Copyright © 2008 All rights reserved Good Way
يعلم كل عاقل أن الخير العام، وشروط العمران، وأصول التمدّن، ومبادئ الدين الصحيحة، تقضي جميعاً بالانتباه إلى ما يجمع بين النحل المختلفة مع ما يجوز من التساهل في ما يفصل بينها.
فتوحيد الله هو أعظم وأفضل جامع بين الفرق الثلاث التي أُطلق عليها اسم «أهل الكتاب». لأن اليهودي والمسيحي يجاهران به كالمسلم. ولا يرضيان بتاتاً أن يعد المسلم أشد تمسكاً منهما بهذه الحقيقة الجوهرية الأساسية التي لا بد من أن تتغلب مع مرور الزمن على كل الآراء الفاسدة القائلة بالشرك بالله.
والمسيحي المخلص مع أنه لا يشارك المسلم في الفقرة الثانية من عبارة الشهادة التي هي (أنَّ محمداً رسول الله) يضاعف (لهذا السبب عينه) اجتهاده بأن يشترك في الفقرة الأولى من تلك العبارة فيجاهر بكل قواه بأن «لا إله إلا الله» ويفتخر بأن يحبذ كل حركة إصلاحية حقيقية يقصد بها قطع دابر الشرك بالله نظير الحركة التي حدثت في زمن نشوء العقيدة الإسلامية.
أما الجامع الثاني العظيم بين فرق أهل الكتاب فإنه لم يستوف إلى الآن حقوقه من الأهمية والانتباه. وهو شخص يسوع المسيح عيسى ابن مريم وقدوته وتعاليمه. فلذلك قصدنا البحث بإخلاص تام وصراحة جلية في أمر هذا الجامع الجليل مع المسلم الأمين الغيور في مذهبه.
ومن المقرر أنه لا يجلو الحقائق غير التمحيص، كما أن وقوف المتباحثين عليها بعد تمحيصها يولد فيهم اتفاقاً جميلاً هو الضالة المنشودة في هذا العصر.
ويا ليت نتيجة هذا البحث تكون تخفيف النفور الذي يشعر به المسلم المتدين تجاه بعض القضايا المسيحية لا بل أن يزول تماماً من قلبه بواسطة إيضاح تلك القضايا. ونخصص منها ما يتعلق بشخص يسوع المسيح الذي قال يوما لمحاوريه من رؤساء اليهود.
والقول أن هذا الشخص هو جامع عظيم ثان بين فرق أهل الكتاب مبني على اتفاقها في إكرامه اتفاقاً لم يحصل لغيره من الأنبياء في كل التاريخ البشري. وهذه الفرق تجمع ليس أقل من نصف سكان العالم، وهو النصف السابق كثيراً في كل أبواب الرقي.
من المعلوم أن اليهود يعتبرون المسيح (الذي ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر) ذا مقام يفوق كثيراً مقام أعظم الأنبياء. وذلك ظاهر في كثير من آيات التوراة عندهم التي نختار منها هذه الآية:
«لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ. لِنُمُّوِ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ... مِنَ ٱلآنَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 9: 6 و7).
والمسيحيون يجلّون يسوع المسيح إجلالاً ليس ممتازاً فقط بل متفرداً ورفيعاً فوق إجلالهم أعظم الرسل والأنبياء. فإنهم يحسبونه ذات المسيح الموعود به قديماً لليهود في التوراة. وفوق ذلك يحسبونه ابن الله الوحيد. وهذا ظاهر في كثير من آيات الإنجيل التي لقوتها وغرابتها يستصعبها جداً كل من ليس مسيحياً. نخص منها ما يأتي:
«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّهَ. هذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يوحنا 1: 1 - 4).
«كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 9).
«وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً»(يوحنا 1: 14).
«إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ» (أفسس 1: 20 - 22).
«لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 10 و11).
ثم عندما نفتح كتاب المسلمين نجد أن آياته المختصة بعيسى ابن مريم تحله محلاً أرفع من سائر الأنبياء بعد محمد نبيهم الخاص. وهذا بعضها. [1]
«إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (سورة النساء 4: 171).
«إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (سورة آل عمران 3: 45).
«ذَلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ» (سورة مريم 19: 34).
«وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (سورة الحديد 57: 27).
«وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (سورة البقرة 2: 253).
«إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (سورة المائدة 5: 110).
ويتبع هذه الآيات أدلة أخرى تؤيد مقام المسيح عند المسلمين نذكر منها من الحديث النبوي ما ورد في كتاب مشكاة المصابيح المعول عليه عند مسلمي الهند خصوصاً. هذا يصور المؤمنين يلجأون يوم الدين إلى الانبياء الواحد بعد الآخر بدْءاً من آدم طالبين شفاعتهم. فيجيبهم كل نبي بدوره مستعفياً لعدم أهليته بحجة ما صدر منه من الزلات المذكورة في التاريخ الإسرائيلي لكنه يوجّههم إلى نبي آخر بعده. فحين يأتون إلى موسى يعترف بقصوره كسابقيه ويقول: «اذهبوا إلى عيسى الذي هو عبد الله ورسول الله وروح الله وكلمة الله». وأما عيسى فلا يجيبهم معتذراً لأنه لم ينسب إليه أي زلةُ بل يقول لهم: «اذهبوا إلى محمد بن عبد الله الذي قد غفر له الله أولاً وآخراً»(مشكاة المصابيح 23: 12).
والمذهب الإسلامي يعترف لعيسى ابن مريم وحده بالولادة من عذراء والانتقال من الدنيا بدون فساد الموت الجسدي في القبر. فليس له في الدنيا ضريح.
فهذا الاتفاق العجيب بين فرق «أهل الكتاب» على تكريم ممتاز لشخص المسيح هو رابط مهم جداً لا يفوقه إلا رابط توحيد الله. ومن دأبه أن يجمع بينها حباً واحتراماً.
فما بقي إلا أن نقنع اليهود بأن هذا هو مسيحهم الحقيقي، وأن يسلم المسلمون بأن الإنجيل الحاوي أخبار عيسى ابن مريم وتعاليمه هو ذات الإنجيل المصدق والمكرم في القرآن وليتمهد السبيل إلى الارتباط المتين بين هذه الفرق الثلاث المهمة التي بيدها زمام العالم.
أما الارتباط فيستلزم التفاهم أولاً. فمن الوجه الواحد يصبح المسلمون قريبين إلى التفاهم مع النصارى بالنظر إلى مقام المسيح عندهم. ومن الوجه الآخر يصبح اليهود قريبين بسبب ادغام المسيحيين توراة اليهود بحروفها بالإنجيل في كتابهم المقدس.
أما التفاهم فيستلزم إزالة الأوهام من أفكار كل فريق في ما يتعلق بما يعتقده الفريق الآخر. وهذا يوجب عل كل فريق أن يسهل للآخر مطالعة كتابه الخاص. لأنه ما دام الاحتكار في الضروريات المادية يُذمّ ويُنظر إليه في البلدان الراقية كجريمة فكم بالحري يكون الاحتكار ذميماً في الأمور الجوهرية الدينية التي يتوقف عليها الرضى الإلهي والخلاص والهلاك الأبديان. فالمسلم المحب لبني جنسه لا يرضى باحتكار كهذا بل يطلب تعميم الخير الديني الحاصل هو عليه. ثم يرغب أيضاً في أن يحصل على نصيبه من الخير الجديد الذي قد يأتيه من أبناء غير ملته.
فباعتبار الذي قال: «أنا هو نور العالم» صادقاً يتوجب علينا أن ننظر في قوله هذا بنية سليمة وبإمعان نظر لنعلم ماذا ينتج عنه. أفلا ينتج عنه أن الذي هو حقاً نور العالم هو نور العنصر الإسلامي أيضاً المحتوي على أكثر من سُبع سكان العالم.
إن المسيحي الفهيم يحفل كثيراً بالإكرام المقدم في القرآن الشريف لشخص المسيح عيسى ابن مريم وللكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل وللنصارى المعترف بإكرامهم في القرآن لكونهم من أهل الكتاب المشرفين. ويتنسم من هذا الإكرام تسهيلاً ذا بال للتوفيق بينه وبين المسلم.
قد سبق ذكر بعض الآيات القرآنية المختصة بشخص المسيح وأما المختصة بالنصارى فهذا بعضها:
«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (سورة المائدة 5: 82).
«إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي... جَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (سورة آل عمران 3: 55).
«وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُوا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (سورة الأنبياء 21: 7).
«وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (سورة الحديد 57: 27).
وفوق هذا كله يعرف كل مستنير ويعترف أن الأمانة للحق هي فوق كل أمانة سواها فلا يرضى أن يضحي بالحق في طريق المدافعة عن جماعته في خطاهم.
بناء عليه فالإنصاف يقضي على النصارى بالانتباه ليس فقط إلى آيات المدح التي أوردناها بل إلى آيات الذم أيضاً. وهذا ما نذكره منها:
«وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَى لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ» (سورة البقرة 2: 113).
«يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ... لاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ... إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة النساء 4: 171).
«لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة المائدة 5: 73).
«وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ» (سورة المائدة 5: 116).
«ٱتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ ٱللَّهِ» (سورة التوبة 9: 31).
فالمذمة الواردة في هذه الآيات تعود طبعاً إلى الانحطاط الديني في أحوال النصارى آنئذ مما جعل هذا الذم أمراً معقولاً. لأنه متى ضل شعب عن قواعده الدينية والوصايا الإلهية الواردة فيها يفقد حق الاحترام. وباتباعه التقاليد البشرية بدلاً من الأقوال الإلهية، والخرافات السخيفة الواهنة عوضاً عن الحقائق الشريفة الراهنة المعلنة من السماء يستحق تأنيباً شديداً. لأن مريدي الإصلاح الديني وقاصدي إبادة كل عبادة لغير الإله الحي الوحيد الروح الأزلي لا يسعهم أن يسكتوا عن ضلال كهذا. فلعلّ غايةً إصلاحيةً كانت المحرّك للتأنيب المشار إليه آنفاً.
ولعل المسلمين الذين يقابلون القضايا المسيحية بالفتور أو بالنفور أو بالاحتقار يحتجون بأن الحروب المسماة «الصليبية» قد غرست ومكنت شعور الاستياء المشار إليه. فيجيب المسيحي معترفاً بخطأ شعبه في تلك الحروب. لأنه يعلم أنها كانت مخالفة للتعليم المسيحي ولروح المسيح. والذين يعتذرون أنها لم تكن عن بغض مذهبي للمسلمين بل لمجرد الغيرة المذهبية النصرانية بقصد الاستيلاء على الأماكن المقدسة التي كانت لهم قبلاً لا يبررهم عذر كهذا من الحكم الذي حكم به الرسول بولس على بعض قومه اليهود بقوله:
«لأَنِّي أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً لِلّهِ، وَلكِنْ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَعْرِفَةِ. لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ ٱللّهِ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ ٱللّهِ» (رومية 10: 2 و3). [2]
فالغيرة بلا معرفة حماسة عمياء تضل المهتدين وتزيد ضلال التائهين
ولم يقع ذلك الخطأ النصراني الجسيم إلا لإهمال النصارى حتى زعمائهم مطالعة كتابهم المقدس قاعدة دينهم. فلما حلت عندهم التقاليد البشرية محل دستورهم الإلهي شبت تلك الغارات الدموية الشائنة المغايرة تماماً لوصايا سيدهم المسيح.
لأن هذه تصرح بأن الدين أمر قائم أصلاً في النفس قبل ظهوره في الأفعال. وقوامه علاقات قلبية صالحة مع الخالق ومع المخلوق. وهو أمر مقرر في التوراة أولاً ثم موضّح في الإنجيل في قول السيد المسيح أن الناموس كله والوصايا جميعها متضمنة في وصيتين عظيمتين هما المحبة لله من كل القلب ومحبة القريب كالنفس (متّى 22: 37 - 40). فكل ما خالف المحبة لله أو للناس يكون مخالفاً للدين حسب العرف المسيحي. فالدين الصحيح لا يقيمه السيف بل البرهان وحسن نتيجته. والذي يقيمه السيف يفتقر إلى السيف لأجل دوامه. فالنصارى وجدوا بالاختبار أن النجاح الذي أحرزوه بالسيف في حروبهم الصليبية كان قصير الأمد. لأنهم وهم يعملون باسم المسيح خالفوا روحه ووصاياه ناسين أن من أشرف ألقابه اللقب الذي استعمله النبي إشعياء قبل ظهوره بسبعمئة سنة لما سماه رئيس السلام (إشعياء 9: 6). ومن أهم وصاياه ما يأتي:
«لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ» (متّى 5: 39 و40 و44 و45).
والذي وضع على تابعيه وصايا كهذه فعل هو بموجبها مدة وجوده بين الناس وقال في ختام حياته بهذه الصلاة لأجل صالبيه:
«يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).
فالمسيحي المنصف لا ينكر أنه يطلب من شعبه أن يزيدوا انتباههم إلى تعاليم دينهم وأن يحفظوا وصاياه إذا أرادوا أن يستحقوا محبة المسلمين واحترامهم لهم ولكتابهم ولمذهبهم. وأن يقنعوهم بصحة قول سيدهم المسيح «أنا هو نور العالم».
والمسيحي الخبير في دينه يلاحظ سبباً آخر يضاف إلى السابق في تفسير النفور الإسلامي الذي يسبب له أشد الأسف. ويعرف أن مداواة هذه العلة العضالة لا يتم بمجرد إغماد السيف واعتماد الحب والصلاح بدلاً منه، بل يستلزم إدراك حقيقة الدعوة المسيحية وكيفية تقديمها للمسلمين.
وكل متشرب مشرب الإنجيل بواسطة درسه مدققاً يعلم أن بيت القصيد في الدعوة المسيحية ليس النداء إلى تغيير المذهب. لأن الإنجيل لا يكترث لأمر الصبغة المذهبية. ولا هو الدعوة إلى تغيير الاسم، لأن الاسم «مسيحي» ورد ثلاث مرات فقط في الإنجيل كلقب أطلق على المسيحيين، ولا هو النداء إلى ممارسة فروض معلومة كالمعمودية وغيرها لأن كل الأمور الخارجية حتى أهمها في الدين هي ثانوية.
فبيت القصيد في الدعوة المسيحية هو النداء إلى إيمان حي قلبي شخصي بشخص حي حاضر روحياً أقامه الله مخلصاً وحيداً وكافياً لجميع بني البشر على السواء. والفروض المسيحية بعضها لا يجوز والبعض الآخر لا يصلح استعمالها إلا بعد تلبية هذا النداء الروحي الداخلي أولاً. واعتناق المذهب المسيحي ظاهراً واتخاذ الإسم المسيحي لا يجوزان مطلقاً على سبيل الرياء والتظاهر الفارغ. ومتى كانا بخلوص واستقامة لا يفيدان إلا كتمهيد للأمر الأول الجوهري. فمتى أدرك المسلم أن هذه هي الحقيقة لا بد من أن يزول كثير من نفوره تجاه الدعوة المسيحية.
هذا وأن من دقق يلاحظ أن يسوع المسيح لم يقل أنا نور جماعتي المسيحيين ولا قال أنا أحد أنوار العالم بل تكلم كمن هو نور العالم أجمع. وكأن كل من أضاء أو يضيء سواه في العالم يستمد نوره منه كاستمداد القمر والنجوم السيارة نورها من شمس هي أعظم منها كثيراً ولا يضاهيها غيرها.
فالمسلم المنصف الذي يمنعه تمسكه بمذهبه من التسليم على الفور بصحة قول يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» لا بد له مع ذلك من الاعتراف بأن الوقوف على الحقيقة لايتم إلا بالبحث والمطالعة والتفكر بإخلاص تام. بناء عليه لا يرفض مشاركة أبناء ملة أخرى بالبحث. ولا يستنكف من قبول البرهان في قضية ما لمجرد مخالفتها لما ورثه من أسلافه وشبّ عليه، بل عليه بالآية المشهورة في تأنيب السالكين هذا المسلك.
«قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ» (سورة الزخرف 43: 22 - 24).
ويدرك أنه لو تقيد عيسى ابن مريم مثلاً بمذهبه الأصلي متمسكاً بما ورثه وتعوده كيهودي لما كان للمسيحية من أثر ولا لإنجيل المسيح من وجود. ويقال مثل ذلك في محمد بن عبد الله القرشي الذي لم يتقيد في سعيه وراء الحقيقة بما كان قد ورثه وتعوده بل فتح فتحاً جديداً وربطه بما ورثه وتعوده مما ورد في التوراة والإنجيل. وهذا الاستقلال الفكري ضروري للسلامة من الضلال.
ولا ريب في أن كل راق يسلم بوجوب إجلال الحق الثابت والتفتيش عنه باجتهاد وتدقيق ومثابرة. وذلك ليس في كتبه فقط بل في كتب غيره أيضاً عالماً أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. وذاكراً مقام الحق الذي هو من أشهر أسماء العزة الإلهية. فمثل هذا يؤيد قول النبي داود:
«ٱخْتَرْتُ طَرِيقَ ٱلْحَقِّ» (مزمور 119: 30).
وقول سليمان الحكيم ابنه:
«اِقْتَنِ ٱلْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ» (أمثال 23: 23).
ولا بد من أن يستخدم هذا المدقق ذكاءه في درس قضايا الدين المنزل ليقف على ما هو حق ويرفض ما هو باطل. فيأبى التسليم بالخرافات الصبيانية والخزعبلات الملفقة المستولية على الكثيرين من أبناء جميع الملل.
ولا يقبل من الآيات والعجائب إلا ما قد أثبت بالوحي. ويحبذ قول الزمخشري.
«إن كل طريقة لا تقومها حجة فهي طريقة معوجة».
والمنصف يفقه أنه كما لا يُبنى الحكم في جودة الماء على العكر منه في مجراه بل على الصافي منه في منبعه كذلك لا يُبنى الحكم في مقام المسيحية سواء كان في الماضي أو في الحاضر على ما يشاهد في المقصرين من المسيحيين إن حالياً وإن سابقاً بل على ما هو مبين في كتابهم المنزّل وفي شخص قائدهم ومرشدهم العظيم الذي هو مرجع تعليمهم ومثلهم الكامل.
والمفكر النزيه يسلم من التعصب المذهبي الأعمى الذي يقيد القوى العقلية إذ يحجب عن صاحبها النور ولو أضاء حوله. لأن الذي يعرض عن التعرض المذهبي وهو يفتش عن الحق يدرك أن المذهب في الدين مع حسنه وضروريته لا يكون أساساً للحكم في ميزان الحق. بل يشبه بملابس الإنسان التي مع كونها حسنة وضرورية فهي لا تعتبر قياساً صحيحاً لمقام المكتسي بها. فكما يتوقف مقام الإنسان على صفاته لا على ملابسه هكذا يتوقف مقام الدين لا على الاسم بل على المبدأ، لا على المذهب بل على المشرب. لأن هذا هو دليل الحق في الدين.
يصح أن يشبه الدين ببستان ذي أشجار مثمرة والعقائد العديدة فيه بالأشجار - فمجرد الاعتقاد الديني الصحيح هو كالأشجار دون ثمر. لأن ثمر اليقين الصحيح هو الصلاح ولولا الرجاء بالثمر لما غرس الشجر. وإذا طال زمان عدم الأثمار لا تسلم الأشجار من الفأس ثم النار. والعالم لا يشبع ولا يلتد من مجرد صحة اليقين ما لم يحصل على الشبع واللذة من أثمارها في الصفات الحسنة والأعمال الصالحة. والدينونة على إهمال هذه هي أضعاف التي على إهمال اليقين الصحيح. حتى إنّ عقاب الملحدين قد يكون أخف من عقاب المؤمنين الذين تخالف سيرتهم إيمانهم.
والمسابقة الذهبية بين المتنورين الراقين تدور حول حسن الصفات أكثر من حسن العقائد. والأول هو الميدان الأشرف للمسابقة بين الجماعات كما بين الأفراد والأجزل فائدة والأسلم عاقبة. لأن المناظرة في اليقين كثيراً ما تولد البغض والخصام حال كون المناظرة في الصلاح تزيده في الفريقين وتقربهما الواحد من الآخر.
وللمبادئ العامة المتفق عليها تفوق عظيم على الخاصة المختلف عليها. فيقصد في البحث الحالي تجنب الغرض المذهبي. واتقاء كل مشاحنة غايتها بناء مذهب ما على أنقاض غيره. والاشتراك كأصدقاء مخلصين في درس مقام شخص المسيح والكتاب المقدس شريعة شعبه.
فيوافق النظر أولاً في تأييد القرآن للكتاب المقدس المنزل والسابق للقرآن في قسميه أي التوراة والإنجيل. وهذا التأييد يرد في آيات كثيرة نكتفي ببعضها ونبتدئ بالتي تشير إلى التوراة والإنجيل بكلام إجمالي.
«يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ» (سورة النساء 4: 48).
«ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ» (سورة آل عمران 3: 81).
«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ» (سورة المائدة 5: 48).
«لَكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» (سورة النساء 4: 162).
«وَمَا كَانَ هَذَا ٱلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ ٱللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ» (سورة يونس 10: 37).
«قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (سورة القصص 28: 49).
ومن الآيات التي تشير إلى الكتابين باسميهما:
«نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ» (سورة آل عمران 3: 3 و4).
«ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ» (سورة الأعراف 7: 157).
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ... مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ» (سورة الفتح 48: 29).
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ آمَنُوا... وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (سورة المائدة 5: 65 و66).
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة 5: 68).
«وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة 5: 110).
«يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ ٱلتَّوْرَاةُ وَٱلإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (سورة آل عمران 3: 65).
«سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ» (سورة الفتح 48: 29).
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة 5: 46).
ومن الآيات المؤيّدة للإنجيل وحده:
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة 5: 47).
«وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ » (سورة الحديد 57: 27).
ومن الآيات المؤيّدة للتوراة وحدها:
«وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ» (سورة المائدة 5: 43).
«إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ» (سورة المائدة 5: 44).
«مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُوا ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ ٱللَّهِ» (سورة الجمعة 62: 5).
«قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ» (سورة البقرة 2: 91).
«وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ» (سورة الصف 61: 6).
«وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ» (سورة آل عمران 3: 50).
«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ... آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ» (سورة البقرة 2: 40 و41).
«قُلْ فَأْتُوا بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (سورة آل عمران 3: 93).
قد انتشر بين المسلمين رأي فحواه أن القرآن قد حل محل التوراة والإنجيل بدعوى أنه يجمع ويلخص في نصوصه كل ما هو ضروري ومفيد فيهما. وأن الكتاب الوحيد الذي يعول عليه في الدين بعد ظهور الإسلام هو القرآن.
فعلى افتراض صحة هذا الرأي لا تكون أهميته وفائدته للمسلم أكثر منها للمسيحي. والبرهان على صحته الذي يكفي للأول يجب أن يكفي للثاني أيضاً. لكن ذات النصوص القرآنية أعظم دحض لهذا الرأي. لأن القرآن يذكر التوراة والإنجيل مع القرآن كأنه كتاب ثالث مستقل عنهما. قال:
«يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ» (سورة التوبة 9: 111).
«وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» (سورة سبأ 34: 31).
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً» (سورة النساء 4: 136).
«يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ... وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً» (سورة النساء 4: 60).
فمن هذه الآيات يتبين في القول «كلمة الله وكتبه» بأن الإيمان والكفر لا يتناولان القرآن وحده بل الكتب الثلاثة التي وردت أسماؤها في الآية الأولى أي التوراة والإنجيل والقرآن. فكيف يمكن الإيمان أو الكفر بما قد ألغي واستبدل.
ولما قصد محمد الرد على الذين نقموا منه لم يكتف بتصريحه بإيمانه بما أنزل إليه بل زاد على ذلك تحقيقه إيمانه بما أنزل من قبل أيضاً (سورة المائدة 5: 64). وعندما يعزو إلى الشيطان قصد إضلال الناس ضلالاً بعيداً يعلق هذا الإضلال ليس بأمر القرآن فقط بل بما أنزل قبله أيضاً أي التوراة والإنجيل.
فليس بعد مجال للرأي الذي نحن في صدده. لكونه غير مستند على الإطلاق إلى آية واحدة قرآنية يمكن للمسلم المدقق المنصف أن يبنيه عليها.
يقال أيضاً أنه لو أنزل القرآن بدلاً مما أنزل قبله لكان ينتظر أن يشار فيه إلى بعض آيات ذلك المنزل بحروفها احتراماً لأقوال سابقة إلهية كما هو الواقع في الإنجيل. لأن هذا يأتي باقتباسات كثيرة من سابقه أي التوراة. ويستند إلى ذلك الكتاب استناداً كلياً.
ولا ريب في أنّ الذين يناصرون الرأي الذي نحن في صدده يتذرعون بقولهم أن المولى سبحانه أنزل على موسى كتاب التوراة ثم أنزل على عيسى كتاب الإنجيل خلفاً للأول وبدلاً منه. ثم أنزل على محمد كتاباً ثالثاً هو القرآن خلفاً لسابقيه بمعنى حلوله محلهما وإغنائه عنهما. فلو صحت المقدمة في هذا الاحتجاج ربما جازت صحة النتيجة في آخره أيضاً. لكن القول بأن الإنجيل حل محل التوراة وخلفها بعيد عن الحقيقة ومخالفٌ أيضاً للنصوص القرآنية. لأن هذه لا تدعم هذين الكتابين بل تحييهما كليهما بذكرهما معاً غالباً.
فالإنجيل نتيجة مستلزمة وتتمة ضرورية للتوراة. ولا قيمة للنتيجة أو التتمة إلا مع ثبوت الأصل والمقدمة وحفظهما. ويسوع المسيح عند أول مباشرته التعليم أيد هذه الحقيقة في قوله:
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى 5: 17).
ثم لو كان القرآن بدلاً عن التوراة والإنجيل لصرح بالاستبدال المشار إليه ليكون أهله على بصيرة. لكن ليس في القرآن شيء من الاقتباس الحرفي الذي ذكرناه أولاً ولا من التصريح باستبدال ما بل أنه ينفي الاستبدال مكرراً ذلك كما في الآية التي تؤنب الذين:
«يُريدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ ٱللَّهِ» (سورة الفتح 48: 15).
وفي الآية التي تقول:
«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً» (سورة فاطر 35: 43).
نعلم أن البشر لتعرضهم للخطأ يسنون أنظمة ويصدرون مقررات ثم يظهر ما فيها من الخطأ والخلل فيستبدل الخطأ بالصواب والحسن بالأحسن. لكن الباري سبحانه يجل تماماً عن مثل ذلك. والأنظمة الدينية التي يعلنها في أوقات مختلفة ولشعوب مختلفة ويأمر بحفظها لا يمكن إلا أن تكون متفقة جوهراً على رغم ما يظهر من اختلاف بعض صورها. لأن العلاقة التي تربط بعضها ببعض مستلزمة وناطقة ومتينة. فلا يكون الوحي لليهودي مغايراً لما يُعطى للمسيحي. ولا المُعطى للمسيحي مغايراً لما يُعطى للمسلم إلا في الأمور الطفيفة العرضية الوقتية. ولا يسلم العقل السليم بإمكان التناقض الحقيقي في الإعلانات الإلهية.
لذلك ترى أن النظام المسيحي الذي أعلنه الله بعدما أعلن النظام اليهودي قد صدق وثبت الذي أنزل قبله وعظمه وبنى عليه. فالمسيحيون يقرون بقيمة عظيمة ليس للإنجيل فقط بل للتوراة أيضاً. ويثبتون هذا الكتاب الأسبق بحروفه. ويجعلونه الجزء الأول من كتابهم المقدس ويجلونه كما يجلّون الإنجيل. لأنه الأساس الذي بُني الإنجيل عليه. فيُؤلف من التوراة والإنجيل كتاب واحد لا كتابان. إذ الأول بدون الثاني غير كامل والثاني بدون الأول بلا أساس. والاتصال الدائم الجوهري بين التوراة والإنجيل يظهر أيضاً في وعود وإشارات ورموز ونبوات مما يتطلب الاتمام والتكملة الظاهرين في الإنجيل. لذلك قلنا أن كلا منهما ناقص بدون الآخر.
فالتوراة ليست لليهود وحدهم. ولا الإنجيل للمسيحيين فقط. بل إنهما كليهما للعالم أجمع مرسلين من الإله الواحد لخلائقه العاقلة كافة لأنه يحبهم جميعاً ويريد خيرهم دون أدنى محاباة. وبموجب الأدلة التي أتينا بها يحكم المسلم العادل بأن الرأي القائل بالاستبدال الذي نحن في صدده واهن غير مؤيّد بالبرهان وأنه مجرد ظن لا حقيقة راهنة. ولعله قد استنبط مقابلة لاحتجاجات اليهود والمسيحيين. فلا يستغرب المسلم صعوبة إقناع غيره بهذا الرأي.
وماذا يجب أن يقال في الرأي الآخر الذي يتمسك به كثيرون من المسلمين وهو أن عدم قبولهم التوراة والإنجيل الحاليين ومضمونها مبني على كونهما ليسا الأصليين المؤيدين في القرآن. لأنهم يزعمون أن الأصليين قد فقدا منذ زمن قديم. فصحة هذا الرأي أيضاً أو عدمه أمر يهم المسيحيين كما يهم المسلمين وغرض الفريقين في فحصه يجب أن يكون واحداً أي البحث بإخلاص للوقوف على مقدار الصواب فيه.
فالقول الأول في هذه القضية هو أن الذي يدعي بأن كتابين مهمين موجودين قد فقد أصلهما عليه أن يقدم برهاناً قاطعاً يؤيد مدعاه ولا سيما متى كانا كتابين منزلين. وأن يبرز صورة ذلك الأصل لأجل بيان الخلل في اللذين يرفضهما. وإن ادعى التحريف أو التزوير في محتوياتهما فعليه أن يدعم مدعاه بحجج دامغة وإلا كانت ادّعاءاته فارغة لا يعتد بها. ومثله مثل من يتهم إنساناً بجريمة فيطالبه العدل بالبراهين الكافية وإلا فيسحب تهمته لكونه عاجزاً عن إثباتها.
أما في ما يتعلق بالتوراة فاليهود يحققون بالبرهان أنه منذ كتب كتابهم إلى هذا اليوم كانت محافظتهم على كل من حروفه بل على كل من حركاته أيضاً شديدة جداً لا تفوقها محافظة المسلمين على قرآنهم. وأن بقاء هذا الكتاب سالماً على رغم خراب مدينتهم المقدسة وهيكلهم العظيم وتشتتهم مدة نحو ألفي سنة في كل أقطار المسكونة لهو من غرائب التاريخ.
فالأمر الذي يستوجب النظر هو قبول المسيحيين توراة اليهود وتأييدها بحرفيتها حال كون الخصام المستمر بين الفريقين أمراً مشهوراً ومن دأبه أن يحمل المسيحيين على رفض كتاب اليهود لو وجدوا لذلك سبيلاً.
واضطهاد اليهود للمسيحيين يوم كانوا في إبان عزهم وصولتهم أمر مشهور بلغ أشده عند صلبهم المسيح وما تبع ذلك من إنزال العذاب وضروب التنكيل والفتك بكثيرين من أتباعه حتى ومن رسله (الحواريين) أيضاً.
واليهود أنفسهم لا ينكرون ذلك بل يفتخرون به. ثم لما دارت دائرة الزمان وانتقلت الصولة إلى المسيحيين أخذ هؤلاء بالانتقام فتوالى اضطهادهم اليهود. والشاهد على ذلك المذابح الفظيعة التي أثارها بعض المسيحيين في أنحاء أوروبا المتوسطة والشرقية فأهلكت ألوفاً كثيرة من اليهود فتولدت بغضة مرة وعضالة بين الفريقين دامت زهاء ألفي سنة.
لو كان كتاب اليهود معرّضاً حقاً لتهمة التزوير أو التحريف فهل يعقل أن يريده المسيحيون ويتمسّكوا به تمسُّك اليهود أنفسهم ويتخذوه كما هو بحروفه دستوراً لهم مقدساً كإنجيلهم وأن يعتمدوه في مؤلفاتهم ويجلوه ويثابروا على مطالعته ودرسه وتفسيره يومياً ويلتزموا بمضمونه؟ فإنهم لا ينفكون عن استعماله في معابدهم ثم في المدارس والبيوت والمخادع أيضاً. وينفقون سنوياً أموالاً طائلة على طبعه ونشره في كل أقطار المسكونة مع أنه كتاب خصومهم. أليس في كل هذا عبرة ذات شأن عظيم هي من عجائب التاريخ ومن أهم البراهين على صحة التوراة وسلامتها من التحريف؟
والعلماء العصريون يشهدون بوجود نسخ عديدة من التوراة والإنجيل كتبت قبل ظهور الإسلام بمئات السنين. وأنها مطابقة لما ينشر منهما الآن. فلا سبيل لدخول التحريف على التوراة والإنجيل بعد ظهور الإسلام وتأييدهما في القرآن.
والأمر ظاهر أنه لو دخل التحريف في الإنجيل بعد ظهور المسيح وقبل الفتح الإسلامي لاعترض القرآن عليه بدلاً من أن يؤيده. ولو دخل بعده لاتضح بالمقابلة مع النسخ القديمة المشار إليها آنفاً . [3]
فعلى فرض أنه قام إنسان وادعى أن القرآن الحالي ليس هو الأصلي أفلا يرد عليه بأن قبول القرآن عند فرق المسلمين المتباعدة كالسنيين والشيعيين وغيرهم هو برهان قاطع على أن القرآن الحالي هو الأصلي؟ وإلا كان بين هؤلاء الأقوام من يبرز قرآناً آخر ويدعي أنه الأصلي وأن قرآن الآخرين محرّف.
فمثل هذا البرهان كاف لإثبات سلامة الإنجيل الموجود حالياً عند المسيحيين. لأن اتفاقهم عليه مع كثرة الخصومات العدائية الدموية بين بعض طوائفهم العديدة يدفع كل ريب في ذلك. وليعلم أن أعظم الاختلافات بينهم هي في ترجمات الإنجيل وتفاسيره فقط. ولا تتجاوز كلمات قليلة عدداً وعبارات أقل منها ليست بذات أهمية مما لم يؤثر قطعياً في وحدة الإنجيل عند المسيحيين جميعهم في كل أدوارهم التاريخية.
ولنعد إلى ما سبقت الإشارة إليه من الارتباط الجوهري بين التوراة والإنجيل مما يؤيّد صحتهما فنقول أنه لا بد من أن المسلم عند مطالعته التوراة يلاحظ فيها إشارات كثيرة إلى عهد جديد يأتي بعدها. وهذا يعترف به كلا الفريقين اليهود والمسيحيون. فالإنجيل الذي ينطبق على ما يتطلبه الكتاب المنزل قبله ويؤيده لا يمكن أن يكون مزوراً أو محرفاً. واسمه «العهد الجديد» يدل على ارتباطه «بالعهد القديم». والفاهمون من المسيحيين لا يهتمون بالدفاع عن الإنجيل الذي بين أيديهم ما لم يكن صادقاً. لا بل يهمهم بالأولى أن يتأكدوا أصله وصدقه. لأن العاقل لا يرضى بتاتاً أن يتشبث بالبطل لعلمه بأن الدهر لا بد من أن يكشف الكذب والكاذب فيسمي كل متمسك بالكذب مخذولاً ومرذولاً.
لا يعرف إلا أهل العلم ما بذله العلماء من التنقيب العلمي المدقق في درس الإنجيل وما يتعلق به. وبين هؤلاء المدققين كثيرون يرفضون التعليم الذي فيه ويرغبون في إفساده علمياً إن استطاعوا. والفريق الآخر (المؤمنون بالإنجيل) شديد الحرص على التجرد في فحصه عن كل غرض يشوب الإخلاص التام والصدق في الأحكام. فالفريقان يسعيان لغرض واحد أي الوقوف على الحقيقة مع التباين الكلي في رغائبهما. ونتيجة تمحيصها هي الاتفاق على نسبة كتابة الإنجيل الحالي إلى رفقاء يسوع ومعاصريه الذين تحمل أسفاره أسماءهم. وفي ما ذكر كفاية لإثبات كون التوراة والإنجيل الحاليين هما الأصليان المؤيدان من القرآن نفسه وأنهما سالمان من شائبة التحريف أو التزوير.
من المعلوم أنه متى كانت المباحثة جارية في طريق البساطة والإخلاص يجوز لكل فريق أن يفرض موقفاً لأجل استيفاء البحث صحة ما يدعيه مناظره إلى أن تظهر الحقيقة عند نهاية المباحثة. وعليه قد فرضنا في بداءة هذا البحث صحة ما يدعيه المسلم للقرآن من الوحي الإلهي. فيحق لنا أن نطالب المسلم كما نطالب المسيحي بحصر تقيده في الدينيات بكتابه الذي يعتقده موحى به. إذ هذا الحصر يزيل أصعب العثرات المسببة للتباعد الواقع بينهما في أمور الدين. لأن هذه العثرات هي نتيجة الزيادات التي ألحقت بما كتب بالوحي.
فنكتفي بذكر إضافة واحدة عند المسيحيين وأخرى عند المسلمين. فربما كان أصعب ما يسمعه المسلم من فم المسيحيين أو يقرأه في كتب المسيحيين تسمية مريم أم المسيح «والدة الإله» و «أم الله» فلو كانت هذه التسمية واردة في كتاب الوحي لما كان للمسيحي مناص من استعمالها.
لكنها لم ترد لأنه لا صحة لها مطلقاً ولا يجوز استعمالها لأن المسيح الذي هو ابن الإنسان كما أنه ابن الله هو ابن مريم في طبيعته البشرية فقط. ولا علاقة قطعياً لها بطبيعته الإلهية إذ ذلك فوق المستحيل. ثم من الوجه الآخر ربما كان من أصعب ما يسمعه المسيحي من فم المسلم أو يقرأه في كتبه هو القول بعصمة الأنبياء في سيرتهم. لأن هذا القول لو صح لكان منافياً لصحة التوراة والإنجيل فيبطلهما. فلم يبق ريب في أن من أعظم وسائل التفاهم والاتفاق حذف الزيادات البشرية والاكتفاء بالأصل الإلهي.
فبعد ما مر من الكلام في ما يقوله المسلم المخلص استناداً إلى قرآنه يسأل ماذا يقوله المسيحي الصادق استناداً إلى إنجيله المؤيد من القرآن. وبعد ما سبق من النظر في ما يجنيه المسلم الصادق الأمين في مذهبه من أثمار جنته القرآنية مما يتعلق بمقام المسيح الرفيع والإنجيل الذي يورد أخباره وكلامه يطلب من المسيحي أن يوضح لأخيه المسلم بعض أثمار الفردوس الإنجيلي لكي ينصف في أحكامه في الأمور المسيحية.
فالشروح التي بسطناها هي التمهيد للقصد الرئيسي من مقالتنا أي النظر في ما هي معاني قول يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم».
وحيث أن الإنجيل الموجود بين أيدينا مؤيد في القرآن وحيث أنه ينسب هذا الكلام إلى النبي العظيم الذي فاه به يصبح هذا القول قيداً على المسلم أيضاً. لأنه يشبه نور الشمس الذي هو عام وشامل ولا ينحصر ببعض فئات من البشر. فكم بالأحرى يكون نور الحق الإلهي عاملاً شاملاً.
إن قول يسوع المسيح: «أنا هو نو رالعالم» ورد في خطاب ألقاه على الشعب اليهودي ورؤسائهم في هيكلهم العظيم في أورشليم. وليس هذا القول بسيطاً ولا تصديقه سهلاً. فرفضه آنئذ سامعوه رفضاً باتاً. ولكن قبول قول كهذا أو رفضه يتوقف على ما نعتقده في شخص المتكلم.
إذا قال زائر غريب مجهول «أنا هو حاكم أعظم دولة في العالم» ماذا يحكم السامعون؟ لا ريب في أنهم يحكمون إما أنه يتكلم مازحاً فلا يكترث له ولا لأقواله. أو يتكلم هاذياً لفقده الرشد العقلي فيؤسف عليه ويبتعد عنه. أو يتكلم كاذباً فيذم ويحتقر ويحذر منه. وإلا فإنه يتكلم صادقاً فيطبق السامعون سريعاً معاملته على رفعة مقامه.
ولا ريب في أنه يستحيل على المسلم المستقيم أن يتهم عيسى ابن مريم بالمزاح أو الهذيان أو الخداع. إذا هو صادق بقوله «أنا هو نور العالم». لو كان هذا القول منفرداً في بابه لأمكن الشك بأنه قد دخل في الإنجيل المقدس خطأ أو خلسة. لكنه يتفق تماماً مع كثير غيره من أقوال هذا النبي الشهير المدونة في الإنجيل. وينطبق أيضاً على الموقف الذي اتخذه لنفسه كل أيام ظهوره بين الناس. لذلك يتحتم أن يكون نور المسلمين أيضاً. وهذا القول حيوي لعلاقته بخلاصهم الأبدي. لأن العاقل يعلم أن شروط الخلاص والهلاك أجل وأعدل من أن تكون مذهبية أو أن تتنوع وتختلف باختلاف الشعوب والنحل. وهذه الشروط هي من باب النور الروحاني الذي يرمز إليه النور الطبيعي ولا يتناول تنوعه شكله الجوهري. لأن هذا لا يكون على الدوام إلا واحداً.
لا ريب في أنه متى أقام الله للناس مخلصاً من الهلاك الأبدي فالذي يصلح لليهودي لا بد من أن يصلح أيضاً للمسلم وللمسيحي وللوثني. فالسؤال عمن هو المخلص المعين من الله لينجي البشر من الخطيئة والهلاك هو أهم سؤال لجميع الطوائف. والجواب واحد للكل.
من المسلم به أن الاختلافات المذهبية في الأمور العرضية قد تكون مفيدة لا بل ضرورية كاختلاف الأصابع في اليد الواحدة واختلاف الفرق العديدة في الجيش الواحد. غير أن الاختلاف الجائز والمفيد لا يتجاوز إلى الجوهريات في الدين.
وكما اتفق أهل الكتاب جميعاً على الاعتقاد بإله واحد فقط وعلى صفاته تعالى. عليهم أن يتفقوا أيضاً على المعتمد الإلهي الخاص المقام من هذا الإله الواحد لخلاص جميع البشر. ولهذا الاتفاق أهمية فائقة. لأن على هذا المعتمد وحده يعول لأجل إعلان أفكار الخالق وإيضاح إرادته الكاملة وإظهار تدابيره تعالى لتخليص الناس من الخطيئة مع شروط النجاة من الدينونة الأبدية وعقابها. ولا يستطيع إلا هذا المرسل من السماء أن يمثل في شخصه أمام أعين البشر ما يمكن ويجوز تمثيله من صفاته عز وجل واضعاً لهم في سيرته مثالاً بشرياً كاملاً ليتمثلوا به في كل أطوارهم. فمن هو يا ترى هذا المعتمد الوحيد المرسل لخلاص البشر.
إن في الإنجيل آيات كثيرة تبين أن في يسوع ابن مريم تتم الشروط والمطاليب التي ذكرناها. وهذا سر اللذة الفائقة التي يشعر بها مطالعو الإنجيل بنية خالصة وفكر سليم ورغبة صادقة في الوقوف على كيفية الخلاص من الخطيئة وعواقبها.
يفيدنا العلم أنه عندما تقع أشعة النور على موشور (مجسّم) من زجاج تنحل إلى ألوانها السبعة التي يتكون منها النور الكامل كما إذا وقعت على قطرات الغيث فيتكون منها قوس قزح الذي قد تعين قديماً لنوح الصالح يحقق له الرحمة الإلهية نحو البشر. فعلى قطرات غيوث الرحمة الإلهية نحو البشر الخطاة الهالكين يرسم قوس قزح النور الروحاني المنحدر من السماء في شخص يسوع المسيح نور العالم. وإذا كان للعالم فوائد علمية عظيمة من حل العلماء النور إلى ألوانه المختلفة لأجل استخدام كل لون بمفرده في العمليات المهمة فكم بالأحرى تحصل فوائد عظيمة من درس صفات الشخص الذي هو نور العالم واحدة واحدة.
يجد المطالع إشارة جليلة إلى تفصيل كهذا في قول الرسول يوحنا الحبيب في الإنجيل:
«كُنْتُ فِي ٱلرُّوحِ فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ، وَسَمِعْتُ وَرَائِي صَوْتاً عَظِيماً كَصَوْتِ بُوقٍ قَائِلاً: أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ... فَٱلْتَفَتُّ لأَنْظُرَ ٱلصَّوْتَ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ مَعِي. وَلَمَّا ٱلْتَفَتُّ رَأَيْتُ سَبْعَ مَنَايِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي وَسَطِ ٱلسَّبْعِ ٱلْمَنَايِرِ شِبْهُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى ٱلرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقاً عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَمَّا رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَٱلصُّوفِ ٱلأَبْيَضِ كَٱلثَّلْجِ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ. وَرِجْلاَهُ شِبْهُ ٱلنُّحَاسِ ٱلنَّقِيِّ، كَأَنَّهُمَا مَحْمِيَّتَانِ فِي أَتُونٍ. وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. وَمَعَهُ فِي يَدِهِ ٱلْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكِبَ» (رؤيا 1: 10 - 16).
نتصور أن كلا من هذه الكواكب السبعة في يمين هذا الشخص المجيد الذي هو «شبه ابن الإنسان» يمثل إحدى سجاياه الفريدة التي بامتزاجها بعضها بالبعض وضمها في شخص واحد يحصل النور الساطع الذي يصلح لأن يكون نور العالم أجمع.
ففي بحثنا الحالي نوجه النظر إلى الأمور التي يتفرد فيها يسوع المسيح وهي محصورة فيه لا يشاركه فيها أحد وليس إلى التي يتفوق فيها فقط على غيره من الرسل والأنبياء كالحكمة والرزانة والتواضع والغيرة والحلم والصبر والاستقامة والتسليم إلى المشيئة الإلهية وغيرها.
ومن المعلوم أن سجايا يسوع المسيح لا تعرف إلا من سيرته المكتوبة في الإنجيل. فالمستندات في هذا البحث هي أقوال الإنجيل الذي عرفناه باقياً على وضعه الأصلي وأيقنا أنه خبر صحيح وصادق يفيد حقيقة شخصية يسوع المسيح وأقواله وأعماله. فيحقق لنا الأمل باعتراف المسلم الحر بما لهذا الفرد الجليل من المزايا الممثلة في الكواكب السبعة التي يمسكها في يمينه وأولها ما يأتي.
نور الأرض الطبيعي ليس من الأرض ذاتها بل من الأجرام السماوية فوقها. ونور العالم الروحاني لا يمكن أن يكون من أهل العالم بل من فوق العالم أي من السماء منبع النور الروحاني. فلا عجب أن الذي قال «أنا هو نور العالم» قد صرّح مراراً أنه أتى من السماء. وقد ورد في الإنجيل:
«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّهَ. وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 1 و14).
وقال يسوع المسيح لسامعيه من اليهود:
«أَنْتُمْ مِنْ هذَا ٱلْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 8: 23).
«وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ» (يوحنا 18: 37).
«أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا 6: 41).
«قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58).
ولما اعترضوه على قوله أنه نور العالم أجابهم:
«وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ» (يوحنا 8: 14).
ولما صلى قال:
«وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5).
إنه لا يمكن للعين البشرية أن ترى النور الإلهي وقد ورد في الإنجيل بيان ذلك في قوله:
«اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18).
فهذه الآية تفيد أن الذي هو نور العالم نزل من السماء ليظهر للبشر باتخاذه طبيعة بشرية حقيقية لما ولد من مريم العذراء ففي نزوله من السماء وتأنسه تفرد عن سائر الرسل والأنبياء. ولكونه الشخص الوحيد السماوي الذي سكن العالم منذ البدء إلى الآن يحق له أن يكون نور العالم أجمع . [4]
ومن هذا الكوكب يسطع نور الطهارة التامة في طبيعته. ولا ريب في أنه لا يصلح أن يكون نور العالم إلا من كان تام الطهارة.
وليس من طاهر تماماً بين أهل العالم، فلا يمكن أن يأتي مثل هذا إلا من السماء مركز الطهارة. ولذلك فالنزول من السماء صار شرطاً لازماً في من يقيمه الله مخلّصاً وشفيعاً للبشر. والقلوب الطالبة الخلاص والصلاح تنفتح طبعاً لمخلّص يأتيها من السماء. لأنه وحده يستطيع أن يعلن لها الأمور السماوية على صورة جلية وحقيقية. فالذي يتبع مخلصاً أصله سماوي وطهارته تامة ويشتهي أن يتشبه به يكتسب طهارة بنظره إليه دائماً. فنور طهارة مخلّصه يضيء في ظلام سبيله ويريه حقائق جديدة سماوية. لأن هذا المخلص يهتم أولاً بالطهارة الفكرية في القلب ثم بالدرجة الثانية بالطهارة الفعلية في الظاهر. وقد أوضح ذلك جلياً في وصاياه لتابعيه كما بقوله:
«وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّهِ، وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ... بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذٱلِكَ فَهُوَ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (متّى 5: 22 - 24 و28 - 37).
«فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى 5: 48).
فهو الإنسان الوحيد الذي لم يقل إلا وفعل أولاً. وفعل أكثر مما طلب من الآخرين. ففي النظر إليه والإيمان به عون عظيم لكل من يروم لنفسه الطهارة وفقاً لقول الكتاب:
«اِتْبَعُوا ... ٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ» (عبرانيين 12: 14).
ومن المعلوم أن الأمر الجوهري في البصر هو الشخص الذي يرى وليس الجسم الذي يراه. وفي السمع هو السامع وليس المسموع. وفي الكلام هو المتكلم لا كلامه. ففي الدين أيضاً الجوهر هو الشخص المؤمن وليس صورة إيمانه، وليس في هذا الكلام حط في ما للجسم والصوت والكلام وصورة الإيمان من الأهمية والكرامة. بل يقصد منه بيان تعليم المذهب المسيحي المعلن أهمية الارتباط الشخصي القلبي والاتحاد الروحي بين المؤمن الفرد وبين المخلّص العام المقام من الله.
ولهذا الاتحاد تأثير روحي يحوّل صفات المؤمن الحقيقي تحويلاً تدريجياً إلى شبه ذلك المخلّص في الكمالات الأدبية والدينية. وكل من يسمى مسيحياً ولا يظهر فيه ذلك التأثير يبرهن أنه فاقد الارتباط المشار إليه وأن مسيحيته اسمية فقط لا حقيقية.
وهذا النزول من السماء يخوّل يسوع المسيح ليس فقط التفوق على أعظم البشر وأصلحهم بل التفرد عنهم جميعاً. ولا يمكن أن يمسك بيمينه هذا الكوكب الأساسي إلا هو وحده.
ثم يرى بجانب هذا الكوكب كوكب ثان وهو:
فمع أنه قد وردت إعلانات نبوية سابقة لظهور بعض عظماء التاريخ، يتفرد يسوع المسيح بين هؤلاء جميعاً في كيفية ما سبق مجيئه من الإعلانات. لأن قدمها وكثرتها وتتابعها مدة ألوف السنين ودقة تفاصيلها وصدقها وعدد الذين أعلنوها وتنوع طبقاتهم تجعلها تمتاز عن غيرها مما يتعلق بغير شخص يسوع المسيح. فإنها أنزلت على أشخاص كثيرين كل منهم بعيد عن الآخر في المكان والزمان والأحوال وكانت تنبئ بمسيح سيأتي على صورة لم تنطبق على شخص آخر قام أو يقوم في تاريخ العالم كله.
ومن أهم هذه الإعلانات الرموز التي وضعت بأوامر إلهية ومارسها الشعب الإسرائيلي بحرص شديد في كل تاريخهم. فكان مصدر نور شعب الله المختار في القديم هو شخص المسيح الموعود به. وعليه لما ظهر «في ملء الزمان» هذا الشخص تحقق أنه كان نور العالم قبل مجيئه أي من البدء وقبل خلق آدم إلى يوم ظهوره وليس فقط من يوم ظهوره إلى هذا اليوم.
ومن كوكب هذه الإعلانات النبوية يضيء نور استقامة يسوع المسيح وصدقه. لأن الشخص الذي تصدق عليه كل هذه النبوات المتتابعة في خلال الوف السنين لا يمكن إلا أن يكون صادقاً. وعلى صدق كلامه ومواعيده يتوقف خلاص البشر، لأن الصدق في مخلّص البشر شرط لازم. والصدق أي الحق وحده ينير. وعدمه ظلام. فنور العالم لا يكون إلا صادقاً وقد قال له المجد:
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6).
وهو وَفيٌّ لكل وعد من مواعيده. ولهذا هي سند أمين وركن متين في كل أحوال الحياة وأدوارها وتكفل للمؤمن الحقيقي خيرات وافرة في هذا الزمان وفوقها أضعاف الأضعاف في الزمن الآتي. وما أصح القول أن في اللذة التي يجدها المطالع في الإنجيل الحاوي تلك المواعيد تبدد الشكوك والمخاوف والأحزان.
ولا عجب في رغبة كل مسيحي يفهم كنه الدعوة المسيحية الحقيقي في أن يعرضها على غيره ولا سيما على أخيه المسلم. لأن هذه الدعوة هي بشارة مفرحة تزيل الكروب وتملأ قلب المؤمن سلاماً كاملاً واطمئناناً وبهجة. فهذا الكوكب اللامع أي كوكب الإعلانات النبوية لا يمسكه بيمينه إلا هو.
تكلم غيره من الرسل والأنبياء بما أنزل عليهم مصرحين بأن الكلام الذي يأتون الشعب به ليس كلامهم أنفسهم فيقولون: «هكذا قال رب الجنود» أو «كانت إليّ كلمة الرب». لكن يسوع تكلم بصورة جعلت المخبر يقول:
«بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» (متّى 7: 28 - 29).
وقال هو مرة:
«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى 28: 18).
«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ» (يوحنا 5: 22 و23).
وقال إنه سيأتي ثانية بمجده في ملكوته مع ملائكته ومختاريه (متّى 25: 31 و34). إذا المجد والملكوت والملائكة المختارون كلهم له إذ هو والآب واحد كما قال.
وقال إنه في اليوم الأخير هو يقيم الذين يؤمنون به (يوحنا 6: 39 و40). وأنه يحيي من يشاء (يوحنا 5: 21).
وقد ظهر سلطانه في أعماله كما في أقواله إذ تصرف كآمر وكان يمنح التائبين غفراناً إلهياً كاملاً وثابتاً. وبذلك أغضب رؤساء اليهود حتى حكموا عليه بأنه يجدف وقالوا:
«مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّهُ وَحْدَهُ» (مرقس 2: 7).
وعندما أقام الموتى كان يأمرهم أمراً كما فعل في إقامة لعازر من قبره قائلاً:
«هَلُمَّ خَارِجاً» (يوحنا 11: 43).
وهكذا كان يأمر الشياطين والأنواء كمتسلط عليها فتطيعه. ففي إظهاره السلطان قولاً وفعلاً لم يماثله نبي ولا رسول.
ومن هذا الكوكب اللامع كوكب سلطانه يتألق نور قدرته الفائقة الشاملة. قال:
«لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا» (مرقس 2: 10).
فهل يستطيع أحد ليس له قدرة كهذه أن ينير العالم أجمع ويخلص جميع البشر من الآثام؟ كلا ثم كلا. لأنه من يركن يا ترى إلى مخلص قدرته بشرية فقط.
فكوكب سلطان يسوع المسيح وقدرته ينير طريق كل من يلجأ إليه شاعراً بضعفه وقصوره ومشتاقاً إلى مخلص قدير لأنه يجد في المسيح الذي كان يخرج الشياطين مخلصاً يطرد من قلبه إبليس رئيس الشياطين. وفي من كان يسكن بكلمة هياج الرياح والأمواج يجد من يزيح من طريقه كل العقبات وبواعث الفشل التي تتعرض له. وفي من كان يقيم الموتى يجد مخلصاً يبث فيه من روحه نشاطاً جديداً وحياة جديدة. وفي من فتح قلبه ويديه للفقير والحقير والشرير التائب يجد من يشفع فيه شفاعة فعالة أمام عرش العظمة في سماء المجد. وفي من قام من قبره في اليوم الثالث يجد مخلّصاً يقتلع من قلبه آفة الخوف من الموت فيحول فراش الوفاة إلى سرير الحياة وغلبة الهاوية إلى النصر المجيد وباب القبر المظلم إلى باب السعادة النيرة في الأمجاد السماوية.
فالسلطان إذا شرط ضروري في المخلّص الذي يقيمه الله ويجعله نور العالم. وهذا كوكب لا يمسكه بيمينه إلا يسوع وحده.
كل إنسان يرفض السجود الديني المقدم له يبرهن بذلك أنه غير مستحق لذلك الإكرام. وعليه إذا ظهر شخص يعترف العالم إجمالاً بامتيازه في الصلاح وقال إنه هو ابن الله الوحيد الآتي من السماء ثم قبل سجوداً قدم له يؤخذ قبوله ذلك برهاناً على صدق قوله عن نفسه ودليلاً على تفوقه على جميع البشر بل وعلى تفرده عنهم. ولا شك في أن هذا هو معنى قبول يسوع المسيح السجود الذي قدم له مراراً.
لأننا نعلم أنه لم يرض رسول ولا نبي ولا ملاك أن يقدم له السجود أو أن يُعطى ألقاباً تختص بالله. لكن يسوع المسيح مع سمو مداركه ومزيد تواضعه وشدة تعلقه بالله وفرط تمسكه بإكرامه ومع تصريحه بأن السجود والعبادة لا يكونان إلا لله لم يرفض قبولهما عندما قدما له حتى من تلاميذه المستقين تعليمه. ولما خاطبه أحد رسله قائلاً «رَبِّي وَإِلهِي» (يوحنا 20: 28). لم ينتهره. وكذلك لما قال له رسول آخر «أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ» (يوحنا 21: 17).
كان في عرف الناس أنه نجار فقير من قرية الناصرة وبعيد جداً عن أن تكون له مملكة أرضية في الحال أو في الاستقبال. ومع ذلك فإنه عندما دخل إلى أورشليم راكباً شجع جمهور الذين استقبلوه هاتفين «مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ» (لوقا 19: 38).
وهذا الحادث كان حجة لخصومه لما طلبوا صلبه فشكوه للوالي الروماني بأنه مشاغب يقصد قلب عرش الملك قيصر. فلما سأله الوالي «أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» (يوحنا 18: 33). أجابه بالإيجاب بقوله «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 18: 36).
والوالي نفسه كتب عنوانه فوق صليبه باللغات الثلاث «يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ» (يوحنا 19: 19).
لم يتأت مثل ذلك لنبي ولا لرسول. ولا حصر أحدهم الخلاص بنفسه كما فعل يسوع المسيح الذي كان يدعو الناس أن يأتوا إليه ويؤمنوا به. وكما يتضح كثيراً مما نطق به كقوله:
«تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 28).
ولم يستعمل صيغة الجمع في كلام يجمعه مع غيره في أمور الدين كعادة الناس بل كان يقول: «أنا» لا نحن كأنه منفرد عن البشر في الأحكام الدينية. وظهر تفرده أيضاً في أنه لم يستغفر الله قط ولم يظهر ندامة ولا اعترف بزلة ما.
فمن كوكب الإكرام هذا يشرق نور قيادة يسوع المسيح.
إن حاجة البشر العظمى هي إلى قائد يكون كفؤءًا لقيادة كل شعوب الأرض في جميع الأماكن والعصور على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأحوالهم وعاداتهم وحاجاتهم. وليخرجهم من قفر الإثم والظلام ويأتي بهم إلى فردوس القداسة والسلام. يحتاج البشر إلى قائد يحق له أن يقول كما يقول يسوع:
«مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).
فالقائد الذي نزل من السماء ومنح السلطان ونال بحق إكرام السجود هو الذي يصلح للقيادة الدائمة العامة للبشر أجمع. وكوكب الإكرام الذي ناله هذا المخلص ينير لأنه يشجع جميع الناس على التشبه بالذين أدوا له هذا الإكرام الممتاز متأكدين حقه في ذلك لعدم رفضه إياه حال كونه آية الاستقامة والوداعة والبساطة وإنكار الذات. فيجدون في الصلاة له لذة فريدة لأنه كان شريكهم في الطبيعة البشرية وتجاربها وآلامها. ولأنه قريب منهم يرثي لضعفاتهم. وكوكب الإكرام هذا لا يمسكه بيمينه إلا يسوع وحده.
قد صرّح يسوع مراراً بأنه يكون حاضراً حضوراً روحياً وفعلياً مع المؤمنين به في كل مكان وزمان. وبأنه ينير القلوب المظلمة بحلوله فيها بروحه. فبما أنه أصدق الصادقين يؤهله هذا الحضور لأن يكون نوراً لكل العالم. ولأن يقود كل من آمن به كقائد حي عظيم.
فمن كوكب حضوره الدائم مع تابعيه أينما وجدوا يسطع نور علمه الفائق. وهذا العلم شرط لازم في من يأتي من السماء إتماماً للنبوات ويسلم السلطان ويكرم بالسجود كما أن حضور شخص له هذه الامتيازات المهمة يدفع كل ريبة في علمه الفائق. قال الإنجيل فيه «لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 24 و25).
وأيضاً «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ» (متّى 9: 4).
وأيضاً «قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: ... اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ ٱللّهِ خَرَجْتَ» (يوحنا 16: 29 و30).
وبما أن حضوراً كهذا لم ينسب إلى غيره نبياً كان أو رسولاً ولا ادعاه أحد منهم لنفسه أصبح هذا الحضور كوكباً باهراً لا يمسكه بيده إلا يسوع المسيح وحده.
كانت الغاية العظمى من نزوله من السماء وإتيانه إلى العالم أن يموت عن البشر مقدماً بذلك كفّارة عن خطاياهم وأن يفتح للتائبين باب الخلاص والسماء قال: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أتى لِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متّى 20: 28).
وقال مشيراً إلى صلبه العتيد «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14 و15).
وتكلم مراراً قبل صلبه عن عزمه أن يسلم ذاته للموت صلباً. وأن يتم بصلبه تلك النبوات القديمة التي تشير إلى ذلك نظير النبوة الآتي ذكرها «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ». والتي تشير إلى أنه «جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء 53: 7 و10).
غير أن موته الكفّاري لا ينفصل عن قيامته المجيدة في اليوم الثالث بعد موته وذلك على صورة عجيبة متفردة عن قيامة كل من قام سواه من الموت. فقيامته أثبتت القصد من موته حسبما أوضح ذلك في حياته. فكما تفرد بإنبائه أن يموت صلباً وجعل هذا غايته في نزوله من السماء تفرد أيضاً في قيامته لأن في الأمرين لم يماثله أحد من الرسل أو الأنبياء. [5]
فمن كوكب موته الكفّاري وقيامته يتلألأ نور حبه غير المتناهي. لأن كل ما سبق من الكواكب لا يجدي البشر الخطاة نفعاً إلا بإضافة هذا الكوكب السادس. فإن نزوله من السماء وسلطانه المطلق وإتمامه النبوات وقبوله السجود وحضوره الدائم من شأنها أن تخيف وتدين وتهلك البشر الخطاة ما لم يرافقها حب يقابلها. والحب العادي المألوف لا ينير العالم المظلم لأنه أشبه بفتيلة مدخنة. ولكن متى اتفقت الشروط السابقة مع شرط الحب الغير المتناهي للبشر الخطاة في شخص صاحب تلك الشروط العظيمة يتخذها وسيلة لتخليص البشر من الخطيئة والهلاك الأبدي يصبح ذلك الشخص صاحب الحق في أن يكون نور العالم.
إن عظمة المسيح ليست هي الركن الأعظم في الإيمان المسيحي. لأن العظمة وحدها لا تنير فإن القمر مثلاً في ليالي المحاق يمر فوق رؤوسنا بعظمته الكاملة لكنه لا ينير، والشمس لا تفقد من عظمتها شيئاً عندما يحتجب نورها ليلاً. فيسوع المسيح نور العالم في صفاته ومثاله وتعاليمه التي يدور محورها وخلاصها على المحبة لله وللقريب حتى للعدو أيضاً.
فنور المحبة حتى عن الأعداء الهالكين يصدر من كوكب موت يسوع المسيح الكفاري ثم قيامته. ولا يمسك هذا الكوكب بيمينه إلا هو.
الكواكب الستة السابقة الذكر تمهد السبيل للكوكب السابع كما أنها متصلة به أيضاً ولا يمكن فصلها بعضها عن بعض.
إننا نعلم أن معتقد المسيحيين والمسلمين أيضاً أن يسوع المسيح ولد من عذراء ليس حجة ولا برهاناً على طبيعته الإلهية، لكنها النتيجة الطبيعية المستلزمة لتلك الطبيعة. ولا يراد بذلك أنه كان بشراً ثم صار إلهاً. لأن هذا مستحيل والقول به كفر بل أن الذي اتخذ بولادته من عذراء طبيعة بشرية حقيقية كان منذ الأزل ذا طبيعة إلهية حقيقية على صورة لا تمس حقيقة وحدانية الله.
فالقول في لاهوت يسوع المسيح وفي أنه ابن الله قول كبير لا يجوز تصديقه إلا بتقديم الحجج الدامغة والبراهين القاطعة. وبناء على مقام يسوع المسيح السامي وصفاته الكاملة يكون قوله عن نفسه أقوى ما يمكن من البراهين. فهو يصرح أنه ليس فقط ابن الله بل ابن الله الوحيد أيضاً. ولما كان الله روحاً محضاً فبنوة المسيح له بنوة روحية صرفة لا يخامرها أقل إشارة للمعنى الجسدي. فالحذر كل الحذر من اتخاذ هذا اللقب بمعنى مادي يخل بروحانية الله ووحدانيته.
فالعبارة العربية «ابن الله الوحيد» هي في الأصل اليوناني الذي كتب الإنجيل به «ابن الله الوحيد المولود منه». ومنها يستدل على تفرد يسوع المسيح عن كل الذين يسمون أبناء الله. لأن بنوة هؤلاء تأتيهم بالتبني لا بالولادة وكلتاهما بنوة روحية.
وحسب نص الإنجيل يسوع المسيح هو ابن الله بالمعنى التام كما أنه ابن الإنسان بالمعنى التام أيضاً. فاهتمامه بأن يعرف حقاً كابن الإنسان دليل مهم على كونه ليس ابن الإنسان كغيره من الناس. وإلا لم يكن من حاجة إلى أن يكرر كثيراً تسميته نفسه ابن الله. وإن اعترض أحد بأن كلام الإنجيل ليس كلام المسيح ذاته بل كلام تلاميذه فهذا الاعتراض يزيد البرهان قوة. لأنه لا يعقل أن تلاميذه يهتمون ببيان كونه ابن الإنسان أكثر من كونه ابن الله. وسبب اهتمام يسوع بأن يعرفه الناس كابن الإنسان هو قصده أن يتقرب منهم ليستميل قلوبهم وينال ثقتهم لكي يطلبوه مخلّصاً لهم.
فيجب أن نعيد القول بأن يسوع المسيح ابن الله بمعنى روحي صرف لا تشوبه شائبة. ويشترط فيه المحافظة التامة على توحيد الله. ولا يخرج عن هذا الشرط في عقيدته إلا كل غبي. فالمسلم لا يفوق المسيحي المستقيم العاقل تمسكاً بالقول أنه:
«ٱللّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (سورة الإخلاص 112: 2 - 4).
فالذي يستصعب التوفيق بين هذه الأقوال والقول المسيحي «الآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله». عليه أن ينتبه إلى ما هو معلوم من اجتماع التوحيد وضده في الشخص الواحد البشري. لأن الإنسان ذو طبيعتين الواحدة جسدية والأخرى روحية. واستقلال كل منهما بعض الاستقلال عن الأخرى أمر ظاهر للنظر الصحيح. فالقول الواحد في الإنسان الواحد قد يصح وقد لا يصح في الوقت الواحد. فيقال مثلاً عن زيد أنه زائل لأنه من التراب وإلى التراب يعود. ويقال عنه أيضاً أنه ذو نفس خالدة ويحيا إلى الأبد. والقولان صادقان. فهل ينفي هذا التناقض بينهما حسب الظاهر الوحدة الحقيقية في شخص زيد؟
قال داود النبي في المزامير: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» فهنا لنا ازدواج في قلب التوحيد إذ يظهر الشخص الواحد في الوقت الواحد كمتكلم ومخاطب وكآمر ومأمور. فبمقتضى اللغة والمنطق يظهران اثنين. ولكن بمقتضى الاختبار وحكم العقل السليم هما واحد فقط.
فهذا التشبيه لا نورده كبرهان على أن في الإله الواحد ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس. أو أن في المسيح الواحد طبيعة بشرية وطبيعة إلهية بل نورده من باب التذكير إننا نسلم في قضية طبيعة الإنسان المزدوجة بأن هذا الازدواج لا يعارض التوحيد في شخص المخلوق. فلم لا يجوز أن يقال مثله في طبيعة يسوع المزدوجة. وفي اجتماع التوحيد وضده في الخالق الذي خلق الإنسان على صورته تعالى كما ورد في التوراة؟
فالوهم الذي يتوهّمه بعض المسلمين أن المسيحيين يشركون بالله شخصاً آخر ناتج عن سوء فهم هذه القضية. فتوحيد الله هو الأصل في الدين والتثليث في الله نظير بنوة المسيح لله إنما يؤخذان فقط على صورة لا تخل في التوحيد، لأن الوصية الأولى والأهم بين وصايا الله العشر التي تربط اليهودي والنصراني معا هي:
«أَنَا ٱلرَّبُّ إِلهُكَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خروج 20: 2 - 3).
فكما أن الله لكل البشر ولا يمكن تخصيصه بفئة أو ملة أو أمة دون غيرها يجب أن يصح ذلك أيضاً في من هو ابن الله الوحيد. فليس هو مسيح المسيحيين دون المسلمين. وتخصيص المسيحيين إياه بهم وحدهم خطأ عظيم ناتج عن إهمالهم درس الإنجيل وعدم اعتمادهم تعاليمه. فيسوع ابن مريم مسيح كل من يقبله من بني البشر أجمعين في كل زمان ومكان ودعوته عمومية لجميع الناس بقطع النظر عن المذهب والجنس. وكل ذلك مؤيد وموضح في الإنجيل.
كل الأنوار التي من صنعة البشر تكون محصورة في مكان واحد معلوم بخلاف النور الذي خلقه الله فهو عام ويضيء على كل العالم. وفرق كهذا ظاهر بين الدين الذي هو ابتداع بشري ليحصر زعيمه وكتابه في فئة واحدة من البشر وبين الذي يوحيه الله ويعلنه للناس فيكون عاماً ويشمل البشر جميعاً ولا يحتمل الانحصار أو الاحتكار. فيسوع المسيح مخلص لكل البشر والكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل رسالة موجهة لكل البشر على السواء. ومهما كررنا هذه الحقيقة لا يمكن أن نفيها حقها من الأهمية والاعتبار.
في شرائع التمدن يعد المتهم بريئاً إلى أن تثبت جريمته. ولا سيما إذا لم يكن له سوابق سيئة بل كان من أهل الفضل والفضيلة. وعلى هذا المنوال يصح القول السابق أن الإنجيل يعد صحيحاً وأقواله صادقة إلى أن يثبت عكس ذلك بالبرهان ولأن فضل الإنجيل في العالم منذ كتب إلى الآن لا ينكر ولهذا الكتاب مقام سام عند أكثر سكان العالم.
فباعتباره صحيحاً وباعتبار يسوع المسيح صادقاً يقع كل من ينكر طبيعته الإلهية في مشكل عظيم. لانه بذلك يكون قد أخرج المسيح من رتبة الأنبياء بل من درجة متوسطي الصلاح ووضعه في مصف الكاذبين المجدفين المضلين كما فعل به معاصروه من اليهود. وعلى هذا الفرض يكون قد استحق الصلب حسب الشريعة المنزلة على ملته. وهذا قرار ينفر منه كل ذي ذوق سليم مهما تكن ملته. فكوكب طبيعة يسوع المسيح الإلهية هو الذي يضيء أيضاً بنوره الباهر على سائر الكواكب التي سبق ذكرها والتي تأخذ منه معظم نورها.
ومن هذا الكوكب يتدفق نور كماله.
مهما يرتق الإنسان ويتقدم في الصلاح فلا يُعزى إليه الكمال إذ ليس من كامل إلا الله وحده، أما نسبة الكمال الإلهي إلى يسوع المسيح فهي بالنظر إلى طبيعته الإلهية التي تجيز له الاتصاف بكمالاتها. ولا تعارض حصر الكمال في الله. وهو الذي قال فيه الرسول:
«عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ... كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1 تيموثاوس 3: 16).
فطبيعته الإلهية تتفق اتفاقاً عجيباً مع الكواكب الستة الأخرى. ونزوله من السماء والإعلانات السابقة بمجيئه وسلطانه الفائق وتكريمه بالسجود وحضوره الدائم وموته الكفّاري وقيامته تدل بأجمعها على إنسان لا مثيل له بل هو في مقام متفرد أسمى من كل مقام بشري. فكوكب الطبيعة الإلهية لا يمسكه بيمينه إلا يسوع المسيح وحده.
فما قد اتضح لنا من هذه الكواكب السبعة هو أن أصل يسوع المسيح أصل سماوي قبل خلق العالمين. وأن النبوات القديمة السابقة لمجيئه كثيرة وواضحة ومتواصلة. وأنه ذو سلطان سماوي قولاً وفعلاً. وأنه صار موضوع إكرام وسجود لا يجوز تقديمهما للإنسان المجرد. ولم يعترض على ذلك حال كونه أصلح الصالحين. وأنه صرح بحضوره الدائم مع شعبه وأنه أسلم نفسه للموت ليكفر بموته عن خطايا البشر. ثم قام ممجداً ليتمم غاية موته. وأنه بهذه الأدلة وغيرها أعلن طبيعته الإلهية التي تأنست في طبيعة بشرية بولادته من مريم العذراء.
إن نور القمر هو من نور الشمس المنعكس عليه. فمتى طلع القمر مساء يحسب مبشراً بقدوم شمس أمجد منه قد أعارته نورها قبل ظهورها وإنها ستظهر بعده. فالنور اليهودي الذي نشأ عن النور المسيحي المنعكس عليه سلفاً بقي إلى أن بزغ النور الأعظم الذي أنبأ به أولاً. أفلا ينتظر أن يدوم هذا النور المسيحي الأعظم ما دام نهار التاريخ البشري موجوداً وهو في العالم على ازدياد مستمر؟
فهذا الماسك بيمينه الكواكب السبعة قد عرفناه الآن الزعيم الحقيقي للدين المنزل في العهدين اليهودي والمسيحي فزعامته متصلة منذ البدء ومن زمن آدم إلى هذا اليوم.
لا بدّ للمفكر أن يسأل نفسه هذه الأسئلة:
هذا ومعاذ الله أن نقصد في شيء من هذه المقالة وجهاً من الافتخار المذهبي. لكننا نشتهي من صميم القلب أن يتمتع المسلمون أيضاً بالبركات المتدفقة من شخص يسوع المسيح الذي قال بفم أحد أنبيائه العظام:
«أَيُّهَا ٱلْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى ٱلْمِيَاهِ» (إشعياء 55: 1).
وقال هو بفمه له المجد:
«مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 4: 14).
«لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا 6: 40).
يتضح جلياً من الإنجيل أن يسوع المسيح لم يؤثر ضم جماعة عديدة إليه يؤلف منهم قوماً خاصاً يتبعه ويسمى باسمه. بل بالعكس كان يردع كثيرين من الذين طلبوا الانضمام إليه. لأن غايته العظمى كانت عامة وموافقة لجميع البشر. وهي نشر النور السماوي المعلن من الله.
ومثل هذا القول يقال عن المسيحيين الذي يتبعون خطوات سيّدهم ويسيرون على مثاله، غايتهم العظمى بث هذا النور السماوي كما أعلنه المسيح لا الإكثار من عدد النفوس التابعة لمذهبهم. ولا يُخفى أن من دأب هذه الغاية إثارة النفور والمقاومة حال كون الغاية الأولى يحبذها العقلاء في كل المذاهب متى كانوا مخلصين للحق.
يعتقد المسيحي أن من أهم معاني قول يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» أن تعاليمه الواردة في الإنجيل تصلح وتكفي لإنارة شعوب العالم أجمع على توالي الدهور. لأنها تبدد الأوهام وتجلو الحقائق في موضوع الدين.
ومن جملة هذه الحقائق:
وإيضاحاً لذلك نقول أن كرم الملك العظيم نحو بنيه أو نحو عبيده هو موضوع للاهتمام والافتخار والإشهار أكثر كثيراً من خدمة أولئك البنين لآبائهم أو العبيد لمواليهم. ويزيد في هذا الترجيح تفوق ذلك الكرم على تلك الخدمة أضعاف الأضعاف... فالأمين والشريف النفس من عبيد الله أو بنيه يجاهر قليلاً بخدماته لله أو للناس وكثيراً بإحسان ذلك المنعم الجواد الذي فوق إحسانه الروحي إحسانه الزمني بمقدار ما تفوق النفس الخالدة الجسد الفاني.
لذلك يكثر الإنجيل من ذكر هبات الله الروحية كما في الآية الشهيرة:
«لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ ٱللّهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
فالرحمة والمغفرة والنعمة والسلام والنشاط الروحي في مقاومة التجارب مع ما يتبع هذه العطايا من أمثالها هي أركان الدين الصحيحة. والتفكر ملياً بهذه الهبات الفائقة يولد المحبة البنوية لله التي تجعل الإنسان يفضل الآلام مع رضاه تعالى على ملء الرفاهية مع غيظه عز وجل.
وقد جعل الإيمان أساس الخلاص وشرطه. لأن الإيمان هو القبول الشخصي الحبي لهذه المنح الإلهية الفائقة مع الثقة التامة والتمسك بها. والأمر واضح أن إيماناً كهذا يكون كشجرة حية ومثمرة. وأن ثمره يرى في السيرة الصالحة الناشئة عنه. ولا يكون الإيمان حياً حقيقياً إن لم يأت بهذا الثمر الجوهري. ولا تكون الأعمال الصالحة حقاً ما لم تكن ثمر هذا الإيمان. وهذا هو تعليل الموضوع الرئيسي. هل الخلاص مؤسس على الإيمان أم على الأعمال؟ وحول هذا الموضوع تدور المشاحنات والأضاليل والإرشادات جيلاً بعد جيل.
والأعمال الصالحة إنما تكتسب صفة الصلاح من فائدتها لغير الذي يمارسها. ولا يعد نقياً من تغافل عن المطاليب الدينية التي يستفيد منها غيره نظير الصدق واللطف والحلم والصبر والتسامح والتعاون والسخاء إلى غير هذه من أمثالها. ولا يحصل هذا المتغافل على بغيته خلاص النفس ولو بالغ في ممارسته فرائض التعبد.
فلو اتفقت فرق أهل الكتاب على اعتبار هذه التعاليم الواردة في الإنجيل صحيحة وصالحة للجميع واتخذتها قواعد يعمل بها لزال الانقسام القديم والتعصب الذميم والكره اللئيم وساد الوفاق والوئام والمحبة والسلام.
والله حسبنا لأجل الحصول على هذه النتيجة المجيدة المباركة وهو نعم الوكيل له المجد إلى دهر الدهور. آمين.
أيها القارئ العزيز،
إن قرأت هذا الكتيّب بانتباه، تستطيع أن تجيب على الأسئلة التالية:
الرجاء نسخ هذه الأسئلة على الصفحة الخاصة بالاتصال بنا في الموقع، ثم ضع اجاباتك هناك تحت كل سؤال.
www.the-good-way.com/ar/contact
إذا كنت لا تريد استخدام هذه الطريقة الالكترونية بامكانك ارسال اجاباتك عن طريق البريد العادي على العنوان التالي:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland