Copyright © 2008 All rights reserved Good Way
يشعر المؤمن الحقيقي كلما اقترب إلى الصليب بإحساس عجيب! أهو إحساس الدهشة الحائرة أمام عظمة الحب الإلهي الذي تجسد في صورة بشر؟ أم هو إحساس الراحة الغامرة أمام اتساع رحمة الله التي احتضنت العالم الأثيم؟ أم هو إحساس المحبة المعبرة لشخصية المصلوب الكريم؟
في يقيني أنه جميع هذه الأحاسيس ممتزجة في إحساس واحد، ذلك الإحساس الذي طغى على مشاعر بولس رسول الجهاد، وهو يتأمل في أمجاد الصليب حتى دفعه أن يهتف مردداً «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 14). فهل كان بولس محقاً عندما افتخر بالصليب؟ أم كان منجرفاً مع تيار خرافات مصنعة؟
إن الصليب هو قوة الله وحكمة الله في نظر المسيحي، وهو عثرة ضخمة أمام عيني اليهودي، وهو جهالة كبرى أمام عقلية اليوناني!!
فعلى أي أساس يفتخر المسيحي بالصليب؟ أهو مجرد تعصب لدين آبائه وأجداده؟ أم أن قصة الصليب قد أخذت قدسية بالتكرار فصارت جزءاً من كيانه، وموضوعاً لتعبده وفخره؟ أم أن المنطق الصحيح هو أساس افتخار المسيحي بصليب المسيح؟
إن الصفحات التالية من هذا الكتاب تريك في أسلوب واضح، الأساس المنطقي الذي يبني عليه المسيحي افتخاره بالصليب، وتعلن لك في جلاء ضرورة الصليب وكفايته لخلاص البشر، وتؤكد لك على أساس من التفكير السليم أن الصليب هو مفتاح قلب الله، ومفتاح قلب الإنسان، ومفتاح أسرار الحياة!!
وغرض الكاتب من كتابة هذا الكتاب هو أن يقودك لترى بنفسك جلال الصليب المجيد، وتكتشف بعقلك بعض الكنوز المذخرة فيه، وتؤمن بقلبك بشخص المسيح المصلوب.
وستدرك بالدليل الأكيد أن الصليب لم ينقص من قدر السيد المسيح، بل على العكس كان هو السلم الذي ارتقى به إلى أعلى ذرى المجد، والصولجان الذي أمسكه بيده ليقود به جماهير الشعوب، والتاج الذي توجه بآيات الحب، والقوة التي جذب بها الخاطئ المسكين المحتاج إلى العطف والحنان والغفران.
فإن رأيت كل هذه الحقائق تغمر قلبك، وتضيء أرجاء نفسك وترفعك من وهدة اليأس إلى آفاق الرجاء وأنت تقرأ هذا الكتاب، فاذكر أن السر كله يكمن في قوة الصليب، وردد مع المرنم الجليل لحنه الجميل:
حين أرى صليب من | قضى فحاز الانتصار |
ربحي أرى خسارة | وكل مجد الكون عار |
يا رب لا تسمح بأن | أفخر إلا بالصليب |
مكرساً نفسي وما | أملك للفادي الحبيب |
وقدّم لفاديك كل المجد وكل الحمد.
شبرا مصر 29 أغسطس 1956
القس لبيب ميخائيل
لا بد لنا ونحن نبحث قضية الصليب، أن ندرس أولاً قصة الإنسان، ذلك لأن بين الإنسان والصليب علاقة متينة، وصلة قوية واضحة.
وضع الله العظيم الحكيم تصميماً رائعاً جميلاً للجنة الأولى التي عاش فيها الإنسان، ونفذ بقدرته ومحبته هذا التصميم، ونحن نقرأ وصفاً موجزاً لهذه الجنة سجله كاتب سفر التكوين في هذه الكلمات «وَغَرَسَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ ٱلَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ مِنَ ٱلأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ ٱلْحَيَاةِ فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ. وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ ٱلْجَنَّةَ» (تكوين 2: 8-10). هكذا رتب الله بيت الإنسان، بعد أن أضاء له السماء بالنجوم اللوامع، وفرش له الأرض بالبسط السندسية الخضراء، وأوجد الحياة النباتية والحيوانية، لغذاء ومتعة هذا المخلوق العتيد!!
والآن نستطيع أن نتخيل اللحظة الحاسمة، ساعة أن جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية.
ويخطر ببالنا السؤال: في أية صورة عمل الله الإنسان؟ ويجيبنا كاتب سفر التكوين بالقول «وَقَالَ ٱللّٰهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ ٱلدَّبَّابَاتِ ٱلَّتِي تَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ. فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تكوين 1: 26 و27) ومعنى هذا في عبارة واضحة أن الإنسان قد خُلق على صورة المسيح «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15). كما يقول يوحنا في غرة إنجيله «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 1 و3). وكما يؤكد بولس قائلاً «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كولوسي 1: 16).
هكذا خلق الله آدم الأول، كاملاً، جميلاً، طاهراً، حراً في إرادته، وكل نظرية أخرى تحط من قدر الإنسان، وتنزل من قدر الله الخالق المنّان، الكامل الذي لا يخلق سوى الكمال والجمال.
وها هوذا آدم الإنسان، قد وقف بين يدي إلهه يؤدي التحية الواجبة على المخلوق من نحو خالقه الطيب الكريم.
ويبقى آدم وحده مدة من الزمن لا نعلم بالتحقيق مداه، مخلوق حر يتمتع بحرية الإرادة والاختيار، ويعطيه الله وصيته الوحيدة كاختبار لحريته قائلاً «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 16 و17).
شجرة واحدة محرمة... ووصية واحدة حازمة... ونهاية واحدة محتومة... إذا استخدم المخلوق الحر إرادته لعصيان إرادة الله... «يوم تأكل منها موتاً تموت».
وتمر الأيام على آدم وهو في الجنة الفيحاء، وبين الأشجار الخضراء، والزهور الحمراء، والبيضاء، والصفراء، يتمتع بالأرض والسماء، والماء والهواء، ويعيش في رحاب الجنة مع رهط من الحيوانات.
وهنا يقول الخالق القادر على كل شيء «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تكوين 2: 18).
وقد يسأل سائل: لماذا لم يخلق الله المرأة يوم خلق الرجل؟ ومع أننا لا نجد إجابة حاسمة لهذا السؤال إلا أننا نستطيع القول: إن الله أراد بأن يكون آدم في شوق إلى مجيء هذا المخلوق، حتى إذا جاء أكرمه، وأحبه، وأحس معه ببهجة الحياة.
والصورة المرسومة في سفر التكوين ترينا آدم يبحث بين حيوانات الأرض عن مخلوق يرتاح إليه، ويتحدث معه، وفي موكب الحيوانات التي مرت عليه ليعطي لكل حيوان اسمه «وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِيناً نَظِيرَهُ»! (تكوين 2: 20).
فهل أحسّ آدم بالوحدة في الجنة الجميلة؟ ربما... والسجل المقدس يرينا أن الله قد أحس بما شعر به هذا المخلوق الطيب الوديع «فَأَوْقَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلضِّلْعَ ٱلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ ٱمْرَأَةً» (تكوين 2: 21 و22).
وفي صباح مشرق بهيج، فتح آدم عينيه ليرى إلهه وهو يحضر له مخلوقاً نظيره، يحس بأحاسيسه، ويشعر بمشاعره، ويضحك لضحكاته، ويتحدث إليه بلغته التي يفهمها... ودعا هذه المخلوقة الجميلة «امرأة» قائلاً «لأَنَّهَا مِنِ ٱمْرِءٍ أُخِذَتْ» (تكوين 2: 23) وسار موكب الأيام والسعادة ترفرف في أرجاء جنة الإنسان.
وقفت الإنسانية ممثلة في آدم وحواء أمام الله تتلقى الوثيقة الأولى التي نطق بها الله، ورسم فيها حقوق الإنسان، ونحن نقرأ مواد هذه الوثيقة في هذه الكلمات:
«فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ ٱللّٰهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَقَالَ ٱللّٰهُ: إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْراً عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْراً لَكُمْ يَكُونُ طَعَاماً» (تكوين 1: 27-30).
وهكذا تلقت الإنسانية جمعاء ممثلة في أبيها آدم وأمها حواء، أول تأمين ضد العوز، والخوف، والاستعباد... فلا جوع، ولا شقاء... بل بركة وأثمار، وسيادة، وهناء مقيم.
فجأة يبرز في وسط هذا المشهد الجميل الرائع، الشيطان، مستخدماً الحية في إسقاط الإنسان.
فمن هو الشيطان؟ وما أصله؟ وهل خلق الله ذلك المخلوق الرجيم؟ أو خلقه ملاكاً رحيماً حكيماً ثم انحدر ذلك الملاك وسقط عن طريق التصلف والكبرياء؟
إن حزقيال وإشيعاء يشتركان معاً في كشف النقاب عن أصل هذا المخلوق العجيب، ففي سفر حزقيال نقرأ هذه الكلمات «وكان إليّ كلام الرب قائلاً: يَا ٱبْنَ آدَمَ، ٱرْفَعْ مَرْثَاةً عَلَى مَلِكِ صُورَ وَقُلْ لَهُ: هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: أَنْتَ خَاتِمُ ٱلْكَمَالِ، مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ ٱلْجَمَالِ. كُنْتَ فِي عَدْنٍ جَنَّةِ ٱللّٰهِ. كُلُّ حَجَرٍ كَرِيمٍ سِتَارَتُكَ، عَقِيقٌ أَحْمَرُ وَيَاقُوتٌ أَصْفَرُ وَعَقِيقٌ أَبْيَضُ وَزَبَرْجَدٌ وَجَزْعٌ وَيَشْبٌ وَيَاقُوتٌ أَزْرَقُ وَبَهْرَمَانُ وَزُمُرُّدٌ وَذَهَبٌ. أَنْشَأُوا فِيكَ صَنْعَةَ صِيغَةِ ٱلفُصُوصِ وَتَرْصِيعِهَا يَوْمَ خُلِقْتَ. أَنْتَ ٱلْكَرُوبُ ٱلْمُنْبَسِطُ ٱلْمُظَلِّلُ. وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ ٱللّٰهِ ٱلْمُقَدَّسِ كُنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ ٱلنَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ» (حزقيال 28: 11-15). ومع أن الحديث موجه إلى ملك صور، لكن الأوصاف التي يتضمنها الحديث لا يمكن أن تنطبق على إنسان بشري ساقط، وكل ما في الأمر أن ملك صور اختير كرمز للشيطان لانه كان يؤله نفسه كما فعل الشيطان تماماً، والشخص الموصوف هنا «خاتم الكمال. ملآن حكمة. وكامل الجمال» كان يسكن «عدن جنة الله» وهي قطعاً غير عدن الجنة التي أسسها الله للإنسان، وكان الكروب المنبسط المظلل وقد أقامه الله على جبله المقدس، وتمشى بين حجارة النار، وكان مخلوقاً كاملاً في طرقه من يوم خلق حتى وجد فيه إثم!! فمن يكون هذا المخلوق الذي كان بهياً وكاملاً سوى الشيطان؟ وما هو سر سقوطه الشائن الرهيب؟ يجيبنا إشعياء بالقول «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ ٱلصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى ٱلأَرْضِ يَا قَاهِرَ ٱلأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ ٱللّٰهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ ٱلٱِجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي ٱلشِّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ ٱلسَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ ٱلْعَلِيِّ» (إشعياء 14: 12-14). فالسر في سقوط الشيطان هو التصلف والكبرياء، هو أنه أراد أن يرفع كرسيه فوق كواكب الله، وأن يصير مثل العلي. لكنه هوى من مركزه الرفيع، لأن «قَبْلَ ٱلْكَسْرِ ٱلْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ ٱلسُّقُوطِ تَشَامُخُ ٱلرُّوحِ» (أمثال 16: 18).
وقد يسأل سائل: لماذا لم يبد الله الشيطان من الوجود حين سقط حتى لا يكون سبباً في سقوط الإنسان؟ وإجابة هذا السؤال تتلخص في أن الله قد سمح في حكمته أن يبقى الشيطان، ليُظهر للملأ الأعلى شروره فلا يترك مجالاً للشك عند الملائكة من جهة عدالته.إذ أنه لو أباد الله الشيطان بعد عصيانه مباشرة، لجاز أن يشك الملائكة في عدالة الله لكن الله ترك الشيطان ليري الملائكة والناس خداعه المخيف، وشره الفظيع، والشقاء المجسم الذي جلبه على الخليقة بتمرده على خالقه، حتى إذا حان يوم عقابه الأبدي تجلت عدالة الله في وضوح وجلاء، وفوق ذلك ففي مقدورنا أن نستعير أيضاً الكلمات التي وجهها الله لفرعون، كإجابة على سؤالنا بخصوص بقاء الشيطان، إذ قال الله لفرعون «إِنِّي لِهٰذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِٱسْمِي فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ» (رو 9: 17) أجل فقد أبقى الله الشيطان ليُظهر فيه قوته، ويستخدمه في إعلاء مجده الذي لا يزول.
والذي يهمنا هنا هو أن نسجل أن سبب الخطية في العالم لم يكن هو الله المحب، الطيب القدوس، بل كان الشيطان، الطاغي، المتكبر، النجس، بعدما هوى من مركزه السامي إلى درك العصيان.
ولقد قال رب المجد في وصفه للشيطان «ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ» (يو 8: 44).
والآن، لندخل إلى جنة عدن لنرى كيف جرّب الشيطان الإنسان، وكيف قاده إلى السقوط؟؟
يصور لنا كاتب سفر التكوين منظر التجربة التي أسقطت الإنسان في هذا التعبير «وَكَانَتِ ٱلْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ ٱلَّتِي عَمِلَهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ» (تكوين 3: 1) ويقيناً أن الشيطان قد استخدم الحية في خداعه الغريب، حتى صارت رمزاً دائماً لشخصيته الأثيمة، وهذا ما يؤكده لنا يوحنا في رؤياه قائلاً «فَطُرِحَ ٱلتِّنِّينُ ٱلْعَظِيمُ، ٱلْحَيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ ٱلْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَٱلشَّيْطَانَ، ٱلَّذِي يُضِلُّ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ - طُرِحَ إِلَى ٱلأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ» (رؤ 12: 9). فالحية التي تقدمت لتجربة حواء، كانت تحمل صوت الشيطان إلى قلب الإنسان، وما أخدع هذا الصوت الناعم الجميل الذي قال عنه بولس الرسول محذراً «وَلٰكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هٰكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ» (2 كو 11: 3).
فكيف تكلم الشيطان بواسطة الحية إلى حواء؟ وما هي السموم التي حملتها كلماته إلى الإنسان وهو في برارته ونقاوته؟
لم يكن لدى حواء سوى كلمة الله، وكان ثباتها في طاعة هذه الكلمة يعني الحياة، والسعادة والهناء الدائم، وكان عصيانها يحمل في طياته الموت، والشقاء، والعذاب الأليم، وكان هدف الشيطان أن يدخل الشك إلى قلب حواء في صدق كلمة الله، هذا هو عمله على مر العصور والدهور، فتكلم بواسطة الحية قائلاً «أَحَقّاً قَالَ ٱللّٰهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ؟» (تكوين 3: 1).
سؤال ماكر، كاذب، خداع، يحمل كل عناصر الخيانة والغدر. فقطعاً كانت الحية تعلم ماذا قال الله، وكانت ترى حواء وهي تنتقل بين أشجار الجنة، وتأكل ما تريد من أثمار، لكنها أرادت بسؤالها هذا أن توجّه مجالاً للحديث مع حواء. لتغرر بها فتأكل من ثمر الشجرة المحرمة، وتعصى وصية الله... وانزلقت المرأة إلى الفخ الذي أحكم الشيطان وضعه، وأجابت الحية قائلة: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ فَقَالَ ٱللّٰهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا» (تكوين 3: 2 و3)، إذاً فلم يقل الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ وإذاً فإن سراً رائعاً يكمن في ثمر هذه الشجرة المحرمة؟ ومن أجل هذا السر منعهما الله أن يأكلا منه، وهذا أمر يدعو إلى الشك والتفكير! وإذ بدأ عقل حواء يفكر، هتفت الحية قائلة «لن تموتا» (تكوين 3: 4) أو بعبارة أخرى «لا تصدقي الله يا حواء فليست كلمته هي الفيصل» وهكذا غرس الشيطان بذور الشك في صدق كلمة الله في قلب حواء... وهذه أولى خطوات الانحدار!!
في لغة ماكرة، ناعمة، همست الحية في أذن حواء بالعبارة «لن تموتا» ومع أن هذه الكلمة تحوي كل معاني الشك في صدق الله، فهي كذلك تحمل في طياتها كل عناصر الشك في دينونة الله، فكأن الحية تقول في عبارة أخرى، ليس هناك موت، ولا عقاب، ولا دينونة! وإلى اليوم ما زال الشيطان يبذر ذات البذور في قلوب البشر، مشككاً إياهم في حقيقة دينونة الله، ليستهينوا بالشر، ويستخفوا بالعصيان، وإذ دخل الشك في قلب حواء صارت قريبة من السقوط والانهيار.
تركزت عينا حواء في ثمر الشجرة المحرمة، واستطردت الحية تقول بصوتها الخادع: «ٱللّٰهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَٱللّٰهِ عَارِفَيْنِ ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ» (تكوين 3: 5)... كيف انسابت هذه الكلمات إلى أذني حواء؟ أي صورة رسمتها في ذهنها لله؟ هنا يجدر بنا أن نقف قليلاً، فلا شك أن حواء قالت لنفسها: إذا كان ثمر هذه الشجرة سيجعلنا كالله، فلماذا حرمنا الله من أكله؟ ألعله لا يحبنا بالكفاية؟ ألعله لا يريد لنا الرفعة والمجد والجلال؟ وبدأت بذور الشك في محبة الله تغمر هذا القلب النسائي الضعيف، واجتمعت عليه كل عناصر الإغراء والغواية... من شك في صدق كلمة الله إلى شك في حقيقة دينونة الله، إلى شك في محبة الله، وعندما تملكت هذه الشكوك قلب حواء بدأ صوت التحذير الإلهي يضعف في ذهنها، وصوت الإغراء الشيطاني يقوى في أرجاء نفسها! ثم تأتي نهاية المأساة، فينتصر الشيطان على الإنسان، وتنظر حواء إلى الشجرة فترى أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، ثم نقرأ عن الخاتمة المخيفة «أَنَّ ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ ٱلشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تكوين 3: 6) وهكذا سقطت حواء أم الإنسانية، وسقط معها آدم أبو البشر أجمعين!!
عصت العائلة البشرية الأولى صوت الله، وأطاعت صوت الشيطان، وأسدل الستار على عصر برارة الإنسان، بل اسدل على هنائه،وسعادته، وبدأت الدراما الإنسانية تأخذ مكانها على مسرح الأرض الجدباء.
وهنا يليق بنا أن نتتبع النتائج الرهيبة لسقوط الإنسان، فتعال معي لنسر في كهوف هذه المأساة الإنسانية الكبرى، ونرى ما جرّته من شقاء على البشرية جمعاء!!
فتح الإنسان عينيه بعد أن عصى إلهه ليرى نفسه عارياً، والإحساس بالعري هو أكبر دليل على ضياع الشعور بالبراءة، فالطفل الصغير دون سن المسئولية لا يشعر بالعري لأن إدراكه لمعنى الشر لم يكمل بعد، أما الإحساس بالعري، فيعني أن العين لم تعد بسيطة كما كانت، وأن العقل بدأ يفكر أفكاراً رديئة... ولما أحس الإنسان بعريه حاول أن يستر نفسه، لكن بماذا؟ بأوراق تين لا بد أن تجف وأن تكشف ما وراءها من عورات.
ومحاولة ستر الجسد العاري، تقابلها محاولة أخرى أعمق وأخطر شأناً هي محاولة كبت الشعور بالذنب، وتغطيته إما بالنسيان، أو بالاعتذار، أو بالتهوين، أو بعدم المبالاة، أو بالانغماس في المشاغل والملذات للهروب من مواجهة الله، وكل هذه أوراق تين لا تستطيع أن تستر ذنب الإنسان.
وجاء الرب الإله!!
فهل استقبله آدم ليحييه التحية الواجبة على المخلوق نحو خالقه؟ وهل أسرع إليه كعادته كل يوم يتحدث معه حديث الشركة القلبية الحبية؟!
لقد طغى عنصر جديد على حياة هذا المخلوق بعد أن عصى وصية الله، هو عنصر الإحساس بالخوف، والخوف والخطية صنوان لا يفترقان.
جاء الرب الإله، فلما سمع آدم وإمرأته صوته عند هبوب ريح النهار أحسا بالخوف، واختبأا في وسط شجر الجنة. قالت لهما الحية أنهما سيصيران كالله، وها هما ينزلان درجة في سلم الانحدار، فيملأهما الخوف من مواجهة الله، ويسرعان للاختباء وسط الأشجار، تماماً كما يفعل الكثيرون اليوم، حين يختبئون وراء أشجار المذاهب الدينية، أو وراء أشجار المظاهر الكنسية، أو وراء أشجار العلم والأدب وحسن اللياقة... أشجار كلها إلى ذبول.
وألقى الله أول سؤال سمعه إنسان عاش على هذه الأرض «آدَمَ: أَيْنَ أَنْتَ؟» (تكوين 3: 9) وأجاب آدم «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي ٱلْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ» (تكوين 3: 10) وكشف الإنسان في إجابته عن حقيقة إحساسه من نحو الله، إحساس الخوف بدل إحساس الحب، وإحساس العداء والهرب بدل إحساس القرب!! ومع الإحساس بالعداء لله، شعر الإنسان بالعداء لأخيه الإنسان، ونرى ذلك في محاولة آدم إلقاء التبعة على حواء، وذكر شخصيتها دون أي لقب يدل على الحب والوفاء فقد قال لله «ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي» (تكوين 3: 12)، ولم يقل شريكة حياتي أو أليفة وحدتي... ومنذ ذلك اليوم والعداء مستحكم بين الناس، نراه في الحروب، والخصام، وسفك الدماء!! وكل هذه المشاعر والأحاسيس ملأت كيان الإنسان بعد السقوط؟
وسأل الله آدم «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟» (تكوين 3: 11). ويقيناً أن الله كان يعرف أن آدم قد أكل من الشجرة لكنه سأله ليعطيه فرصة للاعتراف بخطيته، ولكننا بدلاً من أن نسمع اعترافاً وشعوراً بالندم، نسمع إجابة جريئة متبجحة تخرج من فم الإنسان إذ يقول «ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ ٱلشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ» (تكوين 3: 12)، وكأنه بهذه الإجابة يضع مسئولية سقوطه على الله، لا على طاعته للشيطان وسماعه لصوت الإغراء الآتي من حواء!!
وسأل الله حواء: «مَا هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلْتِ؟» (تكوين 3: 13) مرة ثانية، يتنصل الإنسان من المسئولية، فتجيب المرأة وهي نصف البشرية الثاني: «ٱلْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ» (تكوين 3: 13).
ولا يسأل الله «الحية»، لأنه يعرفها... يعرف أن الشيطان قد استخدمها، وأنه يتحداه بإسقاطه للإنسان!!
ويبدأ الله في إصدار عقوباته على المذنبين.
ويصدر الله العقوبة الأولى على الحية قائلاً «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هٰذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ ٱلْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ ٱلْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعِينَ وَتُرَاباً تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين 3: 14 و15).
ثم يصدر العقوبة على المرأة قائلاً «تَكْثِيراً أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ. بِٱلْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَداً. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ ٱشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ» (تك 3: 16).
ويأتي دور آدم ويصدر الله ضده هذا القصاص «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ ٱمْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ ٱلْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تكوين 3: 17-19).
وفي عقوبة آدم تتجسّم شناعة خطية الإنسان، وتظهر مسئوليته في طاعته بمحض حريته لصوت الشيطان... لقد وضع الله الإنسان في هذا الامتحان، ليعلمه أنه وكيله الذي أقامه علىمخلوقاته التي وضعها تحت إمرته، وأنه لا بد أن يعطي حساباً لله إذا أساء تصرفه في وكالته، والشخص الذي يفقد الإحساس بوكالته لله، يفقد حتماً فهمه لحقيقة أصله ونهايته، ويكون قلبه مرتعاً لكل أنواع الشر، ومن المستحيل أن يخلق الله مخلوقاً عاقلاً دون أن يرسم له حدود حياته التي لا يجب أن يتعداها، والمخلوق العاقل ينبغي أن يشعر دائماً بمسئوليته أمام خالقه، وبضرورة الطاعة لوصيته.
أما آدم فلم يطع الله، بل سمع لقول امرأته، وفضلها على إلهه، ولذا كان هو المسئول الأكبر في مأساة السقوط، وبسببه جاءت اللعنة للأرض، وجاء للبشر التعب والكد، وأنبتت الأرض الملعونة الشوك والحسك، وصار الإنسان التعس المسكين عبداً لبطنه يأكل لقمة العيش بعرق الجبين.
إلى متى؟ «حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».
وهكذا نفذ الله كلمته «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ»، وشرعت قوة الموت تشتغل في الإنسان، من الناحيتين الروحية والجسدية، حتى إذا انتهى يوم حياته عاد إلى التراب.
ثم جاءت الخطوة الأخيرة «فَطَرَدَ ٱلإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ ٱلْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ» (تكوين 3: 24) وخرج الإنسان الطريد إلى أرض الأشواك، التي صارت مسرحاً للدراما الكبرى التي صنعها الإنسان.
وتفشت الخطية في كل مكان وطأته أقدام الإنسان!! وكان أول إنسان وُلد من حواء هو «قايين» القاتل الأول الذي لوث الأرض بدماء هابيل أخيه.
لقد كان آدم نائباً وممثلاً لجميع الجنس البشري الذي كان في صلبه يوم تعدى وصية الله، فبعد طرده من الجنة ولد نسلاً ساقطاً نظيره في حالة الفساد الروحي والأدبي، وتحت حكم الموت والدينونة التي استحقها بعصيانه على الله، وقد ورث هذا النسل عن أبويه الأولين حياة العداوة لله، والتمرد على شرائعه ووصاياه، وهذا ما يقرره بولس الرسول في كلماته «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو 5: 12). وما يؤكده داود في قوله «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مز 51: 5). وهكذا كان أول مولود للإنسان الساقط ولداً قاتلاً نجساً.
ثم ظهر في العالم الموجود وقتئذ مبدأ تعدّد الزوجات عندما «اتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ ٱمْرَأَتَيْنِ» (تك 4: 19) مع أن الله يوم خلق الإنسان، خلق امرأة واحدة لرجل واحد، وسجل كاتب سفر التكوين كلماته «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تك 2: 24).
ومع هذا كله ابتدع الإنسان الموسيقى العالمية، ليغرق في غمرة أصواتها متاعبه، وينسى همومه، وينسى معها أبديته ومطاليب إلهه، فبزغ على مسرح التاريخ «يُوبَالُ ٱلَّذِي كَانَ أَباً لِكُلِّ ضَارِبٍ بِٱلْعُودِ وَٱلْمِزْمَارِ» (تك 4: 21).
ثم شرع الإنسان في إنشاء صناعاته الخفيفة والثقيلة ونبغ في هذا «تُوبَالَ قَايِينَ ٱلضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ» (تك 4: 22) وانغمس الإنسان في الموسيقى، والرقص، والطرب، والغناء، وانحدر في دنياه الجديدة إلى الحضيض.
صار الحب سلعة تُباع، والشرف كلمة ساذجة بلا معنى، والسيف هو القانون الوحيد، واخترق الإنسان أيسر السبل لسد أرخص غرائز الحياة، فمن اتجار بالرقيق الأبيض، إلى سطو، إلى سرقة، إلى أي شيء وكل شيء لا تقره شريعة السماء.
وغرقت مدنية الإنسان الطريد في اللهو، والعمل الشاق، فلم تعد تستطيع أن تتبين ما تعاني من أمراض...
لقد سد الشيطان فم البشرية بالمخدر، حتى لم يعد في مقدورها أن تتحدث فتشكو ما تحسه من مرارة.. أرهقها السهر، والعمل، والشراب، فلم تعد قادرة على الشكوى مما هي فيه من محنة... وعلى مر التاريخ، ظهر المستغلّون، والمستبدّون، والمحتكرون، وأصحاب الأهواء، وانتشرت الخطيئة في جميع أركان الأرض، تجدها في كل عاصمة، وكل مدينة، كما تجدها في القرى الصغيرة حتى لو تخفت هذه القرى بين صخور الجبال، بل تجدها في أكثر بلاد الدنيا صرامة، وعبادة، وتصوفاً، ومع الخطيئة تجد كل صنوف الألم، والحرمان، والعذاب.
هل خلق الله الإنسان، لهذا الاستهتار، وهذا التدهور، وهذا الانغماس في الشر؟ هل خلقه لهذه الحياة البائسة، اليائسة، الباكية، المليئة بالأشواك؟ هل خلقه ليحيا مكافحاً في الأرض إلى بضع سنين ثم يكون مثواه الأخير التراب؟
فقد كان البرنامج الإلهي للإنسان يحوي كل عناصر البركة، والسعادة، والهناء والبقاء، ظهر هذا في أول وثيقة قدمها الله للإنسان ساعة أوجده في جنة عدن.
لكن الشيطان دخل في معركة مع الله، وأفسد ذلك المخلوق الساذج، الطاهر البري، وانتزعه من الجنة ليكون تحت سلطته في العالم الذي دفعه الله إلى يديه، وقاده إلى الموت لأنه سلطان الموت.
فهل يرضى الله أن يترك خليقته فريسة سائغة بين براثن الشيطان؟
هل يرضى بأن يلاشي الشيطان برنامجه الرائع الجميل الذي رتبه للإنسان؟
إذن كيف يستطيع الله أن يعيد الإنسان إلى المركز الذي أراده له في برنامجه العظيم؟
كيف يستطيع أن يغفر للإنسان بعد أن عصاه؟ وأن يهبه الحياة بعد أن أوقع عليه عقوبة الموت؟ وأن يرجعه إلى الفردوس المردود، بعد أن أضاع فردوسه المفقود؟
كيف يستطيع أن يشتريه لنفسه من جديد، بعد أن رضي باختياره أن يبيع نفسه للشيطان؟
كيف يمكن أن يهبه طبيعة جديدة بعد أن فسدت طبيعته الأولى؟ وأن يعيد شركته معه بعد أن فصلت الخطية بينه وبينه؟! وأن يريه في صورة مجسمة شناعة تعديه؟
إن عدالة الله تطالبه بتنفيذ القصاص الرهيب!
ورحمة الله تناديه بأن يرحم خلقه وهو أرحم الراحمين! فكيف يوفق الله بين عدله ورحمته؟
كيف يوفق بين قداسته ومحبته؟
كيف ينقذ الإنسان الساقط الذي تمرد على وصيته؟
هنا فقط تظهر ضرورة الصليب، وهنا لا بد أن يأتي المسيح ويُصلب... وهنا نستطيع أن نفهم كلمات الرسول الجليل «نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 1: 23 و24).
خرج آدم من جنة عدن يهيم على وجهه في أرض ملعونة تنبت له الشوك والحسك، ومعه امرأة قضى الله عليها أن تضع أولادها بالوجع والألم، وصار العدد العديد من الحيوانات متوحشاً ضارياً من جراء اللعنة التي غمرت الأرض.
وتلفت أبو البشر صوب جنة عدن بعد طرده منها فرأى أن الرب قد أقام الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة. وقد يسأل المرء: لماذا أقام الله الكروبيم ولهيب سيف متقلب في طريق آدم حتى لا يأكل من شجرة الحياة؟ وفي اعتقادي أن هذا الإجراء كان رحمة كبرى للإنسان من جانب الله، فلو أن الإنسان أكل من شجرة الحياة وعاش إلى الأبد، لكانت حياته كتلة من الفساد الذي ليس له حدود، والشقاء الذي ليس له نهاية... وفي ذات الوقت كان هذا السيف دليلاً واضحاً على أن طريق الحياة هو طريق الموت، وعلى أن أحداً لن يستطيع أن يأكل من شجرة الحياة إلا بعد أن يأتي الشخص الذي يحتمل هذا السيف، والذي تتم فيه النبوة القائلة «اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي» (زك 13: 7).
أصبح آدم إذن إنساناً طريداً، انقطعت شركته مع الله، وقد أسلم قيادة حياته للشيطان، وباع نفسه له، وصار عبداً للخطية يأكل لقمة العيش بعرق الجبين، ويعيش في حياة الخوف والفزع وعدم الاستقرار.
كيف يعيد الله هذا المخلوق العاصي إلى رحابه؟ وكيف يعطيه امتياز الشركة معه والاتصال به بعد أن صارت الخطية فاصلاً بينه وبين إلهه؟ وكيف يشتري هذا المخلوق البائس الذي رضي بملء حريته أن يبيع نفسه للشيطان؟ وكيف يتبرر هذا المخلوق المذنب عند الله؟ كيف يتم هذا كله، والله هو الإله القدوس، العادل، البار الذي يكره الخطية ويمقتها، ولا يستطيع بطبيعته الطاهرة أن يحتملها وهو في ذات الوقت الغفور الرحيم، المحب الكريم، الجواد الطيب القلب؟
هل يستطيع الله أن يغفر خطية الخاطئ دون أن ينال الخاطئ قصاصها! فأين عدالته؟
وهل يرضى الله بعقاب خليقته الساقطة على أوزارها! فأين رحمته؟ هنا تظهر ضرورة الصليب، الذي فيه بانت الحكمة الأزلية التي نفذت كل مقاصد الله، أجل!
قد بانت الحكمة
وزادت النعمة
والتقت الرحمة
بالعدل في المسيح
فهلم بنا إلى مقادس الكلمة المقدسة، طالبين من إلهنا الغني، أن يكشف عن عيوننا لنرى ضرورة الصليب المجيد:
يتساءل الكثيرون مراراً عن الضرورة القصوى التي جعلت كل آلام المسيح أمراً مقضياً، فمن قائل «ألم تكن مجرد كلمة من الله بكافية أن تغفر كل الخطايا؟» إلى سائل«أليس الله هو الغفور الرحيم فلماذا يطلب ذبيحة كفارية حتى يغفر خطايا البشر؟» إلى متسائل «كيف يكون الله محبة ثم يرضى بعذاب المسيح البريء على الصليب؟»وليس في مقدور أحد ان يجيب عن هذه الأسئلة إلا إذا عرف صفات الله جل وعلا، فمن هو ذلك الشخص الذي رأى الله. حتى يخبرنا تماماً عن صفاته؟ لقد أراد موسى أن يرى الله وقال له «أَرِنِي مَجْدَكَ» لكن الله أجابه قائلاً «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خر 33: 18 و20). إذن كيف يستطيع الإنسان أن يعرف الله، وأن يدرك صفاته جلت قدرته؟ إن السبيل الوحيد هو أن يعلن الله عن ذاته للناس بوحي من السماء، هو أن يقول للناس من هو وما هي صفاته!! وبغير هذا السبيل يكون الحديث عن الله مجرد تكهن لا أساس له من الصحة، وهذه هي الحقيقة التي قررها الرسول يوحنا في غرة إنجيله قائلاً «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18) وإذن ففي مقدورنا، أن نعرف صفات الله بواسطة التعاليم التي علم بها المسيح له المجد. وسجلها البشيرون في كتاباتهم.
فما هي صفات الله الواضحة في تعاليم السيد له المجد؟ إن الصورة المجسمة لهذه الصفات تتمثل في صفتين: «الرحمة» و «العدالة». ففي إنجيل متى نجد رحمة الله ظاهرة في هذه الكلمات «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ» (مت 5: 45) بينما نجد عدالة الله واضحة في هذه العبارات «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ» (مت 5: 29)، وبينما تتجلى رحمة الله في دعوة المسيح للمتعبين لنوال الراحة في قوله «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28) نرى عدالة الله بارزة في الكلمات «فَكَمَا يُجْمَعُ ٱلزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِٱلنَّارِ هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ: يُرْسِلُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي ٱلإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (مت 13: 40-42).
وإذ ندخل إلى مقادس إنجيل مرقس نرى أنه بينما يذخر هذا الإنجيل بأعمال الرحمة، تبدو فيه العدالة بصورة مجسمة في قول المسيح له المجد «مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً» (مرقس 3: 29).
وعلى هذه الوتيرة نجد هذين الخطين يسيران جنباً إلى جنب، في كل الأناجيل، الخط القرمزي المميز لرحمة الله ومحبته، والخط الناري المميز لعدالة الله وقداسته. ويبدو هذا جلياً في إنجيل لوقا. فبينما نقرأ هناك عن قصة الابن الضال التي تمثل حنان الآب وغفرانه، وقصة الفريسي والعشار التي تصور رحمة الله عن الخاطئ الهارب، وقصة الخروف الضال التي ترينا بحث الله عن الخاطئ الهارب، كذلك نقرأ عن عقاب الله لمن يهملون التوبة والالتجاء إلى رحمته، إذ نقرأ في هذا الإنجيل إجابة السيد له المجد للقوم الذين جاءوا يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم في قوله «لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هٰذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا 13: 2 و3). وفي مرة ثانية يتكلم المسيح لتلاميذه عن عدالة الله ويظهرها في هذا الحديث «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ»(لو 10: 10-12).
ويتجلى التعليم عن رحمة الله وعدالته في إنجيل يوحنا، المعروف بأنه إنجيل المحبة، فبينما ترن موسيقى رحمة الله ومحبته في الكلمات «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» (يو 3: 16) تتجسم عدالة الله في الكلمات «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (يو 3: 36).
وهذا التعليم نفسه يظهر واضحاً في رسالة يوحنا الاولى ففي الأصحاح الرابع يقول يوحنا «اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (1 يو 4: 16) وفي الأصحاح الاول يقول «ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي ٱلظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ ٱلْحَقَّ» (1 يو 1: 5 و6). فما معنى عبارة «الله نور»؟ إن النور ليس فقط ضد الظلام، لكنه لا يمكن أن يعيش مع الظلام فحيثما يوجد النور يهرب الظلام، فإذا كانت محبة الله ترغب في أن تغفر للخاطئ، لكن «الله نور» لا يستطيع أن يحيا مع الخطية أو يحتملها، فالله والخطية لا يمكن أن يوجدا معاً كما يقول حبقوق «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ» (حب 1: 13) والذين يسلكون في الظلمة لا يمكن أن يكون لهم شركة مع الله، ومن الآية يتوضح لنا أن السلوك في الظلمة هو حالة الذين يكذبون ولا يعملون الحق، وهؤلاء لا صلة لهم بالله!!
وعلى هذا فالصورة التي يجب أن نرسمها لله في أذهاننا هي: أن الله الرحيم هو أيضاً إله عادل، وأن الله المحب هو أيضاً إله قدوس يكره الخطية! وإذا تركزت هذه الصورة في أذهاننا، فإننا لن نعود إلى سؤالنا القديم «ألم تكن مجرد كلمة من الله بكافية لأن تغفر كل الخطايا» إذ أننا سندرك على الفور أن صفات الله الادبية الكاملة، لا يمكن أن تسمح بغفران الخطية دون أن تنال قصاصها، وقد أعلن الله عن عقاب الخطية في الكلمات «هَا كُلُّ ٱلنُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ ٱلأَبِ كَنَفْسِ ٱلٱِبْنِ. كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حز 18: 4) فالخطية إذاً ليست من السهولة حتى يمكن غفرانها بكلمة دون أن تنال القصاص.
وعلى هذا فإن الصليب يبدو أمامنا ضرورة حتمية للتوفيق بين عدل الله ورحمته!!
وقف أحد خدام الله في ميدان من ميادين لندن، يتأمل تمثال العدل المقام فوق دار محكمة كبرى في ذلك الميدان، وهو تمثال لامرأة معصوبة العينين، تمسك في يدها اليمنى بسيف ذي حدين، وتقبض بيدها اليسرى على ميزان، وهي تمثل العدالة التي لا تحابي بالوجوه، وإنما تحكم بحسب ميزان القانون... وعلى مسافة ليست ببعيدة، رأى ذلك الخادم الجليل صليباً مرتفعاً فوق قبة كنيسة ضخمة!! وقف مبهوتاً بين المنظرين، وأشار بيده إلى تمثال العدل وقال: هنا عدالة الله التي تنفذ القانون بغير محاباة!!! هنا الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة... ثم أشار إلى الصليب المرتفع وهتف مردداً: وهنا الرحمة المتجسدة التي فتحت الطريق إلى الفردوس المردود، بعد أن أضاع الإنسان فردوسه المفقود.
أجل، إن الصليب ضرورة لازمة لإظهار رحمة الله، وعدالة الله، فالمسيح عندما مات على الصليب كان بديلاً للإنسان الذي تعدى وصية الله، وفيه تلائم العدل والرحمة وظهر بر الله كما يقرر ذلك بولس الرسول وهو يشرح فلسفة الصليب قائلاً: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ... مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لِإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ» (رو 3: 21 و22-25). فالصليب في نظر بولس كان هو الوسيلة التي بها تعانقت الرحمة مع العدل إذ عليه مات«الإنسان الثاني يسوع المسيح» نائباً عن البشرية الساقطة، وكما سقطت البشرية في آدم الأول كما يقرر الرسول في القول «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو 5: 12) كذلك أُعطيت الإنسانية فرصة لنوال الحياة عن طريق «الموت» الذي احتمله المسيح لأجلها، وهذا ما يقرره بولس في الرسالة إلى رومية أيضاً قائلاً «إَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ ٱلْكَثِيرُونَ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَطِيَّةُ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي بِٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، قَدِ ٱزْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ» (رو 5: 15) فآدم ممثل البشرية الأول جلب الموت للبشرية، فجاء يسوع المسيح «الممثل الثاني للبشر» وحمل هذا الموت في جسده على الصليب، وهكذا حرر كل من يؤمن به من هذا القصاص الرهيب، وهذا ما يؤكده لنا بطرس الرسول في كلماته «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. ٱلَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (1 بط 2: 24) وبهذه الكيفية ارتاحت رحمة الله وسكنت أحشاء رأفته بينما أخذ العدل الإلهي حقه كاملاً في يسوع المسيح الذي رضي طائعاً مختاراً أن يفدي الإنسان الأثيم، وتمت الكلمة المكتوبة «ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مز 85: 10).
تحدث كارليل مرة مع أحد أصدقائه المسيحيين فقال «لو كان الله يقدر الخطية حق قدرها لكسر قلبه» فأجابه المسيحي «وهذا ما وقع بالفعل على الصليب حين خرج من قلب المسيح دم وماء لما طُعن بالحربة بعد موته دليلاً على أنه قضى مكسور القلب جريح الفؤاد» أجل إن الصليب كان ضرورة ليظهر للإنسان فظاعة خطيته! ولقد كان بولس الرسول يعتز بتدينه وبره الذاتي إلى أن أشرق عليه نور الصليب فردد كلماته التي يظهر فيها تقديره لفظاعة خطيته قائلاً: «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1 تي 1: 15).
وقصة الصلب ترينا مقدار فظاعة خطية الإنسان، بعدما أخذ رؤساء الكهنة والشيوخ يسوع إلى دار الولاية لكي يحاكم أمام بيلاطس، ليحكم عليه بالموت إذ لم يكن لليهود في عهد الحاكم الروماني أن ينفذوا حكم الإعدام في أحد إلا بعد الرجوع للسلطة الرومانية، تحقق الوالي الروماني براءة «يسوع» وأراد كرجل سياسي أن ينقذ المسيح، وفي ذات الوقت أن يحتفظ برضاء الجماهير، وكان معتاداً في العيد أن يطلق للجميع أسيراً واحداً من أرادوه، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى «باراباس» وذاك كان قد طُرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل، فوقف بيلاطس ليسأل الجماهير الصاخبة «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟» (مت 27: 17).
ووقفت البشرية لتحكم لنفسها أو عليها، ولكنها ظهرت على حقيقتها الشريرة الساقطة!! كان أمامها باراباس، اللص، مدبر الفتن والمؤامرات، القاتل الذي لوث يديه بالدماء! ويسوع الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس!! باراباس في كفة... ويسوع في كفة... قاتل وملك... نجس وقدوس... لص ونبي يجري المعجزات!! فأيهما تختار البشرية؟!؟ إن شبيه الشيء منجذب إليه، ولذا فإن البشرية قد نادت يوم الصليب «أطلق لنا باراباس»... وهكذا ظهر قلبها النجس الشرير، المخادع، المنجذب إلى سفك الدماء بطلب صلب المسيح، وإطلاق القاتل باراباس... أجل. عند الجلجثة ظهرت فظاعة الخطية، وسجلت الإنسانية على نفسها هذه الفظاعة يوم كتبت على صليب المسيح بلغاتها الثلاث: اليونانية لغة العلم والفلسفة، واللاتينية لغة الحكومة الرومانية، والعبرانية لغة الديانة اليهودية، «هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ» (لوقا 23: 38) أجل اختارت البشرية الفساد وصلبت رب المجد، واختارت سفّاك الدماء وصلبت رب الفداء، واختارت اللص، وصلبت السيد القدوس. فيا لفظاعة خطيتها!... قال خادم جليل من خدام الله وهو يشرح كيف ظهرت فظاعة الخطية في صليب المسيح: «رأيت المريض المعذب يصرخ من الألم وسألت: ما سبب هذا؟فقالوا: الخطية! ورأيت الدماء الغزيرة تسفك في الحروب، وسألت: ما سبب هذا؟ فقالوا: الخطية؟ ورأيت الفقر الرهيب الذي يذل البشر، وسألت ما سبب هذا؟ فقالوا: الخطية... ولكني لما رأيت يسوع البار والناس الأدنياء يبصقون على وجهه الكريم، والجنود الأردياء يكللون رأسه الملكي بإكليل الشوك، وعبد دنيء لرئيس الكهنة يصفعه على وجهه النبيل، ثم رأيته بعد ذلك وجنود الحكومة الرومانية يسمرونه في الصليب، ويرفعونه على رابية الجلجثة حتى تمزقت أعصابه... صرخت ما سبب هذا؟ فقالوا: الخطية. وهنا فقط رأيت فظاعة الخطية في حياة البشر»:
حدثنا أحد رجال الله بقصة شاب هندي، تربى في بيت مسيحي، ترك بلاده قاصداً بلاد الغرب في طلب العلم، وهناك حاد عن جادة الحق، ووقع في حبائل الشرور والآثام، وتلوثت حياته بالنجاسات والأوحال، ولما أتم دراسته، عاد إلى بلاده، فاستقبلته والدته بصدر رحب وثغر بسام، ورأى نفسه يعود إلى المذبح العائلي، ويسمع أصوات الترانيم وآيات الكتاب، لكنه لم يعد يشعر في بيته بتلك الراحة التي كان يشعر بها من قبل حين كان يسمع صوت الترنيم، لأنه أحس أنه في واد وأمه في واد، فأراد أن يستعيد ذلك الشعور المريح، ثم خطر بباله أن يعترف لأمه بذنبه، ليعرف تأثير خطاياه في نفسها، وكانت الأم سيدة تقية نقية، أقرب إلى الملائكة منها إلى البشر، فتقدم إليها في غرفتها وهي جالسة وشرع في سرد قصته المحزنة، واعترف لها بما اقترف من آثام، فلما سمعت تلك الأم القديسة اعتراف ابنها، هالها ما سمعت، فقامت من مقعدها، واستمعت له وهو يفوه باعترافه، ولما بلغ نهايته، رآها وقد ارتعشت كورقة ذابلة أسقطتها الرياح، مستندة بيديها إلى الجدار الذي كان خلفها، فاتحة يديها على شكل صليب، فصعق الفتى من هول هذا المنظر لأن أمه تمثلت له كأنها صلبت على الجدار من أجله، بسبب شناعة آثامه... وقال: لم أعرف فظاعة خطاياي إلا بعد أن رأيت أمي تتمثل أمامي كأنها مصلوبة على صليب... وعزمت من ذلك اليوم على التوبة الصادقة عن خطاياي.
يذكر لنا إشعياء اختباره في الأصحاح السادس من سفره قائلاً «فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا ٱلْمَلِكِ رَأَيْتُ ٱلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ ٱلْهَيْكَلَ. ٱلسَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِٱثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِٱثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَٱثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلأَرْضِ. فَٱهْتَّزَتْ أَسَاسَاتُ ٱلْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ ٱلصَّارِخِ، وَٱمْتَلأَ ٱلْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ ٱلشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا ٱلْمَلِكَ رَبَّ ٱلْجُنُودِ» (إش 6: 1-5). فإذا كان إشعياء قد رأى نجاسة شفتيه، ونجاسة شعبه عندما رأى السيد جالساً على كرسيه، والسرافيم حوله ينادي كل واحد الآخر بقداسته، فأي إحساس يملأ قلب الإنسان وهو يرى السيد، لا على كرسيه، بل على الصليب، معلقاً بين الأرض والسماء لأجل سواد خطية الإنسان؟! يقيناً أن المرء يشعر في نور الصليب بفظاعة خطاياه.
امتلأ قلب الإنسان بالعداء لله، من يوم أن عصاه وما زال الشيطان يحاول كل يوم أن يزيد هذا العداء البغيض في قلب الإنسان بتوجيه نظره إلى الجوانب السوداء في الحياة. فهو بدلاً من أن يفتح عيون الناس على نور الشمس المشرقة، يفتحها لكي تنظر ساهمة إلى ظلام الليل البهيم، وبدلاً من أي يريهم جمال الزهور المنثورة على وجه الأرض، يملأ عقولهم بالتفكير في قسوة المرض وضراوة الجراثيم!! وبدلاً من أن يوجه أفكارهم إلى غنى رحمة الله، يذكرهم بالظروف السوداء التي تمر بهم في موكب الزمن، وهكذا يرسم صورة قاسية لله، تزيد قلب الإنسان نفوراً، وإحساسه قساوة وجموداً.
ويخطئ من يعتقد أن الله قد كره الإنسان بعد أن تمرد عليه، وكسر وصيته، فالحقيقة أن الله قد أبغض خطية الإنسان! ولا شك أن الله ملتزم أن يقف ضد الخطية، لأن الخطية قد أتلفت أجمل مخلوقاته وهو الإنسان، وأعمت عينيه عن أن يرى صلاحه العظيم، وملأت بسمومها كل ينابيع كيانه، وحملت إلى الموت والقبر الملايين الكثيرة من الناس، وصنعت السلاسل التي تقيد بها النفوس!! ومن نبعها القذر قد فاض الحزن، والألم والصراخ، والدماء، والدموع... فكيف يمكن لله أن يتعامل مع الخطية كأنها أمر زهيد؟!
لقد كان عليه أن يظهر غضبه على الخطية، فأغرقها بالطوفان في أيام نوح، وأحرقها بالنار في أرض سدوم، فظن البشر أن الله يكرههم هم، مع أنه يقيناً يكره الخطية التي لوثت حياتهم!!
وعندما جاء المسيح ومات على الصليب، لم يأت ليثير الشفقة من نحونا في قلب الله، بل جاء لأن الله أحبنا، وهذا ما يقرره بولس الرسول في كلماته «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو 5: 6-8). ومن يدرس الأصحاح الخامس من رسالة رومية يلاحظ أربع صفات للناس الذين أحبهم الله، فهم «ضعفاء» و «فجار» و «خطاة» و «أعداء»، ومع هذا كله يبين الله محبته لهم بموت المسيح على الصليب، هذه التضحية الكبرى التي صورها يوحنا في إنجيله الذهبي قائلاً «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16)، ثم أراد أن يجعل المؤمنين يتعمقون في بحرها الطامي فهتف لهم مردداً «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» (1 يو 3: 1). أجل إنها محبة يصعب التعبير عنها بلغة البشر... أظهرها لنا صليب المسيح الكريم!
حدثنا رجل من رجال الله في بلاد الغرب، عن قصة فتاة اسمها «ماري» تركها والدها وهي طفلة ما زالت في المهد، وكانت جميلة مشرقة الوجه، كجمال الورد وإشراقه في وقت الربيع... وكانت أمها فقيرة فقراً مدقعاً، لكنها أحبت الطفلة الجميلة وبدأت تكافح من أجلها في الحياة، رضيت لنفهسا أن تقوم بأحقر الأعمال حتى توفر العيش الهنيء لابنتها المحبوبة، وكبرت الطفلة، ونمت وترعرعت، وسارت سيراً جميلاً في مراحلها الدراسية، أنهت التعليم الابتدائي والثانوي، والعالي، وبدلاً من أن ترد الجميل للأم العجوز التي تعبت من أجلها، وكافحت في سبيل تربيتها، تدهورت تدهوراً شنيعاً جداً، وهربت إلى مكان لا تعرفه أمها الحنون.
ولم تستطع الأم العجوز أن تنسى ابنتها، كانت تحبها حباً ملك عليها مشاعرها، أحبتها رغم تمردها وشرها وهربها، وشرعت تفتش عنها في كل مكان تعتقد أنها ذهبت إليه، وكان بحثها عن الابنة الضالة يكلفها مالاً، فكانت تشتغل في تنظيف البيوت لتحصل على ما يكفيها للقيام برحلة للبحث عن ابنتها... لكن جهودها ذهبت دون جدوى.. كان طيف ابنتها الشاردة يداعب خيالها أثناء النوم، ويمر بذاكرتها وقت النهار. كانت تذكر طفولتها البيضاء وشبابها الجميل، وأنوثتها المكتملة، فتذوب شوقاً إليهاً، ويدفعها الحنين إلى أن تسعى في أرجاء البلاد للبحث عنها.
أعياها السفر، وأتعبها البحث، وأجهدها التفكير، وأضناها ألم الفراق، فتفتق ذهنها عن حيلة جديدة، قدمت نفسها للخدمة في عدة بيوت، فلما اقتصدت مبلغاً كافياً ذهبت إلى مصور مشهور، وطلبت منه أن يلتقط لها صورة وهي بمنظر المتوسلة الضارعة وأن يطبع لها من هذه الصورة اثنتي عشرة واحدة من حجم كبير يلفت الأنظار، وأن يعطيها لخطاط يكتب تحت الصورة هذه العبارة «ما زلت أحبك يا ماري، عودي إليَّ».
أجاب المصور طلبها، وسلمها الصور، فقامت برحلات إلى كل مكان اعتقدت أن ابنتها قد تذهب إليه، وتوسلت إلى أصحاب الملاهي والمراقص أن يضعوا صورتها هذه في مكان ظاهر، فقد تأتي ماري وتراها فتنكسر أمام حبها وتعود... وأشفق أصحاب الملاهي على المرأة العجوز، ووضعوا صورتها في مكان يلفت الأنظار.
وفي ليلة ما دخلت ماري إلى مرقص من هذه المراقص، كانت في تلك اللحظة محطمة النفس ضعيفة الجسم فقد باعت نفسها للشيطان والخطية، ولم تجن منهما إلا الشوك والحسك. كان أصدقاؤها قد هجروها، وكان المرض قد بدأ يدب في جسدها، وكانت نفسها قد استيقظت تطالبها بالتوبة والرجوع إلى أمها وإلى أهلها، وكان ما يقض مضجعها هو: «هل تقبلها أمها في البيت بعد أن هجرتها؟ هل تصفح الأم المسكينة عن آثام ابنتها التي ضلت سواء السبيل؟ آه! ليتها تستطيع أن تعود، إنها بحاجة إلى صدر أمها الحنون، وإلى قبلاتها الطاهرة، وإلى كلماتها الرقيقة، وإلى غفرانها وصفحها... لكن هل يمكن؟».
دخلت المرقص وهي تترنح من الألم، واسترعى انتباهها جماعة من الناس يتطلعون في صورة على الحائط، فدفعها الفضول أن تتقدم لترى، وظلت تقترب وتقترب حتى تبينت صورة أمها، إنها هي ليس في ذلك أدنى ريب، لكن من الذي أتى بصورتها إلى هذا المكان؟ من الذي وضعها في هذا المكان الظاهر للعيان؟ استمرت الفتاة تتأمل الصورة المعلقة أمامها!! هل يمكن أن تكون هذه الصورة هي صورة لامرأة شبيهة بأمها، آه! ما هذه الكلمات المكتوبة تحت الصورة «ما زلت أحبك يا ماري، عودي إليَّ».
ولم تحتمل الفتاة أكثر فقد تحطم قلبها أمام محبة والدتها فأسرعت إلى المحطة وركبت أول قطار إلى مدينتها، ودخلت لترتمي على صدر أمها وتطلب منها الصفح والغفران.. وقد غفرت الأم!! غفرت منذ خرجت الشاردة من بيتها... غفرت وكانت تنتظر عودة ابنتها لتشعر بهذا الغفران!!
وإذا كانت هذه الصورة، صورة قوية للمحبة الغافرة، فهي في الواقع صورة باهتة إذا قيست بمحبة الله التي ظهرت في الصليب، فمحبة هذه الأم، هي محبة إنسان لإنسان... أم لابنتها... أما محبة الله، فهي محبة الله الخالق، لابن آدم الدود... إنها يقيناً فائقة المعرفة.
يحدثنا السيد مودي المبشر المعروف بحادثة كان لها أكبر الأثر في حياته، ففي سنة 1867 تقابل مودي مع مبشر ممتلئ بروح الله اسمه «هنري مورهاوس» في مدينة لندن، كان مودي يعظ في دار مرسلية، وأصغى إليه «مورهاوس» خمس دقائق، عرف منها أن مودي لا يعظ الكتاب، وليس في عظته من الكتاب إلا الآية، وبعد الوعظ اتجه إليه وقال له بصراحة: «يا مودي، أنت غلطان! لو أنك تعظ كلام الله لا كلامك أنت لصيرك الله قوة عظيمة! واستاء مودي جداً من الملاحظة، خصوصاً وقد كان يرى نفسه أعظم الواعظين!! لكن «مورهاوس» لم يتوقف عند هذا الحد فقد اتجه إلى شيكاغو، وفي غياب مودي ألقى عظتين في ليلتين متواليتين عن الآية الذهبية «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16) واستمر يعظ عن هذه الآية سبع مرات، وعاد مودي من غيابه ليجد جماهير غفيرة تأتي لتسمع الشاب الإنجليزي الذي يعظ عن آية واحدة سبع عظات متوالية، والذي لا يقسم الوعظ إلى ثانياً وثالثاً ورابعاً، بل يأخذ الآية بكليتها ثم يغوص في التوراة من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا ليبرهن أن الله أحب العالم في كل الأجيال... وقال مودي في نفسه وهو يسمعه «إني لم أعرف أن الله أحب العالم هكذا، فابتدأ قلبي يخفق ولم أقدر أن أحجز دموعي المتهاطلة، قد كنت معتاداً أن أعظ أن الله وراء الخاطئ حاملاً سيفاً ذا حدين ليضربه به، ولكن من ذلك اليوم شرعت أعظ أن الله وراء الخاطئ بالمحبة، وأن الله يركض والخاطئ أمامه يهرب من محبته!!».
وظل «مورهاوس» يعظ عن محبة الله بانياً كل حقيقة يقولها على أسس من الكتاب ومن الكتاب وحده، وفي الليلة السابعة رقي المنبر ثم ردد هذه الكلمات «يا أصحابي، لقد اجتهدت أن أجد آية أعظ عنها هذه الليلة، فلم أجد أنسب من الآية القديمة هكذا أحب الله العالم» وفي ختام عظته ذكر هذه العبارات: أيها الأصحاب، لقد قصدت خلال الأسبوع أن أخبركم كيف أحب الله العالم على أن ذلك متعذر عليّ بهذا اللسان القاصر، ولو استطعت أن أرقىسلم يعقوب. وأسأل جبرائيل الواقف في حضرة القدوس عن مقدار محبة الله للبشر، لكان ما يقدر أن يقوله: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16) أجل: هناك فوق الجلجثة، تكلم الله للناس. لا في لغة يونانية، ولا في لغة لاتينية، ولا في لغة عبرانية بل في لغة، البذل والتضحية إنه أحب العالم المتمرد المسكين!!
يصف الرسول بولس نفسه قبل أن يقترب إلى الصليب قائلاً «وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رو 7: 14) ويقول إيليا النبي لآخاب الذي أعماه الطمع حتى قتل نابوت اليزرعيلي ليستولي على حقله «وَجَدْتُكَ لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ نَفْسَكَ لِعَمَلِ ٱلشَّرِّ» (1 مل 21: 20) وهذه الكلمات تنطبق على الإنسانية جمعاء. «لأَنَّ اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مزمور 14: 2 و3) «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو 3: 22 و23)، فالبشر في الموازين هم إلى فوق، والعالم قد اشتراه الشيطان مجاناً بخداعه ومكره، كما يقول الله لإسرائيل المرتد «مجاناً بعتم»(إش 52: 3).
إذاً فلا بد أن يشتري الله من جديد الخليقة التي باعت نفسها للشيطان، ورضيت بعبوديته... فأي ثمن يدفعه لشراء الإنسان؟! يقول بطرس «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (1 بط 1: 18 و19). وفي سفر الرؤيا نسمع هتاف المفديين «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ»(رؤ 5: 9) ونحن نقرأ في سفر اللاويين عن شريعة الفكاك، أي إعادة الشيء المباع بشرائه من جديد ونرى أروع منظر للفكاك في الأصحاح الخامس والعشرين في هذه الكلمات «وَإِذَا طَالَتْ يَدُ غَرِيبٍ أَوْ نَزِيلٍ عِنْدَكَ، وَٱفْتَقَرَ أَخُوكَ عِنْدَهُ وَبِيعَ لِلْغَرِيبِ ٱلْمُسْتَوْطِنِ عِنْدَكَ أَوْ لِنَسْلِ عَشِيرَةِ ٱلْغَرِيبِ فَبَعْدَ بَيْعِهِ يَكُونُ لَهُ فِكَاكٌ. يَفُكُّهُ وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِهِ أَوْ يَفُكُّهُ عَمُّهُ أَوِ ٱبْنُ عَمِّهِ، أَوْ يَفُكُّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَقْرِبَاءِ جَسَدِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ» (لاويين 25: 47-49) ومن هذه الآيات نلاحظ أن من يرد الإنسان الذي بيع للغريب يشترط فيه ثلاثة شروط:
(1) أن يكون قريباً للشخص المباع (2) أن تكون له إرادة للفكاك (3) أن يكون بيده الثمن. وهذا ينطبق تماماً على ما عمله الرب يسوع المسيح فقد اشترك معنا في اللحم والدم ليعتقنا من إبليس الغريب كما يقول كاتب العبرانيين «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ» (عب 2: 14 و15). وكذلك رضي طوعاً واختياراً أن يضع نفسه عنا لكي يشترينا من جديد لله أبيه قرر هو بذاته قائلاً «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 13) «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 17 و18). وفوق هذا فقد دفع الثمن العظيم الذي يفك به الإنسان المستعبد الضعيف وهو دمه، ولم يكن في مقدور أحد غيره أن يدفع هذا الثمن كما يؤكد المزمور القائل «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مز 49: 7 و8) فأين هي هذه الفدية الكريمة التي يستطيع الإنسان دفعها؟ إنها ليست شيئاً!! إنه شخص المسيح الكريم الذي قال لتلاميذه «كَمَا أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مت 20: 28) أجل إنه دفع الثمن، وفك العبد البائس الفقير!! وكان هذا الثمن هو موته على الصليب ولذا فليس بعجيب أن يرنم له إنسان أحس بفضله:
كنت في سجن الخطايا | عبد إبليس الرجيم |
غير مأمول خلاصي | ثم نجاني الرحيم |
لم يفِ بالمال ديني | ذلك الفادي العظيم |
بل فداني بدماه | من عذابات الجحيم |
واشتراني واشتراني | ذاك بالدم الكريم |
يكتب يوحنا الحبيب في نغمة تحوي كل عناصر الظفر والانتصار كلماته الحلوة «لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (1 يو 3: 8) وأعمال إبليس كلها للخراب، والإفساد والتدمير، فقد جرب العائلة البشرية الأولى وقادها إلى الخراب، واستعبد الإنسان الضعيف ولوث صفحة حياته بأقذر الخطايا، وأشنع الموبقات، ثم أحدره إلى الموت في أرض السكوت لأنه قد أخذ بإسقاطه للإنسان هذا السلطان!!
«وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا 4: 4 و5) وكانت أول معركة دخل فيها المسيح مع الشيطان في حرب سافرة هي معركة البرية، حين حاول الشيطان أن يسقط «يسوع» في ثلاث تجارب شديدة، هي التجارب التي يمر بها كل إنسان، وكانت التجربة الأولى التي قدمها ليسوع، تجربة موجهة لغريزة حب الحياة، وكانت التجربة الثانية موجهة لغريزة حب السيادة، وكانت التجربة الثالثة موجهة لغريزة حب الامتلاك، لكن «يسوع» انتصر في التجارب الثلاث، وكانت هذه أول هزيمة علنية أصابت الشيطان.
ويلذ لنا في هذه المناسبة أن نقارن بين تجربة «آدم الأول» وتجربة «آدم الأخير» فآدم الأول جرب في جنة ولكنه سقط فتحولت الأرض بسببه إلى برية جرداء، و «آدم الأخير يسوع المسيح» جُرب في البرية الجرداء، فانتصر نصرة عظمى وفتح للبشر الطريق إلى السماء.
لكن المعركة الحاسمة التي نقض فيها المسيح أعمال الشيطان، وأكد فيها هزيمته النكراء، هي معركة الصليب، فقد ظن الشيطان أن الصليب هو نهاية الصراع بينه وبين المسيح، وصفق مجمع الأبالسة في زهو وفخار، يوم رأوا يسوع المسيح معلقاً بين الأرض والسماء، لكن المسيح حو ل الصليب إلى سيف حاد ودحر به قوات الظلام، كما يقول كاتب العبرانيين «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عب 2: 14) وكما يقرر ذلك رسول الأمم في رسالته إلى أهل كولوسي قائلاً «وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا، إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ، ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي 2: 13-15). وليس شك في أن الرياسات والسلاطين الذين جردهم المسيح من سلاحهم، وشهر بهم، وظفر بهم في الصليب، هم الذين ذكرهم الرسول حين قال «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّات» (أفس 6: 12). هؤلاء جميعاً جردهم يسوع من سلاحهم البتار، وأعلن هزيمتهم العظمى أمام الجميع، إذ هزم رئيسهم الأكبر الذي له سلطان الموت في معركة الصليب، وحرر البشر من عبوديته إلى التمام، وهذه هي الصورة التي يرسمها بولس في كلماته إلى القديسين في أفسس قائلاً «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا، ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ، ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ، ٱلَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ وَٱلأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً، اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ - بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ - وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 1-6).
يقيناً، أن محبة الله الظاهرة في الصليب، قد حررت من الأسر الأسير، وبقوة الصليب يعطي يسوع النصرة على الشيطان لكل من يؤمن به كما يقول يوحنا في رؤياه عن الغالبين «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ ٱلْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى ٱلْمَوْتِ» (رؤ 12: 11) وكما يكتب للمؤمنين الأحداث في رسالته قائلاً «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ ٱللّٰهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ. وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ» (1 يو 2: 14 و4: 4) لقد أكد السيد نصرته العظمى على الشيطان في قوله«رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (لو 10: 18) أجل لقد استطاع يسوع أن ينتصر على الشيطان لأنه لم يكن ملكاً له! ولا كان تحت سلطان حكمه، وقد أكد ذلك لتلاميذه قائلاً «لأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يو 14: 30) وقد تمت نصرته بالصليب الذي نقض به أعمال الشيطان، وأكد هزيمته، ونحن نرى ذلك واضحاً من مقارنة ملذة بين سفر التكوين وسفر الرؤيا سفر البدايات وسفر النهايات.
ففي سفر التكوين نرى كيف خلق الله السماء والأرض، وكيف ضربت الأرض باللعنة بسبب خطية الإنسان، وفي سفر الرؤيا نرى السماء الجديدة والأرض الجديدة وقد خلت من كل لعنة وحزن وشقاء.
في سفر التكوين نرى الجنة الأرضية، وفيها شجرة الحياة، ونهر البركات. وقد فقدها الإنسان الأول بالعصيان، وفي سفر الرؤيا نرى فردوس الله، وشجرة الحياة، والنهر النقي كالبلّور خارجاً من عرش الله والمسيح أو بعبارة أخرى نرى الفردوس المردود بواسطة كفارة الصليب.
في سفر التكوين نرى أول رمز للحمل المذبوح، وفي سفر الرؤيا نرى الحمل الذي ذُبح قائماً في وسط العرش.
في سفر التكوين نقرأ عن بداية الخطية، حينما دخلت الحية إلى الجنة الهادئة الوادعة لتخدع بمكرها الإنسان، وفي سفر الرؤيا نجد الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان وقد طُرح في بحيرة النار.
في سفر التكوين نجد القاتل الأول، ونجد أول من مارس تعدد الزوجات، ونجد المتمرد الأول، والسكير الأول، وفي سفر الرؤيا نرى أمثال هؤلاء ونصيبهم البحيرة المتقدة بنار وكبريت.
في سفر التكوين نشاهد قيام بابل، وفي سفر الرؤيا يدعونا الله أن نرى دينونتها وهلاكها.
في سفر التكوين نرى مدينة الإنسان، وفي سفر الرؤيا نرى مدينة الله.
في سفر التكوين نرى الإنسان غارقاً في الدم، والألم، والدموع يطارده الموت أينما كان، ولكن سفر الرؤيا لا يختتم إلا بعد أن نرى الله المحب، وهو يمسح كل دمعة من العيون، ويرحب بكل مفدي بالدم، في مدينته التي لا يمكن أن يدخلها الموت والخطية والألم، والحزن والعذاب.
في سفر التكوين نرى أول ممكلة للعالم وقد حل بها التبلبل والشقاق، وفي سفر الرؤيا نسمع الهتاف الداوي «قد صارت ممالك العالم لربنا ولمسيحه».
في سفر التكوين نرى نصرة الشيطان على الإنسان، وفي سفر الرؤيا نرى نصرة الله على الشيطان... وهذه النصرة جاءت عن طريق موت المسيح على الصليب. وهكذا بالصليب نقض الله أعمال الشيطان وأكد هزيمته وأتم برنامجه الرائع الذي قصده للإنسان.
قال أيوب في عمق بلواه وهو يتحدث عن إحساسه من نحو الله «لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا»(أيوب 9: 32 و33) وكأن أيوب وهو يفكر في جلال الله، وقداسته يحس بأنه كإنسان خاطئ لا يستطيع الاقتراب إليه فيتمنى أن يأتي ذلك المصالح الذي يضع يده على يد الله، ويضعها كذلك على يده ويصالحه مع الله، ولا شك أن الشخص الذي تاق أيوب إلى مجيئه، لا بد أن يكون إلهاً كاملاً ليضع يده على يد الله، وإنساناً كاملاً ليضع يده على يد الإنسان، أي أن يكون وسيطاً إلهياً يصالح الإنسان مع الله!!
ولقد جاء هذا الصالح، ومات على الصليب، وتحدث عنه بولس قائلاً «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (2 كو 5: 18-22) وقد يتبادر إلى الذهن أن المسيح بموته على الصليب قد أزال العداوة التي في قلب الله من نحو البشر، وقرب الله إلى الناس، وهذا فكر خاطئ من أساسه ذلك لأن «الله محبة» وهو لم يبغض خليقته في يوم من الأيام، ولم يشعر نحوها قط بإحساس العداء، ولكنه قد أبغض الخطية لأنه يعرف ما عملته بالجنس البشري، وكيف خربت حياة الناس وقادتهم إلى البوار، ولهذا فإنه عندما يرى الناس متمسكين بالخطية رغم تحذيره لهم، فهو لا يسعه إلا أن يبكي عليهم، وهو يرى أن الخطية ستقودهم إلى الهلاك الأبدي!! وموقف السيد له المجد وهو يمر على مدينة أورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، يرسم لنا صورة واضحة للمحبة الباكية، التي ترى عناد البشرية، وترى النهاية المريعة الآتية كنتيجة لهذا العناد فلا يسعها إلا أن تبكي، وهذا هو ما نقرأه في إنجيل لوقا «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِكِ» (لو 19: 41-44). فهذه الدموع التي ذرفها المسيح على المدينة التي لم تعرف زمان افتقادها هي دموع المحبة الباكية على الخاطئ المسكين الذي لا يعرف نهايته المفزعة، فالله يحب الخاطئ، ويكره الخطية، ولكن الإنسان يحب الخطية، ويقف موقف العداء من الله حتى أنه يقول له في تبجحه «ٱبْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ» (أيوب 21: 14).
لهذا جاء الله المحب في المسيح، ليعلن للناس عواطف قلبه، حتى إذا رأى الناس هذا الحب الإلهي وقد تمثل في صورة بشر، وتحمل لأجلهم الألم والعذاب، ومات موت الصليب، تزول العداوة التي في قلوبهم من نحو الله فيسعون للاقتراب إليه.
وجدير بنا أن نلاحظ أن الإنسان لم يسع من جانبه لمصالحة الله بل أن الله هو الذي «كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم».
سأل أحدهم السيد جرينفلد: هل تقدر أن تخبرني عن السبب الذي من أجله دُعي يسوع المسيح كلمة الله؟ أجاب السيد جرينفلد قائلاً: أظن أنه كما أن الكلمات هي واسطة التفاهم بين الناس، استعمل الوحي الإلهي هذا التعبير ليوضح لنا بأن المسيح هو واسطة التفاهم بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع (1 تي 2: 5 و6). يقيناً أنه لأجل مصالحتنا مع الله جاء يسوع ومات على الصليب.
وقد حدثنا دكتور «جرينفلد» عن رجل عذب زوجته عذاباً شديداً قبل تجديده، فلما تجدد كان أول ما نطق به بعد عبارات الشكر لله أن قال «الآن عليّ أن أذهب لمصالحة زوجتي»، لقد ذاب العداء الذي في قلبه من نحو زوجته، وأحس أنه يجب أن يعود للاعتذار لها عمّا بدر منه في حقها!! وهذا هو المعنى المقصود بالمصالحة مع الله، ففي اللحظة التي يرى فيها الإنسان آلام المسيح المصلوب، يذوب العداء الذي في قلبه ضد الله ويسرع إلى المصالحة معه، معترفاً له بخطيته، وعازماً أن يعيش الحياة التي ترضيه، ويبدو هذا المعنى واضحاً في كلمات الرسول التي وجهها إلى القديسين والإخوة في كولوسي قائلاً: «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى ٱلأَرْضِ أَمْ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي ٱلْفِكْرِ، فِي ٱلأَعْمَالِ ٱلشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ ٱلآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِٱلْمَوْتِ» (كو 1: 19-22).
ثم يوضح غرض هذه المصالحة العظمى قائلاً «لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أَمَامَهُ» (كو 1: 22) فالمصالحة إذا تعني وجهين: الوجه الأول: هو إزالة العداء من قلب الإنسان، والوجه الثاني: هو تغيير حياة الإنسان من الأعمال الشريرة، إلى الحياة التي بلا لوم ولا شكوى أمامه بما يتفق مع قداسة الله. وهكذا يتمتع الإنسان بالسلام مع الله، ويضم صوته إلى صوت بولس قائلاً: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ. وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضاً بِٱللّٰهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي نِلْنَا بِهِ ٱلآنَ ٱلْمُصَالَحَةَ» (رو 5: 10 و11) وفي ذات الوقت فإن هذه المصالحة تحمل معنى ثالثاً: هو وجود السلام بين اليهود والأمم كما يقول بولس: «لِذٰلِكَ ٱذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ، ٱلْمَدْعُّوِينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُّوِ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلٱثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ أَيِ ٱلْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً، وَيُصَالِحَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس 2: 11-16).
فالمسيح بموته على الصليب قد جعل اليهود والأمم واحداً، ليس بجعله اليهودي أممياً أو الأممي يهودياً، بل بأن أنسى اليهودي يهوديته وأنسى الأممي أمميته وصار الاثنان يذكران أنهما مسيحيان قبل كل شيء، وفوق كل شيء، ويقول رجل من رجال الله في تفسيره لهذه الآيات لسنا ندري هل وجدت بين العوامل الطبيعية مادة تصهر معدنين متباينين فتصيغ منهما معدناً واحداً، لكننا نعلم علم اليقين أن المسيح قد استطاع بدمه الثمين أن يصوغ من اليهود والأمم - الذين لا يقبلان تمازجاً بطبيعتهما - معدناً واحداً صافياً، إذا أمعنت النظر فيه ألفيته عنصراً واحداً، لكن السيد عمل هذا بنقضه لحائط السياج المتوسط الذي كان بين اليهود والأمم، ولكي نفهم المراد من هذه العبارة، يجب أن نرجع بأفكارنا إلى الحالة التي كان عليها الهيكل وقت كتابة هذه الكلمات، فمن المسلم به أن هيرودس الأكبر أضاف إلى الهيكل قطعة فسيحة من الأرض كانت مؤلفة من دار متداخلة في دار، حتى تصل إلى القدس، ومنه إلى قدس الأقداس، وكانت كل دار تزيد في درجة «القدسية» عن الدار الخارجية عنها، حتى تنتهي إلى«قدس الأقداس» الذي لا يسمح بدخوله إلا لرئيس الكهنة وحده، مرة واحدة في السنة، وأما القدس فكان يسمح للكاهن بدخوله يومياً ليحرق البخور على مذبح المحرقة وقت تقديم ذبيحتي الصباح والمساء، وكانت تقدم هاتان الذبيحتان في دار الكهنة على مذبح المحرقة، وخارج هذه الدار، داران أخريان: أحدهما، وهي الملاصقة لدار الكهنة مباشرة تُسمى «دار بني إسرائيل» والثانية، وهي خارج الأولى شرقاً تُسمى «دار النساء»... كل هذه الأمكنة: قدس الأقداس، والقدس، ودار الكهنة، ودار بني إسرائيل، ودار النساء، كانت مقامة على مستوى عال حسا ومعنى، ينتهي في عدة مواضع منه إلى خمس درجات تؤدي إلى أبواب مفتوحة في جدار مرتفع، تتصل به منصة ضيقة تشرف على دار خارجية فسيحة، وهذه الدار الخارجية كانت مخصصة للأمميين الذين يريدون أن يجتلوا محاسن أمجاد هيكل اليهود، أو أن يقدموا ذبائح وتقدمات لإله إسرائيل، ولكن لم يكن مسموحاً لهم بحال أن يتخطوا هذا «الحائط» الذي كان يفصل هذه الدار عن الهيكل. وكل من تحدثه نفسه باقتحام ذلك الحائط يقع تحت طائلة الإعدام، ومبالغة في الاحتياط، لمنع الامم من أن يمسوا الجدار المرتفع ذا الأبواب، أقام اليهود حائط سياج منحوتاً من حجر، مطوقاً أبنية الهيكل، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام، هذا هو حائط السياج المتوسط الذي قصده بولس وحدثنا عنه يوسيفوس في «سفر الآثار»، وحائط السياج المتوسط هذا لم يكن موجوداً في الهيكل فقط، بل كان قائماً في قلوب اليهود فمنع دخول الأمم إليهم، لكنه زال مذ أن انشق حجاب الهيكل والمسيح معلق على الصليب، وهكذا تصالح اليهود والأمم في صليب المسيح، وصارا إنساناً واحداً جديداً، رمزاً للإنسانية الجديدة الموحدة التي لا مجال فيها للخلاف الذي توجده الجنسية، ولا للعداء الذي يسببه اللون، ولا للمشاحنة التي ولدها المذهب، ومن ثم صالح المسيح الاثنين اليهود والأمم - أي الناموس الطقسي الذي أقام منه اليهود سوراً منيعاً فصل بينهم وبين الأمم، فاليهود كانوا يتورعون عن أن يمسوا شيئاً في الأسواق العامة متى علموا أن يداً أممية مسته لئلا يتنجسوا، وكانوا يأنفون أن يأكلوا على مائدة واحدة مع شخص أممي لئلا يتلوثوا، فجعلوا من هذه الفرائض حصناً منيعاً تحصنوا وراءه ضد الأمم، فامتلأت قلوبهم بالعداء لهم.
وقد أزال المسيح بموته على الصليب هذا الناموس الطقسي، ثم صالح الاثنين مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به!! ومن يستطيع أن يعي معنى هذه المصالحة الكبرى ولا يرقص قلبه طرباً.
يحدثنا دكتور سكوفيلد في إحدى عظاته عن حادثة مؤثرة حدثت في حياة تشارلس فني! كان فني يعقد سلسلة اجتماعات، وفي ختام أحدها جاءه رجل ترتسم عليه علائم الشقاء، وصافحه ورجاه أن يزوره في بيته، لكن أحد الأصدقاء نصح فني أن لا يذهب لأن الرجل شرير خطير، لكن «فني» عزم على أن يبر بوعده. وذهب مع الرجل حتى وصلا إلى البيت، ففتح الرجل الباب وأدخل السيد فني، ثم أغلق الباب بالمزلاج، وأخرج مسدساً من جيبه وأشهره في وجه «فني» وقال: قتلت أربعة بهذا«المسدس» وأنت ستكون الخامس إن لم تعطني إجابة شافية عن أشياء سأسألك عنها:
وأجاب فني: «دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية».
مد المجرم يده وهزّ يد فني مصافحاً، وفتح له الباب للخروج.
وفي الصباح الباكر رؤي ذلك الرجل وهو يحطم المرايا، والزجاجات، وموائد القمار، ويعلن أنه أغلق حانته الرهيبة إلى الأبد... ثم يتجه إلى بيته ليعتذر لزوجته عمّا سببه لها من آلام! ومن ذلك الوقت صار بيته جنة فيحاء وامتلأ قلب زوجته بالهناء، وضاع كل إحساس بالخوف وكل شعور بالشقاء من قلب ابنته التي كانت جميلة كالزهرة البيضاء! وتصالح الرجل مع الله... وأصلح صلاته مع الناس. وكل ذلك حدث بقوة الصليب، الذي صالح به الله خليقته.
وقف داود فوق مراعي الأرض المقدسة يتطلع إلى الشمس والكواكب والنجوم التي خلقها الله، وإذ غمره الشعور بالجمال والجلال هتف مردداً «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ، حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ... إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟» (مز 8: 1 و3 و4) ما يخطر على بال الإنسان وهو يشعر بحقارة نفسه إزاء هذا الكون العظيم، فأرضنا تحمل على سطحها أكثر من بليونين وربع بليون إنسان، يموت منهم 50 مليوناً كل سنة، أو 136986 كل يوم، أو 5707 كل ساعة، أو 95 شخصاً كل دقيقة! فما قيمة الفرد في هذا العدد العديد! أجل! من هو الإنسان الواحد وسط هذه البلايين؟
ثم لنأت إلى الإنسان في صفاته! من هو؟ إنه مجموعة من المتناقضات والنقصات، ففيه ضراوة الأسد، ومكر الثعلب، ونعومة الحية، وكبرياء الطاووس، وغباء الحمار، ووحشية النمر وهو في شره وانحطاطه... وفيه النقاء، والصفاء، والحب، والوفاء، عندما يتجدد قلبه ويقترب إلى الله! ولقد وصفه أحد رجال الله فقال: «إن حياة الإنسان مليئة بالأنهار والبحار، والكهوف والوديان، والجبال والسهول، والنسيم والعواصف، فميوله أنهاره، ومطامحه بحاره، وأسراره كهوفه، ومعلناته وديانه وعزائمه جباله، وأمانيه سهوله، وخياله نسيمه، وعواطفه عواصفه» فهو أكثر المخلوقات تعقيداً في شخصيته.
والآن! من هو الإنسان بالنسبة للنظام الشمسي الذي يحيط به في روعة وإبداع!!
قص علينا خادم وقور قصة من عالم جليل تحدث إلى رجل غني مغرور أراد أن يريه حقيقة نفسه فقال: «دعني أريك حقيقتك أيها الرجل الغني! بين الأكوان العظيمة التي خلقها الله يوجد شيء اسمه «المجرة» أي النظام الشمسي وفي «المجرة» توجد بقعة سوداء صغيرة اسمها الأرض، وعلى الأرض يعيش ملايين من ذرات الكربون الحقيرة القذرة اسمهم البشر. فيا صاحبي أنت ذرة كربون حقيرة قذرة» هذا هو الإنسان بالقياس إلى ما يحيط به من عوالم وأكوان، وهو إذ تصدمه هذه الحقيقة كثيراً ما يرفع عينيه إلى الأعالي ويقول: أحقاً يهتم بي الله أنا المخلوق التافه الضعيف؟!
والجواب الشافي عن قيمة الإنسان لا نجده إلا في الصليب، إذ هناك يستطيع شخص نظير بولس الذي كان قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفترياً أن يهتف ولهيب الحب يهز عواطفه، إذ يرى المسيح معلقاً على الصليب قائلاً «ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا 2: 20) وإذا كان ابن الله قد أُسلم لأجل الإنسان، فقيمة الإنسان إذاً عظيمة بهذا المقدار.
حدثنا رجل جليل من رجال الله عن شخص عاش عيشة التشرد، وسار تقذفه مدينة وتتلقاه أخرى، وانتهى به المطاف إلىمدينة «لومبارديا» حيث أصيب بمرض خطير وحملوه إلى المستشفى العام، وهناك أحاط به الأطباء وفحصوه، ثم قال بعضهم لبعض بلغة علمية صعبة «دعونا نجري عملية لهذا المخلوق التافه الوضيع» ولم يخطر ببالهم أن يفهم الرجل المريض كلماتهم، فهو في نظرهم متشرد جاهل وضيع! لكن الرجل المريض رفع عينيه إلى من أحاط به من أطباء وقال: «كيف تقولون عن شخص مات المسيح من أجله أنه مخلوق تافه وضيع».
وحقاً! إن شخصاً مات المسيح لأجله، هو أعظم من كل العالم وأضخم من كل كوكب يدور في الأفلاك، بل أعلى من السماء.
لكن سؤالاً يخطر ببالنا حين نصل إلى هذا الحق الجميل هو: إذا كان الإنسان كريماً، ثميناً بهذا المقدار الذي كلف الله بذل ابنه الوحيد لأجله على الصليب: فلماذا يسمح الله بآلام الإنسان؟ بل لماذا يرضى بآلام الأبرار والقديسين؟
وفي الصليب يكشف لنا الله أسرار الحياة، فعلى الجلجثة، تمثلت أعمال العناية التي تبدو أمام عيوننا غامضة، فرأينا هناك المسيح القدوس البريء يتألم لأجل شر الأشرار، ويحترق قلبه من فرط العار، ويموت وهو في ريعان الشباب، مع أنه سُمع صوت من السماء يناديه في مستهل خدمته «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متى 3: 17).
فإذا كانت قلوبنا تحترق من الحزن على فقد عزيز، فكذلك احترق قلب المسيح، وإذا اغتصب الأشرار ميراثنا، وأخذوا ظلماً مالنا، فكذلك اقتسم الجنود الرومان ثياب المسيح، وعلى لباسه ألقوا قرعة!! وإذا مات أحد أعزائنا ميتة شنيعة، فكذلك مات المسيح ميتة العار على صليب الهوان! وإذا ما خطر ببالنا أن نتساءل عن قصد الله في آلامنا، أجابنا «الصليب» بأن كل ألم في حياة أولاد الله مرتب بمشورة الله المحتومة لغاية عليا، وقصد جليل! وإذا تعجبنا كيف رضي الله أن يأخذ فلذة كبدنا وهو في ربيع حياته، وعنفوان شبابه؟ رأينا على الصليب مسيح الله الذي قضى وهو في الثلاثين؟!
وهكذا تتوضح لنا أسرار الألم في حياتنا.
لكن ما يعزينا، هو أن الموت لم يكن خاتمة حياة المسيح، ولا كان القبر نهاية كفاحه وخدمته وآلامه! كلا!! فبعد الموت أشرق فجر القيامة، وبعد ظلمة القبر إرتقى المسيح إلى عرشه المجيد، وبعد الصليب حمل السيد على رأسه تاج المجد التليد...
فيليق بنا إذاً أن نفرح ونبتهج إذ بعد آلام الحياة وأحزانها سوف نتمتع بتاج الخلود السعيد.
فيا نفسي لا تجزعي ولا تفزعي.
بل انحني في خضوع عند الصليب.
ففيه أظهر الله لك حقيقة قيمتك.
وفيه الحل الأوحد لمشاكل حياتك.
وفيه أعلن الله حبه المريح لبني الإنسان.
وعنده يستريح المتعبون.
هذا الخيط القرمزي الذي يتخلل صفحات الكتاب المقدس من تكوينه إلى رؤياه! ما دلالته وما معناه؟!؟
هذه الذبائح التي نُحرت على مذبح الله خلال القرون والأجيال إلى من ترمز وإلى أي شخص تشير؟!؟
هذه النبوات التي نطق بها أنبياء العهد القديم والتي تتحدث عن شخص آت سيتألم ويموت! من هو هذا الشخص الذي تعنيه؟
إن هذا الخيط القرمزي، وهذه الذبائح الكثيرة، وهذه النبوات العديدة، تشير كلها إلى شخص واحد هو «يسوع المسيح» الذي قال عنه بطرس الرسول وهو أحد كبار الحواريين «وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. ٱلَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ... لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 10: 39 و43).
فقبل أن يأتي المسيح بمئات السنين ويُصلب على الصليب تنبأ الأنبياء عن مكان ولادته، وكيفية هذه الولادة المعجزية، وموته على صليب العار كفارة لخطايا البشر!!
ومعنى هذه النبوات أن الله في علمه الواسع، ومعرفته المطلقة يعرف النهاية من البداءة، كما يقول في سفر إشعياء «أَنَا ٱلرَّبُّ هَذَا ٱسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ... هُوَذَا ٱلأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَٱلْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخْبِرٌ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا» (إش 42: 8 و9) «اُذْكُرُوا هَذَا وَكُونُوا رِجَالاً. رَدِّدُوهُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيُّهَا ٱلْعُصَاةُ. اُذْكُرُوا ٱلأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرُ. ٱلإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. مُخْبِرٌ مُنْذُ ٱلْبَدْءِ بِٱلأَخِيرِ وَمُنْذُ ٱلْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلاً: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي» (إش 46: 8-10). وهذا يتفق تماماً مع ما قاله يعقوب الرسول «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ» (أع 15: 18).
فسقوط الإنسان لم يكن مفاجأة لله لم يعمل لها حساباً، لكنه عرف بسابق علمه أن الإنسان سينحدر إلى هاوية السقوط، ولم يتدخل سبحانه وتعالى لمنع هذا السقوط، لأنه خلق الإنسان حراً واحترم حريته، فأي تدخل من جانبه تبارك اسمه كان يعتبر امتهاناً للحرية التي منحها للإنسان وبالتالي يجعل من الإنسان أداة مسيرة في يد الله، وليس هذا هو قصد الله في خلقه الإنسان، لأنه خلق الإنسان حراً، ووضعه تحت التزام أدبي أمامه، وكان من واجب الإنسان أن يستمر مطيعاً لوصية الخالق العظيم، لكنه أصغى لصوت الشيطان وسقط سقوطه المشين.
ورغم هذا فإن الله في حكمته الأزلية التي جلت وعلت، اتخذ من سقوط الإنسان وسيلة لإظهار بره وقداسته، وعدالته ورحمته، في الوقت الذي أبقى فيه للإنسان كامل حريته، وكان الصليب هو مفتاح هذا التدبير الحكيم!!
ولا يغرب عن بالنا أنه بعد سقوط الإنسان أعلن له الله خلاصه بواسطة «الدم» وخلال هذه الآلاف من السنين التي سبقت مجيء المسيح، كان الله يعد البشرية عن طريق الذبائح الرمزية والإعلانات النبوية لترى الوسيلة الحكيمة التي رتبها لفدائها، ولتعرف خلاصه الثمين الذي سيجريه لأجلها بالصليب.
فالصليب إذاً لم يكن حادثاً عابراً في حياة المسيح، ولكنه كان تدبيراً أزلياً في مشورات الله، ولذا فإن موت المسيح ليس كموت الأنبياء، والشهداء، وأصحاب الرسالات، ومن يموتون حباً في الوطن الذي يعيشون فيه، لأنه يختلف كل الاختلاف عن موت هؤلاء، ذلك لأن المسيح وُلد لكي يموت!! ومات طوعاً واختياراً لا لأن اليهود أرادوا له أن يموت، ولا لأن بيلاطس الوالي الروماني حكم عليه بالموت، لكن لأنه جاء خصيصاً لكي يموت وأعلن وهو الصادق الأمين هذا الحق بقوله «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِين» (مت 20: 28) وقد تكلم له المجد عن موته على الصليب عدة مرات فأنبأ به نيقوديموس في مستهل خدمته قائلاً «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 14 و15) وأعلنه لليهود في قلب خدمته حين قال «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ. قَالَ هٰذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ» (يو 12: 32 و33) وأخبر به تلاميذه قرب نهاية خدمته فقال لهم: «إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى 16: 21) فلم يكن الصليب إذاً أمراً جديداً على المسيح، بل كان شيئاً منتظراً ثبت وجهه لكي ينطلق نحوه.
ويكشف لنا بطرس الرسول عن هذه الحقيقة الأزلية فيقول في عظته التي ألقاها يوم الخمسين «هٰذَا (أي المسيح) أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع 2: 23) ثم يعود مؤكداً هذا الحق في رسالته قائلاً: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ»(1بط 1: 18-20) وعلى هذا فإن المسيح لم يمت على الصليب موت شهيد، أو موت نبي مضطهد، لأنه لم يمت على الرغم منه، بل مات طوعاً واختياراً وأعلن عن موته الاختياري قائلاً: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 17 و18) فموت المسيح الذي تم باختياره على الصليب لأجل خلاص البشر كان أمراً معروفاً ومرتباً قبل تأسيس العالم وأصدق دليل على هذا هو الرموز الكثيرة الواضحة التي تذخر بها كتب العهد القديم، والنبوات العديدة الصريحة التي تمت بصورة جلية في الصليب.
يحدثنا المهندس الإنجليزي «لندزي جلج» في كتاب له عن منظر آخّاذٍ رآه في قاعة كبرى ملحقة بإحدى الكنائس في بلاد الغرب. يتوسط هذه القاعة البديعة التنسيق تمثال رائع للمسيح المصلوب، وحول هذا التمثال عدة تماثيل لأنبياء العهد القديم وقد أشار كل منهم بإصبعه إلى ذلك الصليب المرتفع في جلال وبهاء، وتحت تمثال كل نبي الآية المركزية في نبواته عن المسيح وموته مصلوباً على الصليب.
فتحت تمثال موسى الذي يشير بإصبعه إلى الصليب العجيب كُتبت هذه الكلمات: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُون» (تث 18: 15).
وتحت تمثال داود كُتبت هذه الكلمات: «لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مز 22: 16).
وتحت تمثال دانيال كُتبت هذه الآية الكريمة: «يُقْطَعُ ٱلْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ» (دا 9: 26).
وهكذا يرى الواقف في هذه القاعة الجميلة جميع أنبياء العهد القديم، وهم يشيرون إلى مجيء المسيح ليخلص العالم الأثيم.
فلندخل إذاً إلى مقادس الوحي، ولنتابع السير وراء هذه الرموز والنبوات لنتأكد من مدى انطباقها على شخص المسيح الكريم ولنبدأ أولاً بدراسة:
إن أول لمحة من أضواء النبوة تلمع بجمالها الرائع بعد سقوط الإنسان، نجدها في الأصحاح الثالث من سفر التكوين. فقد جاء الله ليعلن حبه للبشر، وليريهم الطريق الذي رتبه لإنقاذهم من الهلاك ويلذ لنا أن نعرف أن الله قبل أن ينطق بحكم العدالة على آدم وحواء أعطى أولاً وعد الفداء العتيد، فقال للحية «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك 3: 15). وكان هذا الوعد هو النور الوهاج الذي أشرق أمام الإنسان بالرجاء إذ فيه سمع الإنسان عن ميلاد«نسل المرأة» الذي يسحق رأس الحية القديمة إبليس والشيطان، وقد تم هذا الوعد بصورة واضحة إذ «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ» (غلا 4: 4) ليكون فعلاً وحقاً «نسل المرأة» الظافر المنتصر الذي يسحق بصليبه رأس إبليس، ويسحق إبليس عقبه بآلام الصليب.
وجدير بنا أن نلاحظ أن هذا النسل الموعود هو «نسل المرأة» أي أنه وليد يأتي من امراة بغير رجل، وقد تمت هذه النبوة في شخص المسيح وسجلها متى في إنجيله قائلاً «وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى 1: 22 و23).
وفوق ذلك فإننا نرى خلال قصة السقوط رمزاً صريحاً عن طريق الفداء، «بالدم» إذ نقرأ الكلمات «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تك 3: 21).
فكيف تسنّى لله أن يصنع هذه الأقمصة الجلدية؟ لا ريب في أن هذا قد تم بواسطة سفك دم حيوان بريء، أخذ الله جلده وكسا به عري الإنسان، وهكذا تبزغ أمامنا الحقيقة التي بدت بعد ذلك واضحة في الرموز، والذبائح، والنبوات، حقيقة مجيء «البديل البريء» الذي سيأخذ مكان الإنسان، ويسفك دمه لأجله لينال الإنسان الغفران والحياة إذ أنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22).
وهنا قد يعترض معترض قائلاً: إن فلسفة «البديل» فلسفة غير عادلة لأنها ترضى أن يموت البريء عوضاً عن المجرم الأصيل، وأن يأخذ الذي لم يفعل الجريمة، مكان المعتدي الأثيم!!
ويجيب «جيويلبويد» عن هذا الاعتراض قائلاً إنه في كل قضية إنسانية مشابهة يوجد أربعة أطراف إلى جوار المجرم الحقيقي:
أولاً: القاضي. ثانياً: البديل. ثالثاً: المجتمع الذي أُسيء إليه.رابعاً: رأس الدولة الممثل لقانون البلاد، والذي أقسم القاضي في محضره أن يكون نزيهاً في تنفيذ عدالة القانون، وفي قضية هذه أطرافها لا يمكن للقاضي أن يحكم على شخص بريء حتى ولو رضي ذلك الشخص أن يأخذ مكان المجرم الأصيل، لأن عملاً كهذا يسيء إلى المجتمع الذي لم يأخذ القانون مجراه في القاتل الحقيقي لأحد أفراده، كما يسيء إلى القانون الذي أقسم القاضي على تنفيذه بعدالة وصدق، ويجعل القاضي في موقف الرضى عن الظلم والغش والتدليس.
أما في «قضية الصليب» وفي وضع المسيح كبديل بريء عن البشر الآثمين، فالأمر يختلف كل الاختلاف. إذ أننا نرى في هذه القضية أن المجرم الحقيقي هو «الإنسان الخاطئ الأثيم»، ولكننا لا نجد أمامه سوى شخص واحد هو «القاضي» وهو نفسه المجتمع الذي أُسيء إليه وهو «واضع القانون» وهو «ممثل القانون» وهو في ذات الوقت الذي ارتضى أن يكون « البديل البريء»... وهو «الله المحب الشفوق... العادل البار القدوس» الذي لا يمكن أن توافق عدالته على أن يغفر للناس بغير حساب. ولذا فإن الله حين جاء في المسيح ليموت على الصليب، لم يكن منفذاً لقانون شخص آخر، بل للقانون الذي وضعه هو، والجريمة لم ترتكب ضد شخص سواه، وفوق الكل فإنه لم يأخذ شخصاً آخر بعيداً عنه ليجعله بديلاً للإنسان، بل على العكس، قد رفض هذا في وضوح عندما عرض عليه موسى أن يجعله بديلاً لإسرائيل وأن يمحوه لأجلهم من كتابه الذي كتب (خروج 32: 30-35) ولكنه جاء بنفسه آخذاً صورة العبيد الآثمين، وحمل في الجسد الإنساني الذي أخذه عقاب قانونه وبهذا وفق بين عدله ورحمته، وبين قداسته ومحبته، وبين كراهيته الشديدة للخطية، ومحبته الفائقة للإنسان!! وبينما تألم ومات على الصليب نجده يعلن عن نفسه أنه «القاضي العادل ديان كل الأرض» (مت 13: 41-43 و25: 31: 46)، وعلى هذا فنحن لا نجد الله القدوس يعاقب شخصاً بريئاً باعتباره طرفاً ثالثاً في القضية بل نرى أن «القاضي» هنا هو الله المثلث الأقانيم، وأن الأقنوم الثاني من اللاهوت، وقد رضي في محبته أن يأخذ شخصية المجرم ممثلاً إياه في كل شيء ما عدا الخطية، وأخيراً صار هو نفسه «خطية»، وارتضى أن ينفذ في شخصه عقاب القانون الذي وضعه هو ضد الخطية، وهو القانون القائل «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 4) وفي ذات الوقت نجد أن هذا القانون لا وجود له بعيداً عن وجود الله العادل الذي وضعه في الوجود.
وكل هذا يرينا بأن فلسفة «البديل البريء» التي تنادي بها المسيحية، هي القمة الشاهقة التي يعلن الله من فوقها عن صفاته الأدبية الكاملة، والتي تظهر فيها حكمة الله ومحبة الله.
حدثنا السيد مودي في كتاب «الكلمة الحمراء» عن سيدة ذهب زوجها إلى كالفورنيا بحثاً عن الرزق، وعندما صادفه النجاح، أرسل إلى زوجته لتأتي إليه مع ابنهما الوحيد! استقلت الزوجة الباخرة، وأقلعت الباخرة متجهة صوب هدفها المقصود، ولم يمض وقت طويل حتى سمع ركابها صراخاً شديداً «النار... النار» وأدرك القبطان أن الباخرة سيكون مصيرها الدمار. لأنها كانت تحمل شحنة من «البارود» فأسرع بإنزال قوارب النجاة، وطلب من ركاب السفينة الإسراع في النزول، وفي لحظة خاطفة كانت جميع القوارب ممتلئة بالناس، وكانت الأم وولدها على ظهر الباخرة التي ينتظرها الحريق!! وصرخت الأم متوسلة «خذوني وخذوا ولدي» لكن ركاب القوارب رفضوا أخذهما إذ لم يكن لهما موضع في أي قارب للنجاة... وبكت المرأة بالدموع حتى رق لها قلب الركاب، وقالوا لها: إننا لا نستطيع أن نأخذ سوى شخص واحد في القارب.. وبلا تردد احتضنت الأم ولدها وقبلته قبلة الوداع ثم قالت له: «يا ولدي الحبيب، إذا قيض الله لك الحياة حتى ترى أباك، فقل له أن أمي ماتت عوضاً عني... ماتت لكي تهبني أنا الحياة».
إننا نقف أمام تضحية هذه الأم لأجل ابنها وقد أحنينا رؤوسنا في إجلال!! وكل تضحية في الوجود تثير في القلب مشاعر الاحترام والتقدير، فهل يمكن أن يكون الله أقل تضحية من خليقته؟! إننا نقف خاشعين أمام أب يحترق ليخلص أحد أولاده من الحريق!! أو جندي يثبت في موضعه حتى الموت لينقذ فرقته من الدمار!! أو شاب يلقي نفسه وسط الأمواج العاتية لينقذ إنساناً أشرف على الغرق!! وفي كل هذه الصور نحن نرى فلسفة «البديل» ونرى في هذا البديل شهامة تستحق منا الحب والإجلال والتوقير!
ومع ذلك فإن هذه الصور مجتمعة، لا تعبر إلا تعبيراً باهتاً ضعيفاً عن تضحية المسيح البريء، وموته الاختياري على الصليب، ليخلص الإنسان من العقاب والهلاك، ويريه كيف دخل معه في معركة الموت لينقذه إلى الأبد من هذا العدو الرهيب.
لقد حاول الإنسان بعد أن أحس بعريه المشين، أن يستر عري جسده بأوراق التين، لكن هذه الأوراق جفت وآلت إلى ذبول! وهنا «صَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تكوين 3: 21) ومعنى ذلك أن الخلاص هو من «صنع الله وحده» وأنه ليس من أعمال الإنسان، أو مجهوده، أو تفكيره، بل معناه كذلك أن الخلاص لم يتم إلا عن طريق «الدم» الذي سُفك لستر عري الإنسان، وهذا الرمز قد تم بأجلى بيان في صلب المسيح فهناك أتم الله عملية الفداء وأنقذ الإنسان من العار، والعري، والشقاء كما يقول بولس الرسول «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس 2: 8 و9).
إذ نقلب صفحات سفر التكوين يقابلنا في الأصحاح الرابع رجلين هما «قايين» و «هابيل» ونراهما وهما يحاولان الاقتراب إلى الله كل واحد بالطريقة التي أرادها، أما قايين فقد قدم من أثمار الأرض قرباناً للرب، وأما هابيل فقد قدم «مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا»! (تكوين 4: 3 و4).
فكيف نظر الله إلى تقدمة كل منهما؟ يقول لنا كاتب سفر التكوين «فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلٰكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تكوين 4: 4 و5)!
فلماذا رفض الله تقدمة قايين وقبل تقدمة هابيل؟ إن تقدمة قايين في جملتها ليست إلا نكراناً شاملاً لكل ما قاله الله عن لعنته للأرض وأثمارها، وعن حقيقة الخطية والحاجة إلى مخلص يكفر عنها الأمر الذي أوضحه الله لآدم وحواء عندما صنع لهما أقمصة من جلد، والذي لا شك أنه أكده أكثر من مرة في تعاليمه ووصاياه لكليهما ولهذا كان طريق قايين طريقاً مضاداً لمشيئة الله. وهذا الطريق هو طريق الذين يتكلون على أعمالهم الصالحة التي لا يمكن أن تخلصنا من عقاب خطايانا، وأن حسناتنا لا يذهبن سيئاتنا، فقال على لسان نبيه إشعياء «وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا» (إش 64: 6) وقد قيل إن «عدة المرأة هي أيام طمثها» فانظر كيف يصور الله أعمال برنا بثوب امتلأ نجاسة وقذارة؟! ثم قل: فماذا تكون أعمال شرنا؟! لقد رفض الله تقدمة قايين لأنها كانت من ثمار الأرض الملعونة، فكانت تحمل اللعنة في ثناياها... أما ذبيحة هابيل فقد قبلها الله، لأنها كانت اعترافا وديعاً متواضعاً، وقبولاً صحيحاً واضحاً لطريقة الله في الغفران والقبول. ويسجل كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن هابيل هذه الكلمات «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ» (عب 11: 4) ويقيناً أنه لا يمكن أن يكون هناك إيمان ما لم يكن هناك إعلان سابق يستند عليه هذا الإيمان لأن «ٱلإِيمَانُ بِٱلْخَبَرِ، وَٱلْخَبَرُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ» (رو 10: 17)، وعلى هذا فإن هابيل لم يقدم ذبيحته الدموية لمجرد استحسانه الشخصي أو تفكيره العقلي، بل لا بد أن الله قد أعلن منذ البدء الحقيقة الكبرى أنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عب 9: 24) وأن هابيل قد عرف هذه الحقيقة من آدم أبيه وقبلها في ثقة ويقين، فكانت ذبيحته رمزاً للمسيح الذبيح الأعظم.
نصل الآن إلى رمز ثالث لشخص المسيح، هو فلك نوح، ففي أيام ذلك الرجل البار فسدت الأرض وامتلأت ظلماً، وكان لا بد أن يفعل الله شيئاً ليظهر كراهيته للخطية، وحكمه الرهيب عليها، وفي ذات الوقت كان عليه أن ينقذ الأقلية الضئيلة التي آمنت به وعاشت بحسب وصاياه، وكان نوح وعائلته هم هذه الأقلية الأمينة «فَقَالَ ٱللّٰهُ لِنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ ٱمْتَلأَتْ ظُلْماً مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ ٱلأَرْضِ. اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكاً مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ...فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ ٱلْمَاءِ عَلَى ٱلأَرْضِ لِأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ ٱلسَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي ٱلأَرْضِ يَمُوتُ. وَلٰكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ ٱلْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَٱمْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ» (تك 6: 13 و14 و17 و18).
ومن سياق القصة نرى أن الفلك قد عمل بتصميم الله، وأنه كان السبيل الوحيد لنجاة نوح وأفراد عائلته، وأنه احتمل طوفان المياه عوضاً عن نوح وأفراد أسرته، وبهذا أنقذهم جميعاً من موت محقق.
وكل هذه الصفات تنطبق تماماً على شخص ربنا يسوع المسيح، فهو المخلص المعين من الله، الممسوح منه لأجل الخلاص، وهو الطريق الوحيد لخلاص البشر كما قال فيه بطرس «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أع 4: 12). وهو الذي طمت عليه تيارات ولجج غضب العدل الإلهي عوضاً عن الخطاة الآثمين، فصار من يلجأ إليه في حمى من دينونة الله كما يؤكد ذلك بولس الرسول قائلاً «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رو 8: 1) وهكذا نرى في ذلك الفلك القديم رمزاً جميلاً للرب يسوع المسيح.
نستمر سائرين مع السجل المقدس، إلى أن نصل إلى قصة تقديم اسحق، وهي قطعاً من أروع قصص العهد القديم، وقد ذكرها الكتاب في هذه الكلمات: «وَحَدَثَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ أَنَّ ٱللّٰهَ ٱمْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ. فَقَالَ: هَئَنَذَا. فَقَالَ: خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تك 22: 1 و2) وقد أطاع إبراهيم صوت الله، وأخذ ابنه المحبوب ليقدمه محرقة لأجله، ولكنه ما كاد يصل إلى الجبل، ويربط اسحق ويضعه على المذبح فوق الحطب الذي أعده حتى ناداه ملاك الرب من السماء قائلاً «إِبْرَاهِيمُ إِبْرَاهِيمُ. فَقَالَ: هَئَنَذَا فَقَالَ: لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى ٱلْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً» (تك 22: 11 و12) «فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تك 22: 13).
وفي تتبعنا لسياق القصة تقابلنا هذه الحقائق الهامة وهي:
أولاً: إن الله قد أشفق على إسحق فلم يسمح لأبيه أن يذبحه، وهذا أصدق دليل على أن الله لا يحب الذبائح البشرية، ولا يوافق عليها بحال، وكل ما في الأمر أنه أراد أن يجيز إبراهيم في اختبار حي، وأن يعطيه شعاعة من نور محبته للبشر «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16) أجل إن الله «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رو 8: 32) لكي يعلن لنا مدى حبه، ومقدار عواطف قلبه، وبينما أشفق على «ابن إبراهيم» وقال لأبيه «لا تمد يدك إلى الغلام» ترك ابنه الوحيد معلقاً على الصليب يتجرع آلامه المريرة، وموته القاسي البطيء الرهيب لأجل العالم الأثيم. ويصف يوحنا هذا الحب الإلهي قائلاً «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1 يو 4: 10).
أما الحقيقة الثانية التي نراها في هذا الرمز الجميل، فهي أن إسحق وهو يحمل حطب المحرقة على كتفه ويصعد به إلى جبل المريا إنما كان يرمز إلى ذاك الذبيح الحقيقي الذي قال عنه يوحنا في إنجيله «فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ ٱلْجُمْجُمَةِ» وَيُقَالُ لَهُ بِٱلْعِبْرَانِيَّةِ «جُلْجُثَةُ» حَيْثُ صَلَبُوهُ» (يو 19: 17 و18) وليس ببعيد أن يكون الله قد رفع حجاب الزمن عن عيني إبراهيم في هذه الساعة بالذات فرأى بديل البشرية الأوحد يسوع المسيح ولذا فقد قال رب المجد لليهود«أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يو 8: 56).
وهناك حقيقة ثالثة في هذه القصة الخالدة هي حقيقة الفداء «بالدم» إذ لما رفع إبراهيم عينيه رأى كبشاً ممسكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه. وهكذا مات الكبش البريء مكان الولد الذي كان مزمعاً أن يموت تماماً، كما مات المسيح «حمل الله» بدل كل خاطئ أثيم وذاق «بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ» (عب 2: 9).
إذ نستمر في سياحتنا في سفر التكوين نقرأ عن سلم يعقوب التي رآها في حلمه الفريد، وإليك قصة هذا الحلم: «فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ. وَصَادَفَ مَكَاناً وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ ٱلشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ. وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ ٱلْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَٱضْطَجَعَ فِي ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ. وَرَأَى حُلْماً، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ ٱلسَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ ٱللّٰهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا وَهُوَذَا ٱلرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا» (تك 28: 10-13) والواقع أنه ما كان لنا أن نقول إن هذه السلم ترمز إلى شخص المسيح الكريم، لولا أن أشار رب المجد إلى ذلك بكلام صريح إذ قال «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (يو 1: 51) وفي بحثنا عن أوجه الشبه بين هذه السلم وبين شخص المسيح، نرى الانطباق في نواح ثلاث، فهذه السلم قد أوصلت الأرض بالسماء، ويسوع هو الوسيط الوحيد الذي أوصل الأرض بالسماء كما قال عنه بولس الرسول «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (1 تي 2: 5) كما أن هذه السلم من الطول والعظمة بحيث يستحيل أن تقيمها أيادٍ بشريةٍ، وهذا دليل على أنه من العبث أن نحاول إقامة سلم من أعمالنا الصالحة لتوصلنا إلى السماء، وفوق ذلك فإن هذه السلم قد أقامها الله للتعبير عن محبته ورعايته لإنسان ضعيف وحيد نظير يعقوب. وشخص المسيح هو التعبير المتجسد لمحبة الله، ولأجل هذه، فقد نزل إلى أرضنا على درجات سلم الاتضاع، ليرفع البشر على ذات هذه السلم إلى السماء، وعن هذا يقول رسول الأمم «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هٰذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ (1) أَخْلَى نَفْسَهُ (2) آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ (3) صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ (4) وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ (5) وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ (6) مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (في 2: 5-8) وبهذا الموت الكفاري أحيانا الله مع المسيح «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 6) وصارت الملائكة عن هذا الطريق في خدمتنا وحراستنا «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عب 1: 14) وهكذا نرى في سلم يعقوب رمزاً جميلاً رائعاً للمسيح المصلوب الكريم.
عندما نصل إلى سفر الخروج الأصحاح الثاني عشر نجد أن كل آية من آيات هذا الأصحاح المبارك تنضح بالدم، دم الحمل المذبوح لنجاة شعب الله، والآن دعنا نقرأ معاً بعض عبارات هذا الأصحاح الثمين: «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ: هٰذَا ٱلشَّهْرُ يَكُونُ لَكُمْ رَأْسَ ٱلشُّهُورِ. هُوَ لَكُمْ أَوَّلُ شُهُورِ ٱلسَّنَةِ. كَلِّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ قَائِلَيْنِ، فِي ٱلْعَاشِرِ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ يَأْخُذُونَ لَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بِحَسَبِ بُيُوتِ ٱلآبَاءِ. شَاةً لِلْبَيْتِ... تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَراً ٱبْنَ سَنَةٍ، تَأْخُذُونَهُ مِنَ ٱلْخِرْفَانِ أَوْ مِنَ ٱلْمَوَاعِزِ. وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ ٱلْحِفْظِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْعَشِيَّةِ. وَيَأْخُذُونَ مِنَ ٱلدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى ٱلْقَائِمَتَيْنِ وَٱلْعَتَبَةِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي يَأْكُلُونَهُ فِيهَا... فَإِنِّي أَجْتَازُ فِي أَرْضِ مِصْرَ هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ، وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلْبَهَائِمِ... وَيَكُونُ لَكُمُ ٱلدَّمُ عَلاَمَةً عَلَى ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، فَأَرَى ٱلدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاَكِ» (خر 12: 1-13).
وترينا هذه الحادثة أمرين: دينونة الله... وطريق النجاة - أما الدينونة فهي «موت كل بكر» وأما طريق النجاة فهو «دم الخروف المذبوح» إذ قال الرب «فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك».
ويقول الواعظ الأشهر السيد مودي «إن الله لم يقل: حين أرى أعمالكم الصالحة، وحين أرى كيفية صلاتكم، وحين أرى دموعكم أعبر عنكم! بل قال فأرى الدم وأعبر عنكم»فكل شيء كان متوقفاً على تصديق كلمة الله، ووضع الدم على القائمتين والعتبة العليا!! لكن لماذا لم يوضع الدم على العتبة السفلى؟ ذلك لأن الله لا يسمح أن ندوس دم ابنه الثمين، مع أن هذا هو ما يفعله العالم اليوم، حين يحتقر الهالكون طريق الخلاص بالدم، ويزدرون بدم المسيح الكريم.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن موت «خروف الفصح» كان هو السبيل لنجاة الشعب، وليس الخروف الحي، وما أثمن الدرس الذي لنا هنا، فالخروف الصحيح الذي بلا عيب كان شيئاً ثميناً، لكن وسيلة خلاص الشعب كانت في دم هذا الخروف، لا في مجرد بقائه حياً، فيسوع الكامل القدوس كان لا بد أن يموت وأن يسفك دمه على الصليب لأجل خلاص البشر... ولكن الغريب أن يقول الكثيرون أن حياة المسيح العالية المثالية هي التي تخلص الناس، مع أن الله لم يقل لشعبه «خذوا خروفاً صحيحاً نظيفاً واربطوه حياً على باب بيتكم، وحينما أرى الخروف أعبر عنكم. كلا!! لقد كان دم ذلك الحمل هو وسيلة النجاة فأرى الدم وأعبر عنكم» ولو أن أي واحد من أفراد الشعب ربط «الخروف» على باب بيته حياً لدخل الملاك وضرب بكره ضربة الموت بغير جدال.
كان الدم وحده هو طريق الخلاص، وكان البكر في أفقر بيت من بيوت شعب الله، في أمان وراء الدم تماماً كموسى، وهرون، ويشوع وكالب، وأي واحد من عظماء العبرانيين.
وقد يقول قائل: إنني لا أستطيع أن أدرك تماماً لماذا يطلب الله الدم؟! أهو يسرّ بمنظر الدماء الجارية كالأنهار؟ أهو يفرح بهذه المئات من الذبائج تنحر على مذبحه؟ أهو يتلذذ بموت هذه الكباش والثيران والحملان؟
لكن صاحب هذه الأسئلة ينسى الحقيقة المركزية في معنى هذه الذبائح الدموية، وقد أوضح سفر اللاويين السبب الرئيسي في أن الله يطلب الدم في هذه الكلمات«لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ ٱلدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ٱلنَّفْسِ» (لاويين 17: 11).
فالله قد طلب «الدم» ووضع هذه الذبائح العديدة. لكي يركز في عقل الإنسان أن «أجرة الخطية هي موت» نفس الحقيقة التي قالها لآدم «لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت»ففي كل مرة يخطئ الإنسان كان عليه أن يقدم لله ذبيحة، وكأنه يعترف وهو يضع يده على ذبيحته، أنه يستحق الموت الذي ستحتمله هذه الذبيحة البريئة لأنه أخطأ وتعدى وصية الله «وأجرة الخطية هي موت».
لقد قال الشيطان لحواء وهو يغريها للأكل من الشجرة «لن تموتا» لكنه كان كاذباً في ادعائه. وتمت كلمة الله، وكان لا بد أن يموت الإنسان أو أن يموت «المسيح بديله الأكبر على الصليب»، وكانت هذه الذبائح التي قدمت على مر عصور التاريخ قبل مجيء المسيح رمزاً جميلاً وإشارة صريحة إلى موت الصليب!!
وفي اعتقادي أن الذين لا يحبون الله الذي يطلب «الدم» لا يقدرون في ذات الوقت أن يعيشوا تحت نظام يخالف عدالته: فهب أن رئيس دولة قال: إنني رجل طيب القلب، وأشعر بالأسى لأن المجرمين والقتلة في السجون، ولن أرضى من اليوم بأن أحكم على قاتل واحد بالإعدام، وسآمر بفتح السجون وإخراج المسجونين أحراراً، فمن من المواطنين يرضى برجل كهذا على رأس الدولة التي يعيش فيها؟... إنها قطعاً ستكون دولة الفوضى، والجريمة، وانتهاك حرمات الآمنين!!
إن الله محبة، هذا حق لامع واضح، لكنه لا يغفر خطية الخاطئ إلا «الدم» الذي هو رمز الموت... أو بمعنى آخر، إنه لن يرضى بتحطيم عدالته على حساب رحمته، وقد قالت عدالته «إن النفس التي تخطئ هي تموت» وهذا هو السبب الحقيقي في وجود هذا الخط القرمزي من الدم خلال صفحات الكتاب المقدس.
كان الدم إذاً هو وسيلة خلاص أبكار شعب الله! لكن هل استهزأ العالميون بهذا الدم أم خضعوا لهذه الوسيلة البسيطة التي رتبها الله؟! يقيناً أن كثيرين من عظماء جاسان قد نظروا إلى ما يفعله شعب الله في استهزاء وتهكم واستغراب، ولا يبعد أن الكثيرين منهم رأوا في «الدم» لطخاً غير جميلة شوهت بيوت العبرانيين، وهذا هو موقف الهالكين إزاء صليب المسيح كما يقول بولس الرسول «فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ» (1 كو 1: 18). فحاذر يا صاحبي من الاستهزاء بالدم، حذارِ من الاستهانة بالصليب، طريق خلاص الله.
لقد تمم الله كلمته «فَحَدَثَ فِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ أَنَّ ٱلرَّبَّ ضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ ٱلْجَالِسِ عَلَى كُرْسِيِّهِ إِلَى بِكْرِ ٱلأَسِيرِ ٱلَّذِي فِي ٱلسِّجْنِ» (خر 12: 29) فبعيداً عن حمى الدم لا يوجد سوى الموت والهلاك فهل ترى حمل الله يسوع المسيح، مرموزاً إليه في خروف الفصح الذي ذُبح في أرض مصر؟ لقد رأى بولس فيه هذه الحقيقة فهتف في فرح قلبه قائلاً «لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (1 كو 5: 7).
نستمر سائرين إلى مناسبة أخرى من المناسبات الواردة في العهد القديم حيث نرى الله يشير برمز صريح إلى المسيح المصلوب! وفي قصة الصخرة المضروبة يتجسم أمامنا هذا الحق الجميل، فدعنا نقرأها معاً «ثُمَّ ٱرْتَحَلَ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَرِّيَّةِ سِينٍ بِحَسَبِ مَرَاحِلِهِمْ عَلَى مُوجِبِ أَمْرِ ٱلرَّبِّ، وَنَزَلُوا فِي رَفِيدِيمَ. وَلَمْ يَكُنْ مَاءٌ لِيَشْرَبَ ٱلشَّعْبُ. فَخَاصَمَ ٱلشَّعْبُ مُوسَى وَقَالُوا: أَعْطُونَا مَاءً لِنَشْرَبَ! فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي؟ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱلرَّبَّ؟» وَعَطِشَ هُنَاكَ ٱلشَّعْبُ إِلَى ٱلْمَاءِ، وَتَذَمَّرَ ٱلشَّعْبُ عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: لِمَاذَا أَصْعَدْتَنَا مِنْ مِصْرَ لِتُمِيتَنَا وَأَوْلاَدَنَا وَمَوَاشِيَنَا بِٱلْعَطَشِ؟ فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى ٱلرَّبِّ: مَاذَا أَفْعَلُ بِهٰذَا ٱلشَّعْبِ؟ بَعْدَ قَلِيلٍ يَرْجُمُونَنِي! فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: مُرَّ قُدَّامَ ٱلشَّعْبِ وَخُذْ مَعَكَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ. وَعَصَاكَ ٱلَّتِي ضَرَبْتَ بِهَا ٱلنَّهْرَ خُذْهَا فِي يَدِكَ وَٱذْهَبْ. هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ ٱلصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ ٱلشَّعْبُ. فَفَعَلَ مُوسَى هٰكَذَا أَمَامَ عُيُونِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ» (خر 17: 1-6).
شعب يموت عطشاً في الصحراء في أرض ناشفة يابسة بلا ماء! يعطيه الله ماء لحياته وإرواء عطشه من صخرة ضربها موسى بعصاه مع أنه عرف أن الرب نفسه واقف على هذه الصخرة! ويكفينا بولس الرسول مشقة الاستنتاج، مؤكداً لنا أن هذه الصخرة كانت رمزاً للمسيح الذي ضُرب من أجلنا على الصليب، فيقول «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ ٱلسَّحَابَةِ، وَجَمِيعَهُمُ ٱجْتَازُوا فِي ٱلْبَحْرِ... وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً - لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَٱلصَّخْرَةُ كَانَتِ ٱلْمَسِيحَ» (1 كو 10: 1 و4). أجل، فكما أن الصخرة في البرية وقف عليها الرب، كذلك كان «ٱللّٰهَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (2 كو 5: 19) معطياً للعالم الذي كاد العطش أن يميته ماء الحياة من قلبه الذي جرح على الصليب. ولذا فليس بغريب أن يقول السيد للمرأة السامرية «مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14) وهذا الماء الجاري الفياض قد صار لنا لأن «يسوع» قد ضُرب لأجلنا كما يقول إشعياء «لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إش 53: 4 و5).
نمر الآن سريعاً لنصل إلى هذه القصة في سفر العدد «وارتحلوا من جبل هور في طريق بحر سوف ليدوروا بأرض أدوم فضاقت نفس الشعب في الطريق. وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية لأنه لا خبز ولا ماء وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف. فأرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون من إسرائيل.فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات. فصلى موسى لأجل الشعب فقال الرب لموسى: «ٱصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى ٱلرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَاناً وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ ٱلنُّحَاسِ يَحْيَا» (عدد 21: 8 و9). والآن دعنا نقف لحظة متأملين في هذا الرمز الجميل الذي أكد السيد له المجد أنه يشير إلى موته على الصليب حين قال لنيقوديموس، َكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 14 و15) فلماذا رفع موسى الحية في البرية؟ لقد رُفعت هذه الحية لأجل أناس رفضوا طريق الله، ورفضوا الطعام الذي قدمه لهم وأسموه «الطعام السخيف» ولدغتهم الحيات المحرقة فسرت سمومها في دمائهم لإماتتهم؟؟ ولم تكن هذه الحية النحاسية من ابتكار موسى بل كانت بتدبير الله، وكانت حية واحدة فقط لكنها كانت كافية لشفاء «كل من ينظر إليها»، وكان النظر إليها يهب الحياة من جديد لكل من لدغته حية محرقة!! وكانت حية من نحاس لها شكل الحية المحرقة لكنها خالية من سمها!! وكل هذه الأوصاف تنطبق على شخص ربنا يسوع، المخلص الوحيد الذي أخذ صورة الإنسان لكنه كان خالياً من خطية الإنسان والذي يهب الحياة لكل من ينظر إليه بالإيمان «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرَ» (إش 45: 22).
وفي كل هذه الرموز التي مرت بنا نرى ناحية من نواحي عمل الصليب، ففي أقمصة الجلد نرى المسيح الذي يكسو عري الإنسان، وفي ذبيحة هابيل نجد المسيح طريق اقترابنا إلى الله، وفي فلك نوح نرى المسيح الذي يحمينا من الدينونة، وفي تقديم إسحاق تشع علينا أنوار محبة قلب الآب الذي بذل ابنه الوحيد، وفي سلم يعقوب نرى يسوع الوسيط الوحيد بين الأرض والسماء، وفي خروف الفصح يشير الدم المسفوك في أرض مصر إلى حمل الله الذي يرفع خطية العالم، وفي الصخرة المضروبة نرى سيدنا الذي احتمل ضربة سيف العدل الإلهي لأجل خطايانا، وفي الحية النحاسية المرفوعة في البرية نرى طريق نوال الخلاص بنظرة مصدقة إلى المسيح المصلوب وهكذا يلمع أمامنا الصليب بأنواره الساطعة في كل هذه الرموز.
وإذ نقرأ سفر اللاويين نرى صفحاته وقد غمرها تيار جارف من دماء الذبائح التي تشير كلها إلى ذبيحنا الوحيد العظيم... فهناك نقرأعن ذبيحة المحرقة التي تشير إلى المسيح كمن أنهى مسألة الخطية وأعلن مجد الله على القياس الأكمل (اقرأ لاويين 1)، ونقرأ عن ذبيحة السلامة التي تشير إلى الشركة مع الله على أساس السلام الذي صنعه المسيح بالصليب (لاويين 3: 1-17> 7: 11-24)، وكذلك عن ذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم وهما تشيران إلى دينونة الله الشديدة ضد الخطية عندما وضع خطايانا على بديلنا القدوس (اقرأ لاويين 4 5: 1-19 و6: 1-7) ونحن نذكر هذه الذبائح باختصار تام، تاركين لمن يريد التوسع، أن يبحث لنفسه عن المعاني السامية لموت المسيح، كما هي موجودة في هذا لسفر الجليل.
تذخر الأسفار النبوية بنبوات صريحة عن موت المسيح كفاد للبشرية، وقبل أن أذكر هذه النبوات وإتمامها الواضح الصريح في شخص المسيح، أود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى ملاحظة هامة جداً في العهد القديم:
حدثنا «أرثر جلاس» في رسالة بعنوان «اسم يسوع في العهد القديم» قال: «لقد كان ما يتعبني في خدمتي مع اليهود هو سؤالهم: إذا كان يسوع هو المسيا الذي تنبأت عنه كتب العهد القديم، فكيف لم يُذكر اسمه فيها بحصر اللفظ ولو مرة واحدة؟ ومع أن اسم «المسيح» قد ذُكر بحصر اللفظ في نبوات كثيرة مثل دانيال 9: 26 حيث نقرأ«يُقْطَعُ ٱلْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ» إلا أنني لم أكن أجد اسم «يسوع» إلى أن فتح الروح القدس عيني في يوم ما، فهتفت من فرط الفرح إذ وجدت نفس الاسم «يسوع» موجوداً في العهد القديم حوالي مئة مرة، من سفر التكوين إلى سفر حبقوق، نفس الاسم الذي بشر به جبرائيل الملاك «مريم العذراء» في لوقا 1: 31.
فأين نجد اسم «يسوع» في العهد القديم؟ في كل مرة تذكر فيها النبوة كلمة «خلاص» مع ضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب نجد أن هذه الكلمة هي نفسها «يسوع أو يشوع Yeshua» التي استعملت في متى 1: 21 حين قال ملاك الرب في الحلم ليوسف «فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» ولنذكر أن الملاك لم يتحدث إلى يوسف باللغة اللاتينية، أو الإنكليزية، أو اليونانية، بل باللغة العبرانية وقد فهم يوسف ومريم معنى هذا الاسم، إذ كانت العادة في العهد القديم أن يسمي الناس أبناءهم بأسماء ذات معنى (راجع تكوين 10: 25 و29: 32 وخر 2: 10) وعلى هذا فإننا نستطيع القول بأن ملاك الرب حين تكلم إلى يوسف وقال له «فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع» قال بالعبرانية «فستلد ابناً وتدعو اسمه خلاص Yeshua لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» وقد لمعت أمامي هذه الآية بنور وضاح بعد تجديدي بأربع وعشرين سنة إذ رأيت كل تدبيرات العهد القديم في هذا الاسم العزيز المبارك.
فدعونا نسير لنرى بأكثر وضوح أن الاسم العبراني «يشوع Yeshua» هو نفسه اسم «يسوع» المذكور في العهد الجديد.
عندما نام يعقوب على فراش الاحتضار، وبدأ يبارك بنيه، كان روح الله يعلن في بركته مستقبل أولاده وفي عدد 18 من الأصحاح 49 من سفر التكوين نقرأ الكلمات «لخلاصك انتظرت يا رب» والكلمات في العبرانية «ليشوعك انتظرت يا رب» ومعنى هذا أن يعقوب كان ينتظر «يسوع» الآتي.
وفي مزمور 91: 9-16 نقرأ هذه الآيات «لأَنَّكَ قُلْتَ: أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي. جَعَلْتَ ٱلْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ، لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ. لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرْقِكَ. عَلَى ٱلأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. عَلَى ٱلأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ. ٱلشِّبْلَ وَٱلثُّعْبَانَ تَدُوسُ. لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ. أُرَفِّعُهُ لأَنَّهُ عَرَفَ ٱسْمِي. يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ. مَعَهُ أَنَا فِي ٱلضِّيقِ. أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. مِنْ طُولِ ٱلأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي» والكلمات الأخيرة هي في العبرانية «وأريه يسوعي».
ونجد في سفر إشعياء كلمة «يسوع» في العبرانية بصورة جلية مباركة إذ نقرأ هذه الكلمات «هُوَذَا ٱللّٰهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ، لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُّوَتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصاً» (إش 12: 2).
والكلمات في العبرانية «هوذا الله يسوعي فأطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي «يسوع» ثم تستمر النبوة قائلة «فَتَسْتَقُونَ مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ ٱلْخَلاَصِ أي من ينابيع (يسوع)» (إش 12: 3).
ولكي أؤكد هذا التفسير الصحيح، أذكر حادثة عابرة حدثت معي، فقد تقابلت مرة مع شخص يهودي، ودار الحديث حول شخص يسوع «مركز كل حديث جليل» وقد اعترض ذلك اليهودي بعدم وجود اسم يسوع في العهد القديم، ولم أجبه إجابة مباشرة، ولكنني طلبت إليه أن يترجم لي الآية الموجودة في إش 62: 11 من العبرانية إلى الانكليزية، وكان الرجل أستاذاً في اللغة العبرانية فترجم الآية بسهولة عظيمة، وهذه هي ترجمته للآية «هوذا الرب قد أخبر إلى أقصى الأرض. قولوا لابنة صهيون هوذا «يشوعك» أت. ها أجرته معه وجزاؤه أمامه، وعندما انتهى من ترجمته احمر وجهه، لأنه رأى أنه وضع سلاحاً بتاراً في يدي بترجمة كلمة «مخلصك» إلى كلمة «يشوعك أو يسوعك» فهتف قائلاً: سيد جلاس إنك دفعتني لقراءة كلمة «مخلصك» بهذه الصورة. فأجبته كلا: إنك قرأت كلمة الله كما هي، أفلا تستطيع أن ترى أن كلمة «مخلصك»هي اسم شخص، إن هذا الشخص آت، وإن أجرته معه، وإن جزاءه قدامه!! وعندئذ أسرع بإحضار كتابه العبراني وهو يقول: أنا واثق أن كتابي يختلف عن كتابك، فلما وجد أن النسختين واحد سلم بالحقيقة الواضحة.
ونحن نرى هذه الحقيقة أكثر لمعاناً في قصة سمعان الشيخ التي نقرأها في هذه الكلمات «وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ. فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ وَقَالَ: ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ» (لوقا 2: 25-30) والكلمات الأخيرة حرفياً «لأن عيني قد أبصرتا يسوعك»!! ويقيناً أن الرجل لم يبصر يسوع فقط، بل لمسه، وحمله بين يديه، ففاض في قلبه الإحساس بالفرح العميق لرؤياه «يسوع الله - خلاص الله».
وإذ رأينا اسم يسوع ظاهراً بهذه الكيفية في أسفار العهد القديم، سأكتفي فيما يلي من حديث بذكر خمسة وعشرين نبوة، وردت في العهد القديم متضمنة تسليم، ومحاكمة وموت، ودفن ربنا يسوع المسيح وقد نطق بها أنبياء كثيرون في أزمنة مختلفة من سنة 1000 إلى سنة 500 قبل المسيح، أي مدة خمسة أجيال، ولكن هذه النبوات قد تمت كلها حرفياً في شخص المسيح خلال أربع وعشرين ساعة أي في يوم واحد، هو يوم الصليب الخالد المجيد، فلنتابع في إخلاص هذه النبوات وكيف تمت في ربنا يسوع المبارك.
نقرأ في سفر زكريا هذه النبوة «فَقُلْتُ لَهُمْ: «إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَٱمْتَنِعُوا». فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (زك 11: 12) وقد تمت هذه النبوة وذكرها متى البشير قائلاً «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (متى 26: 14 و15).
وقد تنبأ عن ذلك صاحب المزمور فقال «ألأَنَّهُ لَيْسَ عَدُّوٌ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، ٱلَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا ٱلْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي ٱلْجُمْهُورِ» (مز 55: 12-14). كما جاءت هذه النبوة في مزمور آخر «أَيْضاً رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مز 41: 9) وتمت هذه النبوة وذكرها متى أيضاً قائلاً «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ... فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟ حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا ٱلأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ» (متى 26: 47 و49 و50).
وهذه النبوة ذكرها زكريا بقوله «فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ، ٱلثَّمَنَ ٱلْكَرِيمَ ٱلَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ» (زكريا 11: 13) وتمت هذه النبوة ونقرأ عن إتمامها «فَطَرَحَ (يهوذا) ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاء» (متى 27: 5-7). ولاحظ أنه في كل من النبوة وإتمامها نتحقق: (1) أن الثمن كان من فضة (2) وكان الثمن ثلاثين من الفضة مت 27: 3 (3) وأنه ألقى (4) وقد ألقى في بيت الرب (5) وقد استخدمت الدراهم في شراء حقل الفخاري.
وتقول النبوة «اِضْرِبِ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ ٱلْغَنَمُ» (زكريا 13: 7) وقد تمت حرفياً إذ نقرأ «تَرَكَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا» (مت 26: 56 اقرأ أيضاً مرقس 14: 50).
وهذه هي النبوة «شُهُودُ زُورٍ يَقُومُونَ، وَعَمَّا لَمْ أَعْلَمْ يَسْأَلُونَنِي» (مز 35: 11) وتمت هذه النبوة في يوم الصلب «وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَجِدُوا. وَلٰكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُور» (مت 26: 59 و60).
وقد جاء هذا في النبوة القائلة «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ ٱلْعَارِ وَٱلْبَصْقِ» (إش 50: 6) وتمت هذه النبوة في الكلمات «حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ (بيلاطس) بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ» (مت 27: 26) «حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ» (متى 26: 67) وجدير بالملاحظة أن نرى التفاصيل المتفقة في كل من النبوة وإتمامها فيسوع قد (1) ضُرب (2) وضُرب على وجهه وكذلك على كل أجزاء جسمه (اقرأ لوقا 22: 64) (3) وبُصق عليه.
وهذا ما ورد في النبوة «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إش 53: 7) وهذا ما جاء عن إتمامها «وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعَجَّبَ ٱلْوَالِي جِدّاً» (مت 27: 12-14).
تقول النبوة «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إش 53: 5) وجاء إتمامها في الكلمات «فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. وَضَفَرَ ٱلْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوانٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: ٱلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ ٱلْيَهُودِ. وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ» (يو 19: 1-3).
وهذا ما جاء في النبوة «رُكْبَتَايَ ٱرْتَعَشَتَا مِنَ ٱلصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ» (مز 109: 24) وقد تمت هذه النبوة في الكلمات «فَخَرَجَ (يسوع) وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ» (يو 19: 17) - ولأنه لم يقو على حمل الصليب من فرط ضعفه نقرأ «وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً... وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ» (لو 23: 26).
وهذا ما جاء في النبوة «لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مز 22: 16) وتمت هذه النبوة حرفياً «وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ» (لو 23: 33) وقد صُلب المسيح له المجد بالكيفية التي اعتادها الرومان، إذ ثقبوا يديه ورجليه بمسامير كبيرة حتى يثبت الجسد بالصليب وهذا ما نجده واضحاً في إنجيل يوحنا إذ قال توما «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ... لاَ أُومِنْ... فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ... ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ» (يوحنا 20: 25 و27).
وقد قالت النبوة «وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (إش 53: 12) وتمت في الكلمات «وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة» (مر 15: 27 و28).
وهذه هي النبوة «وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إش 53: 12) وهذا إتمامها «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو 23: 34).
قالت النبوة «وَأَنَا صِرْتُ عَاراً عِنْدَهُمْ. يَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ» (مز 109: 25) وتمت في القول «وَكَانَ ٱلْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ» (مت 27: 39).
وجاء هذا في النبوة «ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ» (مز 22: 7 و8) لاحظ عدد 7. وتمت النبوة تماماً إذ نقرأ «وَكَذٰلِكَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَالُوا: ... قَدِ ٱتَّكَلَ عَلَى ٱللّٰهِ، فَلْيُنْقِذْهُ ٱلآنَ إِنْ أَرَادَهُ» (مت 27: 41 و43).
وهذا ما قالته النبوة «وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ» (مز 22: 17) وهذا إتمامها «وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ» (لو 23: 35).
وقد ذكرت النبوة هذا بالقول «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مز 22: 18) وجاء إتمامها في الكلمات «ثُمَّ إِنَّ ٱلْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا ٱلْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ ٱلْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ. لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: ٱقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً» (يو 19: 23 و24). وما أدق هذه النبوة الموحى بها، فثياب المسيح قسمت بين العسكر، وأما القميص فلكي لا يمزقوه ألقوا عليه القرعة ووقع من نصيب أحدهم، وهذه حقائق كانت تبدو حسب الظاهر متضادة لولا أن أوضحتها حوادث الصليب.
وتقول النبوة في مزمور الصليب «إِلٰهِي! إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي» (مز 22: 1) وقد تمت في القول «صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى 27: 46).
وهذه هي النبوة «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مز 69: 21) ،وهذا إتمامها «بَعْدَ هٰذَا... قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يو 19: 28 و29).
وقد قالت النبوة «فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (مز 31: 5). وجاء إتمامها في الكلمات «وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو 23: 46).
وهذه هي النبوة «أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي، وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيداً» (مز 38: 11)، وتمت حرفياً «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ» (لو 23: 49).
وإليك ما جاء في النبوة «يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ» (مز 34: 20) وما جاء عن إتمامها «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ... لأَنَّ هٰذَا كَانَ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْه» (يو 19: 33 و36) ويليق بنا أن نقف عند نبوتين أخريين بخصوص عظامه، ففي مزمور 22: 14 يقول «ٱنْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي» فالتعليق على الصليب من اليدين والرجلين كاف بأن يفصل عظامه خصوصاً عندما نتذكر أن جسده عُلق على الخشبة وهي موضوعة على الأرض، وفي مزمور 22: 17 نقرأ «أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي» ونقدر أن نفهم هذه العبارة عندما نعرف أن المسيح قد تُرك معلقاً على الصليب عرياناً يوحنا 19: 23، ولذا فقد كان من الممكن أن ترى عظامه وهو في هذا الوضع الاليم، إذ أن امتداد الجسد، وآلام الصليب جعلت العظام واضحة حتى كان من الممكن أن تُعد.
وهذا ما ذكرته النبوة «صَارَ قَلْبِي كَٱلشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي» (مز 22: 14) وتمت النبوة في الكلمات «لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يو 19: 34).
ويقيناً أن خروج الدم والماء من الجنب المطعون، يدل دلالة أكيدة على أن القلب قد انفجر حقيقة.
وإليك النبوة «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ» (زك 12: 10) وإليك إتمامها «لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ» (يو 19: 34) (اقرأ أيضاً الأعداد 35-37).
قالت النبوة «وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، أَنِّي أُغَيِّبُ ٱلشَّمْسَ فِي ٱلظُّهْرِ، وَأُقْتِمُ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمِ نُورٍ» (عاموس 8: 9) وتمت هذه النبوة إذ نقرأ «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ» (متى 27: 45) وجدير بالذكر أن نقول: «أن اليهود كانوا يحسبون اليوم اثنتي عشرة ساعة من شروق الشمس إلى غروبها - ومعنى ذلك أن الساعة السادسة هي الظهر تماماً، وأن الساعة التاسعة توافق الساعة الثالثة بعد الظهر».
وهذا ما ذكرته النبوة «وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إش 53: 9) وقد تمت النبوة تماماً في الكلمات «وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ ٱلرَّامَةِ ٱسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. فَهٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ... فَأَخَذَ يُوسُفُ ٱلْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ ٱلْجَدِيدِ» (مت 27: 57-60).
هذه النبوات الواضحة الصريحة، التي شغلت مئات السنين، ما معنى أن تتم حرفياً في شخص واحد وخلال يوم واحد؟!؟
إن إتمام هذه النبوات يقدم لكل عقل بعيد عن الغرض برهاناً قوياً، على أن الكتاب المقدس موحى به من الله الذي يعرف النهاية من البداية، وعلى أن العهد القديم هو عهد الرموز والنبوات التي تشير كلها إلى شخص المسيح، وعلى أن اليهودية هي ديانة الرموز والظلال، التي كان لا بد أن تأتي المسيحية بعدها لأنها ديانة الحق المتجسد في يسوع المصلوب، وعلى أن يسوع المسيح هو فعلاً وحقاً مخلص البشرية، وعلى أن إتمام هذه النبوات كان «لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ ٱلأَنْبِيَاءِ» (متى 26: 56) في المخلص الموعود به من الله، كما يقول يوحنا التلميذ الحبيب «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31).
كان الصليب قبل صلب المسيح لعنة كبرى «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلا 3: 13) لكنه أضحى بعد أن صُلب هو عليه زينة التيجان، وحافزاً للخدمة والتضحية في كل ميدان.
فمن هو هذا الشخص الذي حوّل الصليب الملعون إلى صولجان يقود به جماهير الشعوب؟!! هل هو مجرد نبي ظهر في فلسطين؟ أم هو مصلح إجتماعي أراد أن يرفع حياة البشر؟ أم هو عبقري فذ من عباقرة التاريخ؟ أم هو صاحب رسالة ليؤدي الرسالة التي آمن بها؟ أم هو فوق الأنبياء، والمصلحين، والعباقرة، وأصحاب الرسالات؟
لقد ظهر في التاريخ عشرات من الرجال العظام أمثال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والاسكندر، ونابليون، وتولستوي، وبوذا، وكونفشيوس، وغاندي، لكن هؤلاء جميعاً يبدون كالشهب، أمام هذا الكوكب!! أجل فيسوع المسيح أعظم من كل هؤلاء، وفوق كل هؤلاء!! ويذكر دكتور زويمر عدة أسباب تؤكد عظمة شخصية المسيح، وأول هذه الأسباب أن التاريخ نفسه قد وضع المسيح في مركز مسرحه العظيم، فكل حادثة تؤرخ من تاريخ ميلاده، وكل الصحف، والمجلات، والكتب في الشرق والغرب تحصي الزمن ابتداء من هذا التاريخ، الذي صار حداً فاصلاً في حياة البشر، كسهم من النور شق كبد الليل، ففصل بين فحمة الظلام وسناء السحر.
أما السبب الثاني الذي يؤكد عظمة المسيح فهو أنه أجاب إجابات قاطعة عن كل الأسئلة العميقة الصعبة التي جالت بعقول الفلاسفة، فأراق نوراً ساطعاً على الحياة والمصير!! والحق والشخصية!! والله والطبيعة!! وأجاب عن أسئلة المفكرين المتسائلين: أين نحن؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا نحن في هذا العالم الشرير؟ وما سر الألم في حياة البشر؟ أجل، أجاب المسيح عن كل هذه الألغاز العسيرة الفهم إجابات جامعة مانعة!!
وهناك سبب ثالث يؤكد عظمة شخصية المسيح، وهو أن الفن في بلدان الغرب، وفي آسيا وإفريقيا، قد طرح عند قدمي الناصري أبدع ما جاد به من تحف... فالموسيقى الأوروبية قد سمت إلى أوج جمالها وجلالها في ألحان «هاندل» و «موزار» التي ألفاها لتمجيد المسيح، والحجارة الصماء نطقت في جلال وروعة بين يدي «ميخائيل أنجلو»عندما أقام منها هذه المشاهد الرائعة لحياة المسيح، وفن البناء قد وصل إلى أعلى ذرى الجلال حين شاد المهندسون الكاتدرائيات الكبرى لأجل المسيح.
وفوق هذا كله فإن المسيح في كل الأديان هو المقياس الأعلى للأخلاق، قال هذا الغزالي حجة الإسلام، وأكده جلال الدين الرومي، واعترف به غاندي، وإلى اليوم لم يستطع مؤرخ، ولم يجرؤ ملحد على أن يقول إنه عثر في حياة المسيح على مسة من الإثم أو مسحة من الضعف.
فهل يمكن أن تمر شخصية عظيمة كهذه دون أن نعطيها حقها من الدرس، ونعرف مقوماتها الضخمة العميقة.
إن الإخلاص للنفس يدفع المرء إلى التساؤل عن حقيقة شخصية المسيح، ذلك لأنه بالنسبة للموقف الذي يقفه الإنسان بإزاء هذه الشخصية يتوقف مصيره في الأرض، وفي الحياة الآتية. ولكي نتحقق شخصية المسيح، لا بد أن نعرف شهادة أصدقائه، وشهادة أعدائه، وشهادته هو عن نفسه، وشهادة الله عنه.
سأل السيد المسيح يوماً تلاميذه «مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (مت 16: 13-17).
فالحواريون آمنوا بأن المسيح هو «ابن الله الحي» ولا يغرب عن بالنا أن هؤلاء الحواريين كانوا يهوداً من الذين يعرفون الوصية القائلة «أَنَا هُوَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (تث 5: 6 و7). ومع ذلك فإنهم رغم اطلاعهم عن قرب على حياة السيد المسيح، وتدوينها للناس بما فيها من فقر وتعب ونوم وأكل وحزن وأنين ودموع وموت، فإنهم عبدوه وقدموه للناس كالمخلص وصلوا باسمه، واعترفوا بأنه «ابن الله الحي»، ويوحنا الذي اتكأ على صدره أعلن بأنه الكلمة الأزلي، وسجل في غير تردد ما فعله توما حين سجد له قائلاً «ربي وإلهي» (يو 20: 28) وفي هذا كله ما يثير في العقل المخلص التفكير!!
ونجد إلى جوار اعتراف الحواريين إشارة إلى «صيت المسيح أو سمعته» وشهادة عن «أخلاقه» فيما ذكره الحواريون للسيد عن آراء الناس فيه، ويجدر بنا أن نفهم أن«الصيت» ليس هو الأخلاق، فصيت الإنسان هو الظل الذي يلازمه في نور النهار، وقد يكون طويلاً أو قصيراً، وقد يكون مجرد شائعات لا أساس لها في حياة صاحبها!! أما الأخلاق فهي ما تنطوي عليه النفسية في الظلمة عندما يختلي المرء إلى ربه وضميره. والآراء التي ذكرها تلاميذ المسيح في معرض حديثهم، ترينا الصور المرتسمة في أدمغة الناس عنه، وكل صورة من هذه الصور ترسم ناحية من نواحي العظمة الحقيقية التي تجلت في شخصه الكريم... فقد قال بعضهم «إنه يوحنا المعمدان» فرأوا فيه داعية التوبة، وموبخ الخطية والرياء والتستر، ورجل الشجاعة الأدبية المنادي بعصر جديد، وقد كان يسوع المسيح هذا كله، بل أكثر من هذا كله.
وقال آخرون إنه: «إيليا» نبي الله، ورجل الصلاة، وصانع المعجزات. وقطعاً كان يسوع المسيح أعظم من إيليا.
وقال آخرون إنه: «إرميا» رجل الأوجاع ومختبر الحزن؟ الذي بكى على شعبه المرتد، والذي تقوس ظهره تحت عبء خطاياهم وقد كان يسوع المسيح، رجل أوجاع وأحزان، بكى على أورشليم العاصية، وكسر فؤاده لأجل خطايا البشرية، ولكنه كان أعظم من إرميا بغير جدال.
والآن! ما هي شهادة أعداء المسيح عنه؟ مرة أرسل رؤساء اليهود خداماً ليقتنصوا يسوع، ويقبضوا عليه ويأتوا به إليهم، لكن الخدام عادوا دون أن يلقوا الأيادي على المسيح ولما سألهم الرؤساء: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هٰكَذَا مِثْلَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (يو 7: 46).
ويهوذا بعد أن باعه لرؤساء الكهنة والشيوخ ثار عليه ضميره ورد الثلاثين من الفضة إليهم قائلاً «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً» (متى 27: 4).
وبيلاطس الوالي الروماني لما رأى فشل محاولاته لإنقاذ المسيح من الموت، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلاً «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ» (مت 27: 24).
ورؤساء الكهنة قالوا عنه وهو على الصليب «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا» (مت 27: 42).
وقائد المئة الذي تولى عملية الصلب والذين معه يحرسون يسوع قالوا «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (مت 27: 54).
ودعونا نخلع أحذيتنا من أرجلنا، ونستمع إلى المسيح وهو يشهد لنفسه، فشهادته لها كل الاعتبار، ذلك لأن قصة حياته فريدة لا تدانيها قصة أخرى لعظيم من العظماء، كما قال نابليون بونابرت وهو يتحدث في منفاه إلى الجنرال «برترند» عن شخصه الكريم إن المقارنة بين يسوع وغيره من البشر مستحيلة: لأنه في مكانة خاصة به لا يدانيه فيها أحد، فولادته، وقصة حياته، وعمق تعاليمه هذه كلها أسرار عميقة تدفعني إلى التأمل والتفكير العميق، ومع ذلك فلست أستطيع أن أنكرها أو أعللها.
أجل! إن شخصية المسيح فوق كل الشخصيات!! فقد كان معجزة في ميلاده إذ وُلد من عذراء قديسة بغير رجل، وكان معجزة في حياته إذ عاش بلا خطيئة، وكان هو رب المعجزات، فأسكت البحر والرياح، وشفى الأبرص وأعاد إلى الأكمه البصر، وجعل المقعد يقفز كالأيائل، دون أن يطلب ممن شفاهم أجراً!! وأقام الموتى من قبورهم، فأعلن قدرته على الموت.
فلنصغ إذاً في وقار واحترام وخشوع إلى شهادته عن نفسه فقد قال «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يو 14: 6) «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يو 8: 12) «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ» (يو 8: 23) «أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو 14: 10) «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو 14: 9) «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 8: 58) «إِنَّ هٰهُنَا أَعْظَمَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ!» (مت 12: 6) «هُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا» (مت 12: 41) «هُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا» (مت 12: 42) «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت 11: 28).
ويقف الباحث المدقق أمام أقوال المسيح أحد موقفين، فإما أن يقرر بأن هذه الأقوال مجرد ادعاءات لا أساس لها من الصحة، ومعنى هذا أن يكون المسيح أكبر مجدف ظهر في التاريخ، لأنه ادعى أنه نور العالم، والطريق والحق والحياة، وأنه من فوق وليس من هذا العالم، وأنه في الآب والآب فيه، وأن الذي رآه فقد رأى الآب، وأنه كائن قبل إبراهيم، وأنه أعظم من الهيكل وليس أعظم من الهيكل غير الله الذي يعبد فيه، وأنه أعظم من يونان، ومن سليمان، وأنه يستطيع أن يريح جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وهذه كلها ادعاءات فوق طاقة الإنسان البشري، أو أن يقرر بأن ما قاله المسيح هو الصدق الكامل والحق الصراح!! والمنطق السليم يرينا أن المسيح قد تكلم الصدق الكامل، ذلك لأن مقدمات حياته. ترسم خطوط نتائج هذه الحياة، فذاك الذي وُلد من عذراء، وعاش بلا خطية وأجرى هذه المعجزات هو يقيناً شخص منزه عن الكذب، وإذاً فلا بد أن يكون ما قاله عن نفسه هو الحق الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه، وإذاً فالمسيح هو «ابن الله».
ومع كل ما تقدم من شهادات عندنا أيضاً شهادة الله، فثلاث مرات نقرأ أن الحجاب بين السماء والأرض قد انشق، ثلاث مرات شذت السماء عن صمتها وتكلم الله ليشهد للمسيح الكريم، أول مرة عند معمودية المسيح في نهر الأردن، إذ عندما صعد من الماء «وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 16 و17).
والمرة الثانية حين كان فوق جبل التجلي ومعه يعقوب وبطرس ويوحنا، وإذا بوجهه يلمع كالشمس وثيابه تصير بيضاء كالنور «وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. ... إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ ٱسْمَعُوا» (مت 17: 3 و5)، وقد طبعت هذه الحادثة آثاراً عميقة في عقل بطرس، فكتب عنها في رسالته الثانية قائلاً: «لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهٰذَا مِنَ ٱلْمَجْدِ ٱلأَسْنَى: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ. وَنَحْنُ سَمِعْنَا هٰذَا ٱلصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلْمُقَدَّسِ» (2 بط 1: 16-18)... أما المرة الثالثة التي تكلم فيها الله شاهداً لمجد يسوع وعظمته فكانت عندما زاره نفر من اليونانيين في الهيكل بأورشليم، فبينما كان يسوع يصلي قائلاً «أَيُّهَا ٱلآبُ مَجِّدِ ٱسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً. فَٱلْجَمْعُ ٱلَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا: قَدْ كَلَّمَهُ مَلاَكٌ. أَجَابَ يَسُوعُ: لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ» (يو 12: 28-30) وكل هذه الشهادات تؤكد لنا أن المسيح هو «ابن الله»!!
لكن ماذا تعني العبارة «ابن الله»؟ هل تعني أن الله اتخذ له ولداً سبحانه؟ أم أن لها معنى خاصاً في كتابات الوحي المقدس؟
لقد فهم اليهود من هذا التعبير أن المسيح يقصد مساواته بالله أو الآب!! (يو 5: 18).
ويقيناً أن كلمة ابن الله لا تعني أن الله اتخذ له ولداً، لأن الله لم يلد ولم يولد، ولكنها تعني صلة سرية خاصة فريدة بين الله والمسيح، فكما يُقال والقياس مع الفارق «ولد العين» تعبيراً لوصف جوهر العين، كذلك المسيح هو «رسم جوهر الله» (عب 1: 3) وهو «ابن الله» بهذا المعنى أي أنه تعبير الله عن ذاته تعالى كما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب 1: 1 و2) وجدير بنا أن نلاحظ أن الله كلم الآباء بالأنبياء، أي بواسطة الأنبياء، لكنه كلمنا في هذه الأيام الاخيرة «في ابنه» أي جاء هو في ابنه، أو كما يقول يوحنا في غرة إنجيله «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ.. وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 1 و14 و18) فالمسيح هو ابن الله بمعنى أنه كلمة الله، والكلمة هي الوسيلة التي يعبر بها الشخص عن وجوده، وأفكاره، ويتصل بها مع غيره! وإذا تساءل الإنسان «ليت شعري ما هو شبه الله؟ فالجواب السديد على هذا هو المسيح. المكتوب عنه الكلمة صار جسداً وحل بيننا» فهو «صورة الله غير المنظور» و «بهاء مجده ورسم جوهره» وهو الذي أعلن لنا صفات الله، وأظهر لنا بحياته وموته على الصليب مكنونات قلبه.
ومع أن المسيح هو ابن الله، كذلك هو ابن الإنسان، وكما قال عن نفسه إنه ابن الله في قوله «لاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27) كذلك أعلن أنه ابن الإنسان في قوله «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو 19: 10) فهو «ابن الإنسانية» الذي وُلد لكي يمثل الإنسان، ويشاركه في أتعابه، وضعفه وآلامه، ويجرب تعبه وحزنه وبكاءه، وهو «ابن الله» الذي جاء لكي يخلص الإنسان!
ولماذا كان من الضروري أن يكون فادي البشر ومخلصهم إنساناً وإلهاً في وقت واحد؟!
والجواب على ذلك أن هناك عدة مميزات ضرورية لشخصية الفادي لا يمكن أن تنطبق إلا على شخص يكون إنساناً وإلهاً معاً، وسندرس فيما يلي من حديث هذه المميزات لنرى مدى انطباقها على شخص المسيح الكريم.
فالفادي الذي يتصدى لفداء البشر يجب أن يكون إنساناً له جسم من اللحم والدم، وعلى هذا فإن أي ملاك ليس في مقدوره أن يقوم بعملية الفداء، لأن الملاك روح، وهو في مركز يخالف مركز البشر، ولذا فهو لا يستطيع أن يفديهم.
وكذلك الحيوان لا يصلح لفداء البشر، لأنه ليس منهم ولا في درجتهم ولذا فإن دمه لا يرفع خطاياهم كما يقول كاتب العبرانيين «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ» (عب 10: 4-6).
إذاً فلماذا أمر الله بني إسرائيل بتقديم الذبائح الحيوانية للتكفير عن خطاياهم؟ ومع أننا أجبنا على هذا السؤال في فصل سابق إلا أننا نقرر من جديد: إن الله وهو يتعامل مع شعبه في أيام بداوتهم كان يريد أن يظهر للناس خطورة الخطية، وعاقبتها المرة القاسية بوسائل محسوسة تقدر عقولهم البدائية على فهمها وإدراكها، فكان لا بد أن يصور لهم الموت، وهو أجرة الخطية بعملية يمكنهم رؤيتها بعيونهم، وفهم فحواها بعقولهم، ففي الذبيحة الحيوانية يعلن للخاطئ الأثيم ما يستحقه من موت مجسماً من ناحيته الزمنية في ذبح الحيوان. ومن ناحيته الأبدية في حرقه بالنار، فكان الخاطئ في عقليته البدائية يدرك بهذه الكيفية الملموسة أن أجرة الخطية هي موت بالنسبة للحياة الجسدية الأرضية، وحرق في جهنم حيث الدود لا يموت والنار لا تُطفأ بعد الدينونة النهائية، ولكن هذه ا لذبائح لم يكن لها سلطان البتة أن تنزع الخطايا إذ لم تكن سوى رمزٍ للفادي الآتي.
وما دام البشر أنفسهم في حاجة إلى ذبائح للتكفير عنهم، فمعنى هذا ضمناً أن أحداً من البشر لا يستطيع أن يفدي البشرية الساقطة، «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱلله» (رو 3: 22 و23) «وأجرة الخطية هي موت» فهل في مقدور من حكم عليه بالموت أن يفدي شخصاً آخر تحت ذات الحكم؟ وكيف يستطيع المفلس أن يسدد ديون المفلسين!؟
إذن فأين نجد الشخص الذي يمكن أن نعتبره من البشر، وفي ذات الوقت يساوي البشر أجمعين ليستطيع أن يقدم ذبيحة كافية عن البشر منذ سقط آدم إلى اليوم الأخير!؟
هنا يظهر لنا شخص المسيح في مجده وعظمته، فهو إنسان باعتباره قد تجسد من مريم العذراء، لأنه «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (في 2: 7-8) وهو مساو للبشرية بأسرها باعتباره خالق البشرية كما يقول عنه يوحنا «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يو 1: 3 و4) ومن هنا نرى أن هذا المميز قد وجد في شخص المسيح باعتباره «الإنسان»«وخالق الإنسان» في وقت معاً.
لقد رأينا موكب البشرية رازحاً بجميع أفراده تحت وطأة الخطية، لكن الفادي يجب أن يكون شخصاً كاملاً لم يرث الخطية، وليس لها وجود في حياته، وقطعاً لا يستطيع أحد من الأنبياء أو القديسين أو البشر العاديين أن يدعي هذا الادعاء، فداود وهو أحد الكتاب الملهمين يقرر هذه الحقيقة «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مز 51: 5). وبولس الرسول يكتب قائلاً «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو 5: 12). ومن هذه الكلمات نرى حقيقة عمومية الخطية، وندرك أن كل بشر يولد وفي قلبه بذرة الشر والعصيان.
لكن شخص المسيح المبارك كان خالياً من الخطية. تؤكد لنا هذه الحقيقة كلمات الملاك ليوسف خطيب مريم حين قال له في الحلم «يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (مت 1: 20).
وعلينا أن نذكر هذه الحقيقة وهي: فمع أن المسيح تجسد في صورة بشر، لكن جسده كان معداً بترتيب خاص، كما يقول كاتب العبرانيين «ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عب 10: 5) وقد كان هذا الجسد هو شبه جسد الخطية ولكنه كان بلا خطية، كما كانت الحية النحاسية في شكل الحية الحقيقية لكنها خالية من سمها، وكما يقول بولس الرسول «فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ» (رو 8: 3)، وقد حُبل بهذا الجسد من الروح القدس كما قال جبرائيل الملاك للعذراء «اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لو 1: 35) وكما خلق آدم الأول خالياً من الخطية كذلك كان لا بد أن يُولد آدم الثاني خالياً من الخطية. فالمسيح له المجد «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب 7: 26) لم يرث خطية آدم في جسده كما قال عنه نفسه «لأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يو 14: 30) ولذا فالرسول يكتب عنه قائلاً «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْء. فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو 1: 19 و2: 9) فجسد المسيح الكامل المهيأ، كان هو مسكن الله عندما جاء ليصالح البشر ويوفي قصاص خطاياهم، ولذا فقد كان له من كفايته الشخصية قدرة على فداء البشر أجمعين، وبهذا استطاع أن يحمل «خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ»(1بط 2: 24).
خلق الله آدم الأول في حالة البر والقداسة والكمال، لكن آدم الأول أصغى لصوت الحية، وسقط في الخطية وهكذا أسقط معه الجنس البشري كله باعتباره رأسه والنائب عنه!! وكان لا بد إذاً من وجود شخص خال من الخطية، يثبت بالامتحان أنه معصوم عنها، وقد انتصر عليها، حتى يستطيع أن يفدي البشر الرازحين تحت سلطانها!! فهل استطاع نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أن يحيا في عصمة من الخطية طوال حياته؟ الكتاب المقدس يقرر لنا أنه «لأَنَّهُ لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي ٱلأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحاً وَلاَ يُخْطِئُ» (جا 7: 20).
أما شخص المسيح الكريم فقد قضى حياته كلها دون أن يفعل خطية كما يشهد عنه بطرس الرسول قائلا « ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1 بط 2: 22) فقد عاش على أرضنا التي استشرى فيها وباء الخطية أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وأحاط به الأشرار في كل مكان، فأكل معهم وتحدث إليهم، وجُرب من إبليس في البرية وفوق الصليب لكنه دحر إبليس في كل معركة، ولم يستطع أحد أن يلوث حياته بمسة من إثم، ولذلك يقول عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عب 4: 15) ويتحدى له المجد الفريسيين الذين كرهوه، وفتحوا عيونهم علّهم يرون في حياته نقطة ضعف، أو لمحة خطيئة قائلاًلهم «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ» (يو 8: 46)!! فهل استطاعوا أن يجدوا فيه شراً!! كلا! إنهم هربوا من أمام نور وجهه في خوف ورهبة!
وبيلاطس الوالي الروماني يقرر عنه هذا التقرير الرسمي الواضح «لست أجد في هذا الإنسان علة».
هو إذاً الظافر المنتصر، الذي أثبت بالامتحان الصعب ظفره وانتصاره، وجاز الامتحان في نجاح تام عجيب، ولذا فهو وحده الذي يقدر أن يفي العدالة حقها، وأن يخلص البشر الساقطين ويعين المجربين.
إن المخلوق هو بطبيعة الحال ملك لخالقه، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يتصرف في نفسه كما يشاء لأنه لا يملك نفسه، وكل بشر دب على هذه الأرض هو أحد خلائق الله، فنحن إذاً نحتاج إلى فاد غير مخلوق ليكون ملكاً لنفسه، ويقدم نفسه لفداء البشرية التي ضلّت سواء السبيل. لكن كيف يمكن أن يكون المرء إنساناً وغير مخلوق في وقت واحد؟ وأين هو الشخص الإنساني الذي لم يخلق كسائر البشر لكي يكون ملكاً لنفسه وله سلطان أن يضع نفسه عن البشر أجمعين؟ إننا لا نجد في التاريخ شخصاً تنطبق عليه هذه المميزات سوى شخص المسيح، فهو مولود ولكنه غير مخلوق، لأنه لم يأت بطريق التناسل الطبيعي، وهو في ذات الوقت الله خالق كل الأشياء بكلمة قدرته!!
وقد يعترض معترض بالقول: إن مجيء الله في صورة إنسان يجعل من الله حادثاً والحادث مخلوق وليس خالقاً!! لكن هذا المعترض ينسى أن الله ظهر في صور شتى لأنبياء القدم، ومع ذلك فلم يعتبر ظهوره لهم حادثاً!! فقد ظهر الله لموسى في عليقة خر 3: 4 وظهر لمنوح والد شمشون في صورة رجل قض 13: 22 وظهر كذلك لإبراهيم تك 18 ولم يقل أحد يومئذ أن الله صار حادثاً، لأنه جلّت قدرته قادر على كل شيء، وفي استطاعته أن يتجسد في صورة بشر وأن يكون في ذات الوقت مالئاً للكون كله، وهذا ما قاله السيد له المجد في حديثه مع نيقوديموس «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو 3: 13) فبينما كان يتحدث مع نيقوديموس على أرض فلسطين قال له إنه أيضاً في السماء، وليس في تجسد الله أي إهدار لكرامته، بل على العكس أن تجسده يثير الحب في قلوب مخلوقاته، سيما عندما يدركون أنه تجسد في سبيل فدائهم، وإظهار حب قلبه لهم.
وعلى هذا فإن المسيح الكريم قد تميز بهذا المميز الجليل، فقال عن نفسه «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 18) أجل إنه له المجد، قد قدم نفسه طوعاً واختياراً، لأنه يملكها، وليس لأحد آخر سلطان عليه ليأخذها منه، وكان الحب هو دافعه لتقديم نفسه لأجل البشر، ولذا فقد هتف له بولس قائلاً «ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا 2: 20) ووضعه مثالاً للمحبة المضحية أمام المؤمنين في أفسس إذ قال لهم«وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أف 5: 2). وحض الرجال على محبة زوجاتهم فأعطاهم المسيح كمثال لهذا الحب قائلاً «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أفسس 5: 25) وتحدث لأهل غلاطية عن غرض تضحية المسيح بالكلمات «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ» (غلا 1: 3 و4) وسجل لتلميذه تيموثاوس هذه العبارات «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (1 تي 2: 5 و6) فأوضح بهذا أن المسيح قد قدم نفسه فدية لأجل خلاص الناس بدافع محبته لهم و «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يو 15: 13).
إن إحساس الإنسان بثقل الخطية على ضميره يدفعه إلى التساؤل كيف ينال الغفران، فيضم صوته إلى صوت النبي ميخا حين قال «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا 6: 6 و7). وفي تساؤله هذا يشعر يقيناً أن خطاياه أثقل من أن تغفر بهذه الذبائح، والتقدمات فيقول مع داود وهو يحسّ بوطأة خطاياه «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مز 51: 16).
وإذا كان هذا هو شعور الإنسان الساقط بإزاء الخطية، فأي إساءة عظمى أحدثتها الخطية في قلب الله القدوس؟
إن عدم إدراك الإنسان لمقدار الإساءة التي أحدثتها الخطية لله، يدفعه للاعتقاد بأن في مقدوره أن يخلص بأعماله الصالحة! لكن الخطية خاطئة جداً، فهي إهانة بالغة في حق الله، وعصيان سافر لوصاياه، وتمرد عن تعمد وسبق إصرار لمشيئته العليا، وعدم إكتراث بإحساسات قلبه!! ويقيناً أن الأعمال الصالحة لا تستطيع أن تزيل الإساءة التي أحدثتها الخطية في قلب الله حتى أننا نقرأ الكلمات «فَحَزِنَ ٱلرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ ٱلإِنْسَانَ فِي ٱلأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ» (تك 6: 6).
ومعرفة الله القدوس بحقيقة الخطية جعلته يحكم عليها حكماً صريحاً واضحاً «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حز 18: 4).
«فالخطية عقابها الموت في حكم عدالة الله»
فأي شيء في هذا الوجود يعادل الموت؟ هل يمكن أن نعتبر بناء مستشفى أو التبرع لملجأ للأيتام، أو الصوم أسبوعاً أو شهراً أو سنة، أو دفع الزكاة، أو الصلاة، وسيلة لإلغاء حكم الموت الذي وضعه الله ضد الخطية؟... يقيناً: لا، لأن هذه الأعمال الصالحة لا تساوي «الموت» في مقاييس العدالة الحقيقية!!
والواقع أن الأعمال الصالحة حينما تؤدى بقصد الخلاص من عقاب الخطية، تعتبر إهانة كبرى لذات الله، إذ أنها دليل على اعتقاد من يقوم بها بأن في قدرته إزالة الإساءة التي أحدثتها الخطية في قلب الله عن طريق عمل الصالحات، تأدية بعض الفرائض والصلوات، وكأنه وهو يقوم بهذه الأعمال يعبر تعبيراً لا إرادياً عن شعوره بأنه غير مرضي عند الله، وبأن الله غاضب عليه، وبأن الوسيلة لنوال رضاه هي أن يقدم شيئاً من الحسنات حتى يمحو سيئاته وخطاياه وكأن قلب الله لا يتحرك بالحنان، إلا بأعمال الإنسان!! ويا له من كفر شرير مهين!!
وينقض الكتاب المقدس بكلا عهديه مبدأ الخلاص بالأعمال الصالحة من أساسه فيقول أليهو أحد أصحاب أيوب «إِنْ كُنْتَ بَارّاً فَمَاذَا أَعْطَيْتَهُ، أَوْ مَاذَا يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِكَ؟ لِرَجُلٍ مِثْلِكَ شَرُّكَ، وَلٱِبْنِ آدَمٍ بِرُّك» (أيوب 35: 7 و8) ويقول إشعياء النبي «وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ (أي ثوب قذر) كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا» (إش 64: 6) ويقول بولس الرسول«ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ... لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا... . لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ، فَٱلْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ» (غلا 2: 16 و21) ويؤكد هذا الحق في رسالته إلى رومية قائلاً: «أَمَّا ٱلَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ ٱلأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا ٱلَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلٰكِنْ يُؤْمِنُ بِٱلَّذِي يُبَرِّرُ ٱلْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً» (رو 4: 4 و5) وها نحن نقرأ في إنجيل لوقا عن ذلك الفريسي الذي اتكل على أعمال بره، وكان يصوم مرتين في الأسبوع ويدفع عشور كل ما يقتنيه، ويسلك سلوكاً أعلى من سلوك الأشرار في زمانه، ونجد أن الرب قد حكم عليه بالدينونة لأنه اتكل على أعماله الصالحة، وجعلها موضوعاً لفخره في حضرة الله، وطريقاً لنوال عفوه ورضاه مع أن «أجرة الخطية هي موت» وجميع أعمالنا الصالحة لا يمكن أن تعادل الموت أو تساويه.
وليس معنى ذلك أن الأعمال الصالحة لا قيمة لها في مكانها، لكنها تُعتبر إهانة لله سبحانه وتعالى إذا عملناها لنوال عفوه ورضاه، لأن عفوه لا يمكن الحصول عليه بها، إذ أن حكمه الواضح أن «النفس التي تخطئ هي تموت» ولا سبيل للنجاة من هذا الحكم إلا بالفداء الذي بيسوع المسيح لأنه التدبير الوحيد الذي به يكون الله «بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو 3: 26) ومع هذا فإن الأعمال الصالحة تعتبر تعبيراً جميلاً عن إحساسنا بمحبة الله لنا، إذا صدرت عن قلب يعرف فضله عليه، ويشعر بحبه الغامر الذي ظهر على الصليب.
ولقد أدرك داود أن كل عمل صالح ينبغي أن يقدم لله على اعتبار أنه تعبير عن الإحساس بمحبته ووجوده، لأنه صاحب كل شيء في الوجود «لِلرَّبِّ ٱلأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. ٱلْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا» (مز 24: 1). فهو صاحب المال، والصحة، والحياة، ولذا فقد قال بعد أن قدم لإلهه مبلغاً ضخماً من المال لبناء هيكله «وَلٰكِنْ مَنْ أَنَا وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَبَرَّعَ هٰكَذَا، لأَنَّ مِنْكَ ٱلْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ!... أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا، كُلُّ هٰذِهِ ٱلثَّرْوَةِ ٱلَّتِي هَيَّأْنَاهَا لِنَبْنِيَ لَكَ بَيْتاً لٱِسْمِ قُدْسِكَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ يَدِكَ، وَلَكَ ٱلْكُلُّ» (1 أخبار 29: 14 و16)، وعلى هذا فإننا نستطيع القول بأن الأعمال الصالحة هي تعبير عن شكرنا لله، وإدراكنا لمحبته العظمى التي ظهرت في الصليب كما يقول بولس الرسول: «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 8-10).
وإذاً ففي مقدورنا أن نقرر بأن أعمالنا، وصلاحنا، وذبائحنا، وعطايانا، كل هذه لا تستطيع أن تغطي الإساءة التي أحدثتها الخطية في قلب الله! فمن ذا الذي يستطيع أن يدرك مدى هذه الإساءة حتى يقدر أن يوفي عقابها؟ يجيبنا بولس الرسول قائلاً: «هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ» (1 كو 2: 11) أجل! فحتى الملائكة وهم أقرب مخلوقات الله إليه لا يدركون حقيقة الاحساسات الموجودة في قلب الله عز وجل، وعلى هذا فلن نجد شخصاً يستطيع إدراك مقدار الإساءة التي أحدثتها الخطية في قلب الله الرقيق القدوس إلا الله ذاته، وقد قلنا إنه من المميزات الضرورية لشخص الفادي إدراكه مقدار الإساءة ليعوض عنها، وإذاً فلا بد أن يكون الفادي شخصاً يتجسد الله فيه ليقدر أن يعوض التعويض اللازم عمّا يحس به الله بإزاء شناعة الخطية، وفي المسيح نرى الله متجسداً كما يقول بولس الرسول «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1 تي 3: 16).
وعلى هذا فقد جاء المسيح بإدراك كلي لتأثيرات الخطية على قلب الله جل وعلا، ودفع الأجرة كاملة، فكان هو حمل الله الذي وضع عليه إثم جميعنا، والذي رفع خطية العالم، وفي سبيل ذلك، تحمل الحزن الشديد، وترك معلقاً وحده على الصليب بين السماء والأرض تكتنفه قوات الظلام، وحجب الآب وجهه عنه، ليشرب كأس عقاب الخطية حتى الموت.
كان العقاب الذي حكم به الله على آدم أبي البشر يتركز في: «اللعنة» «ملعونة الأرض بسببك»، والتعب «بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، والشوك شوكاً وحسكاً تنبت لك» والعرق والجهاد «بعرق وجهك تأكل خبزاً» وأخيراً الموت «حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تك 3: 17-19) وكان لا بد أن يكون الشخص الذي يقوم بعملية الفداء، قادراً على احتمال هذا العقاب، لا لأجل خطية آدم وحده بل لأجل خطايا البشرية كلها.
فأين هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن يحتمل عقاب خطية نفسه حتى يكون في مقدوره أن يحتمل عقاب خطايا البشرية!!
لقد أحس داود بثقل خطاياه فصرخ قائلاً «آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ» (مز 38: 4) وصرخ قايين وهو يشعر بعظم خطيته قائلاً «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ» (تك 4: 13) إذاً أين هو صاحب القدرة ليحتمل عقاب خطايا البشرية وأوزارها التي انقضت ظهرها؟ يقيناً أن هذا الشخص هو المسيح الكريم الذي قال عنه إشعياء « يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً» والذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين إنه «حامل كل الأشياء بكلمة قدرته»، ومع هذا كله فقد رضي طائعاً أن يحمل في جسده عقاب خطايانا حتى وصفه إشعياء قائلاً «كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَداً أَكْثَرَ مِنَ ٱلرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ ... مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاه» (إش 52: 13 و14 و53: 3-7) لقد احتمل رب المجد عقاب خطية آدم، بل عقاب خطايا الأجيال المتعاقبة منذ آدم إلى اليوم الأخير، ذلك لأن الله في وجوده المطلق، ومعرفته المطلقة عنده الماضي والحاضر والمستقبل في لوح مفتوح ولا فرق عنده بين زمان وزمان، وبهذه المعرفة المطلقة وضع خطايا البشرية على المسيح بديل البشرية، ويا لها من خطايا قذرة، سوداء، كريهة شنيعة، وضعت كلها في حزمة واحدة على ذلك الحمل البريء، حتى أنه صار «خطية»لأجلنا، وانصبّ على شخصه الكريم غضب الله العادل البار القدوس.
ومن يتتبع قصة الصليب يلاحظ أن المسيح قد احتمل حكم الخطية بكل محتوياته، فاحتمل «اللعنة» لأنه مات على الصليب ومكتوب «ملعون كل من عُلق على خشبة»واحتمل «التعب والعرق» فنقرأ عنه وهو في بستان جثسيماني أنه «وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ» (لو 22: 44) واحتمل وخز الشوك في جبينه الكريم إذ «ضَفَرَ ٱلْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ» (يو 19: 2) ثم شرب كأس الموت بعد أن أتم خلاص الإنسان إذ «قَالَ قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (يو 19: 30)... احتمل كل هذا في جسده بقدرة فائقة، لأنه كان الإنسان الكامل الذي جاء ليفدي الإنسان الساقط ويحمل عقاب خطايا البشر الآثمين.
إن الفداء الحقيقي لا يتم إلا بخلق طبيعة جديدة في الخاطئ، ليستطيع بها الاقتراب إلى الله، لأنه عندئذ يكون في توافق تام مع إلهه!! ومن ذا الذي يستطيع أن يعطي للإنسان الذي يكره الله طبيعة جديدة تحب الله، وأن يكسو عريه الروحي، وأن يعيده إلى حضرة خالقه وقد اكتسى برداء بر جديد؟
إن الله وحده هو القادر على خلق الطبيعة الجديدة في الإنسان، ولأن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، لذلك فالمسيح يقدر أن يغير طبيعة الإنسان وهذا ما قاله بولس الرسول «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كو 5: 17).
ويقيناً أن المسيح قد غيّر طبيعة كل خاطئ آمن به، والتجأ إليه، فغيّر حياة السامرية النجسة وجعل منها امرأة قدّيسة، وغيّر حياة زكا الطماع محب المال وجعله إنساناً جديداً يضحي بالمال في سبيل حبه لله، وغيّر حياة مريم المجدلية التي كان جسدها مسكناً للشياطين، فجعلها رسولة الرسل، وبشيرة البشيرين!! وما زال يسوع المسيح يغيّر بقوة دم الصليب حياة الكثيرين، ويلبسهم رداء نقياً بهياً من نسيج بره الكامل، وفدائه العظيم.
فهل رأينا الأسباب التي توضح لنا ضرورة أن يكون الفادي إنساناً وإلهاً في وقت واحد، إننا إذا وضعنا هذه الحقيقة في أذهاننا سهل علينا جداً أن نفسر الكلمات السبع التي نطق بها السيد المسيح وهو على الصليب.
فهو بحق دمه المسفوك، وكرئيس الكهنة الأعظم يصلي لأجل صالبيه وقاتليه «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو 23: 34) فيرينا أن الذين سفكوا دمه نالوا الغفران بذات الدم.
وهو بحق هذا الدم أيضاً يلتفت إلى اللص الذي قال له «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» (لو 23: 42). فيمنحه رجاء بساماً ويرد على إيمانه بلاهوته رداً يصادق على هذا الإيمان فيقول له «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لو 23: 43). وهو في إنسانيته الكاملة الرقيقة يهتم بشئون أمه القديسة المتألمة ويطلب من يوحنا أن يرعاها قائلاً لها «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ». ثم يقول ليوحنا «هُوَذَا أُمُّكَ» (يو 19: 26 و27) وهو بذات هذه الإنسانية التي مثل فيها البشرية، احتمل عقاب الله المنصب على الخطية، ولأنه صار «خطية» لأجلنا حجب الله وجهه عنه لأن عينيه أطهر من ان تنظرا الخطية، وعندئذ صرخ المسيح الإنسان، ممثل الإنسانية وهو في عمق آلامه، ليظهر للبشر فظاعة خطاياهم، وموقف الله العادل من هذه الخطايا قائلاً «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (مت 27: 46) ولا يفوتنا أن نذكر أنه قبل أن ينطق المسيح بهذه الكلمة التي أعلنت عظم آلامه، وشدة سخط الله على الخطية حدث حادث خارق إذ أظلمت الشمس في الظهيرة (مت 27: 45) وظلت في ظلامها ثلاث ساعات كاملة، وأثبت رجال الفلك أن هذا الظلام لم يكن كسوفاً حدث في الشمس لأن الصلب وقع يوم جمعة في زمان عيد فصح اليهود، تلك حقيقة تاريخية، وعليه فقد كان القمر بدراً كاملاً إذ ذاك طبقاً للنظام الديني المقرر عند اليهود في تعيين يوم العيد. إذ كانوا يحسبون السنين في ذلك العهد بالشهور القمرية ويوجبون في الوقت نفسه أن يكون الفصح في تاريخ يتفق وبعض مواعيد السنة الشمسية فلا يكون بعيداً عن ميعاد الاعتدال الربيعي ليتمكنوا أيضاً أن يقدموا بواكير الغلات لله طبقاً لما هو مقرر في التوراة. ولأجل ذلك كان من المقرر أن يكون الفصح عند اكتمال بدر نيسان القمري وهو يتفق في بعضه وشهر أبريل الشمسي، وهم لشدة حرصهم على ذلك تدقيقاً في ما يوجبه الناموس كانوا يضيفون من حين إلى آخر شهراً إلى السنة القمرية يكون الثالث عشر فيها فيسمونه «واذار» بواو العطف، أي آذار الثاني، لأن شهر آذار القمري كان يليه مباشرة شهر نيسان وهو شهر عيد الفصح، فيصلحون بذلك الفرق بين السنة الشمسية والسنة القمرية (وهو 11 يوماً تقريباً) ويردون الفصح إلى التاريخ الذي يتفق والاعتدال الربيعي ويتمكنون فيه من تقديم البواكير.
وعلى ذلك يتضح جلياً أن القمر كان في يوم الصلب بدراً كاملاً فيستحيل بموجب النواميس الطبيعية حدوث كسوف إذ ذاك لأن الكسوف لا يمكن حدوثه إلا في فترة المحاق عند نهاية الشهر القمري إذ يكون القمر والحالة هذه ما بين الأرض والشمس في الفلك فإذا كانت عند ذاك مراكز كرات هذه الأجرام الثلاثة على خط مستقيم واحد (في حالة معينة من بعد القمر عن الأرض) حدث الكسوف التام الذي ترافقه الظلمة عند احتجاب قرص الشمس تماماً، وعلى هذا فحدوث الظلام في يوم الصلب لا يمكن أن يكون إلا من خوارق الطبيعة بقدرة إلهية، لكي تتم نبوة عاموس القائلة «وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، أَنِّي أُغَيِّبُ ٱلشَّمْسَ فِي ٱلظُّهْرِ، وَأُقْتِمُ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمِ نُورٍ»(عا 8: 9).
لماذا حدث هذا؟ ليعلن الله غضبه على الخطية التي شوهت أجمل مخلوقاته وهو الإنسان، والتي عذبت وصلبت ابنه الوحيد على الصليب!!
ونتقدم الآن من مشهد الصلب المؤلم لنسمع الكلمة الخامسة التي نطق بها يسوع المصلوب قائلاً «أَنَا عَطْشَانُ» (يو 19: 28) وهذه الكلمة ترينا إنسانية يسوع الكاملة المتألمة، لقد نزف دمه. وفي الدم كمية كبيرة من الماء، ولذا فقد أحس بالعطش المحرق، وهو خالق الأنهار وقال «أنا عطشان».
ولكن هل كانت هذه الكلمة آخر كلماته؟ كلا! فقد نطق بكلمة سادسة، قائلاً «قد أكمل» وهكذا أعلن أن تدبير الفداء قد تم في كمال لا يشوبه نقص، فكل النبوات القديمة الخاصة بالمسيا المنتظر قد أكملت، وكل مطاليب الناموس قد أكملت، وكل الآلام التي كان على المسيح أن يتحملها نتيجة خطايا البشر قد أكملت، وكل رمز في العهد القديم قد أكمل، وكل ما كلفته به محبته للبشر قد أكمل، وكل انتظارات الناس فيه قد أكملت، وكل برنامج رسالته قد أكمل وكل حكم أصدرته عدالة الله قد أكمل. أجل!! لقد أكمل المسيح المصلوب كل شيء وليس على الخطاة إلا أن يقبلوا بإيمان وثقة بركات هذا العمل الكامل التام.
أخيراً اختتم المسيح المصلوب كلماته، صارخاً بصوت عظيم «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو 23: 46) وهكذا تمت كلمته القائلة «لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 18).
لقد تألم المسيح آلاماً مبرحة على الصليب في جسده ونفسه، وطمت عليه كل التيارات واللجج، ولكن يجب أن نفهم أن هذه الآلام لم تقع على اللاهوت بل على الناسوت أي على ما هو بشري في المسيح، إذ أن اللاهوت لا يتأثر بما يؤثر في جسد البشر وهو وحده الذي له عدم الموت، ولذلك فنحن نقرر أن التجسد لم ينقص اللاهوت ولا جزأه، ولا خلطه، ولا أثر فيه بأي حال، أو من أي وجه كما أن أشعة الشمس لا تتأثر بالمكان الذي تضيئه على الإطلاق!!
وقد أكد بطرس في كتاباته أن يسوع المسيح حمل خطايانا في جسده على الصليب فقال «فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهٰذِهِ ٱلنِّيَّةِ» (1بط 4: 1)«فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ، مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَدِ وَلٰكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ» (1 بط 3: 18) «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ» (1 بط 2: 24) وهذا هو ما علم به بولس أيضاً قائلاً «فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ» (رو 8: 3).
ولكن هل معنى هذا أن الآب لم يشعر بآلام الابن؟ لقد كانت آلام الابن كفارية لأجل الخطية، ولكننا إذ نفكر في مشاعر الآب الحنون، نحس بأن القلم يتوقف في خشوع، فذاك الذي لما رأى شر الإنسان «حزن وتأسف في قلبه» وذاك الذي قيل عنه في سفر إشعياء «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إش 63: 9) هل يمكن أنه لم يحس بآلام ابن مسرته وهو على الصليب؟!
يقيناً أن الثالوث الأقدس قد اشترك في عملية الفداء، فالآب أحب العالم حتى بذل الأبن، والابن قد رضي طائعاً أن يقوم بعمل الفداء، والروح القدس قد اشترك في تقديم ذبيحة الصليب وأعلن مجد هذا الفداء العجيب.
وكما نقرأ «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16)، كذلك نقرأ «أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس 5: 2) ونقرأ أيضاً «فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ!» (عب 9: 14) وهكذا نرى الثالوث الأقدس مشتركاً في عمل الفداء العظيم.
فهل يمكن أن يرى الإنسان المفدي كل هذه الحقائق، ولا يرفع صوته مرنماً ومردداً:
خلني قرب الصليب | حيث سال المجرى |
من دم الفادي الحبيب | داء نفسي يبرا |
في الصليب في الصليب | راحتي بل فخري |
في حياتي وكذا | بعد دفن القبر |
قد محا عند الصليب | دم ربي إثمي |
وعن القلب الكئيب | زال كل الهم |
قد رأينا في الصليب | قوة الرحمان |
إذ بدا أمر عجيب | فدية للجاني |
من قضى فوق الصليب | ذاك جل القصد |
سآراه عن قريب | آتياً بالمجد |
أجل. فإن المسيح الذي مات لأجلنا على الصليب سيأتي ثانية في مجد وجلال، ويقرر هذا الحق كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلاً «هٰكَذَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ» (عب 9: 28) يقيناً أن المسيح آت وكأني أسمع صوته يردد عبر الأجيال قائلاً «أنا ابن الله ولكنني ظهرت في جسد البشر لأتألم حتى الموت عن الخطايا. ولكني في الوقت نفسه متصل بالسماء التي منها جئت، يحل فيّ كل ملء اللاهوت وبذا أستطيع أن اغفر الخطايا»(مت 9: 6) ولكن بشريتي لا تنتهي باجتيازي الأدوار الأخيرة التي أشرت إليها من ألم وموت أقاسيهما في سبيل خلاص الإنسان وتتميم عملي بل سأقوم وآخذها معي إلى السماء التي منها سأعود لأملك على أولئك الذين أخذت صورتهم الإنسانية.
هذا هو المسيح المصلوب، الذي يملأ حياة كل إنسان يؤمن به بالرجاء اللامع البسام!
كان بولس الرسول يهودياً متعصباً، يكره المسيح المصلوب، ويذيق أتباعه أشد أنواع العذاب، إلى أن أشرق عليه نوره وسمع صوته يناديه من السماء «شاول شاول لماذا تضطهدني؟» فلما سأله وهو مرتعد ومرتعب «من أنت يا سيد؟» أجابه صاحب الصوت المبارك «أَنَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (أع 22: 7 و8)، وتجدد شاول الطرسوسي الذي كان مجدفاً ومضطهداً ومفترياً، وسمي بعدئذ باسم «بولس»، وأحب بولس المسيح الذي خلصه، أحبه من قلبه، وملك عليه هذا الحب كيانه ومشاعره وكل عاطفة تختلج في داخله، فصار داعية الصليب الأول، وكتب إلى كورنثوس مدينة العلم، والرقي، والخطية يقول «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1 كو 2: 2) وسجل بحروف ضخمة في رسالته إلى أهل غلاطية كلماته الخالدة «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلا 6: 14).
فلماذا افتخر بولس بالصليب بعد أن كان عدوه اللّدود؟ لقد رأى بولس في الصليب قّوة الله وحكمة الله، قوّة الله التي انتصر بها على الشيطان، والموت، والخطية، وحكمة الله التي وفّقت بين عدله ورحمته، ولذلك فقد جعل الصليب رسالته الوحيدة العظمى وكتب عن ذلك قائلاً «نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كو 1: 23 و24) لكنه مع ذلك رأى في الصليب كل شيء في حياة المؤمن، فهو أساس غفران خطاياه وأساس سلامه مع الله، وأساس اعتزاله عن العالم، وأساس احتماله للآلام، أو كما قال فيه أحد القديسين «إن صليب المسيح هو أخف حمل أحمله على كتفي، إنه كثقل الأجنحة للطائر، يسمو بي إلى آفاق أعلى، وكثقل الشراع للسفينة، يدفعني إلى مرفأ الأمان» وكل هذه النواحي دفعت بولس للافتخار بالصليب.
ويجدر بنا أن نلفت النظر هنا، إلى أننا عندما نتحدث عن الصليب، لا نتحدث عن قطعة من الخشب أو من الذهب، وإنما نتحدث عن ذلك الشخص المبارك الذي صُلب على الصليب، نحن لا نتحدث عن شيء بل عن شخص، فالمسيح المصلوب هو سر بركة العالم المسكين... ومن أسف أن كثيرين من المسيحيين قد أهملوا قوّة الصليب، تماماً كما أهمل العبرانيون السيف الذي قتل به داود جليات، وكل ما فعلوه أنهم وضعوه وراء الأفود، فدعونا نأخذ هذا السيف من جديد ونرى مدى تأثيره المبارك في الحياة العملية:
فإذا سأل أحدهم كيف أنال الغفران؟ وكيف أتبرر عند الله؟ أجابه بولس الرسول قائلاً «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا» (أفسس 1: 7) «نَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ»(رو 5: 9) فدم يسوع المسيح المهراق على الصليب هو الوسيلة الوحيدة للغفران والتبرير لأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عب 9: 22) والدم يعني «الموت والحياة»و «الموت» هو قصاص الخطية، و «الحياة» تُعطى لنا عن طريق الدم «لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ» (لا 17: 11) ومن العجيب أن الدم ولو سفك فإنه يُعتبر حياً، لذلك يقول الله لقايين بعد سفكه دم أخيه «صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلأَرْضِ» (تك 4: 10) ونقرأ في رسالة العبرانيين «دَمُ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ» (عب 12: 24) وهذا يرينا أنه مع أن الدم يمثل الموت فهو كذلك وسيلة الحياة الأسمى.
وهذا الفكر المزدوج يظهر واضحاً في الذبيحة اليهودية. فكان اليهودي يأتي بالذبيحة إلى الدار الخارجية من خيمة الاجتماع، وهو بنفسه - لا الكاهن - يذبحها وبعمله هذا كأنه يعترف بإثمه الخاص وباستحقاقه القصاص موتاً، هذا هو الوجه الأول للذبيحة أما الوجه الثاني فنرى فيه الكاهن كنائب عن الله يأخذ دم الذبيحة ويرشه على المذبح معلناً أن الحياة قد قدمت إلى الله.
وقد تم هذا كله في المسيح، فدم المسيح المصلوب يعني هذين الفكرين «موته» و «حياته» ففي يوم الكفارة كانت الذبيحة تُنحر في الدار الخارجية وهذا معناه «الموت»ثم كان رئيس الكهنة يأخذ الدم ويجتاز به إلى قدس الأقداس ويرشه على عرش الرحمة وهذا معناه «الحياة» وعلى هذا فينبغي أن لا ننظر فقط إلى موت المسيح بل إلى قيامته وصعوده كجزء جوهري من عمل الفداء لأنه «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رو 4: 25) فالدم الذي هو الموت، والقيامة التي هي الحياة، والصعود الذي هو الخلود كتلة واحدة في عملية الكفارة.
ففي متى 26: 28 يقول «لأَنَّ هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
وفي عب 13: 20 يقول «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ ٱلَّذِي أَقَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ رَاعِيَ ٱلْخِرَافِ ٱلْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ ٱلْعَهْدِ ٱلأَبَدِيِّ» وهذا هو الدم والقيامة.
وفي عب 9: 12 و24 يقول: «بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً... لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا» وهذا هو الدم والصعود.
وعلى هذا فنحن نرى في دم يسوع المسيح، الموت لأجلنا، والحياة لأجلنا كما هو ظاهر في صلبه وقيامته وصعوده.
فدم يسوع هو أساس غفران خطايانا، بل أساس فدائنا، وتبريرنا، لذلك إذ أشرق هذا الحق أمام عيني الأسقف لانسيلوت أندروز ركع عند الصليب قائلاً «بعرقك الدامي المتجمد، ونفسك الحزينة المتألمة، برأسك المكلل بالشوك، بعينيك المتدفقتين بالدموع، وأذنيك الممتلئتين بالسباب، بفمك المبلل بالخل والمر، ووجهك الملطخ بالبصاق، برقبتك المنحنية من حمل الصليب. وظهرك الممزق بالجلدات، بيديك المثقوبتين وقدميك. بصرختك الحادة إلهي إلهي، وقلبك المطعون بالحربة، بالدم والماء الجاريين من جنبك بجسمك المكسور ودمك المسفوك. اغفر سيدي آثام عبدك واستر جميع خطاياه».
حدثنا خادم جليل من خدام الله كان قد عهد إليه أن يهتم بالأمور الروحية لمجرمي الحرب الأخيرة من زعماء النازيين عن قوة دم المسيح للغفران حتى لأفظع المجرمين قال«في سنة 1945 عبرنا المانش إلى فرنسا وفي 15 يوليو من تلك السنة كنا في ألمانيا، وبعد شهور قليلة عهد إليّ برعاية الحالة الروحية لزعماء النازيين المسجونين رهن المحاكمة في نورنبرج. وقبل أن أبدأ زياراتي لهؤلاء المجرمين في زنزاناتهم سألت نفسي هذا السؤال: أينبغي إليّ أن أسلّم على هؤلاء الرجال الذين جروا الدمار والخراب على العالم، وجلبوا الويلات والآلام على الناس، وأزهقوا ملايين النفوس؟ أينبغي أن أسلّم عليهم وولديا قد ذهبا ضحية أفعالهم الشريرة؟ وماذا أنا فاعل إزاءهم حتى يمكنهم أن يشعروا بحاجتهم إلى قبول كلمة الله؟» وأول ما فعلت دخلت «زنزانة» المارشال «جورنج» فوقف وأدى التحية العسكرية ومد لي يده، وبعدئذ زرتهم واحداً بعد الآخر زيارة قصيرة وكان ذلك في العشرين من نوفمبر قبيل المحاكمة، وقضيت تلك الليلة في الصلاة طالباً من الله أن يعطيني رسالة لهم. ومن تلك اللحظة أعطاني الله نعمة اقتفاء آثار خطوات الرب يسوع في أن أكره الخطية لكن أحب الخطاة. ورأيت أن هؤلاء الرجال يجب أن يسمعوا أشياء عن المخلص الذي تألم ومات على الصليب لأجلهم.
كانوا واحداً وعشرين مسجوناً، أربعة منهم كاثوليك وثلاثة عشر بروتستانت، أما ستريشر، ويودل، وهيس، وروزنبرج فلم يهتموا بسماع أية خدمة.
أما الكاثوليك فكانوا فرانك، وسايس انكورات، وكالتنبرونر، وفون بابن، والبروتستانت كانوا: كيتل، وفون رنتروب، ورايدر، وفون نوارت، وسبير، وشاخت، وفريك، وفونك وفريتش، وفون شيراش، وسوكل، وجورنج، وجرت عادتنا أن نرنم ثلاث ترنيمات ونقرأ فصولاً من الكلمة، ثم ألقي رسالة قصيرة، ونختم بالصلاة، وكان سوكل أول واحد بينهم فتح قلبه لقبول كلمة الله، وقد كان أباً لعشرة أطفال، وكانت زوجته مسيحية مؤمنة، وبعد زيارات قليلة له كنا نركع سوياً عند سريره، وكان يصلي صلاة العشار قائلاً «اللهم ارحمني أنا الخاطئ» وأنا أعرف أنه كان صادقاً! كذلك عمل الله بقوة في فريتش، وفون شيراش وسبير لأنهم في تأثر عميق طلبوا الاشتراك في مائدة الرب، ورايدر كان غيوراً ومجتهداً في قراءة الكلمة وكثيراً ما كان يلقاني متسائلاً عن معاني عبارات عسرة الفهم كما طلب الاشتراك في المائدة معنا.
ثم صدر حكم المحكمة وهو يقضي بالإعدام شنقاً على كل من جورنج، وفون ربنتروب، وكيتل، وكالتنبرونر، وروزنبرج، وفرانك، وفريك، وستريشر، وسوكل، ويودل، وسايس انكوارت، وبالسجن مدى الحياة على هيس، وفونك، ورايدر، وبالسجن عشرين عاماً على فون شيراش، وسبير، وبالسجن خمسة عشر عاماً على فون نويرات، وعشر سنوات على دونيتز، وبراءة كل من شاخت، وفون باين، وفريتش.
وبعد الحكم حتى يوم التنفيذ كنت ملازماً للمحكوم عليهم أغلب الوقت، وقد سمح للمحكوم عليهم أن يروا زوجاتهم مرة واحدة فقط، وكان اللقاء محزناً للغاية، ولقد سمعت فون ربنتروب يطلب إلى زوجته أن تعاهده على تربية أطفالهما في خوف الرب! وسوكل طلب من زوجته أن تتعهد بتربية أولاده في ظل الصليب، أما جورنج فسأل زوجته عما قالته ابنته الصغيرة «إيدا» عندما سمعت منطوق الحكم عليه، فقالت له زوجته إن «إيدا» قالت «أرجو أن أرى أبي في السماء» فتأثر من هذه العبارة تأثراً شديداً ولأول مرة رأيته يبكي.
وليلاً ونهاراً كنت أقضي الوقت مع أولئك الذين سلموا حياتهم لله، وكنت أزور بعضهم خمس مرات يومياً، وكان كيتل يتأثر جداً من العبارات التي تتكلم عن قوة دم المسيح للغفران، وكان يردد الآية القائلة «دَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1 يو 1: 7).
وفي لية تنفيذ الحكم تقابلت مع جورنج ومكثت معه وقتاً طويلاً، وكلمته كثيراً عن لزوم استعداده لملاقاة الله، فكان يهزأ ببعض حقائق الإنجيل، ورفض أن يصدق أن المسيح مات لأجل الخطاة وكان يقول «الموت هو الموت» فذكرته بما قالته ابنته الصغيرة وبرجائها في أن ترى أباها في السماء فقال «هي تؤمن على طريقتها وأنا على طريقتي»فتركته... وبعد ساعة تقريباً سمعت لغطاً وأصواتاً كثيرة وعرفت أن جورنج انتحر، فدخلت زنزانته وكان نبضه لا يزال مستمراً فسألته ولكنه لم يجب وكانت على صدره أنبوبة زجاجية فارغة لقد ذهب إلى نهايته المخيفة... واقتربت ساعة التنفيذ، وقبل أن يتقدم «فون ربنتروب» للمقصلة قال إنه يضع كل ثقته في دم المسيح الذي يرفع خطية العالم! ثم صدر إليه الأمر أن يتقدم إلى غرفة الإعدام فتقدم ويداه مربوطتان وصعد إلى المقصلة ورفعت أنا قلبي بصلاة قصيرة ولم أره بعد ذلك.
وتبعه «كيتل» وكان واثقاً في قوة الدم للغفران، وتقدم «سوكل» بعد أن ودع زوجته وأولاده وصلى صلاة قصيرة.
أما روزنبرج فقد رفض أية مساعدة روحية، ولما سألته هل أصلي من أجله؟ قال «كلا شكراً» لقد عاش ومات بلا مخلص.
وهكذا انطلق من آمن في قوة الدم الغافرة في ملء الاطمئنان!!
سألت سيدة أحد الشبان، هل صنعت سلامك مع الله؟ فأجاب كلا يا سيدتي! قالت: وهلى تريد أن تصنع سلامك مع الله؟ فأجاب: كلا يا سيدتي!! ولما رأى دهشتها التفت إليها قائلاً: ليس في مقدور أحد أن يصنع سلامه مع الله، لكن الرب يسوع قد صنع سلامي مع الله بالصليب، ولذلك فأنا أقول مع بولس «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رو 5: 1) أجل، إن جراحات الصليب هي أساس سلامنا مع الله، وهذا الحق واضح في إنجيل يوحنا إذ نقرأ «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبّ» (يو 20: 19 و20) فضمان سلامنا مع الله هو جراحات فادينا «لأنه هو سلامنا».
إذ أراد بولس أن يحرك الكورنثيين لتسليم حياتهم بالكامل للرب، لم يجد دافعاً أقوى من الصليب فكتب لهم قائلا «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ، ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ لِلّٰهِ» (1 كو 6: 19 و20).
ثم عاد يكتب لهم في رسالته الثانية فقال «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هٰذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ. فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2 كو 5: 14 و15) فالصليب يدفع المؤمن للحياة لمن مات لأجله وقام لأنه يشعر أن محبة المسيح تحصره فلا يستطيع إلا أن يكرس نفسه له ليرد صدى هذه المحبة الغامرة... ونجد في سفر اللاويين صورة واضحة للتكريس بالدم إذ نقرأ «ثُمَّ قَدَّمَ ٱلْكَبْشَ ٱلثَّانِيَ... فَذَبَحَهُ وَأَخَذَ مُوسَى مِنْ دَمِهِ وَجَعَلَ عَلَى شَحْمَةِ أُذُنِ هَارُونَ ٱلْيُمْنَى، وَعَلَى إِبْهَامِ يَدِهِ ٱلْيُمْنَى، وَعَلَى إِبْهَامِ رِجْلِهِ ٱلْيُمْنَى» (لا 8: 22 و23) فما معنى وضع الدم على الأذن واليد والقدم؟! معناه أن الأذن تسمع وتعرف صوت الله، وأن اليد تعمل لخدمة الله، وأن القدم تسير مع الله، وهكذا يصبح الإنسان كله مكرساً لله!! وهذا هو ما يفعله دم الصليب المرشوش على المؤمنين.
لم يجد بولس دافعاً يدفع المسيحي أن يغفر للآخرين أقوى من الصليب فكتب لأهل أفسس قائلاً «كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 32) وكذلك قال للمؤمنين في كولوسي «كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاًك» (كو 3: 13).
قص علينا رجل من رجال الله قصة فتاة أرمنية عاشت في أيام اضطهاد الأرمن. كانت سائرة يوماً في رفقة أخيها وأبيها وإذا بجندي متوحش ينقض على والدها وأخيها ويذبحهما أمام عينيها، أما هي فقد أفلتت منه بأعجوبة ثم اشتغلت كممرضة في أحد المستشفيات، وذات يوم حمل رجال الإسعاف جريحاً إلى ذلك المستشفى ليكون تحت رعاية تلك الممرضة، وما أن تفرست في وجهه حتى عرفت أنه هو ذلك الجندي المتوحش الذي سفك دم أبيها وأخيها، وهنا وقفت الممرضة المسكينة أمام عاملين، عامل الانتقام لدم أبيها وأخيها من ذلك الجندي الجريح الذي صار الآن في قبضة يدها، وعامل الرحمة والشفقة والمغفرة لأجل خاطر المسيح الذي أحبها وافتداها، وما هي إلا لحظة حتى غلب الصليب، وملأ قلبها بالصفح، فخدمت ذلك الجندي وسهرت على راحته حتى شفي من جراحه!! فهل امتلأنا بروح الصليب روح الغفران؟
كتب الرسول للعبرانيين قائلاً: «لِذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ ٱلشُّهُودِ مِقْدَارُ هٰذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱللّٰهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي ٱلَّذِي ٰاحْتَمَلَ مِنَ ٱلْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هٰذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ»(عب 12: 1-3).
وكتب بطرس الرسول يقول «لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، لأَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1 بط 2: 20 و21).
أجل، فالصليب يعطينا نصرة على الاضطهاد، وعلى الألم، وعلى الحزن.
كان أحد خدام الله يعظ في شيكاغو، وفجأة تقدم أحدهم من الصفوف الخلفية حتى اقترب من الخادم وقال له أمام الجمع «في استطاعتك أن تقول عن المسيح أنه عزيز لديك، وإنه يسدي إليك العون في تجاربك، لكن لو كانت لك زوجة توفيت كزوجتي وتركت لك أطفالاً صغاراً. يبكون وينادون على أمهم أن تأتي إليهم وليس من يحير جواباً!! لو كان هذا حالك ما كنت تستطيع أن تتكلم بما تكلمت به اليوم».
وبعد مدة وجيزة راحت زوجة هذا الخادم الجليل ضحية حادث من حوادث القطارات، وكانت موهوبة وفاضلة وحكيمة، فأتوا بالجثة إلى شيكاغو للصلاة عليها، فوقف الخادم المجرب بعد الخدمة وألقى بنظرة إلى الزوجة الراحلة، وقال: «منذ مدة قال لي أحدكم إني لا أستطيع أن أقول أن في المسيح كفايتي، لو توفيت زوجتي وتركت لي أولاداً يصيحون في طلبها، فإذا كان هذا الشخص موجوداً الآن في هذا المكان فإني أقول له إن المسيح كاف جداً وأن صليبه سرّ عزائي، صحيح أن قلبي مكسور وممزق ولكن هناك سلاماً تتردد أصداؤه في قلبي، والمسيح هو مصدر هذا السلام، لأنه يتكلم بالتعزية إليّ اليوم».
ولقد كان ذلك الرجل موجوداً في الاجتماع، فتقدم وركع بجانب التابوت، وصلى قائلاً: إنني أسلم لك نفسي أيها الرب يسوع، ما دمت تستطيع أن تعزي الإنسان بهذا العزاء الجميل!!
والموت المزدوج هو موت العالم في نظر المؤمن، وموت المؤمن في نظر العالم، وهذا ما يقوله الرسول «الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم» فالمؤمن ينظر إلى العالم فيراه مصلوباً أمامه، ولا يجد فيه إغراء أو جاذبية لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة وهذه كلها قد صُلبت في الصليب، ونرى مثالاً لهذا في احتقار موسى للعالم كما يقول كاتب العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا ٱلصَّبِيَّ جَمِيلاً، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ ٱلْمَلِكِ. بِٱلإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِٱلأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ ٱللّٰهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِٱلْخَطِيَّةِ، حَاسِباً عَارَ ٱلْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمُجَازَاةِ» (عب 11: 24-26). فموسى حسب عار المسيح الذي هو الصليب غنى أعظم من خزائن مصر، وكان الصليب هو سر انتصاره على العالم، ولذا فالرسول يحضنا على السير في ذات الطريق قائلاً «لِذٰلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ ٱلشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ ٱلْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْهِ خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لٰكِنَّنَا نَطْلُبُ ٱلْعَتِيدَةَ» (عب 13: 12-14). فهل صلبنا الجسد مع الأهواء والشهوات وخرجنا وراء ربنا خارج المحلة؟
يحدثنا الرسول عن اختباره قائلاً «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلا 2: 20) أجل جاء يوم ذهب فيه بولس إلى الجلجثة، وتمدد على صليب المسيح، وقال يناجي رب الصليب «يا سيد سمّر يدي اللتين قبضتا على المسيحيين وعذبتاهم وسمّر قدمي اللتين سارتا في طريق تحطيم عملك، وكلّل رأسي الذي فكر بالأفكار الرديئة بإكليل الشوك، واطعن قلبي الخدّاع النجس بحربة الموت. لكي أموت أنا وتحيا أنت يا سيدي فيّ». ومن ذلك اليوم مات بولس ليحيا المسيح فيه.«وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلا 5: 24).
هذا هو الحق اللامع في رسالة العبرانيين إذ يقول الرسول «فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِٱلإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ»(عب 4: 14-16) ثم يعود قائلاً«فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِٱلدُّخُولِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ ٱلإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ ٱلرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ ٱلَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ» (عب 10: 19-23). وهكذا نرى أن أساس شركتنا مع الله، وثقتنا في الدخول إلى عرش النعمة، وإيماننا الراسخ في استجابة صلواتنا هو «دم الصليب» كما هو مكتوب «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ» (رو 8: 32).
والآن!! ما هو موقفك إزاء المسيح المصلوب؟ لقد سأل بيلاطس اليهود قائلاً: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟» (متى 27: 24) وهذا سؤال شخصي يجب أن توجهه لنفسك بعدما عرفت حقيقة شخصية المصلوب، وأن تقرر نهائياً إجابتك على هذا السؤال الخطير؟!
فما هو قراراك؟! هل قررت أن تهمل التفكير في شخص المسيح؟ أو عزمت على أن تفضل عليه شرّك وخطاياك؟ أو قررت أن تقبله في حياتك، وتخصص عمله الفدائي لنفسك؟
يحدثنا دكتور «إيرنسيد» عن جندي من جنود الحرب الأهلية الأمريكية ساءت أحواله حتى صار يعيش في فقر مدقع. لكن السلطات الأمريكية فكرت في أن ترسله إلى مزرعة تعول فيها الفقراء، ولما جاء مندوب الحكومة يحمل هذا الخبر للجندي البائس الفقير، رأى على حائط كوخه المهدم إطاراً لم يكن هذا الإطار صورة، وإنما كان فيه ورقة تشبه «الشيكات». وتقدم مندوب الحكومة وانتزع الإطار من على الحائط وأخرج الورقة، وإذ به يجدها «شيكاً» على الحكومة بإمضاء الرئيس لنكولن ليصرفه ذلك الجندي مكافأة له على خدمته!! ولما سأل المندوب ذلك الجندي العجوز لماذا احتفظ بهذا الشيك؟ قال: احتفظت به لأنه يحمل إمضاء إبراهام لنكولن!!! وهنا هتف به المندوب قائلاً: أيها الرجل، هذه الورقة تحمل لك ثروة ضخمة ومع ذلك فأنت تكتفي بالتطلع إليها كل صباح وتعيش في هذا الفقر المرير!! وصرف الرجل الشيك وعاش بقية حياته في راحة ورغد واستقرار.
فهل تكتفي بأن تعلق صليباً في بيتك، أو على صدرك، وتعيش حياة الخطية والفتور، والجفاف وتموت دون أن تتمتع بما لك من حقوق في الصليب!! أو تسرع إلى الله وتنال غفرانه بالتوبة والإيمان بعمل الفداء العجيب؟!! إن الصليب هو الحد الفاصل بين الهالكين والمفديين فعلى أي جانب أنت؟!
بقيت كلمة أخيرة يجب أن نقولها: هي أن الصليب لم يكن خاتمة حياة المسيح، لأن ذاك الذي مات على الصليب، قام ظافراً منتصراً في فجر الأحد، وظهر بعد قيامته لأكثر من خمسمئة أخ، ثم صعد بعدئذ إلى السماء وسكب على تلاميذه الروح القدس.
لكن الصليب قد غير كل شيء، فمشهد العصيان والطرد والمذلة الذي رأيناه في سفر التكوين سيتبدل إلى مجد لا يزول، وذاك الذي صلبته الخطية على الصليب نراه مكللاً بالمجد والكرامة مع جمهور المفديين!!
وهذا هو المنظر الختامي لسفر الرؤيا سجله يوحنا بالكلمات «وَأَرَانِي نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ ٱللّٰهِ وَٱلْحَمَلِ. فِي وَسَطِ سُوقِهَا وَعَلَى ٱلنَّهْرِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ تَصْنَعُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ ٱلشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ ٱلأُمَمِ. وَلاَ تَكُونُ لَعْنَةٌ مَا فِي مَا بَعْدُ. وَعَرْشُ ٱللّٰهِ وَٱلْحَمَلِ يَكُونُ فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ. وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَٱسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ. وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ سَيَمْلِكُونَ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 22: 1-5).
لكن أين سيكون هذا المشهد الرائع الجميل؟ إنه سيكون في مدينة الله الحي التي وصفها يوحنا قائلاً «وَكَانَ بِنَاءُ سُورِهَا مِنْ يَشْبٍ، وَٱلْمَدِينَةُ ذَهَبٌ نَقِيٌّ شِبْهُ زُجَاجٍ نَقِيٍّ. وَأَسَاسَاتُ سُورِ ٱلْمَدِينَةِ مُزَيَّنَةٌ بِكُلِّ حَجَرٍ كَرِيمٍ. ٱلأَسَاسُ ٱلأَّوَلُ يَشْبٌ. ٱلثَّانِي يَاقُوتٌ أَزْرَقُ. ٱلثَّالِثُ عَقِيقٌ أَبْيَضُ. ٱلرَّابِعُ زُمُرُّدٌ ذُبَابِيٌّ ٱلْخَامِسُ جَزَعٌ عَقِيقِيٌّ. ٱلسَّادِسُ عَقِيقٌ أَحْمَرُ. ٱلسَّابِعُ زَبَرْجَدٌ. ٱلثَّامِنُ زُمُرُّدٌ سِلْقِيٌّ. ٱلتَّاسِعُ َاقُوتٌ أَصْفَرُ. ٱلْعَاشِرُ عَقِيقٌ أَخْضَرُ. ٱلْحَادِي عَشَرَ أَسْمَانْجُونِيٌّ. ٱلثَّانِي عَشَرَ جَمَشْتٌ. وَٱلٱثْنَا عَشَرَ بَاباً ٱثْنَتَا عَشَرَةَ لُؤْلُؤَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ ٱلأَبْوَابِ كَانَ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَسُوقُ ٱلْمَدِينَةِ ذَهَبٌ نَقِيٌّ كَزُجَاجٍ شَفَّافٍ» (رؤ 21: 18-21).
إذاً فقد زالت اللعنة، وزال التعب والجهاد، وزال الحزن والكمد، وانتهى الوجع والصراخ، وابتلع الموت إلى غلبة وصدحت موسيقى السرور في أرجاء المدينة الذهبية ذات الأبواب اللؤلؤية!!
أما إبليس أصل الشر والتمرد والعصيان فنقرأ عنه «وَإِبْلِيسُ ٱلَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ وَٱلْكِبْرِيتِ، حَيْثُ ٱلْوَحْشُ وَٱلنَّبِيُّ ٱلْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ 20: 10).
وهكذا يتم برنامج الله الذي قصده للإنسان، في كمال وإتقان!! فيحق لنا أن نقول مع يوحنا التلميذ الحبيب «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ! مِنْ أَجْلِ هٰذَا لاَ يَعْرِفُنَا ٱلْعَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ. أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يو 3: 1 و2).
هذا المجد الفائق، وهذه الامتيازات العظمى، وهذه البركات الثمينة التي تنتظر المؤمنين الحقيقيين المغسولين بالدم، قد صارت لنا عن طريق الفداء الذي أتمه مخلصنا على الصليب.
لذلك يحق لنا عن يقين أن نفتخر بالصليب، بل يحق لنا أن نردد النشيد ونعيد:
قد فديتني وامتلكتني | يا مخلصي المجيد |
إنما أنا بغيتي هنا | أن إيماني يزيد |
اجذبني يا رب للصليب | اجذبني أيا حنون |
اجذبني إليك أيها الحبيب | إلى جنبك المطعون |
شبرا مصر في 8 أكتوبر 1956
ان كان لديك أي أسئلة أو استفسارات عن هذا الكتيب، يمكنك الكتابة إلينا مباشرة عن طريق استمارة الاتصال الموجودة على الموقع.
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
للاتصال بنا