خَواطِر مُسْلِم فِي المَسْألة الجِنْسِيّة
مُحَمّد جَلال كِشْك
بأمر القضاء
الطبعة الثالثة
رجب1412هـ / يناير1992م
مكتبة التراث الإسلامي
عابدين – القاهرة
ــــــــــــــــ
قبل أنْ تبدأ....
عزيزي القارئ،،،،، تم نقل هذا الكتاب بكل أمانة،،،، وإن كنا لا نوافق الكاتب في ما ورد في هذا الكتاب بالنسبة إلي تصريحاته في مواضع كثيرة بتحريف الكتاب المقدس بعهديه، وإستناده علي مرجعين ( الجنس فى التاريخ ، المسيحية واللواط ) في تشويه معتقدات الكنيسة في الزواج، وإيهام القارئ بأنَّ الإسلام هو من عرّف المسيحية، والمسيحيين بالعذراء القديسة مريم ، وما تطرق إليه من شرح في اللذة الجنسية والشذوذ الجنسي ومحاولته تشويه التعاليم المسيحية ورأي الكنيسة في الزواج... وللأسف أنَّ رأي لجنة مجمع البحوث الإسلامية لم تنوّه في تقريرها عن الكتاب، ولو بإشارة واحدة، إلي التعّرض لمعتقدات الأديان الأخري لتكون مرشدًا ومعلمًا للمواطنين في قبول الآخر، كإنسان، مهما إختلفت ديانته أو معتقداته. ******* وسوف نقدم لسيادتكم، في وقت قريب، كتاب " الجنس ومفهومه الإنساني" لكوستي بندلي.الذي يقول أنَّ الجنس ليس حاجة بيولوجية بحتة، وهو إذن، لا يهدف إلي إزالة توتر عضوي فقط، إنّ وصال وجماع مع الآخر، يزيل العزلة التي يشكو منها الإنسان.وأن تحرير الجنس في المجون المعاصر ما هو إلا عبودية أقصي من عبودية الصمت والجهل والخوف... وكيف لا يكون ذلك حين يبطل الشخص الآخر ويصير التركيز علي اللذة الجنسية والتهالك عليها كمية وتفننًا، لا نوعًا وعاطفة. وهنا يدبّ السأم والفراغ...إنّ الحب لا يبطل العلاقة الجنسية، ولكنه وحده يجعل منها وصالاً لا احتكاكًا خارجيًا بين عزلتين متقابلتين... وما العفة سوي الحرص علي أن يحتفظ هذا اللقاء بمرماه الاتحادي... فالعفة ليست سلبية، بالمفهوم التقليدي الموروث، الخوف من الجنس، النرجسية، الكبت بجميع معانيه وأبعاده. فما هذه إلا عفة زائفة... إن الجنس سعي إلي المطلق عن طريق الحب الذي فيه يتبلور الجنس ويتسامي...علي أنّ المطلق لا يُدرك بالحب الذي يستقطبه... لذلك لا يقترن الحب بالسعادة، بل بالكآبة والحنين أيضًا. وهنا يجئ دور الله. فهو المشتهي بالحقيقة وإليه تسعي في آخر المطاف حركة الجنس عند الإنسان... وبإيصالنا إلي الله ينهي المؤلف رحلته البهيجة الهانئة في مجاهل الجنس وآفاقه الرائعة... وهي رحلة فريدة في نوعها، علي الأقل في تراث اللغة العربية... |
ــــــــــــــــ
جَلد عَميرة وعَامرة.......
الملاعبة دونَ المواقعة....
الزّنا....................
الشذوذ الجنسيّ..........
غلمَان مُخلّدون..........
ــــــــــــــــ
هَذا كتاب
محمد جلال كشك
الكاتب المصري المعروف
يُقدّم هذه المرّة دراسة هي الأولى من نوعها في موضوعها، وصراحتها، واستنادها إلي الأدلّة الشرعيّة، والوقائع التاريخيّة، وحقائق العالم المعاصر.
وإذا كان المؤلّف قد اشتهر بمؤلّفاته السياسيّة والتاريخيّة المميّزة، فإنَّه في هذا الكتاب يخوض تحدّيًا لم يسبقه إليه باحث باللغة العربية. وذلك من خلال عرض مفهومه كمسلم لكافة قضايا الجنس، في محاولة لاكتشاف القوانين الحضاريّة التي تتحكّم فى السلوك والأخلاقيات، مع التركيز على دراسة ظاهرة انتشار الشذوذ الجنسي في مرحلة انهيار الحضارة الإسلاميّة. ومقارنة ذلك بما حدث في الحضارات الغربيّة... ومنهاجه في ذلك البحث هو ما لخّصته الناقدة اللبنانيّة الأستاذة هالة العوري في تعليقها علي الطبعة الأولى بقولها:" إن الأستاذ محمد جلال كشك يعمل على تفهّم الحكم الإسلاميّ، بصدد العلاقات الجنسيّة، فى صورته الفطريّة الأولى... بهدف العودة – على حدّ قوله – إلى دين الفطرة والبعد عن تديّن أهل الحرفة ".
وهو في هذا الكتاب يطرح قضايا قديمة ولكن بصيغةٍ جديدةٍ، كما يطرح لأوّل مرّة تساؤلات جديدة تمامًا ويقترح لها حلولاً مثيرة في جدّتها وبساطتها. وقد لا نتّفق مع كلّ ما يطرحه ولكنّه بالتأكيد جديرٌ بالتأمّل والمناقشة.
وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قد صُودرت ثم أفرج عنها القضاء بناء على تقرير اللجنة التي شُكّلت من مجمع البحوث الإسلاميّة، وقد أضيف نصّ التقرير ومنطوق الحكم إلى هذه الطبعة المنقّحة.
إنها معالجة صريحة متميّزة، لقضيّة الجنس بكافة أشكاله، ممارسةً وميولاً...
الناشر
ــــــــــــــــ
الفهرس
ــــــــــــــــ
-5-
" قالوا أيأتي أحدنا شهوته فيُثاب عليها؟
قال نعم..." الحديث
صلوات الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــ
-7-
إذا أراد الله نشر فضيلة طُويت أتاح لها لسان حقود حسود ممعود وهذا ما حدث في كتابي هذا فقد حرصت عندما أصدرته، على أنْ أتحمّل مسئوليته كاملة، فسميته خواطر مسلم، وكما قلت في مقدّمة الطبعة الأولى، لم أنسبه لرأي الإسلام، ولا حتى إدّعيت الاجتهاد فيه... وإنما قلت هى خواطري كمسلم فإن أصبت فبتوفيق من الله، وإن أخطأت طلبنا المغفرة، وتعلّمنا ممن ينصح ويُرشد.
ولو مضى الأمر كما فكرنا ولم تعترض الكتاب مشاكل، لبقت فى نفس الكثير من القراء بعض الشكوك والظنون حول ما وصلنا إليه من تحليلات وأفكار، خاصّة وأنا لا من رجال الدين، ولا من فقهاء الإسلام.
ولكن العبد فى تفكير والرب فى تدبير، فقد أهديت النسخة الأولى من الكتاب
ــــــــــــــــ
-8-
لصحفي يكبرني فى السن، كثير القراءة، قليل الابتكار... أغْدَقت عليه الأوضاع فأسْرَفَت بنصف زينة الحياة الدنيا، ولكنه حُرِم القناعة، ورضا النفس، يحسد الناس علي العلم والمعرفة، ولو أخلص النية لكان من أبرز مثقفي جيله. أذهله ما بالكتاب من فتوح فكرية، وإلمام بتطوّر التاريخ والفكر لبعض قوانين انبعاث الحضارات وانهيارها، وما غفر لنا أننا لم نصفق في الأسواق، ولا نافقنا الحكام فجعلنا الحمار ينطق بفلسفة سقراط، ولا أضعنا عمرنا في الكتابة الرخيصة التى تغرر بالقاريء ولا تثقفه، حسدنا علي الجهد والمشقة، والغربة في الخارج والداحل، والحيف والظلم اللذين نزلا بنا... فوشي بالكتاب إلى السلطات التي صادرته وقدّمتنا للمحكمة... وكانت إرادة الله! فقد قررت المحكمة بجلسة 22/7/1984 ندب رئيس المجمع لقراءة الكتاب وإبداء الرأي فيه... واستغرقت دراسة اللجنة ما يقرب من عام، كنت قد أصدرت خلالها طبعة ثانية من الكتاب في أوربا سميّتها، الطبعة الحرة.
وصدر قرار لجنة مجمع البحوث الإسلامية ببراءة الكتاب، وخلوّه من أي تعارض مع الدين الحنيف لا نصًا ولا تأويلاً... وهكذا كان الظنّ فى الأزهر ورجاله الكرام، وبناء على تقرير اللجنة أصدرت المحكمة أمرها بالإفراج عن الكتاب فورًا وانصاعت السلطة التنفيذية... وباء الواشي بالعار والخيبة.
ولاشك أنَّ هذا الذي حدث من استفتاء ثمّ حكم القضاء، قد أخرص ألسنة سوء ودّت لو نهشت، فكان حظّها أن تسممت هي بعض لسانها، كما أزال الشك من نفوسٍ مؤمنة، كانت بحاجة لطمئنة قلبها.
ونزل الكتاب في أسواق مصر في أسوأ طباعة! ومع ذلك فقد نفذت طبعتاه القاهريّة والأوربيّة، وكتب إليّ الكثير يشكرون ويقولون أنَّهم حرصوا علي أنْ تقرأه بناتهم وبنوهم... وقد اشتري مثقّف عربيّ مائة نسخة ليوزّعها علي مشايخ بلده. بينما استمرّ البعض في الكيد والتنبيط والتزوير الفاجر، دون أنْ يجرؤ واحد علي
ــــــــــــــــ
-9-
مهاجمة أو نقد الكتاب صراحة أو كتابة. ولو فعل أحدهم لجعلته نكالاً لمن خلفه! حتى الذى استغلّ مركزه كأستاذ في إحدى الكليات فهاجم الكتاب بين تلاميذه دون أنْ يعرف حتى اسمه فقال إنه كتاب خواطر مسلم في الثقافة الجنسية. وجهله بعنوان الكتاب يكشف جهله بمضمونه. أو قل تزويره لاسم الكتاب ينبيء بمدى صدقه في عرض موضوعه، ولو كان كتابه يبيع نسخة واحدة خارج نطاق أسرى امتحاناته... لرددّت عليه.
وقد عتب البعض لما كتبته عن ابن حزم وراحوا يشيدون به، وأنا أعلم منهم بقدره رحمة الله عليه كان عالمًا وفقيهًا موسوعي الثقافة. ولكنه كان أيضًا إفراز عصره وكان غفر الله له، صادقًا في تسجيل أمراض هذا العصر. التى سبّبت هذه الأعجوبة النادرة. أعني زوال أمة وحضارة بعد 800 سنة من استقرارها، وعلي يد الأكثر تخلفًا... ما تفسيركم إلا ما قلته أنا؟. بل إننى أزعم أنَّ ما قلته هو التفسير الوحيد الذي برأ الإسلام مما ارتكب المنتسبون إليه. الذين تسبّبوا في هزيمته بفسق مترفيها... وتطهر الكفار فحق على حضارتنا الدمار... .
وقد يحاول خناس وسواس أنْ يُثير بعض القول حول دراستي الجديدة عن غلمان الجنّة. ولكن ليتمعّن القاريء فيما كتبناه. وليذكر قول الإمام " أحمد الراغب " عن لذّات الجنة " إذا اختلفت الشهوات لم يبعد أن تختلف المعطيات واللذات. والقدرة واسعة والطاقة البشرية عن الإحاطة بعجاثب القدرة قاصرة، والرحمة الإلهية ألقت بواسطة النبوة لكافة الخلق القدر الذي احتملته أفهامهم فيجب التصديق بما أفهموه والاقرار بما وراء منتهى الفهم "(1)... ثم أطرح السؤال الذي واجهت به كاتب الوشاية الأولي... هل الغضب من إثباتنا التحريم في الدنيا أم من ظننا المثوبة في الآخرة؟ا ... على أية حال لم يستطع أحد أنْ يُعارض ما ذهبنا إليه صراحة حتى اليوم!
ـــــــــــــــ
(1) عن الإمام الراغب ص 130 الإسلام والجنس.
ــــــــــــــــ
-10-
وقد فوجيء البعض باكتشافنا - أي والله أقول اكتشافى - أنَّ الرجم ليس في القرآن نعم فوجىء هذا البعض وكأنَّه يسمع بذلك لأوّل مرّة وكلهم هرعوا يصرخون ... نعم ولكنها ثابتة بالسنّة وأنت تريد إلغاءها لأنها لم ترد فى القرآن!! ... حقًا يكاد المريب يقول خذونى ... لقد دعوناكم لتأمل حكمة الله فى نسخ آية الرجم ومحوها من كتابه، سبحانه وتعالي.
وقد يبدو غريبًا، للبعض أن يكون شيوخنا أكثر فهمًا وتفهمًا وأرحب صدرًا وأوسع أفقًا من المتفرنجين، ولكن لا غرابة، فالمتفقه في الإسلام هو دائمًا أبدًا المؤمن بحرية الفكر الأقدر على استشفاف التفوق الحضاري الذي جاء به الإسلام!! ... أنه الدين الذي لم يضع قيدًا على الفكر، ولا إكتفي بإقرار حق الخطأ بل كافأ المفكر الحرّ أو المجتهد حتى على الخطأ. فتحية لشيوخ الأزهر وللقضاء.
وقد قالت: الأستاذة اللبنانية هالة العوري في مقدمة ترجمة كتاب الإسلام والجنس للدكتور عبد الوهاب بوحديبه أنَّ كتابه هو المبادرة البكر ثم قالت: " وقد طُرح فى العربية بعد ذلك كتاب باسم " خواطر مسلم فى المسألة الجنسية " للأستاذ محمد جلال كشك، وبين الكتابين دائرة متشابهات واسعة ودائرة فروق ضيقة، ويمكن تلخيص دائرة المتشابهات بأنِّ الكتابين يصدران عن فكر حر وسعة أفق فى الإطلاع وخروج عن التقليد في الفهم. وأمّا دائرة الفروق فترجع إلي اختلاف زاوية المعالجة لكلا الكاتبين. فالدكتور عبد الوهاب بوحديبه يتلمّس الرؤية القرآنية والسلوك النبويّ في المسألة موضع البحث ثم يمضي متابعًا ما حلّ بهذه الرؤية وبذلك السلوك علي أرض الواقع، علي حين أنَّ الأستاذ محمد جلال كشك يعمل علي تفهّم الحكم الإسلامي بصدد العلاقة الجنسية في صورته الفطرية الأولي... وكلا الكاتبين يهدف إلي، علي حدّ قول الأستاذ كشك، بالعودة إلي دين الفطرة والبعد عن تديّن أهل الحرفة..".(1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الاسلام والجنس / عبد الوهاب بوحديبه / ترجمة واعداد هالة العورى ص 9.
ــــــــــــــــ
-11-
ولي ملاحظة ونقطة نظام ثم تعليق ...
إذا كان كتاب الدكتور بوحديبه ظهر قبل كتابى باللغة الفرنسية فأحبّ أنْ أشير إلي أنني لا أقرأ الفرنسية، من ثم لم تتحْ لي فرصة قراءته. وكتابي هو البكر باللغة العربية.
نقطة النظام أنَّ كتابي يختلف في منهجه ومعالجته وهدفه اختلافًا جوهريًا عن كتاب الدكتور ... فأنا أهلت التراب علي فكر التخلف عندما سلطت عليه نور الفكر الإسلامي في جوهره النقي البسيط الشامخ، وكان همّي طرح التفسير الحضاري للسلوك الجنسي، وأظن أنني مبتدع في ذلك غير متبع. أما هو فقد غرق في وحل التخلف إلي عنقه يستخرج العجائب والعقارب. مثل اعتماده علي الفتاوي الهندية التي جمعت من فقهنا كل متخلف، أنظر استشهاده بالإستبراء والإستنجاء ص 79 لإضحاك الغرب وإدخال السرور علي الأستاذ الفرنسي. وإنْ كان الدكتور لايُعادي الإسلام، إلا أنَّه متأثّر بدراسته الفرنسيّة وما طرحه المستشرقون من مضحكات التفاسير، مُسمّم بالفرويديّة السوقيّة التى لو قرأها سيجموند فرويد نفسه لتبرّأ منها ... لا وجه للشبه بين منهجي وبين استخراجاته الجنسيّة من كلّ شيء، بما يعني السقوط مرّة أخرى في التفسير الذي يجعل الإنسان مُجرّد جهاز جنسي ... فالغُسل الذي أُمِرْنَا به بعد الجماع والذي فسّره الشيخ حسن البنا قبل خمسين سنة، بأنه للتنشيط ... يراه هو " الغُسل يحتوي على مغزى ميتافيزيقي " ص 92، وهو يرفض تفسير ابن خلدون الذي استوعب الفكر الإسلامي في ذروة تفوقه، ومن ثمّ قال أنَّ الانتعاش الذي يعقب الحمام هو بتأثير الحرارة علي التوازن الفسيولوجي ( المقدمة 86)، أمّا صاحبنا الذي فسد بالدراسات النفسيّة السوقيّة فهو يرفض ذلك ويجعله يرجع إلي الإحساس بالسعادة النفسيّة المطلقة التي تسترد من خلال الحلم الكلي الذي يزدهر في الحمام ذلك المكان الذي يُمكن فيه ترويض كل شيء " ص 240.
حبظلم!.
ــــــــــــــــ
-12-
طب وحمام البيت ؟ّ! واللى ما راحوش حمّام السوق ولم يمرّوا بالتجربة التى خصّص لها فصلاً كاملاً ... الذين لم يروا نساء في طفولتهم بالحمام ولا رجالاً فى شابهم ... لماذا ينتعشون بعد الحمام؟ هل كان عبد الوهاب أو مستمعوه يذهبون للحمامات ويمارسون الحلم الكلي عندما غنّي لهم : طاوعني وخدلك حمام؟. وهو الذي بدأ بالاستشهاد بالأغنية في تحليل مضحك، حول اهتمام العرب بالأرداف، وكأن مارلين مونرو وبيرجيت باردو، كانتا تعرضان صورة بالأشعة للهيكل العظمى، مكتفيتان بالفن الرفيع أو أنهما كانتا تهزان أردافهما للعرب فقط ؟!.
وهو يسفّ عندما يحلل قضية الأرداف فيتساءل، " ما هى المشاعر التي ألهبتها إيماءات الصلاة " ص 275، ومن الأرداف ينقلنا إلي تحليل اهتمام العربي بإخراج الريح من أسفل وأعلى ويصرعنا بتحليل يقول: " بل الواقع أنَّ الإنسان العربي يعمد إلى إثارة الريح وذلك بحرصه علي تناول المشروبات الغازية وسترات المغنسيوم، وأحيانًا يتغنّي بسحرها: " ما اشربش الشاي اشرب غازوزة أنا " ... حيث ترمز قوة فقايع المياه الغازية إلى خصوبة الرجل مما يثير الخيال ويدفع إلى التحرّر عبر الفهم ... ولا يملك المرء سوي الإعجاب بالإحلال الرمزي من الأسفل إلى الأعلي ومن الحالة السائلة إلى تلك الهوائية ... فالمياه الغازية هي المشروب المُسْلم الموازي للنبيذ في الغرب، فهو ماء الشباب المنعش المؤدّي للتجشؤ والتحرّر بأسلوب أكثر براءة من الخمر، ولكنه ليس خاويًا من الممارسة التعويضية، فالميول الإستعراضية والصوت الرنان والاسترسال فى اللامبالاة والاضطراب الجنسي كلها لا تفتقر إلي المغزي الجنسي " ص 281.
كل هذا يحدث لنا عندما " نطرّي على قلبنا بإزازة كازوزة " بعد أكلة عدس أو طعام مغربىّ حارّ غارق في التوابل ؟! الظاهر إن أمريكا أسلمت لأنها تمتلك شركتين للمياه الغازية في العالم ... بل الإسلام ينتشر مع مصانع الكوكاكولا التى تفتح في روسيا والصين!!!!.
ــــــــــــــــ
-13-
الظاهر أنَّه لايعرف أنَّ مؤلفة الأغنية سيدة وليس رجلاً خصوبته فقافيع غازية!!!، بل يكفي إدراك الفارق بين منهاجي ومنطقه في المقارنة بين استنتاجه واستنتاجاتي من حديث سوق الصور في الجنة.
ولا أدري من أين أتي بمقولة أنََّ " لعنة الله تلحق أيضًا هؤلاء الذين يمارسون الإستمناء ... إنَّها أساليب محرفة تعني في جوهرها رفض الإنسان لنوعه".ص60.
هذه مجرد نقطة نظام فلست أريد مناقشة الكتاب.
والتعليق هو:
أنه في ظروف لبنان استطاعت مثقفة، دون أدني معرفة شخصية، أنْ تحصل علي كتابي وتدرسه وتستقصي مضمونه وتتناوله بهذه الملاحظة وهي تترجم كتابًا في ذات الموضوع فتأبى أمانتها العلميّة وشرفها الثقافي إلا أن تشير إليه وتثبت حق مؤلفه. بينما لم تكتب عنه كلمة نقد واحدة من العصابة التي استولت علي المنابر الإعلامية في مصر وجثموا علي صدر الثقافة حتي كتموا أنفاسها! ثم يغضبون لأنَّ واحدًا قال مصر لم يعدْ فيها ثقافة، لم يبقَ بها إلا سعاد حسني ... قتلتم الإبداع وعصفتم بالثقافة - علي الأقل في جيلكم - يوم خنتم أمانة النقد، وقد كانت مصر تتزعم العالم العربي، يوم كان فيها نقاد يسعون إلي دراسة وتقييم كل ما يستحق النشر ... أما الآن فهم لا يقرأون إلا ما يُهدي لهم ولا ينقدون إلا للتدمير إنْ ظنوا أنَّ بهم قدرة علي ذلك، أو لمصلحة شخصية كالتقرب إلي المؤلف. وتأمل ثم ابصق في احتقار، لتزاحمهم علي الكتابة، إذا ما أصدر مسئول أمّي أو رئيس مجلس إدارة مؤسستهم، كتابًا في مستوى شرشر، تراهم يتبادرون لمدحه، كالمحبظتية. لا يخجلون، لا يستحون وهم يقولون للعاتبين ... ماذا نفعل أكل العيش عايز كده! وبعضهم يمارس شعار شيلني واشيلك أو أنقدني وأنقدك. أو يبتز دور النشر فينقد كتبها مقابل نشر كتاب له!! الناقد الفني يفرض نفسه علي المسلسلات والسينما. والناقد الأدبيّ يفرض مؤلفاته علي دور النشر!
ــــــــــــــــ
-14-
يسيطر عليهم حقد أسود ورعب من الكفاءة، وفزع من الغريب عن المافيا، ورغبة في خنق كل الأصوات وخاصة النابغة.
تحية للمثقفة اللبنانية والعار لتجّار الكلمة الذين حالوا دون تجمع المثقفين اللبنانيين في مصر. ولطالما تبنتهم لبنان واتسع صدر مثقفيها لهم... .
عد يا لبنان لتكشف الزيف الذي حجب وجه مصر المشرق.
ديسمبر1991
القاهرة – المعادي
ــــــــــــــــ
-15-
هذا بحث سيقول القاريء المحب، ما كان أغناه عنه، لماذا لم يقل مثلما قال أبو حنيفة، عندما دعوه للقضاء لعله ينصر مظلومًا أو يُقرّ حقًا، فاعتذر قائلاً: " إذا سقط السابح في المحيط .. فما عساه يسبح .. ؟.
سيتساءل القاريء المحب: لماذا ألقينا بأنفسنا في المحيط نخوض عبابه أو نخاطر بأنفسنا في مجال شديد الحساسية، يتحرّج الناس فيه من السماع، فضلاً عن القول: ويحي! بل الإسهاب في القول ...؟. وسيقول المتربّص؟ هذا هو الباحث عن حتفه بظلفه ... اشحذوا السكاكين فقد وقع الثور ... .
ولكن شكرًا لأحبائي ... وللآخرين موتوا بغيظم .. فليس علي مسلم من حرج إنْ فكّر أو شكّ وقد علمنا أنه ليس فى الدين من حرج، ولا في العلم ... ونحن - كما قلنا في أول كتاب إسلامي لنا - ننتمي لدين يحرّض على التفكير والاجتهاد، فهو يكافيء المجتهد المخطىء ... ولا يكتفي بعدم معاقبته ... ديننا تخطّى حتى ما وصل إليه فلاسفة الحرية، في تعريفها بأنَّها حق الخطأ! إذ أنَّه يُكافيء علي الخطأ كما ورد في حديث للمجتهد إن أصاب أجران وإن أخطأ أجر. ولمن أراد أن يحاسبنا، فليحتكم للقرآن والسنة والسلوك الإسلامي ... فقد إلتزمنا وبذلنا غاية
ــــــــــــــــ
-16-
الجهد في استباط الأدلة من هذه المصادر الشرعية ... وما قصدنا إلا مرضاة الله، وخدمة المسلمين. وما عدا ذلك فلست أبالي ... .
المسألة الجنسية تشغل حيزًا لا يُستهان به من تفكير الإنسان، ونشاطه، وتتحكّم إلي حدٍّ ما في تصرفاته بل ومواقفه ... وإذا كان من الخطأ النظر للإنسان كظاهرة جنسية فقط كما يفعل تجار الجنس وفلاسفة الغرب، فإنَّه لخطأ أكبر أنْ يُنظر للجنس كظاهرة عارضة أو عيب أو دنس لا يجوز الاهتمام به! فليس هذا من ديننا ولا من حضارتنا كما سيرى القاريء ... والمسألة الجنسية تشغل بال الشباب، ومع ذلك فهى من المحرّمات يحوم حولها الكتّاب، ولا يقتربون منها، وبالذات الإسلاميين منهم! تاركين لأعداء الإسلام، وأعداء حضارتنا، الفرصة لينشروا مفاهيمهم، ويزرعوا سمومهم في عقول وقلوب الشباب المسلم، الذي لم يعد يعيش لا بسلوك إسلامي، ولا يوجّهه فكر إسلامي ... .
وإذا كانت الآراء التى طرحتها هنا في موضع العادة السرية، والجنس بغير الجماع، والزنا، تُعدّ جريمة، إلا أنَّ ما طرحته في باب الشذوذ الجنسي يُعتبر جديدًا بالإضافة إلى جزء صغير في موضوع الزنا، وهو القول بأنَّ الرجم سنَّة، وليس فى القرآن. وأنَّ لله سبحانه وتعالى حكمة في نسخ آية الرجم، يجب أنْ نتدبّرها لا أنْ نُخفي رؤوسنا وراء واقعة أنَّ النبي رجم ... فلماذا يقرّر الله الرجم في القرآن ثم ينسخه، ويأمر رسوله بحذف الآية تمامًا فلا تبقى ولا حتى فى صدور الرجال ... وما كان لما نسخه الله أنْ يقى أو أنْ يتلوه الرجال ... .
أقول باستثناء هذه الخاطرة في موضوع الزنا، فإنَّ البحث يتركّز في موضوع الشذوذ الجنسي الذي طرحته في إطار المواجهة الحضارية الأبدية بين الشرق والغرب ... .
وهذه المواجهة هى شغلي الشاغل. فأنا أنظر للإسلام كفلسفة وهوية وشخصية لحضارتنا الشرقية، والكلمة الأخيرة في مواجهة هذه الحضارة مع أوروبا أو الغرب .. فمنذ الصراع الفارسي - الإغريقي بدأ الصراع بين شرق وجنوب البحر
ــــــــــــــــ
-17-
الأبيض من ناحية وغرب وشمال هذا البحر، ثم بدأت الدائرة تتسع، وتمدّ كل جبهة خطوطها وراءها ومن حولها ... إلى أنْ جاء الإسلام وانتصر الشرق على الغرب سبعة قرون أو ثمانية، ليعود الغرب فيكرّ علي الشرة كرّة ما زلنا نعيش فى آثارها ...
وقد عالجت موضع الشذوذ الجنسي في إطار هذه المواجهة، لأنني توصّلت إلى رأي يخالفني فيه كثير من الباحثين، وهو أنَّ هذه الظاهرة، عندما تخرج من الإطار الفردي لتصبح " فاحشة " علي مستوى المجتمع، إنما يحدث ذلك في مرحلة الأفول الحضاري، بعكس مرحلة التحرّر أو النهوض الحضاري حيث تصبح أبشع جريمة. ووضّحنا الأسباب، وأكّدنا أنَّه لا يُمكن أنْ ينهض مجتمع ويتحرّر وهذه الفاحشة شائعة فيه، كما لا يُمكن أنْ تنجو حضارة منها عندما تنتصر وتدخل مرحلة فسق مترفيها .. وتتبعت أطوار انتقال هذه الفاحشة بين الشرق والغرب من الإغريق إلى سقوط الأندلس تقريبًا ... .
ومن ناحية أخرى فقد توصّلت إلى رأي حول غلمان الجنة أو ولدانها، وهو أنهم للاستمتاع الجنسي لمن عفَّ وتطهّر في الدنيا .. .
ونحن علي استعداد للمناقشة والمراجعة والتصويب لمن جاء بأدلة مناقضة، تستند إلي القرآن والسنّة، والتصوّر والممارسة من جانب السلف الصالح .. أو حقائق التاريخ والعلم المتّفق عليها. أمّا من جاء بالسبّ والقذف والأحجار .. فقد نكيل له الكيل مرتين وقد نقول : سلامًا .. .
بقى أنْ نقول وقد تحدّثنا عن أجر المخطئ، أنني كنت بغرور الشباب وجهله، قد استشهدت بهذا الحديث في أوّل كتاب لي في الإسلاميات. فقلت في المقدّمة: حسبي أجر المجتهد المخطئ ..! وفاتني روعة التعبير الإسلامي ودقته إذ حدّد هذا الأجر " للمجتهد " ولم يقل " للمسلم إنْ فكّر أو شرّع فأخطأ أجر .. "، بل قال للمجتهد، لأنَّ الاجتهاد هو عمل " المجتهد " ومن ثم فممارسته لعمله يستحق عليها المكافأة، شرط أن يكون " مجتهدًا " ...
ــــــــــــــــ
-18-
ومواصفات المجتهد معروفة، وحاشا لله أنْ ندعي توافرها فينا، فأنا لا أحسن إعراب آية في القرآن. فكيف أكون مجتهدًا، ولكنه غرور الشباب ونسأل الله المغفرة. كذلك كنت قد كتبت علي أول كتاب عبارة " مفاهيم إسلامية "، ففرضت علي الإسلام آرائي أو مفاهيمي .. وقد تجنبت ذلك كله اليوم، فلست أزعم أنها رأي الإسلام في المسألة الجنسية! .. ولا أنها اجتهادات، فما أنا مجتهد، ولا هي مفاهيم إسلامية، إنما هي خواطر مسلم، تفكير مسلم بصوتٍ عالٍ، دعوة للتفكير .. مذكرات تحضيرية يستعين بها " المجتهد " إن شاء الله في تشريع الأحكام .. اعتبروها مجرّد أسئلة مطروحة عند أعتاب المجتهدين، والأئمة، والمنشغلين بالعمل الإسلامي .. .
وبعد .. فقد بلغت من العمر عتيًا واشتعل الرأس شيبًا، وخِفت من انحرافات الموالي، ولم يبقَ ما أخشاه ولا من أرجوه سوي الواحد القهار .. نسأله المغفرة والعفو ..
محمد جلال كشك
رجب 1404 / إبريل 1984
3ب بهجت علي – الزمالك.
ــــــــــــــــ
-19-
تنبع أهمية المسألة الجنسية من كونها تعكس - من ناحية – مفاهيم وأخلاقيات الحضارة .. التصور العام لهدف الوجود الإنساني، والعلاقات بين طرفي هذه المعادلة الإنسانية، ولذلك نركز فى هذه الدراسة علي الفارق الجوهري أو الكيفي بين النظرة الإسلامية للجنس. ونظرة - المسيحية – الغربية(1). فكلتا النظرتين تمثل موقفًا حضاريًا متكاملاً ومتعارضًا. كذلك ركزنا علي دور المسألة الجنسية في المواجهة الحضارية، وخاصة في القسم الخاص باللواط.
والمسألة الجنسية أيضًا علي الصعيد الفردي، تشغل جانبًا شديد الأهمية من حياة الإنسان، كما تحكم نظرته للإنسان الآخر أو الجنس الآخر، أو كما يقول الماركسيون إنَّ كل حاجيات الإنسان تشبع بعلاقة مع الطبيعة، إلا الحاجة الجنسية فهي تشبع بعلاقة مع إنسان آخر .. ومن ثمّ فهي تخضع لقوانين وقيم مختلفة، ولها نتائج بالغة الخطورة والأهمية علي سلامة العلاقات الاجتماعية.
وقد أوضحنا منذ 16سنة رأيًا في موقف الإسلام من المسألة الجنسية، وكيف
ـــــــــــــــــ
(1) أوضحنا في المقدمة أنّض هذا البحث يدور فى إطار المواجهة بين الشرق والغرب، ومن ثم فالحديث هنا يتعلق بالمسيحية الأوروبية - الأمريكية فهى الحضارة المضادة التي يواجهها المسلمون والمسيحيون الشرقيون كطرف واحد، كما سنوضح.
ــــــــــــــــ
-20-
أنَّه فعلاً دين الفطرة الذي وضع الغريزة الجنسية في مكانها الطبيعي ضمن الاحتياجات المشروعة والصحية والضرورية واللذيذة للإنسان، الذي لا يُمكن أنْ يتحوّل إلي مجرّد ظاهرة جنسية يحصر اهتمامه في هذه الناحية، ولا يُمكن أيضًا تحويله إلي " ملاك " بزع الغريزة الجنسية منه .. وقلنا أنَّ الفكر الإسلامي لايعاني أيّة عقدة جنسية، بل يعتبر اللذة الجنسية من النعم التي منّ الله بها علينا، ويميل إلي أخذ أمورها ببساطة متناهية. وقبل أن نشرح هذا بالتفصيل، نودّ أن نوضّح نقطة هنا هي الرغبة الطبيعية من قبل " رجال الدين المحترفين " - مثل أصحاب أيّة حرفة أو متخصصين - ميلهم لتعقيد المهنة وتصعيب الاختصاص. ولذلك نجد الإسلام، بسيطًا واضحًا سهلاً في بدايته، عندما لم يكن هناك فئة مخصوصة تحتكر تفسير النصوص وإصدار الفتاوي ...
تأمل هذه القصة التي تُروى عن عمرو بن العاص، وكان قائدًا على سرية لرسول الله ( ص )، فاحتلم(1) وكانت الليلة باردة، فخاف علي نفسه من البرد، فلم يغتسل وصلّي .. فبلغ الخبر رسول الله، فما زاد علي أنْ ابتسم وهو يقول له: " صليت وأنت جنب ؟! ". ولم يعلق!!
ثم تأمل فتاوي الفقهاء بعد ذلك في شروط الغُسل. وكيف يجب أن يصل الماء إلى جذور الشعر، وضرورة أن ينقل المغتسل قدميه من حيث كان واقفًا ليكمّل غسل قدميه، ترى الفارق بين دين الفطرة وتدين أهل الحرفة .. .
والله سبحانه وتعالي يقول" وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَاغَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ "(الشوري37) ويقول " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ "(النجم32).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الاحتلام هو حلم جنسي يراه النائم وينتهي بالانزال أو القذف ويوجب الغسل مثل الجماع. ولا معصية فيه ولا إثم ولا أية أضرار صحية بل هو من حكمة الطبيعة لتصريف المني المتجمّع.
ــــــــــــــــ
-21-
ويقول " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً " (الفرقان67-70).
وعرف المسلمون أنَّ الشرك بالله إثم عظيم، وكذلك قتل النفس، والزنا. وقال الرسول وهو يعدّد الكبائر:
" وإن تزني بحليلة جارك ".
ولكن المحترفين لا يرضيهم هذا، لابد أن يبحثوا ما هي الكبائر .. وجدوا سبع كبائر .. " الشرك والسحر وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وجعلوه حديثًا ومصدره أبو هريرة بالطبع!
وهو كما تري يختلف عن التحديد الذي ورد في الآية التي أشرنا إليها، وإن كان قد حصر ما نهى الله عنه في مواضع متفرقة من القرآن ....
إلا أنَّه تجدر الملاحظة أنَّ هذا " الحديث " قد قدّم السحر علي قتل النفس! ولم يذكر الزنا .. بل قذف المحصنات.
وما كانت السبع موبقات بكافية عند المحترفين، بل جعلوها سبعين لتشمل علي قدم المساواة مع الشرك بالله، لعب الشطرنج! ( أنظر شمس الدين الذهبي. كتاب الكبائر ) ومن الطريف أنَّ المؤلف نفسه نقل عن المنذري في الترغيب: " وقد ورد ذكر الشطرنج في أحاديث، لا أعلم عن كثير منها إسنادًا صحيحًا ولا حسنًا والله أعلم ".
فهذه الأحاديث التي لا سند صحيح لها ولا حسن، تحوّلت إلى فتاوي وحرّمت الشطرنج(1) على الناس ..، وكذلك التصوير في اللباس والجدران. أي اتهام كل المسلمين الآن بارتكاب الكبائر!!.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كيف يعتبر المؤرخون، الشطرنج، هدية العرب المتنورين لأوروبا وكيف كان فردريك ملك صقلية وتلميذ الحضارة العربية يشجعه. ولويس القديس المتخلف يُحرّمه. وكيف لمّا تخلفنا حرمناه أيضًا!.
ــــــــــــــــ
-22-
وكذلك الذي لا يتحرّر من البول وإسبال الأزار، والعبد إذا هرب!
" قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى " (الإسراء110).
فيأبي المحترفون إلا أنْ يُعدّدوا له تسعة وتسعين اِسمًا. بل ويتفرغون للبحث عن " اسم أعظم " سرى!! تأثرًا باليهود:
وتأمّل عمر رضي الله عنه يأتيه الرجل ببلحة يستفتيه:
" وجدت هذه يا أمير المؤمنين .. ماذا أفعل بها ..؟ فيرد عمر على الفور؟ بضربة عصا علي ظهر المنافق ويقول: " كلها .. يا بارد الورع.! ".
هذا هو الإسلام...
ولكن تخيّل لو جاء بارد الورع هذا ببلحته إلي بارد الفقه يستفتيه وتخيّل السيناريو الآتي الذي يُمكن أن يدور بينهما .. تعرف الفارق بين دين الفطرة وتديّن الحرفة ...
وسنحتاج لتفهم هذا الفارق خلال دراستنا للجنس والجرائم الجنسية .. وسنجد أنَّ دين الفطرة وصل في الموقف منها إلي كمال الكمال: استبشع الفاحشة وعظم إثمها وتوعد مرتكبها، بقدر ما تتضمنه من عدوان علي إنسانية مرتكبها، ومن عدوان علي حقوق الآخرين وسلامة العلاقات الاجتماعية، وسلامة المجتمع، ولكنه في نفس الوقت لم يقم من الدولة مقصلة ولا جلادًا ينقب عن الخاطئين، ويشمت في خطيتهم ويلتذ بمعاقبتهم. بل إن الدولة الإسلامية، أكثر ألمًا بتنفيذ حد من حدود الله في جرائم الجنس، من مرتكبيه - كما سنري - كذلك يجب التخلي أو التحرر من المفاهيم الغربية التي انتقلت إلينا مع تأثيرات الحضارة المنتصرة، مما جعلنا نتخلي عن الانفتاح والتحرر ونتبني النظرة المتزمتة التي تري
ــــــــــــــــ
-23-
في الجنس نجاسة وإثمًا. فالمفهوم الإسلامي للجنس يختلف جذريًا عن مفهوم الحضارة الغربية المسيحية، ولابد من دراسة دقيقة لكلا المفهومين. حتي يمكن تقييم الأخلاقيات والممارسات التي بنيت علي كل منهما .. سواء في التشريعات الجنسية، أو في المسلكية الجنسية، أو في مركز المرأة الإجتماعي والإنساني ..
والحق أنَّ الجنس في مفهوم الحضارة الغربية، حالة شاذة، قلقة، مزعجة، " مقرف " كما سمّاه القديس أوغسطين " قذر " " يهبط بمستوى الإنسان " أو " مخجل " كما وصفه تورتليان. أو كما تقول مؤلفة الجنس في التاريخ: كان هناك شعور عام بين آباء الكنيسة بأنَّ الله ( سبحانه وتعالى ) كان يجب أن يخلق طريقة أفضل لحل مشكلة التناسل، ولكن أوغسطين لما عكف على دراسة المشكلة، وهو الذي كانت شهواته تملأ صومعته بفتيات راقصات عاريات، من صنع خياله بالطبع، اهتدى إلى أنَّها ليست غلطة الله بل غلطة آدم وحواء .. .
" فالرجل والمرأة اللذان خلقهما الله كان مخلوقين عاقلين يسيطران تمامًا علي الجسد ولم تكن هناك أيّة شهوة ولا حاجة لمقاومة الشهوة، فالجنس في جنة عدن - إذا كان قد وجد - فقد كان جنسًا باردًا رفيع المستوى .. بدون شهوة، ولا نشوة. مجرد استخدام ميكانيكي للأجهزة التي أنتجها الخالق لكي تحقق التناسل بترو واستعبار ( ربما مثل تلقيح أطفال الإنايب .. ). ولكن عندما أخطأ آدم وحواء، بدآ يحسّان بشعور أناني جديد وهو الشهوة، ولا يسيطران عليها، وأول ما أحسّا هو الشعور بالخجل لعريهما .. وفسّر أوغسطين ذلك بأن أول رد فعل للمعصية كان نشاط أجهزتهم التناسلية، وعجزهما عن السيطرة على تلك الظاهرة الجديدة، هو ما جعلهما يستخدمان ورق الجنة لستر هذه الأجهزة "(1).
فالجنس قبل الخطية، إمّا أنَّه لم يوجد، أو كان بلا لذّة .. واللذّة جاءت بعد الخطية .. .
قال سانت أوغسطين: " أعلى درجات المسيحية هي العزوية. ولكن الإنجيل
ــــــــــــــــ
(1) الجنس في التاريخ.
ــــــــــــــــ
-24-
شجّع التكاثر. ولذا فالجماع لا بأس به، ولكن اللذّة التي جاءت مع طرد آدم من الجنة هي شرّ ".
وقد استند آباء الكنيسة إلي أنَّ المسيح لم يهتم بالجنس. وتعليقاته في هذا الموضوع نادرة، " خاصّة بالنسبة لملاحظاته العديدة عن الثرة وشهوة التملّك وإشارات الجنس في كلام المسيح قصد بها هدف آخر مثل الحديث عن " زنا القلب " أي التأكيد علي أنَّ الأعمال بالنيّات، ولو أنَه أكد علي عدم إمكانية فسخ رباط الزوجية إلا أنَّ الفكرة الشائعة عنه أنَّه أيّد العزوبية وبالطبع حجة الكاتبة التي نقلنا عنها هذا الكلام هي حياة المسيح ذاته، فهو وفقًا للتاريخ الرسميّ للكنيسة لم يتزوج. ولكن في بعض الدراسات للمفهوم الإسلامي للمسيح تنسب له الزواج والإنحاب؟؟؟؟!!!!!..."(1). " عبده ورسوله " وتضيف الكاتبة أنَّه رفض إدانة الزنا، ولم يفرض عقوبة ضد الجنس بين غير المتزوجين. ونعتقد أنها كانت ستكون في موقف أسلم لو اكتفت بالقول بأنَّه لم يهتم بموضوع الجنس ولا ما يتفرّع عنه، والأصحّ أنَّه رفض رجم الزانية، وليس إدانة الزنا!!! لأنَّه أكّد في أكثر من موضع تمسكه بالوصايا العشر لليهود، ومن بينها " عدم الزنا " ولم يقل إنَّ الزانية لا تُرجم، ولكنه قال إنَّ " الخطاة لا يُرجمون " فالسلطة التي تدين وتنفذ يجب أنْ تكون طاهرة.
وتتطرف مؤلفة ( كتاب الجنس في التاريخ ) فتكرّر ما يقوله الملاحدة اليوم، وهو أنَّ المسيح كانت علاقاته كلها مع الرجال، وأنَّه كان يحب سانت جون، إذا ما صدقنا رواية سانت جون الذي أكّد هذه الحقيقة في أكثر من موضع" (ص115)
قد استقصى مؤلف الجنس والشذوذ الجنسي Karlen: Sexuality & Homosexuality
ــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب المؤلّف: خواطر مسلم في الجهاد والأقليات والأناجيل.
ــــــــــــــــ
-25-
استقصى جذور هذه الفرية المنحطة فقال. إنَّها وردت لأول مرة في " قائمة اتهام الكاتب المسرحيّ " كريستوفر مارلو " وقد أُتّهم " مارلو " بأنَّه لوطي، خائن" (ص21).
كبرت كلمة تخرج من أفواههم ... ومعاذ الله!
وإذا كانت الكاتبة تقصد المعاشرة والاختلاط فقط كانت هناك أكثر من امرأة تحيط بالمسيح، وإن لم تصل طبعًا إلى نسبة أو مستوى مساهمة المرأة في ظهور الإسلام وحياة الرسول .. أمّا إذا كانت تقصد الخبرة الجنسية.. فالصورة الكنسية – فعلاً – تنفي هذه الخبرة تمامًا، وهو ما أصبح حقيقة مطلوبة ومتفقًا عليها في الرئيس الأعلي للكنيسة التي تشرّع للناس السلوك الجنسي والحياة الزوجية والعائلية دون أية خبرة عملية من البابا وكبار الكرادلة...
وقد اختلف " ترتوليان " مع " توماس الأكويني " حول الاتصال الجنسي، فرأى " ترتوليان " أنَّ الجنس هو ثمرة خطيئة حواء وآدم. وأنَّ الجنس البشري كان سيتكاثر في الجنة بأسلوب طاهر غير جنسي ( ربما بالانقسام مثل الأميبا ). أما " توماس الاكويني " فيتلطف بنا، ويقرر أن الاتصال الجنسي كان من بداية الخليقة، هو السبيل إلى التكاثر، إلا أنه في الجنة لم يكن ممتزجًا باللذة الجنسية، التي اقترنت به بعد أن هبط آدم من الجنة، ( ربما كعقوبة ). أو أن اللذة الجنسية لا تليق بأهل الجنة!
وهذه الفلسفة صادفت رواجًا وقناعة، كما قلنا(1)، كرد فعل للحياة الجنسية المبتذلة للرومان والتي ما زالت تثير التقزز في إنسان القرن العشرين. مما دفع عددًا من آباء الكنيسة الأوائل إلى خصي [ وإن كان الخصي يمنع من تولّي وظيفة رئيسية في الكنيسة ] أنفسهم، واستقر في الضمير الغربي كراهية الجنس، والشعور بخطأ " اللذة " في ممارسته كضرورة للتكاثر. واستمر هذا الشعور إلى النصف الأول من القرن العشرين .. ففضلا عن رفض أي تفكير في اللذة الجنسية كهدف في حد ذاته مشروع وجميل. والاصرار على هدف واحد
ــــــــــــــ
(1) أنظر فصل اللواط.
ــــــــــــــــ
-26-
للجنس وهو الإنجاب، وفي وضع واحد، أجمع فقهاء الكنيسة جميعًا وكلهم غير محصنين، علي شرعية وضع واحد " طبيعي " للجماع - وهو علو الرجل للمرأة المستلقية علي ظهرها - وما عداه غير طبيعي ومحرّم لأنه تشبه من الإنسان بالحيوان ويشتبه في أنه يسبب منع الحمل، ويتنافي بذلك مع الهدف من الزواج. ولذا فأي جنس لا يؤدي إلي الإنجاب حتي ولو كان مع الزوجة جريمة تعادل القتل وتكفيرها من 3 إلي 15 سنة " ؟؟؟(1).
وحتي عام 1976 أصدر الفاتيكان بيانًا حول بعض الأسئلة عن أخلاقيات الجنس جاء فيه: " إنَّ الاستخدام المتعمد للطاقة الجنسية خارج العلاقات الزوجية الطبيعية يتعارض أساسًا مع هدف الغريزة ".
ويتفق رأى السيدة " راى تناهيل " مع رأينا إذ تقول: " يبدو أنَّ الكنيسة اعتبرت المرأة الررمانية النموذج المضاد. لكل ما يجب أن تكون عليه المرأة المسيحية "، ولذا اعتبرت تجمل المرأة من المحرمات، أما الجمال الطبيعي، فهو مكروه ويُستحسن إهماله وطمسه حتّي لا يظهر حيث أنَّه خطر علي كل من ينظر إليه"(2).
حتي النظافة كانت مكروهة، فالذي اغتسل في المسيح لا يحتاج إلي استحمام (3).
" كان الطاعون أكثر فتكًا في المسيحيين منه في المسلمين واليهود، لأنَّ النظافة
ــــــــــــــــ
(1) في القرن السادس عشر ألف الشيخ النفراري كتاب " الحدائق العبقة " لباى تونس لتنشيطه جنسيًا وسجل في كتابه 11 وضعًا عربيًا للجمارع وأضاف إليها 25 وضعًا مقتبسًا من الثقافة الهندية. وقبل ذلك ذاع وشاع كتاب " رجوع الشيخ إلى صباه " وفيه أكثر من أربعين وضعًا للجمارع. وقد اكتشف منذ سنوات كتاب " منابع اللذة " لمؤلف يمني طبيب في القرن السادس الهجري وفيه ما شئت. ومن القرن السابع الميلادي أبيح للمسلمين كافة الأوضاع.
(2) ص 136 الجنس في التاريخ والنص عن ترتوليان.
(3) Darlington pp. 300
ــــــــــــــــ
-27-
لم تكن من عقيدة المسيحيين فكما قال سان جيروم " الذي اغتسل في دم المسيح لا يحتاج إلي تنظيف " وتعلّق المؤلفة " ولكن يبدو أنَّ نظافة الروح لم تفدْ كثيرًا في مقاومة البراغيث التي تنقل الطاعون ".
ولا بأس من وقفة هنا عند قصة هذا الطاعون الذي فاجأ المسلمين في الشام، فجر خزوجهم للعالم، وفي مطلع حضارتهم، وقبل أنْ يكتسبوا ولا حتي يطلعوا على علوم الآخرين، ولكنهم استطاعوا تطبيق أول حجر صحي في تاريخ البشرية! فلا جدال في أنَّ الإجراء الذي اتخذه المسلمون الأوائل في مواجهة طاعون مواس فى العقد الرابع من القرن السابع الميلادي، بالإضافة إلى عنصر النظافة الذي أشارت " راي تناهيل " قد أدّى إلى حصر الوباء. وهو لم يكن فقط أحسن إجراء ممكن وقتها، بل كان الإجراء المتفق تمامًا مع علوم القرن العشرين!!!..، باستثناء الأمصال والمبيدات الحديثة الاكتشاف. وقد توصل المسلمون إلي فكرة الحجر الصحي قبل العلم الحديث من مفهومهم الحضاري المتقدم ومن النص النبوي المعجز!!!.
فقد تردد عمر في دخول الشام بسبب المرض. وقال أحدهم؟؟؟: " أفرار من قضاء الله " ود عمر الذي تتمل فيه النظرية الإسلامية أصدق تمثيل، ود لو علاه بالعصا لولا مكانته، فاكتفى عمر بأربع كلمات تلخص فلسفة الإسلام الناهض في قضية القضاء والقدر، تلك القضية التي تخطت فيها أجيال المترفين وخاض ضبابها المستشرقون إلى عيونهم. قال تلميذ النبوة ورفيق الرسول ومهندس حضارتنا: " نعم فرار من قضاء الله إلى قضاء الله ".
ثم تدعم اجتهاد عمر بحديث عن رسول الله ما كان قد سمع به وهو: " إذا ظهر الطاعون بأرض وكنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن كنتم خارجها فلا تدخلوها ".
وستحتاج البشرية إلى إثنى عشر قرنًا حتى تصل إلى هذا النظام المحكم في حصار المرض أو الحجر الصحي .. والمهم أنَّه في تفاصيل القصة لم نسمع أحدًا ذكر تفسيرًا ميتافيزيقيًا لظهور المرض، بل الروايات عديدة عن اختيار أنسب
ــــــــــــــــ
-28-
الأماكن من الناحية الصحية لمنع الأوبئة عن " من بطرفك من المسلمين " أما في القسطنطينية أعظم وأرقى مدينة في العالم المسيحى وقتها .. " فقد اعتبرت الطاعون نقمة بسبب اللواطة " ولم تتخذ بالطبع أية إجراءات صحية، وظل الحريق هو الحل الإلهي!
ولعله مما يثير الانتباه أنَّ المسلمين مع تدهور حضارتهم، تخلّوا عن هذا الحديث الصريح المتفوق، وعن موقف عمر بن الخطاب وإجماع الصحابة في عصره على تجنب العدوى. وتشبث فقهاء التخلف بحديث " لاعدوى " ليسدوا الطريق على تقدّم الطبّ الذي كان ممكنًا في ظل التأمّل الواعي لحديث الرسول في حصر الاختلاط في حالة الطاعون ومثل قوله " لكل داء دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا الموت " وقال: " تداوا عباد الله فإنَّ الله خلق الداء والدواء".
نعود لموقف الغرب فنجدهم قد إتفقوا أيضًا على أنَّ إظهار " اللذة " أثناء الجماع الشرعي مكروه. مثل التعبير بحركات واضحة أو بالصوت عند الاستمتاع .. ورحم الله عائشة بنت طلحة التي نخرت نخرة أثناء وطء زوجها لها فنفر مائة من إبل الصدقة لم تجتمع حتى اليوم!!!! .. .
وقالت إمرأة كوفيّة دخلت علي عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقيل هي مع زوجها في القيطون؛ فسمعت زفيرًا ونخيرًا لم يُسمع قط مثله ثم خرجت وجبينها يتفصّد عرقًا فقلت لها: ما ظننت أنَّ حرّة تفعل مثل هذا.. فقالت إن الخيل العتاق تشرب بالصفير ". ( ص 133 ج 7 العقد الفريد ).
ويقال أنَّ من أسباب التفرقة العنصرية في أمريكا أنَّ البيض كانوا يسمعون نشوة المرأة السوداء مع زوجها، وهي القادمة من حضارة غير مسيحية، سواء الإفريقية، أو دين الفطرة الذي ثبت أنَّه كان دين الغالبية من العبيد الذين اختطفوا وبيعوا في العالم الجديد. فاستقر في عقلية البيض أنَّ السود متفوقون جنسيًا، وليس أنَّهم أكثر تجاوبًا مع مشاعرهم وأكثر صدقًا في التعبير عن هذه المشاعر .. وأن
ــــــــــــــــ
-29-
المرأة البيضاء إذا حُرّرت من عقدة الشعور بإثم الجنس وخطيئة اللذّة، أقدر علي مجاراة السوداء والصفراء .. حتي مع الرجل الأبيض .. فالناس سواء من ناحية الجسد ولكن التكوين النفسي هو الذي يختلف.. .
وسييجد القاريء في موضع آخر أنَّ إظهار اللذّة وزيادة الاستمتاع بالقول أو الفعل مطلوب ومسموح به دينيًا، سواء بالحديث عن " الملاعبة " أو مباشرة، بحديث النهي عن أنْ بُذيع الرجل ما يكون بين المرأة وزوجها من قول أو فعل أثناء الجماع!! .. .
ولأنَّ العزوبية هي الأصل، والزواج هو الحل الأفضل من الزنا لمن لا يطيق، أو مجرّد ضرورة للتكاثر.. فقد قال سان بول: " إنَّ العزوبية مسلك أكثر مسيحية من الزواج لأنها لا تفرض أية مسئوليات ولا مشاغل تشغل عن عبادة الرب "(1).
ومنذ القرن السابع إلي القرن الثاني عشر كان فقهاء الكنيسة يبحثون طبيعة الزواج، وهل هو عقد أخلاقي أم " عقدة النكاح " وأخيرًا توصّلوا إلي أنَّه الإتفاق وليس النكاح هو الذي يقيم الزواج وأنَّ عقد الزواج يُعطي حقّ الناكاح ولكن لا يوجبه "(2) " وهكذا رفضت الكنيسة إعتبار الجنس جزءًا لا يتجزّأ من الزواج "(3). ونصح بعض المجتهدين بالامتناع عنالجنس يوم الخميس بمناسبة ذكري اعتقال المسيح، ويوم الجمعة ذكري موته، والسبت توقيرًا للعذراء مريم، والأحد (4) إحياءًا لذكري بعث المسيح بعد موته، والإثنين احتفاء بذكري صعوده... فهو مباح الثلاثاء والأربعاء إلا إذا صادفا صيامًا أو عيدًا. كذلك يمتنع
ــــــــــــــــــــــ
(1) رسائل إلي قورنه إصحاح 7،9.
(2) وعندنا يتم النكاح، ويُمكن فسخه إذا عجز أو امتنع أحد الطرفين عن النكاح
(3) الجنس في التاريخ ص 134.
(4) كان الروّاد الأمريكيون يرفضون تعميد الوليد الذي يُولد يوم الأحد لاعتقادهم أنَّه لابد قد حملت به أمه في يوم الأحد وهو يوم لا يجوز فيه النكاح وعندنا نكاح ليلة الجمعة مستحب.
ــــــــــــــــ
-30-
عن الجنس بين الزوجين في الأربعين يومًا السابقة على الفصح والعنصرة وعيد الميلاد والأيام السابقة على التناول "(1).
وإلي نهاية القرن الحادي عشر كان يُسمح للمتزوج أنْ ينخرط في سلك الكهنوت، ولكن لايسمح لمن انخرط فعلا بالزواج، وفي نهاية القرن الذي شهد مولد الحروب الصليبية " تقوّى مركز الباباوية، أصدر البابا جريجوري السابع قرارًا بتحريم زواج رجال الدين". " وفي عام 1978 أصدر أسقف كانتبرى قرارًا بفصل مائتي أسقف متزوج عن زوجاتهم خلال الأسابيع الثلاثة التي استغرقها انعقاد مؤتمر " لامبث " الدولي. وهكذا أسكن الأساقفة في جامعة كنت، واحتجزت زوجاتهم على بعد ميل "(2) وقد حُرّم الطلاق في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر مع اشتداد قبضة الكنيسة. وقال بولس: " من يزوج ابنته يفعل حسنًا، ولكن من لا يزوجها يفعل أحسن، ومن الخير أنْ يظل الرجل أعزب إلا إن خاف الوقو ع فى الخطيئة ".
هذا هو الموقف المسيحي الذي ما زال يحكم العقلية الغربية والسلوك الغربي من الجنس واللذة الجنسية... شعور بالإثم، والانحطاط أو الخطأ .. نعم هذا التصور الذي يحكم السلوك الغربي، حتى يومنا هذا وفي ذروة الإباحية الجنسية، والاندفاع إلي اللذة بكل ضروبها .. ذلك أنَّ " الانحلال " على أوسع نطاق، إنما يعكس نفس الإحساس بالإثم، لأنَّ السلوك الإنساني، إزاء ما يؤمر بأنَّه آثم، يتخذ أحد أسلوبين، إمّا التطهر بالتعفف عنه .. وإمّا الإغراق فيه، المنبعث من العجز عن مقاومته، وبالتالي التسليم لسيطرته. فالتحلل الجنسي، والتباهي بهذا التحلل، والإصرار على المجاهرة، كلّها تعكس الإحساس بالإثم، ومحاولة إخفاء صرخات الضمير، بإحداث أكبر قدر ممكن من الضجيج والصخب .. أو محاولة انتزاع اعتراف " السلطة " بمشروعيته.. .
ــــــــــــــــ
(1) ن. م. ص135.
(2) الجنس في التاريخ ص132.
ــــــــــــــــ
-31-
فما موقفنا من الجنس واللذة؟!.
يبدأ الله سبحانه وتعالي بأنْ يمنَّ علينا بخلق المرأة: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رّبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً " (النساء1) و " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا " (الروم21). و " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا " (الأعراف189).
والجنس وتشريعاته تحتل مكانًا بارزًا في القرآن والسنّة، ورسول الله وكبار المسلمين من الصحابة والتابعين والفقهاء مارسوا الحياة الزوجية والجنسية علي أكمل وجه. والرسول يأمر بالزواج أساسًا، ويجعل العزوبية استثناء: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ( الجماع ومسئوليات الزواج ) فليتزوج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء ( أي مسكن أو مخفف للشهوة )".
وقد أعلن النبي أنَّه: " لا رهبانية في الإسلام " ورفض موقف الصحابي الذي قال إنَّه لن يتزوج ليتفرغ للعبادة ( مفهوم بولس ) وردّ عليه النبي: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقُد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " [البخاري ومسلم].
وقال: " مسكين مسكين رجل لا زوجة له، مسكينة مسكينة امرأة لا بعل لها " وقال معاذ: " زوجوني .. لا ألقى الله تعالى وأنا أعزب "! رضي الله عنه وعنه إنْ كانوا قد زوجوه.
والمتزوج عندنا أكمل دينا ( فالزواج نصف الدين ) وهو أولى بالصلاة خلفه من الأعزب ... وأولي بتولّى الخلافة أو الإمارة من الأعزب في حالة تساوى الشروط الأخرى...
ــــــــــــــــ
-32-
والإمام الحافظ أبو عبدالله بن القيم الجوزية ( ولد سنة 691 وتوفي سنة 751 هـ ) يحدد أسباب الإتصال الجنسي، أو لماذا خلق الله الغريزة الجنسية فيقول: " يحفظ به الصحة، ويتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها - فإنَّ الجماع وُضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
§ حفظ النسل ودوام النوع إلي أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلي هذا العالم.
§ إخراج الماء الذي يضر إحتباسه واحتقانه، البدن.
§ في قضاء الوطر ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة. وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الانزال.
وما زلتُ مُعجبًا بالتحدي الذي ألقيته في كتابي " دراسة في منحل " منذ عشرين سنة، تعليقًا على هذا التحليل الرائع من فقيه في عصور " التخلف الإسلامية " إذ قلت: نتحدى أي " دكتور " أن يضيف سببًا رابعًا للاتصال الجنسي غير التي ذكرها شيخنا منذ سبعة قرون؟! أيعاب علينا أن نتيه على الدنيا بتفوق العقلية الإسلامية.. ؟!.
وفضلاً عن الإلمام العلمي بطبيعة الغريزة الجنسية وأهدافها، فهناك التفوق، تحديد اللذة كهدف في حد ذاته، بل وجعلها هي الأصل وهي المنتهى، ففي الجنة، تنعدم الأهداف الأخرى، حفظ النوع، والحاجة الفيسيولوجية. ولا يبقى إلا اللذة للذة .. ومن هنا استنتجنا أنَّ المفهوم الإسلامي عن الجنس في جنة عدن الأولى كان للذة وحدها، وبلذة كاملة..
وأحسب أنني مطالب بأنْ أقف لحظة عند التشابه الموجود في رواية التوراة والقرآن حول اكتشاف آدم وحواء لسوآتهما فأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة .. فقد يبدو أنَّ تفسيرات " ترتوليان " و "الأكويني " قريبة من هذا النص القرآني، ولكن ذلك غير صحيح، فليس في التراث الإسلامي ولا في سلوك
ــــــــــــــــ
-33-
الرسول والصحابة، ما يعطي أي إيحاء بوجود مثل هذا الفهم عن الجنس، فليس في الإسلام حبّ بين رجل وامرأة بلا جنس، لأنَّ ذلك يفضي إلى جنس بلا حبّ. وقد رأينا أنَّ شيخنا قد نصّ علي اللذّة كهدفٍ من أهداف خلق الغزيزة الجنسية، بل جعلها هي الدائمة، بإنتفاء التناسل، وإفراز الغدد .. ومن ثمّ حقّ لنا القول بأن الجنس بين آدم وحواء كان للذّة وحدها.. وتفسير ظهور السوأة، أنَّهما كانا يُمارسان اللذّة بدون أي شعور بالخجل أو الإثم، أو أيّ إحساس بأنَّ الجنس فعل خاص تحيط به رموز خاصة، تميّزه عن سائر المُتع، فلا عيب فيه، ولا مُبرّر للخجل منه، ومع الاعتذار للقديس أغسطين فلابدّ أنَّ أجهزتهما الجنسيّة كانت نشطة، وإلاَّ لاستحال عليهما ممارسة الجنس بلذّة أو بدون لذّة .. وإذا كان آدم قد لاحظ بعد الخطيئة - انتعاظ جهازه فخجل، فماذا لاحظت حواء، أو بالأحرى ماذا خجلت منه خشية أنْ يلاحظه الآخرون؟ ونشاط جهاز المرأة التناسلي لا يمكن ملاحظته من الخارج بسهولة...
فى اعتقادنا أنَّه بعد المعصية، لم تظهر اللذة، فهذه موجودة من قبل، بل ظهر الإحساس بالألم والخجل، ومعرفة ما سيترتب على الجنس من الحمل، والميلاد .. والأولاد .. فاللذة كانت موجودة وصافية وبلا تعقيدات، ثم أضيفت إليها التعقيدات والمسئوليات، والقلق، والخجل .. فإذا ما حسن سلوكنا في هذه الدنيا، فسنعود للجنة حيث الحالة الأولى ؟ أي الجنس لذّة خالصة بلا حياء ولا ندم ولا توجّس، حتى وإن استمرت الثياب كلون من المتعة، إذ لا شكّ أنَّ الإنسان أكثر جمالاً وإثارة بالثياب - معظم الناس على الأقل - وخاصة إذا كانت من ثياب الجنة، سندس واستبرق .. إلخ.
فعندنا أنَّه في البداية كانت المتعة واللذّة مع القيد الوحيد الذي وضع علي الشجرة، والتحذير من الشيطان. فلما حدثت المعصية، كان الخجل والندم والقلق، والعار، والعورة .. وكل التعقيدات التي جاء الإسلام ليُحرّرنا منها. ويعيدنا إلى المفهوم الأوّل .. وبعد المغفرة يذهب هذا كله وتعود اللذّة التي بلا حدود ولا قيود ولا حواجز نفسية.. .
ــــــــــــــــ
-34-
أمّا بالمفهوم المسيحي الغربي - فكما رأينا - في الأصل كان " التطهر " فإمّا أنَّ الجنس لم يوجد أصلاً. أو أنَّه كان موجودًا بافتراض تكاثر الناس في الجنّة، ولكن بلا شهوة، ولا متعة، ولا إثارة، ولا لذّة .. فلما كانت الخطيئة كان الشبق والشهوة واللذّة! .. ولذلك فالأطهار هم الذين يمارسون سلوك الجنّة الأوّل، يكبحون الشهوة، ويمتنعون نهائيًا عن الجنس ولذّته .. أو يمارسونه للهدف الذي " جعله الله " وهو التناسل فقط، بلا شهوة أو إشتهاء، أو علي الأقل يتظاهرون بذلك وسيكافأون في الآخرة، بالإعفاء الكامل من الجنس. ومن الطبيعي أن يكون المفهوم المسيحي عن الجنة، أنها متعة للأرواح بلا أجساد. وأن تكون جنة المسلمين حافلة بالمتع الجسدية .. أمتعنا الله وأمتعكم بجنة المسلمين إنْ شاء الله.
وسنجد أحد مظاهر الدورة الحضارية في كتابات الإمام الغزالي، فهو الذي وصل إلي الذروة في معرفة عصره، كان يمثّل في نفس الوقت، نقطة الانحدار التي تبدأ بتبنى أفكار الحضارة المتخلفة .. فالغزالي زاهد صوفي ضد اللذة للذة، بل ضد الزواج يقول " المريد في ابتداء أمره يجب ألا يشغل نفسه بالتزويج فإنَّ ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك ويستجرّه إلى الأنس بالزوجة، ومَنْ أنَسَ بغير الله تعالى شُغل عن الله، فشرط المريد العزبة في الابتداء، فإنْ غلبته الشهوة، فليكسرها بالجوع الطويل والصوم الدائم .. إلخ "( الإحياء 3).
وينقل عن الجنيد : " أحبّ للمُريد المُبتديء أنْ لا يشغل قلبه بثلاثٍ وإلا تغيّرت حاله: التكسّب وطلب الحديث والتزويج، وقال أحبّ للصوفي أنْ لا يكتب ولا يقرأ لأنَّه أجمع لهمه، أمّا عن لذّة النكاح فما شغل عن الله فهو محذور "!.
وهو نصّ يُمكن أنْ يُقال في دير أو يُنقل عن قسّ في جيش الصليبيّين الذين كانوا يغزون وطن الغزالي كنذيرٍ مبكّرٍ بغروبِ شمس الحضارة الإسلامية. ولو تأمّلت هذا الذي يقوله الغزالي ويستشهد به لوجدته يُلخّص، أو يُوصى بكل ما يحقّق فناء الحضارة الإسلامية وهزيمتها .. وتأمّل فلسفة الفناء هذه المشبعة بالفكر المسيحي
ــــــــــــــــ
-35-
وقتها، وفلسفة النهوض والإنبعاث، والتقدّم التي في تعاليم الرسول وأحاديثه.. فالرسول يعد المؤمن بالثواب كلما جامع زوجته، والرسول يقول لا رهبانية في الإسلام .. وما من صحابي إلاَّ وتزوج أكثر من مرّة .. لذا أعطوا البشرية حضارة جديدة.
ولا قيد في المتعة الحلال عندنا: " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ.ة فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ." ( المؤمنون5-7).
والاتصال الجنسي عندنا يُثاب عليه قال صلوات الله: " وفي بضع أحدكم صدقة " ( أي في الجماع ) فقالوا: " أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر... قال أرأتيم لو وضعها في حرام، كان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".
وقد ذهبنا إلي أنَّ تعدّد زوجاته عليه الصلاة والسلام، كانت لإزالة هذا المفهوم الذي روجته الكنيسة عن كراهية الزواج، وخاصة الزواج من المطلقة أو الأرملة، ولذلك كانت كل زوجاته إلا واحدة، سبق لهن الزواج...
وكما قلنا فإن الجنس عنصر أساسي في الزواج، بل وتتم به شرعية الزواج، وقال ابن القيم الجوزية: " والمودة بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم مما كانت قبله، والسبب أنَّ شهوة القلب ممتزجة بلذة العين، فإذا رأت العين، اشتهي القلب، فإذا باشر الجسمُ الجسمَ اجتمعت شهوة القلب ولذة العين، ولذة !لمباشرة " " وفيه كمال اللذة، وكمال الإحسان إلي الحبيب، وحصول الأجر، وثواب الصدقة، وفرح النفس، فإن صادف ذلك وجهصا حسنًا، وخلقًا دمثًا، وعشقًا وافرًا، ورغبة تامة، واحتسابًا للثواب، فتلك اللذة التي لا يعادلها شيء، ولا سيّما إذا وافقت كمالها، فإنَّها لا تكتمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة، فتلتذ العين بالنظر إلي المحبوب، والأذن بسماع كلامه، والأنف بشمّ
ــــــــــــــــ
-36-
رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه، وتعكف كل جارحه على ما تطلبه من لذتها، وتقابلها من المحبوب ".
قارن هذا الإبداع في التنعّم بما أحلّ الله، وما يحققه الجنس مع الحبّ، قارن هذا بما يقوله الغزالى، في كراهية الجماع، بل وكراهيته الأشد للجماع بين المتحابين قال: " إنَّ العشق هو غاية الجهل " وتفسيره يعكس الكراهية المسيحية للجنس واللذة والحب إذ قال: " العشق هو غاية الجهل بما وضع له الوقاع، وهو مجاوزة فى البهيمية لحد البهائم، لأن المتعشّق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع، وهي أقبح الشهوات وأجدرها أنْ يستحي منه، حتي اعتقد أنَّ الشهوة لا تقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين إتفق فتكتفي به، وهذا لا يكتفي إلا بشخصٍ واحد مُعيّن، حتى يزداد به ذلاً إلي ذلّ وعبودية إلي عبودية ".
كيف هوى الفكر الإسلامي إلى هذا الحد وعند من .. فيلسوف مثل الغزالي .. وأين هذا من حديث ابن القيّم، ووصفه للجماع بين المتحابين واعتباره قمّة النعيم والنعمة من الله.. وأنت ترى أنَّ شيخنا لا يُحَرّم عضوًا من لذّته، بل ويُقرّر: " ومما ينبغى تقديمه على الجماع، ملاعبة المرأة وتقبيلها ومصّ لسانها ". وعن جابر بن عبد الله قال: " نهى رسول الله – ص - عن المواقعة قبل الملاعبة ".
وهي أمور لم تكتشفها أوروبا المسيحية إلا بعد شيخنا بسبعمائة سنة ؟! وما زال الجدل على أشدّه في الكنيسة حول مشروعية الجنس الجاف بل حتى مطلع هذا القرن كانت الزوجة الأمريكية التقيّة تتحرّج من القبلة بشهوة مع زوجها! ودعك من مصّ اللسان، أو ما هو ألذ للزوجين! وقد أشرنا فى غير هذا الموضع إلي جواز الاستمناء، بل وأن تساعد الزوجة زوجها على الاستمناء. وقد حُرّم علينا الوطء في فترة الحيض، ولكن الجنس دون الوطء في أيام الحيض، ليس فقط من المباح، بل أذهب إلي أنَّه سُنّة، فقد كان عليه الصلاة والسلام: " يأمر عائشة أن تأتزر ويباشرها ". فى أيام الحيض.
وعندنا يُمنع الجنس أثناء الصيام ولكن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى أنَّه مباح
ــــــــــــــــ
-37-
في ليلة الصيام من غروب الشمس إلي طلوع الفجر. قوّاك الله ياأخي - لما علمه العزيز الحكيم من الضيق الذي كان يعانيه المسلمون، ولم يطلب منهم أكثر من الإمتناع عن الجماع وهم " عاكفون في المساجد " وهو طلب جد معقول ومنطقي.. قال عز وجلّ:
" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (البقرة187).
وقد طلبت زوجة " رفاعة القرظي " الطلاق لصغر عضو زوجها، فحكم لها بذلك. والزوجة لا يجوز لها أن تمتنع عن تلبية رغبة الزوج قال رسول الله : " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلي فراشها فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها ". وإذا كان لا يمكن إثبات امتناع الرجل عن قصد .. فإنَّ الشرع قرّر لا ضرر ولا ضرار، واعتبر من الضرر عدم إشباع الحاجة الجنسية للزوجة ومن ثمَّ لها حق الطلاق سواء كان امتناع الزوج عن عجز أو كراهية أو عن رغبة في الإيذاء والازعاج.
وإذا كان " الجماع " يجب أنْ تسبقه الملاعبة، فإنَّ مفهوم النصّ والشرح في حديث " الإفضاء " أنَّ التعبير عن الشعور خلال الجماع مباح.. .
قال رسول الله: " إنَّ من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة. الرجل يفضي إلي امرأته وتفضي إليه ثم يفشي سرّها ".
ــــــــــــــــ
-38-
وشرح الحديث الإمام النووي (631 هـ) فقال: " وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمر الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة من قول أو فعل أو نحوه ".
ولا يمكن أنْ يجتمع في تراثنا، كل هذا الغزل إذا كان الجنس مكروهًا في ديننا، أو الحب مريبًا. بل العكس، إنَّ النظرة المتحرّرة للجنس جعلت المسلمين يرون في العشق علاقة نبيلة شريفة، لا يتغنى بها فقط، بل اعتبروا أن الجمع بين ديننا العاشقين فضيلة، ومثوبة، يسعى لها أجلاء الصحابة، رضي الله عنهم .. .
مرّ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه - في خلافته - بطريق من طرق المدينة فإذا جارية تطحن وهو تقول:
وهويته من قبل قطع تمائمي |
متمايسًا مثل القضيب الناعم |
وكأن نور البدر سنّة وجهه |
ينمى ويصعد في ذؤابة هاشم |
فدقَّ عليها الباب، فخرجت إليه، فقال: " ويلك! أحرة أنت أم مملوكة ؟ فقالت : بل مملوكة يا خليفة رسول الله . قال: فمن هويت؟ .. فبكت ثم قالت: بحق الله ألا انصرفت عني .. فقال: لا أريم أو تعلميني فقالت:
وأنا التى ليت الغرام بقلبها |
فبكت لحبّ محمد بن القاسم |
فصار إلي المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه، وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب.. .
وجاءت جارية لعثمان بن عفان تستعدي على رجل من الأنصار، فقال لها عثمان: ما قصتك؟ .. فقالت: يا أمير المؤمنين كُلفت بابن أخيه، فما أنفكّ أراعيه. فقال له عثمان: إمّا أنْ تهبها لابن أخيك، أو أعطيك ثمنها من مالي.
ــــــــــــــــ
-39-
فقال: أشهدك يا أمير المؤمنين أنَّها له.
وأتي عليّ بن أبي طالب بغلامٍ من العرب وجدوه في دار قوم بالليل، فقال له: ما قصتك؟ فقال: لست بسارق ولكن أصدقك:
تعًلَّقْتُ في دار الربــاحيّ خَوْذَةٌ |
يذلّ لها من حُسْنِها الشمسُ والبدرُ |
لها في بناتِ الرومِ حُسْنُ ومنصبُ |
إذا افتخرت بالحُسن صدّقها الفجر |
فلما طرقت الدار من حَـرِّ مهجةٍ |
أتيت وفيها من توقــدها جمـرُ |
تبادر أهل الدار لى ثم صيَّحــوا |
هو اللص محتومًا له القتل والأسر |
فلمّا سمع " عليّ " شِعْرَه رَقَّ لَه، وقال للمُهلّب بن رباح: اسمح له بها ونعوّضك عنها.
واشترى معاوية بن أبي سفيان جارية من البحرين، فأعجب بها إعجابًا شديدًا فسمعها يومًا تنشد أبياتًا منها:
وفارقته كالغصنِ يهتزُّ في الثرى |
طريرًا وسيمًا بعدما طُرّ شاربُه |
فسألها فقالت: هو ابن عمّي .. فردّها إليه وفي قلبه منه.
ودخلت عزة يومًا على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز فسألتها: يا عزة ما قول كثير:
قضي كل دين فوفّي غريمه |
وعزة ممطولٌ مُعنَّي غريمها... |
ما كان هذا الدين ؟.. فقالت عزة: كنت قد وعدته بقبلة، فتحرّجت منها.
ــــــــــــــــ
-40-
فقالت أم البنين: أنجزيها وعليّ إثمها .. إلخ(1).
لست أريد أنْ أطيل .. وحسبُك أنْ تعلمي أيتها المسلمة .. أنَّه ما من أمّة قد عشقت كما عشقنا، وما من أمّة قد أقبلت على الحياة كما أقبلنا، لم نصدف عنها صدوف العاجز الكاره لها.. ولا انتحرنا بإدمانها .. وستبقى ليالينا في دمشق وبغداد والقاهرة والحمراء وقرطبة .. حلم البشرية كلها، وليلة الغرام للمرأة، فقد عاشت فيها أروع وأمتع الحب، يحوطها حنان الرجل وإعزازه .. وتنعم فيها، لأول مرة، بالمساواة الكاملة كإنسانة، وبالمكانة الساميّة كحبيبة القلب .. وما من أمّة في تراثها عشر ما فى تراثنا من غزل بالمرأة ووله بها.. .
وفي اعتقادي أنَّ الرجل الذي يستمتع بالجنس بلا عجز ولا عقدة إثم .. لا يمكن أن يحتقر المرأة .. .
فليس في الفكر الإسلامي، من سبب لاحتقار المرأة أو الاعتقاد بثانوية مركزها، بل ويمكنني أنْ أضيف هنا عنصرًا أخلاقيًا لنشوء الانطباع عن ثانوية مركز المرأة واستغلال الرجل لها .. ذلك أنَّ الطبيعة اهتمت بلذة الرجل لإنجاز عملية الإخصاب، ولم تهتم أو قل لم تعلقها على استكمال المرأة شهوتها .. فالمعروف أنَّ الإخصاب لا يتمّ إلاَّ إذا أفرغ الرجل أو أنزل منيه بالقذف، أي يستكمل شهوته تمامًا، بعكس المرأة التي تؤدي مطلب الطبيعة بنجاح، أي يتمّ الإخصاب والحمل دون أنْ تُفرغ أي دون أن تبلغ ذروة استمتاعها بوصول منحني التوتر الجنسي إلى قمته ثم استرخائه، بل تتم العملية كما قلنا بقذف الرجل في رحمها، ولو كان اغتصابًا، وعلي كرهٍ وبغضٍ منها، بل يمكن القول أنَّ اهتمام الطبيعة بالجانب الجنسي يتلاشى فور قذف الرجل وتحقيق الهدف بإفراغ الحيوانات المنوية، في المكان المطلوب لتبدأ مرحلة أخري من مراحل حفظ النوع .. بينما تؤكد غالبية الدراسات أنَّ المرأة في هذه اللحظة بالذات تكون في قمة الاشتهاء والتشبث
ــــــــــــــــــ
(1) غلبت عاطفة أم البنين على تقواها .. وبقية القصة : فاعتقت أم البنين بكلمتها هذه أربعين رقبة وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت: ليتني خرست ولم أتكلم بها.
ــــــــــــــــ
-41-
بالرجل، وانسحابه قبل أنْ تبلغ غايتها يدمّر أعصابها ويصفع شعورها ويهين كرامتها إذ تتشبث به وهو كارهٍ منصرف عنها وأقبح صور هذه الحالة هو ما نراه في أنثي الكلب إذ تطبق على عضو الذكر حتى تنال بغيتها .. .
كذلك يمكن القول بأنَّ الرجل لا يمكن اغتصابه أو إجباره حرفيًا على مزاولة الجنس، إذ لابد أنْ يتحقق من جانبه الانتصاب؛ وهذا يعني توفر حدّ أدنى مهما يكن حجمه ومبرّره؛ من الشهوة والإرادة، بينما يُمكن أنْ تتمّ العمليّة الجنسيّة والخصاب دون رغبة من المرأة ودون شهوةٍ منها بل رغم أنفها في بعض الأحيان وهو ما يُصَنّف بالاغتصاب. وأيضًا بعض حالات الدعارة المحترفة .. وهذا من شأنه أنْ تبدو المرأة في مركز ثانويّ، مركز المغتصب أو " الشيء الجنسي " الذي يستخدمه الرجل لإشباع شهوته وتستخدمه الطبيعة لإستمناء الرجل دون اهتمام بعاطفتها أو إرادتها أو حتى إشباع شهوتها فهى أداة جنسية وليست شريكة متساوية في العملية الجنسية. فالذين يقصرون هدف الجماع على التناسل هم الذين وضعوا الأساس في " تشييء " المرأة أي جعلها شيئًا يستخدمه الرجل أو الطبيعة لإنجاز المطلوب. وسنرى أنَّ الإسلام قاوم ذلك ومنعه.
وصحيح أنَّ المرأة لم تستسلم لهذا الوضع ولا واقعيًا كان الجنس عملية خاسرة بالنسبة لها؛ بل ويمكن القول أن الشعور بفداحة الغبن إذا لم تصل إلي ذروة الاستمتاع مثل الرجل؛ لم يتضح بشكلٍ حادٍ إلا حديثًا جدًا؛ بل كان إهمال إشباعها حافزًا لطلبها المزيد من الجنس: وتطوير عملية الانتقاء الطبيعي لتحقيق التلاقى؛ وأكثر من ذلك نحن نذهب إلي القول بأنَّ المرأة كانت تحقق الاشباع في غالب الأحوال؛ حتى ولو لم يكن ذلك ضروريًا من وجهة نظر الطبيعة المستغرقة في تحقيق الإخصاب وحده. إلا أنَّ المرأة تعلّمت بغريزتها أو من خبرتها كيف تضاعف من جهدها لتلحق بالرجل فتصل إلي ذروة منحنى استمتاعها معه أو حتى قبل أن يفرغ هو .. خاصة وأنَّ المرأة تستطيع أنْ تتحمل الرجل للحظات بعد أنْ تفرغ؛ بعكس الرجل الذي ينحدر منحنى شهوته رأسيًا فور القذف. كذلك استطاعت المرأة إقناع الرجل أنَّ صبره عليها حتى تصل هى أيضًا إلي ذروة الشهوة؛ يضاعف من لذته ويرفع حرارة الممارسة الجنسية؛ ويبرز رجولته ويبرز اعتزازهما
ــــــــــــــــ
-42-
معًا بهذه الرجولة .. وتري الرجل من عامة مصر يفخر لا بعدد المرات التي جامع قيها المرأة في ليلته بل بعدد المرات التي استطاع أنْ يستفرغها.
ولكن المرأة لم تنس أبدًا؛ أنَّ عليها أنْ تلهث لكي تلحق بالرجل؛ وأنْ تكشف بصورة صارخة استمتاعها وحرصها بل استعطافها له لكي يضاعف من جهده ويطيل صبره ليكون كوصف صباح لفريد شوقي في الأغنية العجيبة : " عليه صبر وطولة بال .. وعليه قوه تهد جبال "! كما لا يفوت المرأة أنَّها في أغلب الأحيان تبذل جهدا أكثر مما يحتاجه أو يبذله الرجل لتصل إلى ما يصل إليه .. ثم لا يخفي تأثير الوضع الذي جرى عليه الجماع " الرسمي " وهو افتراش أو علو الرجل للمرأة؛ حيث يطرحها تحته كأنَّها فريسة يلتهمها الوحش الأقوى؛ أو شيء مُلقى أسفله؛ وهو وضع يخلق - على الأقل خلال تلك اللحظات البالغة الأهمية والمكثفة الزمن - شعورًا بأنَّ الرجل " يعلوها " وأنها لا تصل إلى لذتها إلا بقبول علوه هذا والاستسلام له. ويمكن أنْ أضيف عنصرًا آخر هو اللغة ففي سائر اللغات يعني فعل الجماع الفعل بالمرأة فهي المفعول به مما جعل أنصار حرية المرأة في الغرب في تطرفهم المعتاد يصرون على تغيير اللغة ويجعلون الفعل صالحا للاستخدام على الوجهين فتكون المرأة فاعلاً ومفعولاً به وكذلك الرجل .. فهي تجامع الرجل وتطأه .. .
وقد ساعدت الفلسفة البولسية وما تفرغ عنها في الفكر الغربي على تأكيد إحساس المرأة بانحطاط مكانتها من خلال التركيز علي أنَّ هدف الجنس الوحيد هو حفظ النوع؛ وهو يتحقق - كما رأينا - دون اهتمام بمشاعر المرأة أو رغبتها. كذلك كرهت الكنيسة الغربية تعبير المرأة عن استمتاعها، وباستثناء مرحلة المراهقة والكبت الطويل: لا يمكن للمرأة أنْ تصل إلي الاستمتاع إذا ماحرصت على كبت انفعالها حتى لا يصدر عنها قول أو حركة تدل على اللذة أو
ــــــــــــــــ
-43-
الاستمتاع . . كما نصّت تعاليم الآباء على أنَّ وضع افتراش المرأة هو الوضع الطبيعي والشرعي .. .
" كانت محاكم التفتش تسأل المتهم في غرب المكسيك سنة 1697: هل حاولت أنْ تطء امرأة وهى راكعة كالحيوان علي أربعة أقدام؟!".
ومن ثم فنحن لا نملك إلا أنْ نفتح أعيننا دهشة أمام وعي الإسلام بكل هذه العوامل وحرصه على معالجتها اقتلاعًا لما يُسمّى أو يروّج عن انحطاط مركز المرأة. ولم تكن معالجة الإسلام بإلغاء الطبيعة فليس ذلك في وسع الإنسان ولا من رسالات الأديان؛ وأيضًا لم يقفز الإسلام إلى التطرّف المضاد مكتفيًا بإعلان مساواة المرأة ولو على مستوى الشعارات أو حتى أمام القانون انتصارًا على الرجل! بل شرّع ما يمكن من السيطرة على قوانين الطبيعة وتطوير آثارها بما يكفل سعادة المرأة والرجل معًا وتخلصهما من أية شعور بالاستغلال من طرف لطرف .. فقد حرص الإسلام علي تحقيق اكتفاء المرأة أو بلوغها شهوتها في الجماع مع زوجها ابتداء من النهي عن الجماع قبل الملاعبة؛ بل ذهب بعضهم إلى أنَّ الملاعبة فرض بنصّ القرآن تفسيرًا لقوله تعالي : " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " ( البقرة223). فقالوا إن التقديم هو الملاعبة: والملاعبة كما شرحنا تثير المرأة وتسهّل بلوغها مأربها خلال الجماع الذي يعقب هذه الملاعبة .. ونهى الرسول عن أن يقع الرجل على امرأته كما تفعل البهائم .. والبهائم بالطبع لا تهتم على الإطلاق بمزاج أنثاها ولا إشباع هذا المزاج وتذكّر مثال الكلب .. كذلك أباح الإسلام كافة أوضاع الجماع بلا تحديد ولا فرض لوضع شرعي .. ومن ثمّ فقد يعلو الرجل المرأة أو قد تعلوه هى فلا إحساس بمركز أسفل .. .
ــــــــــــــــ
-44-
وهناك أحاديث تتحدث عن قذف المرأة ماء مثل ما يفعل الرجل وقول الفقهاء أنَّ الغسل لايتوجب عليها إلا إذا أنزلت .. وبصرف النظر عن التفسيرات العلميّة في ذلك الوقت فإنَّ الحديث عن إنزال المرأة وجعله شرطًا للإخصاب وللجنابة؛ يعطي المرأة الحق في المطالبة بحقوقها الشرعية ويحث الرجل على الاهتمام بتلبيتها، وما أظنّ أنَّ رجلاً مسلمًا يسعد برؤية امرأته تقوم من جماعه فتتوضأ وتصلي لأنَّه لم يستطع أنْ يوجب عليها غسلاً!(1)
ـــــــــــــــــ
(1) إذا كانت لا تأخذ برأى الجمهور فى وجوب الغسل إذا التقى الختانان.
ــــــــــــــــ
-45-
وإنْ كان هذا خارج موضوع البحث نوعًا ما إلاَّ أنَّه لا بأس من الإشارة هنا، إلي ارتباط الموقف من الجنس بالموقف من المرأة .. فإيمان المسيحية الغربية ينقص المرأة، وأنَّها كانت السبب في طرد آدم، وظهور الجنس أو اللذّة، كان له تأثيره المزدوج على انحطاط مركز المرأة في التصوّر الكنسيّ، وعلى كراهية الجنس الذي يُلجىء الرجل إلي الركوع بين رجلي المرأة ..!
وقد ورثت الكنيسة انتقاص مكانة المرأة من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وأضافت إليه تفسير " الخطية الأولى " وفقًا لرواية التوراة.
" وفي أثينا لم تكن للنساء من حقوق سياسية أو قانونية أكثر من العبيد، وكنَّ يلحقن بأقرب ذكر، ولاتأكل مع زوجها إلاَّ نادرًا، ويستحيل إذا كان عنده ضيوف، ولا تخرج من البيت إلاَّ نادرًا ". وفي كتابات الإغريق أن المرأة غير موثوق بها، وغير عاقلة وشهوانية منحطة . " وكان زنا الزوج بلا عقوبة، ولكن الزوجة تُعاقب إذا زنت ".
ـــــــــــــــ
(1) راجع كتاب الجنس فى التاريخ وقد نقلت المؤلفة رواية بلوتراك عن زوجة أحد الحكام الإغريق الذي عرف من أصحابه أنَّ رائحة فمه كريهة، فرجع غاضبًا إلي بيته وسأل زوجته .. لماذا لم تخبره فردّت عليه ببراءة: كنت أظن أنَّ كل الرجال كذلك! وهذا يذكرنا بنكتة مصرية معروفة، ولا سبيل لذكرها!
ــــــــــــــــ
-46-
" وفي القانون الروماني كانت تابعة للرجل، تنتقل هي وأملاكها إلي ملكية الزوج ". في مجلس الشيوخ الروماني: " المرأة حيوان لا لجام له ". وكان القانون الروماني يُلزم الأب بتربية كل الأولاد الذكور، والبنت الأولي فقط، أمّا بقية البنات فيُلقين في العراء عند عمود مخصًص لذلك، يمُتْن أو يلتقطهنَّ مديرو بيوت الدعارة.. .
وقال بولس الرسول، المؤسّس الحقيقي؟؟؟ للكنيسة الكاثوليكية: " المرأة خلقت لينتفع بها الرجل، ولذلك يجب أن تخضع له في كل شئ. ويجب ألاَّ تعلّم في الكنيسة فقد شاء المسيح ألاَّ يجعل أي إمرأة، ولا حتّي العذراء مريم من الحواريّين، وقد حافظت الكنيسة على تقليد الذكورة باستمرار، فالقسيس يجب أنْ يكون شبيهًا بالمسيح، وإذا ما قامت امرأة بالقداس سيكون من الصعب رؤية صورة المسيح فيها". وهذا رأي الفاتيكان فى عام 1977 أنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تعتبر نفسها مخوّلة برسم قسّيسات. بل والرأي الذي أعلنه البابا أخيرًا في الثمانينيات في أثناء زيارته للولايات المتحدة(1).
وقال بولس: " يجب أن تمارس المرأة الصمت والطاعة لكل ما تؤمر به، فهي ابنة حواء التي أغوت آدم بالتعدي ". وقال كلمنت بابا الإسكندرية: " إن المرأة مساوية للرجل في كل شيء. ولكن الرجل أفضل منها في كل شيء ".
وفكرة الخطيئة الأولى، تحمذل المرأة مسئولية شقاء الجنس البشري، فهي التي غرّر بها الشيطان، وهي التي تولت إغراء الرجل فكانت الخطيئة الأولي التي رزح تحتها البشر.. وطردوا من الجنة حيث لا شقاء ولا متاعب .. ولا جنس في رأي ترتوليان: " فلو كان أدم لم يعص ربه، لعاش طاهرًا حصورًا، ولتكاثر النوع الإنساني بطرق غير هذه الطرق البهيمية ".
والعهد القديم صريح وواضح في تحميل حواء مسئولية هذه الخطيئة الفادحة:
ــــــــــــــــــــ
(1) مجلة التايم – فبراير7/2/1977.
ــــــــــــــــ
-47-
" فرأت المرأة أنَّ الشجرة جيدة للأكل، وأنَّها بهجة للعيون، وأنَّ الشجرة شهيّة للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل ". ولمّا سأل ربّ التوراة آدمها هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألاَّ تأكل منها، وشي آدم التوراة بزوجته: المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة ". وفي العهد الجديد " إنَّ آدم لم يغو، ولكن المرأة أويت فحصلت في التعدّي ".
أمّا الإسلام، فالآيات التي أشارت إلي حديث الشجرة، تحمّل المسئوليّة للطرفين بلا تخصيص، إلاَّ في آية واحدة، ينفرد فيها آدم بالمسئولية، وتلقي الكلمات التي غفر بها لآدم وزوجه.
" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ".(البقرة36).
" فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ".(الأعراف152).
" فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى " (طه120و121).
فلا خطيئة لحواء عندنا، بل إنَّ هذه المعصية قد انتهت بغفران الله لهما.. . إنَّه لغفور رحيم.. .
ثم إنَّ الخطايا في ديننا لا تُورّث. وربنا الغفور الرحيم لا يُطارد الجنس البشري بمعصية آدم وحواء .. .
ومن ثمّ فلا حقد على حواء، ولا عقوبة أبدية لبناتها .. بل هن نور حياتنا وحبات قلوبنا، وكمال ديننا، والجنة تحت أقدامهن.
وقد أجمعت الدراسات الحديثة على أنَّ الحضارة الإسلامية هي التي علمت أوروبا المسيحية احترام المرأة، والنظر إليها كإنسانة بل كأجمل نعم هذا الوجود، بالنسبة للرجل علمناهم " حب " المرأة والغزل المهذب فيها، وأيضًا نحن الذين
ــــــــــــــــ
-48-
علمناهم حب " مريم " العذراء واحترامها .. وإنْ كانوا قد فعلوا ذلك على طريقتهم .. .
تقول مؤرخة الجنس:
" كل الذين جاءوا إلي العالم الإسلامى، ولو حتى إلي أسبانيا وصقلية فقط، عادوا بسلب لم يحسوا به ولكنه كان أثمن من كل ما حققوه أو سلبوه، وهو نظرة جديدة للحياة من الاحتكاك بحضارة أكثر تقدمًا ورقيًا مما كان بوسع نبلاء الغرب تخيله .. حفنة من الأفكار والإنطباعات والوعي والتصور ولكنها كانت كافية لجعلهم أكثر انسجامًا مع التغيرات التي كانت قد بدأت فعلاً في أوروبا " وقد سافر إلي أسبانيا أو فلسطين نصف فرسان فرنسا خلال الثلاثين عامًا التي تلت عام 1097 ( بداية الحروب الصليبية ).
ولكن التأثير لم يقتصر على هؤلاء الذين ذهبوا، ولا كان الصورة الأنقى، فالذين بقوا في أوروبا أو " القاعدون " سواء لأنهم أصغر أو أكبر من سن القتال - أو أعجز أو أحكم وأعقل من المشاركة في المغامرة الاستعمارية .. كان هؤلاء " القاعدون " يتذوقون تجربة مثيرة بشكل آخر خلال أعمال المسلمين ومؤلفاتهم، عن علم وحكمة المسلمين، وايضًا مؤلفاتهم عن علم وحكمة العالم الكلاسيكي ( أي ثقافة اليونان والرومان ج ) هذه المعرفة وصلت مصفّاة نقية عبر أسبانيا المسلمة التي عبرها أيضًا جاءت الآداب التي ستؤثر على وضح المرأة في أروبا(1).
الكنيسة الغربية كانت تنظر للمرأة من خلال صورة حواء المسئولة عن سقوط البشر، فلما حلت " مريم" التي جاءت مع العائدين من الحروب الصليبية تغيّرت النظرة لصالح المرأة، وكان ذلك في القرن الرابع عشر.
فالحق أنَّ الإسلام أهدى " ماريه " أو " مارى " للغرب المسيحي وساهم مساهمة مباشرة في تحرير المرأة الأوروبية، ومن سخرية التاريخ أنَّ هذا تمّ في
ـــــــــــــــــــ
(1) الجنس في التاريخ ص244.
ــــــــــــــــ
-49-
ذات الوقت الذي كانت المرأة المسلمة تتراجع لتدخل الحربم التركي، المؤلم في تخلفه.
تعتقد " راي تناهيل " أنَّ العرب أخذوا الحجاب عن بيزنطة " حيث كانت المرأة معزولة عن الحياة العامة ومحجبة، لا يسمح لزوجها برفع الحجاب إلا خلال العقد وللحظة قصيرة يختلي فيها العروسان ".
وسنثبت بتوسّع في دراسة أخرى، تعلّم أوروبا احترام المرأة من العرب، وأنَّه قبل الاحتكاك بالمسلمين والإطلاع على القرآن والموقف الإسلامي من السيدة مريم لم يكنْ لها كبير ذكر في الأناجيل ولا في الكنيسة.. ولكن نعلّق هنا على ما ذكرته مؤرخة الجنس وهو أنَّ الذي علّم أوروبا حبّ " مريم " العذراء هم شعراء التروبادور، أي الذين نقلوا هذا الشعر من الأندلس المسلم، نقول أنَّها كمؤرخة منصفة واسعة الإطلاع كان يجب أنْ تدرك أنَّ حبّ مريم جاء من الفكر الإسلامي، ومن صميم الدين الإسلامي، بعد الاحتكاك العظيم في الحروب الصليبيّة، وإذا كانت بيزنطة قد سبقت الكنيسة الغربية في احترام مريم وتقديسها فلأن بيزنطة جاورت الإسلام أربعة قرون قبل أن تبدأ الحروب الصليبيّة، ولا حاجة للقول بأنَّ أيّة مقارنة بين الإنجيل وأعمال الرسل، وتراث الكنيسة في القرون الأولي، وبين القرآن، حول مريم، تؤكّد أنَّه لا وجود " لمريم " في الفكر المسيحي الأوّل، أو أنَّها كما تقول المؤرّخة ظلّت إلي القرن الثالث عشر: " مُجرّد قدّيسة عادية " أمّا في الإسلام فقد أعلنت منذ القرن السابع " سيدة نساء العالمين " فهي التي اصطفاها الله على نساء العالمين، هي " البتول " التي أحصنت فرجها ليس لها في الأناجيل الأربعة سفر، ولها في القرآن سورة كاملة. وجاء اسمها في القرآن 34 مرة وفي 14 سورة. وذكر " عيسي " في القرآن 25 مرة منها 15 منسوبًا إلي أمّه " عيسى بن مريم "، وورد لقب المسيح في القرآن 11 مرة، منها ثماني مرات " المسيح ابن مريم ". ولم يردْ ذلك ولا مرة في الأناجيل ولكى لا يُقال أنَّ ذلك طبيعي لحرص الأناجيل على تأكيد أنّه ابن الله، نقول أنَّه حتى عندما أراد كتّاب الأناجيل إثبات نسب المسيح الآدمي، لتأكيد أنَّه " ابن داود " نسبوه ليوسف النجار وليس لمريم !!.
مريم عندنا بالنصّ القرآني أفضل من أم نبينا عليه الصلاة والسلام وأفضل من
ــــــــــــــــ
-50-
جميع زوجاته وبناته .. وتأمل ذلك الصحابي رضي الله عنه الذي " ثنيت له وسادة ليحدث " فقال: .. خديجة هي خير من ركب الإبل من النساء " ثم تنبّه إلي خطورة المنزلق الذي ساقه إليه لسانه فبادر قائلاً: .. ومريم بنت عمران لم تركب الإبل قط "!.
حسبك هذه الواقعة لتعرف مدى مكانة مريم عليها السلام في نفوس المسلمين وإذا كان المسيحيون تعلموا احترام مريم من المسلمين، فقد شوهوا الموقف، إذ كرموها باعتبارها أم المسيح أو أم الاله .. أما عندنا فمكانة السيدة مريم، وما أكرمها الله به لا يرجع إلي أنَّها ولدت المسيح؟؟؟ .. حاشا لله أن تكرم الأمهات في ديننا بنباهة أو صلاح الأولاد، وإلا كان لآمنة بنت وهب السبق الذي لا يُدرك فقد ولدت خير الخلق، وخاتم الأنبياء والرسل وإمامهم يوم المعراج والإسراء .. وحبيب الله والشفيع إليه .. .
ولكن مريم حازت تلك المكانة لعاملين:
الأول: أنَّها كانت صالحة عابدة قاننة .. مؤمنة صابرة. أحصنت فرجها، وكانت لها معجزاتها التي شاهد زكريا بعضها .. وهو الرزق الذي كان يأتيها من عند الله .. وكلما عجب زكريا من وجود ذلك في غرفتها التي اعتكفت فيها للعبادة، ردت عليه رد المؤمنة الواثقة: " هو من عند الله "، " إذ الله يرزق من شاء بغير حساب ".
والعامل الثاني: هو أنَّ الله ابتلاها بأقسى امتحان تتعرض له عذراء عابدة، ناسكة زاهدة محصنة عفيفة .. وهو الحمل بدون زواج، ولا والد معروف لحملها .. مما عرضها في زمانها ومحيطها وجيلها لأشنع اتهام، بل مازال اليهود والمشركون يردّدونه إلي اليوم. وقد أبلغها سبحانه وتعالى بذلك، وأدركت هي خطورة ما سيترتب على هذا الاختيار الإلهي لها .. بل وتمنّت لو كانت قد ماتت قبل هذا وصارت نسيًا منسيًا، لإدراكها الكامل بما سيُقال عنها، وما ستتعرض له، وأهون ما جوبهت به هو التذكير بأنَّ أمها لم تكُ بغيًا ؟! ومع ذلك آمنت وصبرت وصدّقت ما يستحيل على كثير من العقول حتى اليوم تصديقه .. .
وقبول مريم ومباركتها وتفضيلها على نساء العالمين، بعبادتها، سابق على إبلاغها فضلاً عن حملها للمسيح .. .
ــــــــــــــــ
-51-
" إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {35} فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {36} فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {37} " (آل عمران35-37).
" وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ " (آل عمران42).
من هنا يحق لنا القول أنَّ " مريم " في المسيحية حاليًا، هي هديّة المسلمين للعالم المسيحي. وإذ كانت صورتها أو ممارسات حبها وتوقيرها، قد اتخذت صيغة مخالفة للعقيدة الإسلامية. بحكم العقلية الغربية، والتطور الذي أصاب الفكر المسيحيّ.
تقول مؤلفة .. الجنس في التاريخ:
" حتى مطلع القرن الثاني عشر لم تكن " مريم " أكثر من إحدي القدّيسات في التقويم المسيحي الغربي، ولكن بمُجرّد ما استوردت عبادتها من بيزنطة ( وقد شرحنا مصدر ذلك ) حتى جذبت عواطف وإعجاب القديس برنارد رجل الكنيسة المشهور الذي كان مسئولاً عن إصلاح نظام الرهبنة، وبنفوذه أنشثت مئات الأديرة
ــــــــــــــــ
-52-
في أوروبا حيث وهب الرهبان أنفسهم فيها " للعذراء " يلبسون الرداء الأبيض تحية لطهارتها، ويضيفون محرابًا خاصًا " للسيدة " في كنائسهم. ولم يكد يحلّ القرن الثالث عشر حتى كان الشعر والشعراء الجوالون يخلطون بين " السيدة " و " العذراء " بين " الحب المقدس " و " والدنس "، وأصبحت العذراء سيدتنا Our Lady – Notre Dame شخصية ارستوقراطية مميّزة أكثر انسجامًا في بيت الأمراء في قصور الغرب منها في الخان المشهور في بيت لحم. ولكن في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، تحوّلت بتأثير الفرنسيسكان إلى أم الفقراء والبؤساء، والعائلة المقدسة التي لم يكن لها مكان في الأناجيل، أخذت مكانها في مجتمع القرن الخامس عشر في روما " ولو أنَّ العامة - الذين لا يرتبط الدين عندهم بالمنطق - كانوا على استعداد لقبول مريم كعروس المسيح وأمه .. مما أثار مشاكل منطقية في العقيدة، وعند جودفرى أوف ادمونت، أنَّها أيضًا عروس العضوين الآخرين في الثالوث ( أي الآب والروح القدس ). وقد ظلت " ماري " شوكة في جنب الفكر الكنسي لمخالفتها لنظرة المسيحية عن وضع المرأة، حتى اضطرت في النهاية لإعلانها حالة خاصًة "(1).
ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 257 وانظر دراسة موسعة لنا عن مريم فى الأناجيل فى كتابنا: " خواطر مسلم عن الجهاد والأقليات والأناجيل ".
ــــــــــــــــ
-53-
وقد يبدو من النظرة السطحية أنَّ مفاهيم الكنيسة الغربية أكثر " عفة " أو تخلق مجتمعًا أكثر عفة من المجتمع الإسلامي - ولكن هذا غير صحيح؟؟، لأنها مخالفة للطبيعة. وقد اضطر كبار رجال الكنيسة ذاتهم إلى الاعتراف بالعجز عن " خصي " المؤمنين، ومن ثمّ ترى " قديسًا " مثل توماس الإكوينى، الذي يعتبر فيلسوف الكنيسة ومجددها فكريًا، يقر البغاء كوسيلة لمكافحة اللواط، ويقول إنَّ البغاء مثل " المراحيض " إذا ألغيتها امتلأ المكان بالأقذار .. كذلك إذا ألغيت البغاء، انتشر " اللواط ". وكانت هناك كنيسة للدعارة في " أفنيون " حيث تقضي الفتيات بعض الوقت في الصلاة والواجبات الدينية، ثم يتفرغن بقية النهار والليل لخدمة الزبائن، الذين يشترط فيهم أن يكوونوا مسيحيين، إذ لم يكن يُسمح لغير المسيحيين بالدخول.
ــــــــــــــــ
-54-
وقد ظل هذا التقليد متبعًا من المومسات المسيحيات في الخليج إلي عام 1956، هذا يذكرنا بقصة الغلام الشهيد وملك قرطبة(1).
وقد أعجب البابا جوليوس الثاني " بكرخانة " أفينون هذه إلى درجة أنَّه في مطلع القرن السادس عشر أسس واحدة مماثلة في روما ذاتها، وأصبحت مارية المجدلية، قدّيسة المومسات "! .
ويمكن أنْ نُدرك مدى انتشار البغاء من حقيقة أنَّ كولومبوس سافر إلى أمريكا عام 1493 مع خمسين بحارًا أصيب بعضهم " بالزهرى " في أمريكا، ولكن بعد عودتهم بثمانية عشر شهرًا كان الزهرى منتشرًا في معظم أوروبا!.
وتوماس الأكوينى الذى أباح البغاء هو الذى قيل فيه " لو أمكن تحميل رجل واحد مسئولية تشديد موقف الكنيسة من اللواط، فهو توماس الأكوينى فيلسوف وفقيه القرن الثالث عشر ".
وقد عزل أحد رجال الدين في بريطانيا عام 1274 بعد ما أنجب 65 طفلاً غير شرعي(2).
ولكن استخدام أو إباحة البغاء لم يُقصد به مجرد تطهير المدينة من قذارات اللوطيين، بل استعين بها علي فرض التقشف في المعاشرة الزوجية! فإنّ محاولة الكنيسة التدخل في فراش الزوجية، ومقاومة المشاعر الطبيعية، أدّت إلى ازدهار البغاء، ففي العصر الفيكتوري فضّل الرجال أو حتي نُصحوا بتفريغ شهواتهم مع المومسات أو العشيقات، ليكون الجنس مع الزوجة رفيعًا مهذبًا باردًا رصينًا! " آمن آباء الكنيسة أنَّ الجنس حتى فى الزواج لا يُسمح به إلا إذ! كان الهدف منه هو التناسل فقط، ولو أنَّ الكنيسة الكاثوليكية آمنت بذلك ولونت تلك النظرة، الفكر الكاثوليكى كله، فيما يتعلق بالجنس، إلا أنَّ تأثيره كان محدودًا ولكن من
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنظر فصل اللواط. وهو الغلام المسيحى الذي رفض حب الملك اللوطي المسلم لأنه وثمنى.
(2) المسيحية واللواط 133-147.
ــــــــــــــــ
-55-
الغريب أنَّه خلال القرن التاسع عشر تبنى البروتستانت تعاليم ألقديس أغسطين أكثر مما فعل أسلافهم الكاثوليك وقال الدكتور أليس ستوكمان ألامريكى عام 1894 " إنَّ أى زوج يطلب من زوجته الجماع بغير هدف الإنجاب، إنما يحول زوجته إلى مومس خصوصية "(1)، " وإذا لم يكن رجال العصر الفيكتورى قد ذهبوا في التطرف مذهب الدكتور إلا أنه كانت هناك قناعة عامة بأنَّ الرجال لا يجوز لهم إظهار شهوتهم الحيوانية مع زوجاتهم إلا في أضيق الحدود مرة فى الشهر وهو الأمثل، أو مرة فى الأسبوع إذا كانت الحالة حرجة "(2). ويُمنع تمامًا في فترة الحمل أو الحيض. ولكن الرجال وجدوا مصرفًا، بل اعتقدوا أنَّهم يخدمون زوجاتهم بتصريف طاقاتهم في الخارج، وأنَّ اللجوء إلى المومسات يتفق مع الدين. فالقديس أغسطين خلال مناقشته للجنس قال : إنه لولا خطية المرأة، والتفاحة، والحية .. لبقى الجماع باردًا وعملية عقلية محسوبة وخالصًا من كل إثارة وليس إلا بعد الخطية الأولى ظهرت الشهوة والعاطفة في الموضوع. وقد حمل أطباء القرن التاسع عشر هذه النظرة إلى نتيجتها المنطقية، ففضلوا الجنس مع المومس الذى يتم بلا حبّ، عن الجنس مع الزوجة، فازدهر البغاء على نحو لم يسبق له مثيل. ورغم قلة الإحصائيات. فقد اعترف البوليس بوجود ثلاثين ألف مومس فى باريس.
ولكن المصادر الرسمية تقدّر الرقم الحقيقى بمائة وعشرين ألفًا، ونفس الخلاف، في لندن، فقد اعترف البوليس بوجود سبعة آلاف مومس، بينما قدرهم تقرير إحدى الجمعيات بثمانين ألف مومس. وفى فيينا (1820) كانت توجد بغي لكل سبعة رجال، وفى نيويورك (1830) عشرون ألف مومس وفي الفترة ما بين (1830-1840) كانت تحال سبعة الآف امرأة معظمهن من البغايا إلى العلاج من السيلان أو الزهرى، وفى عام 1865 عالجت ثلاث مستشفيات في لندن، ثلاثين ألف حالة من الرجال والنساء، وفى باريس (1860) كان أكثر من ستين
ـــــــــــــــــ
(1) الجنس فى التاريخ
(2) وقد وعدها الإعرابى " أربعًا في أربع " فى ليلة واحدة هى ليلة المبايعة!.
ــــــــــــــــ
-56-
بالمائة من المومسات اللائي دخلن سجن " سانت لازار " مصابات بمرض سرّي، وخلال ثلاثة شهور فقدا الحرس الإمبراطورى عشرين ألف يوم عمل بسبب تردد رجال الحرس على المستشفيات للعلاج من الأمراض السرية. وفى كوبنهاجن في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان كل رجل أو امرأة من بين ثلاثة يحمل أو تحمل إصابة بمرض سرى. وفى أمريكا فى عام 1914 قدر أحد الخبراء أنَّ نصف الذكور في الشعب الأمريكي مصابون بالسيلان "(1).
وهكذا ترى أنَّ المُنبتّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى .. وأنَّ التعاليم الإسلامية هى التى نظّمت وضبطت الحياة الجنسية بما يكفل الإشباع الكامل النظيف والإنساني ... ووضعت العلاقة التي تنتفى معها الحاجة إلى الزنا.. . [ تعليق: كان أجدر بالكاتب أنْ يذكر الإحصائيات، إن وجدت، عن البغاء والأمراض السرية بالبلاد الإسلامية، في نفس الفترة التي من 1820-1860، حتي يتثنّي للقارئ عقد مقارنة خالية قصد إظهار القدسية علي البلاد التي حكمها المسلمين، بالرغم من أنَّ البغاء كان مقنّن فب البلدان الإسلامية حتي بعد الحرب العالمية الأولي. وما زواج المتعة إلا دعارة شرعية تمارس في بلدان إسلامية حتي أيامنا هذه، وهي واقع ملموس مهما اختلفت آراء الفقهاء فيه. ].
فالزواج في الإسلام، وهو المصرف الطبيعي للغريزة الجنسية، مطلوب ومأمور به .. وهو أيضًا سهل جدًا، لا يحتاج إلى طقوس خاصّة، ولا إلى رجل ذى صفة خاصة لعقده، بل يستطيع أى رجل وامرأة أن يتزوجا ..إمّا بالشهود أو بالإعلان، أو بهما معًا .. وأجاز أبو حنيفة الزواج بلا ولي وبشهادة فاسقين. ومالك أجازه بلا شهود وإنْ كان الإجماع على الولى والإعلان أى الإشهار. والمرأة البالغة تختار وليّها، أو بالأحري تعيّنه.
وواضح أنَّ اشتراط الشهود، أو الإعلان أو هما معًا إنّما يحميان حقوق الزوجة والأطفال، فالعادة عند إنكار الزواج، أن يأتى هذا الإنكار من جانب الزوج ... ومن النادر جدًا وقوع حالة عكسية، وإنْ وقعت فغالبًا بعد وفاة الزوجة، إثر نزاع على الميراث. ولكن الشهود والإعلان ليست مراسيم، وكتابة عقد الزواج ليست من نوع الطقوس التى بغيرها لا يتم الزواج شرعًا، إنَّه كما رأينا ضمانات قانونية لحماية الشريك الأضعف. ولتحويل الزواج من سلوك ذاتى بين ذكر وأنثي إلي سلوك اجتماعى، بإشهاد المجتمع عليه. ذلك أنَّ القيد الذي يضعه الإسلام على
ـــــــــــــــــــ
(1) الجنس فى التاريخ. ويمكن أن يقال الآن أنَّ عشرين مليون أمريكى وأمريكية مصابون بالهربس والإيدز.
ــــــــــــــــ
-57-
حرية الفرد، هو دائمًا أبدًا لمنع تعسّف الفرد فى استخدام حرّيّته بما يضرّ مصالح الآخرين.
وما دام يستطيع أي فتى وفتاة بلغ بهما الحبّ حالة السعار التي تتحدث عنها " فرانسوا ساجان "... أنْ يستمتعا بها على سنة الله ورسوله .. دون انتظار مباركة شخص بعينه ... فلماذا يزنى المسلم؟ إلا إنْ كان الزنا يتم مع سبق الإصرار عليه.. .
ولا أظنّ أننا سنقف طويلاً عند البغاء، فذلك ليس جنسًا ولا حبًا، ولا حتى آدمية ... وما من أحد يجرؤ علي المطالبة به اليوم أو الدفاع عنه. وإنْ كان تاريخنا لم يخلُ من بعض الرقعاء. طالبوا بإباحته لمنع الكبت والأمراض السرية! .. منطلقين من نظرية المجاري!.. .
البغاء العام انحطاط للرجل والمرأة ... فلنتركه سريعًا، حتى ولو سمّوه باسم " مشاعيّة النساء " واقترن بما يسمّونه " الشيوعية البدائية "... فإنَّ تكوين الأسرة هو أوّل الصفات الآدمية، والملكيّة الفرديّة لا دخل لها فى استمرار الأسرة.
نناقش إذن الزنا الفرديّ ... والمرأة فى الأغلب الأعمّ لا ترفض الزواج بالرجل الذي أسلمته جسدها إلا إنْ كانت تسلّم هذا الجسد وحده، دون قلبها سواء بدافع من الشهوة الحيوانية وحدها، لأنَّ الحيوان يمارس الجنس بلا حبّ(1) بل هناك حيوانات عليا لا يخلو جنسها من حبّ - والجنس بلا حبّ حيوانية، بل سلوك حشري! أو حرصًا على مكسب غير عاطفيّ ... أو لأنَّها ترى الرجل غير كفءٍ لها، ولكنها تشتهيه ... هذه المرأة تهين نفسها، وتقرّ ذلك في أعماق ضميرها وهى تزني ... لأنَّها تسلّم جسدها لمن لاتحترمه... إذ لو احترمته لتزوجته، ومثل هذه الزانية سُبّة للجنس كله ... أمّا إذا سلّمت المرأة قلبها، فليس أسعد منها ولا أعظم عندها من أن يختارها الرجل الذي امتلك قلبها، ومنحته حبّها، شريكة لحياته، ومكمّلة لدينه، وأمًا لأولادها.
ـــــــــــــــــــ
(1) والغريب كما رأينا أن الإمام الغزالى امتدح ذلك!.
ــــــــــــــــ
-58-
الغالب إذن أنَّ الرجل هو الذى يحب التملص ... الرجل الذي يمارس الجنس مع المرأة، وهو لايريد أنْ يرتبط بها ولا أنْ يحمل أولادهما اسمه ... هذا الرجل مهما كان فوران عاطفته، يخفى احتقارًا للمرأة .. .
فتحريم الزنا هنا، يعني - ضمن ما يعنيه - تحريم احتقار المرأة.
وحالة أخرى للزنا، هي تلك التي تتم مع اتفاق الطرفين على استبعاد الزواج وهو في الغالب الزنا بحليلة آخر... وهذا هو الجنس المشوّه، الذى يقوم على خيانة ثالث ... وعلى إقرار من الطرفين بأنَّها علاقة لا تتجاوز هذه الرعشة المؤقتة مهما أحيطت بالشبق والحنان ... فهى مدمّرة، خاوية، ممتزجة بإحساس وضيع بالخديعة.. خديعة الرجل للمرأة، يقول بلسانه مالا يتجاوزه إلى قلبه .. قلبه الذى يوقن أنَّها علاقة عابرة بلا مسئوليات ... يهمس في أذنها أنَّه مستعد " للموت " في سبيل حبّهما ... وهى على يقين برفضه " الحياة " في سبيل هذا الحب!.. .
وخيانة المرأة للرجل، تريد أحضانه ولكنها لا تقبل العيش معه سوى لحظات مختلسة، علاقة يغلفها الكذب والشك في واحدة من أصدق اللحظات ... وكيف يصدق الرجل رعشة امرأة وهو يعرف أنَّها تكرّرها مع غيره ... ربّما بعد ساعات، وربما قبل ساعات ... وأنَّى لرجلٍ أنْ يكتشف الزيف في هذأه اللحظات من الصدق ؟! وكيف تصدق المرأة رعشة رجل مطمئن تمام الاطمئنان، أنَّه لا يحمل مسئولية عواطفه، بل يحملها لرجل غيره؟.. .
وماذنب الطفل الضائع بين يقين كاذب، وشك لا يجرؤ حتى على الشك!.. .
من هنا كان زنا المحصن يستحق الرجم ... وكان حديث الرسول عن ابن مسعود " سألت رسول الله: أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قال: قلت له إنَّ ذلك لعظيم، ثم أي ؟ قال: ثم أنْ تقتل ولدك مخافة لأنْ يطعم معك، قلت: ثم أي ؟ قال: ثم أن تزانى حليلة جارك ".
نعم! الشرك بالله لا يتفق وقدسية التوحيد، وهو انحطاط بالإنسان عن المرتبة
ــــــــــــــــ
-59-
التي رفعه الله إليها، فلم يجعل له ربًا إلا ربّ العالمين وحده، والزنا بين المتزوجين، شرك بالعاطفة الأنسانية الصادقة، وخيانة للحب وإهدار للجنس .. لأنَّ الزواج عندنا ليس ورقة، إذ لابدّ في الزواج الإسلامى، من الإرادة الواعية في الاختيار الحرّ، فما دامت قد اكتملت الإرادة الواعية وعبرت المرأة باختيارها الحرّ عن رغبتها فى هذا الزواج، فليس من حقها أنْ تخون ثقة شريكها فى هذا الزواج ... ونفس الشيء للرجل المتزوج.
فإن قيل: إن القلب متقلب، وإنَّ الاختيار قد يخطيء، والإرادة قد تضلّ ... قلنا: إن الدين يُسر لا عُسر ... فإن حق تصويب الخطأ مكفول عندنا ... ماالذى يمنعها من الطلاق وزواج من تحب ؟!!.. .
والإسلام قبل أن يُشرّع رجم الزانية التزوّجة... ألغى القيود التي كانت تعترض زواج المطلقة .. ففى الشراثع الأخرى، كان زواج المطلقة زنا! .. ومن ثم كان القرار الذي يتخذ بالزواج يستحيل إلى قيد رهيب على إرادة الإنسان، رجلاً كان أو إمرأة، لا يستطيع الفكاك منه ... فجاء الإسلام وحررنا من هذا الرق .. ولذا فليس ثمة مبرّر واحد لكي يزني المسلم أو المسلمة ...
والحرية الشخصية عندنا قد اكتملت للرجل والمرأة بحق الحب والزواج ثم بحق الطلاق ... لا بالتفريط أو بالإباحية الجنسية، فليست الإباحية هي مرادفة الحرية ...
فتحريم الزنا فى الإسلام لا يبعث من كراهية الجنس بل من احترام الجنس ... وتنريهه عن العبث، ومن احترام المرأة وتنزيهها عن أن تكون أداة لمتعة الرجل ... وحتى لا ينسب الطفل لغير لحظة الحب التي أنجبته ... وإذا علمت أنَّ الزنا لا يجوز إثباته بالتجسس أو الشبهة، وأنَّ عقوبة الرجم لم تطبّق فى التاريخ الإسلامي إلا على معترف أو معترفة، وأنَّ هذا الزاني المعترف لو أنكر بعد أنْ أصابته الأحجار، بل لو فرّ هاربًا من لوجب الأحجار وقف تنفيذ الحدّ ... وأنََّه في العصور الوسطى للإسلام، لا لأوروبا، أوشك سلطان المماليك أنْ يواجه ثورة حقيقية
ــــــــــــــــ
-60-
لأنه رجم زانيًا معترفًا، ولكنه عدل عن اعترافه في آخر لحظة! .. أقول: إذا علمت هذا، إذن لعرفت أنَّ عقوبة الزنا قد عبرت فيما عبرت عنه، عن احترام عميق للمرأة، وتقدير عميق للجنس ... فما من شبهة فرض، ولو خيالى لظرف، يُجبر فتى وفتاة على الزنا في نظام الزواج الإسلامي، الذي بلغ القمة في تحرره وبساطته، وقدسيته في نفس الوقت .. .
وإذا عرفنا أنَّ " الخلفاء والفقهاء أفتوا بأنَّ الرجل إذا شرط مبلغًا من المال أو شيئًا ذا قيمة مقابل وطء المرأة، فلا حدّ للزنا ولكنه زواج، فقد أعطاها أجرها وهى قبلت " والفكرة أنَّ الزواج عرض وقبول من طرفين ليس بينهما مانع شرعي - قانونى من الزواج. وما عدا ذلك فهو طقوس لا أهمّيّة لها. وهذا ما جعلنا نستنتج أنَّ " الزنا " الذى يحاربه الإسلام ويركز عليه هو الزنا الذى يتم بين شخصين يستحيل زواجهما، وهذا هو " الزنا بحليلة جارك " أي بالمرأة المتزوجة عمومًا، وإن كان الحديث قد ورد بصيغة الوصايا العشر.
وقد حلا لبعض المشككين، فترة من الوقت، الطعن في الأسباب التى أدّت إلى تحريم الزنا. مما يطرحه الذين يحاولون " تبرير " الإسلام .. فقالوا عن اختلاط الأنساب أنَّه يمكن ضبطه بوسائل منع الحمل، ولما اكتشفت مركبات السلفا عام 1935 والبنسلين عام 1941، شاع اعتقاد بأنَّ الإنسان قد تخلّص نهائيًا من الأمراض السرية، وسقطت حجة الأخلاقيين والمتدينين في نقد الزنا أو العلاقات الجنسية غير المحدودة. وقلّ حرص طلاب اللذة الحرام، حتى أصبح يعالج من " السيلان " كل عام في الولايات المتحدة وحدها ثلاثة ملايين .. وفى العالم كله مائة مليون! ولكن من ذا الذى يهتم إنْ هى إلا ( كورس بنيسيللين ).. .
ــــــــــــــــ
-61-
ولكن سرعان ما تلبّد الجو .. فالميكرربات ككائن حي لا تكف عن تطوير مقاومتها للمبيدات. فهى لا تقل حرصًا على الحياة، ولم يقتصر الأمر على ظهور أجيال من ميكروب السيلان أو الزهرى تحتاج إلى جرعات أكبر، وربما مركبات أقوى وعلاج أطول، بل تطوّر ميكروب عادى من ميكربات البرد إلى أخطر وأوسع الأمراض السرية انتشارًا ( Herbs ) وهو غير قابل للشفاء حتى الآن، ولذلك نسميه نحن " الإنفلونزا الجنسية " إذ يُقال إنَّه من فصيلة ميكروب الأنفلونزا .. وهو ينتقل بأي تلامس جنسي، من الفم أو الجهاز التناسلي، أو حتى الشرج .. ويبقى في الجسد فلا يخرج منه، وسرعة انتشاره، وعدم القدرة على علاجه، جعلتنا نختار له تسمية " الانفلونزا ". ويُقدّر عدد المصابين به في الولايات المتحدة بعشرين مليونًا! وهو أبرز آثار " الثورة الجنسية " التى اجتاحت أمريكا في الستينيات، وبعد انتشار المضادات الحيوية، وحبوب منع الحمل، وشيوع أو علانية الشذوذ الجنسي. وتبادل الزوجات، والجنس الجماعي ... وقد أشرنا إلى المرض الآخر الأشد خطورة والذى لا علاج له، الذى ينتشر يين اللوطيين، وهو الإيـدز.
ولا حاجة لأنْ يردّ أحدهم بأنَّ الطبَّ سيكتشف دواء للمرضين حتي وإنْ كان لم يكتشفْ دواء للأنفلونزا رغم مرور سبعين عامًا على فتكها بالعالم في حمي الأنفلونزا الأسبانية(1919). ولكننا جد واثقين أنَّ العلم سيكتشف دواء لكل الأمراض الموجودة حاليًا، فهذا هو نصّ الحديث النبوي الشريف(1) إلا أننا أيضًا وبنفس اليقين نؤمن أنَّ الأمراض ستطوّر نفسها، وستظهر أجيال أكثر قدرة على مقاومة الدواء - بل وستظهر ميكروبات وفيروسات جديدة، متحوّلة أو مولدة تحمل أمراضًا وأعراضًا لم يسبق ظهورها، ولا دواء لها لفترة من الوقت ... فما دام " البغاء " أو الزنا يُمارس .. أي الاتصال الجنسي المفتوح، غير المحدود الأطراف .. فلابد أنْ تظهر الأمراض السرية.. .
ـــــــــــــــــــ
(1) لكل داء دواء وقد ورد في ما سبق.
ــــــــــــــــ
-62-
والأصل في الاستمتاع الجنسي هو الإقبال أو الإشتهاء بلاتحفّظ، والممارسة بلا قلق، ثم الإسترخاء بلا ندم أو خوف .. وهذا لا يتأتى إلا في علاقة شرعية حتّى إذا أمن الطرفان كل القوانين والمفاجآت وكان الزنا مباحًا كما هو الحال في بعض البلدان .. فإن هذا الاستمتاع لا يتحقق إذا كان المستمتعان يبدآن بالشك في نظافة كل منهما، ثم يتخذان الاحتياطات، وينتهيان بالقلق والمبادرة لإزالة الآثار تحسبًا للأخطار .. !! وقد أثبتت الدراسات الأخيرة أنَّه بعد ظهور المرضين الجديدين " الهربس والإيدز " .. هبطت نسبة ممارسة الجنس بشكل حاد في أمريكا .. وتشهد المحاكم الآن دعاوى مرفوعة من " محبين " ضد بعضهم بتهمة " رمتنى بدائها وانسلت ".. .
وباختصار إذا كان أبشع الزنا، هو الزنا بين المتزوجين، فإن الزنا عمومًا يحمل شرًا خطيرًا، والجنس يجب أن يكون في دائرة مقفلة(1).
وقد شرحنا في كتابي " دراسة فى فكر منحل "، رأينا في سبب تشريع عقوبة " الرجم " حيث أثبتنا أنَّ المسلم المحصّن لا يحتاج للزنا إلا إذا كان قد انتوى الغدر والفاحشة ... غير أنِّي أحب اليوم أنْ أقول كلمة حول هذه العقوبة ...
وقد سبق منّا القول، أنَّها موجودة في التوراة. وأنَّ الإسلام لم يخترعها، حتي يسمح المبشرون المنافقون لأنفسهم بالحملة على " وحشية " الإسلام! أو أنهم يرون أنَّ ما كان يليق " دينيًا " في عهد " موسي " لا يليق فى عهد المسيح أو محمد، أو بمعني أكثر دقة، ما كان جزاءً عادلاً فى شريعة موسي يصبح وحشية وتخلفًا فى شريعة محمد؟! هذا موقف من مواقف النفاق الفاجر، فإمّا أن ينتقدوا التوراة ويقولوا أنَّهم اضطرّوا إلي تنقيح قانون إله التوارة لأنَّه متخلّف، وإمّا أنْ يكفّوا ألسنتهم عن نقد الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) أي تشمل تعدد الزوجات، لأنها ما دامت مغلقة على الرجل الواحد ونسائه فلا سبيل لتفشي الأمراض السريّة. [ تعليق: ولكن ماذا يحدث في حالة المطلقات؟ ألا يُسهم ذلك في تفشّي الأمراض الجنسية السرية؟ ] .
ــــــــــــــــ
-63-
وقد كان أول تطبيق للرجم فى المدينة. أو فى تاريخ الإسلام كله. فى حادثة اليهودية التي احتكم أصحابها إلى النبي فحكم فيهم بالتوراة، وكان في ذلك ما فيه من إعلام النبوة، وعدل النبي.. ففيها علم رسول الله بأحكام التوراة وإثبات أنَّ اليهود لايلتزمون بتوراتهم وإلاَّ ما جاءوا إلي الرسول يطلبون حكمًا، وكأنهم يلتمسون مخرجًا من أحكام دينهم. وفيها أيضًا فقه حكم الأقليات غير المسلمة، وفيها العدل بإخضاعهم لشريعتهم.
أمّا المسيح فقد رفض رجم الزانية في حادثة تماثلها، ويبدو أن زانيات اليهود يُمْتَحن بهُنَّ كل نبي! والسبب فى امتناع المسيح، أنَّه لم يجد في متهميها من يرقي إلي مرتبة الشاهد العدل، فقال لهم: " من كان منكم بلا خطيئة فليقذفها بأوّل حجر ". وشهد الله أنَّهم لم يجمعوا خطيئة المعصية مع خطية النفاق. ولذلك امتنعوا عن الرجم.
ورفض المسيح صلوات الله عليه أنْ ينفذ هو الحدّ لأنه كان - كما قلنا - يتجنّب ممارسة السلطة، يتجنب التدخل بأية صورة فيما يتعلق بنظام الحياة في المجتمع أو الدولة.
أمّا الرجم في التشريع الإسلامي، فلا شكّ أنَّه مورس فى عهد الرسول في حادثتين. نشأتا بالاعتراف الاختياريّ والإصرار عليه، والروايات مُجْمِعَة علي أنَّ رسول الله كان يتمنّي لو وجد سبيلاً لمنع تنفيذ الحدّ. وتمنّي لو أنَّ أصحاب القضية لم يبلغوا السلطة الإسلاميّة بأنفسهم، فقد حاول الرسول بكافة الطرق والحجج منع تنفيذ الحدّ بالبحث عن شبهات، ولكن المذنب في كل حالة، أصرّ علي الاستشهاد، أو التطهير .. وثابت أنَّ الرسول لم يرجمْ بنفسه، ولا شاهد الرجم. بل عاتب المنفّذين، لأنَّهم استمرّوا في الرجم حتي بعدما حاول المتّهم النجاة بجسده من ألم الضرب، فقد اعتبر ذلك التصرّف منه " عدولاً عن الاعتراف .. "، وعاتب النبي خال ماعز لأنه لم يستر عليه بثوبه أي لم يخفِ خبر زناه عن السلطة!.
ــــــــــــــــ
-64-
كذاك أشرنا إلى القيود التي وضعها الشارع لثبوت التهمة، وهي الأربعة شهود، وهي الأربعة شهود من الرجال - الذين كان يستحل توافرهم قبل ظهور الجنس الجماعي .. وحجتنا أنَّ هذا النِصَاب لم يتوافر قط في تاريخ الدولة الإسلامية عبر 14 قرنًا، فلم نسمع عن عقوبة الرجم للزنا ثبتت بالشهود، ومرة أخرى فإنَّ الشاهد الرابع الذى برّأ " المغيرة " وجعل عمر رضي الله عنه يهتف " الله أكبر " إذ ثبت بشهادته براءة المغيرة .. هذا الشاهد " النفى " .. شهد بأنَّه رأى " أقدامًاأ بادية وأنفاسًا عالية، وأمرًا منكرًا ". واعتبر ذلك غير كافٍ لإثبات الزنا .. إذ لا بد كما هو معروف من إثبات التفاصيل اتلى أشرنا إليها .. .
وشروط الشهادة، واستبعاد شهادة النساء(1)، واشتراط وقوع الشهادة وقت الفعل، وتحت تأثير الانفعال من المنظر، وليس بعد مدّة لكى لا تكون عملية ابتزاز أو ضغينة. ولذلك قال عمر " أيّما قوم شهدوا علي حد، ولم يشهدوا عند وقوعه، فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم ".
ثم حضّ المُسْلم على كتمان الشهادة، أو التستّر على الفاعلين بعكس جرائم الحقوق حيث يحثّ الدين المُسْلم علي إظهار الحق، ويحثّ المُسْلم علي الشهادة، إلاَّ في جرائم الجنس، فقد طلب من الفاعل أنْ يكتم ذنبه، فلا يُعرّي نفسه للعقوبة بالاعتراف، بل يكتفي بالتوبة بينه وبين الله. ولا يُعلن الأمر ولا حتّي للسلطة فقد قال رسول الله: " من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بسرّ الله، فإنَّه من يُبد لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله".
وقال: " من أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله عز وجل إنْ شاء
ـــــــــــــــــــ
(1) حكمة منع شهادة المرأة فى جرائم الزنا متعدّدة: منع الثرثرة وانتشار الأقاويل، وأهم من ذلك تجنيب حياء المرأة من مساءلة القاضى والدفاع فى التفاصيل المطلوبة لإثبات صدق الشهادة وإلا تعرضت لعقوبة القذف، ثمّ لا يُخفى ما يثور فى محيطها هى من تساؤل عن كيفية تمكّنها من دقة الرؤية ؟.
ــــــــــــــــ
-65-
غفر له وإنْ شاء عذبه ". وعن الشافعى: " نحن نحب لمن أصاب حدًا، يستتر وأنْ يتقى الله عز وجل ولا يعود لمعصيته ".
ثم طالب الدين الناس بتجنّب الشهادة في هذا اللون من الأفعال الامتناع عن التبليغ عن مرتكبى هذا الفعل، بل وجعل الكتمان أو التستر عملاً صالحًا يكافئه الله عليه: " من ستر علي مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة" حديث. وعن ابن ماجه عن ابن عباس عن رسول الله: " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته ".
ولا أدرى ما الذى يغرى مسلم بالتبليغ عن واقعة جنسية وهو إنْ اضطرّبت شهادته أو تناقضت مع شهادة واحد من ثلاثة آخرين، تعرّض للجلد والتشهير ورُفضت شهادته بعد ذلك على جميع مستويات التقاضي. وإنْ ثبُتت شهادته كان ذلك " بشري " له بأنَّ الله سيفضحه في بيته !!.
لا أظنّ أنَّ أحدًا يفعلها إلاَّ إنْ كان من هواة الشر والشغب والذين يحبّون أنْ تشيع الفاحشة، ولذلك تلمّس عمر بن الخطاب رضى الله عنه براءة " المغيرة " بما توسّمه من صلاح الشاهد، ولابد أنَّه أدرك أنَّ تطوّع هؤلاء بالشهادة يخفى أهدافًا سياسية تتعلق بخلافهم مع المغيرة أو السلطة أكثر ممّا هو غيرة على الحرمات أو فهمًا للدين.
ثم يأتى حض السلطة على تلمّس إسقاط العقوبة بكافة الوسائل، ومنها إغراء المتّهم بالانكار أو طرح شبهة كأ، يقول بأنَّ الفعل لم يقع تمامًا .. إلخ... وعن عائشة: " ادرأوا الحدود بالشبهات عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإنَّ السلطان لئن يخطئ العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة ".
وهذا ما جعل بعض الفقهاء يقولون: " إنَّ عقوبة الزنا، عقوبة قصد بها الزجر والردع والإرهاب أكثر مما قصد بها التنفيذ والفعل "(1) ومعهم حق فنحن أمام
ــــــــــــــــــــــــ
(1) سيد سابق.
ــــــــــــــــ
-66-
عقوبة لا تتطبق إلاَّ علي " معترف " يتحدّي السلطة ويصر على اعتراقه، ويُطالب بتنفيذ القانون فيه...شخص قرر أنه لا يستحق الحياة، وجاء يستعدى السلطة علي نفسه... ولكني أفضل لو قلنا أن العقوبة القاسية قصد بها " التبغيض " وإبراز مدى بشاعة الجُرم، ومدي استنكار الدين له، حتى أنَّ مرتكبه تسقط حرمته، ويسقط حقه في الحياة، فهي أكبر من الحياة، لأننا لو قلنا إنها عقوبة لم يقصد بها التنفيذ والفعل، اسمتدلالاً من القيود الهائلة التى تُبطل التنفيذ العملي، أو كما قال سيد سابق: " فاشترط المشرّع شروطًا يكاد يكونن من المستحيل توافرها ". فإنَّ حكمة الزجر والردع والإرهاب تنتفى، فالعقوبة قصد بها ردع النفس المسلمة وإبراز أنَّ زنا المحصن امتهان للنفس وامتهان للشريك وخيانة وغش لطرف ثالث، فهو جريمة لا تليق بكرامة إنسان حرّ، رجلاً كان أو امرأة .. وهذه هي الفاحشة.
فالمُشرّع يعتبر " إشاعة الفاحشة " أخطر من " الفاحشة " ذاتها، فهو يودّ لو لم تقع " الجريمة " ويودّ أيضًا ألا تنفذ عقوبة .. ولذلك كان التحذير من رمي المحصنات ومن إشاعة الفاحشة أقوى، بل وبداية التشريع.
وهذا عن جراثم الزنا " بتعريفنا " أمّا ما دون الوطء فيُستحسن التغاضى عنه حتى من قبل السلطة وبعد إبلاغه إليها وخاصة إذا كان من طرف الفاعل.
قال رجل لرسول الله: " إنِّي عالجت إمرأة من أقصي المدينة فأصبت منها، دون أن أمسّها، فأنا هذا فأقم عليّ ما شئت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ستر الله عليك لو سترت علي نفسك " (تأمّل!) ولم يردّ النبي – ص – شيئًا فانطلق الرجل فأتبع النبي رجلاً فدعاه فتلا عليه: " وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ " (هود114). فقال له رجل من القوم يارسول الله أله خاصّة أمّ للناس عامّة؟، قال: للناس عامّة (1).
واستدل الشيخ " سيد سابق " من ذلك علي أنَّه:" إذا كان الاستمتاع بالمرأة الأجنبية فيما دون الفرج فإنَّ ذلك لا يوجب الحدّ المقرّر لعقوبة الزنا وإنْ اقتضي التعزيز ".
ــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
ــــــــــــــــ
-67-
" وسئل عليّ بن أبى طالب: لي ابنه عم أهواها، وقد كنت نلت منها ؟!" .
فقال: إن كان شيئًا باطنًا ( يعنى الجماع ) فلا .. وإنْ كان شيئًا ظاهرًا ( يعنى القبلة ) فلا بأس!!! .
( حرفيًا من موسوعة فقه عليّ بن أبى طالب عن ابن أبي شيبة ).
ولا أظن أنَّ الشباب يتجاوز هذا، فيما يحدث فى العربات، أو أثناء المذاكرة أو حتّى فى دور السينما أو في خلوة مختلسة سريعة بفعل الرغبة وفورة الشباب والعاطفة، والله غفور رحيم.. فإن أتيحت الخلوة " الشرعية" وتأكّدت النيّة والفرصة للطرفين لفعل الوطء. فما من سبب يحول دون إتمام ذلك بالزواج ولو فيما بينهما. والزواج العرفي معروف ومشهور ( وإن إتّجه الرأي الآن لكراهيته فلسوء استخدامه، ولما ترتب عليه من مشاكل وإهدار لحقوق المرأة. ثم هو إذا حرمه القانون صار ممنوعًا. ) بل وبعض الشيوخ افتوا بزواج المتعة في بلاد الغربة وأنا أميل لرأيهم.
وقبل أن ننتقل لحديث العقوبة، نقول إنَّ الإسلام الصالح لكل زمان ومكان، يُثبت اليوم أنَّ العقوبة لم تكن خيالية، إذ يمكن أنْ يأخذ المشرّع يومًا بقبول الصورة أو الشريط السينمائي وتأكيد أربعة خبراء أنَّ ما جاء به هو فعل الوطء الكامل، كما يجوز إثبات الزنا بالحمل مع إستحالة نسبته للزوج، أو بتحليل دم الطفل .. إلخ ما يمكن أنْ يكتشفه العلم .. .
ــــــــــــــــ
-68-
ــــــــــــــــ
-69-
وعقوبة الزنا كما قلنا هي الرجم والجلد، الأولي بالسنة والثانية بالقرآن قال الله تعالي:
" وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً " (النساء15).
ففى البداية كانت عقوبة النساء هي تحديد الإقامة هي المنزل، مع وقف المعاشرة الزوجية - على الأرجح _ ويقول الشيخ سيّد سابق إنَّ العقوبة كانت أوّلاً الإيذاء " وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً " (النساء16). ثم تدرّج ذلك إلي الحبس في البيوت وذهب إلى القول: أيّ والنساء اللاتى يأتين الفاحشة وهي السحاق الذى تفعله المرأة مع المرأة فاستشهدوا عليهن آربعة من رجالكم فإنْ شهدوا فإحبسوهن في البيوت بأنْ توضع المرأة وحدها بعيدة عمن كانت تساحقها، حتى تموت أو يجعل الله لهُنَّ سبيلاً إلي الخروج بالتوبة و " الزواج المغنى عن المساحقة ".
ــــــــــــــــ
-70-
وفى موضع آخر قال إنَّ الآية يُقصد بها اللوطيّون والسحاقيّات، وهذا علي أيّة حال يعني أنَّ اللواط والسحاق إذا كانت قد وردت لهما عقوبة فى القرآن فهي الإيذاء مع إتاحة الفرصة للتوبة والصلاح فلا يُمكن أنْ يصل الإيذاء إلى حدّ القتل كما أفتى البعض إذ ليس بعد القتل توبة ولا إصلاح.
ثم نزلت آية: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ " (النور2).
ويُنسب لرسول الله – ص - قوله عند نزول الآية: " خذوا عنى .. خذوا عنى .. قد جعل الله لهنَّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد ماثة والرجم ".
وذهب " سيد سابق " إلي أنَّ الله قد جعل لهنَّ بهذه الآية سبيلاً يُخلّصهنَّ من انتظار الوفاة في البيت!!.
والحديث المنسوب لرسول الله يحتاج لتأمّل، إذ لا يمكن أنْ يكون الرجم سبيلاً لخلاص امرأة محددة إقامتها؟! فالحياة أفضل سبيلاً من الموت. والأمل في التوبة أو ثبوت البراءة أكبر مع استمرار الحياة.
أمّا الموت فبئس السبيل. كذلك فإنَّ الرسول لم ينفّذ ما ورد بالحديث فهو صلوات الله عليه لم يجمع الجلد مع الرجم. وإنّما الذى جمع هو علي بن أبى طالب.
أما " سيد سابق " فيُفهم من تعليقه أنَّه يتحدث عن " الجلد " فهو السبيل المخلص من انتطار الوفاة بالبيت.
ــــــــــــــــ
-71-
وقد ثار الشك فى نفوس المسلمين حول مصدر التشريع فى عقوبة الرجم في صدر الإسلام. مما جعل عمر يقول أو يُنسب له القول. فعن ابن عباس قال خطب عمر فقال:
" إنَّ الله بعث محمدًا – ص - بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ورعيناها ورجم رسول الله – ص - ورجمنا. وإنِّي خشيت إنْ طال زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالي فالرجم حق على من زني من الرجال والنساء إذا كان محصنًا وإذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف. وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالي لكتبتها".
أما الآية المنسوخة، تلك التى يتحدث عنها، قد وردت عن أمامة بن سهل عن خالته العجماء وعن أبي بن كعب: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فإرجموهما البتة بما قضيا من اللذة ". وأوّل ما يتبادر إلى خاطري أنَّ هذه ليست آية قرآنية ولا يُمكن أنْ يقبلها من له حسّ قرآنى!!!، ولكنّي أقول لكي لا نطعن في شهادة خالته العجماء وأبي بن كعب - وإنْ كنت قد لاحظت أنَّ رواية ابن عباس عن عمر لم تتضمن الآية - أقول إنَّ من إعجازه سبحانه وتعالي أنَّ الآية التى تنسخ تفقد جرسها القرآنى أو موسيقاها!!!، وليس ذلك على الله بعزيز. أمّا خطبة عمر فقد كان يُمكن أنْ نحذفها كليّة، لضعف آخرها، وننوه عن منطق أمير المؤمنين عمر " لولا أن يقال زاد عمر .. إلخ "! ما أبرده من سبب وأسخفه من قول؟؟؟، معاذ الله أنْ يصدر عن أمير المؤمنين. أكلّ ما يمنع عمر من الإضافة للقرآن، وإعادة قيد ما نسخ الله، هو مخافة قول الناس؟؟؟؟! وأيّ عجب أنْ يقول الناس " زاد عمر " إذا أضاف فعلاً، وإلا فماذا يعنى قوله " لكتبتها " إلا الزيادة ؟!.
هذه الفقرة لم تردْ على لسان عمر ولا ابن عباس، بل هي زيادة مستزيد لا يخشي أنْ يقول الناس عنه " زاد في خطبة عمر "!!!!.
ــــــــــــــــ
-72-
فإذا سلّمنا بجوهر الحكاية فإننا نستخرج منها الآتى:
§ الآية كانت موجودة وهى التى تنص على رجم الزانى والزانية، ولكنها نسخت أي حُذفت من القرآن، حذفها الله سبحانه وتعالي، وعلى هذا إجماع المسلمين .. وإن قالت أغلبيتهم بأنَّ حكمها بقي .. ودليلهم فعل رسول الله.
§ ونفهم أيضًا من خطبة عمر رضى الله عنه، أنَّ من حق المسلمين، أنْ يقولوا الرجم لم يرد في القرآن، فمنْ حقنا إبطاله، لأنَّ عمر بنصّ الرواية قال: " أخشي إنْ طال زمان أنْ يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالى .. إلخ " فرغم ثبوت السنة بالرجم، إلاَّ أنَّ أمير المؤمنين عمر رأى، في عدم وجود نصّ قرآني، حجة يستند إليها من يدعو لإبطال العمل بهذه السنة. وهو قول شديد الأهمية ويحتاج لتدبّر. ومن ثم حرص على التأكيد بأنّها " فرض " من الله سبحانه وتعالي ورد في القرآن، وإنْ نُسخ النصّ.
§ وقد ذهب الخوارج وبعض المعتزلة هذا المذهب الذى خشاه عمر بن الخطاب فقالوا بأنَّ الرجم غير واجب، وحجّتهم أنَّه لم يُذكر في القرآن. وعلق سيّد سابق علي ذلك بأنَّه باطل، وهو يقصد طبعًا أنَّ السنّة مُلزمة، ولكن الرواية المنسوبة لعمر، تشير إلي أنَّه لم يذهب هذا المذهب، وإلا لاكتفى بتأكيد السنّة، ولم يخف أنْ يقول قائل بإبطال الرجم لأنَّه لم يرد ى كتاب الله .. وكل الذين يركّزون اليوم على الآية التى نُسخت ينطلقون من نفس المنطلق.
§ ونحن نتساءل عن تفسير لقول علي بن أبى طالب رضي الله عنه: " إجلدها بكتاب الله وإرجمها بقول رسول الله، وفى رواية " بسنّة رسول الله " وذلك عندما جمع بين الجلد والرجم.
لماذا لم يقلْ علي بن أبي طالب: " وإرجمها بحكم الله "؟!!!.
لماذا فرّق بين مصدر التشريع، فنسب الجلد إلى الكتاب والرجم إلى السنّة؟!!! .
ــــــــــــــــ
-73-
إلا لأنَّ هذا هو الواقع فعلاً، فالرجم لم يردْ في كتاب الله ولا أمر الله به سبحانه وتعالى مباشرة وبصريح اللفظ.. .
وإذا كانت الآية قد نُسخت وبقي حكمها - كما تقول الأغلبية - أكان ذلك يُخفي عن علي بن أبي طالب شيخ الفقهاء وأوّلهم بإجماع الأمّة ؟؟ أو كان يُعجزه التعبير عن هذا المعني وهو سيّد البلاغة ؟! .. ولماذا ندور كالدبور وقد وضّحها أمير المؤمنين بأوضح ما تكون الألفاظ: " الجلد من كتاب الله والرجم سنّة ".. .
ولعل هذا هو ما استند إليه بعض الفقهاء في قولهم إنَّ الرجم هو نسخ للكتاب بالسنّة.
وعقوبة الجارية نصف عقوبة الحرّة قال الله تعالي: " إِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (النساء25).
فلو قلنا أنَّ حدّ المحصنات هو الرجم فكيف ينتصف هذا الحدّ ؟ ألا يوقعنا هذا السؤال فى حيرة أمام النصّ الواضح ؟!.
وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والحسني والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي رأوا " أنَّ حدّ العبد والأمة خمسون جلده بكرين كانا أو ثيبين ". ألا يعني هذا أنَّهم قضوا بنصف العقوبة " ؟!.
وذهب بعضهم إلي جلد الأمة مائة جلدة إذا لم تحصن والاقتصار على خمسين إذا أحصنت ؟! لكي ينسجم مع حكم الآيتين، الأولي لما ورد بها من تعميم الزاني والزانية فاجلدوهما مائة جلدة. والثانية بالتخصيص! وهو تناقض من أصحاب هذا الرأي إذ تصبح عقوبة الثيب أو المحصنة أقلّ من عقوبة البكر ؟!.
علي أيّة حال، يبقى السؤال: إذا حكمتم بأنَّ نصف العذاب علي المحصنات - خمسين جلدة، فإنَّ المنطق والفهم والحساب يجعل العذاب
ــــــــــــــــ
-74-
الكامل = مائة جلدة وليس الرجم. وسبحان من لا ينطق وحيه عن الهوي.
ويبقى من حقنا أن نتساءل، ومن حق الله علينا أن نتفكّر: لماذا نسخ الله الآية ؟ .. لماذ نسخ العزيز الحكيم، آية الرجم من القرآن ومحاها محوًا من كتابه الكريم؟ بل محاها من قلوب الناس، فإنْ كان هذا النصّ الركيك، فقد نسخ حرفها وجرسها وبيانها، حتي جاءت غريبة تنكرها أذن المسلم ؟.
لقد أشبع القدماء قضية حدوث النسخ بحثًا .. ألم يحن الوقت لأن نتفكر في سببه؟!.(1)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدرس بإحدى الكليات هاجمنى فى كتابه الذى لا يقرأه بالطبع إلا البؤساء الذين سيمتحنون فيه، وقال إنني " كصحفى " أيجوز أنْ أكتب فى هذه القضايا، وقد أخطأ في اسم كتابي هذا وقال إنني أرمي من وراء ذلك إلي إضعاف الحكم الشرعي تمهيدًا لإلغائه بدعوي أنَّه لم يثبت بالقرآن ". ورغم قلة علمه وسوء أدبه فهو نفسه يحس أنَّ عدم ورود النصّ في القرآن يعطى حجة لإبطاله".
ــــــــــــــــ
-75-
فإذا انتقلنا إلى بحث أنواع الجنس الأخري، غير الجماع بين الرجل والمرأة، فإنَّه تجدر الإشارة إلي ما يقوله علماء النفس " عن تطور إحساس الإنسان الجنسي، أو طلبه للذة الجنسية عبر ثلاثة اكتشافات، خلال نضوجه البيولوجى والنفسى وهي:
جسده ...
الجنسية المثلى.... ..
ثم اكتشاف الجنس الآخر...
ونحن لن نخوض فى مناقشة صحّة أو خطأ ذلك، ولا مدى صوابية تعميمه، فهذا أمر خارج نطاق البحث. ولكن نناقش الأفعال الجنسية المحتملة في كلّ حالة، من الحالات الثلاث. وما يمكن أنْ يترتّب عليها من حدود، وما ورد فيها من نصوص، وآراء .. ومن ثم ما الموقف الإسلامي منها ..
وأول مرحلة هى - كما قلنا - استحداث اللذة من ذات الجسد، ويتبادر إلي الذهن علي الفور مايسمّيه العرب " جلد عميرة "، وهو معروف لدى الذكر والأنثى، ويطق عليه العلماء " الإستمناء " والتمية الشائعة هى " العادة السرّية " وهى تسمية قبيحة ونحب أن نحدده بأنَّه: كل حالة قذف يحققها الذكر أو الأنثى
ــــــــــــــــ
-76-
بدون الجماع ( الشائع أنَّ الأنثى لا تقذف، والمقصود هنا، هو وصولها إلي منحنى النشوة، كما يحدث للذكر ولو دون خروج سائل ملحوظ، وهو ما يميّز الذكر، ولكن منحنى الأنثى شديد الوضوح وإن كانت دراسات حديثة تشير إلي وجود قذف عند المرأة، إلاَّ أنَّ هذا ليس المهم. فما نتحدث عنه هو وقوع الاستفراغ .. أو قضاء الشهوة ) فإذا تم بين الإنسان نفسه، أى بدون اشتراك طرف آخر، فهو هذه العادة السرية، أو الاستمناء أو جلد عميرة .. أمّا الحالات الأخرى التي يتم بها القذف أو الاستفراغ بمشاركة الطرف الآخر دون الجماع، فأحكامها متعددة وهي ما تندرج تحت الاصطلاح الإسلامي الجميل " الملاعبة " وبالاصطلاح الغربي الغليظ Oral sex .. الجنس الجاف .. أو الشفهي ..
وأول ما يرد على الخاطر بالنسبة " لجلد عميرة " أو العادة الجنسية هو سؤال أو بالأحرى نكتة لا يفهمها من قست قلوبهم: إذا كان قد أبيح لنا نكاح ما ملكت اليمين .. لماذا لا ننكح اليمين ذاتها.. ؟!
لقد حرمت التوارة، جلد عميرة أو " الاستمناء " انطلاقًا من قصة " اينوس " الذى ضن بمنيه علي أرملة أخيه التي تزوجها رغمًا عنه بموجب شريعة اليهود، التي تفرض علي الأخ، التزوج من أرملة أخيه، ولكنه كره أن تنجب منه، فكان يهدر منيه علي الأرض بالاستمناء. فالأصل في الاستنكار هو إهدار المني. ولا شك أنَّ الإهدار المتعمّد مستنكر من ناحية نتائجه الإجتماعية والديموغرافية أو الحضارية خاصة الإهدار المتضمن نزعة عصرية، ولكن في حالة المراهقين غير المتزوجين وغير القادرين على الزواج أو الصوم الدائم، فإنْ الإهدار محتوم، ولعل أكثر صورة طهارة أو بُعدًا عن الشبهات، هي حالة الاستكفاء الذاتي هذه، فلا إهدار، ولا فاحشة، لأنّ الفاحشة لا تتم إلا بالمشاركة أو المجاهرة، أو بهما معًا .. كذلك لو تصوّرنا حالة زوجيّة يتعذر فيها الإخصاب مثل فترة الحيض، أو الحمل، أو مرض الزوجية، أو المفارقة المؤقتة، فإنَّ اللجوء إلي جلد عميرة يُبقي الرجل عند حدود الحرمات، ويجنب أبا عميرة نفسه ارتكاب معصية قد تفضي إلى جلده هو.
ــــــــــــــــ
-77-
وقد قال الحنابلة عن الإستمناء: " إذا استمني الرجل خوفًا علي نفسه من الزنا، أو خوفًا على صحّته، ولم تكن له زوجة، أو أمة، ولم يقدر على الزواج فلا حرج عليه ". وقال الأحناف بوجوب الاستمناء إذا خيف الوقوع فى الزنا. وقالوا: " لا بأس به إذا غلبت الشهوة، ولم يكن عنده زوجة أو أمة، واستمني بقصد تسكينها".
وقيل مسّ الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الأمة كلها .. أما الإستمناء فلم يردْ فيه تحريم، وأباحه ابن عباس والحسن وبعض كبار التابعين. وقال الحسن: " كانوا يفعلونه فى المغازى "، وقال مجاهد: " كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء .. يستعفون ذلك ".
وحكم المرأة مثل حكم الرجل فيه.
أنظر كيف كان من مضى أكثر تسامحًا، وأكثر فهمًا لروح الإسلام، وأكثر قدرة على تفهّم احتياجات الإنسان، وكيف يجأر الآن داعية مكبوت من فوق المنابر يحذّر الفتيان من العادة السرية - وهو مصطلح غربي منحدر من الديانة اليهودية - المسيحية - وتأمل أنهم أباحوا ذلك في زمن كان يمكن فيه للمراهق في سن الثالثة عشرة أنْ يمتلك جارية يفرغ معها شهوته، بينما يحرّمونه الآن علي شباب يعيش في أوروبا وأمريكا بلا زوجة ولا جارية حتي مشارف الثلاثين ..
وأذهب إلي القول بأنَّ مساعدة الزوجة لزوجها في التخلّص من التوتر بغير الوطء، تجعل العملية أكثر حلالاً، وأقل شبهة، وأكثر صحية. وإذا كان عليه الصلاة والسلام قد مارس مع زوجاته أو مع عائشة بالتحديد، أنواعًا من الجنس غير الوطء، مثل حديث كان يأمرها أن تأتزر إذا جاءها الحيض ثم يباشرها، أي من الخارج، أو كما ورد في إحدى الروايات " كان يفخذ لها ". فهذا دليل صريح على مشروعية ما يسّمي في الغرب " بالجنس الشفهي "، أى الوصول إلى الإشباع بغير الإيلاج أو الوطء. وما وصل إلينا من سنّته صلوات الله عليه، ما هو إلا المؤشر، أو المبشّر الميسر على الأمة، فهو ليس أكثر من رمز، ولا يتصور أنْ ترد
ــــــــــــــــ
-78-
الحالات على سبيل الحصر. وليس لنا أنْ نحرّم مالم يُحرّم علينا، فكل ما يسبق الجماع أو حتى يحل محله مثل التقبيل والمص، والتفخيذ، والإستمناء للرجل بواسطة الزوجة، واستفراغ الزوجة أو استنزالها بغير وطئها، كله مباح، ومستحب. بل قد نهينا عن المواقعة - أى الجماع - قبل الملاعبة، وقال الرسول للذى أراد الزواج: " فهلا بكر تلاعبها وتلاعبك " ويذهب البعض إلي أنَّ الملاعبة قبل الجماع فرض بنصّ الآية: " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (البقرة223) والملاعبة وإنْ أفضت غالبًا إلى الجماع، إلاَّ أنَّ ذلك ليس ضربة لازب ولا نتيجة محتومة فى كل مرة، فقد تنتهي الملاعبة بالحرث في البحر، وقد تكون هدفًا في حدّ ذاتها، دفعًا للسأم أو من باب التغيير، أو لزيادة الألفة والمحبة، وبحثًا عن مزيد من المتعة، أو في وقت لا تكون الأرض فيه صالحة لا للبذر ولا للحرث. فأقبل يا أخى المسلم وأدبر واستمتع كما شئت في حلالك واتق الحيضة والدبر أصلحك الله ..
وهذا ينقلنا لحديث الوطء في الدبر، وإنْ كنا من الرأى الذى يستنكره .. إلا أننا نحبّ أنْ نعرض وجهات النظر المختلفة:
وأولها أنَّ إتيان المرأة في دبرها، لم تشرّع له عقوبة، ولا عُرف عن رسول الله أنَّه عاقب أحدًا عليه، واختلف الفقهاء حوله، فمنهم من أباحه، إذ نسب إلي ابن عمر تفسيره لآية: نساؤكم حرث لكم بقوله: " أتدرى يانافع فيم نزلت هذه الآية، قال: لا .. قال في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا فأنزل الله سبحانه: نساؤكم حرث لكم ".
وقد يتساءل البعض إذا كان ما ذهب إليه المفسّرون الآخرون، من أنَّ " أني شئتم ".. تعني كيف شئتم .. فكيف استنتجوا منها أنَّها تعني " أي وضع ما عدا الدبر " .. والتفاسير التي وردت حول نزول الآية تطرح أسئلة كثيرة .. فهى تدور حول افتراض أنَّ اليهود يحرّمون وطء المرأة من الخلف، أى وجهًا لظهر، وفى حديث عمر: " يا رسول الله ... هلكت .. قال وما أهلكك .. قال حوّلت رحلى البارحة "
ــــــــــــــــ
-79-
فلم يردّ عليه النبي، فأوحي الله بالآية:" نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (البقرة223)
أولاً: اليهود لا يحرّمون وطء المرأة من الخلف، وإنْ كان آباء الكنيسة في زمن متأخر، اعتبروا وضع الاستلقاء على الظهر، وافتراش الرجل لها، هو الوضع الشرعي، إلا أنَّ الحقيقة المؤكّدة، هي تحريم اليهود لوطء المرأة في الدبر وكذلك المسيحية، والفكرة الأساسية هي كراهية إهدار المني. وكراهية البحث عن اللذة غير مقترنة بالهدف الإلهى، وهو التناسل فى مفهوم الآباء الأوائل، ثم تقديس " الوضع الطبيعي " من احترام الطبيعة عند الفلاسفة المسيحيين .. وعلى سبيل المثال فإنَّ تعبير وSodomy فى ولاية فرجينيا الأمريكية يشمل بالتحريم ليس فقط اللواط، بل يشمل أيضًا الجنس الجاف أو الوطء في الدبر بصرف النظر عن جنس الفاعل والمفعول معه. وقد أدان سان أوغسطين الجنس الجاف وكافة أشكال الجماع التي لا تكون فيه المرأة متلقية على ظهرها، وتحت الرجل، أو التي لا تحقق الإيلاج في فرج الأنثى ( اللواط تاريخ ص 26).
إلا أنَّ الاستشهاد باليهود في تفسير الآية والحديث، يعزز الرأى القائل بأنَّ الحديث كان يدور حول الإتيان في الدبر ولا نرجّح القول بأنَّ " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه قصد بقوله " حوّلت رحلي " أنَّه غير وضع الجماع ولكن في نفس الموضع .. فالتعبير " حوّلت رحلي يوحي بتغيير الموضع، وليس فقط الوضع .. والعرب كانوا يستخدمون شتي الأوضاع، حتي أنَّ مسيلمة الكذاب في الشعر المنسوب إليه يُغري " سجاحا " المتنبة بقوله: فإن شئت سنلقاك وإنْ شئت علي أربع ..
وعلى أربع هو الإتيان من الخلف .. وموافقة المرأة في قوله: " وإنْ شئت...".
ولكن يبدو أنَّ المفسّرين استفظعوا نسبة ذلك إلى عمر - حتى قبل التحريم - رغم الرواية التى تقول أنَّه جاء يصرخ: " هلكت يارسول الله ... ".
ــــــــــــــــ
-80-
وسكوت رسول الله لأنَّه لم يجد له من عنده مخرجًا .. أو مايقطع بعدم هلاكه فيبشّره به .. بل انتظر حتى يفصل الله سبحانه وتعالي فى الأمر!!!
أيُعقل أنْ يكون كل هذا التحرّج من أجل وضع خاصّ تمّت به المجامعة الشرعيّة في المحل المعتاد بين زوج وزوجته؟!!!.
ويمكن أيضًا القول بأنَّ أحاديث الوطء في الدبر طعن في معظمها، فحديث أبي هريرة: " ملعون من أتي إمرأة في دبرها " ورد فى إسناده ابن مخلد وهو " لا يعرف حاله ". وحديث أبي هريرة: " من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد " فى إسناده أبو تميمة وعنه قال البخاري " لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة ". وقال البزاز: " هذا حديث منكر " وفى إسناده حكيم بن الأترم، وهو " لا يُحتج به " وحديث خزيمة بن ثابت أنَّ النبي " نهي أن يأتى الرجل امرأته فى دبرها " في إسناده عمر بن أصبخة وهو مجهول.
ولكن ورد في حديث عمرو بن شيب قال النبي عن وطء المرأة في دبرها هو " اللوطيّة الصغري " ولاحظ أنَّ اللوطية الكبري ذاتها لم يُشرّع لها لا في القرآن ولا السنّة حدّ. كذلك حديث: " أقبل وأدبر وإتق الحيضة والدبر " ذكره أحمد والترمذى .. .
وقال صاحب " الفقه علي المذاهب الأربعة ": اتفقت كلمة علماء المسلمين على من أتي، امرأته أو أمته في دبرها وترك القبل فلا يًقام عليه حد، حيث لم يردْ من الشارع الحكيم حدّ في هذه الحالات. وذهب الشيخ " سيد سابق " إلي أنَّ الشافعية يرون شبهة في وطء المرأة في الدبر، الشبهة المُبطلة للحدّ ( هذا وليس في القرآن ولا السنّة حدّ لهذا الوطء ) قال الشيخ: " الشافعية يقسّمون الشبهة التى تُبطلّ الحدّ إلي ثلاثة أقسام: شبهة في المحلّ، أي محلّ الفعل، مثل وطء الزوجة الحائض. أو الصائمة أو إتيان الزوجة في دبرها. فالشهبة هنا قائمة في محلّ الفعل المحرّم،
ــــــــــــــــ
-81-
إذ أنَّ المحلّ مملوك للزوج ومن حقّه أنْ يُباشر الزوجة - وإذا لم يكنْ له أن يُباشرها وهى حائض أو صائمة، أو أنْ يأتيها فى الدبر - إلا أنَّ ملك الزوج للمحلّ وحقه عليه يُورث شبهة، وقيام الشبهة يقتضى درء الحدّ، سواء اعتقد الفاعل بحلّ الفعل أو بحرمته، لأنَّ أساس الشهبة ليس الاعتقاد والظنّ، وإنّما أساسها محلّ الفعل - وتسلطّ الفاعل عليه شرعًا " ( وهذه الفتوى تنطبق أكثر علي سائر " المحّلات " الأخرى فى جسد المرأة، والتي لم يردْ فيها أي نصّ ج ).
وفى رأينا أنَّ النصّ الذى يُستفاد منه التحريم ليس آية " نساؤكم حرث لكم .. ".. وإنما " فأتوهن من حيث أمركم الله ". وإنَّ تجنّب القرآن التحديد الصريح، إلا أنَّ المعنى مفهوم .. غير أنَّه لا حدّ علي من فعله لا فى القرآن ولا فى السنة، بل حتّي إنْ وجد هذا الحدّ من القياس ( عند من سمّوه اللوطيّة الصُغرى ) فهو مدروء بشُبهة الملكيّة للمحلّ ( بين الزوجين طبعًا ) وهو علي أيّة حال ممّا يجرى بين المرء وزوجه، ما لم يقع فيه الغصب والإكراه، فلا سبيل لوصوله إلي علم القضاء. وهو فى اعتقادنا فعل غير مستحب، ليس انطلاقًا من مفاهيم التوراة والكنيسة التي لا ترى للجنس سببًا أو مبررًا إلا الإخصاب، فنحن نذهب إلي أنَّ اللذة الجنسية هدف فى حدّ ذاتها ومباحة شرعًا فى الإسلام بلا أدنى شبهة، ولا تحرّج .. ولكن هذا الفعل يُعطي المرأة حظًا أقل من المتعة التى تستحقها، والمؤهّلة لها بالجماع الفطري، وقد تكون له مضاعفات جانبية من الناحية العضويّة أو النفسيّة، والعامّة فى مصر يردّدون قولاً بذيئًا ولكنّه يحتوى على قدرٍ من التجربة الصادقة (1).
أمّا عن الحيض فأقول إنَّه يُوجد شبه اتفاق عام بين الجنس البشري على كراهية الجماع فى فترة الحيض، وربّما تكون من حيل الطبيعة التى تريد تركيز الجماع فى فترة الإخصاب، والحيض ليس منها، وربما يتكشف العلم عن ضرر غير واضح الآن، والأخطار التى يحملها الدم تتكشف كل يوم عن أمراض عجيبة، وآخرها هذا الميكروب الذى يسلب الجسم مقاومته فيصبح سهل المنال، لأيّة جرثومة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو قولهم: عايز تغيظها .. الخ ولا حياء فى الدين أو العلم.
ــــــــــــــــ
-82-
تعبث فيه كما شاءت .. أفلا يجوز أنْ يكون ذلك وقاية للرجل مخافة أنْ يكون به خدش بسيط فيتلوّث بهذا الدم المتدفق وينتقل إليه ما قد يكون بدم المرأة من أمراض أو فيرسات كامنة ؟! أو حتى من أجل المرأة التى لا تكون فى أحسن حالاتها فترة الحيض، ولا أظنّ أنَّه يطيب لها حالة الرجل الغارق فى الدم والملطخ به...
ولا أظنّ أنَّ القائلين بشهوة البعض للجماع في فترة الحيض لما يزعمون من حرارة ولزوجة، ولا أظنّهم يقولون ذلك عن صدق أو تجربة ولإنّما عن مكابرة ومعاندة، ولمجرّد شهوة تتحدّي المُحرّمات التي تبدو لهم غير مفهومة الأسباب.
علي أيّة حال، لقد اكتفي القرآن بقوله: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " (البقرة222).
فهو لم يصفه بأكثر من أذي ولم يقلْ نجس، أمّا الحضارات الأخري فقد أسرفت في كراهية الحيض، وبالتالي المرأة في الحيض، وتقول " تاناهيل " مؤرّخة الجنس " إنَّه حتّي القرن التاسع عشر كان الأطباء الأوروبيون يعتقدون أنَّ لمسة المرأة الحائض تُعفن لحم الخنزير! ".
أما وقد وسّع الله عليكما - يا أخى المسلم، وأختى المسلمة - فى فترة الحيض، بغير الجماع، من أسباب اللذة، فلماذا اللجاجة، وهى فترة أيام ليس إلا.. تستمتعان فيها بريادة آفاق جديدة فى الحلال ؟(1).
ــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ أنّ الوطء في الدبر، والحيض، قضايا أثيرت من جانب المسلمين بسؤالهم للنبي، وذلك نتيجة احتكاكهم باليهود في المدينة، ورب قائل: لو لم يسألوا ما حُرّمت! ولكن الإيمان يفترض أنَّ السؤال فد طرح بإرادته تعالس.
ــــــــــــــــ
-83-
وننتقل الآن إلي علاقة متفق على شذوذها واستنكارها، وهى الجنسية مع المثل، أو الشذوذ الجنسي.. أي ممارسة الجنس مع نفس النوع، الذكر مع الذكر، وهو ما يعرف عندنا باللواط، والأنثي مع الأنثي، وتسمّيه العرب " المساحقة " وهو فعل جنسي مخالف للصيغة التى يتمّ بها تكاثر الأنواع.
وهو عند علماء النفس، يُوجد بمُجرّد الإشتهاء، وليس بالضرورة إتيان فعل مُعَيّن، ولا حتي وقوع الإتصال أو المصارحة، إنّما مُجرّد الإشتهاء الجنسي لشخص من نفس النوع، يعني وجود حالة شذوذ جنسي.
ولم يصل العلماء - حتي اليوم - إلي رأي نهائي في أسباب هذه الظاهرة، إلاَّ أننا نحاول أنْ نحصر مُجْمَل الآراء فى هذه التفاسير:
الذين يرونها ظاهرة طبيعية موجودة في كل إنسان تنتظر ظروفًا خاصّة لتُعلن عن نفسها، فإن لم يُتحْ لها ذلك ظلت مكبوتة في اللاوعي أو قد تُكبت بظروف مانعة من القانون والتقاليد في المجتمع، وقيم الفرد ومعتقداته. ولكنها موجودة، ومهما كُتمت تُعبّر عن نفسها بصيغة ما، وإنْ صعب علي غير المتخصّص اكتشاف صيغ هذا التعبير.
ــــــــــــــــ
-84-
ودليل هؤلاء أنَّه ما من مجتمع أو حضارة أو ثقافة قد خلت من تلك الظاهرة مع اختلاف الظروف وتباين
الأفكار، سواء فى مجتمع يفرض الحجاب علي المرأة ويُعقّد الاتصال الجنسي العادي أو في مجتمع يُبيح الاختلاط الشديد إلي حدّ الإباحية بين الرجل والمرأة. ورغم ذلك يُوجد الشذوذ الجنسي، بل لقد لوحظ أنَّه - أي الشذوذ - ينتشر مع الإباحية الجنسية بعكس ما كان متوقعًا، من الذين نادوا بالإختلاط كوسيلة لمحاربة الشذوذ. فإذ به يكشف عن انتشار أوسع للشواذ.
وقد أخذ بهذا الرأى - اعتبار الجنس الشاذ ظاهرة طبيعية في الإنسان – كلاً من فرويد، وتقرير كنسى الشهير فى الولايات المتحدة فهما يران أنَّ الناس يُولدون ولديهم الإستعداد لإشتهاء الجنسين، ولكن العوامل الإجتماعية تفرض عليهم نفضيل أحد الجنسين.
وهو نفس رأى الإغريق و الرومان. فقد اعتبرها ارستوفان: " حاجة طبيعية " وقال اكزينوفون أنَّها " جزء من طبيعة الإنسان "، وزعم وتراك " إنَّ عاشق الجمال ينشده حيثما وجده فى الأنثي والذكر "(1).
وقد زعم تقرير " كنسي " المشهور، أنَّ 13 % من الذكور البالغين و 7% من البالغات هم من الشواذ أي يفضّلون نفس الجنس. وأن 40% من الذكور البيض وعشرين بالمائة من البنات مرّوا ومررن بتجربة لواط أو سحاق، بعد سنّ البلوغ. إلاَّ أنَّ الدارسين المعاصرين، وجماعات الدفاع عن حقوق قوم لوط، يشكّكون فى هذه الأرقام الآن. ويقولون إنَّ التقرير نُشر في الأربعينيات، وكان المناخ العام ضد إعلان هذا الشذوذ، لما يجرّه عليهم من متاعب. ويستشهدون بما جرى من مطاردة اللوطيّين فى الخمسينيات فترة المكارثية. وقالوا أنَّ البعض لا يدرى أنَّه شاذ، والبعض يرفض أنْ يعترف بشذوذه، ولو بخداع نفسه! والبعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: حوار حول الحب ترجمة هلمس هولد، الناشر: جامعة كمبردج بالولايات المتحدة عام 1961 صفحة 415.
ــــــــــــــــ
-85-
يخشي أنْ يُصرّح حتي ولو كان علي يقين من شذوذه ويُصرّ هؤلاء علي رفع النسبة في الولايات المتحدة إلي حوالي 30%، وهى نفى النسبة المقترحة لغرب أوروبا.
وهناك من يرونها مرحلة في التطوّر الجنسي، فكل إنسان طبيعي، مُكوّن عندهم من شقين، سالب وموجب، أو أنثوي ومذكر، ولكنه بالنمو والنضوج البيولوجي والنفسي، يتغلب فيه أحد العنصرين، ويتراجع أو يضمر العنصر الآخر. ولذا تمرّ مرحلة يشتهي فيها الصبي اللعب مع الصبيان، ويكره البنات، أو يفرّ منهن، ونفس الشيء، بالنسبة للبنات الصغيرات. ثم يجتاز كل منهما هذه المرحلة ليأخذ إتجاهه الجنسي، الصيغة الشائعة، وهي الميل للجنس الآخر. ولكن بعض الحالات يحدث لها ما يُسمّى بالتثبيت، أو التخلف الجنسي، فتظل في المرحلة التي أشرنا إليها، ولا تتطور، وهؤلاء هم من يُسمّون باللوطية والسحاقية أو الشواذ جنسيًا أو قوم لوط أو Gay في المصطلح الغربي الحديث. ولهذا التخلف أو التثبيت أسبابه العديدة عند أهل هذه النظرية فمنهم من يُرجعه إلى خلل في الغدد، ومنهم من يُرجعه إلي ظروف البيئة، أو أحداث خاصة في حياة الفتي أو الفتاة في سن التكوين الجنسي. فمن يرى أنَّه خلل في الغدد، وأمثلتها واضحة فيما نراه من تبدّل ملحوظ في الشخصية المصابة. فهو يحمل اسم ذكر ولكن مظهره العام ومسلكه أنثي، والعكس كذلك. وهذه حالات مرضية تعالج بعمليات تعديل الجنس. ويُجمع العلماء هذا التفسير يتناول قطاعًا شديد الخصوصية، في ظاهرة أكثر شمولاً وتنوعًا. ( وهم الذين عرفوا عند العرب بالخنثي ).
ويرى العلماء أنَّ نسبة كبيرة جدًا تكاد تكون الأغلبية من اللوطيين والسحاقيات، هم من ذوى الإشتهاء المزدوج Bisexual، أي يمارسنذ الجنس العادي والشاذ معًا، ومعظم مشاهير اللواط، كانوا متزوجين. وليس هناك ما يمنع السحاقية من الزواج والإنجاب بالطبع، إلاَّ إنْ اشتدّ انحرافها، إلي حدّ كراهية الرجال.
ــــــــــــــــ
-86-
وفي الأدب العربي حديث طويل عما يسمونه " نواسي المزاج " نسبة إلي بيت شعر سخيف، منحول إلي أبو نواس " الحسن بن هانىء " والذي يقال فيه علي لسانه أنه بيت ما بين جارية وغلام... إلخ.
وبصرف النظر عن نوعية الممارسة، فإن العلماء يعتبرون الممارس، من اللوطيين واللواطيات إذا كانت نشوته أو نشوتها الحقيقية مع الطرف المماثل، حتي ولو كانت تستمتع أو كان يستمتع أيضًا مع الجنس الآخر .. ولا يأبهون بمن يدعي " أنه سيان " ولا بالحالات النادرة التي يكون فيها الأمر كذلك فعلاً .. .
وهناك من يرى أنها مسلكية دخيلة علي النفس البشرية، يمكن أن تنقرض أو يمكن تفاديها إذا ما أحسنت التربية، ومنعت مسبباتها، وهؤلاء يرون أنَّها مسلك خلقي وأنَّ المجتمع سيبرأ منها إذا ما عزل أو قمع كل شاذ يعرف، فلا تنتقل إلي الجيل الجديد. فهي تعلّم ولا تولد في الإنسان كالتدخين مثلاً .. وهذا رأى جمهرة الأخلاقيين ورجال الدين، وأمير المؤمنين الذي قال: " لولا أنَّ الله ذكر اللواط في القرآن ما ظننت أحدًا يفعله ".
ونقول إنَّ الباحثين لم يجمعوا على تعليل علمي وإنْ اعترفوا جميعًا بأنَّها ظاهرة وْجدت في كل المجتمعات بنسب متفاوتة من العلنية، وأنها ظاهرة آخذة في الانتشار في الحضارة الغربية اليوم، إلي الحدّ الذي يجعل المشرّعين وعلماء النفس والاجتماع يميلون إلي إخراجها من دائرة الشذوذ والتجريم إلي الإباحة، لا القانونية فحسب، بل وحتى من ناحية القبول الإجتماعي والأخلاقي. فنسبتها تتجاوز الأربعين بالمائة بين الذكور في بريطانيا وأمريكا، ومعظم الدول الغربية أسقطت عنها العقوبة بين البالغين مع تفاوت في تقدير سن البلوغ ما بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين .. ويُلاحظ أنَّ سن الجنس القانونية بين الذكر والأنثى يكون دائمًا أقل، مما يؤكّد أنَّ المشرع حتى في هذه المجتمعات، ما زال ينظر إلي اللواط أو المساحقة، كفعل غير مرغوب فيه، يتمنى شفاء المواطن منه وذلك بتأخير سن السماح به. فهم في بريطانيا يسمحون للفتى بالزواج وأن يكون أبًا
ــــــــــــــــ
-87-
في سن السادسة عشرة، ويعطونه حق الإنتخاب، وخدمة العلم في الجيش الامبراطوري من سن الثامنة عشرة، ولكن لا يُسمح له بالشذوذ إلا فى سن الحادية والعشرين، عندما يصبح حالة ميؤسة، ويصبح المنع - في نظرهم – سببًا لمخالفات قانونية ومدخلاً لجرائم أشدّ ضررًا علي المجتمع.
ومن وجهة نظرنا: فهي ظاهرة ترجع إلي هذه الأسباب مجتمعة، وهي تنتشر وتأخذ شكل الفاحشة العامة في مرحلة انهيار الحضارات، أو بمعنى أدق في مرحلة ازدهار الحضارة وترفها، واطمئنانها الخارجي، عندما يصل منحنى الصعود إلي نقطة القمّة ويبدأ في الانحدار حتي وإن استقر فترة، أو بدا مستقرًا عند القمة.
وهي أيضًا تنتشر أو تبقى منتشرة في المجتمعات التي انهارت حضارتها، وأتيح لها لأسباب غير طبيعية، وسائل الترف، مع فقدان القوة الذاتية، وفقدان الرغبة والقدرة على الخروج من مرحلة التخلف.
وإذا كنا سنشرح نظريتنا بالتفصيل، إلاَّ أنَّه تجدر الإشارة إلي رفض " جون بوزول " لهذا التفسير الحضاري. فهو يقول إنَّ اللواط موجود في كل العصور والمجتمعات. وأنَّ الفارق هو فقط، في إباحته، أو تحريمه. ويرفض القول بأنَّه يظهر في مرحلة الانهيار. فيقول:" إنه خلال القرنين الأولين من عمر الامبراطورية، عندما كانت روما في قمة القوة والنفوذ، انتشرت كتابات الإغريق اللوطيين ". ونحن لا نقول خلاف ذلك. إنَّ الظاهرة لا تشيع بعد الانهيار. ولا هي من نتائج الانهيار، بل هي من علامات الأفول، ومن أسباب الانهيار. وهي تبدأ في الظهور عندها يصل المنحني - كما قلنا - إلي أعلي نقطة. وقد يبقي المنحني ثابتًا في الظاهر، وتبقى الدولة أو الإمبراطورية، أو الحضارة المعنية متربّعة على القمة لعدة قرون، لسبب بسيط، أنَّه لا تُوجد حضارة أخرى قادرة على إزاحتها، أو جاهزة لقلبها. ولكن الحضارة السائدة، تتوقف عن النمو والصعود، ومن ثمَّ تبدأ رحلة الانحدار بظهور عوامل الإنهيار، وممارسات الترف، ويعكف مترفوها على الفسق فيها، حتى يأتي أمر الله في شكل قوة إنسانية أكثر خشونة واكثر تقشفا. وظهورها عند وصول الحضارة إلي ذروة تألقها يخدع الدارس، ويجعله
ــــــــــــــــ
-88-
يظن أنَّها علامة أو حتى سبب التقدم. وهي حقًا قرينة على التقدم، ولكنها في نفس الوقت مؤشر الإنهيار.
ففي مرحلة الصعود الحضاري، تنتشر القيم التي تحقق القوة، فالعربي، مثلاً، في الأمة الحبلى بالميلاد الحضاري، كان يفخر بأنَّه والد عشرة وأخ لعشرة وعم عشرة ء وخال عشرة . . وكانت مقاييس الجمال هى التي تطبق على الأنثى الولودة القادرة على حسن تغذية وليدها: كبر الصدر وكبر العجيزة ... ذلك أنَّ الصعود الحضاري، يتطلب الكثرة العددية، ويغلب مصلحة الأسرة على حساب الفرد، والمجتمع على الأسرة.. ومن ثم يندفع الرجال إلي الزواج للتكاثر ومباهاة الأمم.
ولا تري المرأة لها من مهمّة أشرف ولا أسمي من إنجاب وتربية محاربين وبناة،عناصر مباهاة الأمم، ولو كان هذا علي حساب متعتها الفردية، ذلك أنَّ سعادتها القوميّة والحضاريّة تغطي، وتعوّض متاعبها الفردية، بل إنَّ متعتها الفرديّة تتحقق من خلال هذا التفوّق الحضاري . . ولا توجد حضارة صاعدة، مارست تحديد النسل أو أحبّت المرأة العجفاء العاقر، أو استغرقتها المتع واللذات الفردية – أو كما في موضع بحثنا - أباحت اللواط، أو تفشّت فيها هذه الظاهرة .. .
فإذا ما انتصرت الحضارة على تحدّيها، وحققت أمنها القومي، وبدأت في الاستمتاع بنتائج بنائها الحضاري، تغيرت المقاييس ونما الشعور الفردي علي حساب المسئولية الجماعية، ويتضخم إحساس الفرد بذاته، وحرصه على زيادة تمتع هذه الذات .. وتتراجع الرغبة الاستشهادية، أو الاستعداد للتضحية، علي مستوى الجيل الواحد، وعلى مستوى الأجيال، فالجيل الحاضر لا يعنيه ولا يريد التضحية من أجل الجيل القادم.
يسود شعار: أنا ومن بعدى الطوفان، أو ما يتردد في الغرب الآن " هذه حياتي " وهي " حياة واحدة " فلماذا أضحّي بها من أجل جيل آخر .. .
ــــــــــــــــ
-89-
لا يحبون الادخار، ولا التقتير علي النفس لإعطاء مستوي أعلي من التعليم أو الحياة لأطفالهم إلا في أضيق الحدود، أو إلي الحد الذي لا يسبب لهم متاعب أكبر من المتع التي يتطلعون إليها .. ومن خلال إقناعهم بأن الانفاق على الأولاد " استثمار " جيد لأموالهم .. بل يتحوّلون إلى كراهية الإنجاب، فيلجأون إلي تحديد الأسرة، وتصبح الأسرة النموذجية التي بها " ولد وبنت " لكي لا ينخفض مستوى معيشتهم، ولكي لا تتبدد حياتهم في تربية الأولاد، وتكفّ الأمهات عن أرضاع اولادهن، لأنَّ الرضاعة تفسد الثوب وجمال الصدر. وتنقلب المقاييس بما يخدم هذه الأهداف، فتصبح المرأة الولود مذمومة، والعائلة الكبيرة الأفراد غير حكيمة، بل حتى مقاييس الجمال تتغيّر فيبدأ الإعجأب بالمرأة النحيفة التي لا تستطيع الحمل إلا بصعوبة، ولا صدر لها لإرضاع ابنها أو " الغلامية القد ".. ئم تأتي الخطوة الطبيعية نحو عشق " الغلام " الذي لا ينجب ولا يحمل مسئولية عائلية ولا قومية ولا حضارية .. أي الفردية في قمتها .. ومن هنا فنحن نراها ظاهرة انقراض حضاري.
ظبي يـرق الماء فى |
وجناته ويرق عـوده |
ويكاد من شبه العذار |
ي فيه أن تبدو نهوده. |
" الحسن المهلبى "
وكان المخنثون موجودين ومعروفين في الجاهلية، واستمروا لفترة علي زمن رسول الله في المدينة وكانوا يدخلون على النساء ويقومون بدور الخاطبة .. ثم اختفى حديثهم صدر الإسلام ليظهروا في ظل الدولة الإسلامية الأولي في شكل الفنانين أو المغنيين كما هو الحال الآن في الغرب. فأوّل مغن هو " طويس " كان مخنثا يحلي يديه ويلبس ملاءة مصقوله ويضرب بالدف. وكما نشاهد الآن في الغرب تنتقل الموضة أو الانحراف من الفنانيين للشباب ويشتهر بها المحترفون ويتغنى بها الشعراء بل تصبح صفة من صفات الطبقة الحاكمة المترفة وعلامة على الأرستقراطية يقول الشاعر الفاجر:
ــــــــــــــــ
-90-
بأبي طبي كلفت به |
واضح الخدين والفلج |
مرّ بي في ذي خنثٍ |
... ... ... ... (1) |
وقال أبو سويد:
كان لحبيب بن أوس حمار وحصان وغلام مخنث فإذا نزل أخذ الحمار ينهق والغلام يَمْجُن في كلامه(2).
وكانت مراوح الخلفاء مكتوب عليها:
أنـا في الكف لطيفـة |
مسكني قصر الخليفة |
أنــا لا أصــلح إلا |
لظـريف أو ظريفة |
أو وصيف حسن القـدّ |
شبيبه بالوصيفة (3) |
ونحن مرّة أخري نخالف " جون بوزول " الذي رفض القول بأنَّ إباحة الشذوذ تؤدّي إلي انقراض السكان. لأنَّ هذا الرأي - يقول - يعني التسليم بأنَّ لو أبيح الشذوذ لانصرف الجميع وتركوا الجنس الطبيعي!...
ونقول إنَّ الاتهام والدفاع كليهما فيه مبالغة شديدة، فصحيح ستبقى النسبة الكبرى تفضّل الجنس الطبيعي، فحتي في سادوم وعامورا احتاج الأمر لغضبة إلهية لكي ينقرض السكان. وصحيح أنَّ نسبة كبيرة من الذين يمارسون الشذوذ، إذا استحال عليهم ذلك سيتجهون إلي الجنس المعتاد، ومن ثم يتناسلون ولو علي حساب لذتهم الحقيقية.. إلا أنَّ انتشار هذه الظاهرة تكمن فيه رغبة انتحارية، رغبة في الإنقراض، كراهية الإستمرار البيولوجي، ومن ثمّ يتمّ تصريف الجنس بلا حرث ولا زراعة، وحتي الزارعين يقلّ إنتاجهم، وفي المجتمعات التي ينتشر فيها اللواط كظاهرة حضارية، تنخفض نسبة تزايد السكان ليس بسبب انصرافهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 7.
(2) العقد الفريد 8 ص130.
(3) الأغاني 7.
ــــــــــــــــ
-91-
للشذوذ، ولكن كمناخ عام. وقد أشارت بعض الدراسات إلي انتشار ظاهرة الشذوذ الجنسي فى مستعمرات القردة إذا ما ازدحمت بسكانها وضاق المكان بالقردة، أو شحّ الطعام أو حتى ساد القلق بين الذكور ..
الحضارات عندما تصل إلي القمة وتبدأ في الإنحدار يكون قد توفّر لها الأمن الوطني، أو علي المستوي الجماعي، ولكن ينتشر فيها القلق الفردي. أنظر مثلاً، علو نسبة الإنتحار في بلاد آمنة من الناحية الوطنية أمنًا شبه مطلق مثل السويد والولايات المتحدة. وانعدام هذه الظاهرة تقريبًا في اللاجئين الفلسطينيين أو الكمبوديين.
باختصار، إنَّ حضارة صاعدة يصبح شعارها: الفرد في سبيل المجموع " وزرعوا لنأكل فنزرع ليأكلوا" ومن " كانت بيده فسيلة وقامت عليه الساعة فليزرعها ". أمّا الحضارة الآفلة فشعارها " غد بظهر الغيب واليوم لي " " لا تشغل البال بما في الزمان، ولا بآتي العيش قبل الأوان .. واغنم من الحاضر لذاته .. ".
وفي الحضارات المنهارة فعلاّ: " بيت أبوك خرب خذ لك قالب ".
فإذا انتقلنا إلي التطبيق، نقول أنَّه لا توجد أيَّة إشارة لا من قريب ولا من بعيد في التاريخ الفرعوني القديم للواط. ولا أزعم أنني قد درست أسباب ذلك، أو أنَّ لدينا ما يكفي من نصوص لإصدار حكم قاطع في هذا الشأن. ويمكن القول أنَّ التاريخ الفرعوني، كان تاريخًا شديد " الرسمية " وأنَّ الكتابة لم تكن ظاهرة عامة أو شائعة، ومن ثم فإنَّ معظم الآثار المكتوبة التي وصلت إلينا تدور أساسًا حول تاريخ الفراعنة ملوك البلاد والآثار، " والأمناء على تاريخها ". وهؤلاء بالطبع لا يثبتون في تاريخهم إلا ما يعتبرونه مشرفًا، وهذا في حد ذاته - إنْ كان مقبولاً كتفسير - يعني - علي الأقل - استنكار الظاهرة، من جانب المجتمع، فهي سوأة تُخفى ولا يتفاخر بها! ولكن يُلاحظ أيضًا أنَّه لا توجد حتى قصص غرام فى تاريخ الفراعنة المكتوب، مثل الإغريق، بل وحتى التوراة .. وكل الفراعنة نراهم فى وضع رب الأسرة المثالي، كالمرشح الأمريكي - بجانب زوجته ويحيط
ــــــــــــــــ
-92-
بهما الأطفال. وقد يُقال: وماذا نتوقع من الصورة الرسمية التي ينشرها البلاط الملكي ؟ ولكن حتي الأساطير الفرعونية عن الآلهة تلتزم بالعفة، فلا شذوذ بين الآلهة ولا مشاعية جنسية كتلك التي نراها فى ديانات اليونان والرومان. فقصة أوزريس التي تعتبر محور الدين الفرعوني في مصر القديمة، هي قصة وفاء زوجة لزوج محب، قصة تعتز بها وتحرص على تدريسها، أية مؤسسة أخلاقية. كما أضيف، أنَّ جميع تماثيل وصور الآلهة والفراعنة والرجال والنساء العاديين محتشمة، مغطاة بالثياب، ولو على الأقل حول العورة. بعكس تماثيل ورسومات الإغريق التي تحرص كلها علي إبراز عورة الذكور بالذات، مع أنَّ المناخ كان يفترض العري في مصر الإفريقية، والكساء في أوروبا الأكثر برودة!! كما لا توجد في ملايين الأواني والمزهريات الفرعونية التي عُثر عليها مثل تلك المزهريات التي سجّلت الفعل الجنسي في شتى الأوضاع أو التخيلات، عند الرومان واليونان والهنود وغيرهم. فهناك، إذن، موقف مختلف جذريًا من المسألة الجنسية.. .
وقد يكون السبب أن المجتمع المصري ككل لم يمر بمرحلة التفسّخ الحضاري المترف. فعندما وصل إلي قمته، تعرّض للغزو الخارجي والاحتلال والدخول تحت سيطرة حضارات أخري. وهو تفسير ضعيف لا نُصرّ عليه. ثم أنَّ قلة الوثائق المتاحة تجعل طرح تفسير لهذا الرأي، مجرّد تخمين، وقراءه في المجهول، لولا أنَّ لدينا - لحسن الحظ - النص القاطع الذي يُبرىء ساحة الفراعنة، وهو قوله تعالى لقوم لوط: " مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ " (سورة العنكبوت 28) والفراعنة سبقوا قوم لوط في الوجود وهذه براءة من الله.
أمّا الاغريق فقد مارسوه، أو على وجه الدقة، مارسته الطبقة الحاكمة، وهذه هي التي وصلنا تاريخها، فلم تكن هناك وسائل لنقل الكثير عن سلوك العامة.
ــــــــــــــــ
-93-
ونحن علي يقين من انتشارها بين الخاصة بشكلٍ علني(1) ومقبول. حتي أنَّ الدراسات الحديثة - وربما ببعض المبالغة - لا تكاد تستثي أحدًا من المشاهير أو الفلاسفة أو الآلهة في حضارة الإغريق، من ممارسة الشذوذ الجنسي. وكثير من الألفاظ العلمية المستخدمة حاليًا لوصف أنواع الشذوذ الجنسي مقتبسة من القاموس الإغريقي.
وقال المؤرخون أنَّ إسبرطة اشتهرت بالسحاق، وأثينا باللواط، وكانت هناك بلدة اسمها " لسبوس "، منها اشتقت الكلمة الدارجة الآن في عصرنا هذا " Lesbian " لوصف المرأة السحاقية(2) وكلمة " Catamiti " وتعني لوطيًا سلبيًا مشتقة من اسم شاب إغريقي اغتصبه " زيوس " كبير الآلهة.
تشرفنا!.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) Christianity, Social Tolerance and Homosexuality. By: John Boswell
وقد بذل مؤلف هذا الكتاب - المذكور أعلاه - جهدًا غير مُبرر لإثبات أنَّ الطبقة الراقية كانت تمارس الشذوذ مع الطبقات الفقيرة أو العامة. ويستشهد " لقد نام الأباطرة مع ممثلين، والملوك مع الجنود، والسناتور مع العبد ". وهذا صحيح ولكنه لا ينقض النظرية التى أخذنا بها والمستمدة من قوله تعالى: " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها" فالطبقة الحاكمة أو المترفة هي التي تشرع القيم وتسن الأخلاق للمجتمع، فهي التى تبدأ المجاهرة. ولكن هذا لا يعنى أنَّها تمارس ذلك داخل إطارها وحدها فلو فعلت لما كانت المجاهرة المدمرة، وكانت الفاحشة محدودة، ولكن من عوامل الانهيار التى يتم بها القانون الإلهى، أن تفقد تلك الفئة احترامها ومهابتها لدي العامة وهذا لا يكون إلا بوصول العامة إلي مخادعها، والاطلاع على فضائحها. والعامة بدافع الرغبة في المال والسلطة يستجيب بعض أفرادها لإغراء مضاجعة الطبقة الحاكمة. ولكن اللواط لا يصبح ظاهرة عامة بين العامة إلا فى حالة سادوم وعامورة .. حتى في أوروبا وأمريكا اليوم فإنها أكثر شيوعًا بين المثقفين، والبروليتاري الذي يمارسها يفعل ذلك كمظهر للتحضر وللاندماج في الطبقة المثقفة، التي لا تستطيع الإكتفاء الذاتي، ولا تصبر عليه، بل تحتاج دائمًا إلي دم جديد من الشعب.
(2) اللواط عند العرب هو ما يكون بين ذكرين من جنس، أمّا المساحقة فلم ترد في القرآن ولا فى قصة لوط لأن الآية صريحة فى وصف جريمتهم إنكم لتأتون " الرجال " شهوة. ولكن اللغة العربية تعنى بالمساحقة ما يكون بين المرأتين من فعل جنسي.
ــــــــــــــــ
-94-
وكان اللواط من خصائص الطبقة الحاكمة، والآلهة، أو من علامات النبل، وامتيازات التفوّق. وليست بمفهوم الشذوذ المرضي .. فمعظم النبلاء كانوا يجمعون بين زوجة وغلام معشوق، وإنْ وجدت حالات غلب فيها الشذوذ مثل أفلاطون الذي لم يتزوج حتي مات في سنّ الثمانين. ووضع نظرية " الحبّ الأفلاطوني "(1)، في حبّ الغلمان(2)، والغريب أنَّهم كانوا يعلموننا أنَّ الحبّ العذري بدأ عند أفلاطون، وهو كما ترى حبّ الغلمان، أمّا الحبّ العذري الحقيقي فهو حبّ قيس وليلى وجميل وبثينة!!! .. حبّ صحراء نجد!!! .. حبّ رجل لامرأة، ولكنه لا يصل إلي الجنس لأسباب خاصة بهما.
وأفلاطون على أية حال ( 427 ق. م – 347 ق. م ) تعرّف بسقراط وهو صغير.. وسقراط مشهور باللواط، متهم بلإفساد الشباب. وأعدم عام 399ق.م.
وقد دافع أرسطو عن اللوطين ووصفهم بأنَّهم يكونون أفضل الرجال عندما يكبرون!.
وقد عبد الإغريق " هرقل " بسبب شجاعته وقوته وفحولته، فقد فض بكارة خمسين عذراء في ليلة واحدة، ومع ذلك كانت له علاقة جنسية مع ابن أخ Tolaus ، كما سقط في حب هيلاس الجميل ذي العر المجعّد المرسل علي جبينه (3) وكان له عشرون عشيقًا!.
وقد وضع ستارتون دليلاً لمراحل الإثارة في الغلام " إنَّ زهرة غلام في الثانية عشرة مرغوبة، ولكنه أحلي في الثالثة عشرة وأشهي في الرابعة عشرة، ويزداد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد علق سيسرو على الحب الأفلاطونى للغلمان فقال: " إذا كان مجرد حب عذرى فلماذا لم يحب أحد غلاما قبيحًا أو شيخًا جميلاً ( من كتاب الاله المحبوب. قصة هارديان وأنطونيوس بقلم روبستون لامبرت ).
(2) الجنس في التاريخ
ــــــــــــــــ
-95-
سحره أو جاذيته في الخامسة عشرة، أمَّا السادسة عشرة فهي السن المقدّس! ".
وفي تاريخ اليونان إنَّ الديموقراطية فى أثينا، أقامها لوطيان عاشقان !..
وهناك روايات عديدة عن شذوذ سقراط، وقد أعدم بهذه التهمة ولكن مغامراته مع تلاميذه، بقيت لنا، وعشق هؤلاء التلاميذ له، واضطجاعه على فراش واحد مع أحد التلاميذ، ومفاجأة بقية الطلبة له، وغيرة الذي كان يعشقه بينهم، إلي حد الصياح في وجه أستاذ الفلاسفة " إنك تقلب الدنيا رأسًا علي عقب لتجلس بجانب الفتى الجميل ". ورد سقراط الهاديء أو البارد دائمًا - كما عرفنا من محاوراته مع زوجته، وإنْ كنا نتعرف الآن على سبب جديد وأكثر جدية لخلافاتهما الزوجية!.
رد سقراط: " إنَّ حبي لهذا الفتى يجلب لي المشاكل فهو لا يسمح لي بأن ألقي نظرة أو لمحة على غلام جميل فضلاً عن أنء أكلم أحدًا غيره .. إنَّه يغار علي الفور. وأخشى أنْ يغتصبني هذا الفتى في يوم من الأيام ".
ولم تكن مخاوفه من باب التمنيات - كما يقولون - بل لقد حاول فعلاً تلميذه " Alcibiades " اغتصاب سقراط في الفراش.
وإنْ كانت معظم الروايات لا تشير صراحة إلي ممارسة فعلية، إلا أنَّ عشق الغلمان كان شائعًا، بل لعله كان من مميزات الطبقة المثقفة!(1).
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا تفسيرنا للواقعة التى وردت في تاريخ المتنبي، عندما بعث أحد معاونيه يستأجر مومسًا مذكرًا مشهورًا فى عصر المتنبى، واحضره سكرتير المتنبي فعلاً. ولكن الشاعر الكبير - وفقًا للرواية - ترك الغلام في الفراش ينتظره، وظل هو طوال الليل يكتب، ولم يرفع نظره إليه ( كما روى الغلام للسكرتير الذي روى القصة للعالم - أنظر كتاب الأستاذ محمود شاكر عن المتنبى ). ولا يمكن أنْ نجد تفسيرًا لذلك إلاَّ رغبة المتنبي في أن يُشاع عنه أنه قضى ليلة مع هذا الفاعل المشهور. وقد حدث وشاعت القصة، وأثبتت فى التاريخ. فإذا عرفنا أنَّه كان عصرًا شاع فيه عشق المذكر في الأدب، ولا نكاد نجد بيتًا واحدًا للمتنبى يوحى بذلك. كان لنا الحق في استنتاج أنَّه أراد تأكيد التذوق، والاعتذار عن خلو شعره من هذا الباب، لينسجم قيم عصره. ونستغفر الله من سوء الظن وخطأ الفهم. إنَّه التواب الرحيم .. .
ــــــــــــــــ
-96-
أفلاطون كان عشيق ألكس أوف ديون وخلال ثلاثة أجيال كانت رئاسة الأكاديمية التي أسّسها تنتقل من عاشق إلي عشيقه.
أرسطو كان عاشقا لتلميذه Hermias الذي خلده في قصيدة أورفيدس، الكاتب المسرحي كان عاشقًا للشاعر أغاثون، فيداس النحات كان عاشقًا لتلميذه Agoracritus.
ويبدو أنَّها كانت قد تفشّت علي نحو، أثار المثقفين ذاتهم فنجد أرسطو يسخر من انتشارها في الطبقة الحاكمة، وتقبلهم لها كرمز من رموز النبل، فيقول أرسطو على لسان أحد النبلاء يعاتب صديقًا: " أيصح يا ملعون أنْ يأيك إبني من الملعب، خارجًا لتوه من الحمام، نظيفًا منتعشًا نشطًا، فلا تغازله، لاتقبّله، ولا تحتضنه ولا تلعب في خصيتيه .. وتدعي مع هذا، أنك أحسن صديق للعائلة ؟! " وإلا حنا مش قد المقام!.
والسخريّة واضحة، والصورة كاريكاتورية، ولكنها تعكس علي الأقل تقبل هذه الطبقة لذلك السلوك. وإن لم تصر عليه علنًا كما وضعه أرسطو. الذي زعم أنَّ نسبة الشواذ في عصره تعادل نسبة الطيعيين.. .
وهناك مزهريات وأواني شراب وصلت إلينا، عليها رسوم اللواط، سواء بالإيلاج أو الملامسة، وما بين ذلك وذاك .. ومعظمها بين رجل وغلام مراهق.
ويقول هانزليخت: " إنَّ فكرة الإغريق عن الجمال مذكرة تمامًا حتي الفتيات كانت ترسم أو تنحت بملامح غلامية ".
ويؤكد نفس المؤلف: " إنَّ الإغريق كانوا يشجعون الشذوذ في مرحلة قصيرة في حياة فتيانهم منذ
ــــــــــــــــ
-97-
أنْ يقص شعره في السادسة عشرة، فخلال التدريب فى الجيش حتى يصبح مواطنًا كاملاً. ثم يفترض فيه أنْ يتزوّج ويُنجب، علي أنَّه يفترض أيضًا أنَّه في مرحلة متقدمة يأخذ مراهقًا تحت حمايته ويُكرّر الدورة ".
وتال إنَّ لفظة ( Pederasty ) بالإنجليزية وهي التي تعنى عشق الغلمانذ مأخوذة من paiderastia وجاءت من pias وتعنى ولد و erastia وتعنى عشق. ومعناها حب الراشد adult لغلام في سنّ البلوغ ".
ويقول جون ادينجتون: " إنَّ اللواط نشأ في معسكرات الجيش اليوناني " ص 25.
وعند سوفوكليس أنَّ " أوديب " ملعون لأنَّ أباه أحبّ غلامًا. وفي تاريخ الإغريق قتل أكثر من سياسي " على يد غلمان رفضوا الإستجابة " أو بدافع الغيرة لهجرانهم إلي غلمان أكثر غلمنة ". « وكاذ الشاعر أغاثون يستقبل ضيوفه وهو في زي النساء وبالمكياج ".
وكما تقول مؤلفة " الجنس فى التاريخ " فإنَّ اللواط وجد في سائر المجتمعات حتي التي توفّر فيها المومسات أو الجواري، وملك اليمين. وأنَّ معظم المجتمعات حرّمته أو تجاهلته إلا اليونان، وحضارة المايا في أمريكا الجنوبية، فقد حاولتا تنظيمه. وكان البغاء المذكر موجودًا في اليونان ويُمكن استئجار الغلمان، بالساعة أو الليلة. ويصل الأمر في بعض الأحيان للقضاء. وقد قضى المشرّع " سولو " بإعدام من يُضبط في مدرسة أطفال تحت سنّ البلوغ. كما حرم ممارسة اللواط بين عبد وغلام ولا حرًا "(1). أو إرغام الفتيان على البغاء. وزعم أرسطو في كتاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولكن العكس كان مسموحا به بالطبع، فقد قبض على رجل في غرفة متزوجة، فنجا من العقوبة بإعلانه أنَّه إنَّما تسلّل من أجل غلام عبد. ويرى " جون بوزول " أنَّ سولون حرّم اللواط على العبيد بإعتباره ترفًا يختص به السادة الإحرار. وفى الأدب العربي فى العصر العباسي، وأواخر الأندلسي نجد تعبير غلام " مؤاجر " وهو الذي يستأجر لفعل الفاحشة نظير أجر. وهو المومس المحترف بلغة العصر الحالي. وفى روما " كان في كل بيت عبد غلام لاستعمال المراهقين من أهل البيت قبل زواجهم " ( انظر المسيحية واللواط ص 78).
ــــــــــــــــ
-98-
الجمهورية: أنَّ اللواط نُظّم في جزيرة كريت. بواسطة الدولة كوسيلة لتحديد النسل. كذلك عرفت السحاقيات، وشاع استخدام الآلات التي تشبه عضو الرجل: " قطعة من الخشب مغطاة بالجلد وتدهن بزيت الزيتون قبل الاستعمال ".
وزعم أفلاطون أنَّ " تحريم اللواط يرجع إلي الشر في قلوب المشرعين. والطغيان من الحكام والخنوع من جانب االمحكومين. وأن البرابرة والشعوب المستعبدة يعتبرونها مخجلة أو عارًا مثل الفلسفة والرياضة، وهكذا كان طغاتنا إلي أنْ حطمهم حب اريستوتيون وهارموديوس " - وهما كما أشرنا – مؤسسا الديموقراطية اليونانية إ كذلك كتب Philostratus إلي غلام رافض: " إن رفضك يثبت أنك لست من أثينا ولا إسبرطة، ولابد أن تكون من بلد بربري غير متحضّر ".
ولاحظ أنَّه مع اختلاف الموقف، فإنَّ وجهتي نطريهما تتفقان مع تحليلنا، وهو أنها ظاهرة ترف فى مجتمع " متحضر ".
وقد يقال إن شيوع اللواط بين الإغريق سبق امبراطورية الإسكندر، مما ينقض نظريتنا عن الانهيار الحضاري. والعكس هو الصحيح، لأنَّ امبراطورية الإسكندر، كانت المدّ العسكري لحضارة وصلت ذروتها، كانت تعبيرًا عن تفوق الحضارة الإغريقية، الذي أنجز فعلاً في مرحلة التطهر، وقد زال التفوق العسكري فور موت الإسكندر، وإْن استمرت الحضارة عدة قرون بعده، وكانت هي الحضارة العالمية إلي ظهور الرومان. ومن ثم فنحن نتحدث عن عملية نشوء الحضارة، عملية الخروج من شرنقة التخلف والتبعية الحضارية. هذه هي المرحلة التى تحتاج للتطهر والروح الجماعية. ولكن الحضارة بعد أن تجتاز هذه المرحلة، وتبدأ في العطاء بل وتبدو أكثر تحضرًا وإنتاجًا وثقافة من مرحلة النشوء (1). هذه المرحلة هي التي نعتبرها مرحلة الانهيار الحضاري.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان للاسكندر غلامه وقد غرق في النيل واسمه هكتور.
ــــــــــــــــ
-99-
تمامًا كالكائن الحي، فهو يصل إلي ذروة نضجه وقوته في الأربعين مثلاً، ولكن هذه هي بالذات، سن الانحدار والاتجاه نحو الموت ( أنظر دراستنا عن المواجهة الحضارية ). ونفس الظاهرة سنجدها في حضارة بابل عندما وصلت إلي الذروة وأصبحت لديهم واحدة من عجاثب الدنيا، فأباحوا الشذوذ الجنسي بكافة أنواعه. واندثرت حضارتهم.
كما توجد بعض الشواهد على انتشارها في الحضارة اليابانية والصينية في عصور الانهيار. فالقس البوذي في اليابان فى القرن العاشر كان يحيط به عدد من الغلمان يطلب منهم " الحب والاخلاص " ثم تطورت بين المحاربين إلي قسم بالاخلاص مدى العمر وفى القرن السابع عشر تحولت إلي لواط ( الجنس في التاريخ ).
وقطع امبراطور الصين آى تي، أكمامه لكي لا يجذبها من تحت رأس حبيبه تونغ مين المتوسّد على ذراع الامبراطور (1).
وقبل أن ننتقل إلي الرومان نشير بسرعة، إلي الشعب الذي اختار أن يكون خارج التاريخ أو المجرى العام للحضارة البشرية، وإذ كان قد بذل جهدًا صاخبًا فى لفت الأنظار إليه، وكان لديه من الكبر ما جعله يدّعي أنَّه هو التاريخ، والبشرية على هامشه .. ونعني اليهود.
حرّم اليهود اللواط تحريمًا شديدًا فاق موقف أي حضارة أخرى (2)، فقد نصّت لتوراة على قتل الفاعل والمفعول به ودمهما عليهما (3) ونلاحظ أنَّ المجتمع اليهودي " المستقل " ظل محاربًا ومتوترًا متوجسًا طوال تاريخه ( بحكم إصراره
ــــــــــــــــــــــــ
(1) المسيحية واللواط ص 27.
(2) مع ان « جون بوز ول » يزعم في كتاب المسيحية والشنوذ الجنسي. أنَّ " التسامح الديني والعنصري" وقبول اللواط في المجتمع، يسيران جنبًا إلي جنب وأنَّ المجتمعات التي تضطهد اليهود هى التى تحرّم اللواطة وتشتد فى قسوتها على اللوطيين والعكس بالعكس، ويعتبر النازية أوضح مثال لذلك ". والملاحظة صحيحة ولكن التفسير يحتاج لوقفة طويلة جدًا ..
(3) وربما كان هذا هو أساس فتوى بعض الإثمة من المسلمين.
ــــــــــــــــ
-100-
على عدم الاندماج في محيطه ) ومن ثم لم يتعرض لظواهر انحلال الحضارات، بعد اكتمال نموها. بعكس اليهود في المهجر إذ يضمون أعلى نسبة من اللواط المعلن(1)، وتعتبر بعض الدراسات الحديثة، أنَّ التوراة هي مصدر كل المواقف والتشريعات المعادية للشذوذ الجنسي بسبب قصة سيدنا لوط مع سكان مدينة أو مدينتي " سادوم وعامورا " وقد اشتق فعل اللواط في اللغة العربية من اسم سيدنا " لوط " رغم معارضته الشديدة لهذا الفعل وكونه هو وحده - في المدينة - الذي لم يمارسه صلوات الله عليه. أما في اللغات الإوروبية فإنّ الفعل Sodom أي الإتيان في الدبر مشتق من اسم مدينة لوط.
ويذهب بعض الكتّاب أنَّ التشدّد اليهودي في إدانة اللواطة هو مظهر من مظاهر مقاومة الحضارة الإغريقية، وأوضح مصدر لذلك - كما يقول كتاب اللواطة / تاريخ - هي كتابات يهودي مصري هو فيلو جيودايس.
وسنعود لحديث سيدنا لوط في الحديث عن المسلمين .. وننتقل الآن إلي الرومان بعد الإغريق جاء الرومان، ويزعم " نورمان كانتون " أنَّ الشذوذ الجنسي كان سبب انهيار الامبراطوريتين الرومانية والعربية ولا توجد شواهد ولا حتى تلميحات عن وجود هذه الظاهرة في الأدبيات الرومانية، خلال سنوات تحوّل " روما " من قرية مجهولة إلي عاصمة إمبراطورية عالمية .. سنوات الصراع من أجل البقاء، ومن أجل فرض الذات الرومانية علي العالم.
ويقول كانتون : " ولو أنَّ اللواط وُجد في زمن الرومان، ولكن من الواضح من سجلات التاريخ أنَّه في عصر الجمهوريين كان يُعاقب عليه بشدة، وكذلك في نهاية الجمهورية وبداية الامبراطورية كان يُنظر إليه بعداء أدى إلي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ولكن يجب دراسة ذلك في إطار نظرة اليهود للجنس مع الأمميين، إذ أنَّ الظروف القاسية التي تعرضوا لها فى ظل المجتمعات الغربية، جعلت " الجنس " إحدى وسائلهم لحفظ النوع اليهودي.
ــــــــــــــــ
-101-
تحريمه خلال تلك الفترة كان اتهام أحد باللواطة يعني نعته بأقبح الصفات:
( Homosexuality A History by Vern. L. Bullough ) .
" في عام 300 ق.م. أعدم مسثئلون وقواد كبار في الجيش لأنَّهم حاولوا اللواطة مع مجندين أصغر. ولكن بعد مائة سنة ألغيت عقوبة الإعدام – وتحولت إلي غرامة! ".
" وفى حوالى سنة 69 بعد الميلاد كان يجري إغتصاب الأولاد والمجنّدين الحسني الوجه. بل وكان الجنود يجبرون علي إشباع شهوة الأمباشية ".
" وقد استخدمت تهمة اللواطة ضد يوليوس قيصر، واتهموه بأنه وطأه ملك Birthyrians ".
وقال عنه سيسرو " رجل كل زوجة، وامرأة كل رجل ".
" ثم تطورت من فضيحة تهدد بدمار سمعة السياسي الذي يرتكبها، إلا أنْ أصبحت عذرًا يبرىء الساحة، فقد دفع متهم بأنَّه لم يكن يتآمر مع دوميتيان، بل اجتمعا لمجرد ممارسة الحبّ، وقد علق السناتور الذي كان يحقق في المؤامرة : الحق أنَّ شكله مثير "!.
وهكذا فما أن أصبحت " روما " سيدة العالم، والممثلة لحضارة العصر، وتجمعت فيها ثروات وثقافات وفنون ومهارات العالم، حتى دبّ الترف والانحلال في الطبقة الحاكمة، وظهر اللواط على أوسع نطاق .. وقد جاء في " انهيار الإمبراطورية الرومانية " إدوار جبون ( طبعة 1789 ) أنّضه من بين الخمسة عشر امبراطورًا الأوائل الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية منذ تحولها إلي إمبراطورية. كان واحد منهم فقط هو السوى المزاج من الناحية الجنسية، وهذا يعني أنَّ الامبراطورية حكمت حوالي 200سنة بأباطرة شاذين جنسيًا.
" وأحد الأباطرة أرسل وفودًا من القصر إلي جميع أقطار الإمبراطورية يلتمسون
ــــــــــــــــ
-102-
الرجال الذين لهم غرمول كالبغال. وفتح الحمامات العامة لكي يتجسس على هذ النوع من الرجال للعمل في " الخاصة " الإمبراطورية " ص 80 ( المسيحية والتسامح ).
" وتعلم نيرون كما تقبل اللواط من معلمه سيكا الذى كان بدوره لوطيًا " ص130.
وسنسمع أنَّ كل امبراطور كان له غلام عشيق، وهو نفس ما سينقله التاريخ عن الإمبراطورية التالية، أو الخلفاء العباسيين والأندلسيين .. ولا يفوتنا هنا أنْ نسجّل مفارقة بين وضع الأباطرة، والملوك فى حضارتنا التى اعتاد الغربيون تخصيصها بالاستبداد. منذ أنْ اخترح اليونان في حربهم مع الفرس تعبير " الاستبداد الشرقي " وصوروا كل حاكم شرقي على أنَّه فرعون أو إله يخضع لمشيئته الشرقيون لما فطروا عليه من خضوع، ولكن هل فى حضارتنا حاكم مهما كان طغيانه استطاع أنْ يُعلن زواجه من غلام ويُجبر الناس على تحيته باعتباره الإمبراطورة ؟! أو هل استطاع طاغية مسلم مهما كان فجوره أنْ يُعلن معشوقه إلهًا ويبني له مدينة ؟! .. إن أحد ملوك الطوائف في الأندلس أخرج جاريته في العرض العسكري في زي الرجال فأصبح مثلا ..! ".
وبقدر ضخامة الامبراطورية، وطول المدة التي قضتها متربعة على قمة العالم بلا مزاحم، بعد ما حطمت قوتها العسكرية، كل المراكز المنافسة، أو حتى التي تحمل خطر التحدي مستقبلاً .. ومع تدفق ثروة لم يسمع بها العالم من قبل، فقد كانت أضخم إمبراطورية عرفها التاريخ حتى وقتها، ووأكثرها دقة وتنظيمًا في نهب الشعوب واستثمارها. بقدر هذه العوامل كلها، كان اتساع الترف وعمق انحلاله، وبشاعة الفاحشة، والتباري في التهتك. فالأمم كالأفراد، أو قل هى مجموعة أفراد، إذا أمنت الحاجات الأساسية، بحثت عن الكماليات، فإذا تحققت، سعت إلي الترف، والتفنن في اختراع اللذاتن والكشف عن شهوات ما كانت لتوجد لولا الفراغ والسعة أو: " فما تشتهي إلا أن تشتهي " وسبحان
ــــــــــــــــ
-103-
القائل : " كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى "( سورة العلق 6و7) .. كذلك فإنَّ الطبقة الحاكمة، بل وقطاعًا كبيرًا من الطبقة الوسطي فقدوا القناعة بالدين أو الوثنية الشائعة وقتها. وانحراف الأباطرة، جعل الشذوذ تقليعة المجتمع كله.
الشعراء كانوا ينظمون الشعر في جمال " غلام الإمبراطور " لكسب وده وعطاياه! وبعد ماتزوج الإمبراطور Elagabalus بشاب رياضيّ أصبح رجال البلاط يحرمون الدخول علي أي رجل إلا إذا كان مصطحبًا معه زوجه ( وليس زوجته! ) مما اضطر بعضهم إلي التظاهر بالزواج من الرجال لمماشاة التقاليد الإمبراطورية.
أما نيرون فقد تزوّج مرّتين، وفي كل مرة كان العروس رجلاً وفي احتفال عام، وقد عومل العريس الثاني واسمه " سبورس " معاملة " الإمبراطورة " رسميًا. وكان يحضر الاحتفالات الرسمية، ويعانقه الامبراطور في شبق وبلا حياء وظل مخلصًا له إلي الوفاة. وانطلقت نكتة تقول لو أنَّ والد نيرون تزوج على طريقة نيرون لكان العالم أكثر سعادة.
أما " هارديان " الذي عهده، عهد " هدوء وسلام " قمة حبه مع الفتى الإغريقي " أنطونيو " الذي فقده أثناء عبورهما نهر النيل في اكتوبر ( 130 م ) وحزن عليه الامبراطور " الوفي " وخلّد ذكراه بعشرات التماثيل فى جميع أنحاء الإمبراطورية، والاستادات والدورات الرياضية، وبنى علي إسمه مدينة كاملة على النيل بين ممفيس وطيبه، حيث غرق ...
ويبدو أنَّ النيل هو مقبرة غلمان اليونان من هذا النوع، ففيه أيضًا غرق غلام الإسكندر. وفي 1837 م غرق فيه " غلام يوناني جميل كان بدوره غلام الرحالة البرنس بوخلرموسكاو ".
ويعتقد بعض المؤرّخين أنَّ سبب شيوع قصة شذوذ " هارديان " والهجوم علي غلامه.
ــــــــــــــــ
-104-
ليست قضية اللواط، ولا أنه تطرف في حزنه، فأعلن أنَّ غلامه هذا إله! فقد كانت قائمة الآلهة تضمّ أكثر من لوطي ومأبون، بما فيهم كبير الآلهة نفسه الذي إتّخذ لنفسه صاحبة وغلاما! .. بل لأنَّ انطونيو هذا كان آخر " إله " في عالم الوثنيين، قبل انتصار المسيحية، ولذلك اهتم المسيحيون وإلي اليوم بنهش سيرتهما، وقد صدر حديثًا كتاب بعنوان الإله المحبوب يقول أنَّ معشوق الإمبراطور كان على درجة من الجمال الصارخ الذي ما زال شاغل العالم المتحضر خلال ألفي سنة ( ! ) وكان الغلام يونانيًا اسمه أنطونيوس " ومات في حوالي سن الثامنة عشرة. وقد حزن الامبراطور عليه وبنى له مدينة في مصر وهي أنطونيوبولس. وصنع له ألفي تمثال.
وأعتقد أنَّ الحملة الدينية عليه، قد تكون خلف الاتهامات التي انهالت علي الفتي، فالمتدينون رأوا أنَّ إهانة آخر آلهة الوثنيين، عملاً صالحًا يخدم الرب. وكذلك التركيز على سيرة هذا " المأبون " يفضح ويُخزى الديانة الوثنية المنهارة.. .
ولنذكر أنَّ التراث الإسلامي، قال انَّ اللآت والعزي كانا فاسقين، زنيا في الكعبة فسُخطا حجارة. ثم مضت السنون فعبدهما الناس. وكان الرومان الوثنيون، قد حاولوا الإدعاء بأنَّ أنطونيوس افتدى سيده بإغراق نفسه في النيل. وقد استمرت حملة الكنيسة علي الفتي، فوصفه الأب جيروم عام 350 م بأنَّه " مومس مذكر " وقال: " وهكذا فإنَّ الإله الجديد أنطونيوس كان عبدًا لشهوات الإمبراطور، غير المشروعة، وأنَّ الذين عبدوه رضوخًا لأمر الإمبراطور كانوا يعرفون أنَّه مُجرّد إانسان، بل وليس حتي إنسانًا جيدًا. بل ولا يستحق حتي أنْ يكون رجلاً فضلاً عن إله ".
وحتى سنة 1878 كان المتحف البريطاني يرفض إطلاع الجمهور علي أيقونات أنطونيوس .. نظرًا لتعصّب الرأي العام ضد اللواطة ...
وكانت الحكومة تفرض الضرائب على اللوطيين المحترفين، وتضمن للغلمان المستخدمين إجازة سنوية، ويقول " جون بوز ول " إنَّ الأباطرة استمروا يحصلون
ــــــــــــــــ
-105-
هذه الضريبة حتى القرن السادس ( الميلادي ) بما في ذلك الأباطرة الوثنيين والمسيحيين وأصبح اللواط ظاهرة إقتصادية. ففى خطاب كاتو ( القرن الثاني قبل الميلاد ) اشتكى من التضخم، إذ أصبح سعر المأبون أغلى من سعر الأرض الزراعية!
و " سيسرو - الحجة في القانون الروماني - رفع قضية يُطالب فيها بالاعتراف بديون أبيه علي شخص كان يعاشره معاشرة الأزواج " و " في القرن الثانى الميلادي قدمت شكوى في أحد الموظفين الرومان بأنَّه يحابي ولدًا عمره 17 سة وقد اعترف الموظف بالتفصيل بعلاقته الجنسية مع الغلام. ولم يثر ذلك أي اعتراض من والد الغلام ".
وعلى أية حال، نكتفي بقول مؤلف أصرح كتاب عن الشذوذ الجنسي، صدر حتى وقتنا هذا. " إنَّ الميول الجنسية لقيادات المجتمع الروماني يستحيل نشرها حتي في القرن العشرين " والإمبراطور الروماني الوحيد الذي حرّم اللواط هو الإمبراطور فيليب العربي الأصل ( منتصف القرن الثالث ).
وكان أنْ سقطت روما، أو شقها الأوروبي تحت ضربات البرابرة، وبقى قسمها الشرقي في بيزنطة يحاول الاستمرار بالمسيحية.
والمسيحية قد مرّت بعدّة أطوار، ومن ثم اختلفت مواقفه .. فالمسيحية لم تظهر كثورة ولا كفلسفة لحضارة وليدة، ولم تكن تمثل أو تواجه أي تحد حضاري، بل في المرحلة الأولى إتخذت موقف رد الفعل، ففي مواجهة الإغراه في الجنس المنحرف والمنحل في الإمبراطورية المنهارة. ولد عند آباء الكنيسة الأوائل، كراهية عميقة للجنس بكافة أشكاله، حتي الزواج الطبيعي؟؟؟. ولهذا الموقف أسبابه الفكرية أيضًا، إلاَّ أنَّ العنصر الأساسي فيه كان رفض حالة الإباحية والتهتك الروماني.
قال بول عن الرومان: حتى نساءهم غيروا الطبيعة إلي مخالفة الطبيعة مثل
ــــــــــــــــ
-106-
رجالهم الذين تخلوا عن الاستعمال الطبيعي للمرأة، واحترفوا شهوة الرجال مع الرجال " رومان 1 / 27.
وقد ساد هذا التعفف " الفكري " الكنسي إلي يومنا هذا. ولا نقول السلوك بالطبع، فالحياة دائمًا أقوى .. ولكن ليس بالعفة وحدها تقوم الحضارات، وإن كانت شرطًا أساسيًا لا تقوم بدونه، والعفة غير الإخصاء طبعًا.. بل لابد من تصوّر شامل للوجود والتحديات المطروحة وامتلاك حلول لها، أو المنهاج القادر على طرح الحلول، وامتحانها، ورفض ما لا يصلح منها.
ولم تكن المسيحية في قرونها السبعة الأولى صالحة ولا مؤهلة للقيام بهذا الدور، لأنَّها كما شرحنا في مكان آخر. دخلت في الدولة الرومانية، أو أدخلت الدولة الرومانية، في الكنيسة، المهم أنَّ دولتها لم تقم على أنقاض الدولة الرومانية. بل تزاوجت معها، فكان من الطبيعي أنْ يحمل الوليد الكبير من خصائص وطباع، وتصورات وأمراض الأب الروماني. ولم تشكل المسيحية ثورة، بل تسوية، صفقة مع الدولة الرومانية، كما سنرى في استمرارية الكثير من مظاهر الانهيار الحضاري في المرحلة الأولى من المسيحية. ولكن المهم هنا، أنَّ المسيحية الرومانية، ورثت الحسّ التاريحي بالزوال، وهو الحسّ الذي كان يسيطر علي الإمبراطورية الرومانية، ويحكم تصرفات قياداتها. ولذلك بشرت الكنيسة بزوال العالم، وكانت هذه الفلسفة الأكثر قبولاً من جانب الرومانيين الذين تعفنوا في الفساد، وفقدوا كل أمل في أي انبعاث حضاري. ولم يكن أمامهم أي مخرج من خلال المنظور الروماني، أو الدولة الرومانية، فقدمت لهم المسيحية الحل الوحيد : التبشير بأنَّ هذه هي نهاية العالم، قرب زوال المجتمع أو الجنس البشري، ولاحظ أنَّ كل الحضارات اعتبرت زوالها هو نهاية العالم.
بشرت المسيحية بزوال العالم بإرادة غير بشرية، بقيام عالم جديد بلا خطايا ولا مشاكل، خارج هذه الدنيا أو الأرض الخاضعة للحضارة الرومانية، والتي لا مكان فيها لحلّ غير روماني ..
فالمسيح الذي جاء في البداية، في صورة ملك اليهود، الذي سيقودهم في
ــــــــــــــــ
-107-
ثورتهم ضد الرومان، ويحرّرهم من سيطرة الرومان، ومن النموذج الروماني ويبنى مملكتهم، أو مملكة جديدة ذات قيم أقدر علي الحياة. فهو قائد أو زعيم يحقق طموحًا دنيويًا، وتغييرًا فوق هذه الأرض. ولكن لأسباب عديدة، منها – وإن يكن ليس أهمها - رفضه من قبل اليهود، فإنَّ آباء الكنيسة فضلوا مهادنة الدولة الرومانية.
ورغم أن المسيحية من اليوم الأول - في اعتقادنا - ما كانت لتقرّ اللواط من الناحية المبدئثية. ورغم أن جميع الدراسات تؤكد أن المسيحية تبنت الموقف التوراتي أو اليهودي من تحريم اللواط. ولم يكن من المعقول بالنسبة لكنيسة تحرّم الجنس بين الرجل والمرأة، إذا كان لا يهدف مباشرة لزيادة النسل بل يرى " بولس " مؤسسها أنَّ الجنس كلّه لا مبرّر له، انطلاقًا من أنَّ مملكة الله على وشك الظهور " فالوقت قد أزف يا إخوتي، عندما يتساوى من له زوجة بالأعزب " ، ورأي آباء الكنسية الأوائل: " أنَّ اللذة حتى أثناء الجماع الشرعى، بهدف التوالد، هي خطية ".
من غير المعقول أن يقبل أصحاب هذه النظرة فعل اللواط (1) الذي يقوم على اللذة المجردة من أي هدف اجتماعي أو عمراني. ومع ذلك فإنَّ الرغبة في مهادنة المجتمع الروماني، ومن ثمّ التأثر به، ولأن الأخلاق المجرّدة، لا تخلق واقعًا، بل لابد أنْ تعبر هذه الاخلاقيات عن حركة حقيقية في المجتمع، لذلك لم تفلح
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) يصعب تعقب النصوص التي تحرم اللواط فى الأسفار المسيحية المعتمدة، إذ أنَّ المسيح لم يتعرض لذلك على الإطلاق ولكن الدراسات المتخصصة تجمع على أن المصدر الوحيد الذي وضع أساس رفض اللواط في الفكر والتشريع المسيحي، هو إنجيل " برنابا " الذي أدان هذا الفعل. ( وهو بالمناسبة إنجيل ممنوع التداول في الأوساط المسيحية اليوم، ويتداول المسلمون نسخة منه يقولون إنها أصح الأناجيل أو أقربها للحقيقة ) أما أول مجمع كنسى بحث موضوع اللواط وأصدر فيه قرارات، فكان مجمع لاتيران الثالث عام1179 ميلادية، عندما بدأ حركة البعث فى أوروبا الغربية. وهو المؤتمر الذي حرم " المسلمين واليهود والربا واللواط ".
ــــــــــــــــ
-108-
أخلاقيات مسيحية عصر الانهيار فى تغيير المجتمع الروماني، بل بالعكس تأثرت الكنيسة بأخلاق هذا المجتمع، فبقى اللواط فى المجتمع الروماني المسيحى بشقيه الغربى والشرقي ربما حتي القرن العاشر.. فقد ظل اللواط بالأجر، يمارسه المحترفون في الإمبراطورية الشرقية حتى القرن السادس الميلادي، بلّ واستمر الأباطرة يحصلون الضرائب من هؤلاء المحترفين، والتى كانت تشكل نسبة من إيرادات الدولة التي تعيش عليها الكنيسة.
وكان اللواط متفشيا بين المسيحيين حتى القرن الرابع الميلادي. وتورد الدراسات الحديثة أكداسًا من وقائع ودلائل وأشعار وأدبيات تثبت وجود عشق المذكر بين رجال الكنيسة في تلك الفترة .. سنضرب صفحًا عن هذا كله فقد يكون من نوع الشعر الصوفي (2)، وقد يكون علاقة متوقعة بين ذكور يعيشون معا بعيدًا عن المرأة، وهم في فحولة شبابهم، وتباين شديد لأعمارهم. [ تعليق: إنَّ السلوك الفردي المغاير للطبيعة لا يُعمّم علي الأخلاق التي تنادي بها المسيحية. خاصة وأنَّ الكاتب كتب ما يناقض ذلك في الصفحات السابقة ].
كان البابا " جريجورى " يشرف على بيع الغلمانذ الانجليز " شديدي الجمال " في سوق روما في القرن السادس الميلادي. مع معرفة الجميع بسبب " رواجهم ". وقال البابا إنَّ " جمالهم يعطيهم لمحة ملائكية ويجعل الجنة مأواهم "!!.
وفي القرن الثامن نصح " القديس بازل "، رجال الكنيسة بتجب النظر إلي الغلمان المرد: " إذا رأيت الفتى الجميل، فإجلس في مقعد بعيد عنه، وعند النوم إحرص على ألا تلمس ثيابك ثيابه. بل ضع بينكما رجلاً عجوزًا .. وعندما يتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسيحية واللواط ص 131.
(2) وإنْ كان مترجم أشعار الصوفي الشهير " الحافظ " علق عليها بقوله: " من الصعب التفكير فى الله، إذا كان عاشقه الصوفي يصفه بأنه متموج الخصلات، ياقوتي الشفاه، ممشوق القوام كغصن البان "!.
ــــــــــــــــ
-109-
أو ينشد أمامك لا ترفع عينيك إليه، حتي لا تزرع الشهوة في قلبك، ولا تدخل معه في مكان يغلق بابه، أو يصعب علي الناس رؤية ما يحدث بداخله، مهما كان الغرض من دخولكما "(1).
لم تستطع الكنيسة أن تخرج الامبراطورية الرومانية من أزمتها، ولا أنْ تطرح الصيغة البديلة على الصعيد العالمي، ومن ثمَّ كان عليها أنْ تنتظر حتى يأتي التحدي من الجزيرة العربية. من قوم لا توجد فى شعرهم الجاهلي اشارة واحدة لهذا السلوك، ثم مجتمع المتطهرين الذي يقول فيه أمير المؤمنين: " لولا أنَّ الله ذكر اللواط في القرآن، ما ظننت أنَّ أحدًا يفعله ".
تعليق: نكتفي بنقل الأحاديث التالية لتكذيب ما يدّعيه المؤلف بأنَّ الجزيرة العربية كانت خالية من اللواط في الفقرة السابقة :
في صحيح البخاري: 53 - باب: غزوة الطائف. حديث 4069،4937، 5548 - حدثنا الحميدي: سمع سفيان: حدثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمها سلمة رضي الله عنها: " دخل النبي – ص - وعندي مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا، فعليك بابنة غبلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وقال النبي – ص -: (لا يدخلن هؤلاء عليكن). قال ابن عيينة، وقال ابن جريج: المخنث: هيت. حدثنا محمود: حدثنا أبو أسامة، عن هشام: بهذا، وزاد: وهو محاضر الطائف يومئذ. [ ش أخرجه مسلم في السلام، باب: منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، رقم: 2180. (مخنث) الذي خلقه خلق النساء، ويشبههن في كلامه وحركاته، وتارة يكون هذا خلقه، وتارة يكون بتكلف، وسمي به لتكسر كلامه ولينه، يقال: خنثت الشيء فتخنث، أي عطفته فتعطف. ( تقبل بأربع) وهي عكن البطن، أي تجاعيده، فترى منها عند إقبالها أربعا. (وتدبر بثمان) هي أطراف العكن الأربع، ترى منها وهي مدبرة ثمانية. (هيت) اسم المخنث المذكور، وكان مولى عبد الله بن أمية، رضي الله عنه، المذكور معه.
وفي صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام محي الدين بن شرف النووي. باب منع المخنَّث من الدُّخول على النِّساء الأجانب.
1- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ أَيْضاً -وَاللَّفْظُ هَذَا- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:
أَنَّ مُخَنَّثاً كَانَ عِنْدَهَا وَرَسُولُ اللهِ – ص - فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَداً، فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَىَ بِنْتِ غَيْلاَنَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ.
قَالَ: فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ – ص - فَقَالَ: "لاَ يَدْخُلْ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُمْ".
-----------------------------------------
قولها: (كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – ص - مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ.
قَالَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - ص- يَوْماً وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً، قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ – ص -: أَلاَ أَرَىَ هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا، لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ، قَالَتْ: فَحَجَبُوهُ). (ج/ص: 14/163)
2- وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - ص- مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ.
قَالَ: فَدَخَلَ النَّبِيُّ - ص- يَوْماً وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً، قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ – ص -: "أَلاَ أَرَىَ هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا، لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ".
قَالَتْ: فَحَجَبُوهُ.
-----------------------------------------
قال أهل اللُّغة: المخنِّث: هو بكسر النُّون، وفتحها، وهو الَّذي يشبه النِّساء في أخلاقه، وكلامه، وحركاته، وتارة يكون هذا خلقه من الأصل، وتارة بتكلُّف وسنوضحهما.
قال أبو عبيد وسائر العلماء: معنى قوله: تقبل بأربع، وتدبر بثمان، أي: أربع عكن، وثمان عكن، قالوا: ومعناه: أنَّ لها أربع عكن، تقبل بهنَّ من كل ناحية ثنتان، ولكلِّ واحدة طرفان، فإذا أدبرت صارت الأطراف ثمانية.
قالوا: وإنَّما ذكر فقال: بثمان، وكان أصله أن يقول بثمانية، فإنَّ المراد: الأطراف، وهي مذكَّرة، لأنَّه لم يذكر لفظ المذكَّر، ومتى لم يذكره جاز حذف الهاء، كقوله – ص - "مَنْ صَامَ رَمَضَان وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّال" سبقت المسألة هناك واضحة.
وأمَّا دخول هذا المخنَّث أوَّلاً على أمَّهات المؤمنين فقد بيِّن سببه في هذا الحديث، بأنَّهم كانوا يعتقدونه من غير أولي الإربة، وأنَّه مباح دخوله عليهنَّ، فلمَّا سمع منه هذا الكلام علم أنَّه من أولي الإربة، فمنعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدُّخول.
ففيه: منع المخَّنث من الدُّخول على النِّساء، ومنعهنَّ من الظُّهور عليه، وبيان أنَّ له حكم الرِّجال الفحول الرَّاغبين في النِّساء في هذا المعنى، وكذا حكم الخصيُّ، والمجبوب ذكره، واللهُ أعلم.
واختلف في اسم هذا المخنَّث.
قال القاضي: الأشهر أنَّ اسمه: هيت، بكسر الهاء، ومثنَّاة تحت ساكنة، ثمَّ مثنَّاة فوق.
قال: وقيل: صوابه: هنب بالنون والباء الموحَّدة، قاله ابن درستويه.
وقال: إنَّما سواه تصحيف.
قال: والهنب: الأحمق.
وقيل: ماتع، بالمثنَّاة فوق مولى فاختة المخزوميَّة، وجاء هذا في حديث آخر ذكر فيه: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غرَّب ماتعاً هذا، وهيتاً إلى الحمى، ذكره الواقديُّ.
وذكر أبو منصور البادرديُّ: نحو الحكاية عن مخنَّث كان بالمدينة، يقال له: أنه، وذكر أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفاه إلى حمراء الأسد، والمحفوظ أنَّه هيت.
قال العلماء: وإخراجه ونفيه كان لثلاثة معان:
أحدها: المعنى المذكور في الحديث أنَّه كان يظنُّ أنَّه من غير أولي الإربة، وكان منهم، ويتكتَّم بذلك.
والثَّاني: وصفه النِّساء ومحاسنهنَّ، وعوراتهنَّ بحضرة الرِّجال، وقد نهي أن تصف المرأة المرأة لزوجها، فكيف إذا وصفها الرَّجل للرِّجال. (ج/ص: 14/164)
والثَّالث: أنَّه ظهر له منه أنَّه كان يطَّلع من النِّساء، وأجسامهنَّ، وعوراتهنَّ على ما لا يطَّلع عليه كثير من النِّساء، فكيف الرِّجال لا سيَّما على ما جاء في غير (مسلم) أنَّه وصفها حتَّى وصف ما بين رجليها، أي: فرجها وحواليه، واللهُ أعلم.
قوله – ص - : (لاَ يَدْخُلْ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى جميع المخنَّثين لما رأى من وصفهم للنِّساء، ومعرفتهم ما يعرفه للرِّجال منهنَّ.
قال العلماء: المخنَّث ضربان:
أحدهما: من خلق كذلك، ولم يتكلَّف التَّخلُّق بأخلاق النِّساء، وزيَّهنَّ، وكلامهنَّ، وحركاتهنَّ، بل هو خلقة خلقه اللهُ عليها، فهذا لاذمٌّ عليه، ولا عتبٌ، ولا إثم، ولا عقوبة، لأنَّه معذور لا صنع له في ذلك، ولهذا لم ينكر النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوَّلاً دخوله على النِّساء، ولا خلقه الَّذي هو عليه حين كان من أصل خلقته، وإنَّما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف النِّساء، ولم ينكر صفته، وكونه مخنَّثاً.
الضَّرب الثَّاني من المخنَّث: هو من لم يكن له ذلك خلقة، بل يتكلَّف أخلاق النِّساء، وحركاتهنَّ، وهيآتهنَّ، وكلامهنَّ، ويتزيَّا بزيِّهنَّ، فهذا هو المذموم الَّذي جاء في الأحاديث الصَّحيحة لعنه، وهو بمعنى الحديث الآخر: "لَعَنَ اللهُ المُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالمُتَشَبِّهِيْنَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ) وأمَّا الضَّرب الأوَّل، فليس بملعون، ولو كان ملعوناً لما أقرَّه أوَّلاً، واللهُ أعلم.
ونكتفي بذلك حيث كان يدخل بيت الرسول نفسه مخنثين، تنفي هذه الأحاديث قوله بأن اللواط لم يُعرف عند العرب قبل الإسلام ]
جاء التحدي من أبعد المجتمعات تأثرا بالانهيار الروماني والفارسي، في دورة من دورات المواجهة الأبدية بين الشرق والغرب. جاء الإسلام يطرد بيزنطة وكنيستها من شرق وجنوب وغرب البحر الأبيض. ولكن الكنيسة كانت أعجز من أن تستجيب للتحدي .. وربما لو سقطت بيزنطة، كما كان متوقعا مع موجة الفتح العربي الأول، لعجل ذلك بنهوض أوروبا. ولكن بقاء الكنيسة عطل الإستجابة للتحدي. حتى أن شارلمان الذي يصف نفسه بأنه مؤسّس " أوروبا المسيحية " عبر عن يأسه وانزعاجه من تفشي الانحرافات في الكنيسة. وقد أجمع المؤرخون على أنَّه وإن حرص على أن يجعل من نفسه امتدادا تاريخيا للأباطرة الرومان، إلا أنَّه كان يخالفهم تماما من ناحية المزاج الجنسي. ولما سمع بتفشي اللواط بين الرهبان قال: " إنَّ العفة بين الرهبان هي الأمل في خلاص كل
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) سنجد نصًا مشابها فى حكاية سفيان بن سعيد الثوري عام ( 161 هجرية – القرن التاسع الميلادي ) الذي رفض أن يدخل الحمام مع صبي حسن الوجه صائحًا: " أخرجوه عني .. اخرجوه "، وقال إنَّ مع كل امرأة شيطانًا، ومع كل صبي جميل بضعة عشر شيطانًا. كذلك نصيحة الإمام أحمد للرجل الذي جاء مجلسه ومعه صبي جميل هو ابن أخته فقال له: " لا تجيء به إلينا مرة أخرى " ولا تمش معه في طريق لئلا يظن بك من لا يعرفك ولا يعرفه السوء " الكبائر ص 59 لمؤرّخ الإسلام الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي.
ــــــــــــــــ
-110-
المسيحيين. ونصح رجال الكنيسة بكبح النفس لحماية أنفسهم من هذه الرذائل لأنه لا يمكن أنْ يسمح بها في مملكته وخاصّة بين الذين يجب أنْ يكونوا قدوة ".
وهذا يوضّح أنَّه لا يكفي وجود " الفكر " أو " الخلق " الحميد، ولا حتي الرجل " العظيم " الواعى بأهمية الأخلاق، بل لابد من اقتران ذلك بموقف حضاري.
والقانون الذي نطرحه هنا، أو حتي الظاهرة التي نسجلها، هي أنَّ كل الحضارات التي انتصرت وقامت، بدأت بمحاربة اللواط والتشدد في مطاردته والمعاقبة عليه، وهى غالبًا ما تتهم خصمها الحضاري بممارسة " جريمة " اللواط .. فإذا ما انتصرت الحضارة وزال التحدي المواجه لها، انتشر فيها اللواط وتسامحت معه.
ــــــــــــــــ
-111-
مع الحروب الصليبية بدأ الانتعاش والإصلاح في أوروبا الغربية أو المسيحية، وفي الكنيسة أيضًا. ذلك أنَّ الاستجابة للتحدّي كانت قد بدأت، وإتّخذت شكل الثورة على الكنيسة. وظهور الكنائس المنشقة أو الحركات الإصلاحية. ولو أنَّ عددًا من أبطال الحروب الصليبية يُتهمون باللواط في بعض الدراسات المتخصصة في تعقّب المشاهير وإثبات ذلك السلوك عليهم، فهذا النوع من الدراسات يؤكّد - الآن - أنَّ ريتشارد قلب الأسد كان على علاقة ما مع فيليب ملك فرنسا.
إلاَّ أنَّ الكنائس الجديدة في غرب أوروبا وانتصار المسيحيين على المسلمين في أسبانيا، وظهور حركة الجزويت، كلها شكلت الإستجابة الناجحة للتحدي الإسلامي. هذه الاستجابة تلقت دفعة أخرى وحاسمة علي يد الأتراك الذين أزاحوا بيزنطة من الطريق، فتراجعت الكنيسة الشرقية إلي أكثر أجزاء أوروبا تخلفًا وتقشفًا إلي " الروسيا المقدسة " أو كنيسة " روما الثالثة " .. وانطلقت الإستجابة للتحدي في " الروسيا " وما زالت إلي اليوم. ولاحظ أنَّه حتى اليوم لا توجد أية إشارة في الفكر الروسي ولا فيما سبق الثورة عن أدب اللواط .. بل إنَّ مشاهير الفكر الأوروبي الذين هرعوا إلي روسيا الشيوعية حالمين بمشاعية جنسية، عادوا خائبين
ــــــــــــــــ
-112-
رافضين، لأن النظام السوفيتي اتهمهم باللواط المحرّم بشدة في الدولة " اللادينية ". .. وقد قادت الكنيسة والقياصرة مسيرة الأمة الروسية خلال هدف واحد لم يتغير، وهو القضاء على الإسلام فى أوروبا ثم في آسيا الوسطى والغربية. بينما كانت كنائس الغرب ودول أوروبا الغربية تشق طريقها الحضاري حول وفي قلب العالم الإسلامي في إفريقيا وشرق آسيا وجنوبها. وخلال عملية بناء الحضارة الغربية، تتضح لنا المسلكية الحضارية التي أشرنا إليها، ومن زاوية " اللواط " نرى أنَّه ظلّ محرّمًا حتى منتصف القرن العشرين. وإنْ كانت الحضارة الغربية قد وصلت ذروتها وبدأ إانحدارها في القرن التاسع عشر. ولو أنَّ بعض الدراسات تنسب السحاق للملكة فيكتوريا، ولكن ذلك لا يعنينا في هذه الدراسة. لأنَّ الذي يعنينا من سلوك الحاكمين - كما قلنا - هو المُعلن. والملكة فيكتوريا لما عرض عليها قانون العقوبات أبدت دهشتها ونفيها وجود " مثل هذا الشيء " بين النساء! .. فهذه هى الصورة التي أعطيت للشعب البريطاني، لكي يريق المزيد من دمه من أجل ضم ممتلكات جديدة لتاج الملكة المسيحية العفيفة!
وقد قامت الرقابة في أوروبا الناهضة بحذف وتعديل كل النصوص التى وردت في التراث الإغريقي والروماني لاستبعاد " الانحلال " فعشيق سقراط تحوّل إلي " سيدة اشتهرت بجمالها ". ونُسب إلي أفلاطون كذبًا، استنكاره وإدانته للواط " متأثرًا بقراءة الكتاب المقدس "! ونقحت أقوال " أوفيد " في كتابه " فن الحب " فبدلاً من قوله: " إنَّ عشق الغلمان أقل جاذبية لي " عُدلت إلي " وعشق الغلمان لا يثيرني على الإطلاق " وعلق الناشر المسيحي علي " تزويره ": " ومن هنا يتبين لك أنَّ " أوفيد " لم يكن لوطيًا ". وحتى القرن التاسع عشر اعتذر الناشرون في أوروبا " المحررة " عن شر نصوص اللواط في الأدب الإسلامي في عصر الانهيار ( ابتداء من العصر العباسيى الثانى ). ففى أشعار " سعدي " الفارسي. قلب المترجم البريطاني كل قصص عشق الغلمان إلي حبّ " طبيعي " بإضافة تاء التأنيث. وحتى منتصف القرن العشرين فإنَّ قصائد غزل " حافظ " (1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) شمس الدن محمد الحافظ. ولكن نشرث طبعة صريحة في باريس عام 1927، ولا تنس أنَّ باريس " سباقة "! وربما يقال أنَّ الغزل بالمذكر ليس كله لواطًا في الشعر العربي لأن القافية والإعراب فرضت إلي حد كبير علي بعض الشعراء، الغزل في الحبيب وليس الحبيبة. وهى وجهة نظر، ولكن لا نميل إليها كل الميل، لأنَّ هذه الضرورة اللغوية، لم تظهر فى الشعر الجاهلى ولا شعر عمر بن أبى ربيعة علي سبيل المثال . .
ــــــــــــــــ
-113-
مازالت تحور لتلائم أخلاقيات الأورويين والأمريكيين ( أانظر طبعة كامبريدج - أمريكا - 1947 ) كذلك حذفت أبيات الغزل بالمذكر من رباعيات الخيام عندما ترجمت. وفى عام 1969 قال " شارلس يلات " إنَّ الحياء والحشمة تحولان دون ترجمة الجاحظ ترجمة أمينة، لما في كتاباته من صراحة فيما يتعلق بالشذوذ الجنسي. كما اعتذر في الطبعة الأجنبية لتحقيقه لكتاب محاورة الجوارى والغلمان .. وإنْ كان لم يجد ضرورة للحياء فى الطبعة العربية التى نشرت في بيروت 1957.
وقد أدان مارتن لوثر ( 1483 - 1564 م ) فعل قوم لوط المخالف للطبيعة الذى غرسه الشيطان فيهم".
" وكذلك جون كالفن ( 1509 - 1564م ) مفلسف البروتستانتية أدان كل أنواع الجنس التى لا تستهدف الإنجاب ".
وكما أشرنا فإنَّ القانون مازال يطارد حتى اليوم - في أوروبا وأمريكا – النشاط الفكرى للوطيين، وكما يقول مؤرّخ الشذوذ الجنسي في العالم المسيحي، جون بوزيل، لم يحدث أنْ تعرّض الشواذ لاضطهاد طوال تاريخهم في الغرب، لمثل ما تعرضوا له في مطلع القرن العشرين وكلنا يعرف كيف تحطم " أوسكار وايلد " فى بريطانيا الديموقراطية والليبرالية والتحررية لأنه كان يعشق شابًا. وكما ذكرنا لم يجد الاتحاد السوفيتى تهمة يدمر بها سمعة " أندريه جيد " إلا اتهامه بأنَّه
ــــــــــــــــ
-114-
لوطي .. واللواط كان منتشرًا ومقبول في المجتمح المملوكي المنهار في مصر أكثر منه في جيش نابليون الذى كان يضم زهرة شباب فرنسا(1).
وقد أشرنا إلي أنَّ من قوانين الانهيار الحضاري، العجز عن اكتشاف سر الانهيار، وبالتالى العجز عن مواجهته، ولكن المجتمع يحس بأنه سائر إلي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فى تراجم الجبرتى " ومات البليغ النجيب والنبيه الأريب نادرة الزمان وفريد الأوان أخونا، محبنا في الله تعالي ومن أجله السيد اسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب... .
ولما وردت الفرنساوية لمصر اتفق أنْ علق شابًا من رؤساء كتابهم كان جميل الصورة لطيف الطبع عالمًا ببعض العلوم العربية .. فلتلك المجانسة مال كل منهما للآخر ووقع بينهما توادد وتصاف حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة الآخر .. وعند ذلك قال المترجم الشعر الرائق ونظم الغزل الفائق مما قاله فيه.
علقته لؤلؤي الثفر باسمه فيه |
خلعت عذاري بل حلا نسكي |
ولم يكن هذا الفرنسي هو وحده عشيق الشيخ بل كان هناك آخر اسمه ريج أغلب الظن أنَّه أيضًا من جنود الحملة الفرنسية لأنّض المؤرخ لم يزد عن قوله: وله في آخر يسمّي ريج . .
ثم أورد أبياتًا في الغزل بريج هذا منها:
واصــل بنـار الخـــد قلبى |
واطفه ببرد ثناياك الشهية والثغر |
أريـج ذكى المسك أنفـاسك التي |
أريج شـذاها قد تبسّم عن عطر. |
ولما وقفنا للوداع عشية وأمسي |
بروحى يــوم جد النوي سيري. |
ولما قال الشيخ حسن العطار قصيدة " عارضه المترجم الذكور بقوله في معشوقه الذي ذكرناه .. " إلخ.
وليس عشق الشيخ للفتى الفرنسي هي قضيتنا ولكن ترجمة الشيخ الجبرتى الذي أورد ذلك ثم لم يأخذ علي الشيخ الخشاب من العيوب إلا خضوعه لزوجته .. " مع أنَّه كان كثير الانتقاد علي غيره فيما لا يداني فعله وانقياده إلي هذه المرأة وحواشيها .. نسأل الله السلامة وحسن العاقبة...".
أما عشق جنود جيش الاحتلال فلم يجد فيه الجبرتي ما ينقد !! .
وقارن هذا بما سنذكره عن عشق صديق ابن حزم الظاهري لجندى في جيش البربر!!
ــــــــــــــــ
-115-
الزوال. ومن ثم تقع انتفاضات تحاول وقف عجلة التاريخ أو مقاومة إرادة الفناء التي توجّه المجتمع نحو مصيره. ومن هنا تتفجر نوبات " عفة " فتلغي القوانين التي تبيح " الحريات " الجنسية. وتشن الحملات على " الشواذ " الذين يجلبون الدمار للمجتمع، أو يثيرون غضب الرب .. ويغفل الجميع عن أنّض هذه هي ظواهر الانحلال الحضاري، وليست مسبباته .. إذا صحّ هذا التفسير لفهم الموجات المحافظة في الغرب، فإنَّ تفسيرًا لا يقل أهمية يحتاج لتأمّل. وهو عنف العداء المسيحي للجنس، وبالذات اللواط، ليس من الناحية العقائدية بحكم سيطرة التفكير التوراتي علي المسيحية، بل أيضًا تاريخيًا، لأنَّ نهضة أوروبا، أو نهضة الحضارة الغربية المعاصرة اقترنت بحملة شعواء على " اللواط ". واتهام جميع الخصوم الحضاريين أو المذهبيين بممارسته، من المسلمين إلى شعوب أمريكا اللاتينية حتى فرسان الهيكل! فالتكوين المسيحي - الغربى شديد العداء للواط، يشعر بالهزيمة الحضارية أمام انتشارها، إلا أنّض هذا الانتشار الساحق " الديمقراطى " في الغرب هو دليل انهيار هذه الحضارة .. وهو لن يتوقف إلاَّ إذا جوبهت بتحدٍ حضاري، وكان بها بقية من قوة تجعلها تستجيب لهذا التحدي. كما استجابت للتحدى الإسلامي وانتصرت عليه بعد عشرة قرون من الغيبوبة والانهزام .. وليست مصادفة أنْ يعكف فلاسفة الحضارة الغربية على تنظير التحدّي الإسلامي مرة أخرى - باعتباره العدوّ الذى يمكن هذه الحضارة اليوم من توحيد صفوفها والنهوض مرة أخرى - ويتلازم هذا البحث عن العدوّ الإسلامي – مع حملة جديدة شرسة ضد اللواط. لعلها كانت خلف الإعلام الذى فاز به مرض الأيدز - بل ويعتقد البعض أنَّ كراهية اللواط خلف تقاعس الولايات المتحدة بالذات عن معالجته!!!.
وقد مرت على الحضارة الإسلامية نفس قوانين النشوء والإرتقاء والتدهور أو الصيرورة والعدم، القانون العام الذى تخضع له كل الكائنات المادية. والمجتمع الإسلامي ليس إلا ظاهرة مادية، وإن استرشد فترة بعقيدة غير مادية.
وأنا أعتبر نقطة التحول في الحضارة الإسلامية أو الذروة، هى تلك القصة
ــــــــــــــــ
-116-
الرمزية عندما تحدى هارون الرشيد، السحابة العابرة أنْ تمطر خارج سلطة جباة ضرائبه! وقد سجل المؤرخون بعد ذلك تمزق الوحدة السياسية للدولة الإسلامية ولكن المؤرّخ الحضاري سيسجل الوصول للقمة، وظهور نتائج النمو الحضاري، في العلوم والمخترعات، والثروة الهائلة، والثقافة، والفنون، ثم الترف المادي والفكري والسلوكي، بدأ عصر الحضارة الإسلامية، بعد الحضارة الإغريقية والرومانية .. .
كانت بغداد قد بنيت عام 763 م فى نفس موقع كيش عاصمة الحضارة السومرية، وبدأت التكنولوجيا المتراكمة عبر التاريخ. وبجهود كل الحضارات السابقة، تتفاعل في حضانة الفكر الإسلامي، الذى يؤمن بحرية البحث، ورفض التقيد المسبق، والمتحرّر من العنصرية؟؟!!، أو التعصّب ضد حضارة أو ثقافة جنس معيّن؟؟!!، وغير الخاضع لإكليروس علمي، بالإضافة إلي الأمانة العلمية النادرة، مما جعل كثيرًا من المؤرّخين الذين يحترمون أنفسهم يعتبرون المسلمين، أول من أقام " علم التاريخ " وذلك في كتابة الحديث، وتحرى المحدثين.
وكذلك فإن الكشوف العلمية التى كانت مجرد احتمالات أو نظريات، أو امتيازات شديدة الخصوصيّة أو في إطار ثقافة شديدة العزلة. وعدم القابلية للانتشار، كل هذا تحول في البوتقة الإسلامية إلى حقيقة علمية أو متداولة، ومتاحة للجنس البشرى كله. فالمؤرخون الغربيون شديدو الحرص علي نسبة الورق للصين، مع التسليم والاعتراف من جانبهم بأنَّ العرب هم الذين قدموا الورق للعالم. ونحن نضيف إنَّ الورق فى الحضارة الصينية، كان ظاهرة شديدة الخصوصية، تمامًا كما لو أثبتنا أن الصين سبقت مصر أو العرب إلي اكتشاف الكتابة. فسيبقى الحرف العربي أو الفينيقي هو وحده الذى كان مهيئًا لكي يلعب الدور العالمى. والنقلة الحاسمة في تاريخ البشرية. كما أنّض لغة الصين مهما أوتيت من بلاغة وعلم وثقافة. فإنَّها تشكل بصيغتها المعقدة، قيدًا ذاتيًا على انتشار معلوماتها. ولا أقول إنَّ اللغة العربية وحدها، من ناحية تقدمها وصلاحيتها للتعبير
ــــــــــــــــ
-117-
في شتى أوجه المعرفة، مما جعلها لغة العالم الأدبية والعلمية لأكثر من أربعة قرون، واللغة المكتوبة لعدة شعوب لا تتكلم العربية .. ولا المعرفة الإسلامية المتقدّمة، ولا موقع الحضارة العربية - الإسلامية جغرافيًا وتاريخيًا. لا أقول إنَّ هذه شكلت العامل الحاسم فى اختراع الورق أو جعله ظاهرة إسلامية بالدرجة الأولي، بل في اعتقادى، إنَّ العنصر الحاسم هو الموقف الإسلامي من " الكتاب " .. ومن " القراءة " و " الكتابة ". فالحضارة الإسلامية تقوم على " الكتاب " .. .
ما من حضارة أخرى قبل الإسلام لعب فيها " الكتاب " الدور الذى مثله ولعبه في الحضارة الإسلامية .. بل إنَّ تريب الأمم في التكريم وحسن المعاملة ينبعث عندنا من امتلاكهم لكتاب، فالمسيحيون واليهود لهم حقوق خاصة في الدولة الإسلامية، وامتيازات في التعامل لأنهم " أهل الكتاب " ؟؟؟!!! وقد شهد مؤرّخ يهودي - عن حق - أنَّ هذا كان أوّل تكريم يناله اليهود من الأمميين! .. بل إنَّ الدولة الإسلامية عندما عاملت مجوس إيران نفس معاملة أهل الكتاب، بذل الفقهاء جهدًا في تبرير ذلك بأنَّ الفرس كان لهم كتاب ولكنهم ضيعوه ..؟؟؟؟!.
ولكن أهم من ذلك، أنه حتى في الحضارات أو الديانات التى امتلكت " كتابًا " شبيهًا بالقرآن، فإنَّ وضع " الكتاب " في الحضارة الإسلامية يختلف جذريًا .. ففي اليهودية والمسيحية، كان " الكتاب " أوّلاً لا يحمل هذا الاسم بل " العهد " أو العقد " الكونتراتو " بين الله والمؤمنين. فالكتاب شىء مقدّس يحق للخاصّة وحدهم تداوله وفهمه وقراءته، وتصف مؤرخة غربية التقدم الثقافي في أوروبا في القرن الثالث عشر فتقول: " لم تكن هناك أسرة أرستقراطية في جنوب فرنسا، إلا وفيها شخص واحد على الأقل يستطيع الفخر بأنه قد قرأ كتابًا. وعدة أفراد يجدون لذتهم فى لعبة عقلية " ( مثل الشطرنج ). ويُمكن القول بكل ثقة إنه من القرن الثامن الميلادى وإلي الحادى عشر لم تكن توجد أسرة في العالم الإسلامي. فيها شخص واحد فوق سن السابعة لم يقرأ كتابًا واحدًا على الأقل ؟!.
فالمسلم يبدأ بقراءة القرآن، ولكي يفهم القرآن يجب أن يدرس النحو فإنْ أراد
ــــــــــــــــ
-118-
التفسير لزمه الحديث والشعر والبلاغة، وإن أراد ضبط صلاته وصيامه، كان عليه أنْ يلمّ ببعض قواعد الفلك والحساب، فإنْ أراد فهم حقه في ميراث أهله، احتاج إلي علم الجبر .. إلخ .. ثمّ لا وجود لكاهن يمتلك كل الأجوبة .. ولا حدود علي المعرفة، وطلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة، وطلب العلم مأمور به ولو كان العلم في الصين المجوسية .. .
باختصار..لا يمكن تصوّر المجتمع الإسلامي بدون " كتاب " حتى في أحلك العصور ولقد رمي " المتحررون " والملاحدة علماءنا بالتخلف لأنهم يقرأون الكتب الصفراء. فنحن نقرأ ولو لنزداد جهلاً أو تخلفًا!!! .. .
وقلّما يأتى ذكر مدينة من مدن الحضارة الإسلامية، التي بقيت أو سقطت إلا ونذكر مكتبتها العامة أو مكتبة الأمير وما بها من مجلدات، وصلت في قرطبة في القرن التاسع الميلادى إلى أربعمائة ألف كتاب، أو ما يكفي لإعطاء جميع رجال الدين في أوروبا كلها كل واحد كتابًا خاصًا، ويبقى الكثير .. وما من ترجمة لعالم أو باحث أو فقيه أو شاعر إلا وتذكر مكتبته الخاصة وما بها من كتب لا تقل عن عشرة آلاف كتاب بأى حال، أمّا كتب بغداد فقد صبعت النهر بحبرها عدة أيام أو أسابيع أو شهور - قل ما شت - وعبر عليها حيت الغزاة .. .
وفي كتابي " المسلمون والروس " أوردت ما كتبه ابن سينا في وصف مكتبة أمير سمرقند وكيف كان بها قاعة خاصة لمؤلفات الإغريق. تحتوى على مؤلفات لم يسمع بها ابن سينا حتى زار المكتبة.
فالكتاب كان ضرورة إسلامية، ولا يمكن تصوّر الكتاب على أوراق البردي الفادحة التكاليف، ولا علي الكاغد والعظام والأحجار أو ما شابه ذلك " من طعام إخوانكم الجن "!... كان لابد من ظهور الورق، فالكتاب كان حاجة إسلامية، والورق هو مجرد الابن الشرعي لهذه الحاجة. . مثل النفط عرفه العرب قبل أمريكا بقرون، ولكن " الطاقة " الأمريكية والغربية، كانت بحاجة إليه ومن ثم لهم السبق في طرحه عالميًا كمصدر للطاقة .. .
ــــــــــــــــ
-119-
تقول راى تاناهيل " ان لقاء العقل العربي المبدع مع اكتشاف صيني ( الورق ) خلق ثورة ثقافية وحضارية في كل تركيبة الغرب ( أوروبا ) لم يكنْ بوسع أحد - وقتها - التنبؤ بأبعادها. وقليل من اعترف بها بعد ذلك ".. .
كذلك الصفر الذى يُنسب للهنود، لم يكن ليأخذ مكانه في التاريخ والعلوم، لولا التقدم العلمي والحضاري العربي، الذى جعل الأرقام الرومانية حجر عثرة في سبيل هذا التقدم، ومستحيلة الاستمرار.. .
باختصار إنَّ محاولة البعض نسبة المنجزات العلمية والحضارية العربية لجذور غير إسلامية، محاولة مغرضة فاشلة، لأنَّ الحضارة الإسلامية مثل غيرها تمثلت ما سبقها من معرفة، وأفرزتها في صيغة متقدّمة وأكثر شمولاً وانتشارًا وأضافت إليها كمًا ونوعًا .. تقول نفس الكاتبة: " خلال الفترة من القرن الثامن إلي القرن الثاني عشر كانت كل المعرفة الإنسانية محصورة في يد المسلمين، من جند نيسابور إلي بغداد إلي القاهرة إلي صقلية إلي أسبانيا، كان يجرى نقل طب اليونان، والأرقام الهندية ( التى ستعرف بالعربية )(1)، والتي حلت محل الأرقام الرومانية الغبية. وكانت ثورة في الرياضيات والعلوم، وكل أوجه الحياة؛ صناعة الورق الصينية التى غيرت عالم الثقافة والدراسة، والقوس العربي الذى غير وجه الحرب، وقائمة فخمة من السلع المترفة مثل الحرير المشجر، الزجاج الملون، المعادن المشغولة، أو المكفتة، السراير ذات البراقع الكلة ( الناموسية )، السجاد. ألوان جديدة للصباغة، القباب في فن العمارة. المرايا الزجاجية، الحمامات العامة، المستشفيات العلمانية .. والطنبور والطبلة، وأخيرًا الحكايات والأساطير
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إخواننا المغاربة، ضحية سوء فهم علي ما أعتقد في إصرارهم على استخدام الأرقام الإفرنجية 234 علي أساس أاَّنها هى العربية لأنّ اسمها كذلك في اللغات اللاتينية. ووجه الخطأ أن المقصود هو النظام العشرى في الترقيم الذى جعل من الممكن كتابة العشرين هكذا 20 وليس XX كما كان في الأرقام الرومانية أو اللاتينية. فهذا هو المقصود بالأرقام العربية .. وليس الشكل.
ــــــــــــــــ
-120-
التي ألهمت بوكاسيو وتشوسر، فون ايسغنباخ وأخيرًا لا فونتين ".
فالنهضة الأوروبية قامت بالكامل علي منجزات بل وحتى خرافات الحضارة الإسلامية، ولكن عملية التلقي والتلقن ما كانت لتتم بنجاح أو تحدث نهضة حقيقية، إلاَّ لأنّضها تمّت في ظل الحرب العامة ضد الحضارة الإسلامية، وهكذا أمكن أنْ يتعلموا منا الطب ويتهمونا بالشعوذة، ونقلوا عنا الأرقام واتهمونا بالغيبيات والقدر! وأخذوا عنا الورق!!، وتركوا لنا الأمية. وتعلموا منا الرماية والأسلحة الحديثة باستعمالها ضدنا .. ألبسناهم الحرير وعلمناهم النوم على السرير والاستحمام وتحدثوا عن قذارة العربي.
علمناهم احترام المرأة فملأوا الدنيا بحديث الحريم واللواط عند العرب!.
ربما أساءت أوروبا السلوك، وربما أدانها التاريخ بالعقوق والكذب. إلاَّ أنَّ عذرها، أنَّه لا يُمكن لمفتون أنْ يقهر التحدّي، ولا حتى أنْ يتقن نقل التقدّم.
وتؤكد تناهيل أن أوروبا " نقلت التقدم المادي من العرب ولكنها رفضت الفكر أو العقيدة " وهذا ما بُحّت أصواتنا في تلقينه لأبنائنا، فأفسد تفكيرهم عملاء الغرب، دعاة الانفتاح والزعم بأنَّ التقدم لا يكون إلا بنقل العقيدة.
وفيما يتعلق بالمرأة تقول " تناهيل " أنَّه بالرغم من الحملة علي الأخلاق والسلوك العربي، فإنَّ بعض الأفكار تسرّبت دون أن يلاحظ أحد مما ساعد على تغيير عقل المسيحية، كما غيّرت المنجزات المادية ( الإسلامية ) وجهها، وكانت النتائج مذهلة، فإن أغاني الحب العربية، التي أفرزها مجتمع لا تزال المرأة فيه حتى اليوم تحل مركزًا تابعًا ( هذه نقطة ناقشناها في غير هذا المكان وإنْ كنّا لا ننفى أنَّ المرأة المسلمة المعاصرة لا تتمتع بالحريات ولا المكانة التى كفلها لها الإسلام ) هذه الأغاني هي التى كانت المحرك الذى غير نظرة الغرب للمرأة. ( وهي تقصد هنا ما اتفق عليه المؤرخون، من أنَّ أغاني الغزل فى المرأة وما يتبع هذا " الغزل " من خلع صفات شاعرية نبيلة سامية عليها ) إنَّما جاءت من أسبانيا عبر
ــــــــــــــــ
-121-
جبال البرانس، فغيرت تمامًا نظرة أوروبا المسيحية للمرأة، رفعتها من المرتبة الدنيا التي كانت فيها، إلي مرتبة " اللادى " أو " السيدة " التي ينحني لها النبلاء ويقاتلون في سبيل نظرة إليها، وتطور ذلك إلي تحرير المرأة واحترامها. وتضيف إنَّ الذى علّم أوروبا المسيحية، حب مريم العذراء هم شعراء التروبادر تلاميذ العرب.؟؟؟!!!!
وإذا عدنا للمجتمع العربي، فسنجد أنه في هذه الفترة بالذات، شاعت الثقافة اليونانية بين المثقفين المسلمين، وسيزداد شيوعها، حتى تصبح ظاهرة عامة، حتي نجد الشعراء يردّدون أسماء الأغريق، وكأن أرسطو وسقراط والإسكندر وجالينوس من قبيلة بنى عبس، بل ربما أكثر شيوعًا. وإذا كان يُقال أنَّ المترجمين العرب، لم يترجموا آداب الإغريق، لما بها من عقائد مخالفة للإسلام، أو " انحلال " فالأحري أنْ نقول إنَّ تراجمهم لم يكثر نسخها ولا انتشرت مثل كتب العلم والفلسفة، ولكنهم قرأوها وترجموها، وتداولوها في أوساط الخاصة(1). ومهما اتسعت دائرة المعرفة وديمقراطية المعرفة فلابد من خاصّة تتقن لغات أجنبية أكثر وتتذوق نوعًا خاصًا من الثقافات النادرة أو حتي المحرّمة أو التي لا تتجاوب مع ذوق العامة. ونستطيع أنْ نُرجع الكثير من الروايات بل والتفاسير والصور الفنية والميول " المنحرفة " إلي ثقافات يونانية ورومانية، حتي إذا لم نجد - اليوم - تراجم هذه الثقافات في المكتبة العربية، وما أقل ما بقي من هذه المكتبة، خاصة وأنَّ هذه الكتب هي أول من يصدف عنه القراء وتستغنى عنه المكتبات مع زوال المناخ الحضاري الخاص الذي أفرزه وجذب المثقفين إليه.
فالجاحظ ومن نهج نهجه، في عقد المقارنة بين الجوارى والغلمان تأثروا بما
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) وربما أيضًا لأنَّ المثقف العربي قد رُبّى علي احترام النصّ، فما كان بوسعه أنْ يزيف النصوص لتتفق مع الأخلاقيات المعلنة، كما فعل المثقفون الأوروبيون، ففضل المثقفون العرب عدم نشر أدب الإغريق علي تزويره.
ــــــــــــــــ
-122-
كتبه الإغريق والرومان(1) والأقوال المنسوبة لأبي نواس بأنه كاذ مزدوج المزاج، متأثرة باللغز اليوناني المعروف (2).
وهارون الرشيد بالذات الذى نعتبره قمة النمو الحضاري الإسلامي، هو الذي اتهم ابنه الأكبر بعشق الغلمان، وهو أول خليفة يتهم بذلك في التاريخ الإسلامي وربما كانت هناك مبالغة في الروايات التي ذكرت عنه، وربما كان الجهاز البرمكي خلفها، إلاَّ أننا لا نستطيع رفضها بالجملة. وتزعم هذه الروايات أنَّ أمَّه، وكانت من شهيرات التاريخ وفضليات النساء، حاولت مقاومة هذا الاتجاه فيه، بنفس الأسلوب الذي مازالت تحاوله الأمهات الصالحات في أمريكا فى القرن العشرين، وهو لفت انتباهه للفتيات، ولو بإلزامهن بالتزي بزى الغلمان، وعُرفن في التاريخ باسم " غلاميات الأمين "(3)، وقيل إنه خسر حربه مع المأمون لأنَّه كان منشغلاً بغلامه " وصيف " في صيد السمك .. وحكايات المغاضبة والمصالحة بينه وبين غلامه، عديدة، وسمتتكرر في سيرة أكثر من خليفة وأمير وشاعر، والغريب أنَّها وردت دون تحوير أو تبرير في الأدب العربي بل والشعبي بالذات، ولعدة قرون بعد ذلك.
والأمين كان جميلاً وأبو النواس علي علاقة به من قبل توليه المُلك والأمين
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب " بلوتراخ " عن الأخلاق ( فى مطلع القرن الثاني الميلادي ) فقد عقد فيه فصلاً عن حوار عاشق الغلمان وعاشق الجوارى. وردت فيه حجج من طراز: " أنَّ زيوس كبير الآلهة أخذ معه غلامًا وليس امرأة. والمقصود هو الفتى جانيمد الذى يقوم بمهمة الساقي والنديم في الجنة الإغريقية لزيوس هذا ".
(2) وهو لغز من مرحلة الانحلال الحضاري كانوا يتسلون به وهو: " ثلاثة في سرير ولكن أربعة أفعال تتم " ؟! ( منشورات كامبريدج ماسوشتس 1919- 1921 ).
(3) لاحظ ما أشرنا إليه من اختلاف مقاييس الحضارة في نشوئها وانهيارها، فبعد التغني بعائشة بنت طلحة التى كانت إذا اغتسلت قائمة لا يبتل فخذاها لا من أمام ولا من خلف، لضخامة بطنها وعجيزتها، وكان يضرب المثل بعجيزة هند، صار المزاج العام هو " الغلامية القد "!.
ــــــــــــــــ
-123-
بويع وعمره 22 سنة ومات وهو في سن السابعة والعشرين وكأنّ دعوة أبي نواس استُجيبت لأسفهما فهو القائل:
إن الذي يُرضي الإله يهديه |
ملك تردّى الملك وهو غُلامُ |
بــارك الله للأمين وأبقـا |
ه وأبقى لـه رداء الشـباب |
وهناك أبيات يصعب أن يبعد قارئها عن خاطره صورة الأمين وخاصة ما بها من إشارات وتلميحات من شاعر بني شهرته على التهتك والمجاهرة، وفى زمن كان التغزل بذكر الاسم ليس مستنكرًا، إلا أنْ يكون الخليفة بالطبع وهذا بعض مما عثرنا عليه.
فهو أولاً لا يتحرّج أنْ يبدأ قصيدة في مدح الخليفة بغزل في غلامه:
يسقيكها ذو قـُرطـَقِ |
يلهي ويُعجل من حَبَسْ |
خـنث الجفون كأنَّـه |
ظبى الرياض إذا نعس |
أضحي الإمـام محمدٌ |
للديـن نـورًا يقتبـس |
ويـا مـن لا أسـميه |
ولا أسـراره أبــدي |
ويـا أطيب من مسك |
ويـا ألـين من زبْـدِ |
ويـا من كالثريا هـ |
ـو بل أبعد في البعـد |
وتذكّر أنَّ الأمين هو ابن زبيدة!
ــــــــــــــــ
-124-
ومَاجِـد في الفـرع من هاشم |
إذا انتمـي طـــار بعبَّــاسـه |
مُخنّث اللفـظ يسبينـي بمقلته |
مقرطـق قـرشي الوجه عـباسي |
سلام علي شخص إذا ماذكرتهُ |
حذرت من الواشين أن يهتكوا سرى |
فإنــى مضمـرٌ أمـــرًًا |
أنــا مــنـه عـلي خطـــر |
أزور محمــدًا فـإذا إلتقـينا |
تكلمـت الضمائــر فى الصـدور |
فأرجــع لم ألمـه ولم يلمني |
وقد رضـي الضمير عـن الضمير |
أمـور لـيس يعـرفها سوانا |
يحـير لطفـها بصـر البصيــر |
ويقول:
إنَّي لصب ولا أقـول بمن |
أخاف مــن لا يخــاف أحـد |
إذا تفكـرت في هـواى له |
مسست رأمي هل طار عن جسدي |
إنَّي على ماذكرت من فرق |
لاأمـل أن أنـــالــه بيــدي |
علي أيّة حال التهمة عبرت القرون والقارات حتى أثبتها صاحب العقد الفريد، وهو ليس بالسند الصحيح ولا كتابه كتاب تاريخ، وإنْ كان يوصف بجامع الشائعات التاريخية .. قال صاحب العقد الفريد: " إنَّ الحسن بن هانئ قال في أمير المؤمنين الأمين اللوطي:
ــــــــــــــــ
-125-
رشـأ لـولا ملاحته |
خلت الدنيـا من الفتن |
كل يـوم يسترق له |
حسنه عبدًا بـلا ثمن |
يا أمين الله عش أبدًا |
دم علي الأيام والزمن |
وإذا كان من المفيد للمهتمين، عقد مقارنة بين تفشي اللواط كظاهرة حضارية في الأندلس الإسلامي، " وتطهر " أو تزمّت المسيحيين فيما تحول إلى أسبانيا، البرتغال في فترة سقوط الأندلس. وذلك لفهم قوانين نشوء وسقوط الحضارات، على ضوء النظرية التى نطرحها، إلاَّ أنَّه من الضروري التنبيه إلي أنَّ المجتمع المسيحي، لم يكن أفضل أخلاقًا في تلك الفترة، ولا حتي أقل لوطية من ناحية الممارسة الفعلية. كذلك يجب النظر بتحفظ شديد، أو بالأحرى الرفض باحتقار لأدبيات الحرب الصليبية التى شنت ضد المسلمين والتي حاولت أن تجعل من " اللواط " ظاهرة إسلامية، وكأنها لم توجد قط ولا عرفت بين المسيحيين فضلاً عن الأوروبيين! تمامًا كالإعلام المنحط حول ظاهرة العبيد، وكأن المسلمين فقط هم الذين " اخترعوا " ومارسوا الرق رغم حقيقة وجود عشرين مليون إفريقي في أمريكا المسيحية استرقهم ونقلهم وباعه أوروبيون مسيحيون .. بل وأن نسبة هائلة من هؤلاء العبيد من أصول مسلمة .. ولكن الموقف المسيحي طبيعى، لأنَّ من قوانين البعث الحضاري؛ التعصب، واحتقار المنافس أو الغريم، وتجريده من كل الفضائل واتهامه بكل ما يبرر إبادته .. في كتاب تبشيري مطبوع فى القاهرة يشيد بنعمة الرب حيث قامت الكتدرائية فوق نفس المكان الذي كان ساحة لبيع العبيد في بلد إفريقى مسلم! ولو كان المبشر صادقًا لقال لمن كان يجرى تصدير العبيد ؟!.
وفي موضوعنا بالذات نشير إلى قصيدة راهبة ألمانية ( Horswitha ) شاعت في القرن العاشر
ــــــــــــــــ
-126-
عن " شهيد " مسيحي، هو فتى ( Pelagrus ) عشقه ملك قرطبة المسلم، ولكن الفتي رفض الإستجابة لغزل الملك، ورفض قبلته مما أدّي إليى إعدامه .. والقصيدة – كما يفسرها جون بوزول – بحق، لا تعكس رفض اللواط في حدّ ذاته، ولكن رفض الفتي المسيحي أنْ يمارسه مع مسلم. لأنَّ المسيحي الذي تعمّد بالماء المقدس وطيب بزيت المعمودية لا يُعطي فمه لوثني، ولا يعانق عابد أصنام من طين ". ومدى الصدق في القصة يمكن الحكم عليه " بالدقة "في وصف عقيدة المسلم! ولكنها علي أيّة حال تعكس تصلب المسيحي وشعوره بالترفع أو السمو العقائدي، وهى مؤشرات الصعود الحضاري، وبالمقابل فإنَّ تهتك الأمير المسلم، وقبوله المهانة أمام الغلام المسيحي، وكل الذين عاشوا أحداث القصة، و " تسامحه " وحبه " للعدو " المسيحي، هى دلائل الهبوط الحضاري، لأنَّ الحضارة المسيحية كانت في مسيرة الصعود، ولو كان القرن العاشر هو قمة التخلف الظاهر.[ تعليق: التأويل الشخصي للكاتب، ومحاولته دائمًا البعد عن المعني الحقيقي لمضمون القصة، وهو أنَّ هذا الفتي الشهيد العفيف المضطهد، الذي قتل حتي لايمارس الخطيئة، لأنها تعدي علي الله، ومحاولة تفسير ذلك من خلال صعود وهبوط الحضارات، ما هو إلا تسطيح للفكر وانحطاط في الفهم للعقيدة المسيحية التي تدعو إلي الطهارة والعفة ].
أما الحضارة الإسلامية فكانت في مرحلة الهبوط، كل ملوك الطواثف كان شعرهم أحمر من مصاهرة المسيحيات، ونسبة هائلة من قصص عشق الغلمان تدور حول فتية مسيحيين. وبعض المسلمين كانوا لا يسكرون إلاَّ فى الدير لمغازلة الشمامسة، وصغار الرهبان، و " المؤتمن " " أمير المؤمنين " في " سراقوس " كان مشهورًا بعشق غلامه المسيحي، وأحد كبار الشعراء تنصر إكرامًا لغلامه المسيحى، وعانق حبيبه أمام المذبح والقس بعد إتمام مراسم التنصير!.
وذكر أبو الحسين أحمد بن يحيي بن اسحاق الرويدى في كتاب اللفظ والإصلاح: أنَّ إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة مع علو طبقته فى الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة، " وقع فى ما حرم الله عليه بسبب فتى نصرانى عشقه، بأن وضع له كتابًا في تفضيل التثليث على التوحيد فيا غوثاه .. عياذك يارب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان " ص 130.
ــــــــــــــــ
-127-
كلاهما فعل اللواط، ولكن الفتى النصراني اشترى به تعصبه العقائدى وشيخ المعتزلة عبر به عن تحلله أو تحرره وانهياره الحضاري ؟؟!!!.
" وكنت أنظر إلي غلام نصراني حسن الوجه، فمر بي أبو عبد الله البلخي فقال إيش وقوفك ؟ فقلت ياعم .. أما ترى حسن هذه الصورة .. كيف تعذب بالنار ؟! ".
ذلك أنَّ الحضارة الإسلامية كما قلنا كانت في طريق الأفول، رغم أنها في قمة تألقها وازدهارها بل وحتى تفوقها الفكري الظاهر .. ولكه كان القصور الذاتي.
فقدت الزخم الحضاري، فقدت البداوة، الخشونة، التطهر، التعصب الحضاري المطلوب، وليس المذموم .. انتقل ذلك إلى خصمها بمستويات أكثر قسوة وخشونة، وتحيزًا وعنصرية، وأقل تفهمًا وإنسانيّة ؟؟!!.
فإذا عدنا لحديث المواجهة الحضارية في موضوع اللواط بالذات، نجد أنَّه تد حدث تبادل مزدوج وعلي مراحل. فقد تأثرت الحضارة الإسلامية بالتراث الإغريقي - الروماني فانتشر اللواط كظاهرة حضارية، أو ترف حضاري. وكدليل على التميّز والسمو علي العامة أو الناس " العاديين "، وفي نفس الوقت تأثرت أوروبا بالمجتمع الإسلامي المتقدم، الذى كان بتفوقه الحضاري، علي جميع الأصعدة، يُشكّل المثل الأعلي للنخبة الأوربية التى أتيحت لها الفرصة للدراسة في الجامعات الإسلامية، أو زيارة مدن النور الإسلامية، فتعرّفوا على تلك الحضارة الزاهرة والمتفوقة والمترفة في نفس الوقت .. .
فإذا كان الجاحظ كما أشرنا تأثر بمحاورات الغلمان والجوارى في التراث الإغريقي - الروماني فقد أثر بدوره في الفكر الأوروبى فانتشرت محاورة " هيلين
ــــــــــــــــ
-128-
وجاينميد " أو أيهما أقدر على امتاع كبير الآلهة الشبق(1) وأصبح " جاينميد " يتبع الذوق العربي(2) فهو يوصف بأن " لحيته لم تبت بعد " بينما سجل بلوتراك أن سقراط " أحب Alcibiadss بعد أ، نبتت لحية الفتى".
وإذا كنّا نسلم بوجود اللواط كظاهرة حضارية في المجتمع الإسلامي، والأدب الإسلامي وإذا كنّا نؤكّد المبالغة والتعصب من جانب الفكر المسيحي في اتهام الحضارة الإسلامية باللواط .. وذلك بهدف تعبئة الجماهير المسيحية ضد المسلمين. وأيضًا القضاء على هذه الظاهرة في المجتمع المسيحي الصاعد. فإننا أيضًا، نحب أنْ نلفت الأنظار إلي بعض الملاحظات قبل أنْ ننتقل إلي تطوّر الموقف المسيحي من اللواط.
1- مبالغة الدراسات الغربية في اكتشاف اللواط، خلف كل لفتة أو علاقة بين ذكرين أو أنثيين .. فهم في الغرب، لا يعرفون الصداقة أو التحاب بدون جنس، ومازال الناس يستكرون فى أوروبا وأمريكا رؤية ذكرين يمشيان في الطريق وقد تشابكت أيديهما، فضلا عن لفّ الذراع حول العنق بالتبادل، كما يمشي الولدان والبنات في الشرق، بل إنَّ بعض الأبناء من المشرق، كان يتحرّج من مسك يد أبيه أو معانقته في بلاد الغرب حى لا يتهمهما الغربيون! ولذا فالزعم مثلاً بوجود علاقة جنسية بين المعتمد والشاعر ابن عمار لمجرد أنَّ " الأمير " لم يكن يطيق فراقه ساعة واحدة لا في الليل ولا في النهار "(3) اتهام لا دليل عليه إلا هذا الشك الغربي أو الذعر الغربي من أية علاقة حميمة بين ذكرين!.
2- وهذا يقودنا إلي ملحوظة أخري وهي أنَّ المجتمع العربي لم يعرف
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وصف أحد آلهة الإغريق بأنَّه كان فى حالة انتصاب دائم.
(2) قال مؤلف " المسيحية واللواط " أنَّ مناظرة هيلين وجاينميد في القرن الثانى عشر متأثرة بألف ليلة أو حكاية " بدور ".
(3) عن جوذ بوزول ص 28.
ــــــــــــــــ
-129-
كظاهرة، اللواط بين الرجال(1)، ولا في أحلك عصوره، وهى ظاهرة شائعة في الغرب الآن. وفي الحضارة الرومانية(2) بالذات أمّا في الحضارة الإسلامية، فكانت تدور حول عشق الغلام وهو ما بين البلوغ وظهور اللحية، التى يعتبر ظهورها نهاية للمرحلة ولا يجوز بعدها مطارحته الهوي، أو توقع ذلك الفعل منه ولذلك يشكو الشاعر اللوطي:
نبتت لحية شقران حبيب الروح بعدى |
حُلقت لحيف أتته قبل أن ينجز وعدي |
ويتغزّل آخر في غلام فيصفه بأنَّه: وأخضر فوق حجاب الدرّ عاذره.
وفي رواية:
لما استقلّ بأرداف تجاذبه |
وأخضر فوق حجاب الدرّ شاربه |
وقال:
بدر من الإنس حفته كواكبه |
وقد لاح عارضه وأخضر شاربه |
والشارب هو أول ما ينبت للغلمان، والإخضرار هو بداية ظهور اللون قبل أنْ يشتد ويسود...
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سجل الجبرتى بارتياع شديد ظهور فرقة من أوباش الإمبراطورية العثمانية " يلوطون بالاختيارية " واعتبر ذلك من الفظائع!.
(2) الإغريق عرفوا عشق الغلام الذى جاوز سن البلوغ ولكن لم يصبح رجلاً بعد وهي Pederasty ومن دراسة للمزهريات الجنسية الإغريقية كانت أغلبية صور اللواطة الكبري المرسمومة عليها من نفس السن أي الكبار وهم الذين رسموا فى حالة الوطء، ولكن الأكثر شيوعًا، هو التفخيذ أو عبث الكبير بعورة غلام جاوز سن البلوغ، ولكن عند الإغريق أيضًا أن الديمقراطية أسسها لوطيان قادا معركة ضد طاغية أثينا فهما كانا قد تجاوزا مرحلة المراهقة بل والشباب، وفرقة طيبة المقدسة من المحاربين كانت تتكون أساسًا من عشاق ومعشوقين على علاقة حب وجنس، أى لواط بين مقاتلين وليس غلمان، وأشاد الفلاسفة باللواط بين المحاربين " لأنهم عندما يقاتلون جنبًا إلي جنب لا يمكن هزيمتهم لأنَّ العاشق يقبل الموت ولا الإهانة أمام معشوقه ".
ــــــــــــــــ
-130-
وعـذار زانـه مـن |
زغب الشعر لجـام |
فأيـن لـي أكعـابٌ |
أنت أم أنت غـلام؟! |
أما الغلام المحترف أو الفاعل. المضطر للبقاء في المرحلة، فكان يحاول إطالة عمره المهني بإخفاء إنذارات التقاعد المتمثلة في بداية ظهور شعر اللحية ولذا يقول:
فاليـوم إذ نبتت بوجهـك لحية |
وذهبت بملحك ملء كف القـابض |
مثل السلافة عاد خمر عصيرها |
بعـد اللـذاذة خلّ خمر حـامض |
أو يعزّيه فاجر:
فإن تك قد سالت نجديه لحية |
فباطن ... ... ... ... |
تذكر أخي ما قد مضي من شبابه!!
قال الوشـاة بدت في الخد لحيته |
فقلت لا تكثـروا مـاذاك عائبـه |
وصار من كان يلحي في مودته |
أن سيل عني وعنه قالر صاحبه! |
فاللواط في الأدب العربي كان يدور حول هذا اللون من العشق لمرحلة معيّنة في عمر الفتي، أو الأمرد، وهو الوصف الشائع في الغزل والأدب وفي النصوص الناهية والمحذّرة من التطلّع إليهم لما بهم من فتنة في تلك السنّ، لمن به ميل للواط .. ولعلّ هذا هو سرّ وعده سبحانه وتعالى للذين يعفّون ويكبحون شهواتهم " ولدان مخلدين ". واللفظ المختار شديد التوفيق والتعبير، أي ولدان خالدي الولدنة، أي لايتجاوزون تلك المرحلة التى تفتن العربي المصاب بهذا الداء، بل تثبت الدراسات أنَّها السنّ التى تغوي الغالبيّة العظمي من الذكور الذين سجّل لهم ميل لوطيّ مؤقت فمن قاومها وكبح نفسه عن الفعل، فله في الجنّة ما اشتهي.
ــــــــــــــــ
-131-
تمامًا كما للشاب العفيف الذي صان نفسه عن الزنا بالفتاة التي اشتهي، فله في الجنة " حور عين " كلّما فضّ بكارة واحدة عادت بكرًا، ولو فضّها سبعين مرّة في الليلة، فما أحلي البكارة في زمن الخلود الذى تسقط فيه الخبرة، كذلك من عَقَبَ نفسه عن الغلام الأمرد فله في الجنة " ولدان مخلّدون " أي غلام يبقي أمرد إلي الأبد .. وهل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان ؟! ولنا إفاضة.
ومن مراجعة لأشعار بعض اللوطيين أو بالأحرى إمامهم نجد أنَّ الغلام المعشوق يدور حول هذا السن ... أو على وشك ( محتلم هنا إشارة إلي سن البلوغ ).
حين أوفي على ثلاث، وعشر |
لم يطل عهد أذنه بالشنوف |
فـيه غُـنَّة الصّـبا تعـتليها |
بُحَّـة الاحـتلام للتشريف |
حين رامى النساء منه بعـين |
وطوى أختها من التخويف |
والشنوف هو الحَلَق، ويُفهم أنَّهم كانوا يضعون حلقانًا في آذان الصبية إلي سنّ البلوغ. وهذا من التخنث الذى يصاحب مراحل الترف والانهيار الحضاري ويُري الآن في أوروبا وأمريكا ..
وآخر يهبط بالسنّ إلي:
ابن ثمانٍ بعــدها أربــع |
طفل وكهل السن فى ظرفه |
ثم يهبط آخر أكثر:
شــادن يكتب فـي اللـو |
ح لتعـلـيم هجــــاه |
أنَّ الــــذي يتمنـــي |
أمـرد من نشئ الدواوين |
قـد نشر الطومار في حجره |
مبتدئًـا بالبـاء والسـين |
3- أنها كانت ظاهرة ترف حضاري، ومن ثمّ شاعت في الأعمال الفنية، فلا يكاد يخلو ديوان شاعر ابتداء من العصر العباسي الثاني، ملكًا كان أو أميرًا أو فقيهًا أو متأدبًا من غزل في غلام، وليس من المبالغة القول بأن التراث الأدبيّ
ــــــــــــــــ
-132-
العربي في عشق الغلمان يفوق تراث الإنسانية مجتمعة حتي النصف الثاني من القرن العشرين. بل نقول أنَّ الممارسة اليوم في الغرب أعلي نسبة بدون شك، كذلك فالكتابة قد تكون من ناحية الكمّ أكبر، إلاَّ أنَّ الأعمال الفنية التي تستحق هذه التسمية قليلة جدًا بعكس الحال في الحضارة الإسلامية، حيث
ــــــــــــــــــــــــــــ
ولاحظ أنَّ الأدب المكشوف أو ما يُسمّى بالبرونجرافى الذى وصلنا كان قاصرًا على الجنس بين الرجل والمرأة .. ولكن بعض أشعار أشهر لوطى في الأدب العربي " أبو نواس " لا يمكن إدراجها في الفن .. فهي تدور حول السروال وحل التكة .. حتى ليمكن وصفها بأدب " التكة ".
تمــد بهـا إليك يـدا غـلام |
أغــن كـأنـه رشـأ ربيـب |
يجـر لك العـنان إذا حسـاها |
ويفـتح عقـد تكـتة الـدبيـب |
وغـزال تشـرَّه النفــــو |
س إلــــــي حــلّ إزاره |
سكبت له منهـا فخـر لوجهه |
وأمكن مـنه ماتحـيط به الأزر |
اسـلس لـي حـلّ سراويـله |
من بعد إقضـائى إلـي اليـأس |
فقام يسحب أذيالاً منعمة قد مس |
هـا مـن يـدى ظلمٌ وعـدوان |
يقول: يا أسـفي والدمع يغـلبه |
هتكت مني الذي قد كان يصطان |
فقلـت لـيثُ رأي ظبيًا فواثبه |
كـذا صروف ليالى الدهر ألوانُ |
فحلـلـنا هــناك تكـة خـز |
وحســرنـا قـباءه الديباجـا |
مـزج الكأس لي غـزال أديب |
هـاشمي أصاب فـيها المزاجا |
إلى أن ينتهي معه كالعادة بحل التكة
فقمت حتي حللت مئزره |
.......................... |
إذا مـا وطـئ الأمــر |
د للعـلم حصي المسجـد |
فقـد حـلّ لنـا عقــدًا |
مـن التكـة تستعـقــد! |
وإنّـي رأيت سـراويـله |
لهـا تكـة أشتهي جـرها |
ولا سيّمـا وقـد غـير |
ت عقـد ربــاط تكتـه! |
وكنت فيما بين ذا ربمـا |
أدنيت خلخالية من شـنْفِـه |
والشنف هو الحلق في الأذن....
ــــــــــــــــ
-133-
تجد المؤرخ يورد ترجمة أحد المشاهير، وبدون أية رغبة في التشهير أو الادهاش بل بعد أن يشهد له بالعفة والتقوى والصلاح وطيب السيرة، يصرعك بقوله: " وله - غفر الله له - في غلام " ثم يورد بضعة أبيات غزل في غلام قد تكون متقنة أو ركيكة حسب مستوى العصر. ولكن ذلك لا يعني أنهم جميعًا قد مارسوه، أو أنَّ نسبة الممارسة كانت بنسبة الأقوال الفنية، ولو أدين عمر بن أبي ربيعة بكل بيت قاله بتهمة الزنا لأدمى ظهره الجلد أو لرجم بعد أول قصيدة ..
ولما حاول أمير المؤمنين أن يدين شاعرًا بشرب الخمر استنادًا إلي إجادته وصفها، رد الشاعر بأنَّ معرفة الخليفة بدقة وصف الشاعر أدعي للشبهة، فأسقط في يد الخليفة. فالحديث عن الغلمان وعشقهم إنَّما كان وثيقة مرور إلي المجتمع الثقافي، وبطاقة عضوية في نادى الصفوة، ولذلك لا نتصوّر وقوع، ولا نفهم استدلال مؤرخ اللواط في المسيحية، على إباحة اللواط من قصيدة خيالية لابن الفرا ، معلم الصبية في " المرية " بالأندلس التى يزعم فيها أنه اشتكى غلامه المتمنع إلى قاضى البلدة، فحكم القاضى بأنَّ الجمال هو للاستمتاع. عندها عانق المعلم فتاه، بأمر المحكمة عناق اللام للألف. وبلغ من اقتناع الغلام بقرار المحكمة أنه طلب من الله أن يغفر له خطيئة التمنّع. هذه خيالات فكرية لحضارة غاربة ولا تنس أنَّ بقايا مدينة " المرية " هذه يحملون مفاتيح بيوتهم في الأندلس الضائع إلى اليوم في منفاهم بالمغرب.
وهذا ليس اعتذار ولا تطييبًا لخاطر القارىء المسلم، فنحن نعتقد أنَّ المجاهرة
ــــــــــــــــ
-134-
أخطر علي المجتمع من الفعل ذاته، ونعتقد أن الممارسة موجودة فى سائر المجتمعات وفي جميع المراحل أو حتى الرغبة لكي لا نُتهم بالمبالغة. ولكن المجاهرة، ولو " أفلاطونية " هى مؤشر الانهيار الحضاري، وهي من باب فسرق مترفيها، فالمهم هو الموقف الحضاري والمناخ الذي تخلقه، وهذا هو أساس التحريم .. وهي الفاحشة .. وسبحان من اختار لفظة الفسق .. فى حديثه عن انهيار الأمم .. فقال أمرنا مترفيها ففسقوا فيها .. وإليك صورة من فسق مترفيها وانحلال الأمم. وردت فى كتاب يُعدّ من أبرز المؤلفات الأندلسية: " طوق الحمامة " من تأليف الإمام الفقيه .. أبى محمه بن حزم 00المتوفى سنة 456هـ. .
وكان مستقبل الصراع الحضاري في " أندلسنا " قد حُسم لصالح المتخلفين، لولا هبة " متخلفة " من الشاطئ الإفريقي الإسلامي، أخرت إبادة المسلمين.
كما كانت الحضارة المسيحية - الأوروبية لا تزال بحاجة إلي وقت لتستكمل مؤهلات الوراثة. ( و لاحظ وصف منحلي الأندلس لمنقذيهم من الشاطىء الإفريقى بالبربر والمتخلفين .. إلخ ).. .
وهذه بعض نماذج مما ورد في الكتاب، بل إليك حكاية تداولتها الكتب عن المؤلف، وأوردها الناشر فى عام 1964 ميلادية بدون تعليق!!
" مر يومًا هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكّة الحطابين بمدينة أشبيليه، فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال أبو محمد ( ابن حزم ج ) هذه صورة حسنة، فقال له أبو عمر: لم نر إلا الوجه فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك ".
فقال ابن حزم ارتجالاً:
" وذى عذل فيمن سيأتي حسنه .. إلخ ".
والكتاب وضعه مؤلفه بناء على طلب صديق كلفه أعزه الله بأن يصنف له: " رسالة في صفة الحب ومعانيه أسبابه وأعراضه وما يقع فيه ".
ــــــــــــــــ
-135-
انتهي عصر الاستفتاء في الصلاة والإيمان والجهاد، بل حتي في الاعتزال والكلام وأصبحوا يُكلفون الكتاب بوضع مؤلفات في الحب، وهناك بالطبع من ألفوا بناء على " طلب الجمهور " في أوضاع الجنس .. وقد أحسن ابن حزم إذ حصر كتابه في مشاهداته " فلم يستعرض الحب من بدء التاريخ " ومن ثم كانت فرصته أكبر في تقديم شريحة أكبر من حياة مجتمعه، وإنْ تكن مجرّد شريحة ميكروسكوبية .. لذلك اعترف بتناقض أو تباين سبيل عصره عن سبيل العرب الأقدمين ( الذين أورثوهم الأندلس فضيعوها ): " فسبيلهم غير سبيلنا ". .
والكتاب من ثلاثين بابًا: في أصول الحب عشرة، وفى أعراض الحب اثنا عشر بابًا. وفي الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب، ثم بابان في قبح المعصية، والتعفف!!
هذه حضارة وصلت إلى ذروة الترف، نضجت وتعفنت وآن سقوطها، خاصّة وحفار قبرها يعيش متربصًا بينها.
وهذا الكتاب الذى وضعه فى الحب، تجده يكشف فيه دون قصد عن بعض ثقافته، فهو يتحدث عن المغناطيس واتفاق أو اتصال جوهره مع جوهر الحديد. وقوانين الحركة التى تحكم العلاقة بينهما. ثم ينقل عن " أفلاطون " دوذ أن يُعرّف قراءه به، واعيًا بأنَّه أشهر من أنْ يُعرّف لقرائه هؤلاء. وينقل من قراءاته في السفر الأول من التوراة، ويستنهج معلومات شائعة ولكن غير مؤكدة عما تسميه العامة بالوحم .. ثم يتفلسف فيورد قصيدة له اشهرت " بالادراك المتوهم " .. حافلة بالجدلية قبل أن تصل إلى علم " هيجل " الفيلسوف الألمانى في القرن التاسع عشر.
يقول ابن حزم:
تـرى كل ضـد بـه قائمًـا |
فكيف تجد اختلاف المعاني |
فيـايهـا الجسم لاذا جهـات |
وياعرضـًا ثابتًا غير فان |
ــــــــــــــــ
-136-
ويقول: " والأضداد أنداد .. والأشياء إذا أنوطت في غايات تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت ".
ويررد في شعره مبدأ التثنية المنسوب إلي " ماني ".
ويقدم لنا معلوماته في علم الضوء، وهي بالطبع النظرية الخطأ التى سادت فترة طويلة، عن خروج شعاع من العين يقع على الجسم فيراه. غير أنَّ أخطر ما في حديثه - وإن ضاعت للأسف تفاصيله - هو إشارته لوجود رأى مخالف لذلك هو رأي " صالح غلام أبي إسحاق النظام " الذى " خالف في الإدراك فهو قول ساقط لم يوافقه عليه أحد "!!.
فهل يكون صالح هذا الأب الحقيقي لعلم الضوء الصحيح ؟! .. ولاحظ أنَّ هذا العالم في الضوء الذي " خالف " النظرية السائدة في عصره هو غلام أبى إسحاق أي عبده .. واستنتج ما شئت عن وضع العبيد في دولة المسلمين ووضعهم بعد سبعة قرون في العالم الجديد!!.
هو يدرك تفوق سرعة الضوء على الصوت، أو بتعبيره سبق الرؤية علي السمع. وهو يشرح لنا الفلك ويعرفنا أنَّ الزمان هو حركة المادة في المكان وهو تعريف حديث جدًا ولكن أبا محمد لم يبعد عه كثيرًا عندما قال إنَّ الزمان " اسم موضوع لمرور الساعات وقطع الفلك وحركاته وأجرامه ".
وتعرف منه أنَّ هناك خلافا بين علماء عصره حول الظل وهل هو متماد أم لا ..
وتعرف أنهم كانوا يعالجون الأمراض النفسية بنجاح، كما عولجت بنت أحد القواد التى اشتد بها حب زميل لها من أبناء الكتاب .. " إلي أن تدوركت بالعلاج ".
ــــــــــــــــ
-137-
وهو إفراز مجتمع مفتوح بل هو متحرر إلي حدّ التحلل .. تحتل المرأة فيه مكانة خاصة، وتمارس جميع أوجه الحياة باستثناء القوات المسلحة على الأرجح، فهو نفسه يقول في ترجمته الشخصية أنَّه تربب " في حجور النساء ولم يعرف غيرهن ولا جالست إلاَّ الرجال وأنا في حدّ الشباب "...
ولنا أن نستنتج أنَّه يدين بتعليمه الذى ألم بكلّ فن، وجعل منه فقيهًا أديبًا ملمًا بكل معرفة العصر من علم الضوء إلي فلسفة الإغريق، يدين بهذا كله إلي معلمات من النساء.. ! .. وهو أيضًا يعطينا فكرة عن الوظائف التي كانت تمارسها المرأة، خلال حديثه عن رسولة الغرام، وليس من باب حصر الوظائف .. ومن ثم ربما كان من حقنا أنْ نقبل هذا التعداد علي سبيل المثال لا الحصر .. فمنهن: " الطبيبة والحجامة والسراقة والدلالة والمشاطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخفة والصناع فى المغزل والنسيج وما أشبه ذلك"..
وكان الرجال يجلسون مع النساء أو الضيوف مع الرجل وأهله ولا يستنكر ذلك الإمام الفقيه ابن حزم، بل ولا حتي يحتاج منه إلي تعليق، وإنما علمنا ذلك من خلال غضبته علي التحلل الذى جعل رب البيت يتغاضي عن مغازلة ضيوفه لأهله بل وأكثر من المغازلة، فليس الاختلاط هو ما يثير شيخنا، بل " الديوث " كما قال وهو المفرّط في عرضه وعرض أهله وعلنًا!. يقول:
" أذكر أني كنت في مجلس إخوان لنا، عند بعض مياسير أهل بلدنا، فرأيت بين بعض من حضر وبين من كان بالحضرة أيضًا من أهل صاحب المجلس، أمرًا أنكرته وغمزًا استبشعته، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبهته بالتعريض فلم يتنبه، وحركته بالتصريح فلم يتحرك فجعلت أكرّر عليه بيتين قديمين لعله يفطن وهما هذان:
إنَّ إخوانه المقيمين بالأمـ |
ـس أتـوا للزنا لا للغناء |
قطعوا امرهم وأنت حمـار |
موقر من بـلادة وغـباء |
وأكثرت من إنشادها، حتي قال لي صاحب المجلس: قد أمللتنا من
ــــــــــــــــ
-138-
سماعهما، فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكت وأنا لا أدرى أغافى هو أم متغافل؟.
ونحن بدورنا لا ندرى أمغفل ابن حزم أم متغافل ؟.
هو مجتمح شديد الثراء مسرف في الترف والبذخ، إذ يزعم لنا ابن حزم أنَّه لم يشهد عاشقين " قط " - وهو مؤرخ العشاق " إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر، مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت فى تطاريف الوشى والخز "!.
وأهدت شجن جارية المتوكل إليه: " عشرين غزالاً بعشرين سرجًا صينيًا، علي كل غزال خرج صغير من ذهب مشبك فيه المسك والعنبر وأنواع الطيب المرتفعة. مع كل غزال وصيفة بمنطقة من ذهب في رأسه جوهرة ياقوت أو زمرّد أو غيرها من الجواهر الجليلة القدر " ( التحف والهدايا ) . ( نشرة سامي الدهان. دار المعارف بمصر ).
ملوك أوربا مجتمعين، ما كان بطاقتهم هذا الترف الباهظ، والشائع في جميع عشاق الأندلس الذين يعرفهم ابن حزم!.
وماذا بعد الترف، إلا " الفسوق " وماذا بعد الفسوقة إلا الانحلال. ثم الملل.
وقد رأينا صورة من التحلل في حديث الرجل الذى يسمح بمغازلة الضيوف لأهله! " ولكنه يقدم لنا صورة أبشع وكأنه يتحدث عن سان فرنسيسكو في السبعينيات، أو الستينيات من هذا القرن، حيث أصبح الشخص الثالث، أو الجنس الثلاثي، أو اللغز الإغريقين أو الأسطورة النواسية، شائعة، حتى أورد عنها ابن حزم مثالين في كتابه! وهو أن يعشق الرجل الفتى، ويعشق الفتى زوجة الرجل، والعياذ بالله .. يحدثنا الإمام الفقيه عما:
" دهم عبيد الله بن يحيي الأزدي المعروف بابن الحريري 0فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعًا في الحصول علي بغيته من فتي كان
ــــــــــــــــ
-139-
علقه. نعوذ بالله من الضلال. حتى لقد صار المسكين حديثًا تعمر به المحافل وتصاغ فيه الأشعار، وهو الذى تسميه العرب الديوث.
وفيه يقول عيسي بن محمد بن محمد الحولاني:
يا جاعلاً إخراج حر نسائه |
شركًا لصيد جآذر الغـزلان |
أني أرى شركًا يمزّق ثم لا |
تحظي بغير مذلّة الحرمـان |
وقال هو ( ابن حزم ) فيه:
ويأخـذ ميما باعطاء هــاء |
ألا هكذا فـليكن ذو النواهي |
ويبـدل أرضا تغذى النبـات |
بأرض تحف بشوك العضاه |
لقـد خاب فى تجره ذو ابتياع |
مهب الريـاح بمجرى المياه |
ويزعم أنَّه سمع هذا الديوث في المسجد الجامع ( ! ) يستعيذ بالله من العصمة كما يستعاذ به من الخذلان!!".
وقال آخر:
ما لما بي منك من فرج |
لا ابتلاني الله الفرج! |
هذه صورة لا تحتاج لتعليق... رجل يسأل الله أن يحميه من " العصمة "، ويبعد عنه الفضيلة والعفة، ويدين عليه نعمة الفسوق... وفي المسجد الجامع وبحيث يسمعه الناس!...
فحق عليها العذاب...
أما عن الملل فهاك صورة لا تقل بلاغة وتعبيرًا عن : " أبي عامر محمد بن عامر رحمه الله كان شديد الملل. يحب الجارية ثم يملها في ساعات .. حتى أتلف فيما ذكرنا عشرات ألوف الدنانير عددًا عظيمًا. وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد مع الشرف العظيم والمنصب والجاه العريض... وأما حسن وجهه وكمال صورته فشىء تقف الحدود
ــــــــــــــــ
-140-
عنه وتكل الأوهام عن وصف أقله ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيارة ويتعمدون الحضور عند باب داره فى الشارع الآخذ من النهر الصغير علي باب دارنا في الجانب الشرقى بقرطبة إلي الدرب المتصل بقصر الزاهرة لا لشىء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبته جوار، كن علقن أوهامهن به، وكان رحمه الله يخبرنى أنَّه يمل اممه فضلاً عن غير ذلك، وكان لا يثبت علي زى واحد كأبي براقش، حينا يكون في ملابس الملوك وحينا فى ملابس الفتاك ".
ولا أظن أنَّ هناك صورة أصدق تعبيرًا عن الملل والتعفّن الحضاريّ مثل هذه الصورة التي تذكّرنا بأباطرة روما والطبقة الحاكمة في " بومبى " قبل الزلزال والغزو البربريّ .. وسقوط الإمبراطوريّة وانتصار المسيحيّة. وعندما تُصبح الطبقة الحاكمة فريسة هذا الملل، فإنَّها تفقد حتى الرغبة في الاستمرار، بل إنَّها تتمنّي في اللاوعي أنْ يأتي من يخلّصها من هذا الملل بالقضاء علي وجودها. الذي أصبحت تمله، كما يملّ أبو عامر اسمه.
وسبب الملل واضح: في حكاية أبي عامر، فقد أوتي كلّ شىء، فلم يعدْ يتمنّي شيئًا ولا يصبر علي شيء، ونفس القاعدة تنطبق علي الحضارة، عندما تصل إلي الاختناق فلا انقلاب تكنولوجي يفتح آفاقًا جديدة ولا حاجة في إطار العصر تفتقدها الأمة، فيبدأ الترف والانحلال فالملل ... وتحين الفرصة للعدوّ المحروم الأقلّ تمدنًا فيضرب ضربته ويدمّر الحضارة الآفلة.
ونعرف من " ابن حزم " أنَّ حماماتهم كانت مزدانة بصور مثيرة تعشق، فهو يقول لصاحبه الذى يعشق طيفًا رآه في المنام " لو عشقت صورة من صور الحمام لكنت عندي أعذر".
ولا شك أنَّ القصور وغرف النوم كان بها مثل هذه التصاوير أو أشدّ!!.
ومن دلائل الانحراف الحضاري، انَّه هو ووالده لا يحبون إلا " شقراء الشعر " وهي الأوربية، المسيحية غالبًا، أى الخصم الحضاري المتربّص .. والناس علي
ــــــــــــــــ
-141-
دين ملوكهم فكل " خلفاء بني مروان " ولا سيما ولد الناصر منهم كلهم مجبولون على تفضيل الشقرة. وقد رأياهم ورأينا من رآهم من لدن دولة النامر إلى الآن فما منهم إلا أشقر".
وهذا التذوق، لم يكن مسألة شخصية، ومعاداتها لم تكن عنصرية، بل عصبية حضارية وقومية. لأن الأمة كانت سمراء سوداء الشعر، ومن ثم، فهذا الميل للون خصمها الحضاري من الطبيعي أن يثيرها، وأن يقلقها. ولذلك كانت المقاييس العامة لدى الجمهور ضد الشقر ويرد عليهم ابن حزم بلسان الطبقة المترفة التى انفصلت عن جماهيرها وفقدت الاهتمام بالبقاء الحضاري، منصرفة إلي لذاتها الفردية البيولوجية:
يعيبونها عندى بشقرة شعرها |
فقلت لهم هذا الذى زانها عدو |
يعيبون لون النور والتبر ضلة |
لرأى جهول فى الغواية ممتد |
ثم يسب اللون الأسود، وهو لون الأمة، ولون المغاربة الذين سينقذونهم من يد الأسبان لفترة .
وأبعد خلق الله من كل حكمة |
مفضل جرم فاحم اللون مسود |
وعلى الجانب الآخر من الحضارة الآفلة، في المشرق، سنلاحظ أنَّ أشهر لوطيّ. الذى كان يصول ويجول في بلاط الخليفة العربي. وفي عاصمة العباسيين. قد نسج شعره، من ثلاثة عناصر .. اللواطة .. الخمر .. ثم الكيد للعرب سبّ حضارتهم وتاريخهم وقبائلهم وطباعهم .. ولكن أخطر من ذلك هو سخريته الفاجرة بالدين، تحريضه علي ترك الجهاد .. والدعوة للترف والحض علي الفسق والفور من القتال أو فروسيته. وملخّص شعره في هذا الباب سنجده في شعار انطلق في أمريكا في الستينات مؤذنًا بهزيمتهم في حرب فيتنام وهو: Make Love not War أي مارس الجنس بدلاً من الحرب ..
ــــــــــــــــ
-142-
وشعر أبي نواس في السخرية من الدين والفروسيّة وحبّ الحياة في أعنف صور انحلالها هي صفات مطلوبة لتحقيق الهزيمة الحضارية، فهم أصحاب لذة لا قتال.
وهم يعجبون بجمال العدو.. ثم تصرفاته.. ثم دينه.. وسنطيل الاستشهاد هنا، وكما قلنا، ليس المهم أنْ يكفر شاعر أو أن ينحل مثقف، بل العجيب هو قبول المجتمع لفكره هذا، وسكوت السلطة بل والإعجاب والمكافأة بشعره وعلى " جمال " فنّه! .. وهكذا نسخ الناسخون هذه الدعوة للهزيمة والتحلل، وانتشر شعره بين الشباب يلقنهم ما يضمن هزيمتهم في المواجهة مع العدوّ!
اقرأ هذا الكفر الصريح .. والهزؤ بل مقدسات الدين:
ــــــــــــــــ
-143-
قـلْ للعـذول بحــانة الخمّــار |
والشـربُ عـند فصاحة الأوتار: |
إنِّـي قصـدْتُ إلـي فقيـهٍ عـالمٍ |
متنسّكٍ، حَــبْرٍ من الأحْبـــارِ |
متعـمّقٍ فـي دينــه، مُتَفَـقّــهٍ |
متبصّــرٍ في العـلم والأخبــارِ |
قلـت: النّبيـذ تحُـلُّه؟ فأجـاب: لا |
إلاَّ عُقــارًا ترتمِـي بشـــرارِ |
قلت: الصّلاة؟ فقـال: فرضٌ واجبٌ |
صلّ الصـلاة، وبتْ حليفَ عقـارِ |
أجمعْ عليـكَ صـلاة حَـوْلٍ كامـلٍ |
من فَـرْضِ ليـلٍ فاقضِـه بنهـارِ |
قلت: الصيـام؟ فقال لي: لا تَنْــوِهِ |
واشْــدُدْ عـري الإفطار بالإفطارِ |
قلت: التَّصـدُّقُ والزَّكــاةُ؟ فقال لي: |
شـئ يُعَــدُّ لآلــةٍ الشُـطَّــارِ |
ــــــــــــــــ
-144-
قلت: المناسكُ إن حَجَجْتُ؟: فقـال لي: |
هـذا الفُضول، وغاية الإدبـارِ |
لا تـأتَينَّ بـلاد مكَّــة محْـرمًــا |
ولَـوَ أنَّ مكة عـند بـابِ الدارِ |
قلت: الطُّغـاة؟ فقـال لي: لا تغـزُهم |
ولَـوَ أنَّهـم قَـرُبُوا مـن الأنبارِ |
ســالمهمُ، واقْـتَصَّ مـن أوْلادِهُـمُ |
إنْ كـنْتَ ذا حَنَـقٍ علي الكفّـارِ |
واطْعَـنْ برمْحٍـكَ بَطْنَ تلك، وظهر ذا |
هـذا الجهـادُ فنعْـم عُقْـبَي الدارِ |
قلتُ: الأمانــةُ هـل تُـرِدَّ؟ فقال لي: |
لا تَــرْدُدِ القِطمـير من قنطـارِ |
لا هُــمَّ إلاَّ أنْ تكـــون مُضمَّـنَـا |
ديْنـا لصـاحب حـانـةٍ خمَّـارِ |
فـارْدُدْ لأمـانَتَــه عليْــه، ودَيْنَـه |
واحْتَـلْ لـذاكَ، ولـو بِبَيْـعِ إزارِ |
قلت اعـتزمتُ. فما تـري في عازبٍ |
متغـرّبٍ، متقـاربِ الأسفـارِ؟! |
فأجـابني: لك أنْ تــلَـذَّ بزنْــيـةٍ |
من جـارةٍ، وتَلُوطَ بِابْـنِ الجـارِ |
ودنـا إلـيَّ وقال: نًصْحُـكَ واجـبٌ |
زيِّـنْ خِصـالكَ هـذه بقمـارِ! |
ــــــــــــــــ
-145-
يـابشْـرُ مـالى والسيف والحـرب |
وإنَّ نجْـمِى للَّهْـوِ والطَّـربِ |
فـلا تثِـق بِـي فـإننـي رجــلٌ |
أكـعُّ عـند اللّقـاءِ والطَّـلبِ |
وإنْ رأيْـت الشُّـراةَ قـد طلعُــوا |
ألْجَمْتُ مُهْرِى من جانبِ الذّنبِ |
ولستُ أدْرى ما السَّـاعدان، ولا الـ |
ـتُّرْسُ، وما بيْضةٌ من اللَّـبَبِ |
همِّـى إذا مـاحـروبُــهم غـلبتْ |
أيُّ الطريقـيْن لي إلي الهـرَبِ |
لـو كـان قصفٌ، وشـرب صافية |
معْ كل خـوْدٍ تختالُ في السُّلبِ |
والنــوم عـند الفـتاة أرشـفـها |
وجـدتني ثـمَّ فـارسَ العربِ |
فداؤُك نفسى قد طَرِبْتُ إلى الكاسِ |
وثُـقْـتُ إلي شــمِّ الْبَنَفْسِـجِ والآسِ |
فهلْ لك فى أنْ نجْعل اليوْمَ نُسْكَنا |
ونِشْـرَبَهَا فى البـيْتِ سـرًا من الناسِ |
فإنْ فطِنُوا قلنا: نَصَارَي وعيدُهمْ! |
وليس لشرب الـراح في العيدِ من بَاسِ |
وإنْ أكبروا الإفطار أو شنعوا به |
أعـدْنَا لهم يومًـا جـديدًا علي الراسِ |
ــــــــــــــــ
-146-
أو هذه السخرية من روح الفروسية التي أقامت الإمبراطورية التي يتحلل في ترفها، وأمنها:
إذا عــبأ أبـو الهـيجــا |
ء، للهـيجـــاء فــرسانـا |
وســارت رايــة الموت |
أمــام الشـــيخ إعـلانــا |
وشـبت حـربهـا واشتــ |
ـعـلت تلهــب نيــرانــا |
جعــلنا الــترس أيـدينـا |
ونبــل القـوس سـوسـانـا |
وقـدمـنـا مكـان النبـــ |
ــل والمِطْـرَد ريحـــانـا |
فعـــادت حربـا انســـا |
وعـــــدنا نحـن خـلانـا |
إذا مـا ضــربوا الطــبل |
ضـربنـا نحــن عــيدانـا |
فهـــذي الحــــرب لا |
نعـم النـاس عـــــدوانـا |
إذا ما بدت أزرار جيب قميصه |
تطلـع منها صـورة القمر البدر |
فأحسن من ركض إلي حومة الوغى |
وأحسن عندي من خروج إلي النحر |
فــلا خـير في قوم تدور عليهم |
كـوؤس المنايـا، بالمثقفة السمـر |
تحياتهم في كل يوم وليلة |
ظــبا المشـرفيات المزبرة للغبر |
اشرب فُديت .. علانية .. أم التستر زانية! |
|
غدوت على اللذات متهتك الستر |
وأفضت بنات السر مني إلي الجهر |
رضيت من الدنيا بكأس وشادن |
تحــير في فضله فطـن الفكـر |
وقائــل هل تـريد الحح قلت |
نعم إذا فـنيت لــذات بغـــداد |
فكيف بالحج لي ما دُمت منغمسًا |
فــي بيت قــوادة أو بيت نبـاذ |
يـا أحمد المرتجي في كل نائبة |
قـم سيدي نعصي جـبار السموات |
ونـــله كيفما شــئت اقــ |
ـتضابًـــا وعلي موعـــــد |
وقـــل هـذا قضـاء اللــ |
ــه هـل تدفــع أو تجحـــد |
ــــــــــــــــ
-147-
وكان عرب صدر الإسلام، يقولون أنَّ اللآت والعزي كانتا رجلاً وإمرأة من الجاهلية، فسقا في الحرم، فمسخهما الله حجرين [ تعليق: يقصد الكاتب آساف ونائلة ].. من هول ما ارتكبا ثم إقرأ ماذا يجاهر أو يفتخر شاعر عصر الانحلال:
وعاشقـين التف خداهمـا |
عند إلتئام الحجر الأسود |
نفعل في المسجد ما لم يكن |
يفعله الأبرار في المسجد |
أو سخريته من الحديث، والمذاهب والصلاة!
قل للمليح أما تروى الحديث بما |
خالفت فيه وقد جاءت بـه الصحف |
لإنَّ القلــوب لأجنـاد مجندة |
لله في الأرض بالأهـــواء تختلف |
فقلت : سـوف ... فقالــوا |
تــرك الصـــــلاة كبيــر |
فقـلت: أكـــــبر منــه |
ظبــي ينـــــالُ غـريـر |
ومــا لمثــلي صـــلاة |
لأن فسـقــي شهــــــير |
إنَّ الجنــابــــة ممــن |
جنــــبت منــه طهـــور |
إذا قمنـــا نصــلي لــم |
يفــــرق بيننــا أحــــدُ |
احركــيه إذا قـــامــوا |
وألمســـه إذا قعــــــدوا |
وليس خليفـــة الرحمـــ |
ـــن يعـدلنـي إذا سجــدوا |
ــــــــــــــــ
-148-
ويهزأ بالقرآن فى تبرير لوطيته :
بذا أوصى كتاب الله فينا |
بتفضيل البنين على البنات! |
أحسن من سير علي ناقة |
ســير علي اللذة مقصور. |
أو هذه النعرة الفارسية التي لا تقتصر علي سبّ عادات العرب، بل وتنتهي بالناقوس والرهبان وليس الآذان .. فهو لا يريد أنْ يسمع عربيًا ولو كان المؤذن:
فلم تــزل تعجم الدنيـا وتعجمها |
حتى تخيرها للخبء دِهقــان |
فصانها في مغار الأرض فاختلفت |
علي الدفــينةِ ازمانُ وازمانُ |
ببـلدة لم تَصِلْ كلبُ بها طنبــا |
إلى خـباء ولا عبس وذبيـان |
ليست لذهل ولا شـيبانها وطـنا |
لكنها لبني الأحــرار أوطـان |
أرض تبنّى بها كسري دساكره |
فما بها من بني الرعناء إنسـان |
ومابها من هشيم العــرب عرفجةِ |
ولا بها من غذاء العـرب خطبان |
بتنــا ندين لابليس بطـاعــته |
حتي نعـي الليل بالناقوس رهبان |
لا تبك للذاهبين فـي الظـُعُن |
ولا تقـف بالمطـيّ في الـدمن.. |
... من كف طبي .. إلخ |
|
على تماثيل بني بابكٍ |
................................ |
فالعت ذا لا نعت دار خلت |
يهيم في أطـــلالها أحمـــق |
فالعت ذا لا نعت دار خلت |
يهيم في أطـــلالها أحمـــق |
ــــــــــــــــ
-149-
بنات كسري خير ما بنـات |
|
محتجبات غير باديـــات |
|
علي أمثالهـا كانت لكسـري |
أنـو شـروان تتجـر التجـار |
لتلك أبكى، ولا أبكي لمنـزلةٍ |
كانت تحـلّ بها هـند وأسماءُ |
حاشا لدرة أن تُبْني الخيام لها |
وإنْ تروح عليها الإبـل والشاءُ |
قـل لمن يبكي علي رسم درس |
واقفـًا ما ضـرّ لو كان جـلس |
دعْ الأطـلال تسفيهـا الجنوب |
وتبلي عهـد جدـتها الخطـوبِ |
بـلاد نبتها عُشـرٌ وطـلحُ |
واكـثر صـيدها ضبـعُ وذيب |
ــــــــــــــــ
-150-
ولا تأخذ عن الاعراب لهوا |
ولا عـيشا فعـيشهم جـديب |
دع الألبان يشربها رجال |
رقـيق العيش بينهم غـريبُ |
إذا راب الحليب فبل عليه |
ولا تُحرج فما في ذاك حُوبُ |
فأطيب منه صافيه شمول |
يطـوف بكأسها سـاقٍ أديب |
كأنَّ هديرها في الدُنّ يحكي |
قــراءة القسّ قابله الصليب |
فهذا العيش لا خِيم البوادي |
وهـذا العيش لا اللبن الحليب |
فأين البدو من إيوان كسري |
وأين من الميادين الـزروب |
وهذا يتضمّن السخرية ليس فقط بكل تراث الشعر العربي والفخر باللبن بل حتي بحديث " الفطرة " حيث اختار الرسول اللبن في حديث الإسراء!!!
بل هذا الفاجر جعل القرآن " مزة " لخمره، ولا أدري كيف تسامحت هذه الحضارة إلي حدّ ترديد ونسخ وحفظ مثل هذا القول:
وضع الــزق جانبـًا |
.. ومع الـزق مصحفـًا |
وأحس من ذا ثـلاثـة |
واتل من ذاك أحـرفــًا |
فإذا انتقلنا إلي الأندلس نجد أنَّ ابن حزم الذي جمع ثقافة عصره، خرج شريدًا لاجئًا بعد أن اجتاح " البربر" مدينته " قرطبة " وكأنَّ تاريخ روما يعيد نفسه،
ــــــــــــــــ
-156-
هو خير نموذج يمكن تقديمه في قضيتنا هذه. ولذا نجد " عشق المذكر " تفوح أدلته في كل أرجاء الكتاب، والحديث عن جمال الذكور يفوق الحديث عن جمال النساء .. بل إنَّ صياغة الكتاب تغلب عليها لهجة التذكير.. وقد يقال إنَّ هذا ضرب من البلاغة، وإن كانت له روايات واضحة التأنيث، دون صعوبة لغوية .. كذلك لا يمكن تأويل الجنس في هذه الرواية:
" وأخبرت عن بعض السقاط الوضعاء، أنَّه كان يضع كتاب " محبوبه " على أحليله ".
عبثًا نجد مخرجًا .. فهذا واحد قطعنا بذكورته بالدليل الملموس .. فلماذا يقول كتاب محبوبه وليس محبوبته ؟!.
ألا يجعلنا هذا الاملوب نشك في اختيار ابن حزم، لفظ " الشخص " بدلاً من الفتاة أو الأنثى أو المرأة أو الجارية عندما يتحدث عن نفسه فيقول:
" وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل. وبعد ملازمة الشخص، لي دهرًا وأخذي معه في كل جد وهزل ".
أمّا أنْ نقول إنَّ " الحب " هنا هو الصداقة ولكن بالتعبير الشرقي، إذ أنَّ أبا محمد غفر الله له، لم يشأ أنْ يجنبنا سوء الظن والإثم فما عليه لو قال وبعد ملازمة المرأة أو الفتاة أو الجارية، أو ما شاء للجزم بأنَّها أنثى! فسلم وسلمنا!..
وهو يقسم بالله أجل الأقسام أنَّه ماحلّ مئزره على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا ".
ولا أظن أنَّه كان بحاجة إلي الزنا.. مذ عقل، فالنظام الإسلامي العجيب لا يلجيء شريفًا إلي الزنا أبدًا .. ولكن كنا نتمنى لو وسع دائرة القسم ليطمئن قلبنا.
غير أنَّ الظن لا يغني عن الحق شيئًا .. ولذلك لن نستشهد إلا بالروايات الصريحة التي أوردها " ابن حزم " ويتحمل مسئوليتها أمام التاريخ والله... .
ــــــــــــــــ
-157-
" وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنَّه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صقلية، وذكر أنّضه كان غاية في الجمال .. وامرأة خلفه تنظر إليه .. فلمّا أبعد أتت إلى المكاذ الذي قد أثر فيه مشيه فجعلت تقبله وتلثم الأرض التى فيها أثر رجله ".
ويزعم ابن حزم " ويُحكى عن الحسن بن هانىء أنه كان مغرمًا بحب محمد بن هارون المعروف بابن زبيدة وأحسّ منه ببعض ذلك فانتهره على إدامة النظر إليه، فذكر عنه أنَّه قال إنَّه كان لا يقدر أنْ يُديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر علي محمّد".
ويحكى لنا عن فتي من أهل " قرطبة " من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه " أحمد بن فتح ". " من بغاة العلم وطلاب الأدب .. ثم باعدت الأقدار بينى وبينه، فأول خبر طرأ علي بعد نزولي شاطبة أنَّه خلع عذاره في حب فتي من أبناء الفنانين يُسمي إبراهيم بن أحمد أعرفه ( ؟!ج ) لا تستأهل صفاته محبة من بيته خير وتقدم، وأموال عريضة ووفر تالد .. "..
لاحظ نوعية الاعتراض. ولاحظ أنَّ أغلب العاشقين من أبناء " الكتاب " وبغاة العلم والأدب أو الأمراء وهم الطبقة المثقفة. وأغلب المعشوقين من أبناء القواد العسكر، أو المماليك المجلوبين أو الفنانين.
وحدثني أبو دلف الوراق عن مسلمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمرجيطي أنه قال في المسجد الذي بشرقى مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير ابن عمر .. في هذا المسجد كان مقدم بن الأصفر مريضًا أيام حداثته لعشق " بعجيب " فتي الوزير ابن عمر المذكور .. وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور وبها كان سكناه، ويقصد في الليل والنهار إلي هذا المسجد بسبب " عجيب " حتي أخذه الحرس غير ما مرة في الليل .. وكان يقعد وينظر منه إلي أنْ كان الفتي يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضربًا ويلطم خديه وعينيه، فيُسرّ بذلك ويقول: " هذا والله أقصي أمنيتي والآن قرّت عيني ".
ــــــــــــــــ
-158-
وكلما زادت حصة " الفتى " من الحضارة والثقافة، قلّ غيظه وتمنعه، وأصبح أكثر " انفتاحًا " وتقبلا لهذا اللون من الحب .. قال ابن حزم :
" حدثني أبو السرى عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق فيه، أنَّ الكاتب ابن قزمان امتحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكان أسلم غاية في الجمال، حتي أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية إلي أن توفي أسفًا ودنفًا. قال المخبر: فأخبرت أسلم بعد وفاته بسبب علته وموته فتأسّف وقال: هلا أعلمتني ؟ فقلت ولم ؟ قال: كنت والله أزيد في صلته وما أكاد أفارقه، فما علي في ذلك ضرر. فكان أسلم هذا من أهل الأدب البارع والتفنن، مع حظ من الفقه وافر، وذا بصارة في الشعر، وله شعر جيد، وله معرفة بالأغاني وتصرفها، وهو صاحب تأليف في طرائق غناء زرياب وأخباره. وهو ديوان عجيب جدًا. وكان أحسن الناس حلقًا وخلقًا. وهو والد أبي الجعد الذي كان ساكنًا بالجانب الغربي من قرطبة ".
ولا أظن أنَّ ابن قزمان قد عشق " أسلم " هذا بعد أنْ أنتج كل هذا .. وإنما الأرحح أنَّه كان في شبابه عندما فتن به. وتأريخ ابن حزم لأسلم بعدما اشتهر وأنجب أبي الجعد. الذي يبدو أنَّه كان معاصرًا وربما كان ابن حزم من سن أبي الجعد هذا المشهور والذي لم يجد ابن حزم حاجة إلي تعريفنا به بأكثر من تحديد مكان مسكنه.!!...
وإذا كانت قصص الغرام العفيف أو الرومانسية أو الأفلاطونية حظي بإعجاب ابن حزم، فهو لا يستنكر إلا الروايات التي ينهار فيها العاشق فيدمّر حياته وسمعته قال عن صديق: " كنا نعرفه كلنا من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل .. وقد كنا نتجنب المزاح بحضرته .. قد أحكم القراءات إحكامًا جيدًا، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتدأء اختصارًا حسنًا .. الخ فلم يمضِ األزمن حتي أمكن الشيطان من نفسه، فامتحن بهذه البلية مع بعض الغلمان، فرفض ما كان معتنيًا، وباع أكثر كتبه واستحال استحالة كلّية، نعوذ بالله من الخذلان ".
ــــــــــــــــ
-159-
وابن حزم لم يورد الكثير عن غرامياته، إلا بضع روايات واحدة منها التي تعنينا هنا هي " حبه " الشديد وتلازمه في سنوات الصبا والمراهقة وصدرا من سنوات الشبابا لصديق " غلامي " المزاج .. وهذه هي الرواية:
" وكنت أنا وهو متقاربين في الأسنان، وكنا أليفين لا نفترة وخدنين لا يجرى الماء بيننا إلا صفاء .. يصفه هكذا: " وكان رحمه الله كأنه قد خلق الحسن علي مثاله، أو خلق من نفس كل من رآه. لم أشهد له مثلاً حسنًا وجمالاً وخلقًا وعفةً وتصاونًا وأدبًا وفهمًا وحلمًا ووفاءً وسؤددًا وطهارةً وكرمًا ودماثةً وحلاوةً ولباقةً واغضاءً وعقلاً .. إلخ".
وهذه روية عين محب واله.. .
وصديق الروح هذا طوحت به الأيام بعد سقوط قرطبة ونهب البربر ( البدو الأكثر خشونة والأقل حضارة وترفا وانحلالا والذين أنقذوا الأندلس لأكثر من مائتي عام أخري ولكن الحضارة كلها كانت قد دخلت منحني الانهيار ) المهم صديق الروح هذا يلقي ظلاً من الشك علي نوعية " المحبة " فقد مات من عشق فتي في جيش الغزاة!!.
وقد سأله المحدث لابن حزم عن سبب نحوله وشحوبه فقال صديق ابن حزم: " نعم! أخبرك أنِّي كنت في باب داري بقديد الشماسي في حين دخول علي بن حمود، قرطبة، والجيوش واردة عليها من الجهات تتسارب فرأيت في جملتهم فتي لم أقدر أنَّ للحسن صورة قائمة حتى رأيته ( نفس عبارات ابن حزم في وصفه هو) فغلب علي عقلي، وهام به لبّي، فسألت عنه نقيل لي: هذا فلان بن فلان من مكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قرطبة بعيدة المأخذ، فيئست من رؤيته بعد ذلك، ولعمري يا أبا بكر لا فارقني حبه، أو يوردني رمسى " فكان كذلك، وأنا أعرف ذلك الفتي وأدريه، وقد رأيته ولكني أضربت عن اسمه لأنّضه قد مات والتقى كلاهما عند الله عز وجل. عفا الله عن الجميع ".
ونقفز فوق تأكيد " ابن حزم " الذي كان يعيش فترة الإرهاب أو التعصب أو
ــــــــــــــــ
-160-
التطهر أو ما شئت التي فرضها البربر في محاولة لوقف عجلة الإنهيار. وليس يعنينا إنْ كان أبو عبد الله أو أبو محمد قد ارتكبا الفعل، فإن الفكر عندنا هو الأهم وهذا المؤلف عاشق أو محب لأبي عبد الله وأبو عبد الله هذا يرى الجيوش زاحفة تقتحم بلده وتنتهب داره وقومه فيذهل عن هذا كله ويخر صاعقًا في عشق جندي من الغزاة. ولا يجد أبو محمد ( ابن حزم ) في ذلك ما يعيب، ولكنه يحرص علي تأكيد " أن أبا عبد الله ما وطيء حرامًا قط " وذلك بالطبع يبرىء ساحة أصدقاء أبى عبد الله! ..
وكان أبو عبد الله ذكيًا ومخلصًا فأعدم كل ما قد يريب حبيب صباه أو يثير فيه الريبة، فقد قال ابن الحزم:
" إنَّه لما عاد إلى قرطبة، زار أخاه ( أبو عبد الله ) وسأل عنه: " ثم سألته عن أشعاره ورسائله، إذ كان الذي عندي منه قد ذهب بالنهب في السبب الذي ذكرته في صدر هذه الحكاية ( غزو البربر لقرطبة ج ) فأخبرني عنه أنَّه لما قربت وفاته وأيقن بحضور المنية، ولم يشك في الموت دعا بجميع شعره، وبكتبي التي كت خاطبته أنا بها، فقطعها كلها ثم أمر بدفها، قال أبو عمر، فقلت له يا أخى دعها تبقى. فقال لي: إني أقطعها وأنا أدري أني أقطع فيها أدبًا كثيرًا، ولكن لو كان أبو محمد بعينى حاضرًا لدفعتها إليه تكون عنده تذكرة لمودتي ..".. إلخ.. .
وأي مودة من عاشق الجنود ؟!.
وكيف كان تجاوب أبي محمد ( ابن حزم ) مع هذه المودة ؟!
غفر الله لأبي عبد الله هو كان أعلم بما في الرسائل مما لا يجوز أن تتناقله يد ثالثة! .. .
وفلسفة أبى محمد هي أن الأصل في الناس " الفسوق " فالصالح منهم من إذا ضبط انضط .. أما الأصل فهو الانطلاق في تلبية الغريزة الجنسية وهو يقرر حقيقة غريبة أنَّه " ما من رجل عرضت له امرأة جميلة ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في
ــــــــــــــــ
-161-
شرك الشيطان واستهوته المعاصي .. وما من إمرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته، حتمًا مقضيًا، وحكمًا نافذًا لا محيد عنه البتة "!! .
والعياذ بالله !
نعم .. نحن نصدقه، وفي حدود الطبقة التي عاش بينها، ونقل خبرتها وأخلاقياتها في عصر إنحدارها وزوالها. فهو الكاتب اللاجيء الذي سقطت دولته ومدينته، وتشرّد أهله .. هذه هى الطبقة التي لا تتورع عن شهوة أو معصية. " حتمًا مقضيًا " زوالها " وحكمًا نافذًا لا محيد عنه البتة " " وشيء أصفه لك تراه عيانًا، وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحسّ أنَّ رجلاً يراها أو يسمع حسّها، إلا واحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل ".
ويضرب مثلاً على " العفة ". عندما كانت لا تزال في الدولة بقية من المقاومة الحضارية، مكنت " الأمير" من مقاومة نفسه بعد جهد عنيف!.. .
قال ابن حزم عن .. عن .. عن أبي عباس: " أنَّ الإمام عبد الرحمن بن الحكم غاب في بعض غزواته شهورًا وثقف القصر بابنه محمد الذي ولي الخلافة بعده ورتبه في السطح وجعل مبيته ليلاً ومقوده نهارًا فيه لم يأذن له بالخروج البتة. ورتب معه في كل ليلة وزيرًا من الوزراء وفتي من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح. قال أبو العباس: فأقام علي ذلك مدة طويلة وبعد عهده بأهله وهو في سن العشرين أو نحوها، إلي أنْ وافق مبيتي في ليلتي في نوبة فتي من أكابر الفتيان، وكان صغيرًا في سنّه وغاية في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشي الليلة علي محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمواقعة المعصية وتزيين إبليس وأتباعه له قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المُطلّ علي حرم أمير المؤمنين، والفتي في الطرف الثاني القريب من المطلع فظللت أرقبه ولا أغفل وهو يظن أني قد نمت ولا شعر بإطلاعي عليه. قال: فلما مضي هزيع من الليل رأيته قد قام واستوى قاعدًا ساعة لطيفة ثم تعوّذ من الشيطان ورجع إلى منامه. ثم قام بعد حين ولبس قميصه واستوفز ثم نزعه عن نفسه وعاد إلي
ــــــــــــــــ
-162-
منامه، ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلي رجليه من السرير وبقى كذلك ساعة ثم نادى الفتي بإسمه فأجابه، فقال له: إنزل عن السطح وإبق في الفصيل الذي تحته. فقام الفتى مؤتمرًا له. فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره . قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت أن لله فيه مراد خير ".
ونعود مرة أخرى إلي بغداد في الجبهة الشرقية، فنجدهم يتهادون بالغلمان .. والظاهر أنّض محمد بن علي الشعبي كان مورد غلمان، ففي كتاب التحف والهدايا أنه أهدي إلي البحتري: غلامًا فاشتغل به أيامًا عن حضور مجلسه، واعتذر البحتري بأنَّه انشغل بالغلام.
حملتُ عليه في سـبيل فُتُـوّةٍ |
هي الثغـر خلف المجد بل تفضل الثغرا |
.......................... |
وقد كنت لي خـلا فأصبحت لي صهرًا! |
ثم أهدي له نبيذًا يحمله غلام حسن الوجه، فأخذ النبيذ وراود الغلام عن نفسه وكتب يعتذر لسيد الغلام:
أبـا جعفر كان تجميشنا |
غلامك إحـدي الهنات الدّنية |
بعثت الينا بشمس المدام |
تضئ لـنا مـع شمس البرية |
فليت الهدية كانت رسولا |
وليت رسـولك كان الهديـة |
فوهب له الغلام لما قرأ الأبيات |
وأهدي الحسن بن وهب إلي أبي تمام غلامًا جميلاً فشكره أبو تمام متغزلاً في جماله الأعجمي ووعد بتخفيف حمرة خديه بريقه! ( كتاب التحف والهداية للخالدين ). وابو تمام اشتهر بحب غلام اسمه عبد الله!...
وروي البحتري أنَّه رأي عند أبي جعفر محمد بن حميد بن عبد الحميد " غلامًا "، أعجبني فعملت إليه شعرًا استهديه منه!!!.. .
ــــــــــــــــ
-163-
وتأمل رحلة الحضارة من تطهر العرب الفاتحين إلي تهتّك الورثة المنهارين: وطلب رجل من معن بن زائدة أن يحمله أي أن يهديه ما يركبه فأمر الأمير العربي بأن يرسل إليه كل ما يركب، من حصان إلي بغلة إلي سفينة .. وجارية .. إلخ ".
فلما سمع القصة الصاحب بن عباد قال: رحم الله معنا، لو علم أنَّ الغلام يُركب لوهبه غلامًا أيضًا، ولكنه كان عربيًا محصنًا لم يُدنّس بقاذورات العجم ..!.
نعود لأوروبا المسيحية. فنجد مؤرّخها يقسم الموقف من اللواط إلي المراحل التالية: " حتي القرن الثالث: لا معارضة .. من الثالث للسادس: موجة معادية، من السادس إلي العاشر تجاهل، من الحادي عشر ومع ظهور المدن انتشر اللواط في الأدب، وانتشر اللوطيون في كل مكان وصارت الموضة المقبولة، من النصف الثاني للقرن الثالث عشر ظهر العداء للواط ".
وقال المؤرّخ أنَّه لا يعرف السبب، وسنقدمه له.. .
ويقول: " من القرن السادس إلى أوائل الحادي عشر كان الشاذون يعاملون نفس معاملة من يمارسون العزل ولكن المناخ تغير بعد ذلك وارتفعت الصيحة تطالب بتطهير الكنيسة أو كما قيل: كيف نتصوّر وضع مسيحي يعترف بممارسة اللواط طالبًا الغفران من نفس القسيس الذي فعلها معه ".
وهذا حقا وضع محرج ؟! ولكن اكشافه في هذه الفترة بالذات وبعد غفلة 11 قرنًا، هو موضع السؤال الذي نجيب عليه .. .
فحتى القرن الثالث كانت أوروبا تعيش امتداد الانهيار الحضاري الروماني الذي قلنا إنَّ الكنيسة دخلت فيه ولم تثر عليه إلا نظريًا في رفض الجنس كله، كما أشرنا، أمَّا في الفترة من القرن الثالث إلى السادس، فربما كانت انتفاضة، أو مع تصاعد خطر ونفوذ البرابرة، الذين كانوا أكثر تشددًا بحكم تخلفهم الحضاري ..
ــــــــــــــــ
-164-
من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر، مرت أوروبا بفترة الهزيمة الشاملة والعجز حتى عن الإعجاب أو التعلم، ثم فترة الافتتان والرغبة في مجاراة الحضارة المتفوقة، ومن ثمَّ محاولة السلوك المماثل وفي هذه الفترة التي ينعدم فيها الحس الحضاري، الحس بالتحدّي، وينعدم فيها المفجر الذاتي، فإن المفتون حضاريًا، لا ينقل العلوم ولا التكنولوجيا بل السلوك الحضاري، والجانب المترف منه بالذات، كما يعود فتياننا - اليوم - من أوروبا وأمريكا بشعر طويل، و " بايب " وغويشة في اليد، وبنطلون ضيق، وشرب الخمر، والجيرل فيرند، ولا يستفيدون من التقدم العلمي أو التكنولوجي هناك. ففي القرن العاشر كانت الحضارة الإسلامية في ذروتها، وأوروبا فى ذروة الافتتان والرغبة في المسايرة.
ولكن الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر احتاجت إلي التعبة الشاملة في أوروبا، بقدر ما أثبتت هذه الحروب، أنَّ أوروبا قد استجابت بنجاح
ــــــــــــــــ
-165-
للتحدي الحضاري الإسلامي، فأصبح وعيها به أكبر من وعي المسلمين، وإصرارها علي قهره لا أقول أكبر من وعي المسلمين به فحسب فقد بدا أنَّ الوعي مفقود تمامًا على الجانب الإسلامي لولا تحرّك العثمانيين المتأخر جدًا .. ولذا كانت المبادرة من الجانب الأوروبي، سواء في الأندلس أو في غرب آسيا. والتعبئة المصاحبة للظهور الحضاري تحتاج إلى مفاهيم خلقية خاصة، منها التقشف الجنسي أو الانضباط الجنسي، وتبنى المقاييس التي تفضي إلى قوة المجتمع، وفي مقدمتها رفض اللواط، فهذا الذي وصفه أفضل دارس لتاريخ اللواط فى الغرب، بالانقلاب غير المفهوم من التسامح إلى التعصب الشديد، من إباحة اللواط والتفاخر به إلى ذمه وتحريمه والتنكيل المروع بمن يمارسه .. ووصل ذلك إلي ذروته في القرن الثالث عشر واختفى كل حديث " ودى " أو حتي محايد أو علمي أو فني عنه إلى القرن العشرين.(1)
غير مفهوم له. لأنه لم يصل إلى التفسير الحضاري الذي نطرحه، فالتعبئة ضد المسلمين كانت تستلزم الإثارة ضدهم وضد حضارتهم، بالتركيز على الجانب المسلكي، جانب الترف، أو جانب " الانحلال " كما تطلق عليه الحضارة الصاعدة الأكثر خشونة .. فهي لا تستطيع أن تنتقد الجانب المادي أو العلمي، لأن تفوق ذلك واضح وملموس ولا سبيل للتشكيك فيه، فلا أحد يستطيع إقناع الشاب المسلم اليوم أن أوروبا متخلفة في العلم أو المواصلات أو الزراعة ولكن من السهل مهاجمة المجتمع الغربي بأنه منحل فاسق، لوطي، زانٍ، داعر، ليس له قيم ولا تقاليد ولا آداب. إلخ ... وهذا ما فعلته روسيا السوفيتية والصين الشيوعية .. ومن قبلهما جميعًا، أوروبا - الصليبية بالنسبة للحضارة المتفوقة، وقتها.
رسالة امبراطور القسطنطينية الكسيوس إلى حاكم الفلاندر وهي الرسالة التي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) " ما بين 1250- 1300 م تحول اللواط من فعل مباح في كل أوروبا إلي جريمة عقوبها الموت في معظ أوروبا ولأول مرة فى تاريخ الغرب ".
ــــــــــــــــ
-166-
تحولت إلى منشور وزع في أوروبا لتحريك الحمية لقتال المسلمين، وأثمرت أول حملة صليبية، وما أعقبها من حروب دامت لأكثر من قرنين، ولكنها تركز علي التهم الأخلاقية، فالمسلمون يغتصبون الأمهات أمام البنات، ويأمرن البنات بالغناء ثم يغتصبن البنات على غناء الأمهات، " تماما كما قرأنا في الأسفار ولكن أهم من ذلك أنهم يمارسون اللواط مع جميع الأعمار، مع الغلمان والرجال، بل ورجال الدين، والأساقفة. ياللهول! هذا ما لم يسمع به بشر .. نعم!! إنهم يلوطون بالأساقفة، قد مات أسقف خلال هذا الفعل الشنيع!! .
ولم يكن من المعقول أن يستباح الافتراء هكذا، لإثارة الحمية ضد " اللوطيين المنحلين المسلمين "، ثم تطلق الحرية للنخبة الأوروبية، المغزوة فكريًا، المنحلة، المتعاطفة، أو حتى المتخاذلة في أعماقها أمام الحضارة الإسلامية لقناعتها العلمية بتفوق هذه الحضارة !!!..
أصبح الخطر الذي يواجه أوروبا، هو الخطر الخارجي، المتمثل في الدول الإسلامية، والخطر الداخلي، المتمثل في النخبة المتأثرة بالمسلمين، أو الأقليات المخالفة للتيار العام الكاثوليكي الذي يشن الحروب الصليبية، التيار المتعطش لقتال المسلمين وبقدر ما اكتشف هذا التيار، صلابة وتفوق العدو الإسلامي بقدر ما اشتدت حاجته للوحدة الداخلية، فاشتدت نقمته على المنشقين في الداخل. وبذلك طويت صفحة التسامح أو " التحضر" التي سادت في القرن العاشر والقرن الحادي عشر وفترة من القرن الثاني عشر، أي في عصر الانبهار بالحضارة الإسلامية السائدة .. وبدأت تصفية المخالفين، وظهرت محاكم التفتيش، وتحكم رجال الدين (1) .. وخضع المجتمع لعقيدة رسمية واحدة، هي عقيدة السلطة، تسيره في اتجاه واحد، هو مجابهة التحدي الإسلامي، وتصاعد اتهام المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في القرن الثالث عشر كان يوجد في بريطانيا رجل دين من بين كل اثني عشر ذكرًا!!.
ــــــــــــــــ
-167-
بارتكاب كل خطية جنسية، وأنَّهم الأصل في عادة اللواط. ورثوها عن أسلافهم من سكان الشرق الأوسط، أهل سدوم وعامورا أو قوم لوط. فرغم أنّضه يسمح لهؤلاء السفلة بأكثر من زوجة في عقيدتهم، فإن ذلك لا يكفيهم بل يمارسون ذلك الفعل الخبيث مع الرجال، فلا عجب أنْ حلّ غضب الله عليهم ولعنتهم الأرض " ( نصّ من القرن الثالث عشر ). " إنَّ محمدًا عدو الطبيعة. نشر رذيلة اللواط في قومه الذين يعتدون ليس فقط علي الإناث والذكور بل حتي على الحيوانات، حتى أصبح معظمهم كالبهائم غارقين في الشهوة الدنسة، لا يقدرون علي مقاومة خطية بل تستعبدهم شهوات الجسد " ( من كتاب تاريخ الشرق تأليف Jacaues de Virty القرن الثالث عشر ).
" طبقا لدين المسلمين، فإنَّ أيّ فعل جنسي مهما كان ليس فقط مباحًا، بل ومرغوبًا فيه، ويستحن. ولذا فإلي جانب العدد الذي لا يُحصي من المومسات يُوجد لديهم مأبونون بأعداد هائلة. يحلقون لحاهم، ويصبغون وجوههم ويرتدون ملابس النساء. ويلبسون أساور في أيديهم وأرجلهم، ويضعون سلاسل ذهبية حول أعناقهم كما تفعل النساء، ويحلون صدورهم بالمجوهرات ويبيعون أنفسهم
ــــــــــــــــ
-168-
للخطية بأن يعهروا ويعرضوا جسدهم، ويعاشرهم المسلمون كما نعاشر نحن النساء بل وعلانية. والمسيحيون هناك يربون لهم الأولاد المسيحيين، ويجيدون إطعامهم ليزداد جمالهم، فإذا رآهم المسلمون الشهوانيون، فاسدو الطبيعة، يتحرقون شهوة لهم، ويتسابقون على شرائهم، ليتمكنوا من ممارسة شرورهم معهم ".
ولو غيرنا كلمة المسلمين فقط ووضعنا بدلاً منها الأوروبيين أو الأمريكيين لأصبح النص يمكن نسبته إلي صحفي مسلم عن الهيبز أو البانك أو اللوطيين في امستردام أو بيكاديللي أو القرية في نيويورك أو سانت مونيكا في كاليفورنيا.
وكما يُقال: آمن أولاً فتحدث لك المعجزة .. نجد الأسبان الذين اتهموا المسلمين بالحق أو بالباطل بممارسة اللواط ومن ثم استحق الأسبان النصر عليهم بتطهرهم .. واستمر انتصارهم حتى عبروا المحيط في مطاردتهم لأعداء الله الذين يرتكبون الخطيئة الملعونة فإذا بهم يصلون إلى سدوم ذاتها أو على الأقل هذا ما وصلنا من المصادر الأسبانية عن واحد من الشعوب التي أبادها الأسبان واستأصلوا حضارتهم نهائيًا؛ وإذا كان لنا الحق في أنْ نرفض بإزدراء كل التاريخ الذي زيّفه الأسبان عن ضحاياهم فإن ما كتبوه عن شعب المايا يعطي فكرة عن نوع الدعاية التي روجوها بين جنودهم المفعمين إيمانًا وجهلاً وتعصبًا فقد زعم الأسبان أنَّ حضارة المايا كانت لاتكتفي بإباحة اللواط بل تفرضه فرضًا بقوة القانون " فقد كان الغلمان يُمنعون من ممارسة الجنس إلا مع غلمان حتى يصلوا إلي نضوج مرحلة الزواج ". وروج كاتب أسباني: " انظروا إلي أي مدي يتباهون بمثل هذه الفاحشة إنهم يحملون ميدليات ذهبية منقوش عليها ذكرًا يقبل ذكرًا ويمارسان فاحشة اللواط" ( نفس ما وجد في تراث الإغريق! ) وزعموا أنَّ مدير المسابك الذهبية الملكية الذي كان يتلقى المنهوبات من العالم الجديد ويزيل دم الأطفال والنساء
ــــــــــــــــ
-169-
والرجال من عليها قبل أن يقذفها إلي الصهر ليعاد سبكها تحمل صورة ملك أسباني يظلله الصليب .. زعموا أنّضه إستاء عندما رأى ميدالية من هذا النوع فلم يصهرها مع غيرها بل حطمها بالشاكوش ( الجنس في التاريخ ).
إنْ صحّ ما يقوله هذا التقرير الأسباني فيبدو أنَّ هذا الشعب كان يعيش تحت رعب زيادة السكان لأنَّه إلي جانب محاولته تأخير زواج الشباب " .. كان يذبح هؤلاء الشبان بمعدل مائة شاب يوميًا قربانًا للآلهة "!!.
علي أيّة حال لم يستطع هذا الشعب بكل حضاراته المتخلفة ودياناته الدموية أنْ يحقق الإبادة الوحشية التي أنجزها الأسبان فقد كان « تعداد المكسيكيين واليوكاتان 25 مليون نسمة عند الغزو الأسبانى فهبط هذا العدد إلى 7 ملايين عام 1650 ولم يبق من السكان الأصليين غير المولدين إلا مليون ونصف مليون " أما بيرو في فكانت عشرة ملايين هبطت إلي 2 مليون هندي عام 1650 " ( الجنس في التاريخ ).
وروت مؤلفة الجنس في التاريخ أنَّ الأسبان ألقوا أربعين مأبونًا للكلاب تنهشهم حتى الموت ص 276.
وخلال الزحف في العالم الجديد كان يجري إبادة شعب الأزتيك تحت إدعاء مطالبتهم بـ " ترك عبادة الأصنام، وقف الذبائح البشرية للآلهة .. ولا يسرقون ولا يلوطون .. " وتعلق المؤلفة أنَّ إمبراطور الأزتيك أبدي دهشته لأنَّ كل هذه الجرائم كانت ممنوعة ومعاقب عليها بالسحل والحرة حيًا في دولة الأزتيك " ولكن كما قلنا كان المهم هو إثارة الرغبة في القتل في قلب الجندي الأسباني المؤمن الذي شحن ضد هذه الآثام.
وكان الحاكم الأسباني يقول لسكان المستعمرات في أمريكا اللاتينية: اعلموا أيها الهنود أن الله سلطنا عليكم بسبب الرزيلة التي ارتكبها أجدادكم وما
ــــــــــــــــ
-170-
زال الكثيرون منكم يرتكبونها. إنَّ الله سيبيدكم وشيكا " ومن نفس المصدر أنَّ الأسبان كانوا يعتقدون وفقًا لما علمهم قساوستهم وقادتهم أنَّ حج المسلم إلي مكة لا يكتمل إلا إذا نكح الحاج الغلمان الذين يسوقون جمله والجمل أيضًا! وقالت المؤلفة أيضًا إنَّ الأسبان كانوا الأشد قسوة في محاربة اللواطة في أسبانيا أو العالم الجديد. وتقول ربما كان ذلك الموقف رد فعل لذكريات الحكم العربي، عندما كان المأبون من المناظر المألوفة .. وتشهد بنجاح التطهر الأسباني فتقول أنَّه رغم طول الرحلة للعالم الجديد في البحر وطول الغيبة هناك لم تسجّل سوى حادثتين كان المتورطون فيها من الألمان والطليان وقد أمر القائد الأسبانى بإحراق الطليان الخمسة الذين اتهموا باللواطة، وتمّ ذلك وسط التهليل والتصفيق " ( الجنس في التاريخ ).
حتى عام 1825 كان الفرنسيون يحرقون اللوطيين أحياء. وفى بريطانيا كانت العقوبة هي الإعدام حتي 1861 ".
ويقول مؤلف تاريخ اللواطة: إنَّ عداء اللوطية ( في أوروبا ) في القرن السادس عشر كان ثمرة الموقف المتحوّل الذي بدأ في القرن الثالث عشر، ولم تكن هناك حضارة في القرن الثالث عشر في العالم كله عنيفة في عداوتها للواطة مثل غرب أوروبا ومع ذلك كان الفعل منتشرًا ( ص79 ).
لايهم كما قلنا، المهم موقف المجتمع والنظام، وهذه حضارة كانت في خط الصعود ومن ثمّ كان لابد أنْ تستنكر اللواطة وتتهم بها أعداءها ..
" في عام 1631 قال المدعي العام ضد إيرل أوف كاستلهيفن: " إن جريمة اللواطة هي من النوع الذي إذا لم يُعاقب عليه يجلب غضب السماء على المملكة ( بريطانيا ) وقد اتهم اللورد بممارسة اللواط مع خادمه، ولكن التهمة الحقيقية كانت كاثوليكيته، وكان ذلك في عنفوان مطاردة الكاثوليك!.
ــــــــــــــــ
-171-
" وفي 4 يونيه 1599 أحرق أسقف لندن كل الكتب المخالفة للتعاليم الصحيحة، كما حددها.
وكما اتهم الأسبان المسلمين؛ وسكان العالم الجديد باللواط؛ نجد أنَّ قاموس الإنجليز، أصبح يعنى بلفظة " لوطي " عميل لملك أسبانيا ..
ولا يمكن المبالغة في الرعب والخزي من اللواطة في تلك الفترة ( عصر النهضة 1500 - 1650 ). كانت اللواطة جريمة عقابها الإعدام .
" وقال جيمس الأوّل لابنه إنَّ اللواطة من الجرائم التى يلتزم التاج بعدم التهاون معها أو العفو ".
" وفي عام 1533 أمار البرلمان البريطاني ( بتوجيه من هنري الثامن ) قرارًا بفرض عقوبة الإعدام ومصادرة الأموال لمن يدان باللواط أو الوطء في الدبر ".
وعندنا كان شهاب الدين بن حجر ( !! ) يقول:
ومـليحــة راودتهـا فتعـــللت |
بالطمث وهي تقـول كالمعـذور |
هل من موضع خال فقلت لها اسكتي |
فمواضعي ليست تُعــدّ ودوري |
وفي 1769 كتب المعلق القانوني الإنجليزي: " إنَّها جريمة أفظع من أنْ تُسمّي.. إنَّها جريمة ضد الرب والدين ".
وكانت الاتهامات الرائجة في بريطانيا ضد خصوم النظام في عصر النهضة هى: " اتباع البابا " " عدو المسيح " " عميل ملك أسبانيا " " لوطي ".
ويقول مؤلف: الشذوذ الجنسي في عصر النهضة فى بريطانيا:
" لم يكن الحزب البروتستانتي يفعل اكثر من إستعارة نفس الأسلوب الذي أرسته الكنيسة الكاثوليكية في مهاجمتها للمنشقين عليها في القرن الثاني عشر وهى ربط الانحراف الدينى بالانحراف الجنسي .. .
ــــــــــــــــ
-172-
ومن بين كوم التهم التي كالها الفرنسيون المستعمرون للمغاربة تبريرًا لغزو بلادهم في القرن العشرين؛ لم تكن تهمة اللواطة بالتى تفوتهم؛ فقد كتب " جوليس أركمان " عضو البعثة العسكرية الفرنسية في فاس: إنَّ اللواطة ليست رذيلة في مراكش، إنَّها تكاد تكون فضيلة، إنَّهم لا يتحرجون منها إلي حدّ أنَّهم يتواعدون وسط اجتماع مجلس الوزراء!.
ونضيف أنّض هذا النص ورد في كتاب " قهر المغرب " الذي أثبت فيه مؤلفه " دوغلاس بورش " إنَّ الماريشال ليوتى قاهر المغرب كان لوطيًا كامل اللواطة، ولكنه لم يذكر علاقة الفاضل أركمان بالمارشال اللوطي أو ليوتي!
وهذا يوضّح لنا الدورة العجيبة للحضارة، فلا يحق للمتفرنجين في مجتمعنا اليوم أنْ يغضبوا من الذين لا يرون فى الغرب إلا الانحلال، ولا يرون فى مجتمع مثل المجتمع الأمريكي أو البريطاني، إلا حفنة الغلمان المتخنثين ويغفلون كافة مظاهر الجدية والاتقان والإبداع!!! .
عفوًا !!
فهذه النظرة " الضيقة " هى التى حررت أوروبا وبنت مجد وقوة الحضارة الغربية .. هذا الخوف من انحلال المسلمين، من الغزو الفكري الإسلامي لأوروبا المسيحية. هو الذي مكّن أوروبا من نقل كل علوم وتكنولوجيا المسلمين لبناء حضارتها الخاصة ( انظر كتابنا: ودخلت الخيل الأزهر ).
ــــــــــــــــ
-173-
وبالمناسبة نقول " للأخلاقيين " الذين يريدون تحرير مجتمعنا وبعث حضارتنا بالأخلاق .. ولا يكفون عن تصديع رؤوسنا بالحديث عن الانحلال الجنسي أقول لهم: لا تسيئوا فهم قولى، أو استخدامه، فأوروبا لم تتحرر بالأخلاق أى أنها لم تبدأ بالتطهر بل احتاجت الحرب للتطهر، وأمكنها فرض التطهر، خلال التعبئة العامة ضد المسلمين فلابد أن يرتبط الموقف الأخلاقى بموقف حضاري. أن يكون " القبيح " والعيب هو فعل وسلوك وأخلاقيات " العدو " والتخلص من " القبيح " هذا، هو الطريق إلى النصر على العدو، فنقطة البدء هى الجهاد، المجابهة المسلحة مع العدو القومي، عندها يصبح المقاتلون أكثر استعدادًا لسماع " الوعظ " وممارسة المواعظ ...
فليس حديثى هذا موعظة أخلاقية، ولا خطبة منبرية، بل دعوة للمواجهة الحضارية من أجل التحرّر من التبعية والفساد. فكل خطب القساوسة ضد اللواط لم يثمر خلال ألف سنة مثلما حدث عندما ربطت هذه الفاحشة بالمسلمين .. أي العدو .. وقال جاكوب الفيرونى 1335م: " إن محمدًا علم المسلمين أنّضه لا خطيئة جنسية حتى فيما هو ضد الطبيعة. وسلطان المسلمين له حاشية من خمسمائة شاب أحضروا للذته من البلطيق واليونان وايطاليا، وبيعوا فى القاهرة ".
" المسلمون ضعاف وشهوانيون ويحبون الجماع مع الذكور ".
" بيتر كانتور " ( المتوفى 1197 ) شنّ حملة شعواء على اللوطيين ووصف فعلهم بأنه " الجريمة التى تجأر للسماء طالبة القصاص ( يهتز لها عرش الرحمن ) وأبدى استياءه لأنَّ الكنيسة لا تطارد مثل هذه الجريمة التى سبّبت دمار خمس مدن .. فلماذا تقف الكنيسة مكوفة الأيدى أمام جريمة عاقب الله عليها بمثل هذه الضراوة .. واستجابة لدعوته قرر مؤتمر لا تيران الثالث تحريم المسلمين واليهود والربا واللواط .." هكذا..
" كل من يمارس هذا الفعل المنافي للطبيعة والذى تسبّب في حلول غضب الربّ علي خمس مدن فأحرقها بالنار ( نزل عليها كبريت ونار في التوراة ) إذا
ــــــــــــــــ
-174-
كان كاهنا يُعزل أو يُرسل إلي دير للتكفير وإذا كان مذنبًا سيُعاقب بالحرمان ويُطرد من الرعية " ( من مجموعة المراسيم الباباوية للقرن الثالث عشر ).
وفى سنة 1100 كان من الممكن تعيين أسقف مشهور باللواط، ولكن فى عام 1300 لم تختف فقط الكتابة عن هذا الفعل، بل أصبح مجرّد الإشارة إلي وجود ميل لوطيّ عند أحد الكهنة كافيًا لتقديمه للمحاكمة ".
" وابتداء من القرن الرابع عشر لم يكنْ من الممكن أنْ يجد اللوطي ملجأ أو تسامحًا لا في الكنيسة الغربية ولا فى الدول الغربية. وفى نفس الوقت طُرد غير المسيحيين من انجلترا وكان ذلك قد تمّ في فرنسا عام 1182 علي يد فيليب أغسطس ملك فرنسا. وأصبح من يمارس الجنس بدون شرعية دينية مثل من ينكح البهائم " وفى عام 1492 تم نهائيًا القضاء علي المسلمين في أسبانيا أو ما كان يدعى بالأندلس.
وأول مملكة أقامها الصليبيون في أرض المسلمين بالمشرق، وهى مملكة " أورشليم ": " سُنّ فيها أوّل قانون فى تاريخ العالم يُعاقب بالحرق حيًا من يرتكب جريمة اللواط، وأصبحت كلمات: خائن، زنديق، لوطي، مترادفات لمعنى واحد ".
وعلي أنقاض الحضارة العربية الغاربة في قشتالة في الأندلس نصّ قانون المسيحيين المنتصرين: " إذا ثبت ارتكاب الفعل، علي ذكرين يجرى إخصائهما علنًا ويعلقان من أقدامهما حتى الموت " ( منتصف القرن الثالث عشر ). وفي أراغون: " أصبحت معادلة للخيانة وجريمة ضدّ المجتمع ".
هم لم يهزمونا لأننا كنا متدينين وهم علمانيون، بل لأنهم كانوا أكثر تدينًا وتطهرًا...
وقال ألفونسو الحكيم: ( 1252 - 1284 ): " اللواط هو الخطية التى يرتكبها الرجال بوطء بعضهم بعضًا
ــــــــــــــــ
-175-
وهي ضد الطبيعة ويتج عنها شرور عديدة في البلاد التي ترتكب فيها وتغضب الرب، وتلطخ سمعة الأمة التى تقع فيها. وقد أهلك الله سدوم وعاموره إلا لوطا وأهله الذين لم يرتكبوا هذا الفعل " ومن حق أي شخص اتهام أي أحد بارتكابه فإذا ثبت ذلك يُعدم الفاعل والمفعول به ". .
وفي القرن الثالث عشر نصّ القانون الإنجليزى علي " أنَّ من يرتكب الجنس مع يهودي أو يهودية أو مع حيوان، أو يمارس اللواط، يُدفن حيًا ".
لم تكن " النهضة " الأوربية تملك القدرة على استئصال الفئة المغزوة حضاريًا وفرض الاستبداد والإرهاب ومحاكم التفتيش، وكل ما تراه هذه الفئة من مظاهر الرجعية والتخلف والردة .. إلخ .. إلا فى ظل حمي وطنية دينية، في ظل " الجهاد " أو الحرب المقدسة ضد أعداء الدين والوطن، بل حتي أبطال " الحروب الصليبية الذين قاتلوا المسلمين في بلادهم وتأثروا، بالحتمية، ببعض السلوك والتقدّم الحضاري الذى عاشوه في أرض الجهاد؟؟؟، حتي هؤلاء ما إنْ وصلوا إلي أرض الوطن حتّي تمّت تصفيتهم حتّي لا يرتفع إلاَّ صوت العداء والتحقير والكراهية للمسلمين وحضارتهم، حتّي أنَّ المؤرخين - اليوم - يُبَرّرون التشريعات التي وُضعت ضدّ المسلمين في أوروبا بأنَّها كانت تهدف لحمايتهم من كراهية وغضب الشعب بمنع استفزاز هذه الجماهير بمنظرهم أو تمتعهم بالحرية، وأنَّ اليهود اضطهدوا لأنّهم عملاء للمسلمين وخونة ".
وأصبح " محمد عدو المسيح " العدو الحضاري والقوي والفكري والنفسي لأوروبا وأصبحت كل رذيلة تُنسب للعقيدة الإسلامية وخلق المسلمين وطباعهم ". .
يقول " جوذ بوزول ": " إنَّ اقتران اللواط بألدّ أعداء أوروبا ( المسلمين ) زاد من كراهية الجماهير لهذا المسلك وللمتهمين بارتكابه في أوروبا " ويقول: " فالذين بقوا من الصليبيين في الأرض المقدسة اتهموا بأنَّهم " تخنثوا " والذين عادوا اتهموا بأنهم جلبوا معهم العادات القذرة للوثنيين ".
ــــــــــــــــ
-176-
وهذا ما أشرنا إليه عن ضرورة ربط الأخلاق بالمواجهة الحضارية، وأنَّ التطهّر لا يتم بالوعظ ولا بمجرّد إثبات تحريم الفعل المرفوض، بل بربطه بمسلكية العدو القومي .. أمّا أنْ نمدح " فضائل " العدو وندّعي محاربته، أو أنْ نلعن رذائله ونتعامل معه بل ونحالفه " فعبث غير مجدٍ.
كذلك فإنَّ اتهام العائدين من الحروب الصليبية، يماثل اتهام " الرجعيين " اليوم للمهاجرين إلي أوروبا وأمريكا أو " المتفرنجين " العائدين من هناك!.
ويقول مؤرخ اللواط: " آخر قصيدة قيلت في حبّ الغلمان في أوروبا الغربية كلها قالها يهودى ( تادرس أبو لافيه ) في الأندلس فى القرن الثالث عشر وبموته خرس صوت اللوطيين في أوروبا فلم يُسمع لعدة قرون حتي القرن الحاضر ". .
وضاع الأندلس وغربت شمس الله من الغرب!!!.
وأبيد فرسان الهيكل. " وكانت أبرز التهم الموجهة لهم هى عدم احترام الصليب واللواط " وعقد حلف مع الشيطان لعبادة محمد " ( وبدأ تصفيتهم فيليب " العادل " ملك فرنسا فى أكتوبر 1307 ) وقد جرى تعذيبهم حتى الموت. وعرف عرض رئيسهم " جاك دى مولاي " ذراعيه المكسورتين المسلوختين، فلم يتبق منهما إلاَّ العظام وكذلك آثار التعذيب علي ظهره وخصيتيه علي لجنة التحقيق الباباوية التي انخرطت فى البكاء وعجزت عن النطق " ( ولكن البابا كان أكثر قدرة علي النطق فقد أصدر قرارًا بحلّ تنظيم الفرسان ومباركة ما أنزله فيليب بهم عام 1312 ) وقد اعترف بعض المعذبين بأنَّهم أنكروا المسيح وبصقوا علي الصليب"، وقد دعا رئيس الفرسان وهو علي دولاب التعذيب وقبل أن يموت فبراير 1314 البابا كلمنت والملك فيليب للقاء معه في محكمة الربّ، وقد مات البابا بعده بشهر واحد بالدوسنطاريا، وهو مرض مذل مهين؟؟!!، ومات فيليب بمرض غامض لم يعرف سرّه إلي اليوم! كذلك أبيدال Cathar " المتطهرون وذهب سرّهم معهم
ــــــــــــــــ
-177-
بنفس التهمة إنكار المسيح، والبصق علي الصليب ولم يُعرف شىء مفيد عن تهمتهم الحقيقيه، إلاَّ في القرن العشرين، وصحيح أنَّه لا يمكن أن نعوّل كثيرًا علي محاضر محاكم التفتيش فيما تنسبه لمتهم يحرق حيًا، أو ما يثبته قسيس ممتلىء رغبة وإيمانًا بإدانة المتهم .. ولكن يُفهم من الدراسات الحديثة، أنهم عادوا من الحروب فى المشرق الإسلامي بفكرة مخالفة للمفهوم الكاثوليكي عن المسيح والصلب..
وآخر دراسة تقول أن فرسان الهيكل من خلال الاتصال بالثقافة الإسلامية تشبّعوا بأفكار مخالفة للمسيحية الرومانية التقليدية وكان قادتهم يتسخدمون سكرتاريين(1) عربًا ودرس عدد كبير منهم اللغة العربية في الأسر وكانوا يتقنونها ".
صحيح أن هؤلاء قاتلوا وأثبتوا وطنيتهم، ولكن هذا لا يشفع لهم، لأنَّ النهضة الحقيقية تستلزم العداء العقائدي أوّلاً، لا الوطني ولا المصلحي، ولا العقلاني. بل العقائدى الذي لا يقبل الجدل ولا المنطق ولا المصالحة، ولا الموضوعية.
لقد قتلوا ظلمًا علي يد الأكثر تخلفًا، وربما الأقل تضحية في الميدان العملي،
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) حتي وإنْ كان السكرتير العربي في مركز التابع ظاهريًا إلا أن تفوقه الحضاري يجعله يؤثر علي الرئيس كما تتحكم " النانى " الأمريكية في الأسرة العربية أو السكريرة الفرنسية في رجل الأعمال أو السفير العربى.
ــــــــــــــــ
-178-
ولكن قتلتهم كانوا الممثلين الحقيقيين للوطنية الأوربية، للحضارة الأوربية وهم الذين ضمنوا انتصار أوروبا بتخلفهم ورجعيتهم واستبدادهم وتعصبهم.
وهم الذين قتلوا " ادوارد " ملك انجلترا، هذه القتلة البشعة وغير المستغربة من حضارة تميزت بالوحشية مع مخالفيها، ولكنها دليل قوّة الإرادة والتصميم علي قهر التحدّ]، والانتصار فلا مكان فيها لفسق مترفيها، وهل يمكن لحضارة من صنع البشر، أنْ تنتصر علي حضارة أسمى قيمًا وأنبل مسلكًا، وأكثر إنسانية، إلاَّ بالتعصّب؟؟؟؟؟؟؟؟!!!! وهل يمكن لأيّة حضارة أنْ تبعث إلاَّ بالإيمان المًطلق من دعاتها بأنَّها الأطهر والأشرف ؟!.
ربّما يكون ريتشارد قلب الأسد لوطيًا كما يزعمون، ولكنه عندما شنّ الحرب الصليبية ضد المسلمين، عندما نفخ في البوق الحضاري للبعث الأوروبي خلق دون أنْ يشعر وربما من حيث لم يرد، المناخ الذى جعل سلفه : ادوارد الثاني " يموت تلك الميتة البشعة علي يد البرلمان والنبلاء الإنجليز، هو وعشيقه، فقد قطعوا إحليل عشيقه وحرقوه علنًا، وأدخلوا سيخا محميًا في دبر صاحب الجلالة!.
وفي القرن الثالث عشر وفي حمي الحرب الصليبية بالسلاح وبالمفكر ضد المسلمين ظهر توماس الأكويني الذى وضع القوانين الأخلاقية للمسيحية إلي يومنا هذا وقد ظهرت فى كتاباته وتفكيره حجج الفقه الإسلامي والمنطق الإغريقي الذي قرأه في ترجمات المسلمين، ولكن في صيغة مسيحية، وبمنطلقات مسيحية بالمفهوم الذى طرحته الكنيسة منذ البداية، وخاصة عن احتقار المرأة وجعلها في مرتبة أدني للرجل. فكان يعتبر المرأة أقل من الرجل في أكثر من ناحية واعتبر إنجاب الأنثي خطأ من الطبيعة ( تاريخ اللواط في المسيحية ص 327 )، ففى الظروف العادية يتطلع مني الرجل إلي إنجاب ذكر مثله، لأنَّه يريد المشابهة والكمال. ولكن إذا ما تدخل عنصر خطأ أو نقص في المني، أو هبت ريح جنوبية رطبة أثناء الإخصاب جاءت أنثي، وقد شرع
ــــــــــــــــ
-179-
توماس الأكويني(1)هذا بأن اللواط هو من الكبائر مثل الإستمناء والجماع مع الحيوانات. والجنس الشهواني مع الزوجة "!!!.
قارن ذلك بحديث إنْ غلب ماء الذكر ماء الأنثي جاء ذكر، وإنْ غلب ماء الأنثي جاءت أنثي...
ولن نتوقف لحظة واحدة عند تلك الأبحاث والدراسات التي تحاول إثبات أنَّ " العفة " لم تتحقق بتشدد الكنيسة أو بارتفاع صوت الفضيلة من جانب السلطة ولا ما تقدمه الدراسات من أدلة ووثائق عن انتشار البغاء وعن فضائح أخلاقية في قيادات المجتمع الكنسية، والمدنية، طوال هذه القرون. نعم نحن لا نهتم بذلك، لان نظريتنا تقوم حول " القيم " التى تحكم سلوك الجماهير، المُثل التي تحدد أخلاقيات العامة، أخلاقيات المجتمع المعلنة. فكما قيل: الدين للخاصّة والتدين للعامّة. أو بمعنى أوضح الإختيار يكون للخاصة، والممارسمة علي العامة، المبادىء تحددها القيادة وتحدد التطبيقات المطلوبة من العامة لإنجازها.. أو تحقيقها...
فالمهم هو أن المجمع المسيحى الأوروبي فرض قيم " التطهر وخلق حماسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وتجدر الإشارة إلى أنَّ الأكويني هو تلميذ البرتوغنوس الذى كان مستعربًا أي متنميًا للثقافة العربية دارسًا لها وهو الذى اكتشف دواء للواط يستخرج من رأس الضب ويحرق ويُدس رماده في دبر المأبون فيشفى بإذن ماغنوس هذا. وقال جون بوزول أنَّ Alzabo ترجمة لاتينية للضبع وهو حيوان مشهور في الفكر اللوطي. ولكننا نعتقد أنها ترجمة للضب. فأهل الجزيرة يطلقون الضاد ظاء .. المهم أنّضه في التطور الثقافي الأوربي ظهر جيل المسحوقين العاجزين عن التعلم، ثم جيل المبهورين المفتونين المكتفين بالتذوق والعيش في حضارة خصمهم، ثم جيل المترجمين والمؤلفين بالعربية لكسب الاعتراف العالمى. ثم جيل المتعصبين المعادين الدارسين بعمق أكثر والمفترين بفجور أكبر. الذين أعادوا صياغة العلم العربي - الإسلامى بصيغة أوربية – مسيحية، أخفت تمامًا ملامح العروبة والإسلام. وهؤلاء هم من يعتبرونهم مؤسّسي العلم الأوروبي.
ــــــــــــــــ
-180-
المتطهرين، وفي مقدمة الممارسات التي يجب أن يتخلّص منها مجتمع يريد البعث، هي اللواط الحضاري .. أما ما تفعله الطبقة الحاكمة خلف جدران القصور، ما دام لا ينعكس علي السلوك العام، فهو في هذه اللحظة مسألة شخصية لا تهم إلا الفاعل والمفعول به وحسابهما علي الله. ولكن المهم في دراستنا هذه كما قلنا هو " الفاحشة " التي تؤثر علي المجتمع.
وإذا كانت المسيحية الصاعدة قد نقلت جل فضائل السلوك الإسلامي؟؟؟!!!، ورفضت العقيدة، فإنَّ الحضارة الإسلامية الغاربة، وقد دبّ فيها الوهن، ومالت إلى الجنوح والنعاس، اقتبست بدورها مسلكية " التخلف " المسيحي، وأسوأ ما في الحضارة المهزومة. وعلي سبيل المثال، فإن " الصوفية " في شكلها المتدهور، وليس في بدايتها، ما هى إلا صورة إسلامية للرهبنة، وكظاهرة انهيار حضاري عندنا، فقد اشتهر الصوفية باللواط، وقصصهم تملأ كل الكتب، ليس فقط في الأشعار التي ادعوا أنها ترمز إلي عشق الله سبحانه وتعالى عما يصفون والتي علق عليها ناشر إانجليزى بقوله: " يصعب تصوّر تفكير الصوفي في الله وهو يتحدث عن شعر الحبيب المجعد وشفتيه الورديتن . .. إلخ...
ويحكى عن فاطمة - أخت أبي على الروذبادي - قالت لما قرب أجل أبي علي الروزبادي؛ وكان رأسه في حجري؛ فتح عينيه وقال هذه أبواب السماء قد فتحت؛ وهذه الجنان قد زينت؛ وهذا قائل يقول يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها ثم أنشد يقول:
وحقك لا نظرت إلى سوا كا |
بعين مــودة حتى أراكا |
أراك معذبي بفــتور لحظ |
وبالخـد المورد من حياكا |
( الغزالى - الإحياء )
ــــــــــــــــ
-181-
بل إنَّ العلاقة الصوفية تكاد تدور حول الشيخ ومريده، وغالبًا ما يكون هذا المرير أمرد. ولأمر ما فالكلمتان من حروف واحدة!.
وما زالت حلقات الذكر - في رأى البعض - مركزًا من مراكز تعارف ونشاط اللوطيين .. وقد وضع مصري ماجن صيغة ذِكْر زعم يرددونه في الحلقة يقول: " الواد ده حلو ... خده جنبك " الله حيّ!.
وقد خصّص الشيخ الحافظ الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الحوزي البغدادي المتوفي سنة 597هـ في كتابه " تلبيس إبليس " فصلاً خاصًا عن علاقة المتصوفة " بالأحداث " وردّ علي أعذارهم بالتالي:
" الذين يدعون أنهم يعشقون الله في صورة الغلام لأنَّ الله قد حلّ فيه! وذكر أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا، أنَّ طائفة من الصوفية، قالوا أنَّهم يرون الله عز وجل في الدنيا. وأجازوا أنْ يكون في صفة الآدمي، حتى استشهدوه في رؤيتهم الغلام الأسود ".
وفكرة حلول الله في جسد آدمي هي فكرة مسيحية لها جذورها الإغريقية، أمّا أنَّه يحلّ أحيانًا في صورة " غلام " يُعشق فهي فكرة لوطية إغريقية أصيلة. والغلام الأسود، إما دليل لا عنصرية المسلمين، ومزاج الصوفي! .. وإمّا تشنيعة لا تخلو من عنصرية، من الشيخ الحافظ غفر الله له.
" القسم الثانى: قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ويقصدون الفسق " ... وهؤلاء لوطيون فقط بلا فلسفة، وإنّما يندسون بين الصوفية، لانتشار الغلمان في حلقات الصوفيين، ولوجود قابلية لهذه العلاقة بين الصوفيين رجالاً ومريدين في ذلك الوقت الذى يحكي عنه الشيخ .. .
" القسم الثالث: قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن. ونسبوا إلي الرسول " كذبًا ": " ثلاثة تجلوا البصر: الخضرة والماء والوجه الحسن ".
ــــــــــــــــ
-182-
وقال الشيخ إنَّ الحديث من وضع " أبا البخترى ": " وكان يدخل علي الرشيد وابنه القاسم بين يديه فكنت أدمن الظر إليه ( لاحظ أنه ابن هارون الرشيد الذي قلنا إنَّذ عصره كان بداية الانحدار وهذا ابنه الثاني غير الأكبر الأمين " المتهم " ج ) فقال الرشيد: أراك تدمن النظر إلي القاسم تريد أن تجعل انقطاعه إليك ( ؟! ) قلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترمينى بما ليس فِي. وأمّا إدمان النظر إليه فإنَّ جعفرا الصادة ثنا عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ثلاثة يزدن في قوة النظر .. الخ.
وقد أثبت ابن الجوزي بطلان الحديث، وقال إنَّ الفقهاء يقولون: من ثارت شهوته عند النظر إلي الأمرد حرم عليه أن ينظر إليه. وإذا إدّعي الإنسان أنَّه لا تثور شهوته عند النظر إلي الأمرد المستحسن فهو كاذب. وقال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم الرجل يلح النظر إلي غلام أمرد فاتهموه ".
" القسم الرابع: قوم يقولون نحن لا ننظر نظر شهوة، وإنما ننظر نظرة اعتبار فلا يضيرنا النظر وهو محال .... ".
وروت شهدة بنت أحمد الإبري أوّل مؤلفة في الشذوذ الجنسي في تاريخ البشرية، قالت إنَّ: " أبا النضر الغنوى، وكان من المبرزين العابدين، نظر إلي غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال سألتك بالله السميع وعزه الرفيع وسلطانه المنيع ألا وقفت حتى أروى من النظر إليك فوقف قليلاً ثم ذهب ليمضى فقال له سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا ما وقفت فوقف ساعة فأقبل يصعد النظر إليه ويصوبه .. ".
وتمضى القصة، حتى استوقفه بأسماء الله الحسني كلها وهى 99 اسمًا والغلام " التقي؟؟ " لا يستطيع رفض طلب يبدأ باسم الله!! فلما فرغت الأسماء وفرغ " العابد " مضي الغلام. فرفع " العابد " رأسه بعد طويل إطراق وهو يبكى فقال: قد ذكرنى هذا بنظري إليه، وجهًا جلّ عن التشبيه وتقدس عن التمثيل وتعاظم عن التحديد .. والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه حتي أصير إلي ما أردته من نظري إلي وجهه الكريم وبهائه العظيم ولوددت أنَّه قد أراني وجهه وحبسني في النار ".
ــــــــــــــــ
-183-
ولا تظن أنَّ الصوفي منافق كاذب، بل يحدث خلط في عقله بين اشتهاء الغلام وجمال وجهه وبين تدينه وتطلعه إلي الله فيخرج من المعصية إلي الكفر وهذا التناقض الحاد في عقل ومشاعر الصوفي، وعدم قدرته علي مغالبة عواطفه، مع خوفه من الاتهام تفسّره هذه الحكاية:
" وكنا في مسجد الخيف ونحن محرمون فجلس إلينا غلام جميل من أهل المغرب فرأيت محاربا بن حسان، الصوفي ينظر إليه نظرًا أنكرته. فقلت له بعد أنْ قام ( الغلام ) إنَّك محرم في شهر محرم في بلد محرم في مشعر حرام وقد رأيتك تظر إلي هذا الغلام نظرًا لا ينظره إلا المفتونون، فنفى ذلك ثم صعق حتي اجتمع الناس علينا ".
" وحكي أبو الحسين بن يوسف أنَّه كتب إليه في رقعة أنك تحب غلامك التركي، فقرأ الرقعة ثم استدعي الغلام فصعد إليه النظر فقبله بين عينيه وقال هذا جواب الرقعة ".
وعن أبي الطيب الطبري " أنَّ هذه الطائفة التي تحب السماع، أنَّها تضيف إليه النظر إلي وجه الأمرد، وربما زينته ( الأمرد ) بالحلى والمصبغات من الثياب والحواشي، وتزعم أنَّها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة علي الصانع، وهذه هي النهاية في متابعة الهوي ".
وقال يوسف بن الحسين " عاهدت الله مائه مرة ألا أصاحب حدثًا، ولكني فسخت بفعل قوام القدود وغنج العيون ".
ومن طرائف الباحثة الإسلامية " شهدة " أنَّ أبا الكميت الأندلسي روي: " صحبت رجلاً من الصوفية يُقال له مهرجان وكان مجوسيًا فأسلم وتصوّف فرأيت معه غلامًا جميلاً لا يفارقه، وكان إذا جاء الليل قام فصلي ثم ينام إلي جانبه ثم
ــــــــــــــــ
-184-
يقوم فزعًا فيصلي ما قدر له ثم يعود فينام إلي جانبه حتي فعل ذلك مرارًا، فإذا أسفر الصبح أو كاد يسفر أوتر ثم رفع يديه وقال اللهم إنك تعلم أنَّ الليل قد مضي علي سليمًا لم اقترف فيه فاحشة وكتبت علي الحفظة فيه معصية وأنَّ الذي أضمره بقلبيى لو حملته الجبال لتصدعت أو كان بالأرض لتدكدكت ( أى من اشتهاء الفعل مع الغلام ) ثم يقول ياليل إشهد بما كان مني فيك فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام والتعرض للآثام. ثم يقول سيدى: أنت تجمع بيننا علي تقى فلا تفرق بيننا يوم تجمع فيه الأحباب. فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك كل ليلة وأسمع منه هذا القول "....
إنْ صدق ؟! أليس لمثله كان وعده - سبحانه وتعالى – بالولدان المخلدين ؟!
وكان العشق متبادلاً .. قال أبو حمزة الصوفي: " رأيت ببيت المقدس فتي من الصوفية يصحب غلامًا مدة طويلةن فمات الفتي وطال حزن الغلام عليه حتي صار جلدًا وعظمًا من الضنا والكمد فقلت له يومًا: لقد طال حزنك علي صديقك حتي أظن أنك لا تسلو بعده أبدًا ؟ ( فقال كيف أسلو عن رجل أجلّ الله عزّ وجلّ وصانني عن نجاسة الفسوق في خلال صحبتى له وخلواتي معه في الليل والنهار ".
إنْ صدق .. ألا يستحقان أن يجمع الله بينهما في الجنة، حيث لا يسمعان فيها " لغوًا ولا تأثيمًا " ؟!!.
وسأل أبو حمزة محمد بن العلاء الدمشقي " وقد رأيته يماشي غلامًا وضيئًا مدة ثم فارقه. فقلت له لم هجرت ذلك الفتي الذي كنت أراه معك بعد أنْ كنت له مواصلاً وإليه مائلاً .. ؟ فقال والله لقد فارقته عن غير قلى ولا ملل قلت: ولِمَ فعلت ذلك ( السائل موقفه أغرب من المسؤول ) قال: رأيت قلبي يدعوني إلي أمر إذا خلوت به وقرب مني، لو أتيته سقطت من عين الله عز وجل فهجرته لذلك ".
ــــــــــــــــ
-185-
" القسم الخامس: نظر وعشق وتاب..." " كنت مع أميّة بن الصامت الصوفي. إذ نظر إلي غلام فقرأ : " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (سورة الحديد 4)، تبارك الله فما أعظم ما امتحنني به من نظري إلي الغلام ما شبهت نظري إليه إلا بنارٍ وقعت علي قصب في يوم ريح فما أبقت ولا تركت... ثم بكي حتي كاد يقضي نحبه "...
" وقسم تلاعب به المرض من شدّة حبه "!!
فقد روت شهدة الكاتبة عن غيرها: " أنَّ عبد الله بن موسي من رؤساء الصوفية ووجوههم نظر إلي غلام حسن في بعض الأسواق فبُلي به. وكاد يذهب عقله عليه صبابة وحبًا وكان يقف كل يوم فى طريقه حتي يراه إذا أقبل وإاذا انصرف فطال به البلاء وأقعده عن الحركة الضنا، وكان لا يقدر أنْ يمشي خطوة فأتيته يوما لأعوده. فقلت يا أبا محمد ما قصتك، وما هذا الأمر الذى بلغ بك ما أرى، فقال أمور امتحننى الله بها فلم أصبر علي البلاء فيها، ولم يكن لي بها طاقة .. ثم بكي .. إلخ فانصرفت عنه وأنا راحم له لما رأيت به من سوء الحال .. ".
" ونظر محمد بن عبد الله بن الأشعث الدمشقي وكان من خيار عباد الله إلي غلام جميل فغشي عليه، فحُمل إلي منزله واعتاده السقم حتي أقعد رجليه وكان لا يقوم عليهما زمانًا طويلاً. فكنا نعوده ونسأله عن حاله وأمره، وكان لا يخبرنا بقصته ولا سبب مرضه، وكان الناس يتحدثون بحديث نظره. فبلغ ذلك الغلام فأتاه عائدًا ( !! ) فهش إليه وتحرّك وضحك في وجهه واستبشر برؤيته. فمازال يعوده حتى قام علي رجليه وعاد إلي حالته. فسأله الغلام يومًا أنْ يسير معه إلي منزله ( !! ) فأبي أنْ يفعل ذلك فسألني ( أبو حمزه راوي القصة ) أنْ أسأله أنْ يتحوّل إليه فسألته فأبي أنْ يفعل، فقلت للشيخ: وما الذى تكره من ذلك؟ فقال: لست بمعصوم من البلاء ولا آمن من الفتنة، وأخاف أنْ يقع علي من الشيطان محنة فتجري بيني وبينه معصية فأكون من الخاسرين ".
ــــــــــــــــ
-186-
وحق للدارسين القول أنَّه منذ الإغريق، لم يحدث تسامح وقبول اجتماعي لهذه الظاهرة إلا في الحضارة الإسلامية " الآفلة " فالناسك يعشق الغلام ويمرض في حبه، والناس يتحدثون بذلك حتى تصل الأخبار للغلام، فيستجيب لذلك بروح أكثر من متسامحة، ويزور عاشقه حتى يُشفي ثم لا يكتفى بذلك، بل يعرض عليه " المعاشرة "، أوّلاً بدعوته إلي منزله، ولا أحد يهتم بتفسير موقف عائلة " الغلام " .. وإلا كيف تأتى له المنزل الذى يصلح لاستقبال الصوفي العاشق ؟! .. إلا إذا كان غلامًا محترفًا ؟! ولكن ما أظن أنَّ صوفيًا بصلاح وترفع ابن الأشعث: " وكان من خيار عباد الله " يعشق غلامًا مومسًا .. فهل كانت أسرة الغلام تفوق " تحضر " عائلات سان فرنسسكو حتى تسمح له بمعاشرة رجل تحت سقف بيت العائلة ؟!.
ثم يعرض الغلام الانتقال إلي منزل " ابن الأشعث " ويتعين في ذلك " بأبي حمزة الصوفي " الذي لا يري في هذه الوساطة، " قوادة " ولا مما يشين الرجال فضلاً عن الصوفيين .. ولا ما يغضب الله .. بل يسأل الرجل دهشًا : " ولماذا ترفض هذا ؟ ".
هذا مناخ حضارة آفلة، لم تعد ترى في ذلك الفعل عيبًا، وإنْ ارتفعت حدّة الفقهاء بلعن الفاعل والمفعول فيه، فقد أصبح صوتهم هو النشاز، بل يسمع أكثر على الجانب الآخر حيث العدو المتربص، وحضارته الصاعدة ....
فلا تقولوا هزمنا بسبب الدين، بل بتخلينا عن الدين، اندفاعًا في الانحلال إلى القاع .. أما الصوفي الكبير في بلاد فارس الذى ابتلى " بحدث " فقد فعلها معه، ثم ندم فألقي بفسه في البحر ومات غرقًا..
وقال إدريس بن إدريس " حضرت بمصر قوم من الصوفية، ولهم غلام أمرد يغنيهم قال، فغلب علي رجل منهم أمره فلم يدر ما يصنع فقال له: ياهذا قل لا إله إلا الله .. فقالها الغلام فقال الرجل: أقبل الفم الذى قال لا إله إلا الله .. وقبله فى فمه!! ".
ــــــــــــــــ
-187-
" القسم السادس: " قوم لم يقصدوا صحبة المردان وإنما يتوب الصبى ويتزهد ويصحبهم فيتكرر نظرهم إليه لا عن قصد فيثير في القلب فتنة ".. إالخ.
" القسم السابع: قوم علموا أنَّ محبة المردان والنظر إليهم لا يجوز غير أنهم لم يصبروا علي ذلك ".
وكان الغلمان يتصدون للصوفية استعراضًا لجمالهم فقد روى أحدهم: " وقفت علي الشبلى في قبة الشعراء في جامع المنصور، والناس عليه مجتمعون، فوقف عليه في الحلقة غلام جميل لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهًا منه ويعرف بابن مسلم ( تأمل كيف عرف الراوي أبو صابر الدلال الوجوه الجميلة في بغداد وترتيبها، واسم الغلام .. إلخ ) فقال له ( الشبلي ) تنح، فلم يبرح، فقال له الثانية تنح يا شيطاذ عنا فلم يبرح، فقال له في الثالثة: تنح وإلاَّ والله خرقت كل ما عليك. وكانت عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كثيرة فانصرف الفتي فقال الشبلي:
طرحوا اللحم للبزاة |
على ذروتى عـدن |
ثم لامـوا البزاة إذ |
خلعـوا منهم الرسن |
لو أرادوا صلاحنا |
ستروا وجهك الحسن |
ثم استأنف الوعظ في جامع المنصور!! وقصة الشبلي حافلة بأدّلة الترف والثروة الهائلة التي كانت قد تجمعت في المجتمع الإسلامي، وأفضت إلى فسق مترفيها .. وانحراف " عابديها ". قيل إنه " كان يلبس ثيابًا ثمينة، ثم ينزعها ويضعها علي النار. وذُكر عنه أنَّه أخذ قطعة عنبر فوضعها علي النار يُبخّر بها ذنب الحمار. وقال بعضهم: دخلت عليه فرأيت بين يديه اللوز والسكّر يحرقه بالنار لكى لا يشغله عن ذكر الله. وباع عقارًا ففرّق ثمنه ".
وهكذا .. تأمر مترفوها ففسقوا فيها فحلّ عليها الزوال الحضاري.
ــــــــــــــــ
-189-
وأعتقد أنَّه قد آن الآوان لنلخّص " خواطرنا " في الموضوع؛ فنقول: أننا نقسمه إلي موقفين: السلوك الفردي .. والمسلكية الحضارية.
والحالة الفردية، يهمّنا فيها، بالطبع، حكم الدين. وعلي ضوء ما قدمناه من آراء حول أسباب ميل الفرد للواط، نري أنَّ هذا الفعل موجود ويمكن أنْ يقع في كلّ الظروف والمجتمعات، كذلك الميل يمكن أنْ يُوجد في مختلف الطبقات والأفراد والمجتمعات. والفعل - في رأينا - مُحرّم دينيًا، وإذا كانت هناك محاولات في الكنيسة وبين المسيحيين واليهود لإعادة صياغة التوراة. أو " لي " عنق النصوص لتلائم اتّجاهات العصر، وذلك بالبحث عن تفسير غير جنسي لما أصاب قوم " لوط " من انتقام إلهي .. خلاف التفسير الشائع والمتوارث. ويزعم المفسرون الجدد أنَّ قوم لوط عوقبوا لسوء معاملتهم لابن السبيل! ويستشهدون على ذلك بأنَّ الإنجيل عندما أنذر القدس بمصير أسوأ من " سادوم " لم يكن بسبب فعل جنسي بل لأنها لم تحسن استقبال المسيح...[ تعليق: إنَّ أي تفسير لا يعتمد ولا يتوافق مع الكتاب المقدس ككل، ولا مع التقليد الكنسي، ولا مع أقوال الآباء، لا تعترف به الكنائس التقليدية ولا يُعتبر إلا مجرد رأي فقط لصاحبه وبدعة مرفوضة ].
ولكن القرآن، لم يترك مجالاً لمثل هذا التلاعب.. فعلي خلاف المنهاج القرآني المعتاد، وهو تجنب التحديد الملزم في الوقائع التاريخية وتفضيل الكناية
ــــــــــــــــ
-190-
في مسائل الجنس، نجده في قصة لوط قد حدّد بصراحة تهمتهم : " إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء "(الأعراف81). وقد وردت قصة قوم لوط في سورة هود والحجر والشعراء والنمل والعنكبوت والصافات.. .
ولكن هذه الدراسات تستشهد بالقرآن، لتعزيز رأيها بأنَّ جريمة قوم لوط، هي إهانة الضيوف، فيقولون إنهم توجهوا إلي بيت لوط " للتعرّف " علي الضيوف باعتبارهم غرباء عن المدينة التي حظرت عليه الإتصال بالغرباء أو استقبالهم في بيته. ربّما خوفًا من غزو خارجي أو مؤامرة يدبرها معهم. فأرادوا التعرّف عليهم وهذا المقصود بفعل to know ولكن إلتبس علي الشراح في القرون التالية لأنه نفس الفعل المستخدم في " عرف آدم إمرأته " قولد لهما كذا، وعرف آدم حواء مرة ثانية فولد له... فالفعل هنا يعني الوطء، فكأنَّ أهل المدينة لمّا قالوا لسيدنا لوط نريد أن نعرف ضيوفك... قالو نرد أت نجامعهم.. ويقول أنصار هذا الرأي إنَّ القرآن قال علي لسام أهل المدينة : " قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ " (سورة الحجر70)، ولا يُعقل أنْ يكون سبب المنع جنسيًا، لأنَّ " لوط " هو الوحيد غير الشاذ، وإنَّما المنع في هذه الحالة يكون لأسباب سياسية أو أمنية.
إلاَّ أنَّ هذا التفسير متهافت.. فمن ناحية؛ القرآن شديد الوضوح بأنَّ الحوار كان جنسيًا وليس أمنيًا، بدليل عرض لوط بناته عليهم...
" وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ. قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ " (هود 78،79).
ــــــــــــــــ
-191-
والحديث عن طهارة البنات، أو أنهن أطهر يُشير إلي المعني الجنسي ولكن الردّ بأنَّهم ليس لهم " من حق " في بناته، وليس " من أرب " أو " رغبة " يعني أنَّ لهم " حقًا " في ضيوفه... فهو قول لا يُعزّز التفسير الجنسي هنا... ولكن الآيات الأخري تزيل الشبهة: " وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ. قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ، وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ، قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ " (سورة الحجر76-70).
واستبشار أهل المدينة، وعرض البنات .. إنْ كنتم فاعلين .. يرجح المعني الجنسي، فلو كانت قضية أمن، لما كان هناك مبرر للاستبشار بل الأحري، القلق .. وإنَّما مفهوم السياق أنهم رأوا .. ذكورًا .. في جمال الملائكة، وغرباء، أي فيهم طرافة الجديد، فجاءوا يستبثرون! أما " نهيه عن العالمين " فيُمكن القول أنَّه كان يؤلب عليهم الشبان بنصحهم بالإقلاع عن هذه العادة، فمنعوه من الاتصال بأحد. " هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين " منطق معروف ومعتاد جدًا من الكبار الذين يحاولون اقناع الشاذ جنسيًا بأنّض البنات أفضل. مع ملاحظة أنَّ البشري قد تكون بمفهوم المخالفة، فقد ورد في القرآن التبشير بالعذاب في أكثر من موضع. وأيضًا جاءت لفظة البُشرى وفعلها مقترنة بالإنباء عن غلام أو مولود " ذكر " في 19 موضعًا في القرآن.
قال مجاهد وسعيد بن جبير وأغلب المفسرين .. بناته هن نساء المدينة أو أمته كما قال الله تعالي عن النبي وأزواجه أمهاتهم أي أمهات المؤمنين وإنْ لم يلدْن هؤلاء ويُعزز هذا أنَّه قال في القرآن هؤلاء بناتي وهو جمع، وهو ما يناسب عقلاً حاجة مدينة بأكملها. بعكس رواية التوراة التي حددت عدد بناته بإثنتين: لي ابنتان لم يعرفا الرجال ؟ أتوسل إليكم أنْ أحضرهما إليكم وافعلوا بهما ما أحببتم ولكن لا تفعلوا شيئًا بهؤلاء الرجال لأنهم تحت سقفي.
ــــــــــــــــ
-192-
ولعل مما يعزز هذا التفسير قولهم " مالنا في بناتك من حق " إذ لو كان الحديث يجرى علي ابنتي لوط، فهو وليهم، وهذا الحق يتأتى من موافقته أو عرضه. ولكنه لا يملك ذلك علي بنات المدينة، ولذلك قالوا إنَّ عرضه غير واقعى إذ ليس له ولا لهم من حق عليهن. فضلاً عن لامعقولية أنْ يتصوّر كفاية ابنتين أو حتي عدة بنات، لاشباع، " أهل المدينة "!.
والغريب أنَّ رواية التوراة، قد نسبت إلي سيدنا لوط وبناته الصالحات، والعياذ بالله، نسبت إليهم، فعلاً أسوأ من أي جريمة ارتكبها قوم لوط. إذ زعمت أنَّ بنات لوط ( بنتان ) خشيتا من فناء العالم بعد هلاك مدينتهما، فسقتا أباهما لوطًا خمرًا وجامعهما، وهو لا يعقل من السكر، وحملتا منه إنقاذًا للجنس البشرى! .. مع أنَّ " ابراهيم " - كما في الرواية - كان موجودًا وكان لديه قومه أو أهله القادرون علي الإنجاب والإخصاب!.
ولعل هذا هو ما أثار الشكّ عند الغربيين في السبب الأخلاقي لدمار مدينة لوط. طالما أنَّ نفس الرواية تنسب هذا الفعل للنبي الذى كان السبب في دمار المدينة!.
[ تعليق: نكتفي بذكر الرواية كما جاءت في سفر التكوين الأصحاح التاسع عشر، ونتمنّي أن يفهم القارئ القصة كاملة بدون تأويل بما لا يتجمله النصّ، ونذكر فقط، أن التوراة وبالتلي الكتاب المقدس لا يعترف بأنَّ لوط كان نبيًا، وإلا فليذكروا ما هي نبوءة لوط؟ : " 1فجاءَ المَلاكانِ إِلى سَدومَ مَساءً، وكانَ لُوطٌ جالِسًا عِندَ بابِ سَدوم. فلَمَّا رآهُما لُوط، قامَ لِلِقائِهما وسَجَدَ بِوَجهِه إِلى الأَرض، 2 وقال: " سَيِّدَيَّ، مِيلا إِلى بَيتِ عَبدِكُما وبيتا وآغْسِلا أَرجُلَكما، ثُمَّ تُبَكِّرانِ وتَمضِيانِ في سَبيلِكُما ". فقالا: " لا، بل في السَّاحةِ نَبيت ".3 فأَلَحَّ عَليهِما كَثيرًا، فمالا إِلَيه ودَخَلا مَنزِلَه. فصَنعَ لَهُما مَأدُبةً وخَبَزَ فَطيرًا، فأكلا.
4 وقَبلَ أَن يَضْطَجِعا، إِذا بأَهلِ المَدينة، أَهلِ سَدوم، قد أَحاطوا بِالمَنزِل، مِنَ الصَّبِيِّ إِلى الشَّيخ، جَميعُ القَومِ إِلى آخِرِهِم. 5 فنادوا لُوطًا وقالوا له: " أَينَ الرَّجُلانِ اللَّذانِ قَدِما إِلَيكَ في هذه اللَّيلَة؟ أَخرِجْهُما لِكَى نَعرِفَهُما".
6 فخَرَجَ إِلَيهِم لُوطٌ إِلى المَدخَل وأَغلَقَ البابَ وَرَاءَه 7 وقال: " أَسأَلُكم أَلاَّ تَفعَلوا شَرّاً، يا إِخْوَتي. 8 هاءَنَذَا لِيَ آبنَتانِ ما عَرَفَتا رَجُلاً: أُخرِجُهُما إِلَيكُم، فاصنَعوا بِهِما ما حَسُنَ في أَعيُنِكم. وأَمَّا هذانِ الرَّجُلان، فلا تَفعَلوا بِهِما شَيئًا، لأَنَّهما دَخَلا تَحتَ ظِلِّ سَقْفي ".9 فقالوا: " تَنَحَّ مِن هنا! ". ثُمَّ قالوا: " هذا رَجُلٌ يَنزِلُ بِنا فيُقيمُ نَفسَه حاكِمًا! الآنَ نَفعَلُ بِكَ أَسْوَأَ مِمَّا نَفعَلُ بِهِما ". وضَيَّقوا على لُوط وتقَدَّموا لِيَكْسِروا الباب.10 فمَدَّ الرَّجُلانِ أَيدِيَهُما وأَدخلا لُوطًا إِلَيهما إِلى البَيتِ وأغلَقا الباب. 11 وأَمَّا القَومُ الَّذينَ عِندَ بابِ البَيت، فضَرَباهم بالعَمى مِن صَغيرِهِم إِلى كَبيرِهِم، فلَم يَقدِروا أَن يَجِدوا الباب.
12 وقالَ الرَّجُلانِ لِلُوط: " مَن لَكَ أَيضاً ههُنا؟ أَصْهارُكَ وبَنوكَ وبناتُكَ وجَميعُ مَن لَكَ في المدينة أَخْرِجْهُم مِن هذا المكان، 13 فإِنَّنا مُهلِكانِ هذا المكان، فقَدِ اَشتَدَّ الصُّراخُ علَيهِم أَمامَ الرَّبّ، وقَد أَرسَلَنا الرَّبُّ لِنُهلِكَ المَدينة ". 14 فخَرَجَ لُوطٌ وكَلَّمَ أَصْهارَه الَّذينَ سيَتَّخِذونَ بَناتِه وقالَ لَهم: " قوموا واَخُرجوا مِن هذا المَكان، لأَنَّ الرَّبَّ مُهلِكٌ المَدينة ". فكانَ كمازِحٍ في أَعيُنِ أَصهارِه.
15 فلَمَّا طَلَعَ الفَجْر، أَلَحَّ المَلاكانِ على لُوطٍ قائِلَين: " قُمْ فخُذِ آمرَأَتَكَ واَبنَتَيكَ المَوجودَتَينِ هُنا، لِئَلاَّ تَهلِكَ بِعِقابِ المَدينة ". 16 فتَرَدَّدَ لُوط، فأَمسَكَ الرَّجُلانِ بِيَدِه وبِيَدِ اَمرَأَتِه وابنَتَيه، لِشفَقَةِ الرَّبِّ علَيه، وأَخْرَجاه ووَضَعاه خارِجَ المَدينة.
17 فلَمَّا أَخْرَجاهم إِلى خارِج قالا: " اُنْجُ بِنَفسِكَ. لا تَلتَفِتْ إِلى وَرائِكَ ولا تَقِفْ في السَّهل كُلِّه، وانجُ إِلى الجَبَلِ لِئَلاَّ تَهلِك ". 18 فقالَ لَهُما لُوط: " لا، أَرْجوك، يا سيِّدي. 19 إِنَّ عَبدَكَ قد نالَ حُظْوَةً في عَينَيكَ، وعَظُمَت رَحمَتُكَ الَّني صَنَعتَها إِلَيَّ بِإِبْقائِكَ على حَياتي. إِنِّي لا أَستَطيع النَّجاةَ إِلى الجَبَلِ دونَ أَن يَلحَقَ بِيَ الشَّرُّ فأَموت. 20 ها إِنَّ هذه المَدينةَ قَريبةٌ لِلْهَرَبِ إِلَيها، وهي صَغيرة، فدَعْني أَنْجو إِلَيها- الَيسَت صَغيرة؟- فتَحْيا نَفْسي ". 21 فقالَ لَه: " هاءَنذا قد أَكرَمتُ وَجهَكَ في هذا الأَمْرِ أَيضاً بِأَن لا أَقلِبَ المَدينةَ الَّتِي ذَكَرتَها. 22 أَسرعْ بِالنَّجاةِ إِلى هُناكَ، فإِنِّي لا أَستَطيعُ أَن أَعمَلَ شَيئًا إِلى أَن تَصيرَ إِلَيها ". لِذلكَ سُمِّيَتِ المَدينةُ صُوعَر.
23 ولَمَّا أَشرَقَتِ الشَّمْسُ على الأَرض، دَخَلَ لُوطٌ صُوعَر. 24 وأَمطَرَ الرَّبُّ على سَدومَ وعَمورةَ كِبْريتًا ونارًا مِنَ السَّمَوات، 24 وقلَبَ تِلكَ المُدُنَ وكُلَّ السَّهْلِ وجَميعَ سُكَّانِ المُدُنِ ونَباتَ الأَرض. 26 فاَلتَفَتَتِ اَمرَأَةُ لُوطٍ إِلى وَرائِها فصارَت نُصْبَ مِلْح....
30 وصَعِدَ لُوطٌ مِن صُوعَر وأَقامَ في الجَبَل هو واَبنَتاه معَه، لأَنَّه خافَ أَن يُقيمَ في صُوعَر. فأَقامَ في مَغارةٍ هو واَبنَتاه.
31 فقالَتِ الكُبْرى لِلصُّغْرى. " إِنَّ أَبانا قد شاخ، ولَيسَ في الأَرضِ ( التي يعيشون فيها بعد فناء مدينتهم ) رَجُلٌ يَدخُلُ علَينا على عادةِ الأَرضِ كُلِّها. 32 تَعالَي نَسْقي أَبانا خَمرْاً ونُضاجِعُه ونُقيمُ مِن أَبينا نَسْلاً ". 33 فسَقَتا أَباهُما خَمْراً في تِلكَ اللَّيلَة، وجاءَتِ الكُبْرى فضاجَعَت أَباها ولَم يَعلَمِ بِنيامِها ولا قِيامِها. 34 فلَمَّا كانَ الغَد، قالَتِ الكُبْرى لِلصُّغْرى: " هاءَنذا قد ضاجَعتُ أَمْسِ أَبي، فَلْنَسْقِه خَمْراً هذه اللَّيلَةَ أَيضاً، وتَعالَي أَنتِ فضاجعيه لِنُقيمَ مِن أَبينا نَسْلاً ". 35 فسَقَتا أَباهُما خَمْراً في تِلكَ اللَّيلَةِ أَيضاً، وقامَتِ الصُّغْرى فضاجَعَته ولَم يَعلَمْ بِنِيامِها ولا قِيامِها. 36 فحَمَلَتِ اَبنَتا لُوطٍ مِن أَبيهِما. 37 ووَلَدَتِ الكُبْرى أبنًا. وسَمَّته موآب، وهو أَبو الموآبِيِّينَ إِلى اليَوم. 38 والصُّغْرى أَيضاً وَلَدَتِ ابنًا وسَمَّته بَنْعَمِّي، وهو أَبو بني عَمُّونَ إِلى اليَوم.].
نعود للقول الحق:
لم تترك الآيات القرآنية – كما قلنا – مجالاً للشك أو الغموض أو التأويل حول مسلكية قوم لوط وما عوقبوا عليه:
" أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ " (الشعراء 165، 166).
" وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ " (النمل54، 55).
ــــــــــــــــ
-193-
" وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ " (سورة العنكبوت 28، 29).
الحمد لله! هذه الآية - كما ذكرنا - تثبت أنَّ الفراعنة لم يرتكبوا هذه الفاحشة، علي الأقل إلي زمن لوط وإبراهيم .. وبالمناسبة فإنَّ " عفة المصريين " كانت شائعة ومعروفة، ففي الرواية الكاذبة عن نبي الله إبراهيم عندما جاء إلي مصر، وعرض زوجته - فيما زعمت التوراة المحرّفة [ تعليق :يري الكاتب الذي يؤمن بالقرآن أن التوراة والإنجيل محرفون، حسب قوله، فيا تري ماذا قال القرآن عنهما: نرى القرآن الكريم قد أمر المسلمين الجدد, المؤمنين برسالته في كل مكانٍ, بالرجوع الى اهل الكتاب واستشارتهم في كل امرٍ يصعب حلُّهُ. لاهوتياً كان ام اجتماعيا.ربما كان ذلك لكي يؤلفوا شعباً واحداً لله, دستوره كتب الله, وهي التوراة وصحف ابراهيم, وزبور داود, وكتب الانبياء . وانجيل المسيح. لأن القرآن, المعروف اليوم بهذا الاسم, لم يكن قد اصبح كتابا بعد في ايام الرسول محمد. وعندما حاجه المشركون بالكتب وبما اوتي موسىقال لهم: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين"سورة القصص (48) . لقد ذكر الرسول الكتاب هنا في صيغة المثنى التي قصد بها ان الكتاب المقدس بعهديه هو كتاب الله, كما ان هذان الكتابان التوراة والانجيل, يحتويان على كتب الله جميعها المؤلفة من (66) كتابا. ونقرأ ايضا في سورة الانعام (156) قوله : " ان تقولوا انما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وان كنا عن دراستهم لغافلين". وهو الذي قال كما سبق وذكرنا في سورة النساء (26) "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم".اي ان ارادة الله هي ان الكل يهتدون الى سنَّة الله التي جاءت قبل القرآن, وهي بدون شك سنَّة المسيح عيسى ابن مريم. سنَّة المحبة والغفران والكفارة. هنا ايضاً يمكننا فهم الآية القائلة : "ومن يكفر بالله وملائكته وكُتُبِهِ ورسلهِ واليوم واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً"(سورة النساء 136.ويقول ايضا :"آمَنَ الرسول بما أُنزل اليه من ربه,والمؤمنون كلٌ آمَنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله". ] - علي فرعون باعتبارها أخته .. فغازلها فرعون طبعًا، ولكن لمّا عرف أنّها في عصمة رجل غضب وعاتب إبراهيم علي مسلكه الذي كاد أنْ يجلب على " فرعون " العار .. وهو الزنا بحليلة ضيفه...
بالطبع القصة لا أساس لها من ناحية الوقائع ؟؟!!، إذ لا يمكن أن يكون هذا سلوك نبي، ولكنها اعتمدت علي حقيقة معروفة وقتها وهى عفّة فرعون أو المصريين ..
فالقرآن شديد الوضوح في تأكيد شذوذ هذه الجماعة، وأنها كانت تفضل إتيان الذكور علي الإناث، بل الصدوف عن إتيان النساء .. ويمكن القول أنَّ النصّ يتحدث عن " الفاعلين " أو الطرف الموجب في علاقة اللواط فهؤلاء هم الذين " يأتون " وهؤلاء هم الذين يفترض فيهم القدرة والامتناع عن إتيان النساء، أما الطرف السالب، فهو " يؤتى " بدلاً من النساء .. ولعل ذلك ما جعل بعض الفقهاء يقول بأنَّ المفعول فيه " يغتسل تأديبًا " لأنه في رأيهم .. لا يلتذ ولا يمني، وبالتالي فلا جنابة حقيقية.
غير أنّ هذا التفسير هو مجرد خاطرة، لأن الثابت من النصّ أنَّ المدينة كلها قد دُمّرت فاعلها ومفعولها رجالها ونساءها .. ومن هنا استنتج المفسرون أنَّ أهل المدينة من النساء كانوا سحاقيات. رغم أنَّ القرآن قد خلا تمامًا من أية إشارة
ــــــــــــــــ
-194-
إلي السحاق(1)، أو إلي نساء المدينة، إلاَّ امرأة لوط التي قُدّر لها، أن تكون من الغابرين. ولم يرد في القرآن سمبب لذلك .. وقد عرفنا من خلق القرآنذ العفة في الحدث إلا عند الضرورة، البعه عن التفاصيل.
واللواط، هو إذن، من أبشع الخطايا فى الإسلام، وعقاب الله كما قال الصحابة - عن حق - للقوم الذين يمارسون هذا المنكر كان عقابًا شاملاً منكلاً فقد دمّر المدينة وقلبها رأسًا علي عقب، وقذفهم بحجارة مسومة .. و " فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ " (سورة هود82). وإنْ كنا لا نري ما رآه بعض المفسرين، من أنَّه كان عقابًا فذًا لم يعاقب به أحد، فقد أغرق الله قوم نوح جميعًا حتى ابنه، مع أنَّهم لم يرتكبوا هذا الفعل، ودمر وأباد قوم عاد وثمود، لأنهم عقروا الناقة متحدين نبيهم، كما قذف أصحاب الفيل بنفس الحجارة...
وإنْ كان لا يفوتنا مغزى الإشارة إليى " الفناء الحضاري " للمدينة التي تشيع فيها هذه الفاحشة، ولعله من " المصادفات العلمية " أنَّ اللواط كما ثبت أخيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولا أعرف المصدر الذى استند إليه الشيخ " سيد سابق " في تفسير الآية بأنها تعني المساحقات إذ قال " والنساء اللاتى يأتين الفاحشة وهي السحاق الذى تفعله المرأة مع المرأة .. إلخ " فى تفسير واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن .. " الآية .. وقال أنَّ " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما .. فإنْ تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابًا رحيمًا جاءت في اللوطيين. ربما من لفظة " الفاحشة " .. ولكن لغويًا فإن " اللذان " يمكن أنْ تكون لذكرين أو لذكر وأنثى.
وورد في موسوعة فقه علي بن أبي طالب عن كنز العمال: جاءت عليًا امرأتان قد قرأتا القرآن فقالت: هل تجد غشيان المرأة المرأة حرامًا في كتاب الل ؟ فقال لهما: نعم، من اللواتي كن علي عهد تُبّع وهن صواحب الرس".
وعن مسند زيد بن علي. عن علي بن أبي طالب " أن حدمما حدّ الزنا إن كانا أحصنا رجمًا وإن كان لم يحصنا جلدًا » ص 547.
ــــــــــــــــ
-195-
يسبب انتشار مرض خاص يسمى " الإيدز " يقضى علي المناعة الطبيعية للجسم، مما يحتّم الموت أمام أي تحدّ خارجي أو داخلي، ونظريتنا أنَّ هذه الظاهرة تصاحب أو تسبب فقدان المناعة الحضارية للأمم مما يسهل القضاء عليها.. .
وقد يقال إنَّ عقر الناقة كان ذنبًا قاضيًا علي قوم صالح، ولكنه لا يشكل جريمة ولا خطية اليوم، بل إنَّ عقر الناقة أو الجواد في الجهاد من دلائل الإيمان، وهو دفع باطل، لأنّ قوم صالح لم يهلكوا بسبب عقر الناقة ولا جاءتهم الناقة ابتداء من عند نبيهم .. بل هم الذين طلبوا آية. فجاءتهم في شكل ناقة، فعقروها تحديًا واستهزاءً وامتحانًا لمصداقية نبيهم، ووجود الله وقدرته عليهم. وهذا ما استوجب عقابهم. فهي ناقة مخصوصة في ظروف مخصوصة .. ولكن إتيان الذكور حالة دائمة وقد وصف الله هذا الفعل بأنّضه من " الخبائث " و " الفاحشة "، ووصفهم بالفاسقين وقوم السوء والعادين والجاهلين " وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " (سورة الأنبياء74). وهذه كلها أدلة لا تحتمل الشك في أنَّه فعل مكروه مبغوض من الله مستنكر بشكلٍ دائم، مثل الزنا، والشرك، وأكل مال اليتيم، والربا ومنع الماعون .. إلخ.
وقد أوضحنا رأينا في النتائج الإجتماعية والحضارية لهذه الظاهرة، فإذا انتقلنا للعقوبة، وهي موضوع اهتمامنا أساسًا بالنسبة للدولة الإسلامية المنشودة .. نقول أنَّه لم يرد في النصوص إشارة إلي عقوبة بشرية يوقعها السلطان بالفاعلين مثل ما ورد في الزنا والسرقة والقذف وقطع السبيل .. وليس في سنّة رسول الله ما يفيد تطبيق أي حد في مرتكب هذه الفعلة، وهذا علي الأغلب لعدم وصول حالة من هذا النوع إلي السلطة الإسلامية في عصر الرسول ؟؟؟؟ [ نرجو الرجوع إلي الأحاديث المذكورة التي تنفي بالقطع هذه المقولة ص110]... .
كذلك لم يثبت أنَّه – ص - قرّر حكمًا ولو من الناحية التشريعية، وكل الأحاديث المنسوبة إليه عن أحكام اللواط مطعون في صحتها .. فحديث : " أخوف ما أخاف عليكم عمل قوم لوط ولعن من فعل فعلهم ثلاثًا " .. قال عنه الترمذى : " غريب ".
ــــــــــــــــ
-196-
وحديث " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". أنكروا سنده عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحافظ " رواته موثقون إلا أنَّ فيه اختلافًا ".
وحديث: " سحاق النساء بينهن زنا " قالوا: " إن إسناده ليّن ".
وحديث " أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله ... والذي يأتى الذكر يعنى اللواط قال عنه البخاري: ولا يتابع علي حديثه أي راويه محمد ابن سلام الخزاعى، عن أبي هريرة ".
وحديث " إذا ركب الذكر علي الذكر اهتز عرش الرحمن " وصف بأنَّ إسناده " واهن لين موضوع ".
وحديث ابن عباس " إنَّ اللوطي إذا مات من غير توبة فإنّه يُمسخ في قبره خنزيرًا " وصف راويه بأنّضه " يروى المناكير " وأحد مصادره " اسماعيل بن أم درهم ": " لا يُحتج به " وصفه ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة.
أمّا حديث وفد عبد القيس لما قدموا على النبي " وكان فيهم أمرد حسن فأجلسه النبي – ص - خلف ظهره ". فقالوا: " لا أصل له. وهو حديث منكر، فيه ضعفاء ومجاهيل وانقطاع ".
إلاَّ أنَّ أقوي دليل علي أنَّ رسول الله لم يشرّع عقوبة في اللواط لا تطبيقًا، ولا بمجرّد النصّ ...أنَّ المسلمين لما فتحوا بلاد فارس والشام وغيرها حيث كانت الحضارات الآفلة، فوجئوا بهذا الفعل، واعتقلوا مرتكبيه، ولا ندري كيف ثبتت الجريمة، فلم تصلنا تفاصيل، ولكنها علي الأرجح ثبتت بالاعتراف .. عندها بعث الولاة يستفتون كبار الصحابة في المدينة .. ما هى العقوبة ؟ وجلس هؤلاء للاجتهاد. ولو كانت هناك سنّة ثابتة لنفّذها الولاة في الأمصار، فإن غابت عنهم، لكتب إليهم الخليفة بها على الفور .. ولكن .. لأنَّ النصّ غاب .. فلا هو في القرآن، ولا في السنّة .. فقد تبادل كبار الصحابة الرأى تحت تأثير عاملين: حجم
ــــــــــــــــ
-197-
الإدانة التى وردت في القران للفعل .. وما توسّموه - عن حق - من نتائج خطيرة علي مجتمع مجاهد يخوض حرب حياة أو موت، ويضع أسس حضارة جديدة. وقد قلنا أَّن اللواط من علامات انهيار الحضارات .. ولذلك جاءت تشريعاتهم شديدة النكال، وهو ما كان متوقعًا، فاقترح أبو بكر أنْ يُقتل بالسيف ثم يُحرق، وقال عمر وعثمان: " يلقى عليه حائط "، وقال ابن عباس " يلقى من أعلى بناء في البلد ". ولم يستقر الاجتهاد علي ما وصل إليه في عهد أبي بكر، فقد استمر علماء المسلمين في الاجتهاد، فقال البغوي الشعبي والزهري ومالك وأحمد واسحاق: " يرجم " وقال النخعى " لو كان يستقيم لرجم مرتين ". ونقلوا عن أبي بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك: يحرق. أما المتأخرون فقد استقر رأيهم علي حد الزنا، إذ اعتبروها مساوية للزنا .. فقد رأى سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن وقتادة والنخعي والثورى والأوزاعي وأبو طالب والإمام يحيي والشافعى أنَّ حدّها حدّ الزنا. أما أبو حنيفة والمؤيد بالله والمرتضى والشافعى فقالوا بالتعزير لأنَّ الفعل ليس بزنا. وزاد أبو حنيفة " لا يجلد ولا يرجم ".
وفي تفسير الرازى: " اختلف الصحابة في حكم اللواط، وكانوا عالمين باللغة فلو سمى اللواط زنا لأغناهم نصّ الكتاب في حدّ الزنا عن الاختلاف والاجتهاد ".
ورأى ابن تيميه رضى الله عنه: " أكثر السلف يوجبون قتل فاعله مطلقًا، وإاْن لم يكن محصنًا. وقيل أنَّ ذلك إجماع الصحابة وهو مذهب أهل المدينة، كمالك وغيره، ومذهب أحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه. وعلى هذا القول يقتل المفعول به مطلقًا، إذا كان بالغًا، والقول الثانى هو حدّه حدّ الزنا، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعى وأحمد في أحد قوليهما، وإاذا قيل الفاعل كالزاني فيقتل ويقتل المفعول به مطلقًا، وقيل لا يقتل، وقيل بالغرق كالفاعل وسقوط الحدّ من مفردات أبي حنيفة ".
وكذّب ابن تيمية من قال أنَّ مالك أباح اللواط بالعبيد .. " كذب لم يقله أحد من علماء السنة، وأظنّه قصد التشنيع به على مالك، فإني رأيت من الجهال من
ــــــــــــــــ
-198-
يحكي هذا عن مالك وأصل ذلك ما يُحكى عنه في حشوش النساء فإنَّه لمّا حكى عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك وحكى عن مالك: فيه روايتان: ظن الجاهل أنَّ إدبار المماليك كذلك، وهذا من أعظم الغلط ممن هو دون مالك فكيف علي مالك مع جلالة قدر، وشرف مذهبه "؟؟؟!!.
" ومذهب مالك وعلماء المدينة أنَّ اللائط يُقتل رجمًا محصنًا كان أو غير محصن سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه فإنَّه يُقتل عندهم الفاعل والمفعول به".
وقال ابن حزم إنَّ أبا بكر ضرب رجلاً ضمّ صبيًا حتى أمني ضربًا كان سببًا في موته. وأعجب الإمام مالك - في رواية ابن حزم - بالأمير الذى ضرب غلامًا مكّن رجلاً من تقبيله حتي أمني الرجل، ضربه الأمير حتى مات ( الصبي ). وإن كان ابن حزم علّق بالإشارة إلي وجود اختلاف حول هذه العقوبات، وأنَّه ممن يرى " ألا جلد فوق عشرة، إلا في حدّ من حدود الله " وملخص اجتهادات الفقهاء يمكن إجمالها فى الآتى:
§ أنَّ اللواط خطيئة ومعصية منكرة عند الله سبحانه وتعالى من مفهوم الآيات، ومتضمنًا في قوله " ولا يقربون الفواحش " وإنْ لم يردْ نصّ واضح بالتحريم أو تخصيص بالتجنب .. مثل الخمر أو الزنا أو لحم الجنزير .. إلخ .
§ وهو مثل الزنا من الجنايات التي بين العبد وخالقه، يطلب فيها عدم الفضيحة أو إشاعة الفاحشة، ويستحسن الستر علي فاعلها، عسي أنْ يتوب الله عليه، ولا تُسْتحب الشهادة فيها، وويُستنكر من فاعلها المجاهرة، ولا يُنصح بفضح نفسه بالإعتراف للسلطة أو الحديث عنها، وإذا تاب فإن الله غفور رحيم.. .
§ كل اشتراطات ثبوت الزنا مطلوبة في إثبات اللواط أي أربعة شهود يرون .. إلخ .. ولو شهد ثلاثة وشك الرابع فلم يجزم بأنَّه رأى المرود في المكحلة مع أنَّه رأى " أقداما بادية، وأنفاسًا عالية، وأمرًا منكرًا ..." عندها يُجلد الشهود الثلاثة ثمانين جلدة ويُطلق سراح المتهم.
ــــــــــــــــ
-199-
§ عقوبتها لم يردْ فيها نصّ قرآني، ولا سنة ثابتة، ولذا فهى متروكة لتقدير الحاكم. وإنْ صحّ تفسير " سيد سابق " فهي العزل عن النساء للمساحقة، و " إيذاء " اللوطي .. وليس القتل من الإيذاء، خاصة وأنَّ بقية الآية تأمل للفاعلين في التوبة، أي الإستمرار علي قيد الحياة .. والتعزير لا يكون بالرجم ولا الجلد. فهى من ناحية العقوبة ليست كالزنا كما قال الفقهاء، وللحاكم أنْ يقدر ظروف المجتمع وظروف المتهمين ويحكم بالتغريب في مستشفى نفسانى أو بالسجن أو بتزويج الفتيان إن كانوا من المراهقين .. أو ما تتفتق عنه القريحة التشريعية.
ولا شك أنَّ " اللواط " هو موضوع حديث العهد بالبحث والدراسة، رغم قدمه كظاهرة، ومن ثم لا نسطع أن نلم - الآن - بحكمة المُشرّع، عز وجلّ، في عدم فرض عقوبة، غير أنَّه يجب أنْ نشير هنا إلي عدّة نقاط خطرت لنا، مجرد خواطر، نسأل الله عنها السلامة، فنخرج من السوق كما دخلنا، فلا نحن نطمع في أجر ولا أجرين وقد وضحنا أنما لسنا من " المجتهدين " فما لنا في أجورهم من حق !.
وهذه الخواطر هى :
أنَّه لا علاقة طرديّة بين بشاعة الخطيئة، وشدة استنكارها في القرآن والخلق الإسلامي، وبين العقوبة أو الحدّ المفروض فيها .. فليس في القرآن - مثلا - جريمة أبشع من الكفر ولكن لا عقوبة عليها في الدنيا أو لا حدّ للكفر. لذا لا يجوز القول بأنَّه ما دام لم تشرّع عقوبة للواط ، فهذا يعنى أنَّها ليست جريمة، أو ليست فى مستوى الكبائر! هذا خطأ بالطبع.
ويرى الغزالي أنَّ الإبهام فس الكبائر التي لم يرد فيها حدّ أمر مقصود من الله سبحانه وتعباليى لأنَّ دار التكليف هى دار الدنيا. وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس علي وجل وحذر،» الإحياء ج 4.
ولم أفهم ماذا يقصد.
وكما لا يجوز للمشرّع أنْ يتهاون فى عقوبة ما لم يرد به حدّ.
ــــــــــــــــ
-200-
كذلك لا يجوز للمشرع أنْ يتأثر في تقديره للعقوبة، بما ورد من وصف بشاعة الفعل، وعقاب الله سبحانه وتعالي لقوم لوط .. فالله سبحانه أهلك قوم عاد وثمود لأنّهم كفروا بنبيهم، ولكن لا يحق للمشرّع اليوم أنْ يقضى بإعدام أو إهلاك من يكفر بهود أو صالح أو حتيّ محمد صلوات الله عليه.
الثانية: أنَّ حدّ الزنا مقترن بالإحصان، ونحن نرى أنَّ " اللوطي " لا يُمكن أنْ يكتمل فيه شرط الإحصان. إلاَّ إذا فهمنا الإحصان على أنَّه معرفة الفعل بتجربته.. .
وقد عرف صاحب الفقه علي المذاهب الأربعة الإحصان بأنَّه " الزواج من إمرأة محصنة ( ! ) بعقد صحيح ووطئها في قبلها، فمن وطىء إمرأة فس دبرها فليس بمحصن.. ولا هي .. " ولم نفهم كيف أنَّ المرأة التى سيتزوجها " محصنة " قبل أن~ يطأها! .. وإذا كان يقصد بالإحصان مجرّد تجربة الجنس، فإنَّ شرط الزواج بعقد صحيح غير ذي معني .. ولذا نعتقد أنَّ الإحصان يرد بمعنيين، معني اجتماعى وهو المقصود فى حدّ القذف ، وإلا لأبيح قذف البكر! .. ومعنى قانوني نفساني هو شرط من شروط حدّ الزنا .. وهو معرفة طبيعة الفعل وأبعاده .. فالنبي عندما سأل ماعزًا: أتعرف ما الزنا .. قال: فعلت بها في الحرام ما أفعله بزوجتى في الحلال أي معرفة أبعاد الفعل.
وإذا أخذنا المعنى الثالث المستخدم في الرواية المنسوبة للإمام الشافعس: وهو قوله - في زعمهم – " من لم يتزوج مصرية فليسى بمحصن ". وهذا بالطبع لا فقه ولا حتي جد .. وإنَّما لو قاله فعلي سمبيل المزاح، وتحية لمصر التي استضافته، وألمعية في معرفة أنَّ كسب رضاء المرأة يغني عن سائر الجهود مع السلطة والمجتمع...
ولكن المهم هنا، هو استخدام اللفظ، فالمعنى المقصود أنَّه لم تشبع حاجته تمامًا.. .
ــــــــــــــــ
-201-
وبالتالى فلا نستطيع القول إاحصان اللوطس لو تزوج، لأنَّ شهوته لا تنطفىء بالزواج من امرأة، خاصة إذا كان سلبيًا، وإنْ كان الزواج في بعض الحالات يساعد علي العصمة. كذلك فإنَّ مفهوم الرابطة الزوجية لا ينعكس بشكل واضح علي علاقة اللواط. ومن ثمّ ذهبنا إلي أنَّ اللوطي لا يُمكن أنْ يكون محصنًا، إلا من ناحية واحدة، وهي خيانة الزوج أو الزوجة إذ يفترض في الحياة الزوجية، الاتفاق أو التعاقد علي المشاركة الكاملة الجسدية والنفسية. ومن ثم فمن حق الحاكم أن يُشدّد أكثر في عقوبة اللوطي المتزوج....
علي أيّة حال، فإنَّ هذه الأسئلة تنبع من حقيقة أنَّ الإسلام أدان هذا الفعل أشنع إدانة، لم يفرض فيه حدًا...
ثم نأتي لهذه الخاطرة، وهى تفسير وعده سبحانه وتعالى للمؤمنين بولدان وغلمان فى الجنة: " مخلدون " وغاية في الجمال والنضارة.
وقد ورد ذلك في ثلاثة: الطور والواقعة والإنسان... قال سبحانه وتعالي:
" وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {12} ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ {14} عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ {15} مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ {16} يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ {17} بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ {18} لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ {19} وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ {20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ {21} وَحُورٌ عِينٌ {22} كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ {23} جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {24} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً {25} إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً {26} وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ {27} فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ {28} وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ {29} وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ {30} وَمَاء مَّسْكُوبٍ {31} وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ {32} لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ {33} وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ {34} إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء {35} فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً {36} عُرُباً أَتْرَاباً {37} لأَصْحَابِ الْيَمِينِ {38} ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ {40} " (الواقعة 10-40).
ــــــــــــــــ
-202-
ولا أظن أنَّ أحدًا يستطيع المجادلة في أنَّ " الولدان " هنا هم غلمان. وأنهم يعرضون في مجال النعيم والتلذذ.. بجمالهم، كجزاء حسن للمؤمنين، مثلهم مثل الأباريق والخمر والفاكهة والطير، وحور العين، كلها للمتعة بما فيها من حُسْن. وإذا كان " الولدان " و " وحور العين " هما الكائنان العاقلان؛ وحور العين، ثابت في الأثر وبنصّ القرآن، أنهن للاستمتاع الجنسي. وكل الفرق في الآية بينهن وبين الولدان، رهو أنَّ حور العين لؤلؤ مكنون والوالدان " لؤلؤ منثور " والمفسرون رضي الله عنهم قرّروا أنَّ اللؤلؤ المثور أكثر جمالاً من المكنون. وإنْ كان " المكنون " أكثر صيانة، وأكثر إثارة للخاطر، إلاَّ أنَّ الله سبحانه وتعالي قد آثر هؤلاء الغلمان بالجمالين. المكنون والمنثور .. فقال عنهم في سورة الطور:
" وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ " (الطور24).
قال ابن عباس " سرر منسوجة بالذهب، مرصّعة بالدر، متكئين عليها. أي حال كونهم مضطجعين علي تلك الأسرة، شأن المنعّمين المترفين " ( لاحظ إقران " الولدان " والتمتّع بهم دائمًا مع الترف الشديد ج ) متقابلين، أي وجوه بعضهم إلي بعض. ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في آداب الجلوس. ويدور عليهم للخدمة أطفال ( نعترض هنا فالله سبحانه وتعالي يقول ولدان وغلمان والولد أو الغلام غير الطفل ج ) في نضارة الصبا لا يموتون ولا يهرمون قال ابن حيان: وصفوا بالخلد، وإنْ كان كل من في الجنة مخلدًا ليدل علي أنَّهم يبقون دائمًا في سن الولدان ( الولدنه كما يقول الشوام واللبنانيون ج ) لا يتحولون ولا يكبرون. كما وصفهم جلَّ وعلا (صفوة التفاسير. محمد علي الصابوني عن البحر المحيط )..
وفي سورة الإنسان، وتأمّل حكمة اسم الآية!.. .
" وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً {12} مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً {13}
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً {14}
ــــــــــــــــ
-203-
وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15} قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً {16} وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً {17} عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً {18} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً {19} وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً {20} عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً {21} إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً {22} " (الإنسان 12-22)
قال المفسّرون: مضطجعون علي الأسرّة المزينة بفاخر الثياب والستور، وإنّما خصّهم بهذه الحالة لأنَّها أتمّ حالات النعيم. " أي غلمان يُنشئهم الله تعالي لخدمة المؤمنين ( مخلدون ) أي دائمون علي ماهم عليه من الطراوة والبهاء. قال القرطبي أي باقون علي ما هم عليه من الشباب والنضارة، والغضاضة والحُسن، لا يهرمون ولا يتغيّرون ويكونون علي سنّ واحدة علي مرّ الأزمنة ( تفسير القرطبي ) إذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم كأنهم اللؤلؤ. وقال الرازي هذا من التشبيه العجيب لأنَّ اللؤلؤ إذا كان متفرقًا يكون أحسن في المنظر لوقوع بعضه علي بعض فيكون أروع وأبدع. ( التفسير الكبير ).
وجاء فى تفسير الرازى :
يطوف عليهم ولدان مخلدون فيها وجهان؛ أحدهما أنَّه علي الأصل وهم صغار المؤمنين وهو ضعيف؛ لأنَّ صغار المؤمنين أخبر الله تعالى أنَّه يُلحقهم بآبائهم، وقيل أنهم صغار الكفار وهو أقرب من الأول.
والثانى أنهم صغار بصرف النظر عن كونهم مولودين . . مخلدون لا يتغيّرون عن حالهم ويبقون صغارًا دائمًا لا يكبرون ولا يلتحون ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون.
وقوله ( لهم ) أي ملكهم إعلامًا بقدرتهم علي التصرف فيهم بالأمر والنهي
ــــــــــــــــ
-204-
والاستخدام وهذا هو المشهور وأضاف الشارح في الهامش اللام في اسم للملك أو التخصيص أي لا كسقاة الخير فى الدنيا يسقون كل شارب؛ ويستجيبون لكل طالب.
... وقوله تعالى: " كأنهم لؤلؤ " أي في الصفاء و( مكنون ) ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم.
قال الشاعر:
لا شئ أحسن منه حين تبصره.. |
كأنَّه من جنان الخلد قد سرقا! |
والسؤال الثاني السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال فكيف ذكر الله تعالي ذلك في معرض الترغيب؟ الجواب أهل الجنة مرد شباب فلا يبعد أن يحلو ذهب وفضة وإن كانوا رجالاً.
ثلة لم ترد في القرآن كله إلاَّ ثلاث مرات كلها في صورة الواقعة وعند الحديث عن هذه الفئة المُنعّمة بالغلمان والأساور .. إلخ وهي تفيد أنهم قلة والحمد لله ؟؟.. .
وإذا كان ابن عباس رضى الله عنه، في صدر الإسلام، ومناخ الطهارة، قد فسرهم بأنَّهم أطفال فإن المفسرين فى العصور المتقدمة، ومع تطوّر المعرفة بالنفس البشرية، وظهور هذا الميل، ركّزوا علي اللفظ القرآني وهو : ولدان، أو غلمان كما قال القرطبي.
فإننا نضيف اليوم أنَّ هذه السورة نزلت في هؤلاء الذين ابتلاهم الله فصبروا وعفّوا، الذين قالوا علي لسان الله سبحانه وتعالي في مطلع الآية " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً {9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً {10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً {11} وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً {12} مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً {13} " ( الإنسان 9-13) إلي آخر الآية التي أوردناها...
ــــــــــــــــ
-205-
أمَّا في سورة " الطور " فقال جل وعز من قائل:
" تَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ {20} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {21} وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ {22} يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ {23} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ {24} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ {25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ {26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ {27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ {28} فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ {29} " ( الطور20-29).
من سرد الآيات، نلاحظ أنَّ أهل هذا النعيم. لهم صفات خاصة، هي الترف الشديد، ولبس الحرير والأساور .. وهى صفات هذه الفئة، ونلاحظ أنَّ كلمة " تأثيم " وردت مرتين في القرآن فقط. والمرتان وردتا في الحديث عن هؤلاء المستمتعين بالولدان أو الغلمان .. ولا مجال للحديث في الجنة عن الإثم أو التعرض للتأثيم من الجماعة، إلاَّ في هذه المتعة، التى مهما قيل عن الجنة، يظل في نفس البعض شعور بالحرج منها، ورغبة في تأثيم فاعلها، ولذلك طمأنهم العزيز الحكيم أنَّهم لن يسمعوا فيها لغوًا ولا تأثيمًا.
بل من حقنا أنْ نفسّر قوله تعالى ... غلمان لهم ... بأنَّهم غلمانهم في الدنيا، الذين عفّوا، وتأثّموا، وصانوهم هم عن الفاحشة فاجتمعوا في الجنة، في خلود داثم للحظة الرغبة التى كُبحت بالتديّن!!!!
ــــــــــــــــ
-206-
واذا كان المفسرون قد اتفقوا على دوام صفة الولدنه أو خلودهم في سن الغلمان، فقد استنتجنا أنَّ الحكمة في النصّ علي الخلود، هي تأكيد مصدر المتعة في هؤلاء الغلمان لمن يشتهيهم، ودوامها. بعكس ما في الدنيا من زوال الفتنة بدخول الغلام سن الرجولة .. ففى الجنة " لن تنبت لحية شقران " أبدًا حتى ينجز وعده لمن أشفق في أهله، وخاف من ربه يومًا عبوسًا قمطريرًا. فوقاه ربه شرّ هذا اليوم، وجزاه " بما صبر " جنة وحريرًا والولدان المخلدين، مع ثياب سندس واستبرق وأساور من فضة .. أى هيين أو بانك .. إلخ ما يشاء مما اشتهى في الدنيا، وحرم نفسه مخافة ربه.
وربما يسهل الأمر علينا لو فهمنا هذه الحقائق:
1- من الخطأ تقييم الحياة الأخري بمقاييس وأحكام هذه الحياة التى نعيشها فهذه دار العمل الصالح والطالح، دار المحاسبة، دار الفناء، دار التعامل مع النفس والناس بما يفيد ويضرّ .. أمَّا هناك فدار الجزاء فقط، ما من عمل هناك يفيد أو يضرّ، ولا من عمل يُحاسب عليه الإنسان، دار " الخلود " المطلق، وهي كلمة مهما حاول الفاني أن يصورها أو يقربها إلى مفهومه، فلا يُمكن أنْ يُحيط بأبعاد الخلود، إنَّه تعبير لا يمكن فهم بعضه إلاَّ بنسبته إلي ضدّه! ...
ولا شكّ أنَّ ممارسة الخلود ستخلق قيمها ومقاييسها، كذلك لا يُوجد في الجنة أو النار شرّ ولاخير .. لأنَّ الشر والخير هو بما يعود عليك أي بنتيجة العمل، وهذه غير متاحة في عالم الخلود، فلا شىء يضرّك ولا تستطيع الإضرار بأحد فكيف يكون الفعل شريرًا ؟!!!. وبالتالي فلاخير وإنّما هناك لذيذ وألذ....
2- كل المحرّمات في هذه إلأرض تسقط في الأخرة، فقد وعدنا بالخمر وإنْ كانت أفضل من خمر هذه الأرض فهي لا تسبب صداعًا ولا عطشًا .. وحور العين بلا عدد، ولا أظن أنَّ هناك سببا مثل اختلاط الأنساب أو الأمراض أو الفاحشة ... إلخ يبرر تحريم التمتّع بهن علي نحو يختلف عما في دار الفناء هذه كذلك نظنّ أنَّ هذا التمتّع ليس بقاصر علي المؤمنين من الرجال وحدهم! كذلك فإنَّ وعد
ــــــــــــــــ
-207-
الرحمن " فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ " (سورة الأنبياء102) " نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ " (سورة فصلت31) " يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " (سورة الزخرف71)
هذا الإطلاق الإلهي لا يجوز أنْ يُحدّ بمزاج أو أخلاقيات فرد في هذه الدنيا، ولا حتّي جماعة.. وإليك بعض ما نظنّه من الغرائب ولكنّه منطقي للغاية مع فكرة الجنة أو الخلود بلا حساب ولا عقاب، ولا أسباب ولا قوانين مما تحكم حياتنا الفانية:
قال رسول الله: إنَّ الرجل من أهل الجنة يولد له الولد كما يشتهى يكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة أحرجه ابن ماجة والترمذى وقال حسن غريب ( إحياء علوم الدين للغزالى ج 4 ص542 الغزالي ).
وقال سعيد بن المسيب " ليس أحد من أهل الجنة إلاَّ في يده ثلاثة أسورة .. سوار من ذهب وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة " ( ص 543 الإحياء ).
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: " إيّاك أنْ تنكر شيئًا من عجائب يوم القيامة؛ لمخالفته قياس ما في الدنيا ".
وقال في وصف الجنة:
فنفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم؛ جالسين علي منابر الياقوت الأحمر فى خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض: فيها بسط من العبقرى الأخضر؛ متكئين علي الأرائك منصوبة علئ أطراف أنهر مطردة بالخمر والعسل؛ محفوفة بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان يمشين في درجات الجنان؛ إذا اختالت إحداهن في مشيها حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان، شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس، ويطوف عليهم، خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون؛ يشربون من أنهارها لبنًا وخمرًا وعسلاً في أنهار أراضيها من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان في كفّ خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس حلاوة مثلا حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقه.
ــــــــــــــــ
-208-
والغزالي هو القائل في الإحياء إنَّ الشرّ في الصبيان أكثر فلو مال إلي امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح. ( الزواج ) والنظر إلى وجه الصبي حرام بل كل ما يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحى لم يحل له النظر إليه فإن قلت كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل والقبيح لا محالة؛ ولم تزل وجوه الصبيان مكشوفة! فأقول لست أعني التفرقة بين شجرة خضراء وأخرى يابسة وبين ماء صاف وماء كدر وبين شجرة عليها أزهارها وأنوارها وشجرة تساقطت أوراقها: فإنه يميل إلى إحداهما بعينه وطبعه ولكن ميلاً خاليًا عن الشهوة، ولأجل ذلك لا يشتهي ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها ولا تقبيل الماء الصافي، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح، ولكنها تفرقة لا شهوة فيها ويُعرف ذلك بميل النفس إلي القرب والملامسة فمهما وجد ذلك الميل في قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجميل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة.
فهل يا ترى يرى الغزالي أنَّ استمتاع أهل الجنة بحسن هذا الغلام الذي أبدع في وصف جمال أصداغة وأحداقه هو من نوع استمتاعهم بالشجر والماء والثوب المنقوش..إلخ؟...
وكان الغزالي قد أورد في بداية هذا الحديث خبرًا عن منصور بن اسماعيل قال رأيت عبد الله البزار في النوم فقلت ما فعل الله بك؟ قال أوقفي ين يديه فغفر كل ذنب أقررت به إلا ذنبًا واحدًا فإننى استحييت أن أقر به فأوقفي في العرق حتى سقط لحم وجهي فقلت ما كان ذلك الذنب ؟ قال نظر ت إلي غلام جميل فاستحسنته...
وما دامه النظر لهذا الجمال في وجوه الغلمان لابد أن يثير الشهوة لمن ابتلى بذلك وهو ذنب يستحق أنْ يذيب لحم وجه المؤمن العابد كما قال فلماذا ينعم على المرضي عنهم بغلمان يفوق جمالهم كل جمال استهواه في الدنيا؟!.
ــــــــــــــــ
-209-
لماذا النصّ علي أنهم غلمان وولدان .. وإذا كانت الغاية هي الخدمة الحسنة والمنظر الجميل .. فلماذا لم يكونوا ملائكة؟ وهل أجمل أو أبهي من الملائكة؟ وهل أقدر على الإبداع في الخدمة من ملاك؟ وهل من تكريم أكبر من أن تخدم ملائكة ذلك الذي خلق من ماء مهين وصلصال وطين؟ ليس للغلمان من صفة يتميّزون بها علي الملائكة في الخدمة والجمال والتكريم إلاَّ أنَّ الملائكة كائنات غير جنسية مثلهم مثل الورد والأشجار والبسط المبثوثة .. من هنا نذهب للقول بأنَّ لهؤلاء الغلمان مهمة خاصة استلزمت إنسانيتهم...
وعن أبي هريرة قال رسول الله: " من سرَّه أنْ يسقيه الله عز وجل الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سرّه أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا ". أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن وللنسائي بإسناد صحيح: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الاخرة؛ ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ".
فالحرير والخمر محرّمان في الدنيا مباحان بل ونعمة ينعم الله بها في الآخرة علي من يلتزم حكمه ونهيه في الدنيا ولا تسأل لماذا تكون محرّمة في الدنيا مباخة في الآخرة، فكما قال الغزالى في إحياء علوم الدين: إياك أن ت،كر شيئًا من عجائب القيامة لمخالفته قياس الدنيا.
وقد طلب الإعرابي من رسول الله أنء يضمن له الإبل في الجنة لأنَّه يحبها فقال: ياعبد الله إنْ دخلت الجنة فلك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك. أاخرجه الترمذي من حديث بريدة. فلماذا نضع فيتو على اشتهاء معين ونقول أنَّه محظور في الجنة والله يقول : " َلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ " (سورة فصلت31).
ــــــــــــــــ
-210-
بل لقد وجدت حديثًا عجيبًا نقله الغزالى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الترمذي قال رسول الله – ص -: " إنَّ في الجنة سوقًا ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها "!
وهو حديث عجيب معناه أنَّ الرجل أو المرأة كلاهما يستطيع أنْ يغير صورته أو صورتها، إلي نفس النوع ولكن أجمل وأبهي، وأيضًا أنَّ الرجل الذي يشتهى أن يكون إمرأة أو يحسّ بأحاسيس المرأة، يستطيع إنْ كان من أهل الجنة تحقيق رغبته بزيارة هذه السوق، والعكس صحيح للمرأة .. فهني~ًا للصابرين والصابرات المتعففين في هذه الدنيا والمتعففات.
ولا أستطيع أنْ أبتعد عن سوق الرحمة هذه من غير أن أعرج على رواية أوردها الغزالى نفسه وكأنَّ في خاطره هو أيضًا حديث السوق هذه .. قال الإمام الغفزالي: " روي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفى؛ قال رأيت ثلاثة رجال وامرأة يحملون جنازة فقلت للمرأة من كان هذا ؟ قالت ابني .. قلت ولم يكن لكم جيران ؟ قالت بلى ولكن صغّروا أمره! قلت لماذا ؟ قالت لأنَّه كان مخنثًا .. قال فرحمتها وذهبت بها إلي منزلي وأعطيتها دراهم. قال فرأيت تاك الليلة كأنه أتاني كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض؟ فجعل يتشكرني فقلت من أنت ؟ فقال المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي باحتقار الناس إياي ( الغزالي ج 4من الإحياء ).
لعلّ الغزالى قد ترك مخنثه هذا يرتع في سوتى الصور يدخل فيما شاء من صور الرجال والنساء ولا يسمع لغوًا ولا تأثيمًا لما يتقلب فيه بما غفر الله له ورحم.
وأيه محاولة لانكار تفسيرنا لطبيعة هؤلاء الغلمان ستنتهي بصاحبها إلي إنكار الطابع الحسي لجنتنا واقتباس التصور المسيحي عن جنة روحية لا أجساد فيها ولا اشتهاء ولا متع حسية. وهذا ما سقط فيه المنهزمون أمام الحملة التبشيرية التي ركزت علي نقد وصف جنتنا باتهام رخيص هو أنها جنة شهوانية حسية نأكل فيها
ــــــــــــــــ
-211-
نمارس الجنس كأن هذا عيب أو لا يليق!! ومع اتفاقنا بأنَّ قدرة الله لا يحدّها مستحيل ولا يحدّدها تصوّر المخلوق الفاني إلاَّ أننا أمام نصوص صريحة تؤكّد أنَّ الجزاء سيكون بصورة ما مِنْ نفس العمل فسنُعوّض في الآخرة عمّا حُرِمْنا منه أو ما تِعَففنا عنه أو ما أحسنّا شكر نعمته ولامجال لأيّ خجل أو استخزاء من ناحية المطالب الحسّية للجسد كما يفعل صرعي الحضارة الغربية فليس في الجسد عيب ولا قباحة ولا في تلبية احتياجاته وشهواته المشروعة في هذه الدنيا ولا في التطلع لنعمة الجسد بلا حدّ في الآخرة.
وأقدم هنا مثالاً لمن أفزعه تفسير الغلمان فاضطر إلي إلغاء كل المتع الحسّية في الجنة وتبني التصوّر المسيحيّ عن متع الروح وهو " مولانا محمد علي "( اسمه هكذا مولانا .. ج ) مؤلف كتاب " الدين الإسلامي في الأصول والعقائد " اقتبسه من الأصل الإنجليزي إلي العربية محمد سعيد أحمد بك - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1951 قال:
" كل هذه أسماء أشياء في الدنيا وليس منها في الجنة إلا الأسماء وإنما وردت لتصوّر لنا النعيم الذي يلقاه الإنسان في الآخرة أمّا حقيقتها فهي مما لا يعلمه إنسان لقصور حواسه عن إدراكها. وإنّما جاءت أوصاف الجنة علي سبيل المثال؛ وكل شيء في الآخرة يختلف عنه في الدنيا حتي الزمان والمكان فإنهما يختلفان عن زماننا ومكاننا. فقد جاء أنَّ الجنة عرضها كعرض السموات والأرض ويقربنا هذا من قول من قال إنَّ الجنة والنار حالتان وليستا بمكانين ..
" ومثل ذلك ما جاء عن اقتران الرجال بالنساء في الجنة؛ وقد فهم بعض الناس خطأ أنَّ لهذا الاقتران معني جنسي ( !؟! ج ) وقد جاء في الراغب أنَّ قوله تعالى:
" زوجناهم بحور " أي قرناهم بهن ولم يقل زوجناهم حورًا كما يقال زوجته امرأة تنبيهًا إلي أنَّ ذلك لا يكون علي حسب المتعارف بيننا من أمر الزواج. وأنَّ في الصلة الجنسية بين الرجل والمرأة في هذه الحياة الدنيا استجابة لداعي الطبيعية واستعمار الأرض وحفظ النوع .. وليس هذا هو المقصود في الآخرة حيث لا
ــــــــــــــــ
-212-
ضرورة لذلك هناك!! ( ألغى اللذة الجنسية وهي التي قال ابن القيم أنَّها وحدها التي ستبقى في الآخرة ولكن ابن القيم لم يكن يدافع منهزمًا أمام المبشرين ج ). وعلي ذلك فاقتران الرجال بالنساء في الجنة له معني آخر يختلف عن المعني المتعارف بيننا .. ولنعرض للحور العين لنبيّن إذا كان المراد بهن أزواج أهل الجنة أم غيرهن فقد جاء في القرآن بعد الإشارة إلي الحور العين آيات متصلة بها وهي قوله تعالى: " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ الْيَمِينِ " (سورة الواقعة38). وقد جاء عن النبي أنه قال: " إنَّ المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصًا .. وعلي ذلك يكون المقصود من الآية أنَّ النساء العجائز في هذه الدنيا ينشأن نشأ آخر يوم القيامة ويصرن أبكارًا.. ولو فسرنا الحور علي أنَّهن نساء غير نساء الدنيا أنشئن لنعيم الرجل ولذته لكان حقًا علي الله أنْ يُنشيء رجالاً لاستمتاع نساء أهل الجنة حيث أنّهن لا يختلفت في طبائعهن عن الرجال فكان من حقهن أن يحظين بما تحظى به الرجال في الجنة. ( ومن أخبرك أنَّ الله لا يفعل أم تظن أن غيرتك وعنجهيتك كرجل هي وحدها التي ستبقي علي حالها من أحاسيس الدنيا؟ بل لعلّ ذلك هي الحكمة الإلهية في خلق هذه الكائنات غير الآدمية لكي لا تغير منهن نساء الدنيا ولا يغير منهن رجال الدنيا وإلاَّ فقد كان في قدرته سبحانه وتعالي أنْ يخلق ما شاء من النساء فلماذا الحور ونحن لا نعرف بعد لذة الإستمتاع بها جنسيًا؟ أمأ أنَّ القرآن لم يصرح بحور عين مذكرين فذلك مراعاة لعقول الناس ونفسياتهم وها أنت بعد 15 قرنًا ما زلت تستعيذ أنْ تتمتع زوجتك في الجنة ولو مع كائن غير بشري... فماذا عن عرب الجاهلية؟
يقـول:
" والحقيقة أن نعيم الجنة لا يُدرك كنهه أحد وأنَّ ماجاء في القرأن عن هذا النعيم ليس فيه أي معنى شثهواني وأنَّ ما ورد عن الحور إنّما هو يرمز إلي الطهر تشبيها بالبياض ونعيم الروح ".
ــــــــــــــــ
-213-
مولانا تنصر ها هو يتحدث عن زواج كزواج الراهب بالسيدة مريم أو زواج الراهبة باليد المسيح .. ج!!
ويتابع إلي بيت القصيد فيقول:
" وما قيل عن الحور يقال عن الغلمان: وقيل في تفسير الآية الأولي " غلمان لهم " أنَّ الغلمان هم أولاد المؤمنين في الجنة وعبر عنهم بقوله تعالى: " غلمان لهم - أي أولادهم " مولانا الهندي يعتقد أنَّه أقدر علي التعبير من القرآن .. وإلا لسأل نفسه ولماذا لم يقل القرآن أولادهم أو غلمانهم كما قال هو ؟؟ ج ) ويدل علي ذلك ما جاء في آية سابقة لها من أن الله تعالي يلحق بالذين آمنوا ذريتهم في الجنة قال تعالي: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " وقد أوردنا رد المفسرين علي هذا القول ج ).
" وقد يجوز أنَّ المقصود بالغلمان والولدان أنَّهم من نعيم الجنة علي أنهم رمز للطهر ونعيم الروح كما ذكرنا عن الحور ".
علي أيّة حال مولانا اضطر للتسليم بوجهة نظرنا فساوي بين الغلمان وحور العين فهو أولاً تخلّى عن تفسير أولادهم وثانيًا جعلهم للاستمتاع والنعيم مثل حور العين. ومن الناحية النظرية نحن لا نعارض، فكما قلنا كلّ تفسيرات الجنة محدودة بقدرتنا علي التصوّر أو إن شثت بقدرتنا علي الاشتهاء ..
وكما أنَّ المؤمن السوي يستمتع بأنثى اسمها حور عين فكذلك من ابتلي بهوى الغلمان في الدنيا وعفّ وما تخطى حدود الله يمتّعه الله بكائنات مذكّرة اسمها الولدان المخلدون أمّا أنْ يستمتعا روحيًا أو جسديًا فهذه مزاجات شخصية لا نتدخل فيها.
إنَّ اللواط كما شرحنا، وبالذات عشق الغلام الأمرد، في رأي بعض الدراسات، هو مرحلة في حياة الكثيرين، رغم إرادتهم، وقد " تثبت " في ذوق البعض إلي ما بعد مرحلة المراهقة. ويعتقد الأطباء أنّ نسبة من الذكور تولد ولديها ميل قوي نحو الجنس المماثل .. ولكن الإنسان لا يُفترض فيه - من وجهة نظر
ــــــــــــــــ
-214-
الأديان - أن يخضع لشهوته أو حتى لغريزته وإلا فإن كل إنسان تشاجر أو اختصم تمنى بحكم الغريزة لو أطبق علي عنق غريمه وقضمه، كما يفعل النمر في البقرة .. وما من رجل لم تحدثه نفسه - ولو مرة - بمضاجعة امرأة جميلة أثارت خياله، وكثيرون يتمنون لو أنهم استطاعوا نقل البنك الأهلي إلي ملكيتهم لولا خوفهم من القانون، فما هو غريزي لا يعني أنه مشروع أو محتوم. وما ميزة الإنسان علي الحيوان والملائكة إلا قدرته في ضبط غرائزه.. .
فالذي كبح شهوته، وصان عفته، وحفظ فرجه، ألا يستحق الجزاء؟! وما الجزاء إلاَّ أنْ ينال في الجنة ما اشتهى وأفضل ؟.. .
فكما أنَّ " حور العين " جزاء من إشتهى الزنا ولم يقربه من خشية الله، فكذلك " الولدان " جزاء من إشتهي وعفّ ..
والله أعلم!! .
أما عن الجانب الحضاري، فقد وضحنا أنّها ظاهرة لا يمكن أنْ توجد ولا يمكن أن يُسمح بها في مرحلة التحدي الحضاري، في مرحلة تحرر الأمم وبناء حضارتها. فالخصائص والمقاييس المطلوبة في فتيان الفراش، غير خصائص المجاهدين وفتية التحرير والاستشهاد .. ولا أهمية للأمثلة الشاذة، فنحن نتحدّث عن مقاييس وعلاقات ومفاهيم .. واللواط كفاحشة أو كمسلك حضاري لا يمكن أن يستقيم مع احتياجات ومواصفات حركة تحرير أو بعث .. .
فالعفة مطلوبة، وجزاؤها التحرّر والقوة في الدنيا .. والجنة ونعيمها بحورها وولدانها أو ما شثت مما لا عين رأت ولا أذن سمعت .. في الآخرة .. .
إن شاء الله ..
ــــــــــــــــ
-215-
بسم الله الرحمن الرحيم
عن الوقائع:
1- بتاريخ 15/8/1984 ورد إلي الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة كتاب الأستاذ المستشار رئيس محكمة جنوب القاهرة الإبتداية المؤرّخ 24/7/1984 مرفقًا به ملف الدعوى رقم 322 لسنة 1984حصر أمن الدولة العليا - وقد تبيّن من الإطلاع عليها - أنّها مرفوعة من نيابة أمن الدولة العليا ضد السيد / محمد جلال كشك - بطلب إصدار قرار من المحكمة بتأييد أمر المصادرة الصادر من نيابة أمن الدولة العليا للكتاب موضوع الطلب وعنوانه ( خواطر مسلم في المسألة الجنسية ) - تأليف السيد / محمد جلال كشك - والتي صدر فيها قرار تمهيدي من المحكمة بتاريخ 22/7/1984جاء فيه بعد الدياجة:
"حيث أنَّ المحكمة ترى قبل إصدار قرارها في شأن تأييد أمر المصادرة أو الإفراج عن الكتاب موضوع الطلب - ندب لجنة من ثلاثة من علماء مجمع البحوث الإسلامية لإبداء الرأي في الكتاب موضوع المصادرة علي ضوء الملاحظات التي أبداها مدير عام الإدارة العامة للبحث والتأليف والترجمة والاعتراضات التي أبداها المتهم في مذكرته ردًا على تلك
ــــــــــــــــ
-216-
الملاحظات ولذلك - قررت المحكمة ندب لجنة من ثلاثة من علماء مجمع البحوث الإسلامية يندبهم السيد رئيس المجمع لإبداء الرأي حول الكتاب موضوع المصادرة - وحددت جلسة لنظر الطلب وحتى يرد تقرير اللجنة ".
2- وبتاريخ غرّة ذي الحجة 1404هـ / 27 من أغسطس 1984 م أصدر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية القرار رقم ( 500 ) لسنة 1984- بتشكيل لجنه من السادة :
(1) فضيلة الاستاذ الدكتور / حسين عبد المجيد هاشم - الامين العام لمجمح البحوث الإسلامية.
(2) السيد الإستاذ المستشار / السيد عبد العزيز هندي - عضو مجمع البحوث الإسلامية.
(3) فضيلة الاستاذ الشيخ / عطية محمد صقر - عضو مجمع البحوث الإسلامية.
وباشرت اللجنة العمل المنوط بها بعد أن أخطرت الطرفين بخطابات مسجلة علي النحو الثابت بمحضر أعمالها - كما أدّت اليمين القانونية وفقًا للثابت بمحضر جلسة حلف اليمين المؤرخ 14/10/1984 – تطبيقًا للمادة 139 من قانون الإثبات.
- عن الموضوع :
أولاً: تعريف بالكتاب موضوع الفحص:
1- يقع الكتاب في 159 صفحة من القطع المتوسط - وعنوانه: " خواطر مسلم في المسألة الجنسية " - بقلم محمد جلال كشك - وجاء في الإهداء:
" قالوا يأتي أحدنا شهوته فيثاب عليها ؟ قال نعم .. " الحديث - صلوات الله عليه وسلامه.
ــــــــــــــــ
-217-
وأورد المؤلف في خطبة الكتاب أن هذا بحث سيقول القارئ المحب – ما كان أغناه عنه – وسيقول المتربّص: هذا هو الباحث عن حتفه بظلفه – وأن من أراد أن يحاسبه، فليحتكم للقرآن والسنّة والسولك الإسلامي - وأنه قد إلتزم غاية الجهد في استنباط الأدلة من هذه المصادر الشرعية - وأنَّه ما قصد إلا مرضاة الله، وخدمة المسلمين.
( أضاف المؤلف أنَّه إذا كان من الخطأ النظر للإنسان كظاهرة جنسية فقط كما يفعل تجار الجنس وفلاسفة الغرب، فإنَّه لخطأ أكبر أن يُنظر للجنس كظاهرة جنسية عارضة أو» عيب أو دنس ولا يجوز الاهتمام به -وأن هذا ليس من دينا ولا من حصارتنا - ومع أنَّ ألمسألة الجنسية تشغل بال الشباب - فهي من المحرمات – يحوم حولها الكتاب ولا يقتربون منها - وخامة الإسلاميين - تاركين لأعداء الإسلام وأعداء حضارتنا الفرصة لينشروا مفاهيمهم - ويزوعوا سمومهم في عقول وقلوب الشباب المسلم الذي لم يعدْ يعيش لا في سلوك إسلامي، ولا في فكر إسلامي.
وأضاف المؤلف - أنه إذا كانت الآراء التي طوحها في موضوع العادة السرية، والجنس بغير الجماع والزنا تُعدّ جريئه - إلا أنّ ما طرحه في باب الشذوذ الجنسي يُعتبر جديدًا بالإضافة إلي جزء صغير في موضوع الزنا - وهو القول بأنَّ الرجم ثبت سنة وليس في القرآن - وأنَّ البحث يتركّز في موضوع الشذوذ الجنسي الذي، يقرر المؤلف أنَّه طرحه في إطار المواجهة الحضارية الأبدية بين الشرق والغرب وأنَّ هذه المواجهة هي شغله الشاغل، لأنه ينظر للإسلام كفلسفة وهوية وشخصية الحضارة الشرقية – والكلمة الأخيرة في مواجهة هذه الحضارة مع أوروبا أو الغرب - فمنذ الصراع الفارسي - الإغريقي - بدأ الصراع بين شرق وجنوب البحر الأبيض من ناحية - وغرب وشمال هذا البحر - ثم بدأت الدائرة تتسع، وتمد كل جبهة خطوطها من وراءها ومن حولها .. إلى أنْ جاء الإسلام وانتصر الشرق
ــــــــــــــــ
-218-
على الغرب سبعة قرون أو ثمانية - ليعود الغرب فيكر على الشرق كرّة ما زلنا نعيش في آثارها.
وأورد المؤلف أنَّه عالج موضوع الشذوذ الجنسي في إطار هذه المواجهة لأنّه توصّل إلى رأي يخالفه فيه كثير من الباحثين - وهو أنَّ هذه الظاهرة - عندما تخرج من الإطار الفردي لتصبح " فاحشة " علي مستوي المجتمع - إنّما يحدث ذلك في مرحلة الأفول الحضاري - بعكس مرحلة التحرّر أو النهوض الحضاري حيث تصبح أبشع جريمة - وأنَّه لا يمكن أنْ ينهض مجتمع ويتحرّر وهذه الفاحشة شائعة فيه، كما لا يمكن أنْ تنجو منها حضارة عندما تنتصر وتدخل مرحلة فسق مترفيها.
كما أورد المؤلف أنَّه يرى أنَّ غلمان الجنة أو ولدانها هم لمن عفّ وتطهّر في الدنيا - وأنَّه علي استعداد للمناقشة والمراجعة لمن جاء بأدلة مناقضة - تستند للقرآن والسنة، وأضاف أنَّه لا يزعم أنَّه مجتهد في الإسلام، ولا أنَّ ما أورده هي مفاهيم إسلامية، وإنّما هي خواطر مسلم أو تفكير مسلم بصوت عال - دعوة للتفكير - مذكرات تحضيرية يستعين بها " المجتهد " إن شاء الله في تشريع الأحكام - وأنَّه يُمكن اعتبارها مجرد أسئلة مطروحة عند أعتاب المجتهدين والأئمة والمنشغلين بالعمل الإسلامي - وأنه. المؤلف - قد بلغ من العمر عتيًا - واشتعل الرأس شيبًا - ويخاف من انحرافات الموالي - ولم يبق ما يخشاه ولا من يرجوه سوى الواحد القهار .. نسأله المغفرة والعفو ..
2- وقد قسم المؤلف كتابه إلى ستة أقسام :
تكلم في أولها عن اللذة للذة - وتكلم عن النظرة الإسلامية للجنس والنظرة المسيحية - وعن دين الفطرة وتدين أهل الحرفة - وهل الجنس هو ثمرة الخطيئة - وأنَّ إظهار اللذة مسموح به دينيًا - وأنَّه لا قيد فى المتعة الحلال.
ثم تناول في القسم الثاني الموقف من المرأة - مقررًا أننا علمنا أوروبا
ــــــــــــــــ
-219-
احترام المرأة - وأنَّ السيدة مريم هدية المسلمين للعالم المسيحي.
ثم تكلم في القسم الثالث عن الزنا - مقررًا أن فيلسوف الكنيسة يقرّ البغاء - كما تكلم عن تدخل الكنيسة في فراش الزوجية - ثم تكلم عن الزواج في الإسلام - وعن ماوراء الأمراض السرية - وعن الرجم في الإسلام ولماذا نسخه الله.
وتكلم بعد ذلك عن الجنس من اظاهر - وأنواع الجنس الأخري: جلد عميرة - التفخيذ - المصّ - الوطء في الدبر - الجماع في فترة الحيض.
ثم تكلم عن اللواط والإشتهاء الجنسي لنفس النوع - وهل هو ظاهرة طبيعية أم سلوك دخيل علي النفس البشرية - وعن العلاقة بين تلك الظاهرة وأفول الحضارات - وعن المجتمع المصري الفرعوني وظاهرة اللواط – وأن اللواط من علامات النبل وامتيازات التفوق عند الغغريق والرومان - وعن الحب الأفلاطوني - وعن اللواط عند الرومان.
ئم تكلم عن نهضة أوروبا واللواط - وعن الاستجابة الناجحة للتحدّي الإسلامي - وعن تفشي اللواط في الأندلس المسلم - وعن المواجهة الحضارية في اللواط - وعن اللواط في الأدب العربي - وعن أوروبا واللواط.
وتكلم المؤلف في القسم السادس والأخير - عن الولدان المخلدين - وعن القرآن وقصة لوط - وعن النتائج الإجتماعية والحضارية للواط - وأنَّه لا حدّ علي اللواط - ولماذا كان وعده - سبحانه وتعالي - بالولدان المخلدين في الجنة - وأنَّ اللواط من أبشع الخطايا في الإسلام - وأنَّه قد ثبت علميًا - أخيرًا - أنَّه يسبب انتشار مرض خاص يسمى الإيدز - يقضي علي المناعة الطبيعية للجسم مما يتحتم الموت أمام أي تحدّ داخلي أو خارجي.
ــــــــــــــــ
-220-
وقرّر المؤلف أنَّ نظريته أن هذه الظاهرة تُصاحب أو تسبب فقدان المناعة الحضارية للأمم مما يسهل القضاء عليها.
وأن من حكم شهوته - وصان عفته في الدنيا - فإن جزاءه في الآخرة هو التمتع بالحور العين والولدان المخلدين حسبما تشتهي نفسه منهما.
ثانيًا:
ملاحظات الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر واعتراضات السيد مؤلف الكتاب عليها.
أ - تخلص ملاحظات السيد مدير عام إدارة البحوث على الكتاب موضوع الفحص - في تقريره غير المؤرخ - والمرفق بملف الدعوى - فيما يلي:
1- أنّ المؤلف أورد في الصفحة ( 9 ) من كتابه أنّه توصّل إلى رأي حول غلمان الجنة وولدانها وهو أنَّ الاستمتاع بهم لمن عفّ عنهم وتطهر في الدنيا.
2- عدم دقة المؤلف وعدم عنايته في نقل النصوص القرآنية - علي التفصيل الذي أورده السيد المدير في تقريره المرفق بأوراق الدعوى - وذلك في الصفحات 13،75،114،115- من الكتاب موضوع الفحص.
3- أن المؤلف حاول في الصفحات 12، 13 من كتابه جاهدًا إيهام القاريء بأنَّ الكبائر تنحصر في ثلاث نقط هي الإشراك بالله وقتل النفس والزنا - مستندًا إلى بعض النصوص التي جمعت الكبائر الثلاث في آية واحدة - ويقول ( المؤلف ) أنَّ المسلمين عرفوا هذه الكبائر الثلاث ولكن المحترفين لا يرضيهم هذا فأوصلوا الكبائر إلي سبع وجعلوه حديثًا - ومصدره أبو هريرة - وهو بهذا - فيما يراه السيد المدير - يطعن في الأحاديث الصحيحة دون سند - علي حين أنَّ المؤلف - فيما يراه تقرير المدير - يصدق الخرافات التي يحكيها في كتابه عن عاثشة بنت طلحة التي نخرت نخرة أثناء وطء زوجها لها - نفر منها مائة من إبل الصدقة ولم تجتمع حتى اليوم.
ــــــــــــــــ
-221-
وكذلك الشأن في تسليم المؤلف بترهات وبأكاذيب يكذبها الواقع التاريخي كما في قصة وساطة أبي بكر رضي الله عنه بين الجارية التي أحبت محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب ( ص 46) فسعى حتى أعتقها وزوجها منه.
4- كما نسب في ص 46 من المؤلف إلي الخلفاء والفقهاء الإفتاء بأن الرجل إذا شرط مبلغًا من المال أو شيئًا في مقابل وطء المرأة فلا حدّ للزنا ولكنه زواج - فقد أعطاها أجرها وقبلت هي - وأن الفكرة أن الزواج عرض وقبول من طرفين ليس بينهما مانع شرعي وما عدا ذلك فهو طقوس لا أهمية لها.
5- وأن الزنا الذي يحاربه الإسلام ويركز عليه هو الزنا الذي يتم بين شخصين يستحيل زواجهما - وكأن الزنا بغير المتزوجة أمر هين يتسامح الإسلام في الإقدام عليه.
6- وأن المؤلف يرى أنَّه إذا كان الاستمتاع بالمرأة الأجنبية في ما دون الفرج فإنه لا يوجب الحدّ المقرر لعقوبة الزنا وإنْ اقتض التعزير - كما رأي المؤلف أنَّه لا يظن أنَّ الشباب يتجاوز هذا الحدّ في خلواته السريعة المختلسة - فما من سبب يحول دون إتمام الزواج ولو فيما بينهما - ويري السيد المدير أنَّ هذا التعليل من المؤلف أشد ما يكون بالإغراء على مزاولة الوطء مع الأجنبية.
7- تعريض المؤلف بكذب نسبة بعض الأحاديث إلي رسول الله – ص - مع ورودها في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
8- وأنَّ المؤلف حاول في الصفحات 55 ، 56 ، 57 تقرير أنَّ عقوبة الرجم للزاني المحصّن لم تثبت في الإسلام لورودها في السة دون القرآن - مع أنَّ عقوبة الرجم في هذه الحالة ثابتة بالسنة بالإجماع - والثابت بالسنة المتواترة كالثابت بالقرآن.
9- وأنّ كلام المؤلف في ص 60،61 يوحي بإباحة العادة السرّية دون قيود أو حدود - وأنَّ المؤلف أورد في كتابه أنه لا يحق للمشرع اليوم أنء يقضي
ــــــــــــــــ
-222-
بإعدام من يكفر بهود أو صالح أو حتي بمحمد صلوات الله عليهم أجمعين - مطلقا القول دون تفريق بين كافر أصلي وبين مرتد عن الإسلام - وأنَّ هذا منه إباحة للردّة وإسقاط لحقها المقرر شرعًا.
10- في ص 152 يذكر المؤلف أنَّ حدّ الزنا مقترن بالإحصان – وهذا صحيح كما يقرّر السيد المدير - ولكنه باطل إن أراد حدّ الجلد - كما يري المؤلف - أنَّ اللوطي لا يمكن أنْ يكتمل فيه شرط الإحصان ولو تزوج زواجًا صحيحًا - وهذا مخالف لما يراه الفقهاء.
ثم انتهى تقرير السيد مدير إدارة البحوث والتأليف والترجمة إلي عدم صلاحية الكتاب للنشر والتداول - وأشار بالتحفظ على جميع النسخ المطبوعة منه تمهيدًا لاتخاذ الجهات المسئولة الخطوات اللازمة والقانونية نحوها ومصادرتها - ورفع الأزهر إلي نضيلة الدكتور الأمين العام للمجمع للتفضل بالنظر فيها.
11- كما تقدم السيد / عبد الظاهر عبد الكريم - مدير التفيش السابق بالأزهر - الذي أعاد فحص الكتاب موضوع الدعوى - بتقرير مؤرخ 14/5/1984 ردّد فيه بعض المآخذ التي أوردها تقرير السيد مدير الإدارة - على النحو الذي سبق تفصيله - ولكنه انتهى في تقريره - المرفق بالملف - أنه رغم هذه المآخذ فإنَّه لا يوصي بمنع الكتاب عن التداول - ولكنه يوصي بعرض هذه المسائل علي كبار العلماء.
فقد رد السيد المؤلّف علي ملاحظات إدارة البحوث بمذكرته ( 4 دوسيه ) - وتخلص فيما يلي:
1- أن ما أورده في كتابه عن الاستمتاع بالولدان في الجنة - إنّما هو للذين عفوا وصانوا أنفسهم عن الفاحشة في الدنيا - وأنّ مجال إعمال القوانين إنّما هو في الدنيا لا في الجنة.
ــــــــــــــــ
-223-
وأنه يأمل من عدل الله ورحمته أنْ يجازي من عف وصان نفسه عن الفاحشة في الدنيا - ولا قيد علي إرادة الله وعطاء الرحمن في الآخرة.
وأنه إنما قرر تحريم الإسلام للواطة في الدنيا - حيث مجال القوانين.
2- وأنه إذا سقط منه سهوُا ونسيانًا بعض الأخطاء المطبعية فى الآيات القرآنية - فإنَّه أمر غير مقصود.
وأضاف السيد المؤلف - أنّه يتعهد لعدالة المحكمة بإضافة صفحات تصويب لهذه الأخطاء المطبعية فى نهاية الكتاب أو أي اجراء تراه لتنبيه القراء لهذا الخطأ، الذي نستغفر الله منه.
3- أمّا عن محاولة التشكيك في الأحاديث فإنَّه أمر - قرر السيد المؤلف - أنه لا يفعله ولم يفعله - مع إجماع الفقهاء على أنَّ ثمة أحاديث نبوية غير مقطوع بصحتها - وأنَّ الأحاديث المجمع على صحتها ستة آلاف والمدونة ستمائة ألف.
وأما عن تصديق الخرافات - فإنَّ ما أورده عن أنَّ إبل الصدقة نفرت قد ورد في كتب الأدب العربي - كما وردت فيه قصّة الجارية التي زوجها أبو بكر والتي لم ينفها قول ثابت في تقرر إدارة النشر.
وأما بالنسبة لما ورد في ص 41 من الكتاب موضوع الفحص - عن شهود عقد الزواج - فقد ورد عنه في ص 42 قول المؤلف " ويستطيع أي رجل وامرأة أنْ يتزوجا إما بالشهود أو بالإعلان أو بهما معًا - وبالتالي - كما يقول السيد المؤلف - فإنَّه لا محل لاتهامه بإلغاء الشهود أو الإعلان - كما أضاف المؤلف أنَّه خصّص الصفحات من 47 إلي 48 لإثبات ضرر الزنا وتحريمه بشكل عام بين المتزوجين وغير المتزوجين - وأنَّه إنّما قال بأنّه ليس ثمة مبرّر واحد لكي يزني المسلم والمسلمة بلا استثناء - كما أنَّه قال في ص 15 و 16: وباختصار - إذا كان أبشع الزنا هو الزنا بين المتزوجين - فإنَّ الزنا عمومًا يحمل شرًا خطيرًا.
ــــــــــــــــ
-224-
وأن المؤلف إنّما أراد أنْ يقول لكلّ فتى وفتاة - لماذا الزنا والزواج متاح - وأضاف المؤلف أنَّه أورد في صفحة ( 54 ) أن عقوبة الزنا هي الرجم والجلد الأولى بالسنة والثانية بالقرآن.
أما الحديث عن قوم صالح فلم يكن فيه مجال للكلام عن الردّة حتى يصح ما ورد بالتقرير في هذا الخصوص.
وأما جريمة اللواط - فقد قرّر السيّد المؤلّف في مذكرته أنَّه قرّر في كتابه أنَّ الإسلام لم يفرض حدًا للواط وتركه للمشرّع الذي وصل في تشديد العقوبة في عهد أبي بكر إلى حدّ الحرق حيًا.
وانتهى السيد المؤلف في مذكرته إلي طلب رفض المصادرة - ورفع التحفظ عن الكتاب موضوع البحث.
ثالثًا: إطار البحث الماثل:
في نطاق المهمة المحددة بالحكم الصادر من المحكمة الموقرة بجلسة 22/7/1984- ترى اللجنة - بادي الرأي _ تبيان ما يلي:
1- تنص المادة ص 47 من الدستور علي أنَّ: " حرية الرأي مكفولة - لكلّ إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون - والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة أبناء الوطن ".
- كما تنص المادة 102 مكرر( أ ) من قانون العقوبات المضافة بالقانون 112 لسنة 1975 والمعدّلة بالقانون رقم 34 لسنة 1970 بأنه: يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسين جنيهًا ولا تجاوز مائتي جنيه - كل من أذاع عمدًا أخبارًا أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة - أو بث دعايات مثيرة - إاذا كان من شأن ذلك تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو الحاق الضرر بالمصلحة العامة.
ــــــــــــــــ
-225-
- كما يقضي قانون حماية القيم من العيب الصادر والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 15 من مايو سنة 1980 - في مادته الثالثة / 1 ، 2 بالمسآءلة السياسية علي كل من ارتكب أحد الأفعال الآتية: الدعوى التي تنطوي على إنكار للشرائع السماوية أو ما يتنافى مع أحكامها إذا تم ذلك بواسطة إحدي الطرق المنصوص عليها فى المادة ( 171 ) من قانون العقوبات - أو - تحريض النشء والشباب علي الإنحراف عن طريق الدعوة إلي التحلل من القيم الدينية أو الولاء للوطن إذا تمّ ذلك بواسطة إحدي الطرق المنصوص عليها في المادة 171 من قانون العقوبات.
2- جاء في كتاب فتح القدير ج 4ص 149: ومن شبهة العقد ما إذا استأجرها ليزني بها ففعل - لا حد عليه ويعزر -
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك - يُحدّ - لأنَّ عقد الإجارة لا يستباح به البضع - فصار كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زني بها فإنَّه يُحدّ اتفاقـًا.
أما أبو حنيفة فقد ذهب إلي أنَّه لا يُحدّ في هذه الحالة - لأنَّ المستوفي بالزنا المنفعة وهى المعقود عليه في الإجارة لكنه في حكم العين -.
- وجاء في كتاب مغنى المحتاج للشافعية ج 4 - ص 146: وبحد في وطء مستأجرها للزنا - لإنتفاء الملك والعقد - وعقد الإيجار باطل.
وعن أبي حنيفة أنه لا حدّ لأن الإجارة شبهة - وعورض بأنّها لو كانت شبهة ثبت النسب – ولا يثبت إتفاقـًا.
وجاء في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 10 ص 94 : إذا إستأجر امرأة لعمل شئ فزني بها - أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك - أو زني بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها - فعليهما الحد - وبه قال أكثر أهل العلم - وقال أبو حنيفة لا حدّ عليها في هذه المواضع.
ــــــــــــــــ
-226-
- وجاء في حاشية الدسوقي علي شرح الدردر للمالكية ج 4 ص 313: أو إتيان حرّة أو أمة مستأجرة أجرّت نفسها أو أجرّها وليها أو سيدها لوطء أو غيره - كخدمة - فيُحدّ واطئها المستأجر - ولا يكون الاستئجار شبهة تدرأ عنه الحدّ - ومن هذا يستبين أنَّ من عدا الإمام أبي حنيفة من فقهاء الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة يرون وجوب الحدّ على الزاني. في حالة الإستئجار للزنا - دون اعتبار لعقد الإجارة الذي لا يكون شبهة تسقط الحدّ -.
_ وقد أخذت اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية بالأزهر - واللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية بوزارة العدل - ولجنة العقوبات بمجلس الشعب – بهذا الرأي الأخير - في مشروعات القوانين التي أعدتها - وذلك عملا بالقول الأقوي حجة - وسدًا لذرائع الفساد في هذه الجريمة التي قد يحتال علي ارتكابها بمثل هذه الحيلة - ومن ثم فإنَّ ما ذهب إليه المؤلف في هذا الخصوص مردود بما ثبت من إجماع الأئمة علي رفضه عدا الإمام أبي حنيفة - وذلك لصحة الأدلة التي استند إليها باقي الأئمة وقوتها في الاثبات.
3- أما عن حدّ الزنا بالنسبة للمحصن ذكرًا أم أنثى - فإنَّ أئمة المسلمين قد أجمعوا علي أنَّ حدّه هو الرجم حتى الموت - ويرى بعض أهل الظاهر - وهو قول لإسحق وأحمد في إحدي الروايات عنه أنَّ يجلد مائة جلدة ثم يُرجم - ولكن بعض الخوارج يرون أنَّ حدّه الجلد فقط - وأنكروا مشروعية الرجم -.
- والرجم للزاني المحصن ثابت بفعل رسول الله – ص - وقوله - رواه جمع كبير من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعلي وجابر وأبو سعيد الخدري وغيرهم - ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الخوراج الذين يرون أنَّ حدّ الزنا مائة - للمحصن وغير المحصن علي السواء - وينكرون الرجم لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن في حد التواتر - وإنكار الخوارج الرجم باطل لأنَّهم أنكروا إجماع الصحابة -.
ــــــــــــــــ
-227-
- واستدلال الخوارج بأنّض الآية: " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ " (سورة النساء 25) - جعل الله فيها للنساء نصف حدّ المحصنات من الحرائر - والرجم لا ينتصف فلا يصح أنْ يكون حدًا للمحصنات من الحرائر - وأنَّ قوله تعالي: " الزانية والزاني " يقضي بعمومه وجوب الجلد لكل الزناة وإيجابه علي بعضهم يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد - وهو غير جائز في مذهبهم إلا إذا بلغ الخبر حدّ التواتر.
- وأجاب الجمهور علي الأولي بأنَّ المراد من المحصنات في قوله تعالي: " فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ " - الحرائر - وهي نوعان - ثيبات وأبكارًا - وحدّ النوعين علي التوزيع الرجم وجلد مائة - ولما كان الرجم لاينتصف - كان العذاب مخصوصًا بغير الرجم بالدليل العقلي - وكان الرجم غير مشروع في حق الأرقاء. وعن الثاني - بأنَّ الأحكام كانت تتنزل بحسب تجدد المصالح - فلعل المصلحة التي اقتضت الرجم حدثت بعد نزول هذه الآية - وكفي بالسنّة بيانًا وتفصيلاً - وعن الثالث - بأنَّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد عندنا جائز - لأنَّ اللفظ العام في القرآن – وإنْ كان قطعيًا في ثبوته ظنيًا في دلالته فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون - وأنَّ الرجم ثبت عن طريق التواتر لا عن طريق الآحاد - فهو علي الأقل متواتر المعني - فهو واجب الإتباع.
وفي محاورة لعمر بن عبد العزيز مع بعض الخوارج سألهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه - عن عدد الركعات ومقادير الزكاة - هل وردت في القرآن - فقالوا: ذلك من فعل رسول الله – ص - وفعل المسلمين - فقال لهم: وهذا أيضًا كذلك.
- يُراجع في تفصيل ذلك:
1- في مذهب الحنفية: كتاب المبسوط للإمام السوخسي ج 9 ص 36 طبعة سنة 1324هـ ؛ وكتاب فتح القدير ج 4 ص 121 - الطبعة الأولي ؛ وفي مذهب الشافعية -: كتاب حاشية الجمل على شرح المنهج ج 5 ص 131 – وكتاب الأم للإمام الشافعي – ج7 ص261 – طبعة مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1961م؛ وكتاب مغني المحتاج ج4 ص 146 ج7 ص401.
ــــــــــــــــ
-228-
2- وفي مذهب المالكية - كتاب حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للعلامة الدردير ص 277،ص 278؛ وكتاب بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص 360 - طبعة صبيح.
3- وفي مذهب الحنابلة - كتاب المغني لابن قدامة ج 7 - ص 157و 158 طبعة المنار؛ وكتاب الإقناع للمقدسي ج 4 ص 250 - طبعة المكتبة التجارية الكبرى - هذا - وقد أخذت اللجان المشكلة بالأزهر ووزارة العدل ومجلس الشعب لتقنين الشريعة الإسلامية - برأي الأئمة وطرحت الرأي الذي انفرد به الخوارج في هذا الخصوص - ومن ثم فرأي المؤلف في هذا الكتاب - مردود بما سلف بيانه.
4- وأمَّا عن اللواط:
لقد رأت اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية بالأزهر في مشروعها - الأخذ برأي مالك والشافعي في المشهور عنه - وأبي يوسف ومحمد - من أن يكون حكم اللواط هو حكم الزنا - مخالفة في ذلك رأي أبي حنيفة الذي يري - بأنَّ اللواط وإنْ كان جريمة - لكنها ليست من الزني - علي حين أخذت اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية بوزارة العدل – في مشروعها - برأي أبي حنيفة في هذا الخصوص - لأنَّ أهل اللغة - فصلوا بين اللواطة والزني - ولكنها لم تشترط فيه الاشتهاء في المزني بها - حسبما ذهب إليه الحنفية - لتعذر الوقوف علي حقيقة معني الإشتهاء - إذ أنَّه أمر نسبيّ يختلف فيه الناس باختلاف ميولهم وأمزجتهم - وذلك أخذًا بالمذاهب الفقهية الأخري عدا مذهب الشافعية ممن لا يشترطون هذا القيد.
وقد سايرت لجنة العقوبات بمجلس الشعب في مشروعها - ما ذهبت إليه لجنة
ــــــــــــــــ
-229-
وزارة العدل - وأخذت برأي الحنفية - ولم تأخذ برأي المالكية والحنابلة وبعض الفقهاء من اعتبار اللواط زنا موجبًا للحدّ - ومن ثم عرّفت المادة / 116 من المشروع الزنا بأنَّه يُقصد به كل وطء بين رجل وإمرأة بالغين في غير زواج صحيح ولا شبهة فيه.
ويرى أبو حنيفة أنه ليس في اللواط حدّ - بل فيه تعزير.
( راجع كتاب ابن عابدين ج3 ص 130 - سبيل السلام لابن حجر ج 4 ص 1887 - نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص ،7» 98، 99).
وحين أخذت لجنة العقوبات بمجلس الشعب في مشروعها برأي أبي حنيفة - للأدلة التي آثرت الأخذ بها - فإنّها أخذت أيضًا بعقوبة الجلد تعزيرًا فنصّت في المادة 132 من المشروع بتوقيع عقوبة الجلد تعزيرًا 40 جلدة فضلاً عن الحبس - إذا كان اللواط بالرضا، 80 جلدة فضلاً عن العقوبات التعزيرية الأخري – في بعض الحالات المنصوص عليها في هذا المشروع.
رابعًا: رأي اللجنة:
- وعلى ضوء ما سلف - فإنّض اللجنة تضع في اعتبارها - وهي بصدد إبداء رأيها في موضوع المهمة التي ندبتها المحكمة لها. هذه الحقائق الثابتة من الأوراق المطروحة عليها:
1- أنّ تقرير السيد مدير عام إدارة البحوث - قد قال صوابًا بالنسبة لما قرره عن الأخطاء التي وردت في الكتاب موضوع الفحص في النصوص القرآنية - ووجوب تصويبها - وقد صادقه السيد المؤلف علي أنَّ ثمة أخطاء مطبعية وردت في بعض النصوص التي أوردها في كتابه - وأعلن في مرافعته أمام المحكمة وفي مذكرته المقدمة إليها بأنّه يعد المحكمة بمراجعة جميع الآيات التي وردت بالكتاب آية آية - وأنَّه يتعهد لعدالة المحكمة بإضافة صفحات تصويب لهذه الأخطاء المطبعية في نهاية الكتاب أو أي إجراء تراه لتنبيه القراء لهذا الخطأ الذي يستغفر الله منه ( ص 3 من المذكرة ).
ــــــــــــــــ
-230-
ومن ثم فإن اللجنة تري بادي الرأي - أنء تعرض علي المحكمة الموقرة - أن تأمر المؤلف بإعداد صفحات في آخر الكتاب - بتصويب هذه الآيات بعد مراجعتها - والإشارة إلي ذلك في أوّل الكتاب قبل تداوله - وذلك إذا أذنت المحكمة الموقرة برفع التحفظ عن الكتاب موضوع البحث ورفضت طلب مصادرته.
2- أن مؤلف الكتاب قد أفصح في مقدمته عما توخاه منه – وأنه ما قصد منه إلا مرضاة الله وخدمة المسلمين.
كما أوضح أنّض ظاهرة الشذوذ الجنسي عندما تخرج من الإطار الفردي لتصبح " فاحشة " علي مستوي المجتمع إنما تحدث في مرحلة الأفول الحضاري - بعكس مرحلة التحرر أو النهوض الحضاري - حيث تصبح أبشع جريمة – وأنَّه لا يمكن أن ينهض مجتمع ويتحرر - وهذه الفاحشة شائعة فيه - ومن ثم فإن المؤلف يرى أنها ظاهرة انقراض حضاري ص 73 - سلمت منها الحضارة الفرعونية في أيام نهضتها - بدلالة القرآن الكريم حين يقرر أن قوم لوط لم يسبقهم إلي هذه الموبقة أحد من العالمين - وقد سبق المصريون أيام نهضتهم قوم لوط في الوجود الحضاري - كما لم تعرفها الأمة الإسلامية أيام الجهاد الأوّل مع الرسول – ص - ومع الخلفاء الراشدين - وإنما عرفتها الدولة الإغريقية والدولة الرومانية والدولة العربية في المشرق والمغرب أيام أفول شمس الجهاد - والانحلال الحضاري - وأيًّا من كان الشخص الذي يُعزى إليه هذا الانحراف السلوكي لو ثبت عليه - فإنه مسلك يشينه ويستوجب عقابه في الدنيا والآخرة.
وسواء كان العقاب الدنيوي تعزيرًا أو حدًا - فإنَّ ذلك موضوع للجدال الفقهي - علي النحو الذي فصلته اللجنة في تقريرها فيما سلف عن العقوبة - فلا تثريب علي الكتاب موضوع البحث إذا تناول هذه الآراء بالشرح من وجهة نظرة التي لا تعدو أن تكون ترديدًا لبحث موضوع العقاب عن هذه الخطيئة الشائنة
ــــــــــــــــ
-231-
المستقذرة - هل هو الحد كالزنا أو التعزير كما ذهب إلي ذلك بعض الفقهاء طالما أنه لا يدعو إاليها أو يقول بعدم العقاب عليها أصلاً - ولا يبدو من جملة ما ورد بالكتاب أنَّ المؤلف قد قصد إلى استمراء هذه الفاحشة المدمرة للعباد والبلاد على حد سواء -_ ما دام مسلمًا.
- أما الاستمتاع بالولدان المخلدين في الجنة لمن عفّ في الدنيا – علي هذا النحو أو ذلك - فإنه رجم بالغيب لا يعلم حقيقته إالا الله - ولا يملك من ينفي أو يثبت - دليلاً حاسمًا في هذا الموضوع يصح التعويل عليه في القول بتأثيم من يخالفه شرعًا وقانونًا - والعلم به لا يزيد من علم الجاهل بما يفيده في دنياه وآخرته - كما وأن الجهل من علم العالم بما يفيد في هذا الخصوص – والجدل فيه عقيم - والخوض فيه غير مجد - وإن كان يحسن النظر في متاع الآخرة علي ضوء ما قرره العليم الخبير - من أنَّ خمرها لا غول فيها ولا تأثيم.
- كما وأنَّ ما جاء بالكتاب موضوع البحث والرد عليه عن الزنا بالمستأجرة - وما إذ كان شبهة دارئة للحد أو أنه يعتبر زنا موجبًا للحدّ - قد سلف تفصيل آراء أئمة العلماء فيه على النحو المبين في هذا التقرير - فقد رأى أبوحنيفة أنَّ شبهته دارئة للحد ورأى باقي الأئمة والفقهاء والعلماء المحدثين أنَّه ليس كذلك - وهو ما أخذت به جميع اللجان المؤلفة لتقنين الشريعة الإسلامية علي النحو الذي سلف بيانه - وإن كانت مناقشة المؤلف للرأي المرجوح لا تثريب عليها.
- وأما عن الاستمتاع بالمرأة الأجنبية في ما دون الفرج - فإنَّ كل ما أورده المؤلف بشأنه أنَّه لا يوجب الحد المقرر لعقوبة الزنا - وإن اقتضى التعزير - وهذا الرأي لا يخالف في شيء رأي جمهور الفقهاء في تعريف الزنا الموجب للحد وشروطه - وما أخذت به اللجان المؤلفة لتقنين الشريعة الإسلامية في هذا الخصوص علي النحو الذي سلف بيانه في هذا التقرير.
ولا حجة في القول بأن ما أورده الكتاب موضوع الفحص عن باقي
ــــــــــــــــ
-232-
الملاحظات أشبه ما يكون بالإغراء بفعل المحرمات - فإن الأحكام لا تبنى إلا على الحقائق الثابتة - وليس مجالاً للفروض الظنية ولأن يخطىء الحاكم في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة كما هو معروف - فضلاً عن أنَّه يتعين درء الحدود بالشبهات - ولأنَّ الأصل هو صلاح الحال.
خامسًا: كلمة أخيرة:
- من منطلق ما أورده السيد المؤلف - فى مستهل خطبة كتابه موضوع الفحص ص 7 - فإننا نقول مع من قال: ما كان أغناه - ولعله إنما أراد أن يعرض أمام الشباب بأسلوب جذاب - ما شاء أنْ يعرضه من آراء - تدعو إلى الحضّ على الزواج المشروع طالما أنَّ الشرع قد يسّر السبيل إليه - وتحمّل آثار كل عمل قد يقدمون عليه - حتى لا ينحدروا إلى الهوّة التي إنحدر إليها المترفون الفاسقون - فيدمروا تدميرًا.
كما ترى اللجنة أنْ تدعو السيد المؤلف - إلى مراعاة التحرز عند الكلام عن أخبار العلماء والصالحين - والتثبت قبل نسبته بعض ما لا يليق بهم إليهم - والله من وراء القصد وهو الهادي إلي الصراط األمستقيم.
سادسًا: النتيجة:
ولما كان قد خلص للجنة من كل ما سلف - وفي نطاقة المهمة التي اسندتها المحكمة الموقرة إليها - عن كتاب " خواطر مسلم فى المسألة الجنسية " - بقلم الأستاذ: محمد جلال كشك - موضوع الفحص –
1- أن هذا الكتاب - قد شابته بعض الأخطاء في نقل بعض النصوص القرآنية - علي النحو المبيّن في الفقرة الأولى من البند رابعًا من هذا التقرير - ومن ثم ترى اللجنة - أن تعرض علي المحكمة الموقرة - أن تأمر المؤلف بإعداد صفحات في آخر الكتاب - بتصويب الآيات القرآنية التي شابتها بعض أخطاء - مع الإشارة في أول الكتاب إالى ذلك - قبل تداوله - وذلك إذا أذنت
ــــــــــــــــ
-233-
المحكمة الموقرة برفع التحفظ عن الكتاب موضوع البحث - ورفضت طلب مصادرته.
2- ترى اللجنة - أنَّ الكتاب موضوع الفحص - بعد التصويب المشار إليه في البند السابق - لا اعتراض عليه من ناحية رفع التحفظ عنه ورفض طلب مصادرته - مع الإفراج عنه بعد التصويب -
هذا:
والرأى الأعلي للمحكمة الموقرة
والله ولي التوفيق
أعضاء اللجنة
د/ حسين عبد المجيد هاشم.
المستشار/ عبد العزيز هنديز
الشيخ/ عطية صقر.
ــــــــــــــــ
-234-
باسم الشعب
محكمة جنوب القاهرة الابتداية
بالجلسة المنعقدة علنًا بسراي المحكمة في يوم الإثنين الموافق 13 / 5/ 1985 برئاسة السيد الأستاذ / مصطفى جمال الدين رئيس المحكمة
وعضويه السيد الأستاذ / عبد السميع شرف الدين وكيل أول نيابة أمن الدولة العليا وبحضور السيد / أمين كامل أمين السر
صدر الحكم الآتي
في القضية المقامة من نيابة أمن الدولة العليا
ضد
الأستاذ / محمد جلال كشك
المقتيدة رقم 322 لسنة 1984 حصر أمن دوله عليا
المحكمة
بعد سماع المرافعة والإطلاع علي الأوراق
حيث أن وقائع الدعوى تخلص فيما أثبته السيد النقيب / السيد ابراهيم اسماعيل بمباحث أمن الدوله في محضره المؤرخ 5 / 7 / 1984 الساعة العاشرة صباحًا من أنَّ إدارة البحوث والنشر بالأزهر الشريف أخطرت بأنَّ كتاب " خواطر مسلم في المسألة الجنسية " للكاتب الأستاذ / محمد جلال كشك بالمطبعة الفنية 32 شارع
ــــــــــــــــ
-235-
الشقفاية بعابدين غير صالح للنشر والتداول .. لعدم دقة المؤلف في نقل النصوص قرآنية وكتابتها مما يُعدذ تحريفًا للآيات القرآنية بالإضافة إلي أنَّ المؤلف يطعن في الأحاديث الصحيحة دون سند ويحاول التشكيك فيها بتصديق الخرافات التي يحويها كتابه .. ويردد المؤلف بأنّ عقوبة الزنا لم تذكر في القرآن في حين أنها ثابتة بالسنة وبالإجماع وقد طلبت إدارة البحوث والنشر بالأزهر إتخاذ الإجراءات القانونية لمصادرة الكتاب وتم إخطار المطبعة للتحفظ علي النسخ المطبوعة وعددها خمسة آلاف نسخة .. وقد أقر السيد المستشار المحامي العام لنيابة أمن الدولة الضبط وعرض الأمر علي المحكمة لتأييد أامر الضبط وفقًا للمادة 191 من قانون العقوبات وقد أرفق بالمحضر صورة ضوئية من البيان الصادر من الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة ببعض المآخذ على كتاب " خواطر مسلم في المسألة الجنسية ".
وحيث أنَّه لدى نظر الدعوى مثل المعروض ضده بمحامٍ عنه طلب الإفراج عن النسخ المطبوعة وقال إنّ الأخطاء في بعض الآيات غير مقصودة ويتعهد بإضافة صفحات تصحيح لها.
وبجلسة 22/ 7/ 1984 قررت المحكمة ندب لجنة ثلاثية من علماء مجمع البحوث الإسلامي وندبهم
السيد رئيس المجمع لإبداء الرأي حول الكتاب موضوع المصادرة، بجلسة 11 /3/ 1985 مثل السيد وكيل أول نيابة أمن الدولة وقدم التقرير وطلب آجلاً لإعلان المعروض ضده بالتقرير .. وقد انتهى تقرير اللجنة عن هذا الكتاب قد شابته بعض الأخطاء في بعض النصوص القرآنية ( على النحو المبين في البند رابعًا من التقرير ) ورأت اللجنة أنْ يُعدّ المؤلف صفحات في آخر الكتاب تصويب الآيات القرآنية التي بها بعض الأخطاء مع الإشارة في أول الكتاب إلي ذلك قبل تداوله في حالة رفع التحفظ عنه ورفض مصادرته .. وترى اللجنة أنَّ الكتاب موضوع الفحص بعد التصويب المشار إليه في البند السابق لا إعتراض عليه من ناحية رفع التحفظ ورفض طلب مصادرته مع الإفراج عنه بعد التصويب
ــــــــــــــــ
-236-
وبجلسة 22/ 4/ 1985 مثل المعروض ضده بمحامً معه وطلب أجلاً قصيرًا لتقديم ما يفيد تصحيح الآيات القرآنية على ضوء ما ورد بالتقرير ..
وبجلسة 6/ 5/ 1985 قدّم نسختين من الكتاب بعد إجراء التصحيح وقدم مذكرة تعهد فيها بتصويب جميع النسخ قبل التوزيع .. ثم قررت المحكمة حجز الدعوي ليصدر فيها حكم بجلسة اليوم مع مذكرات لمن يشاء إلي ما قبل الجلسة بيومين .. ولم يقدم شيء فيها
وحيث أنَّه من المقرر أنَّ حرّية الرأي مكفولة لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول، أو الكتابة في حدود القانون وبغير الحاق الضرر بالمصلحة العامة ... لما كان ذلك وكان تقرر اللجنة المشكلة من السادة علماء مجمع البحوث الإسلامية قد انتهى إلي أنَّ الكتاب " خواطر مسلم فى المسألة الجنسية " لا اعتراض عليها من رفع التحفظ عنه ورفض طلب مصادرته وذلك بعد تصويب الآيات القرآنية التي شابتها بعض الأخطاء ... ولما كان المعروض ضده المؤلف قد صحح الآيات القرآنية في النموذج المقدم منه بجلسة 6/ 5 / 1985 وتعهد بتصحيح جميع النسخ قبل توزيعها على ضوء ما ورد بالتقرير ولما كانذ هذا الكتاب موضوع الفحص وما حواه من افكار لا يتنافي مع أحكام الشريعة ولا يلحق الضرر بالمصلحة العامة ولا يدعو إلي التحلل من القيم الدينية ومن ثم فإنه تعين الإفراج عن الكتاب وإلغاء أمر الضبط إلي أن يلتزم المعروض ضده بما ورده بتقرير اللجنة المرفق من ضرورة تصويب الآيات القرآنية التي شابتها بعض الأخطاء.
فلهذه الأسباب
قررت المحكمة الإفراج عن كتاب " خواطر مسلم في المسألة الجنسية " وبإلغاء أمر الضبط الصادر بتاريخ 5 / 7/ 1984.
أمين السر. رئيس المحكمة.
حُرّرت هذه الصورة طبق الأصل من الحكم الصادر في القضية رقم 322/ 1984 حصر أمن الدولة العليا وسُلمت للطالب بناء على طلبه بعد سداده الرسم المطلوب بالقسيمة رقم 722337/14353 وقيدت بدفتر الصور تحت رقم / صور
تحريرًا في 19/ 6/ 1985.