْقِيَامَةِ، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ».
وينطق المسيح بأسمى إعلاناته عن نفسه قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يو 11: 25 و26).
وكلمات المسيح هذه تنطبق على لحظة الاختطاف.
«ٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً» (1 تس 4: 16). وهذا يقابل الكلمات: «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا».
«ثُمَّ نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ» (1 تس 4: 17) وهذا يقابل الكلمات: «وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ».
قال المسيح لمرثا: «أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يو 11: 26 و27).
«وَلَمَّا قَالَتْ هٰذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: ٱلْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ. أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ... ثُمَّ إِنَّ ٱلْيَهُودَ ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي ٱلْبَيْتِ يُعَّزُونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى ٱلْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ. فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، ٱنْزَعَجَ بِٱلرُّوحِ وَٱضْطَرَبَ، وَقَالَ: أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَٱنْظُرْ» (يو 11: 28 - 34).
وهنا يسجل يوحنا الرسول أصغر آيات الكتاب المقدس، وأعمقها، وأصدقها تعبيراً عن مشاعر المسيح في كلمتين «بَكَى يَسُوعُ» (يو 11: 35). إن هاتين الكلمتين أعمق من المحيط، وأرحب من العالم الفسيح، إننا نرى فيهما هنا، وشفقة، ومشاركة قلب المسيح للحزانى والمتألمين.
ولما رأى اليهود دموع المسيح قالوا: «فَقَالَ ٱلْيَهُودُ:ٱنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقْدِرْ هٰذَا ٱلَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هٰذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟» (يو 11: 36 و37).
إنه يقدر أن يقيمه من الموت.
جاء يسوع إلى القبر، وكان مغارة قد وضع عليه حجر وقال: «ٱرْفَعُوا ٱلْحَجَرَ. قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ ٱلْمَيْتِ: يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ» (يو 11: 39).
أجل تعفنت الجثة.. فاحت الرائحة النتنة من الجسد المائت. مسكين الإنسان.. إنه تراب وإلى تراب يعود.. وأجمل امرأة تخطر في مشيتها على الأرض تتعفن وتفوح منها رائحة تزكم الانوف عندما يتلقفها القبر كفريسة من فرائس الموت.
ومرثا وهي تردد كلماتها «يا سيد قد أنتن» كانت كأنها تقول: «يا سيد أنا لا أريد أن أرى لعازر ميتاً» منتناً إن في ذهني صورة لعازر الحي الممتلئ حيوية. وأريد أن تستمر صورته الجميلة أمام عيني. لا أريد أن أشم بأنفي عفونة الموت.
ويرد عليها المسيح بكلماته: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ؟. فَرَفَعُوا ٱلْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ ٱلْمَيْتُ مَوْضُوعاً» (يو 11: 40 و41)، وشم الناس الرائحة النتنية رائحة الموت.
وصرخ يسوع بصوت عظيم: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً» (يو 11: 43).
«فَخَرَجَ ٱلْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ» (يو 11: 44) نعم انتزع المسيح لعازر من بين أنياب الموت وأقامه بعد أن أنتن ولا يستطيع أحد أن يحي العظام وهي رميم سوى الله.
يقول دوايت لايمان مودي: «لو أن الرب يسوع لم يدعُ لعازر باسمه لقام جميع من في القبور من قوة صوت الرب القادر على كل شيء. فإن صوت المسيح قادر على إقامة جميع من في القبور من تراب الموت» (اقرأ يوحنا 5: 28 و29).
وهنا لا بد من ملاحظة جديرة بالاعتبار وهي أن المسيح لم يقم بعمل معجزة واحدة في حياته لمصلحته الخاصة أو لإنقاذ نفسه من ألم تعرض له، فقد أبى أن يسمع لصوت إبليس ويصنع الحجارة خبزراً ليشبع جوع جسده (اقرأ متى 4: 1 - 4)، وأبى أن ينزل عن الصليب ليخلص نفسه من عذابه (اقرأ متى 27: 39 - 43)، فمعجزاته كلها كانت لتطهير أبرص، أو شفاء مريض، أو إغاثة ملهوف أو إعادة البصر إلى أعمى، أو إقامة ميت من قبره. كانت كلها لخير غيره. كانت لإظهار حب الله وحنانه وقدرته التي تستطيع أن تنقذ كل من يلجأ إليه.
ويختتم يوحنا إنجيله بالكلمات: «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يو 20: 30 و31). فأنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قدرته لعمل المعجزات.
(7) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه المطلق لغفران الخطايا: لا يستطيع إنسان على الأرض أن يغفر خطايا الناس لأن الله وحده عنده المغفرة، كما تقول كلمات المزمور: «لأَنَّ عِنْدَكَ ٱلْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ» (مز 130: 4) وكما يقول دانيال: «لِلرَّبِّ إِلَهِنَا ٱلْمَرَاحِمُ وَٱلْمَغْفِرَةُ» (دا 9: 9)، وكما نقرأ في سفر ميخا «مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ ٱلإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ ٱلذَّنْبِ» (ميخا 7: 18). ويعلن العهد الجديد أن المسيح له السلطان المطلق لغفران خطايا الراجعين إليه، ولهذا فأنا أومن أنه الله.
ذات يوم كان المسيح في كفرناحوم، وسمع الناس أنه في بيت «وَلِلْوَقْتِ ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ ٱلْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَةِ» وحيثما وجد المسيح نفوساً تجتمع حوله فإنه يخاطبهم بالكلمة لأنه: «لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (مت 4: 4).
وهناك «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْجَمْعِ، كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ حَيْثُ كَانَ» وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه والذين زاروا فلسطين يدركون أن عملية كشف السقف ونقبه في كثير من بيوتها ليست صعبة، فالسقوف في المباني العادية مبنية من جذوع الشجر المغطاة بطبقة من الخشب الرقيق، عليها طبقة من القطع الخزفية، يمكن رفعها بسهولة، وإنزال ما يريدون إنزاله من بين العروق بالحبال.
«فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ. وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» (مر 2: 5 - 7).
ولو كان المسيح مجرد إنسان لاعتبرناه وهو يغفر خطايا ذلك المفلوج مجدفاً، إذ أن أي إنسان من البشر يدعي أن في قدرته أن يغفر الخطايا يجدف. أجل، أي إنسان مهما كان مركزه الديني يدعى أنه يستطيع أن يحل إنساناً من خطاياه يجدف.
لقد دهشت وأنا أقرأ الفصل الثاني من كتاب «اغتيال» الذي كتبه الكاتب الأمريكي المؤرخ «جون كوترل» عن مصرع كيندي هذه العبارات: «وقبل الساعة الواحدة بدقائق قليلة جاء قسيسان من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هما الأب أوسكار هيوبر والأب جيمس طومسون ليكونا إلى جوار كيندي وسحب الأب هيوبر الغطاء عن وجه الرئيس، ثم رفع يده اليمنى وقال باللاتينية.. إذا كنت حياً فإنني أحلك من كل لوم وخطايا»
«لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك»
ولأن المسيح هو الله فله سلطان الغفران، وقد شعر بروحه أنهم يفكرون في أنفسهم هكذا فقال لهم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟» (مر 2: 8 و9).
إن غفران الخطايا أصعب جداً من شفاء المرض، لأن الغفران اقتضى أن يموت المسيح على الصليب «لأن أجرة الخطية هي موت» بينما شفاء هذا الرجل من مرضه المستعصي تم بكلمة من بين شفتيه المباركتين.
«َلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (مرقس 2: 10 - 12).
لقد شفى المسيح ذلك المفلوج ليؤكد سلطانه لغفران الخطايا، ولا يقدر أحد أن يغفر خطايا إلا الله وحده.
ومرة ثانية يمارس المسيح سلطانه للغفران فقد «سَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ» (لو 7: 36 - 38).
وتضايق سمعان الفريسي - مضيف المسيح - أن تدخل بيته امرأة خاطئة فتلوثه بنجاسة حياتها، وسمعتها الرديئة، وتضايق بالأكثر أن يسمح لها المسيح أن تلمسه بيديها وأن تمسح قدميه بشعرها، وتكلم في نفسه قائلاً: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ» (لو 7: 39).
وعرف فاحص القلوب أفكار قلب سمعان، وأراد أن يظهر له شر بره الذاتي فقال له: «يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ. كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ» (لو 7: 40 - 43).
وهنا قام الرب بمقارنة بين سمعان الفريسي المتكل على بره الذاتي، وبين المرأة الخاطئة التي عزمت أن تتوب توبة حقيقية. فقال لسمعان: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ. ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ» (لو 7: 43 - 46).
ثم قال للمرأة: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ» (لو 7: 48).
«فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟» (لو 7: 49).
ولم يعتذر المسيح، ولم يتراجع إنه «الله الابن» الذي له سلطان الغفران.
«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ» (يو 5: 22).
لقد أكد المسيح سلطانه المطلق لغفران الخطايا، وعلى أساس هذا السلطان أنا أومن أن المسيح هو الله.
(8) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس طلبه الولاء المطلق من الذين يريدون أن يتبعوه: لم يجرؤ نبي أن يطلب الولاء المطلق من أتباعه لشخصه.
لم يطلب موسى النبي الولاء لنفسه من شعب إسرائيل، لكنه قال لهم: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ ٱلاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِي وَلاَ أَرَى هٰذِهِ ٱلنَّارَ ٱلْعَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلاَّ أَمُوتَ قَالَ لِيَ ٱلرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ» (تث 18: 15 - 19).
وقد أكد استفانوس في خطابه لليهود أن موسى كان يشير بهذه النبوة إلى شخص المسيح (اقرأ أع 7: 37) فموسى لم يطلب لنفسه الولاء لأنه إنسان، لكنه أشار إلى ذاك النبي الآتي.. إلى شخص المسيح الذي يستحق كل ولاء لأنه ابن الله الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب 1: 1 و2).
وإيليا النبي حين تحدى أنبياء البعل وصلى فوق جبل الكرمل لم يطلب الولاء لنفسه بل قال: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ ٱللّٰهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ٱسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ ٱسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هٰذَا ٱلشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ» (1 ملوك 18: 36 و37).
ولكننا نرى أن المسيح يطالب تابعيه بالولاء المطلق لشخصه، ولو لم يكن هو «الله الابن» لكانه طلبه تعدياً صريحاً على حقوق الله.
- اصغ إليه وهو يطالب بتكريس كل الحب لشخصه قائلاً: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت 10: 37 - 39).
إنه يطالب في كلماته هذه بأن نحبه أكثر من الأب والأم، والابن والابنة، وأن نتبعه حتى الموت حاملين الصليب، وأن نضيع حياتنا من أجله وفي خدمته.
أيمكن أن تكون هذه المطاليب من مجرد إنسان؟
يقيناً لا.
- ثم اصغ إليه وهو يطالب من يريد أن يأتي وراءه بإنكار ذاته وحمل الصليب ولسير وراءه فيقول: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت 16: 24 و25).
وقد جاءت هذه الكلمات بعد اعتراف بطرس للمسيح بأنه «ابن الله الحي».
أجل لقد طلب إنكار الذات، وحمل الصليب، وإهلاك النفس من أجله.. فلو لم يكن هو الله المتجسد فبأي حق يطلب كل هذه التضحيات وهذا الولاء؟!
- وأخيراً اصغ إليه وهو يطالب ببغضة كل من له علاقة قوية بنا من أجله. إنه يطالب بتركنا لكل أموالنا في سبيله: «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لو 14: 25 - 27 و33).
إن المسيح يطالبنا بأن نحبه أكثر من محبتنا لأي شخص آخر في هذا الوجود، مهما كانت علاقة القربى التي تربطنا به.. يطالبنا بأن نتألم لأجله حتى الموت.. يطالبنا بالتضحية بكل أموالنا من أجله. بأن نبغض حتى أنفسنا في سبيله.
إنه يقيناً ليس مجرد إنسان. إنه ابن الله والله الابن. إنه المستحق كل ولاء، وهو لم يقبل قط أن يتبعه الناس بسبب مصالحهم الشخصية، أو أهدافهم المادية.
ذات يوم أطعم الجماهير الجائعة من خمسة أرغفة وسمكتين، فقال الناس بعد أن أكلوا: «إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم».
وعلم المسيح أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، فانصرف إلى الجبل وحده. وبحث الناس عنه حتى وجدوه. ولما وجدوه قالوا له: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟»أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّ هٰذَا ٱللّٰهُ ٱلآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (يو 6: 26 و27).
لقد طالب المسيح أتباعه بالولاء المطلق له، وعلى أساس قانونية مطاليبه فأنا أومن أن المسيح هو الله.
(9) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قبوله السجود والعبادة من البشر والملائكة: ينادي الله شعبه القديم في مزمور لآساف قائلاً: «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ، إِنْ سَمِعْتَ لِي. لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلٰهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلٰهٍ أَجْنَبِيٍّ» (مز 81: 8 و9). فلو كان المسيح مجرد إنسان وقبل السجود لكان أعظم مضل ظهر على وجه الأرض.. لكان إلهاً أجنبياً. لكن إذا كان هو ابن الله، والله الابن المساوي للآب فهو يستحق السجود والعبادة.
ولقد قبل المسيح السجود والعبادة، بينما رفض رسله القديسون كما رفض الملائكة أي سجود.
فبطرس الرسول عندما دخل قيصرية استقبله كرنيليوس وسجد واقعاً على قدميه فلم يقبل بطرس هذا السجود كما نقرأ في الكلمات: «وَسَجَدَ وَاقِعاً عَلَى قَدَمَيْهِ. فَأَقَامَهُ بُطْرُسُ قَائِلاً: قُمْ، أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ» (أع 10: 25 و26).
وبولس وبرنابا رفضا عبادة الناس لهما، وتعرض بولس من جراء رفضه هذا للرجم، وقد ذكرت القصة بالكلمات «وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ. هٰذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِباً. فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي. فَٱلْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا. فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا «زَفْسَ» وَبُولُسَ «هَرْمَسَ» إِذْ كَانَ هُوَ ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ. فَأَتَى كَاهِنُ زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ بِثِيرَانٍ وَأَكَالِيلَ عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ مَعَ ٱلْجُمُوعِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَّزَقَا ثِيَابَهُمَا، وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا؟ نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، ٱلَّذِي فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ - وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً. وَبِقَوْلِهِمَا هٰذَا كَفَّا ٱلْجُمُوعَ بِٱلْجَهْدِ عَنْ أَنْ يَذْبَحُوا لَهُمَا. ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ» (أع 14: 8 - 19).
لقد رفض بولس وبرنابا عبادة البشر، ومن عجب أن الناس الذين كانوا على وشك تقديم الذبائح لبولس باعتباره إلهاً متجسداً رجموه حتى ظنوه مات.
والملائكة أيضاً رفضوا سجود الناس: ففي الأصحاح الأخير من سفر رؤيا يوحنا نقرأ «وَأَنَا يُوحَنَّا ٱلَّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هٰذَا. وَحِينَ سَمِعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أَمَامَ رِجْلَيِ ٱلْمَلاَكِ ٱلَّذِي كَانَ يُرِينِي هٰذَا. فَقَالَ لِيَ: ٱنْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! لأَنِّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَقْوَالَ هٰذَا ٱلْكِتَابِ. ٱسْجُدْ لِلّٰه» (رؤ 22: 8 و9).
أما المسيح له المجد فقد قبل السجود، لأنه ابن الله الذي تسجد له الملائكة والبشر.
فعندما أعاد البصر للمولود أعمى وطرده اليهود من مجمعهم بسبب اعترافه بقوة المسيح «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ» (يو 9: 35 - 38).
وقبل المسيح السجود منه.
وفي إنجيل متى نرى المسيح ماشياً على الماء في قلب العاصفة الهوجاء، ونسمعه يأمر بطرس بالمجيء إليه، ثم ينقذه من الغرق حين يدخل الشك قلبه. ثم نقرأ الكلمات «وَلَمَّا دَخَلاَ ٱلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ ٱلرِّيحُ. وَٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!» (مت 14: 32 و33).
وقبل المسيح السجود من تلاميذه.
وفي إنجيل لوقا نقرأ: «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ»(لو 24: 50 - 52).
وقبل المسيح السجود من الملائكة.
ويسجل كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن سجود الملائكة للمسيح الكلمات: «وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عب 1: 6).
وأخيراً يسجل يوحنا صورة رائعة لسجود سكان السماء للمسيح وعبادتهم له بالكلمات: «وَلَمَّا أَخَذَ ٱلسِّفْرَ خَرَّتِ ٱلأَرْبَعَةُ ٱلْحَيَوَانَاتُ وَٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ ٱلْحَمَلِ (الذي يشير إلى المسيح الذبيح) وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُّوَةٌ بَخُوراً هِيَ صَلَوَاتُ ٱلْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ ٱلْعَرْشِ وَٱلْحَيَوَانَاتِ وَٱلشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مُسْتَحِقٌّ هُوَ ٱلْحَمَلُ ٱلْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ ٱلْقُدْرَةَ وَٱلْغِنَى وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْقُّوَةَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْمَجْدَ وَٱلْبَرَكَةَ. وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. وَكَانَتِ ٱلْحَيَوَانَاتُ ٱلأَرْبَعَةُ تَقُولُ: آمِينَ. وَٱلشُّيُوخُ ٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 5: 8 - 14).
ومن هو الحي إلى أبد الآبدين الذي يعبده ويسجد له سكان السماء؟ إنه الرب يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: «َهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 1: 18).
لقد قبل المسيح السجود والعبادة من البشر والملائكة وسكان السماء، وعلى هذا الأساس أنا أومن أن الله الابن «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (مت 4: 10).
(10) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس تصريحاته الصادقة عن نفسه: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن رجل من رجال الله زار شخصاً من العصريين الذين ينكرون لاهوت الرب يسوع المسيح، وكان الرجل على فراش المرض، وأراد رجل الله أن يقدم لذلك الشخص المسكين ابن الله المخلص من الخطية، ودارت بينهما المناقشة الآتية:
رجل الله: ماذا تظن في المسيح؟
الرجل العصري: في اعتقادي أن المسيح كان إنساناً أميناً ومعلماً صادقاً. لكنه ليس أكثر من ذلك.
- إذاً كان المسيح معلماً صادقاً كما تعتقد، فهل تظن أن مثل هذا المعلم يكذب؟
- المعلم الصادق لا يكذب.. وأعتقد أن المسيح لم يكذب قط.
- إذاً دعني أقرأ لك بعض ما قاله المسيح عن نفسه.
وفتح رجل الله الكتاب المقدس وشرع يقرأ هذه الآيات:
- «لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يو 8: 24). وتعود بنا العبارة «أنا هو» إلى سفر إشعياء حيث نقرأ «اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (إش 48: 12 و13).
- «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 27 - 30).
- «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي... لَو كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ ٱلآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يو 14: 1 و7 - 11).
وكأن الرب يسوع يقول بكلماته الصريحة. إن كلامي هو كلام الآب.. إن أعمالي هي أعمال الآب.. وأعمالي خير دليل على لاهوتي.
- ثم يصرح المسيح عن نفسه بهذه التصريحات:
«أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً» (يو 6: 35).
«أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يو 8: 12).
«أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يو 10: 9).
«أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يو 10: 11).
«أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).
«أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 30).
ولايمكن لواحد من البشر أن يدعي لنفسه هذه الأوصاف الفائقة، إلا إذا كان مجدفاً من طراز فريد، أو مضلاً من طراز فريد.. أو إذا كان هو «ابن الله» بالحق والمحبة.
وتابع رجل الله حديثه للرجل العصري قائلاً: وبحسب اعتقادك أن المسيح معلم صادق. فتصريحاته الصادقة تؤكد لاهوته.
فلما سمع الرجل العصري شهادة كلمة الله قبل المسيح مخلصاً وتجدد ونال غفراناً لخطاياه.
أجل مَن من البشر يستطيع أن يقف وسط هذا العالم المظلم قائلاً: «أنا هو نور العالم»؟ لا أحد! لأن الكتاب يقول «إِذْ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو 3: 23). الله وحده هو نور السموات والأرض، فإذا قال المسيح عن نفسه أنا هو نور العالم فهذا يعني يقيناً أنه الله.
ولقد قال المسيح ما هو أكثر من ذلك إذ فتح ذراعيه للمتعبين والمثقلين بأوزار الإثم، وأثقال الحياة قائلاً: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت 11: 28).
في سفر دانيال نقرأ عن مؤامرة قام بها الوزراء في مملكة داريوس ضد دانيال بسبب تفوقه عليهم، فقد رأوا أن دانيال متمسك بشرعية إلهه، فأرادوا أن يقضوا عليه عن طريق أمانته وطاعته لهذا الإله.
والآن تعال معي لنقرأ تفاصيل القصة في الكلمات:
«حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ ٱلْوُزَرَاءُ وَٱلْمَرَازِبَةُ عِنْدَ ٱلْمَلِكِ وَقَالُوا لَهُ: «أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِنَّ جَمِيعَ وُزَرَاءِ ٱلْمَمْلَكَةِ وَٱلشِّحَنِ وَٱلْمَرَازِبَةِ وَٱلْمُشِيرِينَ وَٱلْوُلاَةِ قَدْ تَشَاوَرُوا عَلَى أَنْ يَضَعُوا أَمْراً مَلَكِيّاً وَيُشَدِّدُوا نَهْياً، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَطْلُبُ طِلْبَةً حَتَّى ثَلاَثِينَ يَوْماً مِنْ إِلَهٍ أَوْ إِنْسَانٍ إِلاَّ مِنْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، يُطْرَحُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَثَبِّتِ ٱلآنَ ٱلنَّهْيَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، وَأَمْضِ ٱلْكِتَابَةَ لِكَيْ لاَ تَتَغَيَّرَ كَشَرِيعَةِ مَادِي وَفَارِسَ ٱلَّتِي لاَ تُنْسَخُ». لأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ ٱلْكِتَابَةَ وَٱلنَّهْيَ» (دا 6: 6 - 9).
مسكين هذا الملك.. خدعه مشيروه.. فأوقف نفسه في موقف أكبر من قدرته.. أرادوا أن يجعلوا منه إلهاً لمدة ثلاثين يوماً، فأظهرت هذه المدة القصيرة أنه إنسان عاجز، ضعيف.
لكن هل يستطيع ملك - مهما بلغت عظمته - أن يكون إلهاً لمدة ثلاثين يوماً يستمع فيها إلى أنات المرضى وصرخات المظلومين.. وتوسلات المتضايقين؟
كلا. إن الملك «داريوس» لن يستطيع ومن ذا الذي يستطيع ذلك إلا الله القادر على كل شيء؟
ولم يعبأ «دانيال» الشاب الأمين لله، بأمر الملك.. أدرك أن الملك وقع فريسة في أيدي وزرائه ومشيريه.. ورفض أن يرفع طلباته إلى الملك خلال ثلاثين يوماً.. رفض أن يصلي إليه.
ولا شك أن أسئلة كثيرة ملأت رأس دانيال: هل يستطيع الملك إذا طلبت منه أن يريحني من آلامي الجسدية؟ أن يريحني في أزماتي النفسية؟ أن يشبع احتياجاتي الروحية؟ وهل يستطيع أن يستمع إلى طلبات الملايين من شعبه في وقت واحد؟ يقيناً أنه ملك مخدوع.. واحد فقط أرفع إليه الصلاة. هو الله الذي قال عنه داود «يَا سَامِعَ ٱلصَّلاَةِ، إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ» (مز 65: 2).
وأعلن دانيال تحديه العلني لأمر الملك.
«فَلَمَّا عَلِمَ دَانِيآلُ بِإِمْضَاءِ ٱلْكِتَابَةِ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ، وَكُواهُ مَفْتُوحَةٌ فِي عُلِّيَّتِهِ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلَهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ» (دا 6: 10).
وهنا كشف المتآمرون عن نواياهم.
«فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ هَذَا ٱلْكَلاَمَ ٱغْتَاظَ عَلَى نَفْسِهِ جِدّاً، وَجَعَلَ قَلْبَهُ عَلَى دَانِيآلَ لِيُنَجِّيَهُ، وَٱجْتَهَدَ إِلَى غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ لِيُنْقِذَهُ» (دا 6: 14).
إيه أيها الملك. ها أنت قد وقعت في الفخ الذي نصبه لك وزراؤك واكتشفت الخدعة الكبرى التي خدعك بها مشيروك.. وها هو دانيال أحد أفراد دولتك العظمى في خطر الموت.. وها أنت عاجز عن إنقاذه.. فكيف تصورت أن تجيب طلبات المحتاجين والمتضايقين والمتألمين في أمبراطوريتك المترامية الأطراف؟
وأوقف الوزراء الملك الذي «ألهّوه» موقفاً حرجاً فاجتمع أولئك الرجال إلى الملك وقالوا للملك اعلم أيها الملك أن شريعة مادي وفارس هي أن كل نهي أو أمر يضعه الملك لا يتغير.
وعجز «الملك الإله» عن إنقاذ دانيال من براثن أعدائه.
«حِينَئِذٍ أَمَرَ ٱلْمَلِكُ فَأَحْضَرُوا دَانِيآلَ وَطَرَحُوهُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. وَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِدَانِيآلَ: «إِنَّ إِلَهَكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً هُوَ يُنَجِّيكَ». وَأُتِيَ بِحَجَرٍ وَوُضِعَ عَلَى فَمِ ٱلْجُبِّ وَخَتَمَهُ ٱلْمَلِكُ بِخَاتِمِهِ وَخَاتِمِ عُظَمَائِهِ، لِئَلاَّ يَتَغَيَّرَ ٱلْقَصْدُ فِي دَانِيآلَ» (دا 6: 16 و17).
وتعال معي لترى «الملك الإله» وترثي له.
«حِينَئِذٍ مَضَى ٱلْمَلِكُ إِلَى قَصْرِهِ وَبَاتَ صَائِماً، وَلَمْ يُؤْتَ قُدَّامَهُ بِسَرَارِيهِ وَطَارَ عَنْهُ نَوْمُهُ. ثُمَّ قَامَ ٱلْمَلِكُ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْفَجْرِ وَذَهَبَ مُسْرِعاً إِلَى جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى ٱلْجُبِّ نَادَى دَانِيآلَ بِصَوْتٍ أَسِيفٍ: يَا دَانِيآلُ عَبْدَ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، هَلْ إِلَهُكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ ٱلأُسُودِ؟ فَتَكَلَّمَ دَانِيآلُ مَعَ ٱلْمَلِكِ: يَا أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ ٱلأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئاً قُدَّامَهُ وَقُدَّامَكَ أَيْضاً أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ. لَمْ أَفْعَلْ ذَنْباً» (دا 6: 18 - 22).
لقد ثبت عجز البشر عجزاً تاماً.. حتى ولو كانوا ملوكاً.. في إراحة المتعبين.
أما الرب يسوع المسيح فيقف في قدرة لاهوته قائلاً «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم».
ويقيناً.
لو أن الاسكندر في أيام أبهته نطق بهذه الكلمات لأصبح أضحوكة.
ولو قالها نابليون في أيام جبروته لأضحى سخرية. ولو قالها هتلر في أيام مجده لصار هزءاً.
ذلك لأن أحداً من البشر لا يقدر أن يريح المتعبين والثقيلي الأحمال.
أما المسيح الرب فهو ينادي كل متعب بكلماته الرقيقة قائلاً:
تعال ضع يا أيها المتعب
ضع رأسك
ضعه على صدري وفي قربي
أرح نفسك
إنه يقول: أيها المتعب بالهموم والأحزان. أيها المثقل بالأوزار والآثام. تعال إليّ وأنا أريحك.
وكل الذين ذهبوا إليه بأتعابهم وأثقالهم.. أراحهم.
أجل.. فقد أراح السامرية من ثقل ماضيها الأسود الأثيم، وأراح زكا رئيس جباة الضرائب من ثقل ظلمه الأثيم وأراح نازفة الدم من مرضها المستعصي، وأراح توما من الشك الذي أقض مضجعه وما زال إلى اليوم يريح المتعبين.
كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عب 13: 8).
ومع كل ما تقدم فقد صرح المسيح عن نفسه بعد صعوده إلى السماء لعبده يوحنا قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ 1: 11).
«أَنَا هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ» (رؤ 1: 17 و18).
«أَنَا ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ 22: 13).
وعلى أساس تصريحات المسيح الصادقة عن نفسه فأنا أومن أنه «الله».
(11) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قيامته الفريدة من بين الأموات: لقد أقام الرب يسوع المسيح أثناء وجوده بالجسد على الأرض ثلاثة أشخاص.
أقام ابنة «يايرس» أحد رؤساء المجمع، ذلك الرجل الذي جاء «وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا» (مر 5: 22 و23). ولما وصل المسيح إلى بيت يايرس كانت الفتاة قد فارقت الحياة لكن الرب «أَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا، قُومِي. (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً» (مر 5: 41 و42).
وأقام شاباً وحيداً لأمه الأرملة في مدينة نايين نقرأ عنه الكلمات: «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ. فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ»(لو 7: 11 - 16).
وأقام لعازر من بيت عنيا بعد أن أنتن (يو 11).
وفي هذه الصور الثلاث نتلقى أثمن الدروس، فالصبية ابنة يايرس أقامها الرب بعد موتها مباشرة والشاب ابن الأرملة كان قد مات منذ وقت وكانوا في طريقهم لدفنه، والرجل لعازر كان قد دفن منذ أربعة أيام ودب الفساد في جسده.
ثلاث صور للموت: فتاة صغيرة.. وشاب.. ورجل كامل الرجولة.
والموت هو صورة مجسمة للخطية، وهؤلاء الموتى هم نماذج للخطاة.
- فالفتاة كانت قد ماتت في تلك اللحظة ولم تظهر عليها بعد أية علامة من علامات التعفن والفساد. كان جسدها ما زال حاراً، ولم تجف بعد قطرات العرق من فوق جبينها. إنها ترينا صورة للخاطئ المؤدب المتدين.. فهذا الشخص لا تظهر عليه أية آثار خارجية للموت الذي يكمن داخله. وإذا أخذنا بالمظهر الخارجي وحده خيل إلينا أن هذا الخاطئ ليس ميتاً، لأن حياته الأدبية والدينية تبدو في صورة حسنة، تماماً كصورة الذين يعترفون بأنهم أحياء في المسيح وأحياناً أفضل.. ولكن الفتاة كانت ميتة رغم كل مظهر.. وكانت تحتاج إلى المسيح ليقيمها من الموت.
- وشاب نايين يصور لنا درجة مختلفة لمظاهر الموت الخارجية فهذا الشاب مات ربما منذ يوم أو يومين. لقد تقلص جلده، وغارت عيناه، وسرت البرودة في جسده.. إن كل علامات الموت قد ظهرت عليه، بعكس صورة الفتاة الصغيرة التي ماتت قبل أن يصل المسيح بدقائق.. ولكن الحقيقة: أن هذه الفتاة الصغيرة كانت ميتة تماماً كذلك الشاب، مع أن مظهرها لم يكن يدل على ذلك.. فهل لاحظت الدرس هنا.. إن الشاب يرينا صورة الخاطئ الذي لفظه المجتمع وبدأ في إخراجه بعيداً عنه كشخص غير جدير بالحياة فيه.
- ولكن الميت الثالث هو لعازر، لقد دفن وأنتن. صارت رائحته كريهة، وها هو في قلب الأرض ينهشه الدود، وهذه صورة للخاطئ الذي حطم كل القيود والقوانين والمثل العليا، وتدهور حتى وصل إلى الجريمة والانحلال الخلقي الظاهر، حتى اضطر المجتمع إلى عزله وسجنه، وتقييد حريته لأنه خطر عليه.
ولكن التفت إلى هذه الحقيقة، فمع أن هناك اختلافاً كبيراً في مظهر الموت في هذه الحالات الثلاث، ولكننا لا نجد فرقاً في درجة الموت فيها. فالفرق موجود في المظهر فقط، ولكن الثلاثة كانوا أمواتاً كل واحد كالآخر، وبعد شهور قليلة لن يكون بإمكانك التفريق بينهم من حيث المظهر كذلك.
وهذا ما قاله الله عن البشر، «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو 3: 22 و23). والناس قد يختلفون في درجات مظاهر الخطية والشر من الخارج، ولكن الناس جميعاً بدون المسيح أموات على مستوى واحد، المؤدب والمتدين.. كالخليع والخائن.. كما يقول بولس الرسول «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أف 2: 1) الكل يحتاجون أن يعودوا إلى الحياة بالمسيح.
وفي كل حالة من حالات الموت هذه، لم يكن هناك سوى واحد فقط هو الذي في قدرته الإنقاذ من الموت هو المسيح الرب.
وفي كل حالة قام الميت من الموت بكلمة الرب.
فقد قال للفتاة الصغيرة: «طَلِيثَا، قُومِي» (مر 5: 41).
وقال للشاب في نايين: «أيها الشاب لك أقول قم» (لو 7: 14).
وقال للعازر: «لعازر هلم خارجاً» (يو 11: 43).
وفي كل حالة حدثت القيامة بكلمة الله، لأن الذي تكلم هو «ابن الله» و «الله الابن» لقد قام هؤلاء الثلاثة بقوة رب الحياة، ومعطي الحياة، ولكنهم ماتوا ثانية بحكم فساد طبيعتهم وابتلعهم القبر من جديد.
تماماً كما عاد إلى الموت ابن الأرملة الذي أقامه إيليا بالصراخ للرب، وابن المرأة الشونمية الذي أقامه إليشع بالصلاة للرب.
أما الرب يسوع المسيح فقد قام من الأموات بصورة فريدة لم يسبقه إليها غيره، وهو لن يموت أيضاً ولن يسود عليه الموت بعد كما قال بولس الرسول: «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ» (رو 6: 9).
وهناك عدة حقائق تتعلق بقيامة المسيح الفريدة:
وأول حقيقة هي أن جسد المسيح لم يتعفن بعد موته:
وهذه الحقيقة يقررها بطرس الرسول في كلماته: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱسْمَعُوا هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ: يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُّوَاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ. لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي، لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ. لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ» (أع 2: 22 - 28).
ويتابع بطرس الرسول كلماته مقرراً أن هذه النبوة ليست عن داود شخصياً، وإنما عن المسيح الذي جاء من نسل داود فيقول: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (أع 2: 29 - 36).
إن هذه العبارات تؤكد في وضوح لا غموض فيه أن جسد المسيح لم ير فساداً، لم يتعفن كما تتعفن أجساد البشر أجمعين. لقد بقي في كل بهائه وجماله. لأنه خلا من كل عناصر الخطية.
الحقيقة الثانية هي أن الثالوث الأقدس قد اشترك في قيامة المسيح.
- فالآب قد أقام المسيح كما قال بطرس الرسول: «فيسوع هذا أقامه الله» (أع 2: 24).
- والمسيح قد أقام نفسه، وهذا الحق واضح في كلماته: «فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ» (يو 2: 18 - 22).
لقد أعلن المسيح عن قدرته في إقامه جسده من بين الأموات، وأكد هذا بكلماته «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 17 و18).
- والروح القدس قد أقام المسيح كما قال بولس الرسول: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُّوُ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُّوَةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رو 1: 1 - 4). وكلمة «تعين» معناها «ظهر بالدليل الواضح» دليل القيامة من الأموات أنه «ابن الله» كما ظهر أن روح القداسة أو الروح القدوس قد اشترك في قيامته.
فالثالوث الأقدس «الآب والابن والروح القدس» قد اشترك في قيامة المسيح من بين الأموات.
الحقيقة الثالثة أن المسيح عندما قام خرج من قبره وهو مغلق: إن كثيرين يتصورون أن ملاك السماء جاء ودحرج الحجر عن باب القبر ليساعد المسيح على الخروج منه، وهذا تصور خاطئ، لقد قام المسيح وخرج من القبر وهو مغلق، ثم جاء الملاك ودحرج الحجر وقال للمرأتين - مريم المجدلية ومريم الأخرى - «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ» (مت 28: 6). لقد خرج الرب من القبر وهو مغلق. خرج متحدياً أختام الأمبراطورية الرومانية وقوتها العسكرية. تماماً كما دخل إلى العلية التي في أورشليم والأبواب مغلقة (يو 20: 19 - 29). ولقد كانت قيامة المسيح هي الدليل الساطع على نصرة الحق على الباطل، والنور على الظلام وإله السلام على إله هذا العالم الأثيم.
الحقيقة الرابعة أن قيامة المسيح هي الدليل المؤكد لقيامة المؤمنين به: وهذه حقيقة يؤكدها بولس الرسول في كلماته: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» (1 تس 4: 14).
وهنا يخطر على الذهن سؤالاً لا بد أن نجيب عنه في هذا المقام وهو: كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون؟ كيف يمكن أن يعيد الله إلى الوجود أجساد الذين أكلتهم الأسماك في البحار، وأحرقتهم النار، وتحللوا وصاروا جزءاً من أديم الأرض؟
ولو أدركنا أن الله يحتفظ في سجلات السماء بصورة فوتوغرافية لكل واحد من سكان الأرض، وبصورة بالأشعة للعظام والأحشاء، لعرفنا كيف سيعود كل واحد بنفس ملامحه إلى الوجود.
وليس هذا الكلام خيال كاتب، وإنما هو حقيقة كتابية صريحة تؤكدها كلمات داود القائلة «لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» :(مز 139: 13 - 16) فصورتنا، وملامحنا، وتفاصيل عظامنا وأحشائنا موجودة في سجلات السماء، ومن السهل أن تستخرج صورة طبق الأصل عند أي مصور إذا كانت لديك الصورة الأصلية.
وعلى هذا فإن قيامة المسيح تؤكد قيامة المفديين في القيامة الأولى، ثم قيامة الأشرار للدينونة بعد ملك الألف السنة كل واحد بذات الملامح والقامة والصورة التي عاش بها.
وعلى أساس قيامة المسيح الفريدة أنا أومن بأن المسيح هو الله.
(12) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه وعمله المعجزي وتأثير اسمه في الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء: كل نبي عاش على الأرض، انتهت معجزاته بموته، فموسى الكليم صنع في حياته معجزات كثيرة بقوة الله الذي أمره بصنعها، لكنه مات «وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (تث 34: 6) وانتهت معجزاته بموته تماماً كما انتهت معجزات سائر الرسل والأنبياء.
أما الرب يسوع فقد ظل اسمه وما زال يعمل بقوة في الأرواح والأجساد.
لقد وعد تلاميذه في حديثه الأخير معهم قائلاً: «لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ ٱلْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَّزِي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ قَدْ دِينَ» (يو 16: 7 - 11).
وما وعد به الرب يسوع أكمله، وهذا ما يؤكده سفر أعمال الرسل بالكلمات «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ» (أع 2: 1 - 6).
ولما اجتمع هذا الجمهور وقف بطرس مع الأحد عشر، وكلمهم عن حقيقة هذا الصوت، مؤكداً أنه «الروح القدس» الذي سكبه يسوع الذي صعد إلى السماء، بعد أن صلبوه وقتلوه، إذ أنه قام من الأموات «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ» (أع 2: 33).
فالمعزي الذي تحدث عنه المسيح لتلاميذه، لم يكن نبياً آتياً بعده، وإنما كان الروح القدس كما أوضح له المجد بفمه المبارك قائلاً: «وَأَمَّا ٱلْمُعَّزِي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يو 14: 26).
فالمسيحيون لم ينتظروا نبياً آخر يأتي بعد المسيح، بل كان رجاؤهم وما زال في عودة المسيح ثانية بعد صعوده إلى السماء كما وعدهم «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤ 22: 12). ولذا فإن صلاة المسيحيين الحقيقيين في كل العصور تركزت في الكلمات: «آمين تعال أيها الرب يسوع» (رؤ 22: 20). وهي آخر كلمات اختتم بها سفر الرؤيا، أخر أسفار الكتاب المقدس.
ولقد استمر تأثير المسيح قوياً وفعالاً بعد صعوده إلى السماء، وسفر أعمال الرسل يحمل أصدق الأدلة على ما نقول.
- ففي يوم الخمسين أي بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام، عمل المسيح بروحه وبكلمته في قلوب نحو ثلاثة آلاف نفس فتجددوا واعتمدوا، وانضموا إلى الكنيسة التي أسسها المسيح في أورشليم، فبعد أن وعظهم بطرس بكلمة الرب. نقرأ الكلمات: «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ ٱلرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَٱعْتَمَدُوا، وَٱنْضَمَّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ» (أع 2: 37 و38 و41).
فمن الذي أعطى القوة لبطرس الجبان الذي أنكر المسيح ثلاث مرات لتؤثر كلماته في القلوب هذا التأثير الفعال؟
ومن الذي نخس قلوب هؤلاء سوى الروح القدس الذي أرسله المسيح بعد صعوده إلى السماء!
إن تجدد هذا العدد الضخم دفعة واحدة دليل على فاعلية عمل المسيح في القلوب بعد صعوده إلى السماء.
- ولقد شفى اسم المسيح رجلاً أعرج من بطن أمه: أجل بعد أن صعد المسيح إلى السماء ظل اسمه قوياً فعالاً يشفي الأمراض، ويجري المعجزات، لأنه الله الموجود في كل مكان، القادر على كل شيء.. وهذه كلمات سفر أعمال الرسل عن شفاء ذلك الإنسان: «وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «ٱلْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ ٱلْهَيْكَلَ. فَهٰذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ ٱلْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا وَقَالَ: ٱنْظُرْ إِلَيْنَا!> فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِراً أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئاً. فَقَالَ بُطْرُسُ: لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ. وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ ٱلْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي ٱلْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ» (أع 3: 1 - 8).
ولما اجتمع الجمهور الذي رأى هذه المعجزة حول بطرس ويوحنا، أعلن لهم بطرس أن شفاء الرجل قد تم باسم يسوع المسيح فقال: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هٰذَا، وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُّوَتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟ إِنَّ إِلٰهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلٰكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ ٱلْقُدُّوسَ ٱلْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَبِٱلإِيمَانِ بِٱسْمِهِ، شَدَّدَ ٱسْمُهُ هٰذَا ٱلَّذِي تَنْظُرُونَهُ وَتَعْرِفُونَهُ، وَٱلإِيمَانُ ٱلَّذِي بِوَاسِطَتِهِ أَعْطَاهُ هٰذِهِ ٱلصِّحَّةَ أَمَامَ جَمِيعِكُمْ» (أع 3: 12 - 16).
فالمسيح هو الله الحي الموجود بقوته في كل مكان. ولذا فإن اسمه المبارك العجيب فيه القدرة لإعطاء الصحة والحياة.
- وقد جدد المسيح بعد صعوده إلى السماء شاول الطرسوسي:
يشهد شاول الطرسوسي - الذي صار بعد تجديده بولس الرسول - عن نفسه قائلاً: «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (1 تي 1: 13). وقد اضطهد شاول كنيسة أورشليم، والمسيحيون الذين عاشوا في تلك الجهات، وعن هذا نقرأ الكلمات: «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَى ٱلْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ ٱلطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (أع 9: 1 و2).
هذه هي الصورة الكتابية لاضطهاد شاول للمسيحيين والكتاب المقدس يرينا أن المسيحيين الحقيقيين الأتقياء يجب أن يتوقعوا الاضطهاد في كل مكان كما يكتب بولس الرسول لتيموثاوس قائلاً: «وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي، وَٱضْطِهَادَاتِي، وَآلاَمِي، مِثْلَ مَا أَصَابَنِي فِي أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَّةَ وَلِسْتِرَةَ. أَيَّةَ ٱضْطِهَادَاتٍ ٱحْتَمَلْتُ! وَمِنَ ٱلْجَمِيعِ أَنْقَذَنِي ٱلرَّبُّ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِٱلتَّقْوَى فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (2 تي 3: 10 - 12).
«لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في 1: 29).
إن المسيحيين الأمناء يضطهدون في كل بقعة من بقاع الأرض، لأن حياتهم المنيرة تؤلم عيون الناس، توبخ خطاياهم، فيحاولون القضاء عليهم.. ولكن هيهات!! لأن المسيح رأس الكنيسة حي في السماء يحس بآلام شعبه على الأرض ويتقدم لإنقاذه وحمايته.
لقد كان «شاول» يظن أنه يقدم خدمة لله، وأنه يقضي على شرذمة ضالة تؤمن بأن المسيح هو «ابن الله» وكان المسيح في اعتقاد شاول مضلاً أفاكاً ظهر على أرض اليهودية.
وبينما شاول يقترب إلى دمشق، وقد أعمى التعصب عينيه، تستمر القصة قائلة: «وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ ٱقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ: شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ. فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ. وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ ٱلأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ ٱلْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَٱقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ» (أع 9: 3 - 9).
وتفاصيل القصة تؤكد أن المسيح حي في السماء.
فقد ظهر بنوره الوضاح لشاول
وناداه باسمه
وأراه أنه صعب عليه أن يحاربه.
ويقيناً أن من يحارب المسيح يجرح نفسه. إنه تماماً كمن يرفس مناخس الخيل، يمتلئ جسمه بالجراح ولا تتأثر المناخس وأمام نور المسيح، وتحت تأثير صوته قال شاول الطرسوسي: «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟».
عجيب أن يقول شاول للمسيح «يا رب» فشاول رجل يهودي، فريسي، يعرف كتابه المقدس جيداً ويذكر كلمات سفر الخروج: «أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي»(خر 20: 2 و3). ما الذي حدث لك يا شاول حتى تنادي المسيح قائلاً: «يا رب» ويردعلينا شاول بالكلمات: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ. لأَعْرِفَهُ، وَقُّوَةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (في 3: 7 - 10).
لقد تيقنت أن تلاميذ المسيح لم يسرقوا جسده، لقد قام وقبره خال من جسده، ولذا أشرق علي بنوره من السماء، لقد آمنت أنه «ابن الله الحي» «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا 2: 20).
دخل شاول المدينة كما أوصاه الرب، وكما كلم الرب يسوع شاول من السماء، كلم حنانيا في رؤيا لمقابلة شاول. فلما جاء حنانيا إليه قال له «أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، قَدْ أَرْسَلَنِي ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي جِئْتَ فِيهِ، لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي ٱلْحَالِ، وَقَامَ وَٱعْتَمَدَ» (أع 9: 17 و18). وهكذا تجدد شاول، وصار إناء مختاراً ليحمل اسم المسيح أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.
وتجديد شاول اليهودي المتعصب، المجدف والمضطهد والمفتري، وحديث المسيح معه من السماء، واعترافه بلاهوت المسيح، هذا كله يحمل أصدق الدليل على أن المسيح هو «ابن الله» و «الله الابن».
ونستمر في سفر أعمال الرسل لنرى الرب يسوع المسيح:
- عاملاً بروحه في السامرة (أع 8).
- وفي قلب الوزير الحبشي (أع 8).
- وفي قلب كرنيليوس ومن حضروا في بيته (أع 10).
- ونراه يشفي إينياس (أع 9: 32 - 35).
- ويقيم التلميذة الخادمة طابيثا (أع 9: 36 - 42).
- ويزعزع أساسات سجن فيلبي ويجدد حافظ السجن (أع 16: 19 - 34).
- وينقذ بولس في قلب العاصفة (أع 27: 14 - 44).
وما زال إلى اليوم يغير قلوب الذين يقبلونه مخلصاً في أنحاء الأرض، وينير بروحه قلوب وعقول المؤمنين به، ويرشدهم إلى أنفع الاكتشافات والاختراعات العلمية لخير البشرية، فقد أرشد «أديسون» لاكتشاف الكهرباء، وأرشد «فلمنج» لابتكار البنسلين الذي أنقذ حياة الملايين. وأرشد العلماء المسيحيين لابتكار كل ما هو لخير الإنسان. فعلى أساس سلطان المسيح وتأثير اسمه على الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء أنا أومن أنه «الله».
(13) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس أنه ديان البشر أجمعين: يقول داود في المزمور: «وَتُخْبِرُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلدَّيَّانُ» (مز 50: 6). وإذ نقلب صفحات الكتاب نجد أن الديان هو المسيح، ونصل إلى نتيجة حتمية هي أن المسيح هو الله لأنه هو الديان.
استمع إلى كلماته التي قالها لليهود: «لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يو 5: 22 و23).
واصغ إلى كلمات بولس للقديسين في رومية: «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!» (رو 8: 34).
وأمل أذنك إلى حديثه للأثينيين في «أريوس باغوس» وهو يقول: «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (أع 17: 30 و31). وأخيراً اسمعه يكتب لتيموثاوس في أخريات أيامه: «فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضاً» (2 تي 4: 6 - 8).
- ويعرف دارس الكتاب المقدس أن المسيح هو الذي سيحاسب المفديين أمام كرسيه «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (2 كو 5: 10).
- وأنه سيحاسب الشعوب الحية عند مجيئه أمام كرسي مجده: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ» (مت 25: 31 و32).
- وهو الذي سيدين الأموات أمام العرش الأبيض العظيم: «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَٱلْجَالِسَ عَلَيْهِ ٱلَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ ٱلأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَٱنْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَٱنْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ ٱلْحَيَاةِ، وَدِينَ ٱلأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» (رؤ 20: 11 و12).
وإذا قارنا بين كلمات المسيح: «لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن» وبين الكلمات القائلة: «ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله.. ودين الأموات بحسب أعماله» تأكدنا أن المسيح هو الله الديان، الذي وقف أمامه إبراهيم وناداه بأنه «ديان كل الأرض» (تك 18: 25)، والذي قال عن نفسه «كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُّوَاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (مت 7: 22 و23). فعلى أساس أن المسيح هو ديان كل الأرض فأنا أومن أنه «الله».
(14) أنا أومن بأن المسيح هو الله لأنه مفتاح الكتاب المقدس كله وموضعه المركزي:
- فهو في سفر التكوين نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تك 3: 15)، وهو في الخروج حمل الفصح (خر 12: 1 - 14)، وهو في اللاويين في مختلف صور الذبائح والقرابين (لاويين 1 - 4)، وهو في العدد الحية المرفوعة في البرية (عدد 21: 8) مع (يو 3: 14)، وهو في إشعياء البديل الحامل لخطايانا (إش 53: 6) وهكذا حتى نراه في ملاخي شمس البر (ملاخي 4: 2).
- وكل شخصيات الكتاب المقدس ترمز إليه، فهابيل يرينا إياه البار المذبوح، وإسحق يرينا إياه الحامل للصليب والمطيع لإرادة الآب، وموسى يرينا إياه في حلمه وحكمته، وإيليا يرينا إياه في قوته وصرامته.
- والعهد الجديد كله مكرس له، فمتى يبدأ إنجيله بالكلمات: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (مت 1: 1) ومرقس يبدأ إنجيله بالكلمات: «فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لو 24: 52). ويوحنا يبدأ إنجيله بالكلمات: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو 1: 1).
- ورسائل الرسل متمركزة في الحديث عنه وسفر رؤيا يوحنا هو إعلان مجده وملكه.
- وكاتب الرسالة إلى العبرانيين يرينا أن المسيح أعظم من الملائكة (عب 1: 4)، وأن الملائكة تسجد له (عب 1: 26)، وأنه أعظم من موسى (عب 3: 3)، وأن الفرق بينه وبين موسى كالفرق بين الخادم وابن البيت فموسى «خادم» أما المسيح «فابن على بيته» (عب 3: 5 و6)، وأنه أعظم من هرون (عب 7: 11) لأنه رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
- كما يؤكد الرب بكلماته أنه «أعظم من يونان» (مت 12: 41) و «أعظم من سليمان» (مت 12: 42) و «أعظم من الهيكل» مت 12: 6 ولي هناك من هو أعظم من الهيكل إلا رب الهيكل نفسه.
- وكذلك يعلن الرسل عبوديتهم للمسيح: فمع أن بولس يوصي المؤمنين قائلاً: «قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيداً لِلنَّاسِ» (1 كو 7: 23) فهو يعلن عبوديته للمسيح بالكلمات: «بولس عبد ليسوع المسيح» (رو 1: 1) وإعلانه هذا يؤكد بوضوح بأن المسيح هو الله، وكذلك يعلن بطرس عن عبوديته للمسيح بالكلمات: «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ» (2 بط 1: 1)، وكذلك يقول يعقوب «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يع 1: 1) فيعلن بكلماته عبوديته للآب والابن، وفي ذات الوقت مساواة الابن بالآب.
هذه هي الأسس التي نبنى عليها إيماننا بأن المسيح هو الله، فالمسيح هو رب التاريخ، وهو مركز النبوات، فمن أجله تنبأ الأنبياء، وجاء المرسلون يعدون الطريق لمجيئه. وكتب الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا.
يحتفظ لنا التاريخ بقصة رجل أمريكي سافر إلى فرنسا، ومن هناك اشترى خريطة مفككة للأمريكتين، قال له بائعها: إن أذكى الناس لا يستطيع تركيب هذه الخريطة في أقل من ساعتين. وحمل الأب الخريطة لولديه، وتحداهما إن استطاعا تركيبها في نصف ساعة فإنه يعطي لكل منهما خمسين دولاراً.. وكم كانت دهشة الرجل عظيمة حين عاد الولدان بالخريطة كاملة بعد عشر دقائق.
قال الأب لولديه: أخبراني عن السر!!
قال الولدان: لقد رأينا في ظهر الخريطة صورة لرأس إبراهام لنكولن، فجمعنا الصورة فتكونت الخريطة في الحال.
والكتاب المقدس يظل كتاباً مغلقاً، يصعب على قارئه فهم محتوياته، حتى نرى على صفحاته «وجه المسيح المنير» الذي رآه يوحنا وكتب عنه قائلاً: «ثُمَّ رَأَيْتُ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَٱلْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِٱلْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ». وَٱلأَجْنَادُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَّزاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ ٱلأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ ٱللّٰهِ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا 19: 11 - 16).
بحق قال عنه شلينج: «المسيح ليس هو المعلم فقط كما يقول البعض ولا هو المؤسس بل هو المسيحية ذاتها» وقال عنه واحد من كبار المفكرين وهو يتحدث إلى مجموعة من أصدقائه: «لو دخل نابوليون إلى هنا لوقفنا أمامه إجلالاً باعتباره قائد عسكري عبقري، ولو دخل شكسبير لانحنينا أمامه احتراماً لتحليله الرائع لنفسية الإنسان البشري... لكن لو دخل المسيح لركعنا في حضرته سجداً أمام مجد لاهوته البهي».
أجل لقد ظهر في تجسد «ابن الله» وموته على الصليب ما يؤكد عظمة قيمة الإنسان.. أو كما قال قديس جليل.
«يموت النبات ليحيا الحيوان، ويموت الحيوان ليحيا الإنسان فلا بد من موت «البديل» لنوال الحياة» .
ولذا فلما رأى الله الإنسان وقد مات روحياً بالخطية، أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ودان الخطية في الجسد، ليعطي حياة أبدية للإنسان الذي يؤمن بهذا العمل العظيم، ويؤكد في ذات الوقت قيمة الإنسان العظمى، هذه القيمة التي كاد الإنسان أن يفقد إحساسه بها، من فرط ما رأى تفاهة نفسه أمام الموت، وأمام كوراث الطبيعة، وأمام هذا الكون العظيم.
يجب أن نعترف في بداية هذا الفصل أن في الكتاب المقدس آيات متناثرة تبدو للقارئ السطحي أنها مناقضة للإيمان بأن المسيح هو الله، ولكننا نقول في ذات الوقت أن وجود مثل هذه الآيات هو دليل قاطع على وحي كلمة الله.. فلو أن الكتاب المقدس من تأليف بشر لما وجدنا فيه آيات مثل هذه الآيات، لكن لأنه كلمة الله فقد جاءت فيه هذه الآيات لتدفع القارئ إلى البحث والدرس والمعرفة.
ولقد أكد بطرس الرسول أن في الكتاب المقدس آيات عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين لهلاك أنفسهم فقال: «لِذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هٰذِهِ، ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ. وَٱحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا ٱلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي ٱلرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضاً، مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، ٱلَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ ٱلْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ ٱلْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ ٱلثَّابِتِينَ كَبَاقِي ٱلْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ» (2 بط 3: 14 - 16). ولذا أوصى بولس الرسول تيموثاوس قائلاً: «ٱجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ لِلّٰهِ مُزَكّىً، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ بِٱلاسْتِقَامَةِ» (2 تي 2: 15).
ولكي نفهم الآيات العسرة الفهم، فهماً يتفق مع كل الكتاب المقدس علينا أن نتبع نصيحة الرسول فنفصل كلمة الحق بالاستقامة، ويقينا أننا لن نستطيع أن نفسر آية من الآيات المشار إليها، إلا على ضوء قوانين ثابتة وصحيحة للتفسير. فما هي قوانين التفسير الصحيح؟
- إن أول قوانين التفسير الصحيح للآيات العسرة الفهم هو: أن نفسر هذه الآيات بالآيات الموضحة لها من الكتاب المقدس، أي أن نفسر الكتاب المقدس بالكتاب المقدس. كما قال بولس الرسول: «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، قَارِنِينَ ٱلرُّوحِيَّاتِ بِٱلرُّوحِيَّاتِ» (1 كو 2: 12 و13).
- القانون الثاني: أن يكون التفسير موافقاً لكلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة كما قال بولس لتيموثاوس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيماً آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلصَّحِيحَةَ، وَٱلتَّعْلِيمَ ٱلَّذِي هُوَ حَسَبَ ٱلتَّقْوَى فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئاً، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّلٌ بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ ٱلْحَسَدُ وَٱلْخِصَامُ وَٱلافْتِرَاءُ وَٱلظُّنُونُ ٱلرَّدِيَّةُ، وَمُنَازَعَاتُ أُنَاسٍ فَاسِدِي ٱلذِّهْنِ وَعَادِمِي ٱلْحَقِّ، يَظُنُّونَ أَنَّ ٱلتَّقْوَى تِجَارَةٌ. تَجَنَّبْ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ» (1 تي 6: 3 - 5).
- القانون الثالث: هو أن نربط الآيات التي نريد تفسيرها بالآيات السابقة لها واللاحقة بها، وهو ما يسميه علماء التفسير بربط «ال TEXT أي الآية» ، «بال CONTEXT أي القرينة». إن سبب الخطأ في تفسير الكتاب المقدس هو انتزاع الآيات من موضعها، ومحاولة تفسيرها بالعقل البشري بعيداً عن قرينتها، والمناسبة التي قيلت فيها، وهذه الطريقة الخاطئة هي الطريقة التي لجأ إليها الشيطان حين اقتبس كلمات من سفر المزامير محاولاً أن يجرب بها المسيح إذ قال له: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ» (مت 4: 6)، وقد أخذ إبليس الكلمات الأخيرة من المزمور الحادي والتسعين عدد 11 و12، وأبعدها عن قرينتها، فأفسد بذلك معناها ومدلولها.
- القانون الرابع: هو تفسير الآيات العسرة الفهم على ضوء الآيات السهلة الفهم.
- القانون الخامس: هو دراسة لغة الآية ذاته. هل هي مجازية أو حرفية؟ هل هي كلمات نطق بها الرب، أو كلمات نطق بها الشيطان أو الإنسان وسجلت في سياق حديث الكتاب؟ إنه على أساس فهمنا الدقيق للغة الآية، وقائلها، نستطيع أن نفهم فهماً صحيحاً الآيات العسرة الفهم.
- القانون السادس: هو دراسة الظروف التاريخية لكتابة الآية. أين كان الكاتب؟ لمن كتب؟ ما هي العادات التي سادت عصره؟ إلى غير هذا من دراسة الظروف التاريخية لكتابة السفر الذي كتبت فيه الآيات.
القانون السابع: هو أنه إن أمكن تفسير حرفي فالبعد عن الحرفي رديء للغاية.. هذه هي القوانين السبعة للتفسير الصحيح للكتاب المقدس، وعلى أساسها سنتقدم لتفسير الآيات التي تبدو مناقضة في ظاهرها للإيمان بأن المسيح هو الله. واضعين هذه الآيات بحسب ترتيب ورودها في الكتاب المقدس.
وأول مجموعة من الآيات التي تقابلنا في الكتاب المقدس، والتي تبدو في ظاهرها مناقضة للإيمان بأن المسيح هو الله هي الآيات الموجودة في سفر أمثال، وهذه هي:«أَنَا ٱلْحِكْمَةُ أَسْكُنُ ٱلذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ ٱلتَّدَابِيرِ... لِي ٱلْمَشُورَةُ وَٱلرَّأْيُ... بِي تَمْلِكُ ٱلْمُلُوكُ... أَنَا أُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَٱلَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي. عِنْدِي ٱلْغِنَى وَٱلْكَرَامَةُ. ... اَلرَّبُّ قَنَانِي أَّوَلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ ٱلْمِيَاهِ. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ ٱلْجِبَالُ، قَبْلَ ٱلتِّلاَلِ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ ٱلأَرْضَ بَعْدُ وَلاَ ٱلْبَرَارِيَّ وَلاَ أَّوَلَ أَعْفَارِ ٱلْمَسْكُونَةِ. لَمَّا ثَبَّتَ ٱلسَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ. لَمَّا أَثْبَتَ ٱلسُّحُبَ مِنْ فَوْقُ. لَمَّا تَشَدَّدَتْ يَنَابِيعُ ٱلْغَمْرِ. لَمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى ٱلْمِيَاهُ تُخْمَهُ، لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ ٱلأَرْضِ، كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِماً قُدَّامَهُ. فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ، وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أم 8: 12 - 31).
والآيات تثير في ذهن القارئ الأسئلة الآتية:
ما معنى ما يقوله المسيح عن نفسه باعتباره «الحكمة» «الرب قناني أول طريقه؟»، وما معنى كلماته إذ لم يكن غمر أبدئت؟ فهل لم يكن المسيح موجوداً ثم أبدأه الرب؟ وإلى من يعني هذا أن المسيح ليس أزلياً مع الآب وعلى هذا لا يكون هو ابن الله؟
ولكي نجيب عن هذه الأسئلة يجب أن نستخدم قوانين التفسير الصحيح، فنقرأ الأصحاح كله، بل نقرأ سفر أمثال جميعه لنعرف معنى هذه الآيات.
فالمتكلم الذي يقول: «الرب قناني أو اقتناني أول طريقه» بدأ حديثه بالكلمات «أنا الحكمة.. لي المشورة والرأي.. بي تملك الملوك.. أنا أحب الذين يحبونني.. عندي الغنى والكرامة».
وفي الأصحاح الأول نقرأ عنه الكلمات: «اَلْحِكْمَةُ تُنَادِي فِي ٱلْخَارِجِ. فِي ٱلشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا. تَدْعُو فِي رُؤُوسِ ٱلأَسْوَاقِ، فِي مَدَاخِلِ ٱلأَبْوَابِ. فِي ٱلْمَدِينَةِ تُبْدِي كَلاَمَهَا قَائِلَةً: إِلَى مَتَى أَيُّهَا ٱلْجُهَّالُ تُحِبُّونَ ٱلْجَهْلَ، وَٱلْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِٱلاسْتِهْزَاءِ، وَٱلْحَمْقَى يُبْغِضُونَ ٱلْعِلْمَ؟ اِرْجِعُوا عِنْدَ تَوْبِيخِي. هَئَنَذَا أُفِيضُ لَكُمْ رُوحِي. أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتِي. لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ، وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي، بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي، وَلَمْ تَرْضُوا تَوْبِيخِي. فَأَنَا أَيْضاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ» (أم 1: 20 - 26).
فمن ذا الذي له المشورة والرأي؟ إلا ذاك الذي تنبأ عنه إشعياء بالكلمات: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إش 9: 6).
ومن هو ذاك الذي يفيض روحه على الراجعين إليه؟ إلى ذاك الذي تكلم عنه بطرس قائلاً: «يَقُولُ ٱللّٰهُ: وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ» (أع 2: 17).
فالمتكلم في هذه الآيات يسمي نفسه «الحكمة» ولكنه لا يظهر «كصفة» بل «كشخص» لأنه يعلن عن ذاته بالكلمات «أنا أحب الذين يحبونني» والصفة تحب ولكنها لا تحب، فالمتكلم إذاً هو المسيح الرب «المشير» الذي يسكب من روحه على الراجعين إليه، والمذخر فيه جميع كنوز الحكمة (كو 2: 3).
والواقع أن التأمل في هذا الجزء من كلمة الله يرينا الثالوث العظيم بكيفية واضحة.
- فالآب يظهر في الكلمة «الرب».
- والابن يتحدث عن نفسه قائلاً: «منذ الأزل مسحت».
- والروح القدس هو المسحة كما قال بطرس الرسول «يسوع.. كيف مسحه الله بالروح القدس» (أع 10: 38).
- فالآيات ترينا في وضوح «المسيح ابن الله» مساوياً للآب، وموجوداً معه منذ الأزل، لأن الحكمة تلازم الله ملازمة أزلية، فأزلية الله وأزلية الحكمة صنوان لا يفترقان.
- كما ترينا وحدانية الآب والابن في اللاهوت، ومعية الابن مع الآب منذ الأزل كما قال يوحنا الرسول: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو 1: 1).
أما الكلمات التي نحن بصدد تفسيرها والتي تقول: «الرب قناني أول طريقه.. منذ الأزل مسحت منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أبدئت» فإنها تشير بوضوح إلى عمل المسيح الكفاري، وعلاقة هذا العمل «ببني آدم» أي أن النص يعلن عمل المسيح في الزمان وفرحه في مسكونة أرضه ولذته ببني آدم الذين فداهم فقبل أن تقررت الجبال، وقبل أن تصنع الأرض أو أول أتربة المسكونة كان الثالوث الواحد الحكيم قد رتب عمل الفداء العظيم، عن طريق تجسد «الله الابن» في ملء الزمان كما قرر بطرس الرسول بكلماته «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (1 بط 1: 18 - 20).
وعلى هذا فإن «الحكم» الذي هو «الله الابن» يقول: الرب قناني أول طريقه.. منذ الأزل مسحت منذ أوائل الأرض.. إذ لم يكن غمر أبدئت معلناً بهذه الكلمات أنه الممسوح من الآب أو المعين منذ الزل للقيام بعمل الفداء فوق الصليب، ولذا فهو يختتم كلماته بالقول «فَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْبَنُونَ ٱسْمَعُوا لِي - فَطُوبَى لِلَّذِينَ يَحْفَظُونَ طُرُقِي. ٱسْمَعُوا ٱلتَّعْلِيمَ وَكُونُوا حُكَمَاءَ وَلاَ تَرْفُضُوهُ. طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَسْمَعُ لِي سَاهِراً كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ مَصَارِيعِي، حَافِظاً قَوَائِمَ أَبْوَابِي. لأَنَّ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ ٱلْحَيَاةَ وَيَنَالُ رِضًى مِنَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ ٱلْمَوْتَ» (أم 8: 32 - 36). وهذه الكلمات تعلن عن علاقة المسيح بالبشر ودعوته لهم لقبوله مخلصاً، وتحذيرهم من رفضه، وهي تتفق تماماً مع كلماته في العهد الجديد: «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ» (يو 10: 10). «أَمَّا أَعْدَائِي، أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي» (لو 19: 27).
إن الكلمات «الرب قناني أول طريقه» ترينا أن الرب يسوع باعتباره الحكمة - كان مع الآب منذ الأزل، وأنه صانع كل الأشُياء كقوله: «كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً» (أم 8: 30) وأن الله لم يبدأ عملاً من أعمال إلا به كما نقرأ في الكلمات: «ٱلْحِكْمَةُ هِيَ ٱلرَّأْسُ» (أم 4: 7) «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مز 104: 24). «ٱلرَّبُّ بِٱلْحِكْمَةِ أَسَّسَ ٱلأَرْضَ» (أم 3: 19) «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو 1: 1 - 3). «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كو 1: 16). «اَللّٰهُ... كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ» (عب 1: 1 و2).
فالمسيح هو «الحكمة» هو «الله الابن» الذي عنده الغنى والكرامة، والذي من يجده يجد الحياة كما قال يوحنا الرسول: «مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ» (1 يو 5: 12). والذي من يخطئ عنه يضر نفسه، وكل مبغضيه يحبون الموت، وإذا لم يكن هو «ابن الله» الذي فيه كانت الحياة، فأي ضرر يصيب الإنسان الذي يخطئ عنه والذي يبغضه؟
إن الآيات التي أوضحنا معناها في هذا المقام تؤكد لاهوت المسيح ولا تناقضه بحال من الأحوال، أما كلمة «أبدئت» التي وردت في النص فسنتركها حتى نأتي إلى تفسير الآية الموجودة في سفر رؤيا يوحنا والتي تقول كلماتها: «هٰذَا يَقُولُهُ ٱلآمِينُ، ٱلشَّاهِدُ... بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ» (رؤ 3: 14). فليعد القارئ إلى تفسيرها في موضعها من هذا الكتاب.
نقرأ في إنجيل متى الكلمات: «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي» (مت 12: 32).
وتُظهر هذه الكلمات أمام القراءة السطحية أن لا مساواة بين المسيح والروح القدس، وأن المسيح هو «إنسان» كسائر الناس لأنه يسمي نفسه «ابن الإنسان» ولأنه طالما كرر هذا اللقب في حديثه عن نفسه، بينما لم يقل إنه ابن الله صراحة إلا في موضعين (يو 9: 35 ويو 10: 36).
والسبب الذي من أجله يُغفر لمن يقول كلمة على ابن الإنسان، ولا يغفر لمن يجدف على الروح القدس، ليس هو عدم المساواة بين المسيح والروح القدس، بل هو أن المسيح جاء لخلاص الناس «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو 19: 10) و «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ» (يو 3: 17). لذلك طلب المسيح وهو على الصليب الغفران لصالبيه والمجدفين عليه قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو 23: 34).
ولكن لأن الروح القدس هو الذي يعلن المسيح المخلص للنفس الهالكة كما يقول بولس الرسول: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كو 12: 3). وهو الذي يبكت الخطاة على خطاياهم ويقودهم إلى التوبة الحقيقية كما قال الرب: «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يو 16: 8)، لذلك فإن من يجدف عليه فلا غفران له إلى الأبد، ويعني التجديف على الروح القدس أن ينسب الإنسان العمل المبارك الذي يعمله الروح القدس إلى الشيطان، ويرفض بعناد توسلات الروح القدس وتبكيته لإرجاعه إلى الرب، وهذا يصل بالإنسان إلى القساوة القلبية تماماً كما حدث مع الفريسيين الذين أسندوا معجزات المسيح إلى «بعلزبول». ورفضوا نداءه لهم بالتوبة والرجوع إلى الله. فأعلن لهم المسيح أنهم أولاد الأفاعي، وأنهم جيل فاسق شرير، رغم حديثهم البراق بالصالحات، في حين أن قلوبهم ملآنة بالشر، ولأن الروح القدس هو العامل في التجديد، وإعلان المسيح المخلص للنفس، فرفض توسلاته عن عناد وإصرار ومعرفة يحرم الإنسان من نتائج عمله، وبالتالي يحرم من الغفران إلى الأبد، كما قال الله في أيام نوح: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (تك 6: 3).
وأما تسمية المسيح نفسه بأنه «ابن الإنسان» فهو تأكيد لكمال ناسوته، وأنه جاء ليموت بدلاً عن الناس ونائباً عنهم بعتباره «الإنسان الثاني» الذي هو في ذات الوقت«الرب من السماء» (1 كو 15: 47)، ولأنه «الرب من السماء» وفي ذات الوقت هو «الإنسان الثاني» فهو غير محدود، وهو خالق كل البشر وكل الوجود، ولذا فإن في موته الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال يوحنا الرسول: «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يو 2: 2) وعلى هذا فإن آلامه فوق الصليب، لا تقاس بمقياس الزمن الذي قاسى فيه الألم، بل بمقياس شخصه الفريد المجيد، ذلك لأن الإساءة التي توجه إلى شخص حقير تصبح عملاً فظيعاً لو وُجهت بذاتها إلى ملك او رئيس كبير!!
ولو أننا تتبعنا الآيات التي أعلن المسيح فيها عن نفسه أنه «ابن الإنسان» لرأينا فيها إعلانات رائعة عن سر تجسد المسيح، فهو لم يأت إلى العالم بحثاً عن راحة لنفسه«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (مت 8: 20) ولكنه جاء ليُرفع على الصليب فداء عن الخطاة «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 14 و15). وجاء ليطلب ويخلص ما قد هلك (لو 19: 10) وسوف يأتي بقوة ومجد كثير (مرقس 13: 26 و27).
ولقب «ابن الإنسان» الذي أطلقه المسيح على نفسه مراراً يؤكد لنا لاهوته مع ناسوته. ويعود بنا إلى ما جاء في سفر دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دا 7: 13 و14). فابن الإنسان هو موضوع عبادة الشعوب وهو صاحب السلطان الأبدي.
وإيماننا بقدرة الله على كل شيء يدفعنا إلى الإيمان بقدرته على التجسد دون حدوث تغيير في لاهوته، تماماً كما نؤمن أن الكهرباء تتجسد في الأسلاك، والمغناطيسية في الحديد دون أن تتغير طبيعة الأسلاك، أو طبيعة الحديد، أو طبيعة الكهرباء.
ولذا فقد أعلن المسيح عن نفسه لنيقوديموس بالكلمات: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو 3: 12 و13). فابن الإنسان الذي كان يتكلم مع نيقوديموس في الأرض، كان يملأ السماء بلاهوته. فاللقب «ابن الإنسان» الذي نجده في الآية التي نحن بصددها لا يظهر فرقاً بين المسيح والروح القدس في اللاهوت ولا يلقي شبهة على لاهوت ربنا المبارك، بل تؤكد الأجزاء التالية له حقيقة لاهوته فهو أعظم من يونان وسليمان وهو في ذات الوقت «ابن الإنسانية» كلها.
جاء في إنجيل متى: «وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)»(مت 27: 46).
ويقول غير المؤمنين بلاهوت المسيح من جماعة شهود يهوه وغيرهم من الطوائف العصرية، إذا كان المسيح هو «ابن الله» و «الله الابن» وهو معادل للآب والروح القدس، فكيف ينادي «الله» وهو على الصليب قائلاً: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟».
وإجابة هذا السؤال سهلة إذا وضعنا في أذهاننا الحقائق الكتابية الآتية:
1 - إن المسيح مع كونه ابن الله الأزلي كما قال عنه يوحنا: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو 1: 1). وكما قال هو عن نفسه: « قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 8: 58). إلا أنه في ملء الزمان جاء إلى الأرض إنساناً مولوداً من امرأة ليفتدي الإنسان كما قال بولس الرسول: «ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ... ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (في 2: 5 - 8).
وفي هذه الكلمات نجد أن المسيح نزل بتجسده هذه الدرجات:
أ - أخلى نفسه
ب - أخذ صورة عبد
ج - صار في شبه الناس
د - وجد في الهيئة كإنسان
هـ - وضع نفسه
و - أطاع حتى الموت
ز - موت الصليب. أي موت اللعنة كما قال بولس الرسول: «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلا 3: 13).
كل هذا يرينا أن المسيح عندما مات على الصليب مات كإنسان، كان بديلاً عن الإنسان «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ» (1 بط 3: 18).
والمسيح «كإنسان».. «ليس فيه خطية» (1يو 3: 35)، «ولم يعرف خطية» (2 كو 5: 21)، و «لم يفعل خطية» (1 بط 2: 22) فهو «البار» بطبيعته الأصلية «يسوع المسيح البار» (1 يو 2: 1).
ولذا فهو يسأل الله قائلاً: «لماذا تركتني؟» وهو سؤال لا يجسر إنسان مذنب خاطئ أن يوجهه لله، لأنه يعلم أنه يعاقب بسبب خطاياه، أما المسيح فله الحق أن يسأل:«إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟».
وسؤاله هنا هو سؤال «الإنسان البار» النائب عن «الأثمة الفجار» ولذا فهو لا يخاطب الله بالقول «يا أبتاه» لو 23: 34) كما هي عادته، وكما) هي نسبته وعلاقته، بل يخاطبه بالقول «إلهي إلهي» معلناً أنه وإن كان يحتمل أجرة الخطية كإنسان نائباً عن الإنسانية، إلا أن اتكاله باعتباره الإنسان الكامل، وهو في أحلك اللحظات ما زال على الله (مز 22: 8)، وقد اقتبس المسيح صرخته من المزمور الثاني والعشرين، وهو المزمور الذي سبق وتنبأ عن تفاصيل الصلب، وكل الحوادث المذكورة فيه قد تمت وقت الصلب بالحرف الواحد مما يؤكد أن المصلوب هو موضوع نبوات الأنبياء، وهو الذي تنبأ داود عن صلبه.
لقد أعلنت الصرخة التي أطلقها المسيح وهو يجتاز أحلك ساعات آلامه «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» إنه البار القدوس الطاهر.. وقد وجهها إلى الله ليلفت بها نظر البشرية الساقطة في مختلف العصور أنه بسبب خطاياها حجب الآب العادل وجهه عن ابنه الحبيب، الذي أرتضى طوعاً أن يصير «عبداً» من أجل «عبيد الخطية» وكأننا نسمع صوت الآب يجيب المسيح الإنسان، الذي أصبح نائباً عن الإنسان «لقد تركتك لأنك تحمل خطايا البشرية.. لأن هذا الترك هو العقاب المفروض على كل خاطئ أثيم، وأنت صرت بديلاً عن البشر فحملت خطاياهم في جسدك.. فكان لا بد أن أحجب وجهي عنك بعد أن صرت ذبيحة خطية» (اقرأ إش 52: 13 - 15، و53: 1 - 6، 2 كو 5: 21، و 3: 21 - 26 و 1بط 22: 24).
إذا لا يجب أن يغيب عن ذهننا أن المسيح مع كونه «ابن الله» هو أيضاً «ابن الإنسان» وأنه عندما مات على الصليب مات نائباً عن الإنسان وبديلاً عنه «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مر 10: 45).
وبهذا الاعتبار يصرخ المسيح ابن الإنسان والإنسان الكامل إلى الله الآب العادل قائلاً: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» معلناً بصرخته إتمام النبوات فيه، فلا غرابة إذاً أن يخاطب«ابن الله» الذي صار إنساناً وأخذ مكان الإنسان.. «الله الأب» الذي أوقع عليه عقاب خطية الإنسان، ويصرخ إليه قائلاً: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» إذ ليس في هذه الصرخة أية شبهة تناقض الإيمان بان المسيح هو «الله الابن» بل على العكس نرى أن كل الملابسات التي أحاطت بالمسيح وهو فوق الصليب تعلن عن شخصيته الفريدة ولاهوته المجيد.
نقرأ في إنجيل مرقس هذه الكلمات: «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَلاَ ٱلابْنُ، إِلاَّ ٱلآبُ» (مر 13: 32).
وأمام هذه الآية يبدو أمامنا هذا الاعتراض: إذا كان المسيح هو «ابن الله والله الابن» وهو العالم بكل شيء، أفلا ترينا كلماته هذه عدم معرفته ليوم أو ساعة مجيئه، وهذا يعني أنه ليس عالماً بكل شيء، وبالتالي فليس هو «الله»؟
والأن ما هو التفسير الصحيح لهذه الآية الصريحة؟
أقول أولاً إن الآية في صيغتها الواضحة تضع المسيح في مركز فريد بين خلائقه، فهو يقول: «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَلاَ ٱلابْنُ، إِلاَّ ٱلآبُ» (مر 13: 32).
وهنا نجد الآية تتحدث عن ما يلي:
(أ) البشر عموماً: «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ» أي أحد من البشر.
(ب) الملائكة الذي في السماء: «فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ».
(ج) الابن: «فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا وَلاَ ٱلابْنُ».
وهنا يقف الابن وحده في مركزه الفريد فلو كان مجرد إنسان فلماذا لم يضع نفسه مع البشر؟ ولماذا أوقف نفسه مع الآب.
إننا إذ نعود إلى قرينة هذه الآية نجد المسيح يقول: «وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُّوَةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاءِ» (مر 13: 26 و27). وتعلن الكلمات أن «الملائكة» «ملائكة المسيح» وأنه هو «الآتي بالقوة والمجد».
كيف إذاً لا يعلم المسيح باليوم والساعة؟
هنا لا بد لنا أن نفصل كلمة الحق بالاستقامة (2 تي 2: 15)، وعندما نقوم بتفصيل العهد الجديد نجد به أربعة أناجيل:
الإنجيل الأول - هو إنجيل متى وهو يتحدث عن «المسيح الملك» ومفتاحه «أين هو المولود ملك اليهود؟» (مت 2: 2).
الإنجيل الثاني - هو إنجيل مرقس وهو يتحدث عن «المسيح العبد» ومفتاحه «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مر 10: 45).
الإنجيل الثالث - هو إنجيل لوقا وهو يتحدث عن «المسيح الإنسان الكامل» ومفتاحه «إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (لو 23: 4) «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً» (لو 23: 47).
الإنجيل الرابع - هو إنجيل يوحنا وهو يتحدث عن «المسيح ابن الله» ومفتاحه «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يو 20: 30 و31).
والعهد القديم قد تنبأ عن مجيء المسيح في هذه الصور الأربع في رموزه ونبواته.
ففي الرموز في سفر التكوين «نهر فيشون» وهو يرمز إلى «المسيح الملك» كما نقرأ عنه: «اِسْمُ ٱلْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ ٱلْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ ٱلْحَوِيلَةِ حَيْثُ ٱلذَّهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ ٱلأَرْضِ جَيِّدٌ» (تك 2: 11 و12).
و «نهر جيحون» وهو يرمز إلى «المسيح العبد» :كما نقرأ عنه «وَٱسْمُ ٱلنَّهْرِ ٱلثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ ٱلْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ» (تك 2: 13).
و «نهر حداقل» وهو يرمز إلى «المسيح الإنسان الكامل» كما نقرأ عنه «وَٱسْمُ ٱلنَّهْرِ ٱلثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ ٱلْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ» (أي الحكمة (تك 2: 14).
و «نهر الفرات» وهو يرمز إلى «المسيح ابن الله» كما نقرأ عنه «وَٱلنَّهْرُ ٱلرَّابِعُ ٱلْفُرَاتُ» (تك 2: 14).
وقد شاء الوحي أن يخفى عنا وصفه، تماماً كما قال الرب لمنوح «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ ٱسْمِي وَهُوَ عَجِيبٌ؟» (قض 13: 18).
وإنه لمن الملذ أن نرى أن هذه الأنهار الأربعة هي «رؤوس» لنهر واحد كما نقرأ «وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ ٱلْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ» (تك 2: 10)، فمع أن النهر واحد، إلا أنه صار أربعة رؤوس، ومع أن المسيح واحد لكنه يظهر في الكتاب المقدس.. «الملك» و «العبد» و «الإنسان الكامل» و «ابن الله».
وحين نعود إلى نبوات العهد القديم نجدها تقدم لنا المسيح في هذه الصور الأربع كذلك.
فزكريا يتنبأ عن المسيح قائلاً: «اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ٱبْنَةَ صِهْيَوْنَ، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ» (زك 9: 9).
وإشعياء يتنبأ عن المسيح قائلاً: «هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً» (إش 52: 13) ويشاركه زكريا في النبوة قائلاً: «لأَنِّي هَئَنَذَا آتِي بِعَبْدِي ٱلْغُصْنِ» (زك 3: 8).
وزكريا يتنبأ عن المسيح الإنسان الكامل قائلاً: «هُوَذَا ٱلرَّجُلُ «ٱلْغُصْنُ» ٱسْمُهُ» (زك 6: 12).
وإشعياء يتنبأ عن المسيح ابن الله قائلاً «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ» (إش 9: 6) ثم يعود قائلاً «هُوَذَا إِلَهُكِ. هُوَذَا ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ بِقُّوَةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ» (إش 40: 9 و10).
فإذا وضعنا في أذهاننا أن المسيح هو «الملك» و «العبد» و «الإنسان الكامل» و «ابن الله».
وإذا عرفنا أن إنجيل مرقس يتحدث عن المسيح العبد الذي قال عنه سفر إشعياء «هُوَذَا عَبْدِي» (إش 52: 13)، وأن المسيح قال بفمه المبارك: «ٱلْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ» (يو 15: 15). وأنه إذ أخذ «صورة عبد» صار عبداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فارتضى بخدمة العبيد، وجهل العبيد بما يعمله سيدهم، واحتقار الناس للعبيد، ولذا فهو في إنجيل مرقس الذي يقدم المسيح العبد يعلن جهله باليوم والساعة قائلاً: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما.. ولا الابن» يعلن جهله هذا باعتباره «عبداً» مع أنه في نفس الوقت يؤكد أنه «الابن» الذي أخلى نفسه لفداء الإنسان بموته على الصليب.
نقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات: «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذٰلِكَ أَعْطَى ٱلابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ» (يو 5: 26).
وهنا يقول أحد المعترضين: انظر.. إن الآب هو الذي أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته، وبما أن المعطي هو الآب والمعطَى هو الابن، لذا لا بد أن يكون الآب خالقاً للابن، وواهباً إياه الحياة، وعلى هذا فلا مساواة بين الآب والابن.
ويبدو هذا الاعتراض وجيهأً أمام النظرة السطحية، ولكنه يدل على جهل بالكتاب المقدس وقوانين تفسيره. ففي الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا نقرأ عن المسيح «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ» (يو 1: 4). وهذه الكلمات بارتباطها بما سبقها تعلن أن الحياة كانت في المسيح منذ الأزل.
إذاً ما معنى الكلمات: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته».
هنا لا بد أن نعود لقوانين التفسير الصحيح فنربط الآية بالقرينة، ثم بالأصحاح كله، والسفر كله.
وأول ما نراه في الآية ذاتها أن هناك مساواة بين الآب والابن فالآب له «حياة في ذاته» والابن له «حياة في ذاته» ثم إذ نبدأ في قراءة الأصحاح نرى أن المسيح يقول لليهود:«أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو 5: 17).
وقد فهم اليهود من هذا القول أن المسيح يعادل نفسه بالله «فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يو 5: 18) وإذ نستمر في قراءة الأصحاح نرى فيه.
ولكننا نرى فيه أيضاً أن الآب قد «أعطى كل الدينونة للابن. وأعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته».
ونسأل بأي اعتبار أعطى الآب «كل الدينونة للابن» وأعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته؟ فنجد الجواب في كلمات المسيح «وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يو 5: 27).
فعطايا الآب للابن ليست في اعتباره «الأزلي» بل في اعتباره الزمني حين «أخذ صورة عبد وصار في شبه الناس ووجد في الهيئة كإنسان» فالمسيح في اعتباره الأزلي هو «ابن الله» ولكنه في اعتباره الزمني «ابن الإنسان»، وفي هذا الاعتبار ميزه الآب عن البشر جميعاً بأن أعطاه حياة في ذاته، معلناً لنا بهذه الكلمات أن «ابن الإنسان»هو ذاته «ابن الله» وأنه في إنسانيته «له حياة في ذاته» وهذا ما أوضحه المسيح بكلماته: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يو 10: 17 و18). وما أوضحه أيضاً حين قال لليهود «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يو 2: 19 - 21). ولو لم يكن له حياة في ذاته ما استطاع أن يقول هذه الكلمات.. فالإعطاء المذكور في آيتنا، يعني إظهار حياة الله الذاتية في الإنسان يسوع المسيح عندما تجسد في الزمان.
قال المسيح في إنجيل يوحنا «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ. فَتَنَاوَلَ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟ أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ، فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يو 10: 30 - 36).
ويقول غير المؤمنين بلاهوت المسيح إن هذا النص يرينا أن المسيح شخص إلهي بنفس المركز الذي يقال فيه عن البشر إنهم «آلهة» وذلك بناء على ما قاله بنفسه.
ولكن التأمل في النص يدحض الإدعاء، فالنص يبدأ بالكلمات: «أنا والآب واحد» وهنا تظهر وحدانية الآب والابن، الأمر الذي فهمه اليهود وتناولوا بسببه حجارة ليرجموا المسيح، فلما سألهم لماذا يريدون رجمه قالوا: لأجل تجديف «فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً».
وقد دفع المسيح تهمة التجديف بكلماته «أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له أنك تجدف لأني قلت أني ابن الله».
وكلمات المسيح مأخوذة من مزمور 82: 6، وهناك نرى أن الله يتحدث بها إلى القضاة قائلاً لهم اقضوا الذليل واليتيم، والقضاة آلهة باعتبار أنهم يحكمون بين الناس بحسب ناموس الله، ولكن مع مركزهم العظيم فالله يقول لهم «مِثْلَ ٱلنَّاسِ تَمُوتُونَ» (مز 82: 7).
وقديماً قال الرب لموسى «أَلَيْسَ هَارُونُ ٱللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَأَيْضاً هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ، فَتُكَلِّمُهُ وَتَضَعُ ٱلْكَلِمَاتِ فِي فَمِهِ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَمَعَ فَمِهِ، وَأُعْلِمُكُمَا مَاذَا تَصْنَعَانِ. وَهُوَ يُكَلِّمُ ٱلشَّعْبَ عَنْكَ. وَهُوَ يَكُونُ لَكَ فَماً، وَأَنْتَ تَكُونُ لَهُ إِلٰهاً» (خر 4: 14 - 16). فإلهية موسى هنا بالنسبة لهارون، هي باعتبار أنه مصدر كلمة الله إلى هارون، فموسى هنا كان يتلقى من الله القوة، والكلام، وكان بالنسبة لهارون «إلهاً» يعطيه الكلام الذي ينطق به «هو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً».
هذه هي «الإلهية» التي يمكن أن يصل إليها الإنسان.
أما المسيح فهو «الله الابن» ولذا فهو يقول لليهود إذا كان كتابكم المقدس قد قال عن قضاتكم، وهم بشر يموتون ويسقطون إنهم آلهة، وهذا كلام الله الثابت المتين، وأنتم لم تتهموا آساف كاتب هذا الكلام بالتجديف «فالذي قدسه الآب وارسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله» وكأن المسيح يقول: «أتقولون لي أنا المسيح، الذي كرسني الآب ومسحني لعمل الفداء إني أجدف لأني قلت إني ابن الله».
إذا جاز أن يقال عن قضاتكم وهم خطاة، يناديهم الله قائلاً: «حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْراً وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ ٱلأَشْرَارِ؟» (مز 82: 2) «إنهم آلهة» فالابن الوحيد المعصوم عن الخطأ، الذي مسحه الآب من الأزل، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت أنا «أبن الله»؟؟
وأخيراً يأتي بهم المسيح إلى فصل الخطاب قائلاً: «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِٱلأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يو 10: 37 و38). وهو بهذه الكلمات يفرق بين إلهية القضاة، وألوهيته هو، فالقضاة وموسى «آلهة» من جانب واحد، أما المسيح فهو «ابن الله الوحيد» الذي قال عنه بولس الرسول «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو 2: 9) هنا لا فرق بين الإلهية والألوهية «Divinity and Deity» بين البشر مهما سما مركزهم سواء كانوا قضاة أو أنبياء. وبين المسيح «ابن الله» فكلمات النص إذاً تؤكد لاهوت المسيح ولا تلقي الشبهة عليه.
نقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات «سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى ٱلآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (يو 14: 28) و «شهود يهوه» يقولون: كيف يمكن أن تنادوا بمساواة الابن بالآب وها هو الابن يقول بلسانه «لأن أبي أعظم مني؟».
وهنا نعود إلى قرينة الكلام مستخدمين قوانين التفسير الصحيح، وسنرى أننا لا يمكن أن نفهم آية من الكتاب المقدس فهماً سليماً بعيداً عن قرينتها، ومقارنتها بالآيات المشابهة لها.
والآن ماذا قال المسيح في حديثه قبل أن يذكر الآية التي نحن بصددها؟ إنه قال «ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 14: 24). والعبارة التي يجب أن ننتبه إليها هي «الآب الذي أرسلني» لأننا نتبين منها أن الصلة الموجودة هنا بين «الآب والابن» هي صلة «المرسِل والمرسَل منه» أي أننا نرى الآب مرسلاً الابن، فمركز الابن هنا هو مركز «الرسول» بالنسبة لمن أرسله، وقد قال المسيح بفمه المبارك: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ» (يو 13: 16) فالعظمة المنسوبة إلى الآب هنا بالنسبة للابن، هي عظمة «المرسل» بالنسبة «للمرسَل» فالآب هنا يوصف بأنه أعظم من الابن، لأنه هو الذي ارسل الابن (يو 3: 17) والآب لم يتجسد، لكن الابن تجسد، وفي تجسده صار ليس فقط أقل من الآب بل أقل من الملائكة كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ» (عب 2: 9).
فالمسيح بتجسده أصبح أقل من الآب، بل أقل من الملائكة، وباعتباره «مرسلاً» والآب هو الذي أرسله، وباعتباره قد صار إنساناً وأصبح أقل من الملائكة قال: «لأن أبي أعظم مني».
وهذا لا يمس لاهوته إطلاقاً ولا يمس مساواته بالآب لأنه في ذات الأصحاح يقول: « اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 9). ويؤكد وحدانية الثالوث بكلماته: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يو 14: 23) وفي سفر رؤيا يوحنا نرى أن «كُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 5: 13). ومن هذه الكلمات نتأكد مساواة الآب بالابن في الكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين.
وهكذا إذ نعود إلى إنجيل يوحنا نسمع كلمات المسيح: «أنا والآب واحد» (يو 10: 30). ونراه يقدم نفسه عن الآب، دون أن يكون في هذا اختلاساً أو غضاضة فهما واحد في الجوهر، واحد منذ الأزل وإلى الأبد.
نجد في إنجيل يوحنا الكلمات: «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يو 17: 3).
ويقول شهود يهوه إن هذه الآية تدل على أن الله هو الإله الحقيقي وحده وأن يسوع المسيح مرسل منه ولذا فليس هو «الله الابن».
وإذ نعود إلى الأصحاح التي وردت فيه هذه الآية نجد أن المسيح يخاطب الله بقوله: أيها الآب، ويؤكد في نفس الأصحاح أنه كان موجوداً مع الآب قبل كون العالم «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يو 17: 5)، ويؤكد أيضاً وحدانيته مع الآب «لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ» (يو 17: 11) «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ» (يو 17: 21) بل ويؤكد أن الآب أحبه قبل إنشاء العالم «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يو 17: 24).
كل هذه الآيات تؤكد لنا أزلية المسيح ووحدانيته مع الآب، وفي الآية التي نحن بصددها يعلن لنا المسيح بكلماته أن الحياة الأبدية تتوقف على «معرفة الإله الحقيقي الذي أظهر محبته بإرسال ابنه يسوع المسيح لعمل الفداء العظيم»، وكون الحياة الأبدية شرطها معرفة الإله الحقيقي ويسوع المسيح فهذا برهان على لاهوت المسيح، لأن معرفة الإله المسيح مساوية لمعرفة الإله الحقيقي، فالمسيح هنا موضوع المعرفة بنفس الدرجة التي فيها الآب موضوع هذه المعرفة مما يؤكد لاهوت المسيح بكيفية قاطعة.
وبغير شك أن أحداً لا يمكنه أن يعرف الآب «الإله الحقيقي» إلى عن طريق معرفته لابنه يسوع المسيح «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18).
وتترجم هذه الآية في اللغة الإنكليزية في الترجمة المعروفة باسم «The Amplified New Testamen» هكذا:
«No man has ever seen God at any time, the only unique Son, WHo is in the bosom of the father He has declared Him, He has revealed Him, brought Him out where He can be seen»
وتعني كلمة «خبّر» في هذه الترجمة أظهر، أعلن، أحضره إلى حيث يمكن أن يُرى فالمسيح هو «الطريق» لمعرفة الإله الحقيقي، كما قال لليهود بفمه المبارك: «لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً» (يو 8: 19). وكما قال لتوما: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي. لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ ٱلآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 6 - 9).
فنوال الحياة الأبدية يتوقف على معرفة الله الحقيقي الذي أعلن ذاته في ابنه يسوع المسيح كما قال يوحنا الرسول: «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ: أَنَّ ٱللّٰهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ. مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ» (1 يو 5: 11 و12). وهذه المعرفة لا يمكن الوصول إليها بدون المسيح.
فالآية إذاً لا تتعارض مع مساواة الابن بالآب. وبالتالي لا تمس لاهوت المسيح.
كتب بولس في رسالته إلى كورنثوس: «وَلٰكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ. وَرَأْسُ ٱلْمَسِيحِ هُوَ ٱللّٰهُ» (1 كو 11: 3)
ويقول شهود يهوه وهم يستخدمون هذه الآية : لو كان الله والمسيح واحداً فكيف يكون رأس المسيح هو الله؟
وهنا أنبه إلى ضرورة استخدام قوانين التفسير الصحيح، فنعود إلى القرينة، ونقارن الروحيات بالروحيات.
وبولس الرسول يقول هنا: «إن رأس كل رجل هو المسيح» وهو يعني يقيناً أن الرجل الذي قبل المسيح مخلصاً أصبح المسيح رأسه - أما الرجل الملحد، الشرير، الفاسد، النجس، فالمسيح ليس رأساً له.
ويتابع بولس كلماته قائلاً: «وأما رأس المرأة فهو الرجل» وليس معنى هذا أن كل رجل هو رأس لكل امرأة، ولكن الرجل هو رأس امرأته.. رأس زوجته.. بمعنى أن علاقة الزواج هي التي جعلت الرجل رأساً لزوجته، وهذا واضح من كلمات بولس القائلة «أَيُّهَا ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ» (أف 5: 22 و23).
وهذا يعني أن المرأة التي قبلت رجلاً ما زوجاً لها، رضيت به في ذات الوقت رأساً لها، وقبلت الخضوع له.
ويستطرد الرسول بولس قائلاً: «ورأس المسيح هو الله» وهذا معناه أن المسيح بقبوله الاختياري أن يكون نائباً عن الإنسان، وأن يخضع لإرادة الله الهادفة إلى موته على الصليب بديلاً عن الإنسان، وأصبح الله هو رأسه كإنسان. كما ترينا الكلمات: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ ٱلابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ ٱلآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهٰذَا يَعْمَلُهُ ٱلابْنُ كَذٰلِكَ» (يو 5: 19). وكما نرى في خضوع المسيح لإرادة الآب في كلماته: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لو 22: 42).
ولكن كون الله «هو» رأس المسيح المتجسد، لا يعني أن المسيح ليس واحداً معه، فالعلاقة التي تجعل الرجل رأساً للمرأة هي علاقة الزواج، ويقول الرب عن علاقة الزوجين: «يَكُونُ ٱلاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ» (مت 19: 5 و6).
فمع أن الرجل هو رأس المرأة، لكنهما واحد وليسا بعد اثنين بشهادة الرب نفسه «إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد».
ومع أن الله هو رأس المسيح، لكنهما واحد كذلك بنفس القياس، قياس قبول المسيح الخضوع لإرادة الآب بالتجسد والطاعة حتى الموت موت الصليب، والقياس هنا مع الفارق العظيم بين الجسديات والإلهيات.
إذاً الآية موضع التفسير صارت واضحة. لأنها ترينا أن العلاقة التي بين الرجل والمرأة في الزواج تجعل الرجل رأساً للمرأة لكنها لا تنفي وحدتهما، والعلاقة بين المسيح المتجسد والله الآب، تجعل الآب رأساً للمسيح ولا تنفي الوحدانية الأزلية بينهما.
إن الوحدة في الزواج لا تنفي رآسة الزوج لزوجته، ورآسة الزوج لزوجته لا تنفي وحدتهما لأن علاقتهما مزدوجة التركيب، فيها وحدة وفيها رآسة، وهكذا عندما تجسد المسيح صارت بينه وبين الآب علاقة مزدوجة فباعتباره «الابن الأزلي» هو واحد مع الآب وباعتباره «ابن الإنسان» صار الله رأسه، وليس في هذه العلاقة ما يلقي شبهة على لاهوت المسح.
كتب بولس الرسول هذه الكلمات: «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ٱلنِّهَايَةُ، مَتَى سَلَّمَ ٱلْمُلْكَ لِلّٰهِ ٱلآبِ، مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُّوَةٍ. لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. آخِرُ عَدُّوٍ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ. لأَنَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلٰكِنْ حِينَمَا يَقُولُ إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ ٱلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ. وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (1 كو 15: 24 - 28).
والعصريون من أضداد المسيح يقولون: انظروا «الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل» وهذا يرينا عدم مساواة الابن بالآب، وبالتالي يرينا أن المسيح ليس هو «الله الابن».
ولكي نفهم هذه الآيات يجب أن نطبق قانون التفسير الصحيح «قارنين الروحيات بالروحيات». فمن أين جاءت هذه الآيات؟
إننا نجدها في المزمور الثامن، ولا بد أن نعود إليه لنفهم معناها، فالكتاب المقدس يفسر بالكتاب المقدس، فمن يجهل الكتاب ككل يجهل تفسير آياته، ومن يعرفه في وحدته يستطيع فهم صعوباته.
فتعال معي لنقرأ كلمات المزمور الثامن: «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (مز 8: 3 - 6).
هنا نجد داود يتأمل عظمة السموات، ويتساءل أمام روعة تكوينها «من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده. وتنقصه قليلاً عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله. جعلت كل شيء تحت قدميه».
لكن هل حقاً كل شيء تحت قدمي الإنسان؟
لقد كان هذا هو غرض الله حين خلق الإنسان كما نقرأ: «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ ٱللّٰهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ» (تك 1: 27 و28).
لكن الإنسان فشل في إتمام غرض الله.. ولم يستطع أن يخضع كل ما في الأرض، لقد سلبته الخطية الكثير من سلطانه، ولذا نجده يهرب من الأسد، والحية، والثعبان.. ويصرخ من الفزع حين يرى عقرباً.. بل أن المرأة تصرخ حين ترى فأراً.
لقد فشل الإنسان بسقوطه في إخضاع كل ما على الأرض.
وجاء الرب يسوع.. وأخذ صورة الإنسان.. ليس فقط ليفدي الإنسان، بل لكي يتمم قصد الله في الإنسان، وهو إخضاع كل شيء تحت قدمي الإنسان.
ولنعد الآن إلى الأصحاح الذي أخذنا منه الآيات موضوع تفسيرنا، فهناك نقرأ: «فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ» (1 كو 15: 21).
وهذه الكلمات تتحدث عن «إنسانية» المسيح.. إذ الموت بإنسان هو آدم الأول.. بإنسان أيضاً - وهو آدم الأخير - قيامة الأموات، ثم قرب ختام الأصحاح نقرأ «ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ. ٱلإِنْسَانُ ٱلثَّانِي ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (1 كو 15: 47).
فالأصحاح كله يتحدث عن «ناسوت» الرب يسوع، وفي ذات الوقت يؤكد «لاهوته» فهو الإنسان الثاني وهو الرب من السماء.
الإنسان البشري فقد سيادته بسقوطه، ولكننا نرى داود في المزمور الثامن يؤكد سيادة الإنسان، وهو بهذا التأكيد يشير إلى «ابن الله» الذي سيأخذ صورة الإنسان، ليتمم غرض الله الذي أراده من البداية للإنسان كما نرى ذلك واضحاً في الرسالة إلى العبرانيين (عب 2: 5 - 9).
فالحديث في آيات موضوعنا هو عن «الرب يسوع المسيح» باعتباره ممثلاً للإنسان وبهذا الاعتبار سيُخضع الله الآب كل شيء تحت قدميه.
وتقول الكلمات.. ومتى أخضع له الكل.. من الذي سيخضع له الكل؟ الله الآب سيُخضع للمسيح الإنسان كل شيء.. حتى الموت نفسه لأن «آخر عدو يبطل هو الموت»ومتى أخضع الله الآب كل شيء للمسيح باعتباره رأساً وممثلاً للإنسانية، يأتي المسيح بهذا الاعتبار فيسلم الملك لله الآب، ويخضع له معترفاً بأن القوة التي فيه لم تكن قوة إنسانية بل كانت قوة الله القادر على كل شيء، وكأنه يقول «الآن قد انتهت مهمتي تماماً كإنسان».
فأنا أخذت صورة الإنسان لأفدي الإنسان، وفوق الجلجثة فديت الإنسان.
وأنا أخذت صورة الإنسان لكي تُخضع لي كل شيء على الأرض حتى الوحوش والشيطان، وفي الملك الألفي أخضعت كل شيء تحت قدمي.
وأنا أخذت صورة الإنسان لأبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس. وأنهي سيادة الموت على الإنسان، وقد أنهيت سيادة الموت.
والآن لا ضرورة لبقاء السلطان المعطى لي كإنسان.. لذا فأنا أسلم لك الملك الذي أخضعته تحت قدمي حتى يرى المفديون الثالوث العظيم الآب والابن والروح القدس، الله الأزلي في ملكه الأبدي، ودون توسط المسيح الإنسان.
وهذا الفسير يصبح أكثر وضوحاً حين نعود إلى الرسالة إلى العبرانيين ونقرأ هناك الكلمات: «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ «ٱلْعَالَمَ ٱلْعَتِيدَ» ٱلَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ. لٰكِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ قَائِلاً: مَا هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ. بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ، وَأَقَمْتَهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. لأَنَّهُ إِذْ أَخْضَعَ ٱلْكُلَّ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً غَيْرَ خَاضِعٍ لَهُ» (عب 2: 5 - 8).
لكن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يستمر قائلاً: «عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَهُ» (عب 2: 8).
أجل فهناك أشياء كثيرة لم تخضع بعد للمسيح الإنسان.
فالوحوش ما زالت في طبيعتها المفترسة، والموت ما زال يختطف البشر، والخطية ما زالت سائدة في عالم اليوم، فأين خضوع كل شيء إذاً؟ «لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له» .
ويستمر كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلاً «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ» (عب 2: 9)
فالرب يسوع باعتباره نائباً عن الإنسانية، سيُخضع الله تحت قدميه كل ما في الأرض، ليتمم غرض الله في الإنسان «فَيَسْكُنُ ٱلذِّئْبُ مَعَ ٱلْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ ٱلنَّمِرُ مَعَ ٱلْجَدْيِ، وَٱلْعِجْلُ وَٱلشِّبْلُ وَٱلْمُسَمَّنُ مَعاً، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَٱلْبَقَرَةُ وَٱلدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعاً، وَٱلأَسَدُ كَٱلْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْناً. وَيَلْعَبُ ٱلرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ ٱلصِّلِّ، وَيَمُدُّ ٱلْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ ٱلأُفْعُوانِ. لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (إش 11: 6 - 9).
وبعد أن يخضع «الله الآب» للمسيح الإنسان كل شيء، يسلم المسيح الإنسان الله الآب كل انتصاراته، معترفاً بأن القوة العاملة فيه هي قوة الله الآب وكأنه يقول: «ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ» (يو 14: 10) وهكذا يسوع الآب والابن والروح القدس الثالوث العظيم سيادة مطلقة في الأبدية السعيدة دون حاجة لتوسط الإنسان.
فالآيات لا تلقي شبهة على لاهوت المسيح، بل ترينا كمال عمله باعتباره «ابن الإنسان» الذي هو في ذات الوقت «ابن الله».
نقرأ في الرسالة إلى أهل أفسس الكلمات «كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلٰهُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلْمَجْدِ، رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ» (أف 1: 17).
ويبدو من ظاهر الكلمات أن الله هو «إله المسيح» وهنا يقول شهود يهوه إنه لا يمكن أن يكون المسيح هو الله الابن.
والقارئ الفطن يرى أن رسالة أفسس تتحدث عن «تدبير ملء الأزمنة» وفي هذا التدبير يجمع الله كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض (أفسس 1: 10).
والمسيح في هذا التدبير يمثل «الإنسان» الذي أخضع الله تحت قدميه كل شيء (أف 1: 22) وباعتباره «المسيح الإنسان» فالله إلهه كما قاله على الصليب «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» وكما قال لمريم المجدلية: «ٱذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ» (يو 20: 17). وكلمات المسيح هنا تعلن بوضوح أن هناك فرقاً بين أبوة الله له، وأبوته للمؤمنين، ولذا قال «أبي» و «أبيكم» ولم يقل إني أصعد إلى «أبينا» فالمسيح هو ابن الآب منذ الأزل بالحق والمحبة، أما المؤمنون فهم أبناء الله بالتبني.
أما قوله إلهي وإلهكم فنستطيع فهمه لو أدركنا أن المسيح يربط نفسه هنا بتلاميذه بقوله لمريم المجدلية «اذهبي إلى إخوتي» وما دام قد ربط بهم وأصبح نائباً عنهم، فالله في هذا الاعتبار هو «إلهه»، كما هو «إلههم» غير أنه «إلهه» باعتباره الإنسان الكامل الذي سدد كل مطاليب عدالة الله، وأشبع رحمته و «إلههم» باعتبارهم«مكملين فيه» فهو بالنسبة إليهم «إله كل نعمة».
وعلى هذا فإن كلمات بولس «إله ربنا يسوع المسيح» لا تلقي شبهة على لاهوت المسيح. بل تؤكده معلنة أن المسيح هو «ربنا» وهكذا تؤكد رسالة أفسس في كل أجزائها هذا الحق فتعلن أن المسيح هو «الرب» (أفسس 1: 2)، وأنه «ابن الله» أفسس 1: 3 و4: 13)، وأنه الذي يحل بالإيمان في القلب (أفسس 3: 17)، ولكنها تقدمه) هنا) كمن سيجمع الله في شخصه كل شيء، ولا شك أن دارس الكتاب المقدس يجب أن يميز بين عمل «الآب» وعمل «الابن» و «عمل الروح القدس» في كل تدبير وخاصة في تدبير النعمة، وبهذا يستطيع أن يفهم كلمات بولس القائلة: «لٰكِنْ لَنَا إِلٰهٌ وَاحِدٌ: ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ ٱلأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ» (1 كو 8: 6). بل ويقدر أن يفهم كذلك معنى كلماته: «فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ أَعْمَالٍ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ، ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (1 كو 12: 4 - 6).
وهي كلمات تعلن في وضوح عن عمل الثالوث العظيم.
نقرأ في الرسالة إلى أهل فيلبي الكلمات: « ٱلْمَسِيحِ..ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ» (في 2: 6).
ويقول جماعة شهود يهوه إن المسيح: «لم يحسب نفسه معادلاً لله» ولذا فهو ليس ابن الله.
وقرينة الآية تكذب مزاعمهم، وتؤكد لاهوت المسيح. فالمسيح منذ الأزل كان «في صورة الله» ولذا فلم يحسب أنه اختلس مجد الله حين قال إنه ابن الله معادلاً نفسه بالله (اقرأ يوحنا 5: 18). أي أن إعلان المسيح عن نفسه بأنه معادل لله ليس اختلاساً ولا اعتداء على مجد الله، وتؤكد الكلمات اللاحقة بأن المسيح «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ. لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (في 2: 7 - 11). فالآيات تعلن أن المسيح الذي تجسد في الزمان هو نفسه ابن الله منذ الأزل.
نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين الكلمات: «أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِزَيْتِ ٱلابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ» (عب 1: 9).
والمضادون للإيمان بأن المسيح هو الله الابن يقولون انظر: إن الله هو إله المسيح الذي مسحه بزيت الابتهاج.
وإذ نعود إلى القرينة نرى أن النص يؤكد بيقين لاهوت المسيح وبنوته الأزلية للآب، إذ هناك نقرأ: «وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِزَيْتِ ٱلابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ. وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (عب 1: 8 - 10).
وكلمات الرسالة إلى العبرانيين مأخوذة من المزمور الخامس والأربعين، وهو مزمور «المسيح الملك» الذي يخاطبه كاتب المزمور بالكلمات «أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٱنْسَكَبَتِ ٱلنِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذٰلِكَ بَارَكَكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ...» ثم يستطرد مخاطباً إياه بالكلمات: «كُرْسِيُّكَ يَا اَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِدُهْنِ ٱلابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ» (مز 45: 2، 6 و7).
فالحديث إذاً عن المسيح «ابن الله» و «الملك الممسوح من الله» فباعتباره ابن الله يخاطبه الآب بالقول: «كُرْسِيُّكَ يَا اَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ»، «وأنت يا رب في البدء أسست الأرض،، وباعتباره الملك الممسوح من الله» في الزمان يخاطبه بالقول: «أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِدُهْنِ ٱلابْتِهَاجِ».
وهنا يجب أن لا يغرب عن بالنا أن المسيح قد مسح بالروح القدس بعدما اعتمد من يوحنا المعمدان في الأردن (لو 3: 21 و22)، وأنه هناك أعلن الآب من السماء بنوته له بالكلمات: «أنت ابني الحبيب بك سررت» (اقرأ أعمال 1: 37 و38). فالمسحة أمر يتصل بعمل المسيح في الزمان، سواء كان هذا العمل يتصل بالفداء، أو بالملك وإخضاع كل شيء، وعلى هذا يكون المسيح قد مسح كإنسان ليتمم المشورات الأزلية وبهذا الاعتبار فالله إلهه، مع أنه في ذات الوقت ابنه الازلي كما نقرأ في بداية الأصحاح:«اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ» (عب 1: 1 و2). فالمسيح هو ابن الله الذي سيرث الأرض ومن عليها، وهو وحده الذي يعلن لنا من هو الآب الذي يعلنه لنا الآب (اقرأ لو 10: 22 ومت 11: 27).
في رسالة بولس الرسول إلى كولوسي نقرأ عن المسيح الكلمات «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ» (كو 1: 15).
ويقول المعترضون: إن الآية تقول إن المسيح هو بكر كل خليقة، والبكر هو الأول، فالمسيح إذاً هو أول مخلوقات الله، وعلى هذا لا يكون هو الله الابن.
وهذا الفهم الخاطئ يتعارض مع سياق الحديث في هذا الأصحاح، فالقرينة تؤكد أن المسيح هو «الخالق» «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كو 1: 16) فكيف يكون المسيح هو الخالق وهو أول المخلوقات في ذات الوقت؟! وما الذي تعنيه عبارة «بكر كل خليقة»؟
إن كلمة البكر في الكتاب المقدس لا تعني دائماً «الأول» فقد قال الله عن الشعب القديم «ابني البكر» (خر 4: 22)، ويقيناً أن هذا لا يعني أن هذا الشعب هو أول الشعوب، بل يعني أنه «الشعب المحبوب» فالشعب القديم كان محبوباً من الله في ذلك الوقت وقال له الله في سفر ملاخي «أحببتكم قال الرب» (ملا 1: 2) فالبكر إذاً يعني «المحبوب» والمسيح هو «المحبوب» من الآب كما قال بفمه المبارك: «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يو 17: 24).
والبكر يعني القوة والقدرة كما قال يعقوب لابنه رأوبين «رَأُوبَيْنُ، أَنْتَ بِكْرِي قُّوَتِي وَأَّوَلُ قُدْرَتِي» (تك 49: 3). والمسيح هو قوة الله كما قال بولس الرسول: «فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ» (1 كو 1: 24).
والبكر هو الشخص الذي له نصيب اثنين في الميراث كما نقرأ: «إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ٱمْرَأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَحْبُوبَةٌ وَٱلأُخْرَى مَكْرُوهَةٌ، فَوَلَدَتَا لَهُ بَنِينَ، ٱلْمَحْبُوبَةُ وَٱلْمَكْرُوهَةُ. فَإِنْ كَانَ ٱلابْنُ ٱلْبِكْرُ لِلْمَكْرُوهَةِ، فَيَوْمَ يَقْسِمُ لِبَنِيهِ مَا كَانَ لَهُ، لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ٱبْنَ ٱلْمَحْبُوبَةِ بِكْراً عَلَى ٱبْنِ ٱلْمَكْرُوهَةِ ٱلْبِكْرِ، بَلْ يَعْرِفُ ٱبْنَ ٱلْمَكْرُوهَةِ بِكْراً لِيُعْطِيَهُ نَصِيبَ ٱثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ، لأَنَّهُ هُوَ أَّوَلُ قُدْرَتِهِ. لَهُ حَقُّ ٱلْبَكُورِيَّةِ» (تث 21: 15 - 17) والمسيح هو الذي له حق ووراثة كل شيء كما نقرأ «اَللّٰهُ... كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (عب 1: 1 - 2).
والبكر هو أعلى شخص كما قيل: «أَنَا أَيْضاً أَجْعَلُهُ بِكْراً أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ» (مز 89: 27)، والمسيح هو أعلى شخص في الوجود «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ» (في 2: 9).
ولقد قيل عن المسيح إنه بكر بين إخوة كثيرين «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رو 8: 29).
وقيل عنه أنه بكر من الأموات: «ٱلَّذِي هُوَ ٱلْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (كو 1: 18). «وَمِنْ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْبِكْرِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رؤ 1: 5).
فعبارة بكر كل خليقة ترينا أن المسيح هو المحبوب من الآب، وأنه قوة الله، وأنه الوارث للأرض ومن عليها، وأنه أعلى من ملوك الأرض، وأنه البكر من الأموات. أي أول من قام من الأموات ولن يموت أيضاً، وأنه المتقدم في كل شيء، وقرينة الآية تؤكد أنه «صورة الله غير المنظور» وأنه الخالق الذي «الكل به وله قد خلق» وفي هذا ما يعلن عن لاهوته بثقة ويقين.
هذه هي الآية الأخيرة من الآيات التي تبدو مناقضة للإيمان بأن المسيح هو الله، وفيها نقرأ كلمات المسيح «وَٱكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ ٱللاَّوُدِكِيِّينَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلآمِينُ، ٱلشَّاهِدُ ٱلأَمِينُ ٱلصَّادِقُ، بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ» (رؤ 3: 14).
وأعترف أنها أصعب الآيات في كل العهد الجديد، ولكنني تذللت أمام الرب وصليت إليه قائلاً: «ٱكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ» (مز 119: 18). وتنازل الرب بروحه فأرشدني وكشف عن عيني لتفسير هذه الآية كما أرشدني لتفسير ما سبقها من آيات.
والآن ماذا تعني العبارة «بداءة خليقة الله» هل تعني أن المسيح هو أول مخلوق خلقه الله؟
يقيناً: لا. فالمسيح هو الخالق الأزلي الأبدي.
إذاً ما الذي تعنيه هذه الكلمات؟
هنا لا بد لنا من العودة إلى سفر التكوين وهناك نقرأ الكلمات: «وَقَالَ ٱللّٰهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك 1: 26).
ولنا أن نسأل: هل لله صورة وشبه حتى يعمل الإنسان على مثالهما؟ وكيف يمكن أن يكون الإنسان جسداً ويكون في ذات الوقت على صورة الله؟ والله روح كما قال المسيح للسامرية: «الله روح» (يو 4: 24).
فهل للروح وجه وعينان ويدان؟
كيف عمل الله الإنسان على صورته وشبهه وهو روح لا صورة له ولا شبيه؟
هنا نستمع إلى صوت بولس الرسول يقول: «فَإِنَّ ٱلرَّجُلَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ ٱللّٰهِ وَمَجْدَهُ» (1 كو 11: 7).
الرجل صورة الله ومجده. كيف يمكن أن يكون هذا؟ والله لا صورة له ولا شبيه؟
وكيف نوفق بين هذه الآيات؟
لقد كشف الله عن عينيّ فرأيت هذا الحق الواضح الجميل.
إن الله ليس له صورة مادية فهو روح.. ولكنه عمل الإنسان على الصورة التي كان ابنه مزمعاً أن يتجسد فيها في ملء الزمان وعلى هذا يكون المسيح في صورته الإنسانية هو بداءة خليقة الله.
بمعنى أنه كان في فكر الله قبل أن يخلق الإنسان، بل قبل تأسيس العالم، أن يتجسد المسيح في الصورة التي عمل الله على شبهها الإنسان. وهكذا خلق الله الإنسان على الصورة التي كان سيتجسد المسيح بها، فأصبح المسيح الإنسان بهذا الاعتبار هو «بداءة خليقة الله». ويوضح بطرس الرسول هذا الحق في كلماته «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (1 بط 1: 18 - 20). فالصورة الإنسانية التي كانت في فكر الثالوث العظيم عن المسيح حين يتجسد، هي الصورة التي خلق عليها الإنسان البشري، وعلى هذا يكون شكل جسد المسيح هو «بداءة خليقة الله» ويساعدنا هذا التفسير أن نفهم معنى الكلمات «وَقَالَ ٱللّٰهُ نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك 1: 26). ففيها نرى «وحدانية الثالوث منذ الأزل» وتجسد «ابن الله» في «ملء الزمان».
فالذي قال: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، هو الله، والذي خلق الإنسان هو المسيح خلقه على الصورة التي كان سيتجسد بها في ملء الزمان من مريم العذراء، فالمسيح إذاً هو الله والإنسان في آن معاً، هو الخالق لكل ما في السماء، وما على الأرض بل لكل ما يحويه العالم الواسع العريض.
والآن بعد أن ظهر لك شخص المسيح الكريم بمجده وبهائه. وبعد أن رأيته في كمال لاهوته. فما الذي ستفعله؟
إنه لا مفر لك من إعلان موقف واضح بإزائه.
قديماً سأل بيلاطس الوالي الروماني هذا السؤال: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟» (مت 27: 22).
ولا بد أن تسأل نفسك هذا السؤال، فقضية المسيح هي قضية كل إنسان، وعلى أساس جوابك وموقفك بإزاء المسيح المصلوب يتحدد مصيرك الأبدي.
«لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو 3: 17 و18).
«لأَنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ» (رو 10: 9).
فليتك تقبل المسيح اليوم مخلصاً شخصياً لنفسك.
وتعترف به أمام الآخرين رباً وفادياً لحياتك.
فتنجو من الغضب الآتي.
ففي هذا الإيمان الوطيد.
مفتاح الرجاء السعيد.
ان كان لديك أي أسئلة أو استفسارات عن هذا الكتيب، يمكنك الكتابة إلينا مباشرة عن طريق استمارة الاتصال الموجودة على الموقع.
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the - good - way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH - 8486
Rikon
Switzerland